التاريخ المحسوس لحضارة الإسلام وعصور اوروبا المظلمة من قصة الحضارة لديورانت أ. طارق منينة

أيرلندة
كانت قبائل!!
:"وكانت كل قبيلة تحتفظ بسجل لأفرادها، ونسبهم، ولملوكها ووقائعها الحربية، وتاريخها القديم "منذ بداية العالم"(17).
وفرض الكلت سلطانهم على البلاد بوصفهم الطبقة الحاكمة، ووزعوا قبائلهم في خمس ممالك؛ ألصتر Ulster، ولينستر Leinster الشمالية، ومونستر Munster، وكنوث Connaught. وكان كل ملك من هؤلاء الملوك تام السيادة في مملكته، ولكن القبائل كلها رضيت أن تكون تارا Tara من أعمال ميث Meath عاصمتها القومية، فيها يتوج كل ملك من الملوك، وفيها يجمع في بداية حكمة الفيس Feis أو مؤتمر أعيان أيرلندة كلها لإقرار التشريعات التي تخضع لها الممالك بأجمعها، ولتصحيح أنساب القبائل وتدوينها، ثم تسجيلها في المحفوظات الأهلية. وشاد الملك كرماك ماك إيرت Cormac Mac Airt في القرن الثالث بهواً كبيراً لا يزال أساسه باقياً حتى الآن لتعقد فيه جلسات هذا المؤتمر. ...وكان دينهم من أديان الشرك وعبادة الطبيعة؛ فكانوا يعبدون الشمس والقمر وغيرهما من مختلف الأجسام الطبيعية، وقد أسكنوا بقاعاً لا حصر لها في أيرلندة بالجن والشياطين والعفاريت. وكانت طائفة من الكهنة ذوي الثياب البيض تتنبأ بالغيب، وتسيطر في زعمها على الشمس والرياح بعصى وعجلات سحرية، وتنزل أمطاراً وتوقد نيراناً سحرية، وتحفظ أخبار القبائل وأشعارها عن ظهر قلب، وتلقنها إلى من يأتون بعدها، وتدرس مواقع النجوم، وتعلم الشبان، وتسدي النصح إلى الملوك، وتجلس للقضاء بين الناس، وتسن الشرائع، وتقرب القرابين للآلهة من فوق مذابح قائمة في الهواء الطلق. وكان من بين أوثانها المقدسة تمثال مغطى بصفائح الذهب يسمونه كرم كرواك Crom Cruach؛ وكان هو إله جميع القبائل الأيرلندية؛ ويلوح أنه كان يُقَرَّب إليه الابن الأول الذي يولد لكل أسرة في البلاد(18) -وربما كان منشأ هذه العادة الرغبة في الحد من كثرة النسل. وكان أيرلنديون يؤمنون بتجسد الأرواح بعد الموت، ولكنهم كانوا يحملون بوجود جزيرة سماوية وراء البحر، "ليس فيها عويل أو غدر، ولا خشونة أو عنف، بل فيها موسيقى حلوة تشنف الأسماع، وفيها أرض جميلة عجيبة ذات منظر لا يدانيه شيء آخر في روعته
قصة الحضارة ج12 ص166-167)
 
"كانت غالة-الفرنسية يقول ديورانت- في القرنين الرابع والخامس أكثر الولايات الغربية في الإمبراطورية الرومانية رخاء من الناحية المادية وأعظمها رقياً من الناحية العقلية.
قصة الحضارة ج12 ص172
 
لفظ الفرنجة ومصدره
:"ويبدأ التاريخ يحدثنا عن الفرنجة في عام 240 حين هزمهم الإمبراطور أورليان بالقرب من مينز، واستقر الفرنجة الربواريون Ripuarian (أي الشاطئيون) في بداية القرن الخامس من منحدرات الرين الغربية، واستولوا على كولوني (463)، واتخذوها عاصمة لهم ، وبسطوا سلطانهم على وادي الرين من آخن Aechen إلى متز. وبقيت بعض قبائل الفرنجة على ضفة النهر الشرقية وأطلقوا اسمهم على فرنكونيا Franconia. وربما كان الفرنجة الساليون The Salic Franks
وقد اشتقوا اسمهم من نهر سالا Sala(المعروف الآن باسم إجسل Ijssel الذي يجري في الأرض الوطيئة. ثم تحركوا من هذا الإقليم نحو الجنوب والغرب، واحتلوا حوالي عام 356 الإقليم الواقع بين نهر الموز Meuse والمحيط ونهر السوم Somme. وكان أكثر انتشارهم بطريق الهجرة السليمة بل أن الرومان أنفسهم كانوا يدعونهم أحياناً إلى أن يعمروا الأراضي القليلة السكان. وبهذه الوسائل المختلفة أصبحت غالة الشمالية نصف فرنجة قبل أن يحل عام 430. وقد جاء الفرنجة معهم بلغتهم الألمانية وعقيدتهم الوثنية، وكان من أثر هذا أن اللغة اللاتينية لم تعد اللغة التي يتحدث بها المقيمون على مجرى الرين الأدنى، كما لم تعد المسيحية دين هؤلاء الأقوام.
ويصف الفرنجة الساليون أنفسهم في مقدمة "القانون السالي" بأنهم " الشعب المجيد، الحكيم في مجالسه، النبيل في جسمه، الذي تشع منه الصحة والعافية، الممتاز بجماله، الجريء، السريع، الذي لا تلين له قناة ... هذا هو الشعب الذي ألقى على عاتقه نير الرومان(35). ولم يكونوا يعدون أنفسهم برابرة بل كانوا يقولون إنهم رجال أحرار انتزعوا حيتهم بأيديهم، ومعنى لفظة فرنجة Franks هو الحر، الذي نال حقوقه السياسية. وكانوا طوال القامة، شقر الوجوه، يجمعون شعرهم الطويل يعقدونه فوق رؤوسهم، ثم يتركونه يسقط منها أشبه ما يكون بذيل الحصان، وكانوا يطيلون شواربهم، ويحلقون لحاهم، ويشدون قباءهم على وسطهم بأحزمة من الجلد مغطاة في بعض أجزائها بقطع من الحديد المطلي بالميناء. وفي هذه المنطقة يعلق السيف. والبلطة الحربية، وبعض أدوات الزينة كالمقصات والأمشاط(36)؛ وكان الرجال والنساء مولعين بالحلي، يتزينون بالخواتم، والأساور وعقود الخرز. وكان كل رجل قوي الجسم جندياً محارباً، يتعلم منذ صباه الجري، والقفز، والسباحة، وإصابة الهدف بالحربة أو البلطة. وكانت الشجاعة عندهم أسمى الفضائل كلها، من أجلها يغتفر القتل، والنهب، والاغتصاب، ولكن التاريخ، بما يلقيه من ضوء ساطع على بعض الحوادث دون بعضها الآخر، يخطئ في تصوير الفرنجة إذ يدخل في روعنا أنهم أقوام محاربون لا غير. والحق أن فتوحهم ووقائعهم الحربية لم تكن أكثر من فتوحنا نحن ووقائعنا، كما كانت أقل منها أتساعاً وتخريباً. ويسدل من شرائعهم على أنهم كانوا يشتغلون بالزراعة والصناعات اليدوية، وانهم أنشئوا في شمالي غالة الشرقي مجتمعاً ريفياً مزدهراً يتمتع عادة بالسلام.
وقننت الشرائع السالية في بداية القرن السادس، وأكبر الظن أن ذلك كان في نفس الجيل الذي شهد آخر مرحلة من مراحل تطور قوانين جستنيان الرومانية.
قصة الحضارة ج12 ص178- والصفحات بعدها
 
حال فرنسا-وغالة الفرنسية- قبل مجئ النبي بقرن تقريبا(أقاليم تعطى للأبناء!!!) وهو حال -ككل حال مملكة روما -يصدق عليه حقا كلام ابن تيمية في مقدمة اقتضاء الصراط وقد قدمت النص فليراجع
511-614
اولا لابد من ذكر ان كلوفيس تولى العرش في مايمكن تسميته بفرنسا بتاريخ 480 كما سيأتي وهو الذي قتل الآريوسيين م المسيحيين أمثاله :"
ألريك قبض على جماعة من الأساقفة أتباع الدين الأصيل بعد عودته إلى طولوز. لتآمرهم مع الفرنجة، فدعا كلوفيس جمعيته الحربية وخطبها قائلاً: "يعز على نفسي أرى هؤلاء الأريوسيين يمتلكون جزءاً من غالة، فلنخرج لطردهم منها بمعونة الله"(47).
ودافع ألريك عن نفسه بكل ما وسعه الدفاع ومعه شعب منقسم على نفسه؛ ولكنه هزم في فوييه Vouill( القريبة من بواتييه (507). وقتله كلوفيس بيده. "وبعد أن قضى فصل الشتاء في بردو" ، كما يقول جريجوري التوري Gregory Of Tours واستولى على جميع كنوز ألريك التي كانت في طولوز، زحف لحصار أبحوليم Angoul(me. ومنّ الله عليه بفضله فتساقطت أسوار المدينة من تلقاء نفسها". وها نحن أولاء نرى منذ ذلك الزمن(48) نغمة المؤرخ الإخباري التي بها العصور الوسطى. وكان سجيبرت الشيخ ملك الفرنجة الربواريين حليفاً لكلوفس من زمن بعيد. والآن أوحى كلوفيس إلى سديبرت بالميزات التي ينالها بعد موت أبيه. فقتل الابن والده وأرسل كلوفيس إلى القاتل شعائر الود والصداقة ومعها عماله ليقتلوه. فلما تم ذلك لكلوفيس زحف على كولوني وأقنع زعماء الربواريين بأن يرتضوه ملكاً عليهم. ويقول جريجوري في ذلك "وجعل الله أعداءه يخرون في كل يوم صرعى تحت قدميه ... لأنه كان يسير أمام الله بقلب سليم، ولأنه كان يفعل ما تقر به عين الله"(49).
وسرعان ما اعتنق الأريوسيون المغلوبون المذهب الصحيح، وسمح لقساوستهم أن يحتفظوا بمناصبهم الدينية بعد أن تخلوا عن الفارق بين المذهبين وهو فارق ليس ذا شأن كبير. ونقل كلوفيس عاصمته إلى باريس وسار إليها مثقلاً بالأسرى والعبيد، والدعوات الصالحات، ومات فيها بعد أربع سنين في سن الخامسة والأربعين. وجاءت الملكة كلوثيلد، التي كان لمعونتها بعض الفضل في إنشاء فرنسا الغالية
قصة الحضارة ج12 ص185-186)
وورث كلوفيس عرش المروفنجيين في عام 481، وكان وقتئذ في الخامسة عشر من عمره، ولم تكن مملكته تشغل وقتئذ إلا ركناً من أركان غالة ، فقد كانت قبائل أخرى من الفرنجة تحكم ارض الترين، وكانت مملكتا القوط الغربيين والبرغنديين القائمتان جنوبي غالة قد استقلتا استقلالا تاماً بعد سقوط روما. وكان الطرف الشمالي العربي من غالة، الخاضع بالاسم لحكم روما حتى ذلك الوقت، ضعيفاً لا يجد من يدافع عنه، فغزاه كلوفيس، واستولى على الكثير من مدنه وعلى عدد من أكابر رجاله. ثم قبل الفدية منهم. وباع الغنائم، وابتاع الجند والمؤن، والأسلحة، وزحف على سواسون Soissons وهزم جيشاً "رومانياً" (486). ثم وسع فتوحه في السنين التالية حتى لامست حدود شبه جزيرة بريطاني، ونهر اللوار. وضم إلى جانبه السكان الغاليين بأن ترك لهم أراضيهم، كما ضم إليه رجال الدين المسيحيين بأن احترم دينهم وأبقى لهم ثروتهم. وفي عام 493 تزوج مسيحية تدعى كلوثيلد Clothilde، وما لبث أن اعتنق بتأثيرها الدين المسيحي على أساس العقائد النيقية، وعمده ريمي الأسقف والقسيس في ريمز أمام حشد من رجال الدين والأعيان، دعوا لهذا الغرض ولحكمة لا تخفى، من جميع أنحاء غالة، ثم تقدم كلوفيس إلى ميدان القتال يتبعه ثلاثة آلاف جندي. وربما كان سبب اعتناق كلوفيس الدين الجديد أنه كان يتوق إلى الوصول إلى شواطئ البحر المتوسط، وأنه كان يرى أن مُلك فرنسا خليق بأن يعتنق من أجله هذا الدين. وأخذ أتباع الدين القويم في غالة القوط الغربيين، وغالة البرغنديين، ينظرون إلى حكامهم شرراً، وأصبحوا من ذلك الحين حلفاء الملك الفرنجي الشاب في السر أو في العلن.
قصة الحضارة ج12 ص184-186)
يقول نص ديورانت كيف كان امر المقاطعات في يد ابناء احد الحكام يومذاك
"كان كلوفيس يتوق إلى أن يكون له أبناء ذكور، وقد كان له قبل وفاته أكثر مما كان يحب، ولهذا قسم مملكته بينهم لكي يتجنب نشوب حرب للوراثة بعد وفاته. فأعطى كلدبرت Childebert الإقليم المحيط بباريس، وولى كلودمر Chlodemer إقليم أورلين Orleans، وأعطى كلوتار Chlotar إقليم سواسون Soissons وثيودريك إقليم متز وريمز وواصل الأبناء بمهمتهم البربرية السياسية المؤدية إلى توحيد فرنسا عن طريق الفتح، فاستولى على ثوررنجيا في عام 530، وعلى برغندية في عام 534، وعلى بروفانس في عام 536، وعلى بافاريا وسوبيا في 555. وعاش كلوتار بعد أن مات اخوته جميعاً فورث مما لهم، وكانت غالة تحت حكمه أوسع رقعة من فرنسا في العهود المستقبلة. وقبيل موته في عام 561 قسم غالة مرة أخرى ثلاثة أقسام : إقليم ريمز ومتز المعروف بأستراسيا Austrasia (أي الشرق) وخص به ابنه سجيبرت Sigebert، وبرغندية وأعطاها إلى جنثرام Gunthram، وأعطى إقليم سواسون المعروف بنوستريا Neustria (أي القسم الثاني الغربي) إلى كلبريك Chilperic. ولقد كان تاريخ فرنسا منذ زواج كلوفيس إلى وقتنا هذا مزيجاً من الرجولة والأنوثة جامعاً بين الحب والحرب. من ذلك أن سجيبرت أرسل هدايا غالية إلى أثاناجلد Athanagild ملك أسبانيا برنهلدا Brunhilda، ووافق أثاناجلد على هذا الزواج لخوفه من الفرنجة وإن أرسلوا الهدايا؛ وأقبلت برنهلدا لتزدان بها أبهاء متز وريمز (566). ودب الحسد في قلب كلبريك، لأنه لم يكن له إلا زوجة ساذجة تدعى أودوفيرا Audovera وعشيقة فظة تدعى فردجندا Fredegunda، فطلب إلى أثاناجلد أن يزوجه أخت برنهلدا؛ وجاءت جلزونثا Galswintha إلى سوسوان وأحبها كلبريك لأنها جاءت معها بكنوز عظيمة، ولكنها كانت أكبر سناً من أختها؛ فعاد كلبريك إلى أحضان فردجندا . وطلبت جلزونثا أن تعود إلى أسبانيا، فأمر كلبريك بقتلها خنقاً (567)، وأعلن سجيبرت الحرب على كلبريك وهزمه، ولكن فردجندا بعثت إليه بعبدين قتلا سجيبرت، وقبض على برنهلدا ولكنها استطاعت الفرار وتوجت ابنها الشاب كلدبرت الثاني، وحكمت البلاد باسمه حكماً أظهرت فيه كثيراً من الحزم والكفاية .
ويصف المؤرخون كلبريك كأنه نيرون ذلك الوقت وهيروده، يصفونه بأنه غليظ القلب، سفاك للدماء، شهواني نهم شره، في جمع الذهب. ويفسر جريجوري التوري، وهو عمدتنا الوحيد في هذه المعلومات، تلك الصفات إلى حد ما بأن يصوره كأنه فردريك الثاني في عصره، فيقول إن كلبريك كان يسخر من فكرة وجود ثلاثة أشخاص في إله واحد، وبتصوير الله كأنه إنسان، وكان يعقد مع اليهود مناقشات مزرية، ويحتج على ثروة الكنيسة الطائلة، وعلى نشاط الأساقفة السياسي، وألغى الوصايا التي يترك بها الناس ما لهم للكنائس، وكان يبيع كراسي الأساقفة لمن يؤدي أكثر الأثمان، وحاول أن يخلع جريجوري نفسه من كرسي تور(51). ويصف الشاعر فرتناتوس هذا الملك نفسه بأنه جماع الفضائل، فهو حاكم عادل لطيف، شيشرون زمانه في الفصاحة؛ ولكن يجب ألا ننسى أن كلبريك قد أجاز فرتناتوس على شعره. بالنيابة عنه، بمهارة، وغدر، وقسوة لا تقل عن مثيلاتها في أي رجل من رجال ذلك الوقت. من ذلك أنها جاءت بشاب من رجال الدين ليقتل برنهلدا، ولما عاد دون أن يؤدي مهمته أمرت بقطع يديه وقدميه. لكن مرجعنا في هذه الأخبار هو أيضاً جريجوري(53). وكان أعيان أستراسيا في هذا الوقت لا ينقطعون عن الثورة على برنهلدا المتغطرسة، يشجعهم على هذا كلوتار الثاني؛ وكانت تخمد هذه الثورات بقدر ما تستطيع وتستعين على ذلك بالختل والاغتيال؛ ولكنهم أفلحوا آخر الأمر في خلعها وهي في الثمانين من عمرها، وظلوا يعذبونها ثلاثة أيام كاملة، ثم ربطوها من شعرها وإحدى يديها في ذيل حصان وضربوه بالسياط (614). وورث كلوتار الثاني الممالك الثلاث وتوحدت مرة أخرى دولة الفرنجة.
وقد يحملنا هذا السجل الملطخ بالدماء على أن نبالغ في الهمجية التي كانت تخيم على غالة ولما يكد يمضي على موت سيدونيوس المتحضر المثقف قرن من الزمان، ولكن الناس لا بد لهم أن يجدوا وسيلة يستخدمونه إذا أعوزتهم الانتخابات. ولقد أفسد خلفاء كلوفيس ما بذله من جهود لتوحيد البلاد كما فعل خلفاء شارلمان بملكه بعده. على أن أقل مل يقال في هذا الثناء على هذا العهد أن الحكومة قد ظلت تؤدي واجباتها، وأن غالة لم تكن كلها تطيق وحشية ملوكها وتعد زوجاتهم، وأن ما يبدو من استبداد الملوك كان محدداً بقوة النبلاء الذين يحسدونهم على سلطتهم، وكان الملك يكافئهم على ما يؤدون له من خدمات في الإدارة والحرب بأن يهبهم ضياعاً يكادون يكونون فيها سادة مستقلين؛ وفي هذه الأملاك الواسعة بدأ الإقطاع الذي حارب الملكية الفرنسية ألف عام. وكثر أرقاء الأرض، وبدأ الاسترقاق يحيا مرة أخرى بسبب الحروب الجديدة، وانتقلت الصناعات من المدن إلى بيوت الريف، فضاقت رقعة المدن، وخضعت لسيطرة السادة الإقطاعيين؛ وكانت التجارة لا تزال نشيطة، ولكنها كان يقف في سبيلها عدم ثبات النقد، وكثرة اللصوص وقطاع الطرق، وارتفاع الضرائب الإقطاعية. وكان القحط والوباء يحاربان بنجاح غريزة التكاثر الآدمية.
وتزوج زعماء الفرنجة بمن بقي من نساء طبقة أعضاء الشيوخ الغاليين-الرومان، ونشأ من هذا التزاوج أشراف فرنسا. وكانوا في ذلك الوقت أشرافاً يتصفون بالقوة، يحبون الحرب، ويحتقرون الآداب، ويتباهون بلحاهم الطويلة، وأثوابهم الحريرية، وكثرة من يتزوجون من النساء. ولسنا نجد في تاريخ طبقة عليا لا تعبأ بالمبادئ الأخلاقية كما لم تعبأ بها هذه الطبقة؛ ولم يكن لاعتناقها المسيحية أثر فيها على الإطلاق، فقد بدت المسيحية لهم كأنها مجرد وسيلة كثيرة النفقة للحكم وتهدئة الشعب؛ ولما "انتصرت البربرية وانتصر الدين" كانت البربرية صاحبة الكلمة العليا مدى خمسة قرون. وكان الاغتيال، وقتل الآباء، والاخوة، والتعذيب، وبتر الأعضاء، والغدر، والزنى، ومضاجعة المحارم؛ كان هذا كله هو الوسيلة التي يخففون بها ملل الحكم. فقد قيل إن كلبريك أمر بأن يكون كل مفصل من مفاصل سجيلا Sigila القوطي بالحديد المحمى، وأن ينزع كل عضو من أعضائه من موضعه(54)، وكان لكاريبرت Charipert عشيقتان أختان وإحداهما راهبة، وجمع دجوبرت Dagobert (628-639) بين ثلاث زوجات في وقت واحد. وربما كان الإفراط الجنسي هو السبب فيما أصاب المروفنجيين من عقم منقطع النظير: ومن أمثلة هذا العقم أن واحداً لا أكثر من أبناء كلوفيس الأربعة وهو كلوتار كان له أبناء، وأن واحداً من أبناء كلوتار الأربعة كان له طفل. وكان الملوك يتزوجون في الخامسة عشرة من عمرهم ويفقدون متى بلغوا سن الثلاثين، ومات كثيرون منهم قبل الثامنة والعشرين(55). ولم يحل عام 614 حتى كان بيت المروفنجيين قد استنفد جميع حيويته وتأهب لأن يخلي مكانه لغيره.
في غمار هذه الفوضى لم يكد يكون للتعليم وجود، فلم يحل عام 600 حتى كانت معرفة القراءة والكتابة ترفاً لا يتمتع به إلا رجال الدين، أما العلوم الطبيعية فقد انمحت أو كادت. وبقى الطب، لأنا نسمع عن وجود أطباء في حاشية الملوك، أما بين الشعب فقد كان السحر والصلاة في نظرهم خيراً من الدواء. وقد ندد جريجوري أسقف تور (538؟-594) بمن يستخدمون الأدوية بدل الصلوات في علاج المرضى، وقال: إن هذا إثم يعذبهم عليه الله. ولما مرض هو أرسل يدعو إليه طبيباً، ولكنه سرعان ما صرفه لأنه لم ينفعه بشيء، ثم شرب قدحاً من الماء ممزوجاً بتراب جئ به من قبر القديس مارتن شفي على أثره شفاء تاماً(56). وكان جريجوري هذا أشهر كتاب النثر في أيامه، وكان يعرف كثيرين من الملوك المروفنجيين معرفة شخصية، وكثيراً ما كانوا يستخدمونه في بعثات لهم.
قصة الحضارة ج12 ص186-190)
 
