الجوهرة الرابعة عشر بعد الاربعمائة
{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ }
قال السمين فی دره
والضميرُ في " أنهم " عائدٌ على معنى " كم " وفي " إليهم " عائدٌ على ما عاد عليه واو " يَرَوْا ". وقيل: بل الأولُ عائدٌ على ما عاد عليه واو " يَرَوْا ". والثاني عائدٌ على المُهْلَكين.
وقال البقاعی فی نظم الدرر
وضمير { أنهم } للمرسل إليهم، وضمير { إليهم } للرسل، لا يشك في هذا من له ذوق سليم وطبع مستقيم، والتعبير بالمضارع للدلالة على إمهالهم والتأني بهم والحلم عنهم مع تماديهم في العناد بتجديد عدم الرجوع، و { يرجعون } هنا نحو قوله تعالى
{ ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون }
[السجدة: 21] أي عن طرقهم الفاسدة - وهذا معنى الآية بغير شك، وليس بشيء قول من قال: المعنى أن المهلكين لا يرجعون إلى الدنيا ليفيد الرد على من يقول بالرجعة لأن العرب ليست ممن يعتقد ذلك، ولو سلم لم يحسن، لأن السياق ليس له، لم يتقدم عنهم غير الاستهزاء، فأنكر عليهم استهزاءهم مع علمهم بأن الله تعالى أجرى سنته أن من استهزأ بالرسل وخالف قولهم فلم يرجع إليه أهلكه، أطرد ذلك من سنته ولم يتخلف في أمة من الأمم كما وقع لقوم نوح وهود ومن بعدهم، لم يتخلف في واحدة منهم، وكلهم تعرف العرب أخبارهم، وينظرون آثارهم، وكذا يعرفون قصة موسى عليه السلام مع فرعون, فالسياق للتهديد, فصار المعنى: ألم ير هؤلاء كثرة من أهلكنا ممن قبلهم لمخالفتهم للرسل، أفلا يخشون مثل ذلك في مخالفتهم لرسولهم؟ وذلك موافق لقراءة الكسر التي نقلها البرهان السفاقسي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره عن الحسن، وقالوا: إنها استئنافية، فهي على تقدير سؤال من كأنه قال: لم أهلكهم؟ وهذا كما إذا شاع أن الوادي الفلاني ما سلكه أحد إلا أصيب، يكون ذلك مانعاً عن سلوكه، وإن أراد ذلك أحد صح أن يقال له: ألم تر أنه ما سلكه أحد إلا هلك، فيكون ذلك زاجراً له ورادّاً عن التمادي فيه، لكون العلة في الهلاك سلوكه فقط، وذلك أكف له من أن يقال له: ألم تر أن الناس يموتون وكثرة من مات منهم ولم يرجع أحد منهم، غير معلل ذلك بشيء من سلوك الوادي ولا غيره، فإن هذا أمر معلوم له، غير مجدد فائدة، وزيادة عدم الرجوع إلى الدنيا لا دخل لها في العلية أيضاً لأن ذلك معلوم عند المخاطبين بل هم قائلون بأعظم منه من أنه لا حياة بعد الموت لا إلى الدنيا ولا إلى غيرها، وعلى تقدير التسليم فربما كان ذكر الرجوع للأموات أولى بأن يكون تهديداً، فإن كل إنسان منهم يرجع حينئذ إلى ما في يد غيره مما كان مات عليه ويصير المتبوع بذلك تابعاً أو يقع الحرب وتحصل الفتن، فأفاد ذلك أنه لا يصلح التهديد بعدم الرجوع - والله الموفق للصواب....
وقال الالوسي
وقال الجلبي: لعل الحق أن يجعل أول الضميرين لمعنى { كَمْ } وثانيهما للرسل وأن وصلتها مفعولاً لأجله لأهلكناهم، والمعنى أهلكناهم لاستمرارهم على عدم الرجوع عن عقائدهم الفاسدة إلى الرسل وما دعوهم إليه فاختيار { لاَ يَرْجِعُونَ } على لم يرجعوا للدلالة على استمرار النفي مع مراعاة الفاصلة انتهى. وهو على بعده ركيك معنى، وأرك منه ما قيل الضميران على ما يتبادر فيهما من رجوع الأول لمعنى { كَمْ } والثاني لمن نسبت إليه الرؤية وأن وصلتها علة لأهلكنا، والمعنى أنهم لا يرجعون إليهم فيخبروهم بما حل بهم من العذاب وجزاء الاستهزاء حتى ينزجر هؤلاء فلذا أهلكناهم، ونقل عن الفراء أنه يعمل { يَرَوْاْ } في { كَمْ أَهْلَكْنَا } وفي { أَنَّهُمْ } الخ من غير إبدال ولم يبين كيفية ذلك.
وزعم ابن عطية أن (أن) وصلتها بدل من { كَمْ } ولا يخفى أنه إذا جعلها معمول { أَهْلَكْنَا } كما هو المعروف لا يسوغ ذلك لأن البدل على نية تكرار العامل ولا معنى لقولك أهلكنا أنهم لا يرجعون ولعله تسامح في ذلك، والمراد بدل من { كَمْ أَهْلَكْنَا } على المعنى كما حكي عن سيبويه، وأما جعل { كَمْ } معمولة ليروا والإبدال منها نفسها إذ ذاك فلا يخفى حاله، وقال أبو حيان: الذي تقتضيه صناعة العربية أن { أَنَّهُمْ } الخ معمول لمحذوف دل عليه المعنى وتقديره قضينا أو حكمنا أنهم إليهم لا يرجعون والجملة حال من فاعل { أَهْلَكْنَا } على ما قال الخفاجي وأراه أبعد عن القيل والقال بيد أن في الدلالة على المحذوف خفاء فإن لم يلصق بقلبك لذلك فالأقوال بين يديك ولا حجر عليك. وكأني بك تختار ما نقل عن السيرافي ولا بأس به.
وجوز على بعض الأقوال أن يكون الضمير في { أَنَّهُمْ } عائداً على من أسند إليه { يَرَوْاْ } وفي { إِلَيْهِمُ } عائداً على المهلكين، والمعنى أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم والإهلاك مع قطع النسل أتم وأعم، ويحسن هذا على الوجه المحكي عن السيرافي.
{ لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }
قال الالوسي
...وفي الاستدلال بالآية بحث ظاهر وأما بالحساب فله وجه في الجملة. ورأى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار وله موافقة لما ذكر، والذي يغلب على الظن عدم صحة الخبر من مبتدئه فالرضى أجل من أن يستدل بالآية على ما سمعت من دعواه.
وفهم الإمام من قوله تعالى: { وَلاَ ٱلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ } أن الليل مسبوق لا سابق ومن قوله سبحانه:
{ يُغْشِي ٱلْلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً }
[الأعراف: 54] أن الليل سابق لأن النهار يطلبه، وأجاب عما يلزم عليه من كون الليل سابقاً مسبوقاً بأن المراد من الليل هنا آيته وهو القمر وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية والمراد من الليل هناك نفس الليل وكل واحد لما كان في عقب الآخر كان طالبه. وتعقبه أبو حيان بأن فيه جعل الضمير الفاعل في { يَطْلُبُهُ } عائداً على النهار وضمير المفعول عائداً على { ٱلَّيْلَ } والظاهر أن ضمير الفاعل عائد على ما هو الفاعل في المعنى وهو الليل لأنه كان قبل دخول همزة النقل { ٱيُغْشِي ٱلْلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ } وضمير المفعول عائد على { ٱلنَّهَارَ } لأنه المفعول قبل النقل وبعده وحينئذٍ كلتا الآيتين تفيد أن النهار سابق فلا سؤال انتهى. فتأمل ولا تغفل.