اكثر من اربعمائة جوهرة من جواهر الضمائر فی كتاب الله

الجوهرة الخامسة والثلاثون بعد الثلاثمائة

إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ }

قال ابو حيان فى بحره:

{ بما استحفظوا من كتاب الله } الباء في بما للسبب، وتتعلق بقوله: يحكم. واستفعل هنا للطلب، والمعنى: بسبب ما استحفظوا. والضمير في استحفظوا عائد على النبيين والربانيين والأحبار أي: بسبب ما طلب الله منهم حفظهم لكتاب الله وهو التوراة، وكلفهم حفظها، وأخذ عهده عليهم في العمل بها والقول بها، وقد أخذ الله على العلماء حفظ الكتاب من وجهين: أحدهما: حفظه في صدورهم ودرسه بألسنتهم. والثاني: حفظه بالعمل بأحكامه واتباع شرائعه. وهؤلاء ضيعوا ما استحفظوا حتى تبدلت التوراة. وفي بناء الفعل للمفعول وكون الفعل للطلب ما يدل على أنه تعالى لم يتكفل بحفظ التوراة، بل طلب منهم حفظها وكلفهم بذلك، فغيروا وبدلوا وخالفوا أحكام الله بخلاف كتابنا، فإنّ الله تعالى قد تكفل بحفظه، فلا يمكن أن يقع فيه تبديل ولا تغيير. قال تعالى:
{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }
[الحجر: 9] وقيل: الضمير في استحفظوا عائد على الربانيين والأحبار فقط. والذين استحفظهم التوراة هم الأنبياء.

{ وكانوا عليه شهداء } الظاهر أنّ الضمير عائد على كتاب الله أي: كانوا عليه رقباء لئلا يبدل. والمعنى يحكم بأحكام التوراة النبيون بين موسى وعيسى، وكان بينهما ألف نبي للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم، وإبائهم عليهم ما اشتهوه من الجلد. وقيل: الهاء تعود على الحكم أي: وكانوا شهداء على الحكم. وقيل: عائد على الرسول أي: وكانوا شهداء على أنه نبي مرسل.
 
الجوهرة السادسة والثلاثون بعد الثلاثمائة

{ وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وٱلأَبْرَصَ وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }

{ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وَٱلأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }

قال ابو حيان فى بحره فى تفسير الاية الثانية:

والضمير في { فيها } قال ابن عطية اضطرب المفسرون فيه قال مكي هو في آل عمران عائد على الطائر وفي المائدة عائد على الهيئة، قال ويصح عكس هذا وقال غيره الضمير المذكور عائد على { الطين }.

قال ابن عطية ولا يصح عود هذا الضمير لا على الطين ولا على الهيئة لأن الطير أو الطائر الذي يجيء الطير على هيئته لا نفخ فيه ألبتة، وكذلك لا نفخ في هيئته الخاصة به وكذلك الطين إنما هو الطين العام ولا نفخ في ذلك انتهى.

وقال الزمخشري ولا يرجع بعض الضمير إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء وكذلك الضمير في يكون انتهى.

والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام مكي أنه لا يريد به ما فهم عنه بل يكون قوله عائداً على الطائر لا يريد به الطائر المضاف إليه الهيئة بل الطائر الذي صوره عيسى ويكون التقدير وإذ يخلق من الطين طائراً صورة مثل صورة الطائر الحقيقي فينفخ فيه فيكون طائراً حقيقة بإذن الله. ويكون قوله عائداً على الهيئة لا يريد به الهيئة المضافة إلى الطائر، بل الهيئة التي تكون الكاف صفة لها ويكون التقدير، وإذ تخلق من الطين هيئة مثل هيئة الطير، { فتنفخ فيها } أي في الهيئة الموصوفة بالكاف المنسوب خلقها إلى عيسى، وأما قول مكي ويصح عكس هذا، وهو أن يكون الضمير المذكر عائداً على الهيئة والضمير المؤنث عائداً على الطائر فيمكن تخريجه على أنه ذكر الضمير وإن كان عائداً على مؤنث لأنه لحظ فيها معنى الشكل كأنه قدر هيئة كهيئة الطير بقوله شكلاً كهيئة الطير وأنه أنث الضمير وإن كان عائداً على مذكر لأنه لحظ فيه معنى الهيئة. قال ابن عطية والوجه عود ضمير المؤنث على ما تقتضيه الآية ضرورة، أي صوراً أو أشكالاً أو أجساماً، وعود الضمير المذكر على المخلوق الذي يقتضيه تخلق ثم قال ولك أن تعيده على ما تدل عليه الكاف في معنى المثل، لأن المعنى وإذ تخلق من الطين مثل هيئة ولك أن تعيد الضمير على الكاف نفسه فيكون اسماً في غير الشعر، فهو قول أبي الحسن وحده من البصريين وكذا قال الزمخشري، إن الضمير في { فيها } للكاف قال لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها
 
الجوهرة السابعة والثلاثون بعد الثلاثمائة

فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } * { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

والضمير في " يروا " قيل: عائد على المستهزئين، والخطاب في " لكم " راجع إليهم أيضاً فيكون على هذا التفاتاً فائدتُه التعريض بقلَّة تمكُّن هؤلاء ونَقْصِ أحوالهم عن حال أولئك، ومع تمكينهم وكثرتهم فقد حَلَّ بهم الهلاك فكيف وأنتم أقلُّ منهم تمكيناً وعَدَداً؟ وقال ابن عطية: " والمخاطبة في " لكم " هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم ولسائر الناس كافة،

الجوهرة الثامنة والثلاثون بعد الثلاثمائة

وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيْطَٰنُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ٱلذِّكْرَىٰ مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله: { غَيْرِهِ } الهاء فيها وجهان، أحدهما: أنه تعود على الآيات، وعاد مفرداً مذكراً؛ لأن الآيات في معنى الحديث والقرآن. وقيل: إنها تعود على الخوض أي: المدلول عليه بالفعل كقوله:
1947- إذا نُهِي السَّفيهُ جرى إليه وخالف والسفيهُ إلى خلافِ
أي: جرى إلى السَّفه، دل عليه الصفة كما دل الفعل على مصدره أي: حتى يخوضوا في حديث غيرِ الخوض.

الجوهرة التاسعة والثلاثون بعد الثلاثمائة

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدةً قُلِ ٱللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَىٰ قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله: { وَمَن بَلَغَ } فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أنه في محل نصب عطفاً على المنصوب في " لأُنْذِرَكم " وتكون " مَنْ " موصولة والعائدُ عليها مِنْ صلتها محذوف أي: ولأنذَر الذي بلغه القرآن.

والثاني: أنَّ في " بَلَغ " ضميراً مرفوعاً يعود على " مَنْ " ويكون المفعولُ محذوفاً، وهو منصوب المحل أيضاً نسقاً على مفعول " لأنذركم " ، والتقدير: ولأنذر الذي بَلَغ الحُلُمَ، فالعائد هنا مستتر في الفعل.

والثالث: أن " مَنْ " مرفوعةُ المحلِّ نَسَقاً على الضمير المرفوع في " لأنذرَكم " وجاز ذلك لأنَّ الفصلَ بالمفعول والجارِّ والمجرور أغنى عن تأكيده، والتقدير: لأنذركم به ولينذركم الذي بلغه القرآن.

ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

قال ابن الجوزى فى زاد المسير:

وفي هاء «يعرفونه» ثلاثة أقوال.

أحدها: أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قاله السدي. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال لعبد الله بن سلام: إن الله قد أنزل على نبيه بمكة
{ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم }
[البقرة: 147، الأنعام: 21] فكيف هذه المعرفة؟ فقال: لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ولأَنَا أشد معرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم مني بابني، فقال عمر: وكيف ذاك؟ فقال: إني أشهد أنه رسول الله حقا ولا أدري ما يصنع النساء.

والثاني: أنها ترجع إلى الدين والنبي. فالمعنى: يعرفون الإِسلام أنه دين الله عز وجل، وأن محمداً رسول الله، قاله قتادة.

والثالث: أنها ترجع إلى القرآن. فالمعنى: يعرفون الكتاب الدال على صدقه؛ ذكره الماوردي.

{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }

قال ابو حيان فى بحره:

والظاهر أن الضمير في قوله: { وهم } يعود على الكفار وهو قول الجمهور،

واختاره الطبري وفي قوله: { عنه } يعود إلى القرآن وهو الذي عاد عليه الضمير المنصوب في { يفقهوه } وهو المشار إليه بقولهم { إن هذا } وهو قول قتادة ومجاهد، والمعنى أنهم { ينهون } غيرهم عن اتباع القرآن وتدبر و { ينأون } بأنفسهم عن ذلك. وقيل: الضمير في { عنه } عائد على الرسول إذ تقدم ذكره في قوله: { ومنهم من يستمع إليك وحتى إذا جاؤوك يجادلونك } فيكون ذلك التفاتاً وهو خروج من خطاب إلى غيبة، والضمير في { وهم } عائد على الكفار المتقدم ذكرهم، والمعنى أنهم جمعوا بين تباعدهم عن الرسول بأنفسهم ونهى غيرهم عن اتباعه فضلوا وأضلوا، وتقدم أن هذا القول هو أحد ما ذكر في سبب النزول. وقيل: الضمير في { وهم } عائد على أبي طالب ومن وافقه على حماية الرسول والضمير في { عنه } عائد على الرسول، والمعنى { وهم ينهون عنه } من يريد إذايته ويبعدون عنه بترك إيمانهم به واتباعهم له فيفعلون الشيء وخلافه، وهو قول ابن عباس وأيضاً والقاسم بن محمد وحبيب بن أبي ثابت وعطاء بن دينار ومقاتل وهذا القول أحد ما ذكر في سبب النزول
 
الجوهرة الاربعون بعد الثلاثمائة

{ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }

قال الالوسي فى تفسيره:

والضمير المرفوع لرؤساء الكفار والمجرور لأتباعهم أي ظهر للتابعين ما كان الرؤساء المتبوعون يخفونه في الدنيا عنهم من أمر البعث والنشور، ونسب إلى الحسن واختاره الزجاج.

وقيل: الآية في المنافقين، والضمير المرفوع لهم، والمجرور للمؤمنين، والمراد بالموصول الكفر أي بل ظهر للمؤمنين ما كان المنافقون يخفونه من الكفر ويكتمونه عنهم في الدنيا، وقيل: هي في أهل الكتاب مطلقاً أو علمائهم، والذي أخفوه نبوة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، والضميران المرفوع والمجرور لهم وللمؤمنين أو للخواص والعوام
 
الجوهرة الواحدة والاربعون بعد الثلاثمائة

{ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله: { إِلَيْهِ } فيما يتعلق به وجهان، أحدهما: أن يتعلق بـ " تَدْعون " ، والضمير حينئذ يعود على " ما " الموصولة أي: الذي تدعون إلى كَشْفِه، و " دعا " بالنسبة إلى متعلِّق الدعاء يتعدى بـ " إلى " أو اللام.

قال تعالى:
{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ }
[فصلت: 33]
{ وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ }
[النور: 48] وقال:
1924- وإن أُدْعَ للجُلَّى أكنْ مِنْ حُماتها ........................
وقال:
1925- وإنْ دَعَوْتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ يوماً سَراةَ كرامِ الناس فادْعِينا
وقال:
1926- دعوتُ لِما نابني مِسْوَراً فَلَبِّيْ فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ
والثاني: أن يتلعَّق بـ " يَكْشِفُ " قال أبو البقاء: " أي: يرفعه إليه " انتهى. والضميرُ على هذا عائد على الله تعالى، وذكر ابو البقاء وجهَي التعلق ولم يَتَعرَّضْ للضمير وقد عَرَفْتَه. وقال ابن عطية: " والضمير في " إليه " يُحتمل أن يعودَ إلى الله بتقدير: فيكشف ما تدعون فيه إليه " قال الشيخ: " وهذا ليس بجيد؛ لأنَّ " دعا " يتعدى لمفعول به دون حرف جر:
{ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ }
[غافر: 60]
{ إِذَا دَعَانِ }
[البقرة: 186] ومن كلام العرب: " دعوتُ الله سميعاً " قلت: ومثلُه:
{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ }
[الإِسراء: 110]
{ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً }
[الأعراف: 55] قال: ولا تقول بهذا المعنى: " دعوت إلى الله " بمعنى: دعوت الله، إلا أنه يمكن أن يُصَحَّح كلامُه بمعنى التضمين، ضمَّن " تدعون " معنى " تلجَؤون فيه إلى الله " إلا أنَّ التضمين ليس بقياس، لا يُصارُ إليه إلا عند الضرورة، ولا ضرورةَ تدعو إليه هنا ".