منشورنا هذا -المهم-هو في شأن حكام اسبانيا(القوط الغربيين) وماكانوا عليه قبل الفتح الاسلامي للبلاد التي ملكوها توزعت تركة بين الابنا! لكنه يذكر حالهم قبل مجئ الاسلام بقرن او نصف قرن أو أقل
:"أسبانيا تحت حكم القوط الغربيين
456-711
سبق القول أن القوط الغربيين حكام غالة استردوا أسبانيا من الوندال في عام 420، وعادوا بعدئذ إلى روما، ولكن روما كانت عاجزة عن حماية أسبانيا، ولهذا فإن السويفي Suevi خرجوا من معاقلهم في التلال الواقعة في الجنوب الغربي من شبه الجزيرة واجتاحوها كلها، فانقض عليها القوط الغربيون مرة أخرى بقيادة ثيودريك الثاني (456) وأوريك (466) بعد أن عبروا جبال البرانس، وفتحوا معظم أسبانيا واحتفظوا بالبلاد في هذه المرة وضموها إلى أملاكهم، وحكمت أسبانيا من ذلك الوقت أسرة من القوط الغربيين وظلت على عرشها حتى جاءها المسلمون.
وأنشأت الملكية الجديدة، في بلدة طليطلة عاصمة فخمة، وجمعت فيها حاشية موفورة الثراء. وكان أثاناجلد Athanagild (563-567) وليوفيجلد Leovigild (568-586) ملكين قويين، هزما الغزاة الفرنجة في الشمال وجيوش بيزنطية في الجنوب؛ وكانت ثروة أثاناجلد هي التي أكسبت ابنتيه ميزة فذة هي انهم قتلتا وهما ملكتان لملكين من الفرنجة. وحدث في عام 589 أن غير ريكارد Recared مذهبه ومذهب الكثرة الغالبة من القوط الغربيين في أسبانيا من الأريوسية إلى المسيحية الأصلية. ولعل سبب هذا التغير أنه قرأ من قبل تاريخ ألريك الثاني. ومن ذلك أصبح الأساقفة أكبر المؤيدين للملكية وأقوى سلطة في الدولة؛ فقد سيطروا بفضل تفوقهم في العلم ودقة النظام على
الأشراف الذين كانوا يجتمعون معهم في مجالس الحكم في طليطلة؛ ومع أن سلطة الملك كانت سلطة مطلقة من الوجهة النظرية، ومع أنه كان هو الذي يختار الأساقفة، فإن هذه المجالس كانت هي التي تختاره، وتأخذ عليه قبل أن يباشر الحكم المواثيق بشأن السياسة التي تريد منه أن يتبعها، ووضعت بإرشاد رجال الدين طائفة من القوانين (634)، كانت أوفى جميع شرائع البرابرة وأقلها تسامحاً. وقد أصلحت من شأن الإجراءات القضائية بأن عمدت إلى تقدير شهادة الشهود في تقدير أخلاق المتهمين بدل شهادات الأصدقاء، وطبقت قوانين واحدة على الرومان والقوط الغربيين، فوضعت بذلك مبدأ المساواة أمام القانون(60). ولكنها لم تأخذ بمبدأ حرية العبادة، وحتمت على جميع السكان أن يعتنقوا المسيحية الصحيحة، وأقرت اضطهاد يهود أسبانيا الذي دام طويلاً، وارتكبت فيه أشد ضروب القسوة.
ونسي القوط الغربيون قبل أن ينقضي على فتحهم أسبانيا لغتهم الألمانية بتأثير نفوذ الكنيسة التي ظلت تستخدم اللغة اللاتينية في مواعظها وطقوسها الدينية، وأفسدوا اللاتينية المستعملة في شبه الجزيرة بأن أدخلوا عليها قوة الرجولة والجمال النسوي اللذين تمتاز بهما اللغة الأسبانية الحاضرة، وكانت المدارس الملحقة بالأديرة والأسقفيات هي التي تقوم بالتعليم، وكان معظمه تعليماً كنسياً، ولكنه كان يشمل شيئاً من دراسة الكتب القديمة، وأنشئت مجامع علمية في بقلارا Vaclara وطليطلة، وسرقسطة، وأشبيلية، وكان الشعر يلقى تشجيعاً كبيراً، وأما التمثيل فكان يقاوم لما فيه من فحش وبذاء.
ولم يحفظ التاريخ من أسماء الأدباء في أسبانيا القوطية إلا اسم إزدور Isidorc الأشبيلي (حوالي 560-636)... ولا يكاد يبقى شيء من الفنون التي كانت في أسبانيا في عهد القوط الغربيين رياوح أن طليطلة، وإيطاليا وقرطبة، وغرناطة، ومديرا وغيرها من المدن كانت تحتوي على كنائس، وقصور، ومبان عامة جميلة المنظر، أقيمت على الطراز القديمة، ولكنها ميزت عنها بالرموز المسيحية، والنقوش البيزنطية(63). ويقول المؤرخون المسلمون إن العرب الفاتحين وجدوا في طليطلة وكنيستها الكبيرة خمسة وعشرين تاجاً من الذهب المرصع بالجواهر، وكتاباً مزخرفاً للتراتيل مكتوباً على ورقة من الذهب بمداد مصنوع من الياقوت المصهور، وأقمشة منسوجة بخيوط من الذهب والفضة، ودروعاً، وسيوفاً، وخناجر مرصعة من الجواهر، مزهريات مملوءة بها، ومنضدة من الزمرد مطعمة بالفضة والذهب- وكانت هذه المنضدة إحدى الهدايا الكثيرة الغالية التي أهداها أغنياء الغربيين إلى كنيستهم التي تحميهم وترد الأذى عنهم.
وظل استغلال الأقوياء والمهرة البائسين والسذج يجري مجراه في عهد القوط الغربيين كما كان يجري في عهد سائر الحكومات القديمة. فكان الأمراء والأحبار يجتمعون في حفلات دينية أو دنيوية فخمة، ويضعون قواعد للتحليل والتحريم، ويدبرون وسائل للإرهاب والرعب ليتغلبوا بذلك كله على مشاعر الجماهير ويهدئوا أفكارهم. وتركزت الثروة في أيدي عدد قليل من الأفراد، وكانت الثغرة الواسعة التي تفصل الأغنياء عن الفقراء، والمسيحيين عن اليهود تقسم الأمة ثلاث دول مختلفة؛ فلما أن جاء العرب لم يبال الفقراء واليهود بسقوط دولة ملكية وكنيسة لم تظهر شيئاً من الاهتمام بفقرهم وسامتهم كثيراً من أنواع الاضطهاد الديني. ولما مات وتيزا Witiza ملك أسبانيا الضعيف في عام 708 لم يقبل الأشراف أن يخلفه على العرش أحد من أبنائه، بل أجلسوا عليه ردريك (لزريق) Roderick، ففر أبناء وتيزا إلى أفريقية، واستغاثوا بزعماء المسلمين. وقام المسلمون ببضع غارات تمهيدية على السواحل الأسبانية، عرفوا بها أن أسبانيا منقسمة على نفسها، وأنها تكاد تكون مجردة من وسائل الدفاع، فجاءوا إليها في عام 711 بقوة أكبر من قوتهم السابقة. والتقت جيوش طارق ولزريق في معركة على سواحل بحيرة يندا Janda في ولاية قادس، انضمت فيها قوة من القوط إلى العرب؛ واختفى لزريق من المعركة. وتقدم المسلمون المنتصرون إلى أشبيلية، وقرطبة، وطليطلة؛ وفتحت كثير من المدائن الأسبانية أبوابها للغزاة. وأقام قائد العرب موسى ابن نصير في العاصمة الأسبانية (713)، وأعلن أن أسبانيا أصبحت من ذلك الوقت ملكاً للمسلمين وللخليفة الأموي في دمشق.
قصة الحضارة ج12 ص192-196)
 
تكلمنا من قبل ان الجماعة الاوروبية او القبائل التي استعصت على الامبراطورية الرومانية كثير ا وحاربتها كانت هي جماعة او قبائل"البرابرة الألمان "
هكذا كان اسمهم
وقد كرره ديورانت كثيرا وعموما اخر مرة وقعت عليه عيني كانت الان ومن ج12 ص197)
في النص التالي عن القوط الشرقيين
"لما تصدعت أركان مملكة أتلا بعد وفاته في عام 453 استعاد القوط الشرقيون استقلالهم، وكان قد أخضعهم من قبل لحكمه. وكان البيزنطيون يرشونهم ليصدوا غيرهم من البرابرة الألمان نحو الغرب، وكافئوهم على عملهم هذا بأن أقطعوهم ولاية بنونيا، وأخذوا ثيودريك ابن ملكهم ثيودمير -ولم يكن قد تجاوز السابعة من عمره- رهينة في أيديهم إلى القسطنطينية ليضمنوا بذلك ولاء القوط الشرقيين لهم.
 
النص التالي يوضح ان الحرب الاوروبية-الاوروبية(المسيحية-المسيحية) قبل الاسلام وفي ظل الامبراطورية وحروبها كانت شغالة بغاية العنف
واما هذه المرة فحرب دائرة في مناطق ايطاليا والمانيا
:"فلما مات ثيودمير (473) اعترف ليو بثيودريك ملكاً على القوط الشرقيين.
وخشي زينون الذي خلف ليو على عرش الإمبراطورية الشرقية أن يسبب ثيودريك المتاعب البيزنطية، فأشار عليه أن يفتح إيطاليا. وكان أدكور قد اعترف اسمياً بخضوعه للإمبراطور الشرقي ولكنه كان يتجاهله فعلاً، وكان زينون يأمل أن يعيد ثيودريك إيطاليا إلى حكم بيزنطية؛ وسواء تم هذا أو لم يتم فإن زعيمي القبائل الألمانية الخطرة سيسلى أحدهما الآخر ويتركان زينون يدرس الدين على مهل. وأعجب ثيودريك بهذه الفكرة- ويقول بعضهم إنه هو صاحبها. وقاد ثيودريك القوط الشرقيين بوصفه وزير زينون، وكان تحت لوائه عشرون ألف محارب، وعبر بهم جبال الألب (488). وعاون أساقفة إيطاليا القائد الأريوسي وإن كانوا هم من أتباع الدين الصحيح لأنهم كانوا يكرهون أريوسية أدوكر، ولأن ثيودريك في رأيهم يمثل إمبراطوراً يكاد يكون من أتباع الدين القويم. وبفضل هذه المساعدة استطاع ثيودريك أن يحطم مقاومة أدوكر الشديدة بعد حرب طاحنة دامت خمس سنين، وأقنعه على أن يعقد معه صلحاً ينزل فيها كلاهما عن مطالبه. ثم دعا أدوكر وابنه إلى الطعام معه في رافنا، وبعد أن أكرم وفادتهما قتلهما بيده (493). وبهذا الغدر بدأ عهد أكثر العهود استنارة في التاريخ.
وكانت بضع حملات عسكرية كافية لأن تخضع لحكم ثيودريك غربي البلقان، وجنوبي إيطاليا، وصقلية. وظل ثيودريك خاضعاً خضوعاً اسمياً إلى بيزنطية، وضرب النقود باسم الإمبراطور، وكان يكتب الرسائل إلى مجلس الشيوخ، الذي ظل يعقد جلساته في روما، بما يليق به من التوقير واتخذ لنفسه لقب ركس Rex أي الملك. وكان هذا اللفظ في الزمن القديم من أبغض الألفاظ إلى الرومان، ولكنه كان وقتئذ لقباً عاماً لحكام الأقاليم التي تعترف بسيادة بيزنطية عليها. وقبل قوانين الإمبراطورية الغربية التي زالت من الوجود ونظمها، وحرص أشد الحرص على الدفاع عن آثارها وأشكالها، ووهب كل ما أوتي من جد ونشاط لإعادة الحكم المنظم إلى البلاد والرخاء الاقتصادي إلى الشعب الذي أخضعه لحكمه. وقصر عمل القوط الذين جاءوا معه على وظائف الشرطة والخدمة العسكرية، وسكن تذمرهم بما كان يؤديه لهم من الأجور العالية. أما مناصب الإدارة والقضاء فقد ظلت في أيدي الرومان، وترك ثلثي إيطاليا الزراعية للرومان أنفسهم ووزع الثلث الباقي على القوط، ومع هذا فقد بقيت بعض الأراضي الصالحة للزراعة في إيطاليا من غير أن تفلح. وافتدى ثيودريك الرومان الذين وقعوا في أسر الأمم الأخرى، وأسكنهم إيطاليا، وأقطعهم فيها أرضاً يزرعونها؛ وجفف المستنقعات البنتية، وأعادها أرضاً صالحة للزراعة غير مضرة بالصحة. وكان ثيودريك يؤمن بضرورة تنظيم الحالة الاقتصادية وإخضاعها لسيطرة الحكومة، فأصدر "مرسوماً خاصاً بالأثمان، التي يجب أن تكون في رافنا". ولسنا نعرف كيف كانت هذه الأثمان. وكل ما يقال لنا هو أن نفقات الطعام في حكم ثيودريك كانت أقل مما كانت عليه قبل بمقدار ثلثها. وأنقص عدد موظفي الحكومة ومرتباتهم، ومنع الإعانات التي كانت تعطى للكنيسة، وخفض الضرائب. ومع هذا فقد كانت إيرادات الدولة لا تكفي لإصلاح كثير من الضرر الذي ألحقه الغزاة بروما وإيطاليا، لإقامة قصر متواضع في رافنا وكنيستي سنتا أبليناري Sant' Appollinare وسان فيتال San Vitale. وفي أيامه استعادت فيرونا، وبافيا، ونابلي، وأسبوليتو Spoleto وغيرها من مدن إيطاليا ما كان بها في أيام عزها من مبان فخمة. وبسط ثيودريك حمايته على الكنائس التابعة للمذهب الأصيل من حيث أملاكها وحرية العبادة فيها وإن كان هو من أتباع المذهب الأريوسي؛ وصاغ وزيره كسيودوروس Cassiodorus الكاثوليكي المذهب سياسة الحرية الدينية في تلك العبارة الخالدة! "ليس في مقدورنا أن نسيطر على الدين، لأنا لا نستطيع أن نرغم أحداً على أن يؤمن بما لا يريد أن يؤمن به" . وكتب مؤرخ بيزنطي يدعى بروكبيوس Procopius من مؤرخي الجيل التالي يثني على الملك "البربري" ثناء ليس فيه شيء من المحاباة فقال:
لقد كان ثيودور شديد الحرص على مراعاة العدالة... وبلغ أعلى درجات الحكمة والرجولة.... ومع أنه كان من الناحية الاسمية مغتصباً للملك، فقد كان في الواقع الأمر إمبراطور بحق، لا يقل في ذلك عن أي إمبراطور ممن ميزوا أنفسهم في هذا المنصب الخطير منذ بداية التاريخ. وكان القوط والرومان جميعاً يحبونه أعظم الحب... ولم يكن كل ما تركه قبل وفاته هو الرعب الذي قذفه في قلوب أعدائه، بل أنه ترك فوق ذلك في قلوب رعاياه شعوراً قوياً بالخسارة والحرمان
قصة الحضارة ج12 ص197-200)
 
فلافيوس ماجنوس
من ادباء القوط في القرن السادس الميلادي اي قبليل بعثة النبي "ومن أشهر أدباء ذلك العصر فلافيوس ماجنوس أورليس كسيودورس Flavius Magnus Aurelis Cassiodorus (480-573) الذي كان أمين سر أدوكر وثيودريك. وقد ألَّف، بناء على إشارة ثيودريك، تاريخ القوط(68) وكان يهدف إلى أن يظهر للرومان المتشامخين أن للقوط أيضاً أنباء نبلاء وأعمالاً مجيدة. ولعل أكثر من هذا موضوعية تاريخه الإخباري الذي أرّخ فيه العالم كله من آدم إلى ثيودريك، ونشر في أواخر حياته السياسية مجموعة من رسائله وأوراقه المتعلقة بشؤون الدولة بعضها سخيف بعض السخف، وبعضها كثير المبالغة والتباهي، وبعضها يكشف عن مستوى أخلاقي رفيع ومقدرة إدارية عظيمة كان يتصف بهما الوزير ومليكه. ولما شهد في عام 450 اضمحلال الحكومة التي خدعها ثم سقوطها اعتزل منصبه وآوى إلى ضيعته في اسكويلاس Squillace بكلبيريا Calabria، وأنشأ هناك ديرين، وعاش فيها عيشة وسطاً بين عيشة الرهبان والعظماء حتى وافته المنية في سن الثالثة والتسعين. وقد علم زملاءه الرهبان أن ينسخوا المخطوطات، الوثنية منها والمسيحية، وأعد لهذا العمل حجرة خاصة. وحذت بعض المعاهد الدينية الأخرى حذوه...وكان والد بؤيثيوس قنصلاً في عام 483، وكان والد زوجته سيماخوس الأصغر من نسل سيماخوس الذي دافع عن مذبح الحرية. وتعلم أحسن تعليم تستطيع روما أن تقدمه لأبنائها، ثم قضى بعدئذ ثمانية عشر عاماً في مدارس أثينة عاد بعدها إلى قصوره الريفية في إيطاليا، وانهمك في الدرس، واعتزم أن ينقذ عناصر الثقافة اليونانية واللاتينية القديمة التي رآها آخذة في الزوال، فوهب وقته كله -وهو أكبر ما يعتز به العالم المجد- في تلخيص كتب إقليدس في الهندسة النظرية ونقوماخوس في الحساب، وأرخميديز في علم الحيل (الميكانيكا) وبطليموس في الفلك... وكانت ترجمته لرسالة أرسطو في المنطق (Organon) وكتاب برفيري Porhyry المعروف باسم مقدمة لمقولات أرسطو هي التي استمد منها علم المنطق في السبعة القرون التالية أهم نصوصه وأفكاره
قصة الحضارة ج12 ص200-201)
 
كان الصراع الدائر بين قسمي الامبراطورية المنشق جناحيها على بعض يزداد حدة خصوصا في ظل انظمة لاهوتية كاثوليكية وآريوسية وذلك حتى بعثة النبي
وصلنا الان في الكلام عن القوط الغربيين ثم الشرقيين-بسرعة خاطفة-ثم تكلمنا عن اديب القوط والذي سيصير رجلا سياسيا وهذه جملة من الكلام عن تطور حاله ومنها ترى الصراع المسيحي المسيحي
"وأوحت إليه تقاليد أسرته أن يتنحى عن هذه الأعمال المغلقة على الإفهام، وأن ينزل إلى قسم الحياة السياسية. وارتقى في هذه الحياة رقياً سريعاً، فكان قنصلاً، ثم وزيراً، ثم سيد المناصب -أي رئيس وزراء (522). وامتاز في هذه المناصب كلها بحبه للإنسان وبفصاحته، وكان الناس يشبهونه بدمستين وشيشرون. لكن العظمة تخلق للعظيم أعداء، فقد ساء الموظفين القوط في بلاط الملك ما رأوه من عطفه على السكان الرومان والكاثوليك، وأثاروا شكوك الملوك فيه؛ وكان ثيودريك وقتئذ في التاسعة والستين من عمره، ضعيف الجسم والعقل لا يدري كيف ينقل إلى خليفته حكماً مستقراً تتولاه أسرة قوطية أريوسية على امة تسعة أعشارها من الرومان، وثمانية أعشارها كاثوليك. وكان لديه من الأسباب ما يحمله على الاعتقاد بأن الكنيسة والأشراف يناصبانه العداء، وأنهما يترقبان موته بفارغ الصبر. وكان مما قوى هذه الشكوك أن جستنيان نائب الإمبراطور في بيزنطية أصدر مرسوماً يقضي بنفي جميع المانيين من الإمبراطورية، وتحريم جميع المناصب المدنية والعسكرية على جميع الوثنين والمارقين- بما فيهم جميع الأريوسيين ما عدا القوط. وظن ثيودريك أن هذا الاستثناء لا يقصد به إلا إضعاف حجته، وإن جستنيان فيه عند أول فرصة، ورأى أن هذا المرسوم جزاء غير عادل للحريات التي منحها أتباع العقيدة الكنسية الأصلية في الغرب. ألم يرفع إلى أعلى مناصب الدولة بؤيثيوس الذي كتب رسالة عن التثليث يعارض فيها العقيدة الأريوسية؟ وفي تلك السنة نفسها سنة 523 أهدى إلى كنيسة القديس بطرس ماثلتين فخمتين من الفضة المصمتة دليلاً على مجاملته للبابا. لكنه مع هذا أغضب طائفة كبيرة من السكان بحمايته لليهود، ذلك أنه حين دمر الغوغاء معابدهم في ميلان، وجنوى، وروما أعاد بناءها من الأموال العامة.
وفي هذه الظروف ترامى إلى ثيودريك أن مجلس الشيوخ يأتمر به ليخلعه. وقيل لم إن زعيم المؤامرة هو ألبينوس رئيس مجلس الشيوخ وصديقه بؤيثيوس. فما كان من العالم الكريم إلا أن أسرع إلى ثيودريك وأكد له براءة ألبينوس وقال له: "إذا كان ألبينوس مذنباً فإني أنا ومجلس الشيوخ كله لا تقل عنه جرماً". وقام ثلاثة رجال ذوي سمعة سيئة يتهمون بؤيثيوس بالاشتراك في المؤامرة، وقدموا وثيقة عليها توقيع بؤيثيوس، موجهة إلى إمبراطور بيزنطية تدعوه إلى فتح إيطاليا. وأنكر بؤيثيوس هذه التهم كلها، وقال إن الوثيقة مزورة، لكنه اعترف فيما بعد بأنه: "لو كان هناك أمل في أن يوصلنا ذلك إلى الحرية لما ترددت فيه، ولو أنني عرفت أن هناك مؤامرة على الملك... لما عرفتم نبأها مني"(70). فلما قال هذا قبض عليه (523):
وسعى ثيودريك لأن يتفاهم مع الإمبراطور، وكتب إلى جستين رسالة خليقة بالملك الفيلسوف قال فيها:
إن من يدعي لنفسه حق السيطرة على الضمائر يغتصب حق الله وحده على عباده، أما سلطان الملوك فهو بطبيعة الأشياء مقصور على الحكومة السياسية، وليس من حقهم أن يعاقبوا إنساناً إلا إذا عكر صفو السلم العام. وليس ثمة أشد خطورة من مروق الملك الذي يفصل نفسه عن قسم من رعاياه لأنهم لا يؤمنون بما يؤمن هو به"(71).
ورد عليه جستين بقوله: إن من حقه أن يحرم من مناصب الدولة من لا يثق بولائهم له، وإن نظام المجتمع يتطلب وحدة العقيدة. وطلب الأريوسيون في الشرق إلى ثيودريك أن يحميهم، فطلب إلى البابا يوحنا الأول أن يسافر إلى القسطنطينية لدى الإمبراطور في أمر الأريوسيين المفصولين من وظائفهم. ورد عليه البابا بأن هذه الرسالة لا تليق برجل أخذ على نفسه أن يقضي على الزيغ والضلال، ولكن ثيودريك أصر على مطلبه، وقوبل يوحنا في القسطنطينية بحفاوة بالغة، ثم عاد صفر اليدين، فاتهمه ثيودريك بالخيانة، وألقاه في السجن، حيث مات بعد سنة واحدة(72).
وفي هذه الأثناء كان ألبينوس وبؤيثيوس قد حوكما أمام الملك وأدينا وحكم عليهما بالإعدام. وروع هذا الحكم مجلس الشيوخ فأصدر مراسيم يتبرأ فيها منهما ويصادر أملاكهما، ويقر العقوبة التي حكم بها عليهما. وقام سيماخورس يدافع عن زوج ابنته فاعتقل. وألف بؤيثيوس وهو في السجن كتاباً من أشهر ما ألف من الكتب في العصور الوسطى وهو كتاب سلوى الفلاسفة Consolatione Philosophiae، وجمع فيه بين النثر العادي والشعر البديع الساحر، لم يذرف فيه دمعه، بل كان كل ما يحويه هو تسليم كتسليم الرواقيين بتصرفات الأقدار التي تخبط خبط عشواء، ومحاولة صادقة للتوفيق بين مصائب الأبرار وما يتصف به المولى سبحانه وتعالى من حب للخير، وقدرة على كل شيء، وعلم سابق بما يقع في الكون من أحداث. ويذكر بؤيثيوس نفسه بجميع النعم التي توالت عليه في حياته- من ثراء و "حَمٍ نبيل، وزوجة طاهرة" وأبناء بررة. ويتذكر المناصب العليا التي شغلها، والساعة العظيمة التي هز فيها بفصاحة لسانه مشاعر أعضاء مجلس الشيوخ حين كان ولداه القنصلان هما رئيسيه. ويقول لنفسه إن هذه السعادة لا يمكن أن تدوم إلى أبد الدهر، بل لا بد أن توجه الأقدار بين الفينة والفينة لمن ينعم بها ضربة تطهره وتزكيه. وتلك السعادة العظيمة خليقة بأن تذهب تلك الجائحة القاصمة(73). ومع هذا فإن ذكرى تلك السعادة الماضية من شأنها أن تزيد من حدة الألم. وفي ذلك يقول بؤيثيوس في بيت من الشعر يردد دانتي صداه على لسان فرنسسكا Francesca: "إن أعظم ما يشفى به الإنسان حين تصرعه الشدائد هو ذكرى ما كان ينعم به من سعادة"(74). وهو يسأل السيد الفلسفة- بعد أن ينزلها منزلة العقلاء كما يفعل أهل العصور الوسطى- عن موضع الفلسفة الحقه، ويتبين أنها لا تكون في المال أو المجد، ولا في اللذة أو السلطان؛ ومن ثم يرى أنه لا توجد سعادة حقه أو دائمة إلا في الاتصال بالله، ويقول إن "النعمة الحقه هي الاتصال بالله"(75). ومن أغرب الأشياء أنه ليس في الكتاب كله سطر واحد يشير إلى فساد الأخلاق الشخصية، وليس فيه إشارة إلى المسيحية أو أية عقيدة من عقائدها، ولا سطر واحد غير خليق بأن يكتبه زينون، أو أبيقور، أو أورليوس. ومن ثم فإن آخر كتاب في الفلسفة الوثنية قد كتبه مسيحي تذكر في ساعة موته أثينة لا جلجوثا Gelgotha.
ودخل عليه الجلاد في اليوم الثالث والعشرين من شهر أكتوبر من عام 524، ثم ربطوا عنقه بحبل وشدوه حتى جحظت مقلتاه وخرجتا من وقبيهما،ثم انهالا عليه ضرباً بالعصي الغليظة حتى قضى نحبه، وقتل سيماخوس بعد بضعة أشهر من ذلك الوقت. ويقول بروكبيوس(76) إن ثيودريك بكى لما ارتكبه من ظلم في حق بؤيثيوس وسيماخوس، وفي عام 526 لحق ضحيته إلى القبر.
ولم تبقى مملكته طويلاً بعد موته، وكان قبل وفاته قد اختار حفيده أثلريك Athalric ليخلفه على العرش، ولم يكن حفيده هذا قد جاوز العاشرة من عمره ولذلك حكمت أمه أمالاسنثا Amalasuntha، وكانت امرأة نالت قسطاً كبيراً من التعليم والتثقيف، وكانت صديقة لكسيدورس أو لعلها كانت تلميذة له؛ فلما شرعت تحكم البلاد باسم ولدها دخل في خدمتها كما كان من قبل في خدمة أبيها، ولكنها كانت تميل كل الميل إلى الأساليب الرومانية، فأغضبت بذلك رعاياها القوط، ولم يكونوا راضين عن الدراسات اليونانية واللاتينية القديمة التي
كانت تضعف بها، كما يرون، مليكهم الصغير. لهذا أسلمت ابنها إلى مربين من القوط، وأطلق الصبي العنان لشهواته الجنسية، ومات في الثامنة عشر من عمره. وأجلست أمالاسنثا ابن عمها ثيوداهاد Theodahad معها على العرش بعد أن أخذت عليه المواثيق بأن يترك لها شؤون الحكم. ولكنه لم يلبث أن خلعها وألقاها في السجن، فطلبت إلى جستنيان، الذي أصبح وقتئذ إمبراطور الدولة البيزنطية، أن يخف لمعونتها، فجاءها بلساريوس Belisarius.قصة الحضارة ج12 ص200-206)
 
الإمبراطورية الشرقية
"وحكم الإمبراطورية الشرقية بين ثيودوسيوس وجستنيان الأول حكام كثيرون، كان الناس يلهجون بذكرها في أيامهم، أما الآن فلا يكاد يعرف عنهم اكثر من أسمائهم. إن يسر العظماء كلهم لتذكرنا بأن الخلود قصير الأجل! وحسبنا أن نذكر من هؤلاء الحكام ليو الأول (457-774) الذي أرسل لمحاربة جيسريك (467) أكبر أسطول حشدته حكومة رومانية، ولكن هذا الأسطول هزم ودمر. وأحدث زينون الإصوري Zenothe Isaurian زوج ابنته شقاقاً كبيراً بين الكنيستين اليونانية واللاتينية بسبب رغبته في تهدئة ثائرة اليعقوبين، وذلك حين قرر في رسالته "التوحيدية" المعروفة باسم الهنوتيكون Henoticon أن ليس للمسيح إلا طبيعة واحدة، وكان أناستاسيوس (491-518) رجلا قديراً، شجاعاً، محباً للخير، دعم مالية الدولة بإدارته الاقتصادية الحكيمة، وخفض الضرائب، وألغى صراع الآدميين مع الوحوش في الحفلات والألعاب، وجعل القسطنطينية أمنع من عقاب الجو بإنشاء الأسوار الطويلة، التي كانت تمتد أربعين ميلا من بحر مرمرة إلى البحر الأسود، وانفق الكثير من أموال الدولة في غير هذه من الأعمال العامة الكثيرة، وترك في خزائنها 000ر320 رطل من الذهب (900ر400ر131 ريال أمريكي) هي التي مهدت السبيل لفتوح جستنيان. لكن الشعب لم يعجبه اقتصاده وميوله
اليعقوبية، فحاصر الغوغاء قصره، وقتلوا ثلاثة من أعوانه. ثم أشرف عليهم تعلوه مهابة الشيوخ التي قاربت الثمانين، وعرض عليهم أن ينزل عن العرش إذا اتفق الشعب على من يختاره خليفة له. وكان هذا شرطاً مستحيل التنفيذ. انتهى الأمر بعده بأن طلبت إليه الجماهير الثائرة أن يحتفظ بالتاج. ولما توفي بعد قليل من ذلك الوقت اغتصب الملك جستين، وهو شيخ أمي (518-527)، يحب الراحة التي يميل إليها ابن السبعين، ولذلك ترك حكم الإمبراطورية إلى جستنيان نائبه وابن أخيه.
قصة الحضارة ج12 ص208-209)
 
جستنيان
الدكتاتور المسيحي-في القرن السادس قبل بعثة النبي بقرن تقريبا- الذي قتل قائد جيشه ثلاثين ألفاً من العامة
"ولد جستنيان نفسه, في عين بركبيوس مؤرخه وعدوه. ذلك بأن الإمبراطور قد ولد في عام 482 من أبوين مزارعين من أصل إليرى -أو لعله صقلبي(1)- يقيمان بالقرب من سرديكا Sardica وهي مدينة صوفيا الحالية. وجاء به عمه جستين الى القسطنطينية ورباه تربية صالحة. ولما أصبح جستنيان ضابطاً في الجيش ولبث تسع سنين ياوراً ومساعداً لجستين، أظهر في عمله براعة عظيمة. ولما مات عمه (527) خلفه على عرش الإمبراطورية، وكان وقتئذ في الخامسة والأربعين من عمره، متوسط القامة والبنية، حليق الذقن، متورد الوجه، متجعد الشعر، رقيق الحاشية، تعلو ثغره ابتسامة تكفي لأن تخفي وراءها ما لا يحصى من الأغراض، وكان متقشفاً في طعامه وشرابه تقشف الزهاد، لا يأكل إلا قليلا، ويعيش معظم أيامه على الخضر(2). وكثراً ما كان يصوم حتى تكاد تخور قواه. وكان في أثناء صيامه لا ينقطع عما اعتاده من الاستيقاظ مبكراً، وتصريف شئون الدولة "من مطلع الفجر إلى الظهيرة، وإلى غسق الليل"، وكثيراً ما كان يظن أعوانه أنه قد آوى إلى مضجعه، بينما كان هو منهكماً في الدرس، يبذل جهده ليكون موسيقياً ومهندساً ومعمارياً، وشاعراً ومشترعاً، وفقيهاً في الدين وفيلسوف، وإمبراطوراً يجيد تصريف شئون الإمبراطورية. ولكنه رغم هذا كله لم يتخل عن خرافات عصره. وكان ذا عقل نشيط على الدوام، عظيم الإلمام بالشؤون الكبرى والتفاصيل الصغرى. ولم يكن قوي الجسم أو شجاعاً، وقد حدثته نفسه بالتخلي عن الملك في أثناء المتاعب التي قامت في بداية حكمه ولم ينزل قط إلى الميدان في حروبه الكثيرة. ولعل من عيوبه الناشئة من دماثة خلقه ورقة طبعه، أن كان من السهل على أصدقائه أن يؤثروا فيه ومن أجل هذا كان كثيراً ما يتقلب في سياسته. ويخضع في أحكامه لزوجته. وقد خص بروكبيوس جستنيان بمجلد كامل من تاريخه، يصفه بأنه "عديم الإخلاص، مخادع، منافق، يخفي عن الناس غضبه، يظهر غير ما يبطن، حاذق، قادر كل المقدرة على التظاهر بالرأي الذي يدعي أنه يعتنقه، بل إنه يستطيع في كثير من الأحيان أن يذرف الدمع من عينيه 000 إذا اقتضت الظروف ذلك"(3). وغير هذا كله يصح أن يكون وصفاً للدبلوماسي القدير. ويواصل بروكبيوس وصفه فيقول : "وكان صديقاً متقلباً في صداقته، عدواً إذا عقد هدنة لا يحافظ على عهده، حريصاً كل الحرص على الاغتيال والنهب" ويلوح أنه كان يتصف بهذا كله في بعض الأوقات، ولكنه كان يستطيع أن يكون رحيماً كريماً. ومن ذلك أن قائداً يدعى بروبوس Probus قد اتهم بسبه، فجئ به ليحاكم بتهمة الخيانة، ولما عرض التقرير الذي وضع عن محاكمته على جستنيان قام من مقعده وأرسل رسالة إلى بروبوس يقول فيها : "إني أغفر لك ما ارتكبته من ذنب في حقي، وأدعو الله أيضاً أن يسامحك"(4). وكان يقبل النقد الصريح ولا يغضب منه "وكان هذا الرجل الظالم"، الذي رزئ بمؤرخه "أسهل منالاً من أي إنسان آخر في العالم، وكان أحقر الناس في الدولة، ومن لا شأن لهم فيها على الإطلاق، يستطيعون كلما شاءوا أن يأتوا إليه ليتحدثوا معه"(5).
ومع هذا فقد عمل على أن يجعل ما كان يقام في بلاط الإمبراطور من مراسيم وحفلات غاية في الأبهة والفخامة، حتى فاقت ما كان يحدث منها في أيام دقلديانوس وقسطنطين. وكان كنابليون يعوزه التأييد الذي يناله المليك الشرعي، وذلك لأنه ورث الملك من مغتصب له. ولم يكن مهيباً في مظهره ومنشئه، ومن أجل هذا عمد إلى طقوس ومراسيم تبعث الرعب في القلوب كلما ظهر أمام الجماهير أو السفراْء الأجانب. ولهذا السبب عينه شجع فكرة الملكية المقدسة، واستخدم لفظ مقدس في وصف شخصه وملكه؛ وكان يطلب إلى من يمثلون أمامه أن يركعوا ويقبلوا أطراف ثوبه الأرجواني، أو أصابع قدميه من فوق حذاءيه . وعمل على أن يعمده ويتوجه بطريق القسطنطينية، ولبس قلادة اللؤلؤ. وقصارى القول أنه ما من حكومة قد عملت ما عملته الحكومة البيزنطية لتنال إجلاء الشعب له عن طريق المراسيم الفخمة، ولقد كان لهذه السياسة أثرها إلى حد كبير؛ ولسنا ننكر أنه قد حدثت انقلابات كثيرة في تاريخ البيزنطية ولكنها كانت في معظم الأحوال انقلابات مفاجئة قام بها موظفو القصر، لأن الحاشية نفسها لم تكن ترهبها ما وضعته لنفسها من مراسيم وطقوس.
وكانت أكبر فتنة قامت في عهد جستنيان هي التي حدثت في بدايته (532) وكادت أن تقضي على حياته. وكان سببها أن الخضر والزرق- وهم الحزبان اللذان انقسم إليهما أهل القسطنطينية حسب الثياب التي كان يلبسها راكبو خيول السباق المحببون- قد بلغت الخصومة بينهم حد العنف، حتى أصبحت شوارع العاصمة غير مأمونة، وحتى أضطر الأغنياء إلى أن يرتدوا ملابس الفقراء المساكين لينجوا بذلك من طعنات الخناجر في الليل. وانقضت الحكومة آخر الأمر على الطائفتين المتنازعتين، وقبضت على عدد كبير من زعمائهما، فما كان من هذين الحزبين إلا أن ضما صفوفهما وقاما بفتنة مسلحة ضد الحكومة، وأكبر
الظن أن بعض الشيوخ قد اشتركوا في هذه الفتنة أو حاول رعاع المدن أن يقلبوها ثورة عارمة، فهجموا على السجون، وأطلقوا سراح المسجونين، وقتلوا عدداً من رجال الشرطة والموظفين، وأشعلت النار في المباني، وحرقت كنيسة أياصوفيا وأجزاء من قصر الإمبراطور، وهتفت الجماهير قائلة "Niha" أي النصر- وبذلك أطلق هذا الاسم على تلك الفتنة. وأفقد هذا النصر العظيم وعيه، فطالب إبعاد اثنين من أعضاء مجلس جستنيان ، لم يكن يحبهما، ولعل سبب ذلك انهما كانا من ظلمة الحكام، ووافق الإمبراطور على هذا الطلب، فازداد العصاة جرأة وأقنعوا هيباشيوس Hypatius، أحد الشيوخ ، بأن يقبل التاج، فقبله على الرغم من معارضته زوجته وتوسلها إليه ألا يقبله، وخرج بين هتاف الجماهير ليجلس على مقعد الإمبراطور في الألعاب التي كانت قائمة على قدم وساق في الميدان الكبير. واختبأ جستنيان أثناء ذلك في القصر، وأخذ يدبر أمر الهرب، ولكن الإمبراطورة ثيودورا أقنعته بالعدول عن هذه الفكرة، وأشارت عليه بالمقاومة. وتعهد لبساريوس قائد الجيش أن يقوم بهذا العمل، واختار من بين جنوده عدداً من القوط، وسار على رأسهم إلى ميدان الألعاب، وقتل ثلاثين ألفاً من العامة، وقبض على هيباشيوس، وأمر بقتله في السجن. وأعاد جستنيان الموظفين المفصولين إلى عملهما، وعفا عن المتآمرين من أعضاء مجلس الشيوخ، ورد إلى أبناء هيباشيوس ما صودر من أملاكهم(6). وظل جستنيان بعد هذه الفتنة آمناً على نفسه وملكه خلال الثلاثين عاماً التالية، ولكن يبدو أن إنساناً واحداً لا أكثر هو الذي كان يحبه.
قصة الحضارة ج12 ص209-212)
 
ماذا فعل جستنيان المسيحي من حروب داخل اوروبا المسيحية للحفاظ على الامبراطورية -في القرن السادس قبل بعثة النبي بقرن تقريبا-يقول ديورانت:"في وسعنا أن نغتفر لجستنيان شغفه العظيم بالوحدة، لأن هذا الشغف من أعظم ما يولع به الفلاسفة ورجال الحكم على السواء؛ ولقد اقتضاهم في بعض الأحيان أكثر مما اقتضتهم الحرب. ولم تكن استعادة أفريقية من الوندال، وإيطاليا من القوط الشرقيين، وأسبانيا من القوط الغربيين، وغالة من الفرنجة، وبريطانيا من السكسون؛ ولم يكن طرد البرارة إلى مرابضهم، وإعادة الحضارة الرومانية إلى جميع ميادينها القديمة، ونشر الشريعة الرومانية مرة أخرى في جميع بقاع الرجل الأبيض من الفرات إلى سور هدريان، لم تكن هذه المطامع كلها مطامع غير نبيلة، وإن كانت قد أنهكت المنقذين ومن أريد إنقاذهم على السواْء. وكان من الوسائل التي اتبعها جستنيان لبلوغ هذا الغرض أن أزال ما بين الكنيستين الشرقية والغربية من نزاع حول مسألة البابوية، وكان من أكبر أمانيه أن يرد الأريوسيين واليعاقبة وغيرهما من الخارجين على الدين إلى حظيرته، ولم يكن أحد قد فكر في هذا كله منذ أيام قسطنطين.
ولقد كان من حسن حظ جستنيان أن وهب قادة عظماء، ومن سوء حظه أنه كانت موارده المالية قليلة - فلقد كان شعبه غير راغب في الحروب التي كان يريد أن يخوض غمارها، وغير قادر على أداء ما تطلبه من نفقات. وسرعان ما استنفذ الثلاثمائة والعشرين ألف رطل من الذهب التي تركها أسلاف جستين في خزانة الدولة، واضطر بعد استنفادها أن يلجأ إلى الضرائب التي نفرت من قلوب الشعب، وإلى ضروب الاقتصاد التي عرقلت أعمال قواده. وكانت الخدمة العسكرية الإجبارية العامة قد امتنعت قبل عهده بنحو مائة عام، وأصبح جيش
الإمبراطورية يتألف كله تقريباً من جنود مرتزقة من البرابرة يؤتى بهم من مائة قبيلة ودولة، ويعيشون على النهب والسلب، ويحلمون بالثراء والاغتصاب؛ وكثيراً ما كانوا يشقون عصا الطاعة في أشد أزمات القتال، وكثيراً ما فقدوا ثمار النصر لاشتغالهم بجمع الغنائم والأسلاب، ولم يكن شئ يجمعهم ويؤلف بينهم، أو يشحذ هممهم إلا أداء أجورهم بانتظام أو خضوعهم لقواد عظام.
قصة الحضارة ج12 ص217-218)
 
قال ديورانت عن صلاح الدين الايوبي في سياق كلامه السابق
:"ولعل مما يجدر ذكره في هذا المقام أن أعظم القواد - كالإسكندر، وقيصر، وبليساريوس، وصلاح الدين، ونابليون - قد وجدوا أن الرحمة أقوى من اسلحة الحروب
قصة الحضارة ج12 ص218)




 
وكان جستنيان قد استقر رأيه على أنه لا يستطيع الاحتفاظ بفتوح دائمة في بلاد الشرق لأسباب كثيرة : منها أن السكان سيظلون معادين له، وأن الحدود يصعب عليه أن يدافع منها. أما الغرب ففيه أمم اعتادت الحكم الروماني من عدة قرون، وهي تبغض سادتها البرابرة الخارجين على الدين، وتمد يد المساعدة للدولة الرومانية بالتعاون معها عليهم في الحرب وبأداء الضرائب لها في السلم. ومن أفريقية يستطاع أخذ الحبوب التي تسد أفواه أهل العاصمة فيسكتون عن توجيه اللوم للإمبراطور.
قصة الحضارة ج12 ص219)
 
للبربر العلمانيين هذا النص
من حررهم ومن استعمرهم
:"واجتمعت في البسفور في شهر يونية من عام 533 خمسمائة سفينة نقالة، وتسع وتسعون بارجة حربية، وتلقت أوامر الإمبراطور، وبركات البطريق، وأبحرت إلى قرطاجة. وكان بركبيوس من الذين صحبوا بليساريوس، وكتب وصفاً رائعاً "لحرب الوندال". ونزل بليساريوس في أفريقية بما لا يزيد على خمسمائة من الفرسان، واكتسح وسائل الدفاع الواهية عن قرطاجة، ولم تمض أكثر من بضعة أشهر حتى قضى على قوة الوندال. وعجل جستنيان فدعاه إلى احتفال بالنصر يقام بالقسطنطينية، فانقض المغاربة من التلال على الحاميات الرومانية، وأسرع بليساريوس بالعودة في الوقت المناسب القضاء على فتنة قامت بين جنوده، وقادهم بعدها للنصر، وبقيت أفريقية القرطاجة من ذاك الحين خاضعة للحكم الروماني إلى أن جاء العرب فاتحين.
قصة الحضارة ج12 ص219-220)
 
اغراء الحروب وخراب ايطاليا -حروب جستنيان- في القرن السادس الميلادي قبل بعثة النبي ومازال الصراع المسيحي المسيحي المسلح مستمرا
والامبراطورية تتوسع اذن كانت قوية وقت مجئ الاسلام اليها
فبعدد ان ذكر ديورانت الاستيلاء على قرطاجة-في النص السابق- قال:"وكان جستنيان قد هداه دهاؤه السياسي إلى عقد حلف مع القوط الشرقيين حين كان بليساريوس يهاجم أفريقية؛ فلما تم هذا الفتح أغرى الفرنجة بأن يعقدوا معه حلفاً آخر، في الوقت الذي أمر فيه بليساريوس بفتح إيطاليا التي كانت بليساريوس بلاد تونس قاعدة له، هاجم منها صقلية، ولم يجد صعوبة في الاستيلاء عليها، ثم عبر البحر منها إلى إيطاليا في عام 536، واستولى على نابلي بأن أمر بعض جنوده أن يدخلوا المدينة زحفاً في قنوات المياه المغطاة. وكانت قوات القوط الشرقيين ضعيفة منقسمة على نفسها، ورحب سكان روما ببليساريوس وحيوه تحية المحرر المنقذ، كما رحب به رجال الدين لأنه من القائلين بالتثليث، فدخل روما دون أن يلقى مقاومة. وأمر ثيوداهاد Theadahad بقتل أمالاتنسا Amalathunsa، فخلع القوط الشرقيون ثيوداهاد وأختاروا وتجيس Witigis ملكاً عليهم. وحشد وتجيس جيشاً مؤلفاً من 000ر105 رجل حاصر به بليساريوس في روما. ولما اضطر أهلها إلى الاقتصاد في الزاد والماء، والامتناع عن الاستحمام في كل يوم، بدءوا يتذمرون من بليساريوس الذي لم يكن معه إلا خمسة آلاف رجل مسلح، دافع بهم عن المدينة بمهارة وشجاعة، اضطر معهما وتجيس أن يعود إلى رافا بعد ما بذل من الجهد الكبير مدة عام كامل. وظل بليساريوس ثلاث سنين يلح على جستنيان بأن يمده بعدد آخر من الجند، حتى أرسلهم آخر الأمر ولكنه عقد لواءهم لقواد معادين لبليساريوس. وعرض القوط الشرقيون المحاصرون في رافا، والذين أوشكوا على الهلاك جوعاً، أن يسلموا المدينة إذا رضى بليساريوس أن يكون ملكاً عليهم. وتظاهر بليساريوس بالقبول حتى استولى على المدينة، ثم أسلمها إلى جستنيان (540).
وشكر له الإمبراطور حسن صنيعه وداخلته فيه الريبة. ذلك أن بليساريوس قد كافأ نفسه على عمله بالاستيلاء على قدر كبير من الغنائم، هذا إلى أنه كسب ولاء جنوده إلى حد أزعج الإمبراطور وأنه قد عرضت عليه مملكة كاملة، فهل يستبعد عليه مع هذا كله أن يتطلع إلى الاستيلاء على العرش من ابن أخي رجل أغتصبه من صاحبه الشرعي؟ لهذا استدعاه جستنيان، وشاهد وهو قلق مرتاب حاشية القائد العظيم ومظهرها الفخم، ويقول بركبيوس "إن سكان بيزنطة كانوا يبتهجون حين يشهدون بليساريوس يخرج من بيته كل يوم ... ذلك بأن خروجه منه وسيره في الطريق كان شبيهاً بموكب في عيد احتشد فيه كثير من الخلق، لأنه كان يصحبه عدد كبير من الوندال، والقوط، والمغاربة، يضاف إلى هذا أنه كان بهي الطلعة، طويل القامة، جميل الوجه، ولكنه كان وديعاً رقيق الحاشية، دمث الأخلاق، حتى لقد كان يبدو كأنه رجل فقير لا يعرفه أحد"(16).
ولم يعن القواد الذين خلفوه في إيطاليا بنظام الجند، وتنازعوا فيما بينهم، فكسبوا لأنفسهم احتقار القوط، فنادوا برجل قوطي، جم النشاط، موفور العقل، رابط الجأش، ملكاً على الشعب المغلوب. وجمع توتيلا Totila الملك الجديد مجندين ذوي بأس شديد من البرابرة الجوالين الذين لا مأوى لهم في إيطاليا واستولى بهم على نابلي (543) وتيبور وضرب الحصار على روما. وقد أدهش الناس برحمته ووفائه بوعده، وعامل الأسرى معاملة طيبة انضووا بفضلها تحت لوائه، واستمسك بما قطعه على نفسه من العهود التي استسلمت بها نابلي، حتى بدأ الناس يتساءلون من هو البربري ومن هو اليوناني المتحضر. ولما وقعت زوجات بعض اعضاء مجلس الشيوخ أسيرات في يده عاملهن بلطف وشهامة واطلق سراحهن، وأما البرابرة الذين في خدمة الإمبراطور فلم يظهروا مثل هذه الرقة في المعاملة؛ بل أخذوا يعيثون في البلاد فساداً لأن جستنيان لم يؤد اليهم أجورهم لنفاذ ما كان في خزائنه من المال، حتى أخذ الناس يتذكرون في أسى وحنان حكم ثيودريك وما كان يسوده من عدل ونظام(17).
وأمر بليساريوس أن يعود لإنقاذ الموقف. فلما عاد إلى إيطاليا تسلل وحده إلى روما المحاصرة مخترقاً صفوف توتيلا لكنه وصلها بعد فوات الوقت، فقد فقدت الحامية اليونانية روحها المعنوية، لأن ضباطها كانوا جبناء عاجزين؛ وفتح بعض الخونة أبواب المدينة، ودخلها جنود توتيلا البالغ عددهم عشرة آلاف رجل (546). وبعث بليساريوس وهو خارج منها رسالة إلى توتيلا يطلب إليه ألا يدمر المدينة التاريخية. وسمح توتيلا لجنوده الجياع الذين لم ينالوا أجورهم أن ينهبوها، ولكنه منعهم من إيذاء السكان وحمى النساء من شهوات الجنود الجامحة ثم أخطأ إذ غادر روما ليحاصر رافنا.فلما غاب عنها استردها بليساريوس، ولما عاد توتيلا وحاصرها مرة أخرى عجز عن أن يخرج منها القائد اليوناني الموهوب.وظن جستنيان أن الغرب قد خضع له فأعلن الحرب على بلاد الفرس، واستدعى بليساريوس ليذهب إلى الشرق . فلما ذهب استولى توتيلا على روما من جديد (549) ومن بعدها صقلية، وكورسكا، وسردينية، وشبه الجزيرة كلها تقريباً.
وأخيراً أعطى جستنيان قائداً من الخصيان يدعى نارسيز Narses "مبلغاً كبيراً جداً من المال" وأمره أن يحشد جيشاً جديداً يطرد به القوط من إيطاليا. وأدى نارسيز هذه المهمة بمهارة وسرعة، فهزم توتيلا، وقتل في أثناء فراره، وسمح لمن بقى من القوط أن يخرجوا من إيطاليا سالمين، وانتهت بذلك "الحرب القوطية" بعد أن دامت ثمانية عشر عاماً (553).
وأتمت هذه السنون خراب إيطاليا. ذلك أن روما قد وقعت في أيدي الجيوش المحاربة خمس مرات متوالية، وحوصرت ثلاث مرات، ونفذ منها الطعام، وتعرضت للنهب والسلب، ونقص عدد سكانها من مليون إلى أربعين ألفاً(18). نصفهم تقريباً من المعدمين الذين يعيشون على الصدقات البابوية، ودمرت ميلان وقتل أهلها على بكرة أبيهم. وتدهورت مئات من المدن والقرى إلى هوة الإفلاس بسبب اغتصاب الحكام ونهب الجنود، وبارت الكثير من الأراضي التي كانت من قبل خصبة وهجرها السكان، ونقصت موارد الطعام. ويقول الرواة إن خمسين ألفاً ماتوا من الجوع في بيسينوم Picenum وحدها في خلال هذه الأيام الثمانية عشر(19). وتحطم كيان الأشراف، فقد قتل كثيرون منهم في المعارك الحربية وفي أعمال النهب، وفر عدد كبير منهم إلى خارج البلاد حتى لم يبق منهم من يكفى لقيام مجلس شيوخ روما، فلم تعد تسمع عنه شيئاً ما بعد عام 579(20). وتهدمت قنوات مياه الشرب التي أصلحها ثيودريك من قبل وأهملت، واستحالت الكمبانيا مرة أخرى مناقع واسعة تتفشى فيها الملاريا، ولا تزال كذلك حتى يومنا هذا. وبطل استعمال الحمامات الفخمة التي كانت تمدها هذه القنوات بالماء وتهدمت، وحطمت مئات من التماثيل التي نجت من عبث ألريك وجيسريك، أو صهرت لتصنع من معادنها قذائف وعدد حربية في أثناء الحصار. وكانت آثار الخراب والدمار هي كل ما يشهد بما كان لروما القديمة عاصمة نصف العالم من عظمة وجلال. ولبث الإمبراطور الشرقي زمناً قليلاً حاكماً على إيطاليا بعد هذا الخراب، ولكن ما ناله من النصر كان نصراً عديم القيمة كلفه الكثير من المال والرجاء والعناء، ولم تنج روما من آثار هذا النصر حتى عصر النهضة.
قصة الحضارة ج12 ص220-223)
 
قانون جستنيان وشرائعه اللاهوتية المثبتة بالقانون وبالسيف!
بعد كلامنا عن حروبه
وانسى ياعمنا نصوص ان مملكة المسيح ليست من هذا العالم والنص الذي فيه لتخضع كل نفس مسيية للسلطات الفائية يعني ملهاش دعوة باي حكم !!!
:"لقد نسي التاريخ حروب جستنيان، وحق له أن ينساها، ولا يذكر اسمه إلا مقترناً بقوانينه. وكان قد مضى قرن من الزمان منذ نشر قانون ثيودوسيوس، وأضحت كثير من أصوله عتيقة لا تطبق لتغير الظروف التي شرعت فيها، وسنت قوانين جديدة كثيرة اختلطت بعضها ببعض في كتب القوانين، ووجد تناقض كثيرين بعض القوانين والبعض الآخر عاق أعمال المحاكم والسلطة التنفيذية. يضاف إلى هذا أن تأثير المسيحية قد بدل كثيراً من الشرائع وغير تفسيرها. ثم إن قوانين روما المدنية كثيراً ما كانت تتعارض مع قوانين الأمم التي تتألف منها الإمبراطورية، وإن كثيراً من التشريعات لم تكن تتفق مع تقاليد الشرق المصطبغ بالصبغة اليونانية. وقصارى القول أن شريعة روما كلها أضحت أكداساً من المواد القانونية التجريبية لا قانوناً منطقياً واحداً.
ولم يكن جستنيان، وهو صاحب النزعة القوية إلى الوحدة، ليرضى عن هذه الفوضى كما لم يكن يرضى عن تمزيق أوصال الإمبراطورية. ولهذا عين في عام 528 عشرة من فقهاء القانون لينظموا قوانين الدولة، ويوضحوها، ويصلحوها. وكان أكثر أعضاء هذه اللجنة نشاطاً ونفوذاً هو الكوستر تريبونيان Tribonian الذي ظل إلى أن مات أشهر الموحين بخطط جستنيان التشريعية، والناصحين له، والمنفذين لآرائه، وذلك رغم حرصه الشديد على المال ومظنة الكفر بالله. وأممت اللجنة الجزء الأول من عملها بسرعة أكثر مما كان خليقاً بها، وأصدرته في عام 529 باسم القانون الدستوري، وأعلن الإمبراطور أنه هو قانون الإمبراطورية، وأنه يلغي جميع ما سبقه من التشريعات إلا ما تضمنه منها، وصُدِّر بهذه العبارة الجميلة:
إلى الشبان الراغبين في دراسة القانون: يجب ان يسلح جلالة الإمبراطور بالقانون كما يجب أن يعلو مجده بقوة السلاح، حتى يسود بذلك الحكم الصالح في الحرب والسلم على السواء، وحتى يتبين للناس أن الحاكم... لا تقل عنايته بالعدالة عن عنايته بالنصر على أعدائه(21).
ثم أنتقل اعضاء اللجنة إلى القسم الثاني من مهمتهم، وهي أن يضموا في مجموعة واحدة آراء فقهاء القانون الرومان، التي رأوا أنها لا تزال خليقة بأن تكون لها قوة القانون، ونشرت هذه الآراء باسم مجموعة القوانين والفتاوى المدنية (533)؛ وقالت اللجنة إن آراء الفقهاء والشروح التي وردت في هذه المجموعة ستصبح من ذلك الحين واجبة الطاعة على جميع القضاة، وإن جميع ما عداها من الآراء قد فقدت ما كان لها من قوة شرعية، وامتنع من ذلك الحين نَسْخ ما عدا هذه من آراء فقهاء القانون واختفى معظمها، ويستدل مما بقي منها على أن المحررين قد حذفوا ما كان من آراء مناصرة للحرية، وأنهم عمدوا إلى الغش والتزوير فبدلوا بعض أحكام فقهاء القانون الأقدمين حتى تكون أكثر ملاءمة للحكم المطلق.
وبينا كانت اللجنة تقوم بهذا العمل الكبير أصدر تريبونيان Tribonian واثنان من زملائه كتاباً موجزاً في القانون المدني سمياه القانون Institutiones (533). وكان هذا الكتاب في جوهره عبارة عن شروح جايوس Gius معدلة ومصححة حتى تلائم روح ذلك العصر. وكان جايوس هذا قد لخص في القرن الثاني بعد الميلاد القوانين المدنية المعمول بها في أيامه. وأظهر في هذا العمل من البراعة ما يثير الإعجاب. وكان جستنيان في هذه الأثناء يصدر قوانين جديدة. فلما كان عام 534 ضم تريبونيان وأربعة من مساعديه هذه القوانين إلى النسخة الجديدة المعدلة من كتاب القوانين. وبعد صدورها أصبحت النسخة الأولى غير ذات موضوع، ولم يعثر عليها بعدئذ. ولما مات جستنيان نشر ما سنّه من قوانين جديدة باسم التشريعات الجديدة. ولم تنشر هذه باللغة اللاتينية كما كانت تنشر الكتب السابقة بل نشرت باللغة اليونانية، وكانت هي آخر ما صدر باللاتينية من كتب القانون في الإمبراطورية البيزنطية. وقد أطلق على هذه المؤلفات كلها فيما بعد اسم مجموعة القوانين المدنية. وكان يشار إليها في غير دقة باسم قانون جستنيان.
وجرى هذا القانون على ما جرى به قانون ثيودوسيان فجعل الشريعة المسيحية الأصلية قانون الدولة. وقد بدأ بتقرير التثليث وصب اللعنات على نسطوريوس، وأوتبكيس، وأبولينارس. واعترف بالزعامة الدينية للكنيسة الرومانية وأمر كل الهيئات المسيحية بالخضوع إلى سلطانها. ولكن الفصول التي جاءت بعد المقدمة أعلنت سلطة الإمبراطور على الكنيسة فقالت إن جميع القوانين الكنسية كجميع القوانين المدنية تصدر عن العرش، ثم مضى كتاب القانون يذكر القوانين الخاصة بالمطارنة، والأساقفة، ورؤساء الأديرة، والرهبان، ويحدد العقوبات التي توقع على القساوسة الذين يقامرون، أو يرتادون دور التمثيل أو يشهدون الألعاب(22). وجعل عقوبة المانيين والمارقين المرتدين هي الإعدام. أما الدوناتيون، والمنتانيون، واليعقوبيون وغيرهم من الطوائف المنشقة فكان عقابهم أن تصادر املاكهم، وأن يحكم عليهم بأنهم غير أهل لأن يبيعوا أو يشتروا، أو يرثوا أو يُورَثوا. وحرمت عليهم الوظائف العامة، والاجتماعات، كما حرموا من حق مقاضاة المسيحيين أتباع الدين القويم للحصول على ما لديهم قِبَلهم من الديون. وأباح القانون في بعض مواده الرحيمة للأساقفة أن يزُوروا السجون، ليحموا المسجونين من سوء استعمال القانون. وبدل القانون الميزات القديمة التي كانت تتمتع بها بعض الطبقات. من ذلك أن المعاتيق لم يعودوا يعاملون على أنهم طائفة خاصة قائمة بنفسها، بل أصبحوا يتمتعون من ساعة تحريرهم بجميع مميزات الأحرار، فيباح لهم أن يكونوا أعضاء في مجلس الشيوخ وأن يكونوا أباطرة. وقسم الأحرار جميعاً إلى طبقة ذوي الشرف أو الرتبة، وإلى طبقة عامة. وأقر القانون نظام الطبقات الذي نشأ منذ أيام دقلديانوس فقسمها إلى أشراف Patricii، وممتازين Illustres ومحترمين Specabites (وهي التي أخذ منها لفظ Respecabls أي محترم الإنجليزية)، وأصفياء Claricsimi، وأمجاد Gloriosi ولقد كان في هذا القانون الروماني كثير من العناصر الشرقية.
وظهرت فيما ورد في هذه الشرائع من قوانين خاصة بالرق بعض آثار المسيحية أو الرواقية. مثال ذلك أن اغتصاب أمّة كان عقابه الإعدام كاغتصاب الحرة سواء بسواء؛ كذلك كان يحق للعبد أن يتزوج من حرة إذا وافق سيده على هذا الزواج. وكان جستنيان يشجع العتق كما تشجعه الكنيسة، لكن القانون كان يجيز بيع الطفل حين يولد في سوق الرقيق إذا كان أبواه معدمين(23). وكان في قانون جستنيان فقرات تشجع استرقاق رقيق الأرض، وتمهد السبيل لنظام الإقطاع. مثال ذلك أن الرجل الحر إذا زرع قطعة من الأرض ثلاثين عاماً كان يطلب إليه أن يبقى هو وأبنائه إلى أبد الدهر مرتبطين بهذه الأرض(24). وكان القانون هذا بأن يمنع الزارع من ترك الأرض؛ وإذا هرب رقيق الأرض أو صار من رجال الدين من غير رضاء سيده، جاز لهذا السيد أن يطالب به كما يطالب السيد بعبده.
رفع هذا القانون من منزلة المرأة إلى حد ما. وكان إخضاعها للوصاية عليها طول حياتها قد انتهى في القرن الرابع، وبطل المبدأ القديم القاضي بأن الأبناء الذكور هم وحدهم الذين يحق لهم أن يرثوا آباءهم، وبذلت الكنيسة جهوداً كبيرة لتأييد المبدأ الجديد لأن كثيرات من النساء كن يوصين لها بأملاكهن. وحاول جستنيان أن ينفذ آراء الكنيسة الخاصة بالطلاق، وحرمه إلا إذا أراد أحد الزوجين أن يدخل ديراً للنساء أو الرجال. غير أن هذا العمل كان خروجاً متطرفاً على العادات والقوانين القائمة وقتئذ ولذلك عارضه كثيرون من الشعب بحجة أنه سيزيد من حوادث التسميم، وذكرت فيما سن بعدئذ من القوانين في الإمبراطورية الرومانية حالات كثيرة مختلفة يباح فيها الطلاق، وظلت هذه معمولاً بها، في الإمبراطورية البيزنطية حتى عام 1453 فيما عدا فترات منقطعة(25). ومحى من القانون ما فرضه أغسطس من عقوبات على العزوبة والعقم. وكان قسطنطين قد جعل الزنى من الجرائم التي يعاقب مرتكبها بالإعدام، وإن لم ينفذ هذا العقاب إلا في حالات نادرة، أما جستنيان فقد احتفظ بعقوبة الإعدام للزنى من الرجال، اما الزانية فقد جعل عقابها الإقامة في دير للنساء. وأباح القانون للزوج أن يقتل عشيق زوجته إذا وجدها في منزله أو شاهدها تتحدث معه في حانة بعد إنذارها ثلاث مرات أمام شهود. كذلك فرض القانون عقوبات صارمة على من يزني بامرأة غير متزوجة أو بأرملة إلا إذا كانت حظية أو عاهراً. وكان هتك العرض غصباً يعاقب عليه بالإعدام ومصادرة الأملاك، وكان ثمن هذه الأملاك المصادرة يعطى للمرأة المغتصبة. ولم يكتف جستنيان بتقرير عقوبة الإعدام للواط، بل كان في كثير من الأحيان يضيف إليها التعذيب، وبتر الأعضاء، وعرض المذنبين على الجماهير في الشوارع قبل إعدامهما، وإنا لنحس في هذا التشريع الصارم ضد الشذوذ الجنسي بأثر المسيحية التي روعتها آثام الحضارة الوثنية فدفعتها إلى هذا التزمت الوحشي.
وغير جستنيان قانون الملكية تغييراً أساساً. من ذلك أنه ألغى ما كان ينص عليه القانون القديم من حق الأقارب من العصب أن يرثوا من يموت دون أن يترك وصية؛ وجعل حق الميراث لأبناء الميت وأحفاده الخ من الظهور والبطون، وشجع قانون الهبات والوصايا لجهات البر؛ وأعلن أنه لا يجوز النزول عن شيء من أملاك الكنيسة، سواء كانت ثابتة أو منقولة، أو كانت أجور أملاك، أو رقيق أرض، أو عبيد؛ فلم يكن يحق لأي رجل من رجال الدين أو غير رجال الدين ولا لأية جماعة دينية أو غير دينية النزول عن أي شيء تمتلكه الكنيسة أو بيعه أو الإيصاء به. وأضحت هذه القوانين التي وضعها ليو الأول وأنثميوس وأيدها قانون جستنيان هي الأساس الشرعي لثروة الكنيسة المتزايدة. فقد كانت أملاك غير رجال الدين تنقسم وتتفرق، أما أملاك الكنيسة فظلت تتراكم وتزداد جيل بعد جيل. وحاولت الكنيسة أن تحرم الربا، ولكنها عجزت عن تحريمه؛ وأجاز القانون القبض على المدينين الذين يتخلفون عن جلسات المحاكمة، ولكنه أجاز إطلاق سراحهم بالكفالة أو إذا أقسموا أن يعودوا حين يطلبون للمحاكمة.
وحرم القانون سجن أي شخص إلا بأمر أحد كبار القضاة، وحدد الزمن الذي يمكن أن ينقضي بين القبض عليه ومحاكمته تحديداً دقيقاً لا يتعداه. وبلغ عدد المحامين من الكثرة حداً جعل جستنيان يشيد لهم باسلقا خاصة نستطيع أن نتصور مساحتها إذا عرفنا أن مكتبتها كانت تضم 150.000 مجلد أو ملف. وكان المتهم يحاكم أمام قاضي يعينه الإمبراطور، غير أنه كان من المستطاع تحويل القضية إلى محكمة الأسقف إذا رغب في ذلك الطرفان المتقاضيان. وكانت نسخة من الكتاب المقدس توضع أمام القاضي في كل جلسة. وكان وكيلا الطرفين يقسمان على الكتاب أنهما سيبذلان كل ما في وسعهما للدفاع عن موكليهما بذمة وامانة، ولكنهما يتخليان عن القضية إذا وجداهما مما يخل بالشرف والأمانة. وكان المدعي والمدعي عليه يلزمان أيضاً بأن يقسم كل منهما على الكتاب المقدس أن قضيته عادلة. وكانت العقوبات التي ينص عليها القانون صارمة ولكنها قلما كانت ملزمة فقد كان في وسع القاضي مثلاً أن يخفف العقاب عن النساء والقُصَّر، والسكارى الذين يقدمون للقضاء. وكان السجن للمحافظة على المتهمين حتى يحاكموا، ولكنه قلما كان يستخدم لعقاب المدنيين.
وقد أجاز قانون جستنيان عقاب المجرم ببتر اعضائه، فكان في هذا أكثر رجعية من قانون هدريان وأنطونينوس بيوس. مثال ذلك أن جباة الضرائب الذين يزورون فى حساباتهم، والذين ينسخون الآداب الدينية اليعقوبية كان يجوز عقابهم بقطع يدهم، اتباعاً للنظرية القائلة بأن العضو الذي اقترف ذنباً يجب أن يجازى بما أقترفه. وكثيراً ما يذكر القانون عقوبة جدع الأنف أو قطع الرقبة، وأضافت القوانين البيزنطية إليهما سلم العينين، وأكثر ما يكون ذلك لتشويه وجه الوارثين للعرش أو المتطلعين له. وكانت عقوبة الإعدام تنفذ في الأحرار بقطع رءوسهم، وفي بعض الأرقاء بصلبهم؛ وكان السحرة والفارون من الجيش يحرقون أحياء؛ وكان في وسع المواطن المحكوم عله أن يستأنف الحكم أمام محكمة أعلى درجة من المحكمة التي أصدرته، ثم إلى مجلس الشيوخ ثم إلى الإمبراطور نفسه آخر الأمر.
وإنا لنعجب بقانون جستنيان إذا نظرنا إليه في مجموعه أكثر مما نعجب به لو نظرنا إلى كل جزء من أجزائه على انفراد. وأكثر ما يختلف فيه عن القوانين التي صدرت قبله هو تشدده في اتباع المبادئ والسنن المقررة، وسد الطريق على التعديل والإصلاح، وما يسري فيه من ميل إلى القسوة في الانتقام، حتى لقد كان في وسع الروماني المتعلم أن يجد الحياة في حكم الأنطونيين أكثر حضارة منها في حكم جستنيان. وكان سبب هذه العيوب أن الإمبراطور لم يكن يستطيع التخلص من البيئة التي يعيش فيها والزمن الذي وجد فيه، وقد اضطرته رغبته الملحة في ان يوحد كل شيء على أن يقنن ما في عصره من الخرافات والوحشية كما يقنن ما فيه من عدالة ورحمة. وكان القانون شديد التمسك بالقديم والمحافظة عليه، شأنه في هذا شأن كل ما هو بيزنطي، وكان موائماً كل المواءمة لحضارة خيل إلى أهلها أنها لن تموت أبداً. لكنه سرعان ما نقص الخاضعون له فلم يتعدوا أهل مملكة صغيرة آخذة في النقصان. ذلك أن الشرقيين الخارجين على الدين والذين أذاقهم هذا أشد العذاب قد فتحوا صدورهم للمسلمين وكانوا أكثر رخاء في ظل القرآن منهم في ظل هذا القانون. وأغفلت إيطاليا تحت حكم اللمبارد، وغلاة تحت حكم الفرنجة وإنجلترا تحت حكم الأنجليسكسون، وأسبانيا تحت حكم القوط الغربيين، أغفلت هذه البلاد كلها أوامر جستنيان. لكن هذا القانون بالرغم من هذا كله، ظل بضعة أجيال يبسط النظام والأمن على خليط من الشعوب، وبفضله استطاع الناس أن يجتازوا حدود كثير من الأمم وينتقلون في شوارع مدنها وهم أكثر أمناً وأعظم حرية مما يستمتع به الذين ينتقلون في ذلك الإقليم نفسه في هذه الأيام. ولقد ظل هو قانون الإمبراطورية إلى آخر أيامها، ولقد أحيا سنته مسترعو بولونيا بعد خمسة قرون من اختفائه في الغرب. وعمل به الأباطرة والبابوات، وسرى في نظم كثير من الدول الحديثة، فكان هو الهيكل الذي قام عليه نظامها.
قصة الحضارة ج12 ص224-231)
 
بمناسبة تواضروس وبيشوي والفتح الاسلامي هل تريدون ان نذكركم ياتواضروس ويابيشوي بحروبكم بعضكم ضد بعض وقتلكم بعضكم لبعض في الشوارع وماذا فعلت نساؤكم؟"كان أفراد الطائفتين يقتتلون في شوارع المدينة بينما كانت نساؤهم يتبادلن القذائف من سطوح المنازل"
خذه هذه
:"وكانت هذه الشيعة الأخيرة التي تقول بأن ليس للمسيح إلا طبيعة واحدة قد كثر عددها في مصر حتى كاد يعادل عدد الكاثوليك. وبلغ من كثرتهم في الإسكندرية أن انقسموا هم أيضاً إلى طائفتين يعقوبيتين إحداهما تؤمن بنصوص الكتاب المقدس وأخرى لا تؤمن به. وكان أفراد الطائفتين يقتتلون في شوارع المدينة بينما كانت نساؤهم يتبادلن القذائف من سطوح المنازل. ولما ان أجلست قوات الإمبراطور المسلحة أسقفاً كاثوليكياً في كرسي أثناسيوس كانت أول تحية حياه به المصلون أن رجموه بوابل من الحجارة، ثم قتله جنود الإمبراطور وهو جالس على كرسيه. وبينما كانت الكثلكة تسيطر على أسقفية الإسكندرية، كان الخارجون عليها يزداد
عددهم زيادة مطردة في ريف مصر، فكان الفلاحون لا يأبهون بقرارات البطريق أو
بأوامر الإمبراطور، وكانت مصر قد خرجت عن طاعة الإمبراطورية أو أوشكت أن تخرج عن طاعتها قبل أن يفتتحها الغرب بقرن كامل.
قصة الحضارة ج12 ص232-233)
 
قانون جستنيان وشرائعه اللاهوتية المثبتة بالقانون وبالسيف!
بعد كلامنا عن حروبه
وانسى ياعمنا نصوص ان مملكة المسيح ليست من هذا العالم والنص الذي فيه لتخضع كل نفس مسيية للسلطات الفائية يعني ملهاش دعوة باي حكم !!!
:"لقد نسي التاريخ حروب جستنيان، وحق له أن ينساها، ولا يذكر اسمه إلا مقترناً بقوانينه. وكان قد مضى قرن من الزمان منذ نشر قانون ثيودوسيوس، وأضحت كثير من أصوله عتيقة لا تطبق لتغير الظروف التي شرعت فيها، وسنت قوانين جديدة كثيرة اختلطت بعضها ببعض في كتب القوانين، ووجد تناقض كثيرين بعض القوانين والبعض الآخر عاق أعمال المحاكم والسلطة التنفيذية. يضاف إلى هذا أن تأثير المسيحية قد بدل كثيراً من الشرائع وغير تفسيرها. ثم إن قوانين روما المدنية كثيراً ما كانت تتعارض مع قوانين الأمم التي تتألف منها الإمبراطورية، وإن كثيراً من التشريعات لم تكن تتفق مع تقاليد الشرق المصطبغ بالصبغة اليونانية. وقصارى القول أن شريعة روما كلها أضحت أكداساً من المواد القانونية التجريبية لا قانوناً منطقياً واحداً.
ولم يكن جستنيان، وهو صاحب النزعة القوية إلى الوحدة، ليرضى عن هذه الفوضى كما لم يكن يرضى عن تمزيق أوصال الإمبراطورية. ولهذا عين في عام 528 عشرة من فقهاء القانون لينظموا قوانين الدولة، ويوضحوها، ويصلحوها. وكان أكثر أعضاء هذه اللجنة نشاطاً ونفوذاً هو الكوستر تريبونيان Tribonian الذي ظل إلى أن مات أشهر الموحين بخطط جستنيان التشريعية، والناصحين له، والمنفذين لآرائه، وذلك رغم حرصه الشديد على المال ومظنة الكفر بالله. وأممت اللجنة الجزء الأول من عملها بسرعة أكثر مما كان خليقاً بها، وأصدرته في عام 529 باسم القانون الدستوري، وأعلن الإمبراطور أنه هو قانون الإمبراطورية، وأنه يلغي جميع ما سبقه من التشريعات إلا ما تضمنه منها، وصُدِّر بهذه العبارة الجميلة:
إلى الشبان الراغبين في دراسة القانون: يجب ان يسلح جلالة الإمبراطور بالقانون كما يجب أن يعلو مجده بقوة السلاح، حتى يسود بذلك الحكم الصالح في الحرب والسلم على السواء، وحتى يتبين للناس أن الحاكم... لا تقل عنايته بالعدالة عن عنايته بالنصر على أعدائه(21).
ثم أنتقل اعضاء اللجنة إلى القسم الثاني من مهمتهم، وهي أن يضموا في مجموعة واحدة آراء فقهاء القانون الرومان، التي رأوا أنها لا تزال خليقة بأن تكون لها قوة القانون، ونشرت هذه الآراء باسم مجموعة القوانين والفتاوى المدنية (533)؛ وقالت اللجنة إن آراء الفقهاء والشروح التي وردت في هذه المجموعة ستصبح من ذلك الحين واجبة الطاعة على جميع القضاة، وإن جميع ما عداها من الآراء قد فقدت ما كان لها من قوة شرعية، وامتنع من ذلك الحين نَسْخ ما عدا هذه من آراء فقهاء القانون واختفى معظمها، ويستدل مما بقي منها على أن المحررين قد حذفوا ما كان من آراء مناصرة للحرية، وأنهم عمدوا إلى الغش والتزوير فبدلوا بعض أحكام فقهاء القانون الأقدمين حتى تكون أكثر ملاءمة للحكم المطلق.
وبينا كانت اللجنة تقوم بهذا العمل الكبير أصدر تريبونيان Tribonian واثنان من زملائه كتاباً موجزاً في القانون المدني سمياه القانون Institutiones (533). وكان هذا الكتاب في جوهره عبارة عن شروح جايوس Gius معدلة ومصححة حتى تلائم روح ذلك العصر. وكان جايوس هذا قد لخص في القرن الثاني بعد الميلاد القوانين المدنية المعمول بها في أيامه. وأظهر في هذا العمل من البراعة ما يثير الإعجاب. وكان جستنيان في هذه الأثناء يصدر قوانين جديدة. فلما كان عام 534 ضم تريبونيان وأربعة من مساعديه هذه القوانين إلى النسخة الجديدة المعدلة من كتاب القوانين. وبعد صدورها أصبحت النسخة الأولى غير ذات موضوع، ولم يعثر عليها بعدئذ. ولما مات جستنيان نشر ما سنّه من قوانين جديدة باسم التشريعات الجديدة. ولم تنشر هذه باللغة اللاتينية كما كانت تنشر الكتب السابقة بل نشرت باللغة اليونانية، وكانت هي آخر ما صدر باللاتينية من كتب القانون في الإمبراطورية البيزنطية. وقد أطلق على هذه المؤلفات كلها فيما بعد اسم مجموعة القوانين المدنية. وكان يشار إليها في غير دقة باسم قانون جستنيان.
وجرى هذا القانون على ما جرى به قانون ثيودوسيان فجعل الشريعة المسيحية الأصلية قانون الدولة. وقد بدأ بتقرير التثليث وصب اللعنات على نسطوريوس، وأوتبكيس، وأبولينارس. واعترف بالزعامة الدينية للكنيسة الرومانية وأمر كل الهيئات المسيحية بالخضوع إلى سلطانها. ولكن الفصول التي جاءت بعد المقدمة أعلنت سلطة الإمبراطور على الكنيسة فقالت إن جميع القوانين الكنسية كجميع القوانين المدنية تصدر عن العرش، ثم مضى كتاب القانون يذكر القوانين الخاصة بالمطارنة، والأساقفة، ورؤساء الأديرة، والرهبان، ويحدد العقوبات التي توقع على القساوسة الذين يقامرون، أو يرتادون دور التمثيل أو يشهدون الألعاب(22). وجعل عقوبة المانيين والمارقين المرتدين هي الإعدام. أما الدوناتيون، والمنتانيون، واليعقوبيون وغيرهم من الطوائف المنشقة فكان عقابهم أن تصادر املاكهم، وأن يحكم عليهم بأنهم غير أهل لأن يبيعوا أو يشتروا، أو يرثوا أو يُورَثوا. وحرمت عليهم الوظائف العامة، والاجتماعات، كما حرموا من حق مقاضاة المسيحيين أتباع الدين القويم للحصول على ما لديهم قِبَلهم من الديون. وأباح القانون في بعض مواده الرحيمة للأساقفة أن يزُوروا السجون، ليحموا المسجونين من سوء استعمال القانون. وبدل القانون الميزات القديمة التي كانت تتمتع بها بعض الطبقات. من ذلك أن المعاتيق لم يعودوا يعاملون على أنهم طائفة خاصة قائمة بنفسها، بل أصبحوا يتمتعون من ساعة تحريرهم بجميع مميزات الأحرار، فيباح لهم أن يكونوا أعضاء في مجلس الشيوخ وأن يكونوا أباطرة. وقسم الأحرار جميعاً إلى طبقة ذوي الشرف أو الرتبة، وإلى طبقة عامة. وأقر القانون نظام الطبقات الذي نشأ منذ أيام دقلديانوس فقسمها إلى أشراف Patricii، وممتازين Illustres ومحترمين Specabites (وهي التي أخذ منها لفظ Respecabls أي محترم الإنجليزية)، وأصفياء Claricsimi، وأمجاد Gloriosi ولقد كان في هذا القانون الروماني كثير من العناصر الشرقية.
وظهرت فيما ورد في هذه الشرائع من قوانين خاصة بالرق بعض آثار المسيحية أو الرواقية. مثال ذلك أن اغتصاب أمّة كان عقابه الإعدام كاغتصاب الحرة سواء بسواء؛ كذلك كان يحق للعبد أن يتزوج من حرة إذا وافق سيده على هذا الزواج. وكان جستنيان يشجع العتق كما تشجعه الكنيسة، لكن القانون كان يجيز بيع الطفل حين يولد في سوق الرقيق إذا كان أبواه معدمين(23). وكان في قانون جستنيان فقرات تشجع استرقاق رقيق الأرض، وتمهد السبيل لنظام الإقطاع. مثال ذلك أن الرجل الحر إذا زرع قطعة من الأرض ثلاثين عاماً كان يطلب إليه أن يبقى هو وأبنائه إلى أبد الدهر مرتبطين بهذه الأرض(24). وكان القانون هذا بأن يمنع الزارع من ترك الأرض؛ وإذا هرب رقيق الأرض أو صار من رجال الدين من غير رضاء سيده، جاز لهذا السيد أن يطالب به كما يطالب السيد بعبده.
رفع هذا القانون من منزلة المرأة إلى حد ما. وكان إخضاعها للوصاية عليها طول حياتها قد انتهى في القرن الرابع، وبطل المبدأ القديم القاضي بأن الأبناء الذكور هم وحدهم الذين يحق لهم أن يرثوا آباءهم، وبذلت الكنيسة جهوداً كبيرة لتأييد المبدأ الجديد لأن كثيرات من النساء كن يوصين لها بأملاكهن. وحاول جستنيان أن ينفذ آراء الكنيسة الخاصة بالطلاق، وحرمه إلا إذا أراد أحد الزوجين أن يدخل ديراً للنساء أو الرجال. غير أن هذا العمل كان خروجاً متطرفاً على العادات والقوانين القائمة وقتئذ ولذلك عارضه كثيرون من الشعب بحجة أنه سيزيد من حوادث التسميم، وذكرت فيما سن بعدئذ من القوانين في الإمبراطورية الرومانية حالات كثيرة مختلفة يباح فيها الطلاق، وظلت هذه معمولاً بها، في الإمبراطورية البيزنطية حتى عام 1453 فيما عدا فترات منقطعة(25). ومحى من القانون ما فرضه أغسطس من عقوبات على العزوبة والعقم. وكان قسطنطين قد جعل الزنى من الجرائم التي يعاقب مرتكبها بالإعدام، وإن لم ينفذ هذا العقاب إلا في حالات نادرة، أما جستنيان فقد احتفظ بعقوبة الإعدام للزنى من الرجال، اما الزانية فقد جعل عقابها الإقامة في دير للنساء. وأباح القانون للزوج أن يقتل عشيق زوجته إذا وجدها في منزله أو شاهدها تتحدث معه في حانة بعد إنذارها ثلاث مرات أمام شهود. كذلك فرض القانون عقوبات صارمة على من يزني بامرأة غير متزوجة أو بأرملة إلا إذا كانت حظية أو عاهراً. وكان هتك العرض غصباً يعاقب عليه بالإعدام ومصادرة الأملاك، وكان ثمن هذه الأملاك المصادرة يعطى للمرأة المغتصبة. ولم يكتف جستنيان بتقرير عقوبة الإعدام للواط، بل كان في كثير من الأحيان يضيف إليها التعذيب، وبتر الأعضاء، وعرض المذنبين على الجماهير في الشوارع قبل إعدامهما، وإنا لنحس في هذا التشريع الصارم ضد الشذوذ الجنسي بأثر المسيحية التي روعتها آثام الحضارة الوثنية فدفعتها إلى هذا التزمت الوحشي.
وغير جستنيان قانون الملكية تغييراً أساساً. من ذلك أنه ألغى ما كان ينص عليه القانون القديم من حق الأقارب من العصب أن يرثوا من يموت دون أن يترك وصية؛ وجعل حق الميراث لأبناء الميت وأحفاده الخ من الظهور والبطون، وشجع قانون الهبات والوصايا لجهات البر؛ وأعلن أنه لا يجوز النزول عن شيء من أملاك الكنيسة، سواء كانت ثابتة أو منقولة، أو كانت أجور أملاك، أو رقيق أرض، أو عبيد؛ فلم يكن يحق لأي رجل من رجال الدين أو غير رجال الدين ولا لأية جماعة دينية أو غير دينية النزول عن أي شيء تمتلكه الكنيسة أو بيعه أو الإيصاء به. وأضحت هذه القوانين التي وضعها ليو الأول وأنثميوس وأيدها قانون جستنيان هي الأساس الشرعي لثروة الكنيسة المتزايدة. فقد كانت أملاك غير رجال الدين تنقسم وتتفرق، أما أملاك الكنيسة فظلت تتراكم وتزداد جيل بعد جيل. وحاولت الكنيسة أن تحرم الربا، ولكنها عجزت عن تحريمه؛ وأجاز القانون القبض على المدينين الذين يتخلفون عن جلسات المحاكمة، ولكنه أجاز إطلاق سراحهم بالكفالة أو إذا أقسموا أن يعودوا حين يطلبون للمحاكمة.
وحرم القانون سجن أي شخص إلا بأمر أحد كبار القضاة، وحدد الزمن الذي يمكن أن ينقضي بين القبض عليه ومحاكمته تحديداً دقيقاً لا يتعداه. وبلغ عدد المحامين من الكثرة حداً جعل جستنيان يشيد لهم باسلقا خاصة نستطيع أن نتصور مساحتها إذا عرفنا أن مكتبتها كانت تضم 150.000 مجلد أو ملف. وكان المتهم يحاكم أمام قاضي يعينه الإمبراطور، غير أنه كان من المستطاع تحويل القضية إلى محكمة الأسقف إذا رغب في ذلك الطرفان المتقاضيان. وكانت نسخة من الكتاب المقدس توضع أمام القاضي في كل جلسة. وكان وكيلا الطرفين يقسمان على الكتاب أنهما سيبذلان كل ما في وسعهما للدفاع عن موكليهما بذمة وامانة، ولكنهما يتخليان عن القضية إذا وجداهما مما يخل بالشرف والأمانة. وكان المدعي والمدعي عليه يلزمان أيضاً بأن يقسم كل منهما على الكتاب المقدس أن قضيته عادلة. وكانت العقوبات التي ينص عليها القانون صارمة ولكنها قلما كانت ملزمة فقد كان في وسع القاضي مثلاً أن يخفف العقاب عن النساء والقُصَّر، والسكارى الذين يقدمون للقضاء. وكان السجن للمحافظة على المتهمين حتى يحاكموا، ولكنه قلما كان يستخدم لعقاب المدنيين.
وقد أجاز قانون جستنيان عقاب المجرم ببتر اعضائه، فكان في هذا أكثر رجعية من قانون هدريان وأنطونينوس بيوس. مثال ذلك أن جباة الضرائب الذين يزورون فى حساباتهم، والذين ينسخون الآداب الدينية اليعقوبية كان يجوز عقابهم بقطع يدهم، اتباعاً للنظرية القائلة بأن العضو الذي اقترف ذنباً يجب أن يجازى بما أقترفه. وكثيراً ما يذكر القانون عقوبة جدع الأنف أو قطع الرقبة، وأضافت القوانين البيزنطية إليهما سلم العينين، وأكثر ما يكون ذلك لتشويه وجه الوارثين للعرش أو المتطلعين له. وكانت عقوبة الإعدام تنفذ في الأحرار بقطع رءوسهم، وفي بعض الأرقاء بصلبهم؛ وكان السحرة والفارون من الجيش يحرقون أحياء؛ وكان في وسع المواطن المحكوم عله أن يستأنف الحكم أمام محكمة أعلى درجة من المحكمة التي أصدرته، ثم إلى مجلس الشيوخ ثم إلى الإمبراطور نفسه آخر الأمر.
وإنا لنعجب بقانون جستنيان إذا نظرنا إليه في مجموعه أكثر مما نعجب به لو نظرنا إلى كل جزء من أجزائه على انفراد. وأكثر ما يختلف فيه عن القوانين التي صدرت قبله هو تشدده في اتباع المبادئ والسنن المقررة، وسد الطريق على التعديل والإصلاح، وما يسري فيه من ميل إلى القسوة في الانتقام، حتى لقد كان في وسع الروماني المتعلم أن يجد الحياة في حكم الأنطونيين أكثر حضارة منها في حكم جستنيان. وكان سبب هذه العيوب أن الإمبراطور لم يكن يستطيع التخلص من البيئة التي يعيش فيها والزمن الذي وجد فيه، وقد اضطرته رغبته الملحة في ان يوحد كل شيء على أن يقنن ما في عصره من الخرافات والوحشية كما يقنن ما فيه من عدالة ورحمة. وكان القانون شديد التمسك بالقديم والمحافظة عليه، شأنه في هذا شأن كل ما هو بيزنطي، وكان موائماً كل المواءمة لحضارة خيل إلى أهلها أنها لن تموت أبداً. لكنه سرعان ما نقص الخاضعون له فلم يتعدوا أهل مملكة صغيرة آخذة في النقصان. ذلك أن الشرقيين الخارجين على الدين والذين أذاقهم هذا أشد العذاب قد فتحوا صدورهم للمسلمين وكانوا أكثر رخاء في ظل القرآن منهم في ظل هذا القانون. وأغفلت إيطاليا تحت حكم اللمبارد، وغلاة تحت حكم الفرنجة وإنجلترا تحت حكم الأنجليسكسون، وأسبانيا تحت حكم القوط الغربيين، أغفلت هذه البلاد كلها أوامر جستنيان. لكن هذا القانون بالرغم من هذا كله، ظل بضعة أجيال يبسط النظام والأمن على خليط من الشعوب، وبفضله استطاع الناس أن يجتازوا حدود كثير من الأمم وينتقلون في شوارع مدنها وهم أكثر أمناً وأعظم حرية مما يستمتع به الذين ينتقلون في ذلك الإقليم نفسه في هذه الأيام. ولقد ظل هو قانون الإمبراطورية إلى آخر أيامها، ولقد أحيا سنته مسترعو بولونيا بعد خمسة قرون من اختفائه في الغرب. وعمل به الأباطرة والبابوات، وسرى في نظم كثير من الدول الحديثة، فكان هو الهيكل الذي قام عليه نظامها.
قصة الحضارة ج12 ص224-231)
 
الحالة الاقتصادية قبل الاسلام
:"الحضارة البيزنطية
336-565
كان الاقتصاد البيزنطي مزيجاً من المشروعات الفردية، والتنظيم الحكومي، والصناعات المؤممة، شبيهاً بما يجرى به العمل في هذه الأيام. وكان امتلاك الفلاحين للأراضي التي يزرعونها لا يزال في عصر جستنيان هو القاعدة المعمول بها في الزراعة؛ ولكن الضياع كانت آخذة في الاتساع، وكان كثير من الزراع يضطرون شيئاً فشيئاً إلى الخضوع الإقطاعي لكبار الملاك، وكان الذي يرغمهم على هذا الخضوع هو الجفاف، والفيضان، والتنافس، والعجز عن فلح الأرض، والضرائب، والحروب. وكانت الموارد المعدنية التي في باطن الأرض ملكاً للدولة ولكن معظمها كانت تستعمله الهيئات الخاصة التي تستأجره من الحكومة. وكانت مناجم بلاد اليونان قد نضب معينها، ولكن مناجم قديمة وجديدة كانت تستغل في تراقية، وبنطس، وبلاد البلقان. وكان معظم عمال الصناعة "أحراراً" أي أنهم لم يكن يرغمهم على العمل إلا عدم رغبتهم في الموت جوعاً؛ ولم يكن للاسترقاق المباشر في خارج الخدمة المنزلية وصناعة النسيج إلا شأن ضئيل، ولكن الدولة كانت تلجأ إلى السخرة في سوريا، وفي مصر وشمالي أفريقية على الأرجح للمحافظة على قنوات الري الكبرى(1). وكانت الحكومة تنتج في مصانعها معظم ما يحتاجه الجيش والموظفون، والحاشية من البضائع(2).
وأثار جماعة الرهبان النساطرة من أواسط آسية حوالي عام 552 اهتمام الإمبراطور جستنيان بصناعة الحرير، إذ عرضوا عليه أن يمدوا الإمبراطورية بموارد مستقلة عن غيرها من البلاد. وإذا ذكرنا كثرة الحروب التي شبت نارها بين بلاد اليونان والرومان من جهة وبلاد الفرس من جهة أخرى للسيطرة على الطرق التجارية الموصلة إلى الصين والهند، ولاحظنا اسم "طريق الحرير" الذي كان يطلق على الممرات الشمالية الموصلة إلى بلاد الشرق الأقصى، واسم "سريكاSerica " (أرض الحرير) الذي كان الرومان يطلقونه على بلاد الصين واسم "سرندياSerindia " الذي كانوا يطلقونه على الإقليم الواقع بين الصين والهند، إذ ذكرنا هذا كله أدركنا سبب قبول جستنيان لهذا الاقتراح والتحمس له. وعاد الرهبان إلى أواسط آسية ثم جاءوا إليه ومعهم بويضات دود القز، وأكبر الظن أنهم جاءوا معهم أيضاً ببذور شجر التوت(3). وكانت صناعة الحرير قائمة قبل ذلك في بلاد اليونان، ولكنها كانت قائمة في نطاق ضيق، وكانت تعتمد على دود القز البري الذي يعيش على أوراق أشجار البلوط والدردار والسرو. وكانت نتيجة هذا الاقتراح أن قامت صناعة الحرير في نطاق واسع في بلاد الإمبراطورية وخاصة في سوريا وبلاد اليونان، وتقدمت في بلاد البلوبونيز تقدماً أكسب الجزيرة اسم موريا Morea أي أرض شجر التوت Morus Alba.
وكانت الدولة تحتكر صناعة بعض أنواع من المنسوجات الحريرية والصبغات الأرجوانية في مدينة القسطنطينية، وكانت هاتان الصناعتان تقومان في حوانيت داخل القصر الإمبراطوري أو قريبة منه(4). ولم يكن يسمح بارتداء الثياب الحريرية المصبوغة الغالية إلا لكبار موظفي الحكومة، وكان أغلاها كلها لا يسمح به لغير أفراد الأسرة الإمبراطورية. ولما أخرجت المشروعات الفردية خفية منسوجات حريرية تماثل منسوجات الحكومة وباعتها لغير الطبقات الممتازة قضى جستنيان على هذه "السوق السوداء" بأن أزال معظم القيود المفروضة على لبس الحرير الغالي والملابس ذات الصبغة الغالية، وأغرق الحوانيت بالمنسوجات الحكومية، وباعها لها بأثمان لا تستطيع المصانع الخاصة مجازاتها؛ ولما قضى بهذه الطريقة على المنافسة عادت الحكومة فرفعت الأثمان مرة أخرى(5). وحذا جستنيان حذو دقلديانوس فعمل على بسط السيطرة الحكومية على جميع الأثمان والأجور. وحدث بعد انتشار الطاعون في عام 542 أن نقضت الأيدي العاملة، وارتفعت أجور العمال، وتضاعفت أثمان السلع. وعمل جستنيان ما عمله البرلمان الإنجليزي في عام 1351 بعد طاعون 1348، فأراد أن يساعد أصحاب الأعمال والمستهلكين بمرسوم يحدد الأثمان والأجور جاء فيه: لقد وصل إلى علمنا أن التجار، والصناع، والزراع، والبحارة قد تغلبت عليهم، بعد أن حل بنا غضب الله، روح الجشع، فأخذوا يطلبون أثماناً وأجوراً تعادل ضعفي ما كانوا ينالونه قبل أو ثلاثة أضعاف.... لذلك نحرم على هؤلاء جميعاً وأمثالهم أن يطلبوا أثماناً أو أجوراً أكثر مما كانوا يطلبونه من قبل. كذلك نحرم على متعهدي البناء، أو الأعمال الزراعية أو غيرها أن يؤدوا للعمال أجوراً أعلى مما جرت العادة بأدائه في الأيام الماضية(6). وليس ما لدينا ما يدلنا على ما كان هذا المرسوم من أثر.
وراجت التجارة الداخلية والخارجية في الإمبراطورية البيزنطية من عهد قسطنطين إلى أواخر حكم جستنيان. وكان ما فيها من الطرق والجسور الرومانية يتعهد ويصلح بانتظام، ودفع الحرص الشديد على الكسب وما يبعثه من إبداع وإنشاء إلى بناء أساطيل بحرية ربطت العاصمة بمئات الثغور في الشرق والغرب. وظلت القسطنطينية في القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر أعظم الأسواق التجارية ومراكز النقل البحري في العالم كله، وانحطت الإسكندرية التي كانت لها السيادة في هذه الناحية منذ القرن الثالث قبل الميلاد، فأصبحت منزلتها في التجارة بعد إنطاكية(7). وكانت سوريا كلها تعج بالمتاجر والمصانع، ويرجع هذا إلى موقعها بين بلاد الفرس والقسطنطينية، وبين القسطنطينية ومصر، وإلى ما اتصف به تجارها من حذق وحب للمغامرة بحيث لم يكن ينافسهم في انتشار كجارتهم ودهائهم إلا اليونان الذين لا يجارونهم في المثابرة والجلد، كما يرجع إلى انتشارهم هم أنفسهم في جميع بلاد الإمبراطورية، فكانوا بذلك عاملاً في إيجاد ذلك الطابع الأخلاقي والفني الذي طبعت به الحضارة البيزنطية.
وإذا كان الطريق التجاري القديم بين سوريا وأواسط آسية يخترق بلاد الفرس المعادية للدولة البيزنطية، فقد أراد جستنيان أن ينشئ طريقاً جديداً بإقامة صلات ودية بينه وبين الحميريين المقيمين في الطرف الجنوبي الغربي من جزيرة العرب، وملوك الحبشة، وكان هؤلاء وأولئك يسيطرون على أبواب البحر الأحمر الجنوبية. وكانت السفن التجارية البيزنطية تخترق هذه المضايق والمحيط الهندي في طريقها إلى الهند؛ ولكن الفرس الذين كانوا يسيطرون على ثغور الهند كانوا يفرضون على هذه التجارة رسوماً عالية كأنها تمر ببلاد إيران نفسها. فلما خاب رجاء جستنيان في هذا الطريق شجع إنشاء المرافئ البحرية على البحر الأسود، فكانت المتاجر ترد إلى هذه المرافئ ثم تنقل في السفن إلى خلقيس Colchis ومنها بطرق القوافل إلى سجديانا Sogdiana، حيث يلتقي تجار الصين وتجار الغرب ويتساومون دون أن يتدخل الفرس فيما بينهم. وبفضل هذه التجارة الناشطة التي كانت تسير في هذا الطريق الشمالي ارتفعت سيرنديا إلى أعلى درجات الثروة والفن في العصور الوسطى. وظلت التجارة اليونانية في هذه الأثناء محتفظة بمنافذها القديمة في الغرب.
وكان من أكبر العوامل في هذا النشاط الاقتصادي الكبير النقد الإمبراطوري الذي كان عملة مقبولة في جميع أنحاء العالم تقريباً لثباته وسلامته. وكان قسطنطين قد سك نقداً جديداً ليحل محل الأوريوس Aurues الذي سكه قيصر. وكانت هذه القطعة النقدية الجديدة المعروفة باسم صوليدوس Solidus أو بيزنت Bezant تزن 4.55 جرامات أو جزءاً من ستة أجزاء من الأوقية الإنجليزية من الذهب، وتعادل قيمته 5.83 من الدولارات في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1946. وإن تدهور الصوليدوس في قيمته المعدنية والاقتصادية حتى صار هو الصلدي ليدل أوضح دلالة على ارتفاع الأثمان خلال عصور التاريخ المختلفة، وعلى انحطاط قيمة النقد، ويوحي بأن الادخار فضيلة تتطلب ممارستها كثيراً من الدقة والحصافة. وارتقت أعمال المصارف كثيراً في ذلك الوقت، وفي وسعنا أن نعرف ما كان يسود الإمبراطورية البيزنطية من رخاء عندما ارتقى جستنيان العرش إذا عرفنا أنه حدد سعر الفائدة بما لا يزيد على أربعة في المائة لقروض الفلاحين، وستة في المائة للقروض التجارية، واثني عشر في المائة للنقود المستثمرة في المشروعات البحرية(8). ولم تكن فوائد القروض منخفضة هذا الانخفاض في ذلك الوقت في أي بلد من بلاد العالم.
وكان أعضاء مجلس الشيوخ وكبار التجار يستمتعون بثراء عظيم وبمظاهر من الترف قلما استمتع بهما أمثالهم قبلهم في روما وذلك بفضل ما كان يمتلكه الأولون من أراض واسعة، وما يقدم عليه الآخرون من مغامرات تجارية في أقطار نائية تتناسب أرباحها مع ما كانت تتعرض له أموالهم من الخطر. وكان الأشراف في الشرق أرقى ذوقاً من نظائرهم في روما في أيام شيشرون وجوفنال. فلم يكن أفراد هذه الطبقة يتخمون بطونهم بالأطعمة الغريبة يحضرونها من البلاد النائية، وكان الطلاق عندهم أقل منه في روما، وكانوا أكثر منهم إخلاصاً وجداً في خدمة الدولة، وكان أكثر ما يسرفون فيه هو الملابس المزركشة، والأثواب ذات الأهداب، المغطاة بالفراء والأصباغ البرقة، والجلابيب الحريرية المصبوغة بصبغات غالية والمطرزة بخيوط الذهب والمنقوشة عليها مناظر مستمدة من الطبيعة أو من التاريخ وكان بعض الناس أشبه "بجدران صور متحركة". من ذلك أن أحد أعضاء مجلس الشيوخ قد صورت على ثوبه قصة المسيح من أولها إلى آخرها(9). وكان تحت هذه الطبقة ذات الغشاء الذهبي طبقة وسطى ترزح تحت أعباء الضرائب، وطبقة أخرى كادحة من موظفي الدولة، وخليط من الرهبان الذين لا ينقطعون عن التدخل في شؤون الناس، وأمشاج من صعاليك المدن كانوا ضحية نظام الأثمان، لا يخفف عنهم أعباء الحياة إلا ما يتلقونه من الدولة من إعانات.
ولم تكن المبادئ الخلقية من الناحيتين التجارية والجنسية تختلف اختلافاً بيناً عن أمثالها في الثقافات الأخرى في نفس هذه المرحلة من التطور الاقتصادي. لقد كان كريستوم يندد بالرقص ويقول إنه يثير الشهوات، ولكن القسطنطينية لم تنقطع عن الرقص رغم تنديد كريستوم، وظلت الكنيسة ترفض تعميد الممثلين، ولكن المسرح البيزنطي ظل يعرض تمثيلياته الصامتة الإيحائية، لأن الناس يجب أن يجدوا ما يخفف عنهم متاعب وحدة الزواج وملل الحياة الرتيبة. ويقول بروكبيوس في كتابه التاريخ السري، وهو الذي لا يوثق به قط، إن النساء في وقته "كن جميعهن تقريباً فاسدات"(10). وكانت وسائل منع الحمل من الموضوعات التي لا ينفك الناس عن دراستها والبحث فيها. وقد أفرد لها أريباسيوس Oribasius أشهر أطباء القرن الرابع فصلاً خاصاً في كتابه الموجز في الطب. وأوصى كاتب آخر في الطب يدعى إيتيوس Aetius من رجال القرن السادس باستخدام الخل وماء البحر، أو الامتناع عن الجماع في بداية فترة الحيض ونهايتها(11). وحاول جستنيان وحاولت ثيودورا أن يقللا من الدعارة بنفي القيودات وأصحاب المواخير من القسطنطينية. ولكن نتيجة العمل لم تدم طويلاً. وكانت منزلة المرأة بوجه عام عالية، ولم تكن النساء في أي عصر من العصور السابقة أقل تقيداً بالقوانين والعادات أو أعظم نفوذاً في الحكومة منهن في ذلك العصر.
قصة الحضارة ج12 ص238-243)
 
كيف اعتاش المعلمون والمدرسون قبل الاسلام:"364-565
نرى ماذا كان حظ التربية والتعليم، والأدب، والعلوم والفلسفة في هذا المجتمع الذي يبدو في ظاهره مجتمعاً دينياً؟
لقد ظل التعليم الابتدائي في أيدي مدرسين خصوصيين يؤدي لهم الآباء أجورهم قدراً معيناً عن كل تلميذ في فترة محددة كم الزمن. أما التعليم العالي فقد ظل إلى أيام ثيودوسيوس الثاني يقوم به المحاضرون ليس لغيرهم سلطان عليهم، وأساتذة تؤدي لهم المدينة أو الدولة أجورهم. ويشكو ليبانيوس من ضآلة أجور هؤلاء الأساتذة ويقول إنهم كانوا يتوقون من شدة الجوع إلى الذهاب إلى الخباز، ولكنهم يمتنعون عن الذهاب إليه خشية أن يطالبهم بأداء ما عليهم من الديون(12). غير أننا مع ذلك نقرأ عن مدرسين أمثال يومانيوس يتقاضون 600.000 سسترس (30.000 ريال أمريكي؟) في كل عام(13). وكان أحسن الأفراد في هذه المهنة وأسوأهم. يتناولون أجوراً أكثر مما يستحقون، أما من عداهم فإنهم يتقاضون أقل مما يجب أن يتقاضوه. وعمل يوليان على نشر الوثنية بأن جعل الامتحانات التي تقوم بها الدولة والتعيين من قبلها هو القاعدة المتبعة في تعيين أساتذة الجامعات كلها(14). وجاء ثيودوسيوس الثاني، لأسباب عكس هذا السبب السابق، فجعل الإقدام على التعليم بغير ترخيص من الدولة جناية، وما لبث هذا الترخيص أن أقتصر على أتباع الدين الرسمي للدولة.
قصة الحضارة ج12 ص244)
 
التنجيم والطب صنوان متلازمان قبل الاسلام وفترة بعده
نص عن الجامعات والطب وغيره قبل الاسلام في ظل الحضارة الرومانية:"
وكان مقر الجامعات الكبرى في الدولة في الإسكندرية، وأثينة، والقسطنطينية، وإنطاكية؛ وكانت هذه الجامعات تتخصص على التوالي في تعليم الطب، والفلسفة، والأدب، والبلاغة. وجمع أريباسيوس Oribasius البرجمومي (حوالي عام 325-403) طبيب يوليان موسوعة طبية مؤلفة من سبعين "كتاباً"؛ وألف إيتيوس الأميدي Aetius of Amida طبيب البلاط في عهد جستنيان أخرى شبيهة بهذه الموسوعة تمتاز بأحسن ما في الطب القديم من تحليل لأمراض العين، والأذن، والأنف، والفم، والأسنان؛ وبفصول شيقة في تضخم الغدة الدرقية والصرع، والعمليات الجراحية من استئصال اللوز إلى جراحة البواسير. وكان الإسكندر التراليسي Alexander of Tralles (حوالي عام 525-605) أكثر مؤلفي الطب ابتكاراً في ذلك العهد: فقد وضع أسماء لكثير من الطفيليات المعوية المختلفة، ووصف اضطرابات القناة الهضمية وصفاً دقيقاً؛ وبحث في أمراض الرئتين وعلاجها بحثاً وافياً لا نظير له فيما سبقه من البحوث. وترجم كتابه المدرسي في علم الأمراض الباطنية العلاجي، إلى اللغات السريانية، والعربية، والعبرية، واللاتينية، وكان له في العالم المسيحي أثر لا يعلو عليه إلا أثر كتب أبقراط، وجالينوس، وسورانوس(15). ويقول أوغسطين إن تشريح الأجسام الآدمية كان مألوفاً في القرن الخامس(16). ثم طغت الخرافات على الطب شيئاً فشيئاً، فآمن معظم الأطباء بالتنجيم، وأشار بعضهم باستخدام طرق في العلاج تختلف باختلاف مواقع الكواكب(17). وكان مما أشار به إيتيوس لمنع الحمل أن تضع المرأة بالقرب من شرجها سن طفل(18)، وسبق مارسلوس في كتابه في الطب DeMedicamentis (395) المحدثين فأشار بلبس قدم أرنب(19). وكان للبغال حظ أحسن من حظ الآدميين؛ ذلك أن أحسن كتاب علمي في ذلك العهد هو كتاب فلافيوس الفجتيوسي Flavius Vegitius، (383- 450) المعروف باسم :Digestorumartis Mulomedicinae Libri IV ويكاد هذا الكتاب أن يكون هو الأساس الذي قدم عليه الطب البيطري، وقد ظل هو المرجع الذي يعتمد عليه حتى عصر النهضة.
وسارت الكيمياء والكيمياء الكاذبة جنباً إلى جنب. وكانت الإسكندرية مركزهما جميعاً. وكان الباحثون في الكيمياء الكاذبة بوجه عام مخلصين في بحثهم، يستخدمون الطرق التجريبية بأمانة أكثر مما يستخدمها غيرهم من العلماء الأقدمون. وقد كان لهم الفضل في تقدم كيمياء المعادن والسبائك تقدماً كبيراً؛ ولسنا واثقين من أن المستقبل لن يحقق ما كانوا يسعون إليه من أغراض. كذلك كان للتنجيم أساس صحيح شريف؛ فقد كان الناس جميعاً يؤمنون إيماناً لا يقبل الشك بأن النجوم، والشمس، والقمر، تؤثر كلها فيما يقع على الأرض من أحداث، ولكن الدجالين أقاموا على هذه الأسس صرحاً عجيباً من السحر، والتنبؤ بالغيب والتمائم والرقى المستمدة من أسماء الكواكب. وكان استطلاع الأبراج السماوية لمعرفة مستقبل الناس أكثر انتشاراً في مدائن العصور الوسطى منه في نيويورك أو باريس في هذه الأيام. وشاهد ذلك أن القديس أوغسطين يحدثنا عن صديقين كانا يرصدان بعناية مواقع النجوم وقت مولد حيواناتها المستأنسة(20). ولقد كان المثير مما عند العرب من سخافات في التنجيم والكيمياء الكاذبة مما ورثه المسلمون عن اليونان الأقدمين.
وكانت أظرف شخصية في علوم ذلك العصر هي شخصية هيباشيا الفيلسوفة والعالمة الرياضية
قصة الحضارة ج12 ص245-246)
 
اما هيباتيا الفيلسوفة التي قتلتها النصارى-بامر من البابا كما قال يوسف زيدان في عزازيل وهيج عليه الردود المسيحية ولبيشوي رد انكر صلة البابة واثبت صلة العوام المسيحية!!- والتي صنع لها فيلم مشهور جدا فقال عنها ديورانت في سياق كلامه عن الجامعات في مستعمرات الامبراطورية الرومانية ومنها مصر والاسكندرية
:"وكانت أظرف شخصية في علوم ذلك العصر هي شخصية هيباشيا الفيلسوفة والعالمة الرياضية، وكان والدها ثيون Theon هو آخر من سجلت أسماؤهم في سجل أساتذة متحف الإسكندرية. وقد كتب شرحا لكتاب Syntaxis لبطليموس أقرّ فيه لما كان لابنته من نصيب في تأليفه. ويقول سويداس إن هيباشيا كتب شروحاً لكتاب القوانين الفلكية لبطليموس، وكتاب المخروطات لأبلونيوس البرجى(21)، ولكن مؤلفاتها كلها لم يبق منها شئ. ثم انتقلت من الرياضيات إلى الفلسفة، وسلكت في بحوثها على هدى أفلاطون وأفلوطين، و "بزت جميع فلاسفة زمانها" (على حد قول سقراط المؤرخ المسيحي)(22). ولما عينت أستاذة للفلسفة في متحف الإسكندرية هرع لسماع محاضراتها عدد كبير من الناس من شتى الأقطار النائية. وهام بعض الطلاب بحبها، ولكن يبدوا أنها لم تتزوج قط. ويحاول سوداس أن يقنعنا بأنها تزوجت، وبأنها رغم زواجها بقيت عذراء طول حياتها(23). وينقل لنا هو نفسه قصة أخرى، لعل أعداءها هم مخترعوها مضمونها أن شاباً ضايقها بإلحاحه حتى عيل صبرها فما كان منها إلا أن رفعت ثيابها وقالت له :"إن الذي تحبه هو الذي يرمز إلى التناسل القذر وليس هو شيئاً جميلا قط"(24). وقد بلغ من حبها للفلسفة من أنها كانت تقف في الشوارع وتشرح لكل من يسألها النقط الصعبة في كتب أفلاطون أو أرسطو، ويقول سقراط المؤلف إنه "قد بلغ من رباطة جأشها ودماثة أخلاقها الناشئتين من عقلها المهذب المثقف أن كانت في كثير من الأحيان تقف أمام قضاة المدينة وحكامها دون أن تفقد وهي في حضرة الرجال مسلكها المتواضع المهيب الذي امتازت به عن غيرها، والذي أكسبها احترام الناس جميعاً وإعجابهم بها".
لكن هذا الإعجاب لم يكن في واقع الأمر يشمل الناس جميعاً، فما من شك في أن مسيحي الإسكندرية كانوا ينظرون إليها شزراً، لأنها لم تكن كافرة فاتنة فحسب، بل كانت إلى ذلك صديقة وفية لأرستيزArestes حاكم المدينة الوثني. ولما أن، حرض سيريل Cyril كبير الأساقفة -أتباعه الرهبان على طرد اليهود من الإسكندرية أرسل أرستيز إلى ثيودوسيوس الثاني تقريراً عن الحادث بعيداً عن النزاهة بعداً استاء منه كبير الأساقفة ورجاله أشد الاستياء. وقذف بعض الرهبان الحاكم بالحجارة، فأمر بالقبض على زعيم الفتنة وتعذيبه حتى مات (415). وأتهم أنصار سيريل هيباشيا بأنها صاحبة السلطان الأكبر على أرستيز، وقالوا إنها هي وحدها التي تحول دون الاتفاق بين الحاكم والبطريق. وفي ذات يوم هجم عليها جماعة من المتعصبين يتزعمهم "قارئ" أي كاتب صغير من موظفي سيريل، وأنزلوها من عربتها، وجروها إلى إحدى الكنائس، وجردوها من ملابسها، وأخذوا يرجمونها بقطع القرميد حتى قضوا على حياتها، ثم قطعوا جسمها إرباً، ودفنوا ما بقي منها في مرح وحشي شنيع (415)(25). ولم يعاقب أحد من المجرمين واكتفى الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني بأن قيد حرية الرهبان في الظهور أمام الجماهير، (سبتمبر عام 416). وبذلك كان انتصار سيريل انتصاراً كاملاً.
ورحل أساتذة الفلسفة الوثنيون بعد موت هيباشيا إلى أثينة ليتقوا فيها الأذى، وكان التعليم غير المسيحي لا يزال حراً نسبياً ولا يزال معلموه آمن على أنفسهم من غيرهم في المدن الأخرى. .
قصة الحضارة ج12 ص246-250)
 
ماكتب قبل مجئ الاسلام من الادب الاخير في الامبراطورية الرومانية
"وأهم ما كتب من أدب ذلك العصر هو ما كتبه المؤرخون. فقد كتب أونتبيوس السرديسي Eunapius of Sardis تاريخاً عاما لذلك العصر من عام 270 إلى 400 جعل بطله جستنيان، وترجم لثلاث وعشرين من السوفسطائيين ورجال الأفلاطونية الحديثة ترجمة لا تخرج عما كان يدور على الألسنة من سيرهم. وقد ضاع هذا الكتاب ولم يبق له أثر. وكتب سقراط، وهو مسيحي من أهل القسطنطينية ومن أتباع الدين الرسمي فيها، تاريخ الكنيسة من عام 309 إلى 439 وهو كتاب دقيق نزره إلى حد كبير منا يدلنا على ذلك ما كتبه عن هيباشيا. ولكن المؤلف يحشو قصته بالخرافات والأقاصيص والمعجزات ويتحدث كثيراً عن نفسه كأنه يصعب عليه أن يفرق بين نفسه وبين العالم الذي يكتب عنه. ويختم كتابه بحجة طريفة يدعو بها إلى قيام السلام بين الشيع المختلفة، فيقول إنه إذا ساد السلام فلم يجد المؤرخون حسب ظنه شيئاً يكتبون عنه، فتنقرض لهذا السنن تلك الطائفة من الآسي(32). ومن الكتب الأخرى التي ألفت في ذلك العصر كتاب التاريخ الكنسيEcclesiastical History لسوزومن Sozemen ومعظمه منقول من سقراط. وألف سوزموس Sozimus القسطنطيني حوالي عام 475 كتاباً في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية. وكان سوزموس هذا رجلاً وثنياً، ولكنه لم يخضع لما خضع له منافسوه المسيحيون من الأوهام والسخافات. وأشار ديونيسيوس إجزجيوس Dionysis Exiguus -أودِنس القصير -حوالي عام 525 بإتباع طريقة جديدة في تأريخ الحوادث تبدأ من السنة التي قيل إن المسيح ولد فيها. غير أن الكنيسة اللاتينية لم تقبل هذه الطريقة إلا في القرن العاشر، وظل البيزنطيون إلى آخر أيام دولتهم يؤرخون سنيهم من بدء خلق الدنيا. ألا ما أكثر الأشياء التي كانت معروفة في بواكير حضارتنا والتي خفيت عنا نحن في هذه الأيام!
وكان بروكبيوس هو المؤرخ العظيم الوحيد في هذا العهد. وقد ولد هذا الكاتب في قيصرية من أعمال فلسطين (490)، ودرس القانون، ثم انتقل إلى القسطنطينية وعين أميناً ومستشاراً لبليساريوس. وصحب ذلك القائد في حروبه في سوريا، وأفريقية، وإيطاليا، ثم عاد معه إلى العاصمة. ونشر في عام 550 كتب الحروب. وإذا كان قد عرف من صلته بالقائد والإمبراطور عظمة أول الرجلين، وبخل ثانيهما، فقد خلع عن بليساريوس ثوب البطولة البرّاق وترك جستنيان منزوياً في الظلام. وقابل الجمهور كتابه أحسن قبول، وسكت عنه الإمبراطور. وكتب بروكبيوس بعدئذ كتابه المعروف باسم الأنكدونا أو التاريخ السري، ولكنه أفلح في أن يبقيه دون أن ينشره أو يذيع ما فيه حتى طلب إليه جستنيان في عام 455 أن يكتب شيئاً عن الأبنية التي أنشئت أثناء حكمه. فأصدر بروكبيوس في عام 560 كتابه المسمى "الصروح De Aedfiicirs". وأسرف فيه في الثناء على الإمبراطور إسرافاً يحملنا على الضن بأن الإمبراطور قد شك في إخلاصه أو حسبه يسخر منه، ولم ينشر التاريخ السري إلا بعد وفاة جستنيان- وربما بعد وفاة بروكبيوس نفسه أيضاً. وهو كتاب شيق ممتع يحتوي على فضائح شبيهة بما تكتب عن جيراننا، وإن كان التشنيع الأدبي على من لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم أمراً غير مستحب، وإن كان كل مؤرخ يجهد نفسه في إثبات بحث من البحوث لا يسعه إلا أن يمسخ الحقائق.
ولا تخلو كتب بروكبيوس من أخطاء في الأمور البعيدة عن تجاربه. فقد كان في الأحيان ينقل ما كتبه هيرودوت عن أخلاق معاصريه وفلسفتهم، وفي البعض الآخر ينقل خطب توكيديدز وحصار المدن في أيامه، وكان يشارك أبناء عصره في خرافاتهم، وسود صحف كتبه بأخبار النذر، والتنبؤات، والمعجزات، والأحلام. أما حين يكتب عما يشاهده فقد أثبتت الأيام صدقه. وكان شجاعاً فيما أقدم عليه من عمل عظيم، منطقياً في ترتيب مادته، يستحوذ على لب القارئ وانتباهه في قصصه، ولغته اليونانية واضحة خالية من الالتواء والتعقيد، وهي فصيحة لا تكاد في فصاحتها عن لغة اليونان الأقدمين.
وبعد فهل كان بوكبيوس مسيحياً ؟ فأما في الظاهر فنعَم، غير أننا نراه يردد أداء من ينسج منوالهم، كما نتبين في كتاباته جبرية الرواقية، وتشكك الأكاديمية. وهو يتحدث عن "طبيعة الحظ المعوجة المتمردة وإرادته التي لا ضابط لها. واعتقادي أن هذه أشياء لم يدركها عقل الإنسان في الماضي ولن يدركها قط في المستقبل. ومع هذا فالناس لا ينفكون يتحدثون كثيراً عن هذه الموضوعات ولا ينقطعون عن تبادل الآراء فيها...لأن كل واحد منها يبحث عما يدارى به جهله...ولهذا سأكون حصيف الرأي فألزم الصمت في مثل هذه الموضوعات، وكل ما أبغيه من هذا ألا أزعزع إيمان الناس بما يجلونه من العقائد القديمة"(قصة الحضارة ج12 ص252-254)
 
مدة الحضارة البيزنطية الحضارة البيزنطية دامت أحد عشر قرناً من الزمان،
انظر قصة الحضارة ج12 ص255
 
فارس ماهي تحديدا او الامبراطورية الفارسية التي اسقطها الاسلام نهائيا
وصراعها مع الرومانية
"ومن وراء نهر الفرات أو دجلة كانت تقوم طوال تاريخ اليونان وروما تلك الإمبراطورية التي تكاد تكون خافية على العالم الغربي، والتي لبثت ألف عام تصد أوربا المتوسعة وجحافل آسية الهمجية، لا تنسى قط ما ورثته من مجد الأكميمينيين، وتنتعش على مهل مما أصابها في حروب البارثيين، وتحتفظ في زهو وخيلاء بثقافتها الأرستقراطية الفذة تحت حكم ملوكها الساسانيين الأشداء الشجعان، احتفاظاً أمكنها به أن تحول فتح المسلمين لإيران إلى نهضة فارسية جليلة الشأن.
وكان لفظ إيران في القرن الثالث الميلادي أوسع معنى من لفظ إيران أو فارس في هذه الأيام. فقد كانت، كما يدل اسمها "الآريين"، وكانت تشمل أفغانستان وبلوخستان، وسنجديانا، وبلخ والعراق. ولم تكن فارس، وهي الاسم القديم لإحدى الولايات الحديثة، إلا جزءاً صغيراً يقع في الجنوب الشرقي من هذه الإمبراطورية، ولكن اليونان والرومان الذين لم يكونوا يعنون بشؤون "البرابرة" أطلقوا اسم الجزء على الكل. وكان يخترق إيران في وسطها من الجنوب الشرقي لجبال هملايا إلى الشمال الغربي لجبال القفقاس حاجز جبلي يقسم البلاد قسمين، في الشرق منه هضبة عالية جدباء، وفي الغرب وديان خضراء يسقيها النهران التوأمان، ويجري ماء فيضانهما الموسمي في شبكة من القنوات تكسب البلاد الخصب والنماء فتنتج أرضها القمح، والبلح، والعنب، والفاكهة. وكان بين النهرين، وعلى ضفافهما، وفي ثنايا التلال، وواحات الصحراء، عدد لا حصر له من القرى وعشرات المئات من البلدان وعشرات من المدائن الكبيرة: منها إكباتانا، والري، وموصل، واصطخر (برسبوليس القديمة)، والسوس، وسلوقية، وطيسفون (المدائن) العظيمة عاصمة الملوك الساسانيين.
قصة الحضارة ج12 ص274-275)
 
فارس الزواج والدعارة والالهة وحالة الفلسفة والتنجيم والسحر والدين والكهنة واليهود والمسيحيين
:"ويقول أميانوس إن "معظم الفرس يسرفون في الجماع"(7)، ولكنه يعترف مع ذلك بأن اللواط والدعارة كانا أقل انتشاراً بينهم مما كانا بين اليونان. وقد امتدح غماليل الفرس لثلاث صفات فيهم فقال: "هم معتدلون في الطعام، قنوعون في علاقاتهم الخاصة وفي العلاقات الزوجية"(8). وكانوا يستخدمون كل الوسائل لتشجيع الزواج وزيادة المواليد، حتى يكون لهم من الأبناء ما يسد مطالب الحرب ولهذا كان إله الحب عندهم هو المريخ لافينوس. وكان الدين يأمر بالزواج، ويحتفل به احتفالاً مصحوباً بطقوس رهيبة، ومن تعاليمه أن الإخصاب يقوي أهورا مزدا إله النور في صراعه العالمي مع أهرمان وهو الشيطان في الديانة الزرادشتية(9). وكان رب البيت يعبد أسلافه حول نار الأسرة، ويطلب الأبناء لكي يضمن لنفسه العناية به وعبادته فيما بعد، فإذا لم يولد له أبناء من صلبه تبنى ولداً من أبناء غيره. وكان الآباء هم الذين ينظمون عادة زواج أبنائهم يساعدهم في هذا غالباً موثق رسمي لعقود الزواج، ولكن المرأة كان في وسعها أن تتزوج على خلاف رغبة والديها. وكانت البائنات والهبات تقوم بنفقات الزواج المبكر والأبوة المبكرة. وكان يسمح للرجال بتعدد الزوجات. وكان يوصي به إذا كانت الزوجة الأولى عاقراً. وكان الزنى منتشراً(10). وكان في وسع الزوج أن يطلق زوجته إذا خانته، كما كان في وسع الزوجة أن تطلق زوجها إذا هجرها أو قسا عليها. وكان التسري مباحاً. وكان لهؤلاء المحظيات كما كان لنظائرهن عند اليونان، الهتايراي Hetairai، الحرية الكاملة في أن يسرن أمام الجماهير وأن يحضرن مآدب الرجال(11). أما الزوجات الشرعيات فكن في العادة يبقين في أجنحة خاصة بهن في البيوت(12)، وقد ورث المسلمون عن الفرس هذه العادة القديمة. وكانت نساء الفرس ذوات جمال بارع، ولعله كان من الصواب أن يمنع الرجال من الاختلاط بهن. والنساء في شاهنامة الفردوسي هن اللآئي يبدأن بخطبة الرجال وإغوائهن، وكانت مفاتن النساء تتغلب على قوانين الرجال.
وكان يستعان على تربية الأبناء بالعقيدة الدينية، ويبدو أن هذه كان لابد منها لتدعيم سلطان الأبوين. وكانوا يسلون أنفسهم بألعاب الكرة؛ والرياضة البدنية، والشطرنج(13)، ويشتركون منذ نعومة أظفارهم في وسائل التسلية التي يمارسها الكبار كالضرب بالنبال، وسباق الخيل، وحجف الكرة، والصيد. وكان كل ساساني يرى في الموسيقى عوناً لابد منه في شؤون الدين، والحب، والحرب. وفي هذا يقول الفردوسي إن الموسيقى وأغاني النساء الجميلات كانت تلازم المآدب وحفلات الاستقبال الملكية...وكان الملوك الساسانيون ملوكاً مستنيرين يناصرون الأدب والفلسفة، وكان أكثرهم مناصرة لها كسرى أنو شروان، فقد أمر بترجمة كتب أفلاطون وأرسطو إلى اللغة الفهلوية، وبتدريس هذه الكتب في غنديسابور، بل قرأها هو نفسه. وقد كتب في عهده كثير من المؤلفات التاريخية لم يبق منا كلها إلا الكرنماكي-أرتخشتر أو أعمال أردشير وهو مزيج من التاريخ والقصص كان هو الأساس الذي استمد منه الفردوسي كتاب الشاهنامة. ولما أغلق جستنيان مدارس أثينة فر سبعة من أساتذتها إلى فارس ووجدوا لهم في بلاط كسرى ملجأ أميناً. ولكنهم حنوا فيما بعد إلى أوطانهم، فاشترط الملك "البربري" في المعاهدة التي عقدها مع جستنيان عام 533 أن يسمح للحكماء اليونان بالعودة إلى أوطانهم وألا يمسهم أي أذى.
وفي عهد هذا الملك المستنير أصبحت كلية غنديسابور التي أنشئت في القرن الرابع أو الخامس "أعظم المراكز الثقافية في ذلك العهد(18)"، ويهرع إليها الطلاب والمدرسون من كافة أنحاء العالم. وكان يؤمها النساطرة المسيحيون، الذين جاءوا معهم بتراجم سريانية لكتب الطب والفلسفة اليونانية. وجاء إليها أتباع الأفلاطونية الجديدة وبذروا فيها بذور العقائد الصوفية، وامتزجت فيها علوم الطب الهندية، والفارسية، والسورية، واليونانية. ونتج عنها مدرسة للعلاج مزدهرة ناجحة(19). وكان المرض حسب النظرية الفارسية ينتج إذا دنس أو تلوث ركن أو أكثر من الأركان أو العناصر الأربعة -النار، والماء، والتراب، والهواء. ويقول أطباء الفرس وكهنتهم إن الصحة العامة تتطلب إحراق كل المواد المتعفنة، وإن صحة الأفراد تتطلب الطاعة التامة لقانون الطهارة الزرداشتي(20).
ولسنا نعرف عن علم الفلك عند الفرس في ذلك الوقت أكثر من أنه قد احتفظ لهم بتقويم منظم، وأن سنتهم كانت تنقسم إلى اثني عشر شهراً في كل منها ثلاثون يوماً، وأن الشهر كان ينقسم إلى أربعة أسابيع، اثنان منها يحتوي كل منها على سبعة أيام واثنان في كل منهما ثمانية، وأنهم كانوا يضيفون خمسة أيام في آخر العام(21). وكان التنجيم والسحر منتشرين في البلاد، فلم يكونوا يقدمون على عمل هام دون الرجوع إلى أبراج النجوم، وكانوا يعتقدون أن جميع مصائر الناس على هذه الأرض تحددها النجوم الطيبة والخبيثة التي تحترب في السماء - كما تحترب الملائكة والشياطين في النفس البشرية - حرب أهورا مزدا وأهرمان القديمة. وأعاد الملوك الساسانيون إلى الدين الزرادشتي ما كان له من سلطان ورونق. فوهبت الأراضي والعشور إلى الكهنة، وأسس نظام الحكم على أساس الدين كما كانت الحال في أوربا، وعين كاهن أكبر ذو سلطان لا يفوقه سلطان الملك نفسه رئيساً لطائفة الكهنة المجوس الوراثية، التي كانت تشرف على جميع نواحي الحياة الذهنية في فارس إلا القليل منها، وكانت تنذر كل من تحدثه نفسه بالإثم أو بالخروج على سلطان الدولة بالعذاب الدائم في الجحيم؛ وظلت تسيطر على عقول الفرس وعلى جماهير الشعب مدى أربعة قرون(22). وكانوا من حين إلى حين يحمون الأهلين من عسف الحياة والفقراء من استبداد الحكام(23). وقد بلغ من ثراء هذه الجماعة أن كان الملوك أنفسهم يستدينون أموالاً طائلة من خزائن الهياكل. وكان في كل بلدة كبيرة معبد للنار تشتعل فيه نار مقدسة يقولون إنها لا تنطفئ أبداً وترمز إلى إله النور. وكانوا يعلمون الناس أن حياة الفضيلة الطاهرة وحدها هي التي تنجي الروح من أهرمان؛ وكان لا بد للروح في حربها القائمة على الشيطان من أن تستعين بكهنة المجوس وبما يعرفونه عن الغيب، وبراقهم وسحرهم، ودعواتهم. فإذا ما نالت الروح هذه المعونة سمت إلى درجة القداسة والطهارة، وخرجت سالمة من محكمة يوم الحساب الرهيبة، واستمتعت بالنعيم المقيم في الجنة.وكانت أديان أخرى أقل منزلة من هذا الدين الرسمي تجد لها مكاناً حوله. فكان مثراس إله الشمس المحبب للبارثيين بين عدد قليل من أفراد الشعب بوصفه مساعداً لأهورا. ولكن الكهنة الزرداشتيين كانوا يعدون الخروج على الدين القومي، كما يعده المسيحيون، والمسلمون، واليهود جريمة كبرى يعاقب عليها بالإعدام. وشاهد ذلك ما حدث حين قام ماني Mani حوالي (216-276) يدعي أنه رسول رابع مكمل لبوذا، وزرادشت، ويسوع، ويدعو إلى دين قوامه العزبة، والسلام، والهدوء، إذ صلب بناء على طلب المجوس ذوي النزعة الحربية القومية، واضطر أتباعه إلى العمل على نشر دينهم في خارج البلاد. أما اليهودية والمسيحية فكانتا بوجه عام تلقيان من الملوك والكهنة الساسانيين كثيراً من التسامح، كما كانت البابوات أكثر تسامحاً مع اليهود منهم مع المارقين من الدين المسيحي. وقد وجد كثير من اليهود ملجأ لهم في الولايات الغربية من الإمبراطورية الفارسية. وكانت المسيحية قد ثبتت دعائمها في تلك الولايات حين جلس الساسانيون على العرش، وظلت لا تلقى معارضة منهم حتى أضحت الدين الرسمي لعدوي الفرس القديمين وهما بلاد اليونان وروما؛ فلما أشترك قساوستها اشتراكاً فعلياً في الدفاع عن الأقاليم البيزنطية ضد شابور الثاني، كما حدث عند نصيبين عام 338، شرع ملوك الفرس يضطهدونهم(24)، وبدأ المسيحيون في فارس يجهرون بآمالهم الطبيعية في انتصار الدولة البيزنطية. وأمر شابور في عام 341 بذبح جميع المسيحيين الساكنين في الإمبراطورية، ولما أن رأى أن قرى بأكملها من القرى المسيحية قد أقفرت من أهلها أمر بأن يقتصر على قتل القسيسين، والرهبان، والراهبات؛ ولكن 16.000 مسيحي قد أهلكوا نتيجة لهذا الاضطهاد الذي دام حتى موت شابور (379). ولما جلس يزدجر الأول على العرش (339-420) رد للمسيحيين حريتهم الدينية، وساعدهم على بناء كنائسهم، حتى إذا كان عام 422 قرر مجلس من أساقفة الفرس استقلال الكنيسة المسيحية الفارسية عن الكنيستين المسيحيتين اليونانية والرومانية.
وفي داخل هذا الإطار المكون من العبادات والمنازعات الدينية، والمراسيم والأزمات الحكومية والحروب الداخلية والخارجية، في داخل هذا الإطار كان الناس يمدون الدولة والكنيسة بمقومات حياتهما -يفلحون الأرض، ويرعون الماشية والضأن، ويمارسون الصناعات اليدوية، ويتبادلون التجارة. وكانت الزراعة عندهم من الواجبات الدينية
قصة الحضارة ج12 ص276-281)
 
المسيحية في بلاد فارس قبل الاسلام الذي انقذهم منها اي بهدم امبراطورية فارس
"وكانت المسيحية قد ثبتت دعائمها في تلك الولايات حين جلس الساسانيون على العرش، وظلت لا تلقى معارضة منهم حتى أضحت الدين الرسمي لعدوي الفرس القديمين وهما بلاد اليونان وروما؛ فلما أشترك قساوستها اشتراكاً فعلياً في الدفاع عن الأقاليم البيزنطية ضد شابور الثاني، كما حدث عند نصيبين عام 338، شرع ملوك الفرس يضطهدونهم(24)، وبدأ المسيحيون في فارس يجهرون بآمالهم الطبيعية في انتصار الدولة البيزنطية. وأمر شابور في عام 341 بذبح جميع المسيحيين الساكنين في الإمبراطورية، ولما أن رأى أن قرى بأكملها من القرى المسيحية قد أقفرت من أهلها أمر بأن يقتصر على قتل القسيسين، والرهبان، والراهبات؛ ولكن 16.000 مسيحي قد أهلكوا نتيجة لهذا الاضطهاد الذي دام حتى موت شابور (379). ولما جلس يزدجر الأول على العرش (339-420) رد للمسيحيين حريتهم الدينية، وساعدهم على بناء كنائسهم، حتى إذا كان عام 422 قرر مجلس من أساقفة الفرس استقلال الكنيسة المسيحية الفارسية عن الكنيستين المسيحيتين اليونانية والرومانية.
قصة الحضارة ج12 ص281)
 
المملكة الفارسية قبل الاسلام ومدى اتساعها
"حكم شابور الثاني أطول حكم في تاريخ آسية (309-379)... فغزا شرقي جزيرة العرب وخرب حوالي عشرين قرية، وقتل آلافاً من الأسرى، وقاد ألفاً غيرهم إلى الأسر في حبال ربطها بجروحهم. وفي عام 337 شن الحرب على روما للسيطرة على الطرق التجارية المؤدية إلى بلاد الشرق الأقصى، وواصلها حتى وفاته تقريباً إذا استثنينا فترات من السلم قصيرة. وكان اعتناق روما وأرمينية للدين المسيحي سبباً في ازدياد نيران الحرب شدة على شدتها كأن الآلهة هي الأخرى قد نزلت إلى الميدان، وجاءت معها بكل ما يحدثنا عنه هومر من وحشية في القتال. وظل شابور أربعين عاماً يقاتل طائفة كبيرة من أباطرة الروم واحداً بعد واحد، قصده يوليان إلى طيسفون، ولكنه ارتد بعد ذلك ارتداداً غير شريف؛ واضطر جوفيان أمام تفوق عدوه عليه في الفنون العسكرية أن يعقد مع شابور صلحاً نزل له بمقتضاه عن الولايات الرومانية الممتدة على نهر دجلة وعن أرمينية كلها. ولما مات شابور الثاني كانت بلاد الفرس قد بلغت ذروة سلطانها وهيبتها، وكانت مائة ألف فدان من أرضها قد أصلحت واستخدم في إصلاحها الأسرى من الأعداء.
وانتقل ميدان الحرب في القرن التالي إلى حدود الفرس الشرقية. فقد حدث حوالي عام 425 أن استولت على الأقاليم المحصورة بين نهري سيحون وجيحون جماعات طورانية يطلق عليها اليونان اسم الإفثاليين Ephthalites، ويلقبون خطأ باسم "الهون البيض"، استولوا على الإقليم المحصور بين نهري سيحون وجيحون وحاربهم الملك بهرام الخامس الساساني (420-438)، المعروف باسم الغور -أي "الحمار الوحشي"- لجرأته في أعمال الصيد، وانتصر عليهم، ولكنهم بعد وفاته أخذوا ينتشرون في الإقليم لكثرة تناسلهم وتفوقهم في القتال، وأنشئوا لهم إمبراطورية امتدت من بحر الخزر إلى نهر السند، وجعلوا عاصمتها جرجران، وكانت أشهر مدنها بلخ، وهزموا فيروز شاه وقتلوه (459-484)، وأرغموا الشاه الذي خلفه على أداء الجزية.
قصة الحضارة ج12 ص288-289)
 
كان خسرو الأول ("أي صاحب المجد المتقى" 531-579) يعرف عند اليونان باسم كسروس Chosroes وعند العرب باسم كسرى؛ ولقبه الفرس بأنوشروان ("الروح الخالدة"). ولما أن ائتمر به اخوته الأكبر منه سناً ليخلعوه قتل اخوته جميعاً، وقتل جميع أبنائهم عداً واحداً منهم. ولقبه رعاياه "بالعادل"، ...وكان كسرى يناصر الآداب، والعلوم، ويعين العلماء على متابعة الدرس بالهبات القيمة، ويمد بالمال المترجمين والمؤرخين. وبلغت جامعة غنديسابور في أيامه ذروة مجدها. وكان يحرص كل الحرص على حماية الأجانب في بلاده فكان بلاطه لهذا السبب غاصاً على الدوام بكبار الزائرين من البلاد الأجنبية.
ولما جلس على العرش جهر برغبته في أن يعقد الصلح مع روما. ووافق جستنيان على هذه الرغبة لأنه كان يعد العدة لغزو أفريقية وإيطاليا، ووقع "الأخوان" في عام 532"صلحاً دائماً". ولما أن سقطت أفريقية وإيطاليا في يد جستنيان طالب كسرى متفكهاً بقسط من الغنيمة، وحجته أن بيزنطية لم تكن لتصل إلى هذا النصر لو أن فارس لم تعقد معها الصلح، فبعث إليه جستنيان ببعض الهدايا القيمة(45). وفى عام 539 أعلن كسرى الحرب على "روما" بحجة أن جستنيان قد أخل بشروط الصلح، ويؤيد بركبيوس هذه التهمة. لكن أكبر الظن أن كسرى قد رأى أن من الحكمة أن يبادر بالهجوم على جستنيان وجيوشه لا تزال مشغولة في الغرب، فذلك في رأيه خير له من أن ينتظر حتى تنتصر بيزنطية ثم توجه قوتها كلها ضد فارس. يضاف إلى هذا أن كسرى قد بدا له ألا بد لبلاد الفرس من امتلاك مناجم الذهب في طربزون وأن يكون لها منفذ على البحر الأسود. ولهذا زحف على سوريا، وحاصر هيرابوليس، وأباميا، وحلب، وتركها وشأنها بعد أن افتدت أنفسها بكثير من المال، وسرعان ما وقف أمام إنطاكية. ولم يبال أهلها به وبقوته فحيوه من فوق
الأسوار بوابل من السهام وقذائف المنجنيقات، وبوابل آخر من ألفاظ السخرية الوقحة التي اشتهرت بها هذه المدينة في كافة أنحاء العالم(46). واستشاط المليك غضباً فهجم على المدينة واستولى عليها عنوة، ونهب كنوزها، وأحرق جميع مبانيها عدا كنيستها الكبرى، وذبح عدداً كبيراً من أهلها، وساق من بقي منهم ليعمروا "إنطاكية" أخرى في بلاد الفرس، ثم نزل مبتهجاً ليستحم في البحر المتوسط الذي كان في وقت من الأوقات حد دولة الفرس الغربي. وأرسل - جستنيان قائده بليساريوس لينقذ بلاده، ولكن كسرى عبر الفرات على مهل مثقلاً بالغنائم، وفضل القائد الحصيف ألا يتبعه (541). وما من شك في أن انتهاء الحروب التي قامت بين الفرس والرومان إلى نهاية غير حاسمة إنما يرجع بعضه إلى تعذر إقامة حامية قوية على ناحية العدو من الصحراء السورية أو جبال طوروس، وإن كان ما أدخل حديثاً من تحسين على وسائل النقل والاتصال قد جعل الحروب الكبيرة في أمثال تلك الأصفاع مستطاعة في هذه الأيام. وقام كسرى بعدئذ بثلاث غزوات على آسية الرومانية زحف فيها على تلك البلاد زحفاً سريعاً، وحاصر عدداً من مدنها، وأخذ منها الفداء والأسرى، ونهب ريفها، ثم ارتد عنها في أمان (542-543) وأدى له جستنيان عام 542 ألفي رطل من الذهب (نحو 840.000 دولار أمريكي) ثمناً لهدنة تدوم خمسة أعوام على أن يؤدي إليه بعد انتهائها 2600 رطل أخرى نظير امتدادها خمسة أعوام جديدة وبعد أن دامت الحرب بين العاهلين الطاعنين في السن جيلاً من الزمان تعهد آخر الأمر (562) بأن يحتفظا بالسلم خمسين عاماً، وتعهد جستنيان بأن يؤدي للفرس ثلاثين قطعة من الذهب في كل عام (7.500.000 دولار أمريكي)، ونزل كسرى عن حقه في جميع الأقاليم المتنازع عليها في بلاد القوقاز والبحر الأسود.
ولكن كسرى لم يفرغ بهذا من حروبه كلها.
قصة الحضارة ج12 ص290-292)
 
الامبراطورية الفارسية عام 613 م
"وكانت الدولة البيزنطية قد مزقها الشقاق والتحزب، فلم تجد جيوش الفرس صعوبة في الاستيلاء على دارا، وأميدا، والرها، وهيرابوليس، وحلب، وأباميا، ودمشق (605-613). وزاد هذا النصر من حماسة أبرويز فأعلن الحرب الدينية على المسيحيين، وانضم 26.000 من اليهود إلى جيشه، ونهبت جيوشه المتحدة في عام 614 أورشليم، وقتلت 90.000 من المسيحيين(47)، وأحرقت كثيراً من كنائسها ومن بينها كنيسة الضريح المقدس، وأخذ الصليب الحق، وهو أعز أثر على المسيحيين، إلى بلاد الفرس. وأرسل أبرويز إلى هرقل Heraclius الإمبراطور الجديد رسالة دينية قال فيها: "من كسرى أعظم الآلهة وسيد الأرض كلها إلى هرقل عبده الغبي الذليل: إنك تقول إنك تعتمد على إلهك، فلم إذن لم ينقذ أورشليم من يدي؟"(48). واستولى جيش فارس على الإسكندرية في عام 616، ولم يحل عام 619 حتى دخلت مصر كلها في حوزة ملك الملوك، وهو ما لم يحدث لها منذ أيام دارا الثاني. وفي هذه الأثناء كان جيش فارسي آخر يجتاح آسية الصغرى ويستولي على خلقيدون (617)؛ ولبثت تلك المدينة في أيدي الفرس عشر سنين وهي التي لم يكن يفصلها عن القسطنطينية إلا مضيق البسفور. وكان أبرويز في هذه السنين العشر يدمر الكنائس، وينقل ما فيها من الآثار الفنية والكنوز إلى بلاد الفرس ويفرض على آسية الغربية من الضرائب الفادحة ما ينضب منه معينها وما أعجزها عن مقاومة غزو العرب الذي لم يكن بينها وبينه وقتئذ إلا نحو جيل من الزمان.
ثم ترك كسرى تصريف الحرب لقواده، وعاد لينقلب في اللهو والترف في قصره بدستجرد (على بعد نحو ستين ميلاً من طيسفون)؛ وقضى وقته بين الفن والحب
قصة الحضارة ج12 ص295
 
الصراع الحربي قبل الاسلام بسنوات
"ولم يكن باقياً للإمبراطورية البيزنطية إلا عدد قليل من الثغور الأسيوية وقليل من أرض إيطاليا، وأفريقية، وبلاد اليونان، وأسطول لم يهزم بعد، وعاصمة محاصرة جن جنونها من الرعب واليأس. ولبث هرقل عشر سنين ينشئ جيشاً جديداً ودولة جديدة من أنقاض الجيش القديم والدولة القديمة. فلما تم له ذلك لم يحاول عبور البسفور إلى خلقيدون بل تجنب ذلك العمل الكثير النفقة والمشقة، وأبحر بأسطوله إلى البحر الأسود ثم اخترق أرمينية وهاجم بلاد الفرس من خلفها، ودمر كلورمية Clorumia مسقط رأس زرادشت، كما ضرب كسرى من قبل مدينة أورشليم، وأطفأ نارها المقدسة الخالدة (624). وسير إليه كسرى الجيوش يتلو بعضها بعضاً، ولكن هرقل هزمها جميعاً، ولما تقدم اليونان فر كسرى إلى طيسفون. وآلم قواده ما كان يوجهه إليهم من إهانات فانضموا إلى النبلاء وخلعوه، ثم سجنوه ولم يطعموه إلا الخبز القفار والماء، وذبحوا ثمانية عشر من أبنائه أمام عينيه، وانتهى أمره بأن قتله ابن من أبنائه يدعى شيروى (628).
قصة الحضارة ج12 ص296
 
فتح العرب
هذا العنوان وضعه ديورانت وقال تحته:"وفي عام 632 توفي محمد (صلى الله عليه وسلم) بعد أن أنشأ دولة عربية جديدة، وتلقّى عُمر خليفته الثاني، رسالة من المثنى قائده في سوريا، يبلغه فيها أن الفوضى ضاربة أطنابها في بلاد الفرس وأنه قد آن الأوان للاستيلاء عليها(70). وعهد عمر هذا العمل إلى خالد بن الوليد أعظم قواده جميعاً. وزحف خالد بازاء الساحل الجنوبي للخليج الفارسي على رأس قوة من العرب البدو الذين ضرستهم الحروب والراغبين أشد الرغبة في الغنائم ، ثم أرسل رسالة إلى هورمزد حاكم الولاية القائمة على الحدود الفارسية يقول له فيها: "أسلم تسلم".
ودعاه هورمزد إلى المبارزة وقبل خالد دعوته وقتله. وتغلب المسلمون(71) على كل ما واجهوه من مقاومة حتى وصلوا إلى نهر الفرات؛ ثم استدعي خالد لينقذ جيشاً عربياً في الجبهة أخرى، وتولى المثنى قيادة العرب، وعبر النهر على جسر من القوارب. وعهد يزدجرد، وكان لا يزال شاباً في الثانية والعشرين من العمر، بالقيادة العليا إلى رستم والي خراسان، وأمره أن يجند قوة ضخمة ينقذ بها الإمبراطورية. والتقى الفرس بالعرب في موقعة الجسر وهزموهم وأخذوا يطاردونهم مطاردة فيها كثير من التهور. وأعاد المثنى تنظيم صفوفه وهزم في واقعة البويب الجيش الفارسي المختل النظام وأفناه عن آخره تقريباً (634). وكانت خسائر المسلمين في هذه المعركة فادحة، فقد مات المثنى متأثراً بجراحه، ولكن الخليفة أرسل قائداً آخر أقدر منه يدعى سعد بن أبي وقاص على رأس جيش جديد قوامه ثلاثون ألف رجل. ورد يزدجرد على هذا بأن أنزل إلى الميدان جيشاً مؤلفاً من 120.000 من الفرس. وعبر بهم رستم نهر الفرات وعسكر عند القادسية حيث دارت معركة من أعظم المعارك الحاسمة في تاريخ آسية وأشدها هولاً، دامت أربعة أيام. وهبت في اليوم الرابع عاصفة رملية في وجوه الفرس، واغتنم العرب هذه الفرصة وحملوا على أعدائهم الذين أعمتهم الرمال حملة صادقة، قتل فيها رستم ومزق جيشه شر ممزق (636). وزحف سعد بجنوده دون أن يلقى مقاومة تذكر حتى وصل إلى نهر دجلة، واجتازوه ودخل المدائن.
وذهل العرب السذج الأشداء حين وقعت أعينهم على القصر الملكي وأدهشته عقوده الفخمة، وبهوه الرخامي العظيم، وطنافسه الكبيرة، وعرشه المطعم بالجواهر، وقضوا أربعة أيام يحاولون جمع غنائمهم. ولعل هذا هو السبب الذي من أجله نهى عمر سعداً عن متابعة الزحف نحو الشرق وقال له إن في العراق ما يكفي(72). ووافق سعد على أمر الخليفة وقضى الثلاث السنين التالية يوطد دعائم حكم العرب في أرض الجزيرة. وكان يزدجرد في هذه الأثناء ينشئ في ولاياته الشمالية جيشاً جديداً قوامه 150.000 مقاتل. وبعث عمر لملاقاته 30.000 من رجاله، والتقى الجيشان عند نهاوند، وهزم العرب الفرس بفضل مهارتهم في الفنون العسكرية في معركة "فتح الفتوح" وقتل من الفرس في هذه المعركة 100.000 ضيق عليهم العرب في مضيق بين جبلين (641)؛ وسرعان ما سقطت بلاد الفرس كلها في أيدي العرب، وفر يزدجرد إلى بلخ وطلب إلى الصين أن تمد له يد المعونة؛ ولكن الصين لم تجبه إلى طلبه، ثم عاد فطلبها إلى الترك، فأمدوه بقوة صغيرة، لكن الجنود الترك قتلوه طمعاً في جواهره حين هم بالزحف ليبدأ الحرب من جديد (652)؛ وبذلك انتهى عهد الساسانيين في فارس.
قصة الحضارة ج12 ص304-306)
 
انهى ويل ديورانت ج12 من قصة الحضارة بفصل قصير عنوانه فتح العرب
وكان الكلام قبله عن فارس
اي فتح العرب لبلاد فارس
للامبراطورية الساسانية الفارسية
 
"الباب الثامن
الفصل الأول
جزيرة العرب
محمد صلى الله عليه وسلم
570-632
توفي جستنيان في عام 565 وهو سيد إمبراطورية عظيمة، بعد خمس سنين من وفاته ولد محمد (صلى الله عليه وسلم) في أسرة فقيرة في إقليم ثلاث أرباعه صحراء مجدية قليلة السكان، أهله من قبائل البدو الرحل، إذا جمعت ثروتهم كلها فإنها لا تكاد تكفي إنشاء كنيسة أو صوفيا. ولم يكن أحد في ذلك الوقت يحلم أنه لن يمضي قرن من الزمان حتى يكون أولئك البدو قد فتحوا نصف أملاك الدولة البيزنطية في آسية، وجميع بلاد الفرس، ومصر، ومعظم شمالي أفريقية، وساروا في طريقهم إلى أسبانيا. والحق أن ذلك الحادث الجلل الذي تمخضت عنه جزيرة العرب، والذي أعقبه استيلاؤها على نصف عالم البحر المتوسط ونشر دينها الجديد في ربوعه، لهو أعجب الظواهر الاجتماعية في العصور الوسطى.
قصة الحضارة ج13 ص6-7)
 
العرب وممالك قبل الاسلام مثل مملكة الغساسنة مثلا
"وازدهرت بعض الممالك العربية الصغرى في الجزء الشمالي من شبه الجزيرة، ولكنها لم تدم طويلاً. فقدد ظل مشايخ بني غسان يحكمون الجزء الشمالي الغربي والقسم المحيط بتدمر من بلاد سوريا من القرن الثالث إلى القرن السابع تحت سيادة بيزنطية. وأنشأ ملوك بني لحم في الحيرة القريبة من بابل في هذا الوقت عينه بلاطاً نصف فارسي، وتقفوا ثقافة فارسية اشتهرت بموسيقاها وشعرها. ويرى من هذا أن العرب انتشروا شمالاً في سوريا والعراق قبل الإسلام بزمن طويل.
وكان النظام السياسي السائد في بلاد العرب قبلا الإسلام، إذا استثنينا هذه الممالك الصغرى في الجنوب والشمال، وهو النظام البدائي الذي يقوم على رابطة القرابة والذي تجتمع الأسر بمقتضاه في عشائر وقبائل. بل إن هذه الممالك الصغرى نفسها لم تكن تخلو من قسط كبير من هذا النظام القبلي. وكانت القبيلة تسمى باسم أب لها مزعوم عام، فالغساسنة مثلاً كانوا أنهم "أبناء غسان"، ولم يكن لبلاد العرب بوصفها وحدة سياسية وجود قبل عصر النبي إلا في مسميات اليونان غير الدقيقة، فقد كانوا يسمون جميع الساكنين في شبه الجزيرة باسم السركنوي Sarakenoi، ومن هذا الاسم اشتق اللفظ الإنجليزي Saracens، ويلوح أنه هو نفسه مشتق من لفظ "الشرقيين" العربي. وكانت قلة سبل الاتصال وصعوبتها مما اضطر أهل البلاد إلى أن يعملوا على الاكتفاء بأنفسهم من غيرهم، كما أنهما كانتا سبباً في نمو روح العزلة فيهم، فالعربي لم يكن يشعر بواجب أو ولاء لأية جماعة أكبر من القبيلة، وكانت قوة ولائه تتناسب تناسباً عكسياً مع سعة الجماعة التي يدين لها بهذا الولاء
قصة الحضارة ج13 ص10-11)
 
وصف ديورانت للبدوي وعلاقته بالمرأة
"كان لدى البدوي أمر لا يقبل فيه جدلاً، ذلك هو جمال نسائه الذي لا يدانيه في نظره جمال. لقد كان جمالاً أسمر، قوياً، يفتن اللب، خليقاً بأن يتغزل فيه بعشرات المئات من الأغاني الشعرية، ولكنه جمال قصير الأجل سرعان ما يذوى في جو الصحراء القائظ. وكانت حياة المرأة العربية قبل أيام النبي تنتقل من حب الرجل لها حباً يقترب من العبادة إلى الكدح طوال ما بقي من حياتها، ولم تتغير هذه الحياة فيما بعد إلا قليلاً . وكان في وسع أبيها أن يئدها حين مولدها إذا رغب في هذا، فإن لم يفعل فلا أقل من أن يحزن لمولدها، ويواري وجهه خجلاً من الناس، لأنه يحس لسبب ما أن جهوده قد ذهبت أدراج الرياح، وكانت طفولتها الجذابة تستحوذ على قلبه بضع سنين، ولكنها حين تبلغ السنة السابعة أو الثامنة من عمرها كانت تُزوج لأي شاب من شبان القبيلة يرضى والده أن يؤدي للعروس ثمنها . وكان حبيبها وزوجها يحارب العالم كله إذا لزم الأمر ليحميها، أو يدافع عن شرفها. وقد انتقلت بعض مبادئ هذه الشهامة المتطرفة مع هؤلاء العشاق المتيمين إلى أسبانيا. ولكن هذه المعبودة كانت إلى هذا سلعة من السلع، فقد كانت جزءاً من أملاك أبيها، أو زوجها، أو ابنها، تُورَث مع هذه الأملاك، وكانت على الدوام من خدم الرجل، وقلما كانت رفيقته. وكان يطلب إليها أن تلد له كثيراً من الأبناء، والأبناء الذكور بطبيعة الحال، لأن واجبها أن تنجب المحاربين، ولم تكن في كثير من الأحوال إلا زوجة واحدة من كثيرات من الزوجات وكان في وسع الرجل أن يخرجها من بيته متى شاء.
ولكن مفاتنها لم تكن تقل عن الحرب إلهاماً لخيال الشعراء، وموضوعاً لشعرهم، وكان العربي قبل الإسلام أمياً ولكن حبه للشعر لم يكن يزيد عليه إلا حبه للخيل والنساء والخمر.
قصة الحضارة ج13 ص13-14)
 
ولم يكن بين العرب في الجاهلية علماء أو مؤرخون
قصة الحضارة ويل ديورانت ج13 ص14)
 
وكان للعربي ساكن الصحراء دينه الدال على حذقه ودهائه رغم بدائيته. فكان يهاب ويعبد أرباباً لا حصر لها في النجوم، والقمر، وفي أطباق الأرض، وكان حين إلى حين يطلب الرحمة من السماء المنتقمة، ولكنه لم يكن في الغالب يستبين سبيل الرشاد بين الجن المحيطين به، ولا يرى أملاً في استرضائهم، فغلب عليه من أجل ذلك النزعة الجبرية والاستسلام، فإذا دعاهم في رجولة ولم يطل الدعاء، ويستهزئ بالأبدية ولا يعبأ بها، وبيدوا أنه لم يكن يفكر كثيراً في الحياة بعد الموت، على أنه كان في بعض الأحيان يطلب أن يربط جمله بجوار قبره، وأن يُمنع عنه الطعام حتى يلحق به بعد قليل في الدار الآخرة، وينجيه من مذلة السير على قدميه في الجنة، وكان بين الفينة والفينة يقدم لآلهته الضحايا البشرية، كما كان في بعض الأماكن يعبد الأصنام الحجرية.
قصة الحضارة ج13 ص17
 
مكة والكعبة والوعد بنسل اسماعيل!
"وكانت مكة مركز عبادة الأصنام. ولم يكن سبب قيام هذه المدينة المقدسة في موضعها الذي قامت فيه هو جودة مناخها، ذلك أن الجبال الجرداء التي تكاد تطبق عليها من جميع الجهات تجعل صيفها حار لا يطاق. وكان الوادي الذي تقوم فيه غير ذي زرع، ولا يكاد يوجد في البلدة كلها كما عرفها محمد حديقة واحدة، ولكن موقعها في منتصف ساحل البلاد الغربي، وعلى بعد ثمانية وأربعين ميلاً من البحر الأحمر، جعلها محطة صالحة في طوق القوافل الطوال التي تجمع في بعض الأحيان ألف جمل بعضها وراء بعض، والتي كانت تحمل المتاجر بين جنوبي بلاد العرب (ومن ثم بين الهند وأفريقية الوسطى) وبين مصر، وفلسطين، وبلاد الشام. وكان التجار أصحاب هذه التجارة يؤلفون فيما بينهم شركات محاصة، ويسيطرون على أسواق عكاظ، ويقومون بالشعائر الدينية المجزية حول الكعبة وحجرها الأسود المقدس.
ومعنى الكعبة البيت المربع. واللفظ ذو صلة باللفظ الإنجليزي Cube (مكعب) ومن المعتقدات الشائعة أن الكعبة بنيت ثم أعيد بناؤها عشر مرات، فقد بناها في فجر التاريخ ملائكة السماء، وبناها في المرة الثانية آدم أبو البشر، وفي المرة الثالثة ابنه شيث، ثم بناها في المرة الرابعة إبراهيم وإسماعيل ابنه من هاجر... وبناها في المرة السابعة قصي زعيم قبيلة قريش، وبناها في المرة الثامنة كبار قريش في حياة محمد (605)، وبناها في المرتين التاسعة والعاشرة زعماء المسلمين عامي 681 و 696. والكعبة كما بنيت في المرة العاشرة هي كعبة هذه الأيام في معظم أجزائها. وهي مقدمة ي داخل بناء واسع هو المسجد الحرام. وهي بناء مربع من الحجر طولها أربعون قدماً، وعرضها خمسة وثلاثون، وارتفاعها خمسون، وفي ركنها الجنوبي الشرقي، وعلى بعد خمسة أقدام من سطح الأرض، الحجر الأسود، وهو حجر قاتم اللون بيضي الشكل قطره سبع بوصات. ويعتقد الكثيرون أن هذا الحجر قد نزل من السماء-ولعله كان صاعقة؛ ويقول معظمهم إنه وجد بالكعبة من أيام إبراهيم، ويرى علماء المسلمين أنه رمز لذلك الفرع من أبناء إبراهيم فرع إسماعيل وأبنائه الذي نبذه بنو إسرائيل فكان منه آباء قبيلة قريش. ويؤيدون قولهم هذا بما جاء في المزمور الثامن عشر بعد المائة في الآيتين 22 و23 "الحجر الذي رفضه البناؤون صار رأس الزاوية"، وفي الآيتين 42 و43 من الإصحاح الحادي والعشرين من إنجيل متي، وهو قول عيسى بعد أن نطق بهذه العبارة العجيبة: "لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره" وإن لم يكن في وسع المسلمين أن يقولوا إنهم قد حققوا ما قاله عنهم المسيح .
وكان في الكعبة قبل الإسلام عدد من الأصنام تمثل معبودات العرب. منها، اللات، والعزى، ومناة. وفي وسعنا أن ندرك قدم عهد هذه الآلهة العربية إذا عرفنا أن هيرودوت قد ذكر الإلات (اللاَّت) على أنها من أكبر أرباب العرب. وكانوا يقولون لأهل مكة أن إلههم الأكبر رب أرضهم، وإن عليهم أن يؤدوا لها عشر محاصيلهم، والثمرة الأولى من نتاج قطعانهم. وكانت قريش، وهي التي تعزو نسبها إلى إبراهيم وإسماعيل، تختار من بين رجالها سدنة الكعبة وخدامها والمشرفين على مواردها المالية. وكانت أقلية أرستقراطية منه هم بنو قصي يتولون زمام الحكومة المدنية في مكة.
وكانت قريش في بداية القرن السادس منقسمة إلى فئتين متنافستين، إحداهما يتزعمها التاجر الثري الخير هاشم، والأخرى يتزعمها ابن أخيه أمية.
وكان لهذا التنافس الشديد شأنه العظيم في تاريخ العرب بعد الرسالة.
قصة الحضارة ج13 ص17-19)
 
كتب المترجمون لهذا المجلد عند الفصل بعنوان محمد في مكة [نكرر هنا ما ذكرناه في مقدمة هذا الجزء من أننا آثرنا أن نثبت هذه الفصول التي يتحدث فيها المؤلف عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن القرآن والدين الإسلامي كما أوردها حرصاً منا على الأمانة في الترجمة من جهة ولكي يطلع قراء العربية على بعض آراء الكتاب غير المسلمين من جهة أخرى سواء كانت هذه الآراء مما يتفق مع ما أجمع عليه أولئك القراء أولا يتفق معه. يضاف إلى ذلك أن هذه الفصول لا تخلو من كثير من الثناء على النبي وتمجيد للإسلام يصح أن يطلع عليه القراء. على أن إثباتنا لأقوال المؤلف لا يعني مطلقاً أننا نوافقه عليها. وقد ذكر وهو مسيحي في كلامه على المسيحية ما لا يوافقه عليه كثيرون من أبنائها كما ذكر عن اليهودية ما لا يوافقه عليه كثيرون من اليهود، ويجب أن لا يغفل القراء التعليقات التي أثبتناها في هوامش هذه الفصول].
قصة الحضارة ج13 ص21
 
قال ديورانت:"محمد في مكة
569-622
لقد كان محمد من أسرة كريمة ممتازة، ولكنه لم يرث منها إلا ثروة متواضعة، فقد ترك له عبد الله خمسة من الإبل، وقطيعاً من المعز، وبيتاً، وأمة عنيت بتربيته في طفولته. ولفظ محمد مشتق من الحمد وهو مبالغة فيه، كأنه حمد مرة بعد مرة، ويمكن أن تنطبق عليه بعض فقرات في التوراة تبشر به. وقد توفيت أمه وهو في السادسة من عمره وكفله أولاً جده وكان وقتئذ في السادسة والسبعين من عمره ثم عمه أبو طالب ولقي منهما كثيراً من الحب والرعاية، ولكن يبدوا أن أحداً لم يعن بتعليمه القراءة والكتابة. ولم تكن لهذه الميزة قيمة عند العرب في ذلك الوقت، ولهذا لم يكن في قبيلة قريش كلها إلا سبعة عشر يقرءون ويكتبون. ولم يُعرَف عن محمد أنه كتب شيئاً بنفسه، وكان بعد الرسالة يستخدم كاتباً خاصاً له ولكن هذا لم يحل بينه وبين المجئ بأشهر وأبلغ كتاب في اللغة العربية، أو بين قدرته على تعرف شؤون الناس تعرفاً قلما يصل إليه أرقى الناس تعليماً.
ولا نكاد نعرف عن شباب محمد إلا القليل، وكان ما يروى عنه من القصص قد ملأ عشرة آلاف مجلد. وتقول إحدى الروايات إن عمه أبا طالب قد أخذه معه وهو في الثامنة عشرة من عمره في قافلة إلى بصرى ببلاد الشام، وليس ببعيد أن يكون قد عرف في هذه الرحلة قليلاً من القصص الشعبية اليهودية والمسيحية. وتصور قصة أخرى بعد بضعة سنين من الرحلة السابقة مسافراً إلى بصرى في تجارة إلى السيدة خديجة وكانت وقتئذ أرملة غنية، ثم نراه في الخامسة والعشرين من عمره وقد تزوج فجأة بهذه السيدة وهي وقتئذ في الأربعين من عمرها وأم لعدة أبناء. ولم يتزوج غيرها حتى توفيت بعد ذلك بستة وعشرين عاماً، ولم يكن الاقتصار على زوجة واحدة أمراً مألوفاً عند أغنياء العرب في ذلك الوقت، ولكن لعله كان طبيعياً في حالتهما. وقد رزق منها عدة بنات أشهرهن كلهن فاطمة، كما رزق بولدين توفيا في طفولتهما. وقد وجد سلواه في تبني علي بن أبي طالب الذي مات عنه والده. وكانت خديجة سيدة طيبة، وزوجة صالحة، وتاجرة بارعة ظلت وفية لمحمد في صروف حياته الروحية، وظل يذكرها بعد وفاتها على أنها خير نسائه كلهن.
ويصف زوج فاطمة محمداً وهو في سن الخامسة والأربعين بقوله:
لم يكن الطويل الممغط ولا القصير المتردد، وكان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط ولا السبط، وكان جعداً رجلاً، ولم يكن بالمطهم ولا المكلثم، وكان أبيض مشرباً أدعج العينين أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، دقيق المشربة، أجود شئن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معاً،...أجود الناس كفاً وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من آره بديهة، ومن خالطه أحبه، يقول ناعته "لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم".
وكان محمد مهيب الطلعة، لا يضحك إلا قليلاً، قادراً على الفكاهة ولكنه لا يترك العنان لهذه الموهبة، لأنه كان يعرف خطورة المزاح إذا نطق به من يتولى أمور الناس، ولم يكن قوي البنية، ولهذا كان مرهف الحس سريع التأثر، ميالاً إلى الانقباض كثير التفكير. كان إذا غضب أو تهيج انتفخت عروق وجهه بدرجة يرتاع لها من حوله ، ولكنه كان يعرف متى يهدأ من انفعاله، وكان في وسعه أن يعفو من فوره عن عدوه الأعزل إذا تاب.
قصة الحضارة ج13 ص21-23)
 
قبل المضي مع ويل ديورانت في موضوع الاسلام وتأثر ديورانت بالفكر الاستشراقي العام دعونا نذكر بمقولته التي وضعناها من قبل عن تحدثه عن هوى المؤرخ بل هوى نفسه وخضوعه لثقافة قومه
وقد ذكرنا منذ قليل نصا لديورانت يفصح عن معرفة الرجل بأن هناك تفسيرا اسلاميا للوقائع الاسلامية ومنها واقعة الوحي وعلاقة النبي بوعد الله لابراهيم واسماعيل عليهما السلام
وننقل النص هنا منفردا لبيان معرفة ديورانت بالامر لان لهذا مابعده من تفسيرنا الاسلامي الرابط بين صناعة حضارتنا ومصدر تنشئة العلوم فيها الا وهو القرآن العظيم
يقول ديورانت
ويرى علماء المسلمين أنه رمز لذلك الفرع من أبناء إبراهيم فرع إسماعيل وأبنائه الذي نبذه بنو إسرائيل فكان منه آباء قبيلة قريش. ويؤيدون قولهم هذا بما جاء في المزمور الثامن عشر بعد المائة في الآيتين 22 و23 "الحجر الذي رفضه البناؤون صار رأس الزاوية"، وفي الآيتين 42 و43 من الإصحاح الحادي والعشرين من إنجيل متي، وهو قول عيسى بعد أن نطق بهذه العبارة العجيبة: "لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره" وإن لم يكن في وسع المسلمين أن يقولوا إنهم قد حققوا ما قاله عنهم المسيح .
قصة الحضارة ج13 ص18-19)
 
قال ديورانت:"وكان في بلاد العرب كثيرون من المسيحيين، وكان منهم عدد قليل في مكة، وكان محمد على صلة وثيقة بواحد منهم على الأقل ورقة بن نوفل ابن عم خديجة الذي كان مطلعاً على كتب اليهود والمسيحيين المقدسة"
قصة الحضارة ج13 ص23
تعليق
في الحقيقة ليس هناك اي تاريخ حقيقي يثبت ماقاله ديورانت
فالتاريخ الاسلامي لايذكر اي علاقة بين ورقة والنبي صلى الله عليه وسلم لاوثيقة ولاغير وثيقة بل لاتوجد حتى رواية غير صحيحة
اللهم الا بإخبار خديجة للنبي ان لها ابن عم يعرف النبوات فلو كان النبي يعرف ورقة لما كان لكلامها معنى فهي رضي الله عنها التي عرفت النبي بورقة والسبب كان واقعة الوحي الاولى ونزول جبريل ولقاءه بالنبي اما قبل ذلك -قبل بعثة النبي- فلم تحدث اي مقابلة بين النبي وورقة
اما لماذا يقول المستشرقون انه كان للنبي علاقة وثيقة بورقة فالغرض هو ربط مادة الوحي بما زعموا انه تعلمه من ورقة ومن هنا ينفون التنزيل لان التعليم ارضي!
 
قال ديورانت "وكثيراً ما كان محمد يزور المدينة التي مات فيها والده، ولعله قد التقى هناك ببعض اليهود وكانوا كثيرين فيها"
قصة الحضارة ج13 ص23
تعليق
هذه أقاصيص الاستشراق ومن بعده العلمانية
فلم ترد اي رواية من اي نوع كان تروي اي لقاء بين النبي ويهود المدينة قبل البعثة
 
:"ولعله قد التقى هناك ببعض اليهود وكانوا كثيرين فيها... ولعله قد بدا له أن ما يسود جزيرة العرب من شرك، ومن عبادة للأوثان، ومن فساد خلقي، ومن حروب بين القبائل وتفكك سياسي، نقول لعله قد بدا له أن حال بلاد العرب إذا قورنت بما تأمر به المسيحية واليهودية حال بدائية لاتشرف ساكنيها. ولهذا أحس بالحاجة إلى دين...دين يسموا بأخلاقهم...ولعل هذه الافكار نفسها قد طافت بعقل غيره"
قصة الحضارة ج13 ص23-24)
تعليق
ذكرنا ان النبي لم يلتقي قبل البعثة في المدينة بيهود وقد يوحي المعنى الستشراقي بلقاء النبي بيهود انه تعلم منهم ماهو قرآن!
وقد رد صديقنا الدكتور رضا الدقيقي كتابه في نقد المستشرق الالماني نولدكه على هذا المعنى المغرض والغمز المقصود
كما ان هناك مئات الكتب الاسلامية في الرد على هذه المزاعم
اما القول بشعور النبي بالحاجة الى دين والتسلل بتلك الفكرة لهدم الوحي فهذا مردود بما جاء به الوحي بما هو ابعد من الحاجة الة نفي التباغض بين العرب او امة قوية فقد جاء الوحي برحمة المية وحضارة كونية وعلوم لم تعرفها العرب والعجم وتصحيح للتاريخ وللنبوات وهيمنة كاملة على الافكار والاديان وتنشئة العرب وغيرهم على منهج علمي جديد غاب عن العالم اليوناني والروماني وقد عرضنا من كلام ديورانت وقائع هه العوالم وحالاتها في العلم والحرب والقيم والاخلاق من الاعلى الى الاسفل!
 
قال ويل ديورانت عن عمر ابن الخطاب:"وحدث بعد عام من لك الوقت حادثة كان لها من الشأن في تاريخ الإسلام ما كان لإيمان بولس في تاريخ المسيحية. تلك هي اعتناق عمر بن الخطاب للدين الجديد بعد أن كان من ألد أعدائه وأشدهم عنفاً في مناهضته. وكان عمر رجلاً قوي الجسم، ذا مكانة اجتماعية عالية، وشجاعة أدبية تكاد تكون منقطعة النظير. وبعث إسلامه الثقة في قلوب المؤمنين المضطهدين، وهي ثقة ما كان أحوجهم إلها في ذلك الوقت كما كان سبباً في دخول كثيرين من العرب في الدين الجديد. وبدأ المسلمون من ذلك الوقت يدعون الناس جهرة في الشوارع والطرقات بعد أن كانوا من قبل لا يعبدون الله إلا سراً في بيوتهم. واجتمع المدافعون عن آلهة الكعبة وأقسموا أن يقطعوا كل صلة بينهم وبين من لا يزالون من بني هاشم يرون واجباً عليهم أن يدافعوا عن محمد"
قصة الحضارة ج13 ص29)
نقد وتعليق
مع ان ديورانت يتكلم هنا عن حادثة اسلام عمر رضي الله عنه وماجلبه من فرح الصحابة باسلامهم ثم جرأتهم على قريش لان قريش تخافه وتعمل له الف حساب الا ان المقارنة بين مافعلته حادثة اسلام عمر في الاسلام ومافعلته حادثة دخول بولس في المسيحية هي مقارنة غير حصيفة وغير ملائمة ذلك ان بولس اليهودي لم يسلم نتيجة سماعه كلمات الانجيل ولا لانه رأى المسيح فهو لم يرى المسيح اصلا ولم يسمعه منه بل بعد اختفاء المسيح وصعوده كان بولس يقوم بتعذيب اصحابه من الحواريين ثم ادعى ان المسيح ظهر له في الطريق-والروايات التي حكاها متناقضة والمدهش انها مما يقال عنه انه الانجيل!-ثم بدأ يتقرب من الحواريين ثم يتنافر معهم ويعتزلهم بعد ان اخذ منهم صيت انضمامه اليهم ثم انطلق يكتب نصف الانجيل بنفسه اي ال14 رسالة من 27 رسالة من الانجيل المكون من 27 رسالة وفيها جعل المسيح إلها واعطاه كل خصائص الالوهية ثم بدء بنشر ذلك في بلاد اليونان واوروبا فهو من غير عقيدة المسيحية وجعل التغيير هو الاصل المقدس فدخوله المزيف للميحية لايقارن بدخول عمر ذلك الرجل الذي ساند الدعوة التي امن بها ثم خاض المعارك مع النبي ضد اعداءه وجالسه وسمع منه وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وموت ابي بكر رفع ليكون قائد الامة ففتح الفتوحات ونشر التوحيد على عكس بولس وحرر شعوب من قهر الرومان ومنها تحرير مصر واسقط امبراطورية فارس فتحقق على يديه التحرير للامم من نير عبودية وقهر الرومان والاستغلال وفي نفس الوقت تحققت وعود اسقاط فارس والبيزنطية على يديه وفي زمنه تحقيقا لوعد الله للصحابة انفسهم وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿٥٥﴾ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿٥٦﴾ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۖ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ
 
ولم ينقطع عنه الوحي في هذه الأثناء، وخيل إليه في ذات ليلة أنه انتقل من نومه إلى بيت المقدس، حيث رأى في انتظاره عند المبكى من أنقاض هيكل البُرَاق، وهو جواد مجنح فطار به إلى السماء، ثم عاد به منها، ثم وجد النبي نفسه بمعجزة أخرى آمناً في فراشه بمكة. وبفضل الإسراء أصبحت بيت المقدس ثالثة المدن المقدسة عند المسلمين .
وفي عام 620 أخذ محمد يبث الدعوة بين التجار الذين وفدوا على مكة ليحجوا إلى الكعبة، وقبل بعض التجار دعوته، لأن عقائد التوحيد، والرسول المبعوث من عند الله، ويوم الحساب كانت مألوفة عندهم، انتقلت إليهم من يهود المدينة. ولما عاد هؤلاء التجار إلى بلدهم أخذ بعضهم يدعون أصدقائهم إلى الدين الجديد، ورحب بعض اليهود بهذه الدعوة لأنهم لم يروا فارقاً كبيراً بين تعاليم محمد وتعاليمهم. وفي عام 622 أقبل على محمد في مكة سراً ثلاثة وسبعون رجلاً من أهل المدينة ودعوه إلى الهجرة إلى بلدهم واتخاذها موطناً له. فسألهم هل يدافعون عنه كما يدافعون عن أبنائهم، فأقسموا أن يفعلوا، ولكنهم سألوه عما يُجزون به إذا قُتلوا في أثناء دفاعهم عنه، فأجابهم بأن جزائهم هو الجنة.
قصة الحضارة ج13 ص30
 
وفي ذلك الوقت أصبح أبو سفيان حفيد أمية زعيم قريش في مكة، وكان قد نشأ في جو من الكراهية لبني هاشم، فعاد إلى اضطهاد أتباع محمد، ولعله قد سمع أن النبي يعتزم الهجرة من مكة، وخشي أنه إذا استقر له الأمر في المدينة قد يشن الحرب على مكة وعلى آلهة الكعبة. وعهدت قريش بتحريضه إلى بعض رجالها أن يقبضوا على محمد، ولعلها عهدت إليهم أن يقتلوه، وعلم محمد بالخبر ففر هو وأبو بكر إلى غار ثور على بعد فرسخ من مكة، وظل رسل قريش يبحثون عنهما ثلاثة أيام ولكنهم عجزوا عن العثور عليهما. وجاء أبناء أبي بكر لهما بجملين فركباهما في أثناء الليل واتجها بهما شمالاً، وبعد أن ضلا سائرين عدة أيام قطعا فيها نحو مائتي ميل وصلا أخيراً إلى المدينة في 24 سبتمبر من عام 622. وكان قد سبقهم إليها مائتان من المسلمين بدعوى أنهم حجاج عائدون من مكة، ووقفوا عند أبواب المدينة ومعهم من أسلم من أهلها ليستقبلوا النبي، وبعد سبعة عشر عاماً من ذلك الوقت اتخذ الخليفة عمر اليوم الأول من السنة العربية التي حدثت فيها تلك الهجرة، وكان هو في ذلك العام يوم 16 يولية من سنة 622، البداية الرسمية للتاريخ الإسلامي.
قص الحضارة ج13 ص31)
 
"محمد في المدينة
622-630
تقع يثرب، التي سميت فيما بعد "مدينة النبي" على الحافة الغربية من الهضبة العربية الوسطى. وكانت إذا قورنت من حيث جوها بمكة بدت كأنها جنة عدن، وكان بها مئات من الحدائق وغياض النخل، والضياع. ولما دخل محمد المدينة تقدمت إليه طائفة في إثر طائفة وألحت عليه أن ينزل عندها ويقيم معها؛ وأمسك بعضها بزمام ناقته لتمنعه عن مواصلة السير وأصرت على ذلك إصراراً تمليه عليها تقاليدها العربية، وكان جوابه غاية في حسن السياسة فكان يقول لهم: "خلوا سبيلها فإنها مأمورة"، وبهذا لم يترك للغيرة سبيلاً إلى قلوبهم لأن الله وحده هو الذي يسير الناقة ويهديها إلى حيث تقف. وبنى محمد في المكان الذي وقفت فيه ناقته مسجداً وبيتين متجاورين أحدهما لسودة والآخر لعائشة، وأضاف إليهما مساكن أخرى لزوجاته الأخريات.
وكان حين غادر مكة قد قطع كثيراً من صلات القرابة، فلما جاء إلى المدينة اعتزم أن يستبدل بصلات الدم صلات الأخوة الدينية في الدولة الجديدة، كما أراد أن يقضي عل أسباب الغيرة بين المهاجرين الذين جاءوا من مكة والأنصار الذين أسلموا من أهل المدينة-وكانت بوادر هذه الغيرة قد بدت في ذلك الوقت-فآخى بين كل واحد من إحدى الطائفتين وزميل له من الطائفة الأخرى، وطلب إلى كلتيهما أن تصلي في المسجد مع أختها. وفي أول احتفال أقيم في المدينة صعد المنبر وقال بصوت عالٍ "الله أكبر" وردد المجتمعون النداء بأعلى صوتهم وسجد لله وهو لا يزال متجهاً بظهره إليهم، ثم نزل عن المنبر بظهره"
قصة الحضارة ج13 ص32-33)
هل من تعليق على اخر الجملة
 
عودة
أعلى