بسم1
تعقيباً على مداخلتي أعلى رقم (
10)، والمداخلة رقم (
12)
أقول:
نأتي ابتداءاً بمثال توضيحي:
إن قال قائل: (أصبحت الحياة في المدينة أصعب منها في الريف)
فهذه العبارة يتلقاها اثنان من الناس:
الأول يسكن في المدينة المنورة ولا يلتفت لغيرها، فيظن أن الكلام مقصور عليها وأن الريف هو ما وراءها من مزارع النخيل (مثلا).
والثاني يسكن الأرض ويطلع على أحوال المدن والأرياف، فيظن أن مقصود الكلام هو جنس المدينة وجنس الريف، فيعم كل مدينة وكل ريف.
ويصبح السؤال هو :
أي الوجهين: (المدينة المنورة أو جنس "المدينة") يترجح في العبارة (أصبحت الحياة في المدينة أصعب منها في الريف)؟!
فإن قال قائل: هذا غير صحيح، ولا بد أن تكون العبارة ذات وجه واحد هو مقصد المتكلم منها.
قلنا نعم هو كذلك عند المتكلم، وإنما غرض السامع أن يعلم مقصود المتكلم الفريد من تلك الوجوه التي تحتملها العبارة.
ولا نجد إجابة لذلك إلا أنه حتما لابد من قرينة يستصحبها المتكلم مع عبارته (أو إفادة معرفية تقوم مقامها ويمكن التحقق منها)، فإذا ما اقترنت مع عبارته تلك، يتعين الوجه المراد وبانفراد.
والآن، نأتي لموضوعنا؛ أي: (الأرض جميعاً)، و (ما في الأرض جميعا)، إذا سمعهما سامع:
1- سيظن قاطن الأرض والذي لا يعلم علاقتها بغيرها مما هو من جنسها أن الكلام واقع على جرم الأرض حصراً دون ما عداها. وأن كل ما عداها سيدخل في جملة السماء. وسيظن أيضاً أن (ما في الأرض جميعاً) هو محتواها القريب المشهود من تراب وصخور وماء وهواء، والذي تقوم الحياة به دون نقصان.
2- وسيظن المطلع على أحوال الأرض وأمثالها مما هو من جنسها أن الكلام في (الأرض جميعا) واقع على جنس الأرض من حيث الجرمية، وأن (ما في الأرض جميعاً) هو متعلق الجرمية – أينما كان - والمحتوى في جميع أفراد ذلك الجنس.
وعلينا الآن (كما في المثال التوضيحي) أن نسعى للترجيح بين هذين الوجهين، أي أننا بحاجة إلى قرينة تنفي أحد الوجهين وتُرجح الأخرى.
فإن قال قائل: ليس لنا حاجة في ترجيح لأن الوجه الأول هو المقبول بلا نزاع، وقد قال به أهل التفسير والأئمة من العلماء من حيث أن اللغة والعرف اللغوي وفهم الأمة قد انصب على الوجه الأول، وليس وراءه من وجه.
قلنا له: اسمع لأبي حامد الغزالي يتكلم عن العرف اللغوي في مثل هذه المسألة (في كتابه "محك النظر") ويقول:
[الإسم المفرد في لغة العرب إذا أُدخل عليه الألف واللام كان لاستغراق الجنس، وقد يُسمَّى لفظاً عاماَ، ويقال الألف واللام للعموم، فإن قيل: كيف يستقيم هذا ومن يقول الإله أو الشمس أو الأرض فقد أدخل الألف واللام، ولا يدل اللفظ إلا على وجود معيّن خاص لا شركة فيه.
فاعلم أن هذا الوهم غلط، فإن امتناع الشركة ها هنا ليس لنفس اللفظ، بل الذي وضع اللغة لو جوّز في الآلهة عدداً، لكان يرى هذا اللفظ عاما في الالهة، فحيث امتنع الشمول، لم يكن لوضع اللفظ، بل لاستحالة وجود إلَه ثان، فلم يكن المانع نفس مفهوم اللفظ، بل المانع في الشمس أن الشمس في الوجود واحدة. فإن فرضنا عوالم، وفي كل واحد شمس وأرض كان قولنا الشمس والأرض شاملاً للكل، فتأمل هذا. فإن من له قدم في جملة الأمور النظرية ولا يفرّق بين قوله السواد وبين قوله الشمس وبين قوله هذه الشمس عظم شهوة (يقصد انغماساً وشطحاً) في النظريات من حيث لا يدري.]
فإن قَبِلَ من يخاصمنا كلام أبي حامد الغزالي هذا (إن كان له رأي في القبول أو الرفض)، وقبل منا بناءاً عليه إضافتنا للوجه الثاني في معنى الأرض، فبها ونعمة، وإن لم يقبل، تركناه وسرنا في عرض الترجيح الذي توقفنا عنده.
والآن: هل هناك من إفادة معرفية محققة تعيننا على الترجيح بين المراد من (ما في الأرض جميعاً) أهو ما تقوم به الأرض ويحقق شرط الوجود والحياة عليها وتنفرد الأرض به (حسب علمنا)؟! وهذا هو الوجه الأول.
أم هو ما احتواه كل جرم في الوجود المشهود مما يدخل في جنس الأرض ويحقق شرط الجرمية ووحدة النوع (الجنس) وما ينبني منها وعليها وبما سيشمل الحياة ذاتها على جرم الأرض المعهود؟!
نقول: هناك إفادة معرفية مؤكدة بالتجريب اليومي المعملي وتمثل – وفي آن واحد - دليل إثبات صحة الوجه الثاني، ودليل نفي الوجه الأول، ونمهد لهذه الإفادة كالآتي:
هب أن ملكاً عظيما مثل ذي القرنين دخل قرية من القرى التي قابلها في مسيرته، وكان أهلها فقراء معوزين لا يجدون الطعام إلا صيداً ولا يعلمون غيره مما يزرعه الناس، وفي غير وقت الصيد يتضورون جوعاً. فطلبوا من ذلك الملك أن يُأمن لهم طعاما. فأجابهم إلى ذلك على أن يعينوه بحمل هذا الطعام من مخزن عنده وإيصاله إلى قريتهم.
وكان ذلك الطعام خبزاً.
فظن أهل تلك القرية أن ذلك الطعام يأتي به الملك هكذا خبزاً مثلما يأتون هم بالصيد هكذا صيدا – ولم يدر بخلدهم أن ذلك الخبز كان زرعاً اسمه قمحاً ثم طحيناً ثم عجينا ثم تجهيزاً ثم خبيزاً في أفران، وأخيراً يصير خبزاً مثل الذي أتى به ذلك الملك.
ويقال مثل هذا على (ما في الأرض جميعاً)
فالذي نراه في الأرض من ماء وحجارة ونبات وو.. إلخ مثله مثل الخبز. يجب .. نعم ... يجب ويجب ويجب أن يكون قد مر عليه أياما – أقصد دهوراً – كان فيها مزروعاً ثم مطحوناً ثم مخبوزا. ... أقصد أنه جرى إنباته في سلسلة من الإنباتات المتصاعدة، ثم تجميعا، ثم دكه، ثم قذفه في تجرمات سديمية وأرضية .. ومن هذه التجرمات جرم هذه الأرض التي نعيش عليها.
وتفصيل ذلك أن الماء الذي نشرب، قد تم خبزه (صنعه) من مادتي أكسجين وهيدروجين. وأن الأكسجين قبل ذلك كان قد نبت في أفران خاصة في دورة تفاعلات تُسمى (
CNO Cycle)، والتي تستدعي درجة حرارة تبدأ عند 4 مليون كلفن ثم يأخذ التفاعل المنتج للأكسجين عنفوانه عند درجة حرارة 17 مليون كلفن (أو مئوية لأن الفرق بينهما بسيط: 273 درجة فقط). .. وإذا ذهبنا نستقصي عن باقي العناصر التي خُبزت منها مادة الأرض لوجدنا أنها دخلت أفران وراء أفران بأضعاف مضاعفة من هذه الدرجات الحرارية.
والآن، ما هذه الأفران التي صنعت فيها مادة الأرض وما زالت تصنع حتى لحظتنا هذه؟
الإجابة هي: النجوم بأنواعها ومنها
المستعرات العظمى التي تتخلق فيها العناصر الأثقل من الحديد، والتي تصل الحرارة فيها إلى 3 بليون كلفن (أو 3 بليون درجة مئوية).
فإن قيل: النجوم ليست من جنس الأرض حتى يشملها قول الله تعالى (ما في الأرض جميعاً)!
قلنا أن جنس (ما في الأرض جميعا) هو جنس العناصر المادية المعلوم الآن آليات تخليقها. فهي داخلة في الآية بهذا المعنى، مثلما يدخل القمح أو دقيقه في قولنا (ما في الخبز جميعا).
فإن قيل النجوم في السماء فتدخل في خلق السماء.
قلنا: سماء الأرض هو ما يعلوها، وسماء النجوم هو ما يعلوها، وسماء المجرات هي ما يعلوها. وبالاستطراد في هذا المعنى سنجد أن السماء – التي تفارق جنس الأرض ومادتها من أجرام - هي ما خلا الأجرام من حيوز فضائية. وهي ما تسمى الآن (الحيوز الفضائية البين كوكبية
interplanetary space) و(الحيوز الفضائية البين نجمية
interstellar space ) و(الحيوز الفضائية البين مجرية
intergalactic space)، ثم الحيوز الكبرى وراء الأجرام جميعاً مما لا نعلم.
فإن قيل: وما يمنع أن هذا التخليق المشار إليه للعناصر المادية الموجودة في الأرض قد نشأ في ذات جرم الأرض. نقول أن هذا لا يمكن، لأن كتلة الأرض لا تتحمل هذا التخليق لأن كتلة الجرم عامل أساسي في صلاحيته لتخليق العناصر في قلبه من عدمه. فهذه الشمس مع عظم جرمها بالنسبة للأرض (كتلة الشمس = كتلة 333 ألف أرض)، لا يمكن أن ينشأ بداخلها إلا أوائل عناصر الكيميائية وخاصة الهيليوم، ثم نتف من العناصر فوق الهيليوم، فما البال بالعناصر الأثقل؟!، بل ما البال بالحديد وما فوقه والتي تحتاج إلى مستعرات عظمى تستدعي حرارة تصل إلى المليارات. وإذا أضفنا إلى ذلك أن العناصر تتخلق من بعضها، وأن النجوم مستويات في عظم الكتلة وإنتاجية العناصر، فمعنى ذلك أن العناصر جميعها لا يمكن أن تكون قد تخلقت في قلب نجم واحد، بل تعاقب عليها التخليق في نجوم وراء نجوم، مثلما تجد أن سيارتك قد تم تجميعها في مصنع، وقبله تم تصنيع كل مكون منها أو أكثر في مصنع أسبق منه وربما تجد وراء ذلك مصانع أخرى. فكذلك مادة الأرض، مرت على سلسلة من النجوم المتعاقبة حتى تكاملت على ما هي عليه بجميع العناصر المجدولة في الجدول الدوري.
أما جرم الأرض (والذي لا يمكن أن يكون قد مر عليها زمن وكانت فيه أكبر كتلة مما هي عليه) فلا يمكن أن ينشأ بداخله أي تفاعل نووي منتج للعناصر. ومن ثم فالعناصر المحتواة فيه قد أتته حتماً من خارجه في مراحل تشكله.
والنتيجة:
الوجه الأول والذي يقول بأن أرضنا التي نمشي عليها هي ما خُلق محتواها المعهود قبل كل ما عداها – قول مرجوح.
الوجه الثاني والذي يقول أن (ما في الأرض جميعا) هو المحتوى المادي حيثما يوجد في الكون وأنه خلق أولاً – هو القول الراجح.
وبناءاً عليه، فارضنا التي نمشي عليها قد خُلقت بعد النجوم وليس قبلها. مثلما أن الخبز قد صنع بعد صنع الطحين وليس قبله.
ملاحظات:
1- يمكن تصنيع عينات بسيطة من العناصر الكيميائية جميعاً في المعامل النووية بعضها من بعض بتهيئة ظروف التفاعل المطلوبة. بل أن الذهب والبلاتين أيضاً يمكن تصنيعهما كما في
براءة الاختراع هذه. وينتج الذهب من صهر أنوية الليثيوم والأوزميوم، وينتج البلاتين من صهر أنوية الهيليوم والأوزميوم. غير أن تكلفة الإنتاج باهظة للغاية كما هو معلوم وتفوق كثيراً سعر الذهب الطبيعي. كما أن المعامل النووية تنتج من وقت لآخر عناصر كيميائية مُخلَّقة غير معهودة على الأرض لسرعة انحلالها،
ينظر هنا. وجاءت أحدث العناصر المخلقة في عام 2010 وهما العنصران المسميان:
موسكوفيوم، و
تينيسين. ومن الواضح أن الأول سمي على إسم (موسكو) والثاني عل إسم ولاية تينيسي الأمريكية.
2- أخشى أن يخرج علينا من يخاصمنا ويقول إن الله تعالى قادر على أن يخلق ما في الأرض من ماء وصخور وأشجار .. إلخ على ما هي عليه بلا نجوم . وهذا يفند كلامك.
أقول له: أعلم أن الله على كل شيء قدير، ولو كان ما تقوله هو الحاصل لما استغرق خلق والأرض يومين. ولكن الحاصل أن الله تعالى قد خلق الخلق بأسباب وسنن، أشار إليها وحثنا على معرفتها، كما في قوله تعالى "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق". ولو لم يكن هناك من أسباب وسنن لما أمكن للإنسان أن يتعقبها سبب وراء سبب حتى يصل إلى بدايتها. ولتعطلت الآيات. ومثل هذا الاحتجاج لا يصدر إلا من مُعَطِّلة، وأقصد بهم من يعطلنا عن فهم آيات ربنا جل وعلا على وجهها الأمثل، استصحاباً بما يستجد من العلم وبالراجح من الأدلة.
هذا والله تعالى أعلم،،،