قلت: ليس التضمين مقصوراً على الضرورة، وهو في القرآن أكثر من أن يُحْصَر، تقدَّم لك منه جملةٌ صالحة، وسيأتي لك إن شاء الله مثلُها، على أنه قد يقال تجويزُ أبي محمد عَوْدَ الضمير إلى الله تعالى محمولٌ على أن " إليه " متعلق بيكشف، كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي البقاء وأن معناه " يرفعه " فلا يلزم المحذورُ المذكور، لولا أنه يُعَكِّر عليه تقديرُه بقوله " تدعون فيه إليه " فتقديره " فيه " ظاهره أنه يزعمُ تعلُّقَه بـ " تَدْعُون ".

وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـٰكِن ذِكْرَىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

قال ابن عاشور فى التحرير:

وضمير { لعلَّهم يتَّقون } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { حسابهم } أي لعلّ الذين يخوضون في الآيات يتَّقون، أي يتركون الخوض. وعلى هذا فالتقوى مستعملة في معناها اللغوي دون الشرعي. ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى { الذين يتَّقون } ، أي ولكن عليهم الذكرى لعلَّهم يتَّقون بتحصيل واجب النهي عن المنكر أو لعلَّهم يستمرّون على تقواهم.
 
الجوهرة الثانية والاربعون بعد الثلاثمائة

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } * { وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } * {وَإِسْمَاعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَالَمِينَ }

قال ابن الجوزى فى زاد المسير:

قوله تعالى: { ومن ذرَّيته } في «هاء الكناية» قولان.

أحدهما: أنها ترجع إلى نوح؛ رواه أبو صالح عن ابن عباس. واختاره الفراء، ومقاتل، وابن جرير الطبري.

والثاني: إلى إبراهيم، قاله عطاء. وقال الزجاج: كلا القولين جائز، لأن ذكرهما جميعاً قد جرى، واحتج ابن جرير للقول الأول بأن الله تعالى، ذكر في سياق الآيات لوطاً، وليس من ذرية إبراهيم. وأجاب عنه أبو سليمان الدمشقي بأنه يحتمل أن يكون أراد: ووهبنا له لوطاً في المعاضدة والنصرة،
 
الجوهرة الثالثة والاربعون بعد الثلاثمائة

مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }

قال السمين الحلبي فى الدرالمصون:
قوله: " مِنْهم " " مِنْ " هذه للبيانِ لا للتبعيضِ؛ لأنَّ كلَّهم كذلك فهي كقولِه:
{ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ }
[الحج: 30]. وقال الطبري: " منهم أي: من الشَّطْء الذي أخرجه الزرعُ، وهم الداخلون في الإِسلامِ إلى يومِ القيامة " ، فأعاد الضميرَ على معنى الشَّطْءِ، لا على لفظِه، وهو معنى حسنٌ
 
الجوهرة الرابعة والاربعون بعد الثلاثمائة

ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ}

قال ابن الجوزى فى زاد المسير:

قوله تعالى: { مَثَل نُوره } في هاء الكناية أربعة أقوال.

أحدها: أنها ترجع إلى الله عز وجل، قال ابن عباس: مَثَلُ هُدَاه في قلب المؤمن.

والثاني: أنها ترجع إِلى المؤمن، فتقديره: مَثَل نُور المؤمن، قاله أُبيّ ابن كعب. وكان أُبيّ وابن مسعود يقرآن: { مثل نُور مَنْ آمن به }.

والثالث: أنها ترجع إِلى محمد صلى الله عليه وسلم، قاله كعب.

والرابع: أنها ترجع إِلى القرآن، قاله سفيان.
 
الجوهرة الخامسة والاربعون بعد الثلاثمائة

الضمائر والقراءات

{ ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ }


قال السمين فی الدر المصون

قولِه: { يُوقَدُ } قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو " تَوَقَّدَ " بزنة تَفَعَّلَ فعلاً ماضياً فيه ضميرُ فاعِله يعودُ على المصباح، ولا يعودُ على " كوكب " لفسادِ المعنىٰ. والأخوان وأبو بكر " تُوْقَدُ " بضم التاءِ مِنْ فوقُ وفتح القافِ، مضارعَ أَوْقَدَ. وهو مبنيٌّ للمفعولِ. والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على " زجاجة " فاسْتَتَرَ في الفعل. وباقي السبعةِ كذلك إلاَّ أنَّه بالياءِ من تحتُ.

والضميرُ المستترُ يعودُ على المصباح.

وقرأ الحسن والسلمي وابن محيصن، ورُوِيَتْ عن عاصم من طريقِ المفضِّلِ كذلك، إلاَّ أنَّه ضَمَّ الدال، جعله مضارع " تَوَقَّدَ " ، والأصلُ: تَتَوَقَّد بتاءَيْن، فحُذِفَ إحداهما كـ " تَذَكَّرُ ". والضميرُ أيضاً للزُّجاجة......
 
الجوهرة السادسة والاربعون بعد الثلاثمائة

وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } * { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ } * { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ }

قال السمين الحلبي فى دره المصون:

. وفي فاعِل " يَنْطِق " وجهان، أحدُهما: هو ضميرُ النبيِّ عليه السلام، وهو الظاهرُ. والثاني: أنه ضميرُ القرآنِ كقولِه:
{ هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ }
[الجاثية: 29].

قوله: { إِنْ هُوَ }: أي: إنْ الذي يَنْطِق به، أو إنْ القرآنُ.
 
الجوهرة السابعة والاربعون بعد الثلاثمائة

عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ }

قال ابو حيان فى بحره:

{ علمه }: الضمير عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم، فالمفعول الثاني محذوف، أي علمه الوحي. أو على القرآن، فالمفعول الأول محذوف، أي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم

وقال الماتريدى فى تفسيره:
وإلا جائز أن يصرف قوله تعالى: { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } إلى الله تعالى؛ إذ الله تعالى قد أضاف تعليمه إلى نفسه بقوله - عز وجل -:
{ ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ }
[الرحمن: 1-2] لكن أبان بقوله: { ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ }: أن المراد

غيره؛ إذ هو لا يوصف بأنه { ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ } ، وهو جبريل - عليه السلام - على ما قال أهل التأويل.
ثم أضاف التعليم مرة إلى جبريل - عليه السلام - ومرة إلى نفسه، فالإضافة إلى جبريل - صلوات الله عليه - لما منه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقف.

والإضافة إلى الله تعالى تخرج على وجهين:

أحدهما: أضاف إلى نفسه؛ لما أنه هو الباعث لجبريل إليه، والآمر له بالتعليم، والخالق لفعل التعليم من جبريل، عليه السلام.

والثاني: لما يكون من الله - سبحانه وتعالى - من اللطف الذي يحصل به العلم عند التعليم؛ ولهذا يختلف المتعلمون في حصول العلم مع التساوي في التعليم؛ لاختلافهم في آثار اللطف، والله الموفق.

وقال ابن عطية فى المحرر الوجيز:

والضمير في قوله: { علمه } يحتمل أن يكون للقرآن، والأظهر أنه لمحمد صلى الله عليه وسلم. وأما المعلم فقال قتادة والربيع وابن عباس: هو جبريل عليه السلام، أي علم محمداً القرآن. وقال الحسن المعلم الشديد القوى هو الله تعالى. و { القوى } جمع قوة،
 
الجوهرة الثامنة والاربعون بعد الثلاثمائة

ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ }

قال القرطبي فى تفسيره:

{ فَٱسْتَوَىٰ } يعني الله عز وجل؛ أي ٱستوى على العرش. روي معناه عن الحسن. وقال الربيع بن أنس والفراء: { فَٱسْتَوَىٰ } { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } أي ٱستوى جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وهذا على العطف على المضمر المرفوع بـ «ـهو». وأكثر العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أظهروا كناية المعطوف عليه؛ فيقولون: ٱستوى هو وفلان؛ وقلما يقولون ٱستوى وفلان؛ وأنشد الفرّاء:
أَلَمْ تَرَ أَنّ النَّبْعَ يَصلُبُ عُودُهُ ولا يَسْتوِي والخِرْوَعُ المتقصِّفُ
أي لا يستوى هو والخِروع؛ ونظير هذا:
{ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ }
[النمل: 67] والمعنى أئذا كنا تراباً نحن وآباؤنا. ومعنى الآية: ٱستوى جبريل هو ومحمد عليهما السلام ليلة الإسراء بالأفق الأعلى. وأجاز العطف على الضمير لئلا يتكرر. وأنكر ذلك الزجاج إلا في ضرورة الشعر. وقيل: المعنى فٱستوى جبريل بالأفق الأعلى، وهو أجود. وإذا كان المستوي جبريل فمعنى «ذُوِ مرَّةٍ» في وصفه ذو منطق حسن؛ قاله ٱبن عباس. وقال قتادة: ذو خَلْق طويل حسن. وقيل: معناه ذو صحة جسم وسلامة من الآفات؛ ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: " لا تحلّ الصدقة لغنيّ ولا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ " وقال امرؤ القيس:
كنتُ فيهم أبداً ذا حِيلة مُحْكَمَ المِرَّةِ مأمُونَ الْعُقَد
وقد قيل: «ذُو مِرَّةٍ» ذو قوة. قال الكلبي: وكان من شدّة جبريل عليه السلام: أنه ٱقتلع مدائن قوم لوطٍ من الأرض السفلى، فحملها على جناحه حتى رفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نبح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها. وكان من شدّته أيضاً: أنه أبصر إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب من الأرض المقدّسة فنفحه بجناحه نفحة ألقاه بأقصى جبل في الهند، وكان من شدّته: صيحته بثمود في عددهم وكثرتهم، فأصبحوا جاثمين خامدين. وكان من شدته: هبوطه من السماء على الأنبياء وصعوده إليها في أسرع من الطرف. وقال قُطْرُب: تقول العرب لكل جَزل الرأي حصيف العقل: ذُو مِرّةٍ. قال الشاعر:
قد كنتُ قبلَ لِقاكُمُ ذا مِرَّةٍ عندي لِكلّ مُخاصِمٍ مِيزانُهُ
وكان من جزالة رأيه وحصَافة عقله: أن الله ٱئتمنه على وحيه إلى جميع رسله. قال الجوهري: والمِرَّة إحدى الطبائع الأربع، والمِرّة القوّة وشدّة العقل أيضاً. ورجل مرير أي قويّ ذوِ مرةٍ. قال:
تَرى الرَّجُل النَّحيفَ فتزدريه وحَشْوُ ثِيابِه أسدٌ مَرِيرٌ
وقال لَقِيط:
حتى ٱستمرّتْ على شَزْرٍ مَرِيرتهُ مُرُّ العزِيمةِ لا رَتًّا ولا ضَرَعَا

وقال مجاهد وقتادة: «ذُو مِرَّةٍ» ذو قوّة؛ ومنه قول خُفَاف بن نَدْبة:
إِنيّ ٱمرؤٌ ذو مِرّةٍ فاستبقِنِي فِيما يَنُوبُ مِن الخُطُوبِ صَلِيبُ
فالقوة تكون من صفة الله عز وجل، ومن صفة المخلوق. { فَٱسْتَوَىٰ } يعني جبريل على ما بينا؛ أي ٱرتفع وعلا إلى مكان في السماء بعد أن علَّم محمداً صلى الله عليه وسلم، قاله سعيد بن المسيِّب وٱبن جبير. وقيل: { فَٱسْتَوَىٰ } أي قام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها؛ لأنه كان يأتي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة الأدميين كما كان يأتي إلى الأنبياء، فسأله النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه التي جبله الله عليها فأراه نفسه مرتين: مرة في الأرض ومرة في السماء؛ فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم بحراءٍ، فطلع له جبريل من المشرق فسد الأرض إلى المغرب، فخر النبيّ صلى الله عليه وسلم مغشيًّا عليه، فنزل إليه في صورة الآدميين وضمّه إلى صدره، وجعل يمسح الغبار عن وجهه؛ فلما أفاق النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " يا جبريل ما ظننت أن الله خلق أحداً على مثل هذه الصورة " فقال: يا محمد إنما نشرت جناحين من أجنحتي وإن لي ستمائة جناح سَعَة كل جناح ما بين المشرق والمغرب. فقال: «إن هذا لعظيم» فقال: وما أنا في جنب ما خلقه الله إلا يسيراً، ولقد خلق الله إسرافيل له ستمائة جناح، كل جناح منها قدر جميع أجنحتي، وإنه ليتضاءل أحياناً من مخافة الله تعالى حتى يكون بقدر الوصَع. يعني العصفور الصغير؛ دليله قوله تعالى:
{ وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ }
[التكوير: 23] وأما في السماء فعند سِدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا محمداً صلى الله عليه وسلم. وقول ثالث أن معنى «فَاسْتَوَى» أي ٱستوى القرآن في صدره. وفيه على هذا وجهان: أحدهما في صدر جبريل حين نزل به عليه. الثاني في صدر محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه. وقول رابع أن معنى «فَاسْتَوَى» فاعتدل يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. وفيه على هذا وجهان: أحدهما فاعتدل في قوّته. الثاني في رسالته. ذكرهما الماوردي.

قلت: وعلى الأوّل يكون تمام الكلام «ذُو مرَّةٍ»، وعلى الثاني «شَدِيدُ الْقُوَى». وقول خامس أن معناه فارتفع. وفيه على هذا وجهان: أحدهما أنه جبريل عليه السلام ٱرتفع إلى مكانه على ما ذكرنا آنفاً. الثاني أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم ٱرتفع بالمعراج. وقول سادس «فَاسْتَوَى» يعني الله عز وجل، أي ٱستوى على العرش على قول الحسن. وقد مضى القول فيه في «الأعراف».
 
الجوهرة التاسعة والاربعون بعد الثلاثمائة


{ وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ }

قال القرطبي فى تفسيره:

قوله تعالى: { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } جملة في موضع الحال، والمعنى فاستوى عالياً، أي ٱستوى جبريل عالياً على صورته ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يراه عليها حتى سأله إياها على ما ذكرنا.

والأفق ناحية السماء وجمعه آفاق. وقال قتادة: هو الموضع الذي تأتي منه الشمس. وكذا قال سفيان: هو الموضع الذي تطلع منه الشمس. ونحوه عن مجاهد. ويقال: أفْق وأُفُق مثل عُسْر وعُسُر. وقد مضى في «حم السجدة». وفرس أُفُق بالضم أي رائع وكذلك الأنثى؛ قال الشاعر:
أرجِّلُ لِمَّتِي وَأَجُرُّ ذَيْلِي وتَحمِلُ شِكَّتِي أُفُقٌ كُمَيْتُ
وقيل: «وَهُوَ» أي النبيّ صلى الله عليه وسلم { بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } يعني ليلة الإسراء وهذا ضعيف؛ لأنه يقال: ٱستوى هو وفلان، ولا يقال ٱستوى وفلان إلا في ضرورة الشعر. والصحيح ٱستوى جبريل عليه السلام وجبريل بالأفق الأعلى على صورته الأصلية؛ لأنه كان يتمثل للنبيّ صلى الله عليه وسلم إذا نزل بالوحي في صورة رجل، فأحبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يراه على صورته الحقيقية، فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق.

وقال الطبري فى تفسيره:

وقوله: { فاسْتَوَى وَهُوَ بالأُفُقِ الأعْلَى } يقول: فاستوى هذا الشديد القويّ وصاحبكم محمد بالأفق الأعلى، وذلك لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم استوى هو وجبريل عليهما السلام بمطلع الشمس الأعلى، وهو الأفق الأعلى، وعطف بقوله: «وهو» على ما في قوله: «فاستوى» من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، والأكثر من كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أن يظهروا كناية المعطوف عليه، فيقولوا: استوى هو وفلان، وقلَّما يقولون استوى وفلان وذكر الفرّاء عن بعض العرب أنه أنشده:

ألَمْ تَرَ أنَّ النَّبْعَ يَصْلُبُ عُودُهُ وَلا يَسْتَوِي وَالخِرْوعُ المُتَقَصِّفُ
فردّ الخروع على «ما» في يستوي من ذكر النبع، ومنه قوله الله:
{ أئِذَا كُنَّا تُرَاباً وآباؤُنا }
فعطف بالآباء على المكنيّ في كنا من غير إظهار نحن، فكذلك قوله: { فاسْتَوَى وَهُوَ } ، وقد قيل: إن المستوي: هو جبريل، فإن كان ذلك كذلك، فلا مُؤْنة في ذلك، لأن قوله: { وهو } من ذكر اسم جبريل، وكأن قائل ذلك وجَّه معنى قوله: { فاسْتَوَى }: أي ارتفع واعتدل.....
 
الجوهرة الخمسون بعد الثلاثمائة

ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ }

قال القرطبي فى تفسيره:

قوله تعالى: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } أي دنا جبريل بعد ٱستوائه بالأفق الأعلى من الأرض { فَتَدَلَّىٰ } فنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم بالوحي. المعنى أنه لما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم من عظمته ما رأى، وهاله ذلك ردّه الله إلى صورة آدمي حين قرب من النبيّ صلى الله عليه وسلم بالوحي، وذلك قوله تعالى: { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ } يعني أوحي الله إلى جبريل وكان جبريل { قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } قاله ٱبن عباس والحسن وقتادة والربيع وغيرهم. وعن ٱبن عباس أيضاً في قوله تعالى: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } أن معناه أن الله تبارك وتعالى «دَنَا» من محمد صلى الله عليه وسلم { فَتَدَلَّىٰ }. وروى نحوه أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. والمعنى دنا منه أمره وحكمه. وأصل التدلي النزول إلى الشيء حتى يقرب منه فوضع موضع القرب؛ قال لبِيد:
فتَدَلَّيْت عليه قافِلاً وعلى الأرض غيَابَات الطَّفَل
وذهب الفرّاء إلى أن الفاء في «فَتَدَلَّى» بمعنى الواو، والتقدير ثم تدلى جبريل عليه السلام ودنا. ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحداً أو كالواحد قدمت أيهما شئت، فقلت فدنا فقرب وقرب فدنا، وشتمني فأساء وأساء فشتمني؛ لأن الشتم والإساءة شيء واحد. وكذلك قوله تعالى:
{ ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ }
[القمر: 1] المعنى والله أعلم: ٱنشق القمر وٱقتربت الساعة. وقال الجرجاني: في الكلام تقديم وتأخير أي تدلى فدنا؛ لأن التدلّي سبب الدنوّ. وقال ٱبن الأنباري: ثم تدلّى جبريل أي نزل من السماء فدنا من محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ٱبن عباس: تدلّى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه. وسيأتي. ومن قال: المعنى فٱستوى جبريل ومحمد بالأفق الأعلى قد يقول: ثم دنا محمد من ربه دنوّ كرامة فتدلّى أي هَوَى للسجود.
وهذا قول الضحاك. قال القشيري: وقيل على هذا تدلّى أي تَدلّلَ؛ كقولك تَظَنَّى بمعنى تَظَنَّنَ، وهذا بعيد؛ لأن الدلال غير مرضيّ في صفة العبودية.

وقال ابن الجوزى الحنبلي فى زاد المسير:

وفي المشار إليه بقوله: «ثُمَّ دنا» ثلاثة أقوال.

أحدها: أنه الله عز وجل. روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث شريك بن أبي نَمِر عن أنس بن مالك قال: دنا الجبّار ربُّ العِزَّة فتدلَّى حتى كان منه قابَ قوسين أو أدنى. وروى أبو سلمة عن ابن عباس: «ثم دنا» قال: دنا ربُّه فتدلَّى، وهذا اختيار مقاتل. قال: دنا الرَّبُّ من محمد ليلةَ أُسْرِي به،، فكان منه قابَ قوسين أو أدنى. وقد كشفتُ هذا الوجه في كتاب «المُغْني» وبيَّنتُ أنه ليس كما يخطُر بالبال من قُرب الأجسام وقطع المسافة، لأن ذلك يختص بالأجسام، والله منزَّه عن ذلك.

والثاني: أنه محمد دنا من ربِّه، قاله ابن عباس، والقرظي.

والثالث: أنه جبريل. ثم في الكلام قولان.

أحدهما: دنا جبريلُ بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض، فنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن، وقتادة.

والثاني: دنا جبريلُ من ربِّه عز وجل فكان منه قابَ قوسين أو أدنى، قاله مجاهد.
 
الجوهرة الواحدة والخمسون بعد الثلاثمائة

فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ }

قال القرطبي فى تفسيره:

قوله تعالى: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } أي «كان» محمد من ربه أو من جبريل { قَابَ قَوْسَيْنِ } أي قدر قوسين عربيتين. قاله ٱبن عباس وعطاء والفرّاء. الزمخشري: فإن قلت كيف تقدير قوله: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } قلت: تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله:
وَقَدْ جَعَلَتْنِي مِن حَزِيمَةَ إِصْبِعَا
أي ذا مقدار مسافة إصبع «أَوْ أَدْنَى» أي على تقديركم؛ كقوله تعالى:
{ أَوْ يَزِيدُونَ }
[الصافات: 174]. وفي الصحاح: وتقول بينهما قابُ قَوْس، وقِيبُ قَوْس وقادَ قَوْس، وقِيدُ قَوْس؛ أي قَدْر قَوْسٍ. وقرأ زيد بن علي «قَادَ» وقرىء «قِيدَ» و «قَدْرَ». ذكره الزمخشري. وألقابُ ما بين المَقْبِض والسِّيَة. ولكل قوس قابان. وقال بعضهم في قوله تعالى: { قَابَ قَوْسَيْنِ } أراد قابي قوس فقلبه. وفي الحديث: " ولَقابُ قوسِ أحدِكم من الجنة وموضع قِدّه خيرٌ من الدنيا وما فيها " والقِدّ السوط. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " ولَقابُ قوسِ أحدِكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها " وإنما ضرب المثل بالقوس، لأنها لا تختلف في القاب. والله أعلم. قال القاضي عِياض: ٱعلم أن ما وقع من إضافة الدنوّ والقرب من الله أو إلى الله فليس بدنوّ مكانٍ ولا قرب مَدًى، وإنما دنوّ النبيّ صلى الله عليه وسلم من ربه وقرْبه منه: إبانةُ عظيم منزلته، وتشريف رتبته، وإشراق أنوار معرفته، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته. ومِن الله تعالى له: مبرةٌ وتأنيس وبسط وإكرام. ويتأوّل في قوله عليه السلام: " ينزل ربنا إلى سماء الدنيا " على أحد الوجوه: نزول إجمال وقبول وإحسان. قال القاضي: وقوله: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } فمن جعل الضمير عائداً إلى الله تعالى لا إلى جبريل كان عبارة عن نهاية القرب، ولطف المحل، وإيضاح المعرفة، والإشراف على الحقيقة من محمد صلى الله عليه وسلم، وعبارةً عن إجابة الرغبة، وقضاء المطالب، وإظهار التحفِّي، وإنافة المنزلة والقرب من الله؛ ويتأوّل فيه ما يتأوّل في قوله عليه السلام: " من تقرّب مني شبراً تقرّبت منه ذراعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً " قربٌ بالإجابة والقبول، وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول. وقد قيل: «ثُمَّ دَنَا» جبريل من ربه { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } قاله مجاهد. ويدلّ عليه ما روي في الحديث: " إن أقرب الملائكة من الله جبريل عليه السلام " وقيل: «أو» بمعنى الواو أي قاب قوسين وأدنى. وقيل: بمعنى بل أي بل أدنى...

وقال ابن كثير فى تفسيره:

وقوله تعالى: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } أي: فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض، حتى كان بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين، أي: بقدرهما إذا مدا، قاله مجاهد وقتادة. وقد قيل: إن المراد بذلك بُعْد ما بين وتر القوس إلى كبدها. وقوله تعالى: { أَوْ أَدْنَىٰ } قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه، ونفي ما زاد عليه؛ كقوله تعالى:
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً }
[البقرة: 74] أي: ما هي بألين من الحجارة، بل هي مثلها، أو تزيد عليها في الشدة والقسوة، وكذا قوله:
{ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً }
[النساء: 77] وقوله:
{ وَأَرْسَلْنَـٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ }
[الصافات: 147] أي ليسوا أقل منها، بل هم مئة ألف حقيقة، أو يزيدون عليها. فهذا تحقيق للمخبر به، لا شك ولا تردد، فإن هذا ممتنع ههنا وهكذا هذه الآية: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إنما هو جبريل عليه السلام، وهو قول أم المؤمنين عائشة وابن مسعود وأبي ذر وأبي هريرة، كما سنورد أحاديثهم قريباً إن شاء الله تعالى.

وروى مسلم في صحيحه عن ابن عباس: أنه قال: رأى محمد ربه بفؤاده مرتين، فجعل هذه إحداهما، وجاء في حديث شريك بن أبي نمر عن أنس في حديث الإسراء: ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى، ولهذا قد تكلم كثير من الناس في متن هذه الرواية، وذكروا أشياء فيها من الغرابة، فإن صح، فهو محمول على وقت آخر، وقصة أخرى، لا أنها تفسير لهذه الآية؛ فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء، ولهذا قال بعده: { وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ } فهذه هي ليلة الإسراء، والأولى كانت في الأرض.

{ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ }

قال القرطبي فى تفسيره:

قوله تعالى: { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } تفخيم للوحي الذي أوحى إليه. وتقدّم معنى الوحي وهو إلقاء الشيء بسرعة ومنه الوَحَاء الوَحَاء. والمعنى فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى. وقيل: المعنى { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ } جبريل عليه السلام «مَا أَوْحَى». وقيل: المعنى فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه. قاله الربيع والحسن وٱبن زيد وقتادة. قال قتادة: أوحى الله إلى جبريل وأوحى جبريل إلى محمد. ثم قيل: هذا الوحي هل هو مبهم؟ لا نَطَّلِع عليه نحن وتُعُبِّدْنَا بالإيمان به على الجملة، أو هو معلوم مفّسر؟ قولان. وبالثاني قال سعيد بن جبير، قال: أوحى الله إلى محمد: ألم أجدك يتيماً فآويتك! ألم أجدك ضالاًّ فهديتك! ألم أجدك عائلاً فأغنيتك!
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ }
[الشرح: 1 - 4]. وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.

وقال ابن الجوزى فى زاد المسير:
قوله تعالى: { فأَوْحى إلى عَبْده ما أَوْحى } فيه ثلاثة أقوال.

أحدها: أَوْحى اللهُ إلى محمد كِفاحاً بلا واسطة، وهذا على قول من يقول: إنه كان في ليلة المعراج.

والثاني: أَوحى جبريلُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أَوحى اللهُ إليه، رواه عطاء عن ابن عباس.

والثالث: أَوحى [اللهُ] إلى جبريل ما يوحيه، روي عن عائشة رضي الله عنها، والحسن، وقتادة.
 
الجوهرة الثانية والخمسون بعد الثلاثمائة

{ مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله: { مَا كَذَبَ }: قرأ هشامٌ بتشديدِ الدال. والباقون بتخفيفها. فأمَّا [القراءةُ] الأولى فإنَّ معناها أنَّ ما رآه محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم بعينِه صَدَّقه قلبُه، ولم يُنْكِرْه أي: لم يَقُلْ له: لم أَعْرِفْك و " ما " مفعولٌ به موصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ. ففاعِلُ " رأى " ضميرٌ يعودُ على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم. وأمَّا قراءةُ التخفيفِ فقيل فيها كذلك. و " كذَبَ " يتعدى بنفسِه. وقيل: هو على إسقاطِ الخافضِ: أي: فيما رآه، قاله مكي وغيرُه. وجوَّز في " ما " وجهين، أحدُهما: أَنْ يكونَ بمعنى الذي. والثاني: أَنْ تكونَ مصدريةً، ويجوزُ أَنْ يكونَ فاعلُ " رأى " ضميراً يعودُ على الفؤادِ أي: لم يَشُكَّ قلبُه فيما رآه بعينِه.


وقال ابن الجوزى فى زاد المسير:

قوله تعالى: { ما كَذَبَ الفؤادُ ما رأى } قرأ أبو جعفر، وهشام عن ابن عامر، وأبان عن عاصم: «ما كَذَّب» بتشديد الذّال؛ وقرأ الباقون بالتخفيف. فمن شدَّد أراد: ما أَنكر فؤادُه ما رأته عينُه؛ ومن خفَّف أراد: ما أوهمه فؤادُه أنه رأى، ولم ير، بل صَدَّقَ الفؤاد رؤيته.

وفي الذي رأى قولان.

أحدهما: أنه رأى ربَّه عز وجل، قاله ابن عباس، [وأنس]، والحسن، وعكرمة.

والثاني: أنه رأى جبريلَ في صورته التي خُلق عليها، قاله ابن مسعود وعائشة.
 
الجوهرة الثالثة والخمسون بعد الثلاثمائة

وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ }

قال الرازى فى تفسيره:

المسألة الثانية: قوله { نَزْلَةً } فعلة من النزول فهي كجلسة من الجلوس، فلا بد من نزول، فذلك النزول لمن كان؟ نقول فيه وجوه، وهي مرتبة على أن الضمير في رآه عائد إلى من وفيه قولان الأول: عائد إلى الله تعالى أي رأى الله نزلة أخرى، وهذا على قول من قال { مَا رَأَىٰ } في قوله
{ مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ }
[النجم: 11] هو الله تعالى. وقد قيل بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه مرتين، وعلى هذا فالنزلة تحتمل وجهين أحدهما: أنها لله، وعلى هذا فوجهان أحدهما: قول من يجوز على الله تعالى الحركة والانتقال وهو باطل وثانيهما: النزول بالقرب المعنوي لا الحسي فإن الله تعالى قد يقرب بالرحمة والفضل من عبده ولا يراه العبد، ولهذا قال موسى عليه السلام
{ رَبّ أَرِنِى }
[البقرة: 260] أي أزل بعض حجب العظمة والجلال، وادن من العبد بالرحمة والإفضال لأراك.

الوجه الثاني: أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى الله نزلة أخرى، وحينئذ يحتمل ذلك وجهين أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل على متن الهوى ومركب النفس ولهذا يقال لمن ركب متن هواه إنه علا في الأرض واستكبر، قال تعالى:
{ عَلاَ فِى ٱلأَرْضِ }
[القصص: 4] ثانيهما: أن المراد من النزلة ضدها وهي العرجة كأنه قال رآه عرجة أخرى، وإنما اختار النزلة، لأن العرجة التي في الآخرة لا نزلة لها فقال نزلة ليعلم أنها من الذي كان في الدنيا

والقول الثاني: أنه عائد إلى جبريل عليه السلام أي رأى جبريل نزلة أخرى، والنزلة حينئذ يحتمل أن تكون لمحمد صلى الله عليه وسلم كما ذكرناه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم على ما ورد في بعض أخبار ليلة المعراج، جاوز جبريل عليه السلام، وقال له جبريل عليه السلام لو دنوت أنملة لاحترقت، ثم عاد إليه فذلك نزلة. فإن قيل فكيف قال: { أُخْرَىٰ }؟ نقول لأن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الصلاة تردد مراراً فربما كان يجاوز كل مرة، وينزل إلى جبريل، ويحتمل أن تكون لجبريل عليه السلام وكلاهما منقول وعلى هذا الوجه فنزلة أخرى ظاهر، لأن جبريل كان له نزلات وكان له نزلتان عليه وهو على صورته،

وقال ابن كثير فى تفسيره:

وقوله تعالى: { وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، وكانت ليلة الإسراء.وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الإسراء بطرقها وألفاظها في أول سورة سبحان بما أغنى عن إعادته ههنا، وتقدم أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يثبت الرؤية ليلة الإسراء، ويستشهد بهذه الآية، وتابعه جماعة من السلف والخلف، وقد خالفه جماعات من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وغيرهم
.....
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن الشعبي عن مسروق قال: كنت عند عائشة، فقلت: أليس الله يقول:
{ وَلَقَدْ رَءَاهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ }
[التكوير: 23] { وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } فقالت: أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: " إنما ذاك جبريل " لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين، رآه منهبطاً من السماء إلى الأرض ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض، أخرجاه في الصحيحين من حديث الشعبي به.
 
الجوهرة الرابعة والخمسون بعد الثلاثمائة


{ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ }

قال الالوسي فى تفسيره:

{ عِندَهَا } أي عند السدرة، وجوز أن يكون الضمير للنزلة وهو نازل عن رتبة القبول

لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ }

قال الشيخ الالوسي فى تفسيره:

هذا وفي الآيات أقوال غير ما تقدم، فعن الحسن أن
{ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ }
[النجم: 5] هو الله تعالى، وجمع { ٱلْقُوَىٰ } للتعظيم ويفسر { ذُو مِرَّةٍ } عليه بذي حكمة ونحوه مما يليق أن يكون وصفاً له عز وجل، وجعل أبو حيان الضميرين في قوله تعالى:
{ فَٱسْتَوَىٰ * وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ }
[النجم: 6-7] عليه له سبحانه أيضاً. وقال: إن ذلك على معنى العظمة والقدرة والسلطان، ولعل الحسن يجعل الضمائر في قوله سبحانه:
{ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ }
[النجم: 8ـ10] له عز وجل أيضاً، وكذا الضمير المنصوب في قوله تعالى:
{ وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ }
[النجم: 13] فقد كان عليه الرحمة يحلف بالله تعالى لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه وفسر دنوه تعالى من النبـي صلى الله عليه وسلم برفع مكانته صلى الله عليه وسلم عنده سبحانه وتدليه جل وعلا بجذبه بشراشره إلى جانب القدس، ويقال لهذا الجذب: الفناء في الله تعالى عند المتأهلين، وأريد بنزوله سبحانه نوع من دنوه المعنوي جل شأنه. ومذهب السلف في مثل ذلك إرجاع علمه إلى الله تعالى بعد نفي التشبيه، وجوز أن تكون الضمائر في
{ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ }
[النجم: 8-9] على ما روي عن الحسن للنبـي صلى الله عليه وسلم، والمراد ثم دنا النبـي عليه الصلاة والسلام من ربه سبحانه فكان منه عز وجل قاب قوسين أو أدنى والضمائر في { فَأَوْحَىٰ } الخ لله تعالى، وقيل: { إِلَىٰ عَبْدِهِ } ولم يقل إليه للتفخيم، وأمر المتشابه قد علم.

وذهب غير واحد في وقوله تعالى:
{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ }
[النجم: 5] إلى قوله سبحانه:{ وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ }
[النجم: 7] إلى أنه في أمر الوحي وتلقيه من جبريل عليه السلام على ما سمعت فيما تقدم، وفي قوله تعالى: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } الخ إلى أنه في أمر العروج إلى الجناب الأقدس ودنوه سبحانه منه صلى الله عليه وسلم ورؤيته عليه السلام إياه جل وعلا فالضمائر في { دَنَا } ، و { تَدَلْى } وكان و { أَوْحَىٰ } وكذا الضمير المنصوب في { رءاهُ } لله عز وجل، ويشهد لهذا ما في حديث أنس عند البخاري من طريق شريك بن عبد الله " ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة " الحديث، فأنه ظاهر فيما ذكر.

واستدل بذلك مثبتو الرؤية كحبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره، وادعت عائشة رضي الله تعالى عنها خلاف ذلك، أخرج مسلم " عن مسروق قال: كنت متكئاً عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله تعالى الفرية قلت ما هن؟ قالت: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئاً فجلست فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله تعالى: { وَلَقَدْ رَءاهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } [التكوير: 23] { وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } [النجم: 13]؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا إنما هو جبريل لم أره على صورته الذي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض " الحديث، وفي رواية ابن مردويه من طريق أخرى عن داود بن أبـي هند عن الشعبـي عن مسروق " فقالت: أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فقلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال: إنما رأيت جبريل منهبطاً " ولا يخفى أن جواب رسول الله عليه الصلاة والسلام ظاهر في أن الضمير المنصوب في { رءاهُ } ليس راجعاً إليه تعالى بل إلى جبريل عليه السلام، وشاع أنها تنفي أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه مطلقاً، وتستدل لذلك بقوله تعالى:
{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَـٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَـٰرَ }
[الأنعام: 103] وقوله / سبحانه:
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً }
[الشورى: 51] وهو ظاهر ما ذكره البخاري في «صحيحه» في تفسير هذه السورة،

وقال بعضهم: إنها إنما تنفي رؤية تدل عليها الآية التي نحن فيها وهي التي احتج بها مسروق. وحاصل ما روي عنها نفي صحة الاحتجاج بالآية المذكورة على رؤيته عليه الصلاة والسلام ربه سبحانه ببيان أن مرجع الضمير فيها إنما هو جبريل عليه السلام على ما يدل عليه جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وحمل قوله صلى الله عليه وسلم في جوابها «لا» على أنه نفي للرؤية المخصوصة وهي التي يظن دلالة الآية عليها ويرجع إلى نفي الدلالة ولا يلزم من انتفاء الخاص انتفاء المطلق، والإنصاف أن الأخبار ظاهرة في أنها تنفي الرؤية مطلقاً، وتستدل عليه بالآيتين السابقتين، وقد أجاب عنهما مثبتو الرؤية بما هو مذكور في محله.والظاهر أن ابن عباس لم يقل بالرؤية إلا عن سماع، وقد أخرج عنه أحمد أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت ربـي " ذكره الشيخ محمد الصالحي الشامي تلميذ الحافظ السيوطي في «الآيات البينات» وصححه، وجمع بعضهم بين قولي ابن عباس وعائشة بأن قول عائشة محمول على نفي رؤيته تعالى في نوره الذي هو نوره المنعوت بأنه لا يقوم له بصر، وقول ابن عباس محمول على ثبوت رؤيته تعالى في نوره الذي لا يذهب بالأبصار بقرينة قوله في جواب عكرمة عن قوله تعالى:
{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَـٰرُ }
[الأنعام: 103] ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وبه يظهر الجمع بين حديثي أبـي ذر، أخرج مسلم من طريق يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبـي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: " نور أنى أراه " ومن طريق هشام وهمام كلاهما عن قتادة " عن عبد الله قال: قلت لأبـي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله هل رأيت ربك؟ فقال أبو ذر: قد سألته فقال: رأيت نوراً " فيحمل النور في الحديث الأول على النور القاهر للأبصار بجعل التنوين للنوعية أو للتعظيم، والنور في الثاني على ما لا يقوم له البصر والتنوين للنوعية، وإن صحت رواية الأول كما حكاه أبو عبد الله المازري بلفظ «نُورَانِيّ» بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء لم يكن اختلاف بين الحديثين ويكون نوراني بمعنى المنسوب إلى النور على خلاف القياس ويكون المنسوب إليه هو نوره الذي هو نوره، والمنسوب هو النور المحمول على الحجاب حمل مواطأة في حديث السبحات في قوله عليه الصلاة والسلام: " حجابه النور " وهو النور المانع من الإحراق الذي يقوم له البصر.

ثم إن القائلين بالرؤية اختلفوا، فمنهم من قال: إنه عليه الصلاة والسلام رأى ربه سبحانه بعينه، وروي ذلك ابن مردويه عن ابن عباس، وهو مروي أيضاً عن ابن مسعود وأبـي هريرة وأحمد بن حنبل، ومنهم من قال: رآه عز وجل بقلبه، وروي ذلك عن أبـي ذر، أخرج النسائي عنه أنه قال:

" رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه ولم يره ببصره " وكذا روي عن محمد بن كعب القرظي بل أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبـي حاتم عنه أنه قال: " قالوا: يا رسول الله رأيت ربك؟ قال: رأيته بفؤادي مرتين ولم أره بعيني ثم قرأ { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } [النجم: 11] " وفي حديث عن ابن عباس يرفعه " فجعل نور بصري في فؤادي فنظرت إليه بفؤادي " وكأن التقدير في الآية على هذا ما كذب الفؤاد فيما رأى، ومنهم من ذهب إلى أن إحدى الرؤيتين كانت بالعين والأخرى الفؤاد وهي رواية عن ابن عباس، أخرج الطبراني وابن مردويه عنه أنه قال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل مرتين مرة ببصره ومرة بفؤاده؛ ونقل القاضي عياض عن بعض مشايخه أنه توقف أي / في الرؤية بالعين، وقال: إنه ليس عليه دليل واضح قال في «الكشف»: لأن الروايات مصرحة بالرؤية أما أنها بالعين فلا، وعن الإمام أحمد أنه كان يقول: إذا سئل عن الرؤية رآه رآه حتى ينقطع نفسه ولا يزيد على ذلك وكأنه لم يثبت عنده ما ذكرناه.

واختلف فيما يقتضيه ظاهر النظم الجليل فجزم صاحب «الكشف» بأنه ما عليه الأكثرون من أن الدنو والتدلي مقسم ما بين النبـي وجبريل صلاة الله تعالى وسلامه عليهما أي وأن المرئي هو جبريل عليه السلام، وإذا صح خبر جوابه عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله تعالى عنها لم يكن لأحد محيص عن القول به، وقال العلامة الطيبـي: الذي يقتضيه النظم إجراء الكلام إلى قوله تعالى:
{ وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ }
[النجم: 7] على أمر الوحي وتلقيه من الملك ورفع شبه الخصوم، ومن قوله سبحانه:
{ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ }
[النجم: 8] إلى قوله سبحانه: { مِنْ ءايَـٰتِ رَبّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } [النجم: 18] على أمر العروج إلى الجناب الأقدس، ثم قال: ولا يخفى على كل ذي لب إباء مقام { فَأَوْحَىٰ } الحمل على أن جبريل أوحى إلى عبد الله ما أوحى إذ لا يذوق منه أرباب القلوب إلا معنى المناغاة بين المتسارين وما يضيق عنه بساط الوهم ولا يطيقه نطاق الفهم، وكلمة { ثُمَّ } على هذا للتراخي الرتبـي والفرق بين الوحيين أن أحدهما وحي بواسطة وتعليم، والآخر بغير واسطة بجهة التكريم فيحصل عنه عنده الترقي من مقام
{ وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ }
[الصافات: 164] إلى مخدع
{ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ }
[النجم: 9].

وعن جعفر الصادق عليه الرضا أنه قال: لما قرب الحبيب غاية القرب نالته غاية الهيبة فلاطفه الحق سبحانه بغاية اللطف لأنه لا تتحمل غاية الهيبة إلا بغاية اللطف، وذلك قوله تعالى:{ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ }
[النجم: 10] أي كان ما كان وجرى ما جرى قال الحبيب للحبيب ما يقول الحبيب لحبيبه وألطف به إلطاف الحبيب بحبيبه وأسر إليه ما يسر الحبيب إلى حبيبه فأخفيا ولم يُطلعا على سرهما أحداً، وإلى نحو هذا يشير ابن الفارض بقوله:
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا سرّ أرق من النسيم إذا سرى
ومعظم الصوفية على هذا فيقولون بدنو الله عز وجل من النبـي صلى الله عليه وسلم ودنوه منه سبحانه على الوجه اللائق وكذا يقولون بالرؤية كذلك، وقال بعضهم في قوله تعالى:
{ مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ }
[النجم: 17] ما زاغ بصر النبـي صلى الله عليه وسلم وما التفت إلى الجنة ومزخرفاتها ولا إلى الجحيم وزفراتها بل كان شاخصاً إلى الحق وما طغى عن الصراط المستقيم.

وقال أبو حفص السهروردي: ما زاغ البصر حيث لم يتخلف عن البصيرة ولم يتقاصر وما طغى لم يسبق البصر البصيرة ويتعدى مقامه، وقال سهل بن عبد الله التستري: لم يرجع رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى شاهد نفسه وإلى مشاهدتها وإنما كان مشاهداً لربه تعالى يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحل، وأرجع بعضهم الضمير في قوله تعالى:
{ وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ }
[النجم: 7] إلى النبـي عليه الصلاة والسلام وهو منتهى وصول اللطائف، وفسر
{ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ }
[النجم: 14] بما يكون منتهى سير السالكين إليه ولا يمكن لهم مجاوزته إلا بجذبة من جذبات الحق، وقالوا في { قَابَ قَوْسَيْنِ } ما قالوا وأنا أقول برؤيته صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه وبدنوه منه سبحانه على الوجه اللائق ذهبتَ فيما اقتضاه ظاهر النظم الجليل إلى ما قاله صاحب «الكشف» أم ذهبتَ فيه إلى ما قاله الطيبـي فتأمل والله تعالى الموفق.

الجوهرة الخامسة والخمسون بعد الثلاثمائة

{ إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله: { إِنْ هِيَ }: في " هي " وجهان، أحدهما: أنها ضميرٌ للأصنام أي: وما هي إلاَّ أسماءٌ ليس تحتها في الحقيقة مُسَمَّياتٌ في الحقيقة لأنكم تَدَّعُوْن الإِلهية لِما هو أبعدُ شيءٍ منها وأشدُّ منافاةً لها، كقوله:
{ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ }
[يوسف: 40]. والثاني: أن تكونَ ضميرَ الأسماءِ، وهي اللاتُ والعُزَّى ومَناة، وهم يَقْصِدُون بها أسماءَ الآلهة، يعني: وما هذه الأسماءُ إلاَّ أسماءٌ سَمَّيْتموها بهواكم وشهواتِكم ليس لكم على صحةِ تَسْمِيَتِها بُرْهانٌ تتعلَّقون به، قاله الزمخشري. وقال أبو البقاء: " أسماء " يجب أن يكون المعنى: ذواتُ أسماءٍ: لقوله " سَمَّيْتُموها " لأنَّ الاسمَ لا يُسَمَّى ".
 
الجوهرة السادسة والخمسون بعد الثلاثمائة

وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَٰنٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

وقولُه: { أَمَانَتَهُ } يجوزُ أن تكونَ الأمانةُ بمعنى الشيء المُؤْتَمَنِ عليه فينتصبَ انتصابَ المفعولِ به بقولِه: " فليؤدِّ " ، ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدراً على أصلِها، وتكونُ على حَذْفِ مضاف، أي: فليؤدِّ دَينَ أمانتهِ. ولا جائزٌ أن تكونَ منصوبةٌ على مصدرِ ائتُمِنَ. والضميرُ في " أمانتَه " يُحْتَمل أَنْ يعودَ على صاحبِ الحقِّ، وأَنْ يعودَ على الذي ائتُمِن.


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىٰ أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

والهاءُ في " تَكْتبوه " يجوزُ أَنْ تكونَ للدَّيْن في أول الآية، وأن تكونَ للحقّ في قولِه: " فإنْ كان الذي عليه الحقُّ " وهو أقربُ مذكورٍ، والمرادُ به " الدَّيْن " وقيل: يعودُ على الكتابِ المفهومِ من " يَكْتبوه " قاله الزمخشري.

و " صغيراً أو كبيراً " حالٌ، أي: على أيّ حالٍ كان الدَّيْنُ قليلاً أو كثيراً، وعلى أيِّ حالٍ كان الكتابُ مختصراً أو مُشْبَعاً، وجَوَّزَ السجاوندي انتصابَه على خبرِ " كان " مضمرةً، وهذا لا حاجةَ تَدْعُوا إليه، وليس من مواضعِ إضماره.

وقرأ السلمي: { ولا يَسْأَموا أَنْ يَكْتبوه } بالياءِ من تحتُ فيهما. والفاعلُ على هذه القراءةِ ضميرُ الشهداءِ، ويجوزُ أن يكونَ من بابِ الالتفاتِ، فيعودُ: إمَّا على المتعامِلِين وإمَّا على الكُتَّاب.

الجوهرة السابعة والخمسون بعد الثلاثمائة

فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

وقال الشيخ: " الأَوْلى أن يعود الضمير في " عليهما " على عورتيهما كأنه قيل: يَخْصِفان على سَوْءاتيهما، وعاد بضمير الاثنين لأن الجمعَ يُراد به اثنان، ولا يجوز أن يعود الضمير على آدم وحواء لأنه تقرَّر في علم العربية أنه لا يتعدَّى فعل الظاهر والمضمر المتصل إلى الضميرِ المتصلِ المنصوب لفظاً أو محلاً في غير باب ظن وفقد وعدم ووجد، لا يجوز: زيد ضربه ولا ضربه زيد، ولا زيد مرَّ به ولا مرَّ به زيد، فلو جَعَلْنا الضميرَ في " عليهما " عائداً على آدم وحواء لَلَزِمَ من ذلك تعدِّي " يَخْصِفُ " إلى الضمير المنصوب محلاً وقد رفع الضمير المتصل وهو الألف في " يَخْصِفان " ، فإنْ أُخِذَ ذلك على حَذْف مضاف مرادٍ جاز ذلك وتقديره: " يَخْصِفان على بَدَنَيْهما " ، قلت: ومثلُ ذلك فيما ذكر{ وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ }
[مريم: 25]
{ وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ }
[القصص: 32] وقول الشاعر:
2176ـ هَوِّنْ عليك فإن الأمور بِكَفِّ الإِله مقاديرُها
وقوله أيضاً:
2177ـ دَعْ عنك نَهْباً صِيْح في حَجَراته ولكنْ حديثاً ما حديثُ الرواحلِ

وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَٰمِتُونَ }
قال السمين الحلبي فى الدر المصون
قوله تعالى: { وَإِن تَدْعُوهُمْ }: الظاهرُ أن الخطاب للكفار وضميرَ النصب للأصنام، والمعنى: وإن تدعوا آلهتكم إلى طَلَب هدى ورشاد كما تطلبونه من الله لا يتابعوكم على مُرادكم. ويجوز أن يكونَ الضميرُ للرسول والمؤمنين والمنصوب للكفار: وإن تدعوا أنتم هؤلاء الكفار إلى الإِيمان

{ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَٰهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }

قال ابو حيان فى بحره:
تناسق الضمائر يقتضي أن الضمير المنصوب في { وإن تدعوهم } هو للأصنام ونفي عنهم السماع لأنها جماد لا تحسّ وأثبت لهم النظر على سبيل المجاز بمعنى أنهم صوّروهم ذوي أعين فهم يشبهون من ينظر ومن قلب حدقته للنظر ثم نفى عنهم الإبصار كقوله{ يا أبت لمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً }
[مريم: 42] ومعنى إليك أيها الداعي وأفرد لأنه اقتطع قوله: { وتراهم ينظرون إليك } من جملة الشرط واستأنف الإخبار عنهم بحالهم السيىء في انتفاء الإبصار كانتفاء السماع، وقيل المعنى في قوله { ينظرون إليك } أي يحاذونك من قولهم المنازل تتناظر إذا كانت متحاذية يقابل بعضها بعضاً وذهب بعض المعتزلة إلى الاحتجاج بهذه الآية على أن العباد ينظرون إلى ربهم ولا يرونه ولا حجة لهم في الآية لأنّ النظر في الأصنام مجاز محض وجعل الضمير للأصنام اختاره الطبري قال: ومعنى الآية تبيين جمودها وصغر شأنها، قال: وإنما تكرر القول في هذا وترددت الآيات فيه لأنّ أمر الأصنام وتعظيمها كان متمكناً من نفوس العرب في ذلك الزمن ومستولياً على عقولها لطفاً من الله تعالى بهم، وقال مجاهد والحسن والسدّي: الضمير المنصوب { في تدعوهم } يعود على الكفار ووصفهم بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون إذ لم يتحصّل لهم عن الاستماع والنظر فائدة ولا حصلوا منه بطائل وهذا تأويل حسن ويكون إثبات النظر حقيقة لا مجازاً، ويحسّن هذا التأويل الآية بعد هذه إذ في آخرها { وأعرض عن الجاهلين } أي الذين من شأنهم أن تدعوهم لا يسمعوا وينظرون إليك وهم لا يبصرون فتكون مرتّبة على العلة الموجبة لذلك وهي الجهل.
 
الجوهرة الثامنة والخمسون بعد الثلاثمائة

كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } * { يُجَادِلُونَكَ فِي ٱلْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ }

قال ابو حيان فى بحره:

} اضطرب المفسرون في قوله { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } واختلفوا على خمسة عشر قولاً. ....

القول السادس قال الفراء: التقدير امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت إن كرهوا كما أخرجك ربك انتهى. قال ابن عطية: والعبارة بقوله إمضِ لأمرك ونفل من شئت غير محرّرة وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال كأنهم سألوا عن النفل وتشاجروا فأخرج الله ذلك عنهم فكانت هذه الخيرة كما كرهوا في هذه القصة انبعاث النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجه الله من بيته فكانت في ذلك الخيرة وتشاجرهم في النفل بمثابة كراهيتهم ههنا الخروج، وحكم الله في النفل بأنه لله والرسول فهو بمثابة إخراجه نبيه صلى الله عليه وسلم من بيته ثم كانت الخيرة في القصتين مما صنع الله وعلى هذا التأويل يمكن أن يكون قوله { يجادلونك } كلاماً مستأنفاً يراد به الكفار أي يجادلونك في شريعة الإسلام من بعدما تبين الحقّ فيها كأنما يساقون إلى الموت في الدعاء إلى الإيمان وهذا الذي ذكرت من أن يجادلونك في الكفار منصوص، قال ابن عطية: فهذان قولان مطردان يتم بهما المعنى ويحسن وصف اللفظ انتهى...

والظاهر أن ضمير الرفع في { يجادلونك } عائد على فريق المؤمنين الكارهين وجدالهم قولهم ما كان خروجنا إلا للعير ولو عرفنا لاستعددنا للقتال والحق هنا نصرة دين الإسلام، وقيل الضمير يعود على المشركين وجدالهم في الحق هو في شريعة الإسلام.
 
الجوهرة التاسعة والخمسون بعد الثلاثمائة

إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ }

قال ابن الجوزى فى زاد المسير:

قوله تعالى: { ويثبت به الأقدام } في هاء «به» قولان.

أحدهما: أنها ترجع إلى الماء؛ فان الأرض كانت رَمِلة، فاشتدت بالمطر، وثبتت عليها الأقدام، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي في آخرين.

والثاني: انها ترجع إلى الربط، فالمعنى: ويثبت بالربط الأقدام، ذكره الزجاج.

{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

والهاءُ في " منه " تعود على الظفر بالمشركين. وقيل: على الرمي قالهما مكي. والظاهر أنها تعود على الله تعالى.
 
الجوهرة الستون بعد الثلاثمائة

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ }

قال ابو حيان فى بحره المحيط:

والضمير في { عنه } قال الزمخشري لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ المعنى وأطيعوا رسول الله كقوله
{ والله ورسوله أحق أن يرضوه }
[التوبة: 62] ولأن طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد من يطع الرسول فقد أطاع الله فكان رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما كقولك الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان ويجوز أن يرجع إلى الأمر بالطاعة { ولا تولوا } عن هذا الأمر وامتثاله وأنتم تسمعونه أو ولا تتولوا عن رسول الله ولا تخالفوه { وأنتم تسمعون } أي تصدّقون لأنكم مؤمنون لستم كالصمّ المكذبين من الكفرة انتهى، وإنما عاد على الرسول لأنّ التولي إنما يصح في حقّ الرسول بأن يعرضوا عنه وهذا على أن يكون التولي حقيقة وإذا عاد على الأمر كان مجازاً، وقيل هو عائد على الطاعة، وقيل هو عائد على الله


الجوهرة الواحدة والستون بعد الثلاثمائة

وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }

قال ابو حيان فى بحره:
{ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون }. أنظر إلى حُسن مساق هاتين الجملتين لما كانت كينونته فيهم سبباً لانتفاء تعذيبهم أكّد خبر كان باللام على رأي الكوفيين أو جعل خبر كان الإرادة المنفية على رأي البصريين وانتفاء الإرادة للعذاب أبلغ من انتفاء العذاب ولما كان استغفارهم دون تلك الكينونة الشريفة لم يؤكد باللام بل جاء خبر { كان } قوله معذبهم، فشتّان ما بين استغفارهم وكينونته صلى الله عليه وسلم فيهم والظاهر أن هذه الضمائر كلها في الجمل عائدة على الكفار وهو قول قتادة، وقال ابن عباس وابن أبزي وأبو مالك والضحاك ما مقتضاه: إن الضمير في قوله { معذّبهم } عائد على كفار مكة والضمير في قوله وهم عائد على المؤمنين الذين بقوا بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة أي وما كان الله ليعذب الكفار والمؤمنون بينهم يستغفرون، قال ابن عطية: ويدفع في صدر هذا القول أنّ المؤمنين الذين ردّ الضمير إليهم لم يجر لهم ذكر، وقال ابن عباس أيضاً ما مقتضاه إنّ الضميرين عائدان على الكفار وكانوا يقولون في دعائهم غفرانك ويقولون لبّيك لا شريك لك ونحو هذا مما هو دعاء واستغفار فجعله الله أمنة من عذاب الدنيا على هذا تركب قول أبي موسى الأشعري وابن عباس إنّ الله جعل من عذاب الدنيا أمنتين كون الرسول صلى الله عليه وسلم مع الناس والاستغفار فارتفعت الواحدة وبقي الاستغفار إلى يوم القيامة.

وقال الزّجاج وحكى عن ابن عباس { وهم يستغفرون } عائد على الكفار والمراد به من سبق له في علم الله أن يسلم ويستغفر فالمعنى وما كان الله ليعذب الكفار ومنهم من يستغفر ويؤمن في ثاني حال، وقال مجاهد { وهم يستغفرون } أي وذريتهم يستغفرون ويؤمنون فأسند إليهم إذ ذريتهم منهم والاستغفار طلب الغفران، وقال الضحّاك ومجاهد: معنى يستغفرون يصلون، وقال عكرمة ومجاهد أيضاً: يسلمون وظاهر قوله وهم يستغفرون أنهم ملتبسون بالاستغفار أي { هم يستغفرون } فلا يعذّبون كما أن الرسول فيهم فلا يعذبون فكلا الحالين موجود كون الرسول فيهم واستغفارهم، وقال الزمخشري { وهم يستغفرون } في موضع الحال ومعناه نفي الاستغفار عنهم أي ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم كقوله تعالى{ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون }
[هود: 117] ولكنهم لا يستغفرون ولا يؤمنون ولا يتوقع ذلك منهم انتهى، وما قاله تقدّمه إليه غيره، فقال: المعنى وهم بحال توبة واستغفار من كفرهم أن لو وقع ذلك منهم، واختاره الطبري وهو مرويّ عن قتادة وابن زيد.

{ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
قال السمين الحلبي فى الدر المصون:
قوله: { وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ } في هذه الجملةِ وجهان أحدهما: أنها استئنافيةٌ، والهاء تعود على المسجد أي: وما كانوا أولياءَ المسجد. والثاني: أنها نسقٌ على الجملة الحالية قبلها وهي " وهم يَصُدُّون " والمعنى: كيف لا يُعَذِّبُهم الله وهم متصفون بهذبن الوَصْفَيْن: صَدِّهم عن المسجد الحرام وانتفاءِ كونِهم أولياءَه؟ ويجوز أن يعودَ الضميرُ على الله تعالى، أي: لم يكونوا أولياءَ الله.
 
الجوهرة الثانية والستون بعد الثلاثمائة

يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ }

قال ابو حيان فى بحره:
وقال الزمخشري: والضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين، وفي قلوبهم للمنافقين، وصح ذلك لأنّ المعنى يعود إليه انتهى. والأمر بالاستهزاء أمر تهديد ووعيد كقوله:
{ اعملوا ما شئتم }
[فصلت: 40] ومعنى مخرج ما تحذرون مبرز إلى حيز الوجود، ما تحذرونه من إنزال السورة، أو مظهر ما كنتم تحذرونه من إظهار نفاقكم. وفعل ذلك تعالى في هذه السورة فهي تسمى الفاضحة، لأنها فضحت المنافقين. قيل: كانوا سبعين رجلاً أنزل الله أسماءهم وأسماء آبائهم في القرآن، ثم رفع ذلك ونسخ رحمة ورأفة منه على خلقه، لأن أبناءهم كانوا مسلمين.

وقال الرازى فى تفسيره:
ويجوز أيضاً أن تكون الضمائر كلها للمنافقين، لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم، ومعنى { تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } أن السورة كأنها تقول لهم في قلوبهم كيت وكيت، يعني أنها تذيع أسرارهم إذاعة ظاهرة فكأنها تخبرهم.
 
الجوهرة الثالثة والستون بعد الثلاثمائة

{ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ }

قال ابن الجوزى فى زاد المسير

قوله تعالى: { سيء بهم } فيه قولان.

أحدهما: ساء ظنه بقومه، قاله ابن عباس.

والثاني: ساءه مجيء الرسل، لأنه لم يعرفهم، وأشفق عليهم، من قومه قاله ابن جرير.

الجوهرة الرابعة والستون بعد الثلاثمائة

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ ٱلْمُجْرِمُونَ }

قال ابن الجوزى فى زاد المسير
والهاء في «منه» تعود على العذاب. وجائز أن تعود على ذكر الله تعالى، فيكون المعنى: أي شيء يستعجل المجرمون من الله تعالى؟ وعودها على العذاب أجود، لقوله: { أثم إِذا ما وقع آمنتم به }.

{ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّيۤ إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ }
قال الرازى فى تفسيره
واختلفوا في الضمير في قوله: { أَحَقٌّ هُوَ } قيل: أحق ما جئتنا به من القرآن والنبوة والشرائع. وقيل: ما تعدنا من البعث والقيامة. وقيل: ما تعدنا من نزول العذاب علينا في الدنيا.
 
الجوهرة الخامسة والستون بعد الثلاثمائة

لَهُ دَعْوَةُ ٱلْحَقِّ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله: { وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } في " هو " ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه ضميرُ الماء. والهاء في " ببالغِه " للفم، أي: وما الماء ببالغِ فيه. الثاني: أنه ضميرُ الفم، والهاء فيي " ببالِغه " للماء، أي: وما الفمُ ببالغِ الماءِ؛ إذ كلُّ واحدٍ منهما لا يبلُغُ الآخرَ على هذه الحالِ، فنسبةُ الفعلِ إلى كلِّ واحدٍ وعدمُها صحيحتان. الثالث: أن يكون ضميرَ الباسط، والهاء في " ببالغه " للماء، أي: وما باسطُ كَفَّيْهِ إلى الماء ببالغٍ الماءَ.

ولا يجوز أن يكون " هو " ضميرَ الباسط، وفاعلُ " ببالغِه " مضمراً والهاء في " ببالِغه " للماء، لأنه حينئذٍ يكونُ من باب جَرَيان الصفةِ على غير مَنْ هي] له، ومتى كان كذا لزِم إبرازُ الفاعلِ فكان التركيبُ هكذا: وما هو ببالغِه الماءُ، فإن جَعَلْتَ الهاءَ في " ببالغِه " للماءِ جاز أن يكونَ " هو " ضميرَ الباسط كما تقدَّم تقريرُه.
 
الجوهرة السادسة والستون بعد الثلاثمائة

{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ }

قال الرازى فى تفسيره:

والقول الرابع: أن جد يعقوب واجتهاده في تكثير الطاعات أكثر من جد يوسف ولما اجتمعت هذه الجهات الكثيرة فهذا يوجب أن يبالغ يوسف في خدمة يعقوب فكيف استجاز يوسف أن يسجد له يعقوب هذا تقرير السؤال.

والجواب عنه من وجوه:

الوجه الأول: وهو قول ابن عباس في رواية عطاء أن المراد بهذه الآية أنهم خروا له أي لأجل وجدانه سجداً لله تعالى، وحاصل الكلام: أن ذلك السجود كان سجوداً للشكر فالمسجود له هو الله، إلا أن ذلك السجود إنما كان لأجله والدليل على صحة هذا التأويل أن قوله: { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا } مشعر بأنهم صعدوا ذلك السرير، ثم سجدوا له، ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قبل الصعود على السرير لأن ذلك أدخل في التواضع.

فإن قالوا: فهذا التأويل لا يطابق قوله: { وَقَالَ يأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَـٰى مِن قَبْلُ } والمراد منه قوله:
{ إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ }
[يوسف: 4].

قلنا: بل هذا مطابق ويكون المراد من قوله: { وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ } لأجلي أي أنها سجدت لله لطلب مصلحتي وللسعي في إعلاء منصبي، وإذا كان هذا محتملاً سقط السؤال. وعندي أن هذا التأويل متعين، لأنه لا يستبعد من عقل يوسف ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوة.

والوجه الثاني: في الجواب أن يقال: إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكراً لنعمة وجدانه. وهذا التأويل حسن فإنه يقال: صليت للكعبة كما يقال: صليت إلى الكعبة. قال حسان شعراً:وهذا يدل على أنه يجوز أن يقال فلان صلى للقبلة، وكذلك يجوز أن يقال سجد للقبلة وقوله: { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا } أي جعلوه كالقبلة ثم سجدوا لله شكراً لنعمة وجدانه.

الوجه الثالث: في الجواب قد يسمى التواضع سجوداً كقوله:
ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
ما كنت أعرف أن الأمر منصرف عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم وأعرف الناس بالقرآن والسنن
وهذا يدل على أنه يجوز أن يقال فلان صلى للقبلة، وكذلك يجوز أن يقال سجد للقبلة وقوله: { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا } أي جعلوه كالقبلة ثم سجدوا لله شكراً لنعمة وجدانه.

الوجه الثالث: في الجواب قد يسمى التواضع سجوداً كقوله:
ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
وكان المراد ههنا التواضع إلا أن هذا مشكل، لأنه تعالى قال: { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا } والخرور إلى السجدة مشعر بالإتيان بالسجدة على أكمل الوجوه وأجيب عنه بأن الخرور قد يعني به المرور فقط قال تعالى:
{ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً }
[الفرقان: 73] يعني لم يمروا.

الوجه الرابع: في الجواب أن نقول: الضمير في قوله: { وَخَرُّواْ لَهُ } غير عائد إلى الأبوين لا محالة، وإلا لقال: وخروا له ساجدين، بل الضمير عائد إلى إخوته، وإلى سائر من كان يدخل عليه لأجل التهنئة، والتقدير: ورفع أبويه على العرش مبالغة في تعظيمهما، وأما الإخوة وسائر الداخلين فخروا له ساجدين...

وقال ابو حيان فى بحره:

والضمير في وخروا عائد على أبويه وعلى إخوته.وقيل: الضمير في وخروا عائد على إخوته وسائر من كان يدخل عليه لأجل هيبته، ولم يدخل في الضمير أبواه، بل رفعهما على سرير ملكة تعظيماً لهما. وظاهر قوله: وخروا له سجداً أنه السجود المعهود، وأن الضمير في له عائد على يوسف لمطابقة الرؤيا في قوله:
{ إني رأيت أحد عشر كوكباً }
[يوسف: 4] الآية وكان السجود إذ ذاك جائزاً من باب التكريم بالمصافحة، وتقبيل اليد، والقيام مما شهر بين الناس في باب التعظيم والتوقير. وقال قتادة: كانت تحية الملوك عندهم، وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة. وقيل: هذا السجود كان إيماء بالرأس فقط. وقيل: كان كالركوع البالغ دون وضع الجبهة على الأرض. ولفظة وخروا تأبى هذين التفسرين. قال الحسن: الضمير في له عائد على الله أي: خرُّوا لله سجداً شكراً على ما أوزعهم من هذه النعمة، وقد تأول قوله: رأيتهم لي ساجدين، على أن معناه رأيتهم لأجلي ساجدين. وإذا كان الضمير ليوسف فقال المفسرون: كان السجود تحية لا عبادة. وقال أبو عبد الله الداراني: لا يكون السجود إلا لله لا ليوسف، ويبعد من عقله ودينه أن يرضي بأن يسجد له أبوه مع سابقته من صون أولاده، والشيخوخة، والعلم، والدين، وكمال النبوة. وقيل: الضمير وإن عاد على يوسف فالسجود كان لله تعالى، وجعلوا يوسف قبلة كما تقول: صليت للكعبة، وصليت إلى الكعبة، وقال حسان:
ما كنت أعرف أن الدهر منصرف عن هاشم ثم عنها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم وأعرف الناس بالأشياء والسنن
وقيل: السجود هنا التواضع، والخرور بمعنى المرور لا السقوط على الأرض لقوله:
{ والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً }
[الفرقان: 73] أي لم يمروا عليها. وقال ثابت: هذا تأويل رؤياي من قبل أي: سجودكم هذا تأويل، أي: عاقبة رؤياي أنّ تلك الكواكب والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين: ومن قبل متعلق برؤياي، والمحذوف في من قبل تقديره: من قبل هذه الكوائن والحوادث التي جرت بعد رؤياي. ومن تأول أنّ أبويه لم يسجدا له زعم أن تعبير الرؤيا لا يلزم أن يكون مطابقاً للرؤيا من كل الوجوه، فسجود الكواكب والشمس والقمر يعبر بتعظيم الأكابر من الناس.

{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
قال السمين الحلبي فى الدر المصون
وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوارث والكسائي في رواية الأنطاكي " قِصصهم " بكسر القاف وهو جمع قِصة، وبهذه القراءة رجَّح الزمخشري عَوْدَ الضمير في " قصصهم " في القراءة المشهورة على الرسل وحدهم، وحكى أنه يجوز أن يعودَ على يوسُفَ وإخوته. وحكى غيرُه أنه يجوز أن يعودَ على الرسل وعلى يوسف وإخوته جميعاً. قال الشيخ: " ولا تَنْصُره ـ يعني هذه القراءة ـ إذا قصص يوسف وأبيه وإخوته مشتملٌ على قصصٍ كثيرة وأنباء مختلفة ".

قوله: { مَا كَانَ حَدِيثاً } في " كان " ضميرٌ عائد على القرآن، أي: ما كان القرآنُ المتضمِّنُ لهذه القصة الغريبة حديثاً مختلفاً، وقيل: بل هو عائد على القصص أي: ما كان القصص المذكور في قوله " لقد كان في قَصَصِهم ". وقال الزمخشري: " فإن قلت: فالإمَ يَرْجِع الضمير في { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ } فيمن قرأ بالكسر؟ قلت: إلى القرآن أي: ما كان القرآن حديثاً ". قلت: لأنه لو عاد على " قِصصهم " بكسر القاف لوجب أن يكون " كانت " بالتاء لإِسناد الفعل حينئذ إلى ضمير مؤنث، وإن كان مجازياً.
 
الجوهرة السابعة والستون بعد الثلاثمائة

قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون
قوله تعالى: { جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ }: أربعةُ أوجه، أحدها: أن يكونَ " جزاؤه " مبتدأً والضميرُ للسارق، و " مَنْ " شرطية أو موصولةٌ مبتدأٌ ثانٍ، والفاءُ جوابُ الشرط أو مزيدةٌ في خبر الموصول لشبهه بالشرط، و " مَنْ " وما في حَيِّزها على وَجْهَيْها خبر المبتدأ الأول، قاله ابن عطية، وهو مردودٌ بعدم رابطٍ بين المبتدأ وبين الجملةِ الواقعةِ خبراً عنه، هكذا رَدَّه الشيخُ عليه. وليس بظاهر؛ لأنه يُجاب عنه بأنَّ هذه المسألةَ من باب إقامة الظاهرِ مُقامَ المضمرِ، وَيَتَّضِحُ هذا بتقرير الزمخشري قال رحمه اللَّه: " ويجوز أن يكونَ " جزاؤه " مبتدأً، والجملةُ الشرطية كما هي خبره، على إقامة الظاهر فيها مُقَامَ المضمر. والأصل: جزاؤه مَنْ وُجِدَ في رحله فهو هو، فوضع الجزاء موضِعَ " هو " كما تقول لصاحبك: مَنْ أخو زيد؟ فيقول لك: " أخوه مَنْ يقعد إلى جنبه، فهو هو " يرجع الضمير الأول إلى " مَنْ " والثاني [إلى] الأخ، ثم تقول: فهو أخوه، مقيماً للمظهر مقام المضمر ".

والشيخ جعل هذا الذي حكيته عن الزمخشري وجهاً ثانياً بعد الأول ولم يَعْتقدْ أنه هو بعينه، ولا أنَّه جوابٌ عَمَّا رَدَّ به على ابن عطية. ثم قال: " ووَضْعُ الظاهرِ موضعَ المضمر للربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم والتأويل، وغير فصيحٍ فيما سوى ذلك نحو: زيدٌ قام زيد، ويُنَزَّه عنه القرآنُ، قال سيبويه: " لو قلت: " كان زيدٌ منطلقاً زيد " لم يكن حَدَّ الكلام، وكان ههنا ضعيفاً ولم يكنْ كقولِك: ما زيدٌ منطلقاً هو لأنك قد اسْتَغْنَيْتَ عن إظهاره، وإنما ينبغي لك أن تُضْمِرَه ". قلت: ومذهب الأخفش أنه جائزٌ مطلقاً وعليه بَنَىٰ الزمخشري.

وقد جَوَّز أبو البقاء ما تَوَهَّم أنه جواب عن ذلك فقال: " والوجه الثالث: أن يكونَ " جزاؤه " مبتدأً، و " مَنْ وُجد " مبتدأ ثان، و " فهو " مبتدأٌ ثالث، و " جزاؤه " خبر الثالث، والعائد على المبتدأ الأول الهاء الأخيرة، وعلى الثاني " هو " انتهىٰ. وهذا الذي ذكره أبو البقاء لا يَصِحُّ، إذ يصير التقديرُ: فالذي وُجِدَ في رَحْله جزاء الجزاء؛ لأنه جَعَل " هو " عبارةً عن المبتدأ الثاني، وهو { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } ، وجعل الهاءَ الأخيرةَ وهي التي في " جزاؤه " الأخير عائدةً على " جزاؤه " الأولِ، وصار التقديرُ كما ذكَرْتُه لك.

الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة: أن يكون " جزاؤه " مبتدأً، والهاءُ تعود على المسروق، و { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } خبره، و " مَنْ " بمعنىٰ الذي، والتقدير: جزاء الصُّواع الذي وُجد في رَحْله، كذلك كانت شريعتُهم: يُسْتَرَقُّ السارق، فلذلك اسْـتُفْتوا في جزائه.

وقوله " فهو جزاؤه " تقرير للحكم أي: فَأَخْذُ السارقِ نفسِه هو جزاؤه لا غير كقولك: حَقُّ زيدٍ أن يُكسَىٰ ويُطْعَمَ ويُنْعَمَ عليه، فذلك حَقُّه " أي فهو حَقُّه لِتُقَرِّرَ/ ما ذكرْتَه مِن استحقاق وتُلْزِمَه، قاله الزمخشري. ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قال: " والتقدير استعبادُ مَنْ وُجِد في رَحْله، وقوله: " فهو جزاؤه " مبتدأ وخبر، مؤكِّد لمعنى الأول ".

ولمَّا ذَكَر الشيخُ هذا الوجهَ ناقلاً له عن الزمخشري قال: " وقال معناه ابن عطية، إلا أنه جعل القول الواحد قولين، قال: " ويَصِحُّ أن يكونَ " مَنْ " خبراً على أن المعنىٰ: جزاءُ السارق مَنْ وُجِد في رَحْله، ـ عائد على " مَنْ " ـ ويكون قوله: " فهو جزاؤه " زيادةَ بيانٍ وتأكيدٍ " ، ثم قال: " ويُحتمل أن يكونَ التقدير: جزاؤُه استرقاقُ مَنْ وجِد في رَحْلِه، وفيما قبله لا بد مِنْ تقديره؛ لأنَّ الذاتَ لا تكونُ خبراً عن المصدر، فالتقدير في القول قبله: جزاؤه أَخْذُ مَنْ وُجِد في رَحْله أو استرقاقه، هذا لا بد منه على هذا الإِعراب " قلت: وهذا كما قال الشيخُ ظاهره أنه جَعَل القول الواحد قولين.

الوجه الثالث مِن الأوجه المتقدِّمة: أن يكون " جزاؤه " خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: المسؤول عنه جزاؤه، ثم أَفْتَوا بقولهم: " مَنْ وُجِد في رَحْله فهو جزاؤه " كما يقول مَنْ يَسْتفتي في جزاء صيد المُحْرِم: جزاءُ صيد المُحْرِم، ثم يقول:
{ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ }
[المائدة: 95]، قاله الزمخشري. قال الشيخ: " وهو متكلف إذ تصير الجملة من قوله: " المسؤول عنه جزاؤه " على هذا التقدير ليس فيه كبيرُ فائدة؛ إذ قد عُلِمَ مِنْ قوله: " فما جزاؤه " أن الشيء المسؤولَ عنه جزاءُ سَرِقته، فأيُّ فائدةٍ في نُطْقهم بذلك؛ وكذلك القول في المثال الذي مَثَّل به مِنْ قول المستفتي ".

قلت: قوله: " ليس فيه كبيرُ فائدة " ممنوعٌ بل فيه فائدةُ الإِضمار المذكور في علم البيان، وفي القرآن أمثالُ ذلك.

الوجه الرابع: أن يكونَ " جزاؤه " مبتدأ، وخبرُه محذوف تقديره: جزاؤه عندنا كجزائِه عندكم، والهاءُ تعودُ على السارق أو على المسروق، وفي الكلام المتقدم دليلٌ عليهما، ويكون قولُه: " مَنْ وُجِدَ في رَحْله فهو جزاؤه على ما تقدَّم في الوجه الذي قبله، وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء، ولم يذكرْه الشيخ، فقد جَعَلَ في الآية الكريمة أربعة أوجهٍ، وتقدَّم أن الأولَ والثاني وَجْهٌ كما بَيَّنْتُه، فإذا ضَمَمْنا هذا الوجهَ الأخيرَ الذي بدأ به أو البقاء إلى الأربعةِ التي ذكرها الشيخُ صارت خمسةً، ولكن لا تحقيقَ لذلك، وكذلك إذا التفَتْنا إلى قول ابن عطية في جَعْلِه القولَ الواحدَ قولين تصيرُ ستةً في اللفظ، فإذا حَقَّقَتْها لم تجِىءْ إلا أربعةً كما ذكرتها لك.
 
الجوهرة الثامنة والستون بعد الثلاثمائة

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله: { ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا } في الضمير المنصوب قولان، أحدهما: أنه عائدٌ على الصُّواع، لأنَّ فيه التذكيرَ والتأنيثَ كما تقدم. وقيل: بل لأنه حُمِل على معنى السقاية. وقال أبو عبيد: " يؤنَّث الصُّواع من حيث يُسَمَّى " سقاية " ، ويُذكَّر من حيث هو صُواع ". قالوا: وكأنَّ أبا عبيد لم يَحْفظْ في الصُّواع التأنيثَ. وقال الزمخشري: " قالوا: رَجَع بالتأنيث على السِّقاية " ثم قال: " ولعل يوسف كان يُسَمِّيه " سِقاية " وعبيدَهُ " صُواعاً " فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية، وفيما يتصل بهم صواع ". قلت: هذا الأخيرُ حَسَنٌ.

الثاني: أن الضميرَ عائدٌ على السَّرِقة. وفيه نظر؛ لأن السِّرقة لا تُسْتخرج، إلا بمجازٍ.
 
الجوهرة التاسعة والستون بعد الثلاثمائة

قَالُوۤاْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ }

قال الالوسي فى تفسيره

{ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ } الضمير لما يفهم من الكلام والمقام أي أضمر الحزازة التي حصلت له عليه السلام مما قالوا،

وقيل: أضمر مقالتهم أو نسبة السرقة إليه فلم يجبهم عنها { فِى نَفْسِهِ } لا أنه أسرها لبعض أصحابه كما في قوله تعالى:
{ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً }
[نوح: 9] / { وَلَمْ يُبْدِهَا } أي يظهرها { لَهُمْ } لا قولاً ولا فعلاً صفحاً لهم وحلماً وهو تأكيد لما سبق { قَالَ } أي في نفسه، وهو استئناف مبني على سؤال نشأ من الإخبار بالإسرار المذكور كأنه قيل: فماذا قال في نفسه في تضاعيف ذلك؟ فقيل: قال: { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } أي منزلة في السرق، وحاصله أنكم أثبت في الاتصاف بهذا الوصف وأقوى فيه حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ثم طفقتم تفترون على البرىء، وقال الزجاج: إن الإضمار هنا على شريطة التفسير لأن: { قَالَ أَنْتُمْ } الخ بدل من الضمير، والمعنى فأسر يوسف في نفسه قوله: { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً }

وقال ابن الجوزى فى زاد المسير

قوله تعالى: { فأسرَّها يوسف في نفسه } في هاء الكناية ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها ترجع إِلى الكلمة التي ذُكرت بعد هذا، وهي قوله: { أنتم شر مكاناً } ، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس.

والثاني: أنها ترجع إِلى الكلمة التي قالوها في حقه، وهي قولهم: «فقد سرق أخ له من قبل»، وهذا معنى قول أبي صالح عن ابن عباس، فعلى هذا يكون المعنى: أسرَّ جواب الكلمة فلم يجبهم عليها.

والثالث: أنها ترجع إِلى الحُجة، المعنى: فأسر الاحتجاج عليهم في ادعائهم عليه السرقة، ذكره ابن الأنباري.
 
الجوهرة السبعون بعد الثلاثمائة

فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ أَبِيۤ أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ }
قال ابن الجوزى فى زاد المسير
قوله تعالى: { فلما استيأسوا منه } أي: أيسوا.

وفي هاء «منه» قولان.

أحدهما: أنها ترجع إِلى يوسف، فالمعنى: يئسوا من يوسف أن يخلّي سبيل أخيهم.

والثاني: إِلى أخيهم، فالمعنى: يئسوا من أخيهم.
 
الجوهرة الواحدة والسبعون بعد الثلاثمائة

{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون
والضميرُ في " أنَّه " عائدٌ على المَثَل. وقيل: على ضَرْبِ المثلِ المفهومِ من الفِعْل، وقيل: على تَرْكِ الاستحياء

{ ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ }
قال السمين الحلبي فى الدر المصون
و " ميثاقَه " الضميرُ فيه يجوزُ أن يعودَ على العهدِ، وأن يعودَ على اسم الله تعالى، فهو على الأول مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ، وعلى الثاني مضافٌ للفاعل،

الجوهرة الثانية والسبعون بعد الثلاثمائة

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَٱللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ }

قال الرازى فى تفسيره

المسألة الأولى: الضمير في قوله: { لما لا يعلمون } إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: الأول: أنه عائد إلى المشركين المذكورين في قوله:
{ إذا فريق منكم بربهم يشركون }
[النحل: 54] والمعنى أن المشركين لا يعلمون.

والثاني: أنه عائد إلى الأصنام أي لا يعلم الأصنام ما يفعل عبادها

قال بعضهم: الأول أولى لوجوه:

أحدها: أن نفي العلم عن الحي حقيقة وعن الجماد مجاز.

وثانيها: أن الضمير في قوله: { ويجعلون } عائد إلى المشركين فكذلك في قوله: { لما لا يعلمون } يجب أن يكون عائد إليهم. وثالثها: أن قوله: { لما لا يعلمون } جمع بالواو والنون. وهو بالعقلاء أليق منه بالأصنام التي هي جمادات،

ومنهم من قال بل القول الثاني أولى لوجوه: الأول: أنا إذا قلنا إنه عائد إلى المشركين افتقرنا إلى إضمار، فإن التقدير: ويجعلون لما لا يعلمون إلهاً، أو لما لا يعلمون كونه نافعاً ضاراً، وإذا قلنا إنه عائد إلى الأصنام، لم نفتقر إلى الإضمار لأن التقدير: ويجعلون لما لا علم لها ولا فهم.

والثاني: أنه لو كان العلم مضافاً غلى المشركين لفسد المعنى، لأن من المحال أن يجعلوا نصيباً من رزقهم لما لا يعلمونه، فهذا ما قيل في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر.

واعلم أنا إذا قلنا بالقول الأول افتقرنا فيه إلى الإضمار، وذلك يحتمل وجوهاً: أحدها: ويجعلون لما لا يعلمون له حقاً، ولا يعلمون في طاعته نفعاً ولا في الإعراض عنه ضرراً، قال مجاهد: يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه ينفعهم ويضرهم نصيباً. وثانيها: ويجعلون لما لا يعلمون إلهيتها. وثالثها: ويجعلون لما لا يعلمون السبب في صيرورتها معبودة. ورابعها: المراد استحقار الأصنام حتى كأنها لقلتها لا تعلم.
 
الجوهرة الثالثة والسبعون بعد الثلاثمائة

إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله: { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } في هذه الجملة وجهان، أظهرهما: أنها مفسرةٌ لوجهِ التشبيه بين المَثَلين، فلا محلَّ لها حينئذ من الإِعراب. والثاني: أنها في محل نصب على الحال من آدمَ عليه السلام و " قد " معه مقدرةٌ، والعاملُ فيها معنى التشبيه، والهاءُ في " خَلَقه " عائدةٌ على آدم، ولا تعودُ على عيسى لفسادِ المعنى، وقال ابن عطية: " ولا يجوزُ أن يكون " خلقه " صلةً لآدم ولا حالاً منه،/ قال الزجاج: " إذ الماضي لا يكونُ حالاً أنت فيها، بل هو كلامٌ مقطوعٌ منه مُضَمَّنٌ تفسيرَ الشأن " قال الشيخ: " وفيه نظرٌ " ، ولم يُبَيِّنْ وجهَ النظرِ، والظاهرُ من هذا النظرِ أنَّ الاعتراضَ وهو قولُه: " لا يكون حالاً أنت فيها " غيرُ لازم، إذ تقديرُ " قد " معه يقرِّبُه من الحال، وقد يَظْهَرُ الجواب عَمَّا قاله الزجاج من قول الزمخشري: " إنَّ المعنى: قَدَّره جسداً من طين ثم قال له: كن، أي أَنْشَأه بشراً ". قال الشيخ: " ولو كان الخَلْقُ بمعنى الإِنشاء لا بمعنى التقديرِ لم يأتِ بقولِه " كن " لأنَّ ما خُلِقَ لا يقال له: كُنْ، ولا يُنْشَأُ إلا إنْ كان معنى " ثم قال له كن " عبارةً عن نَفْخِ الروح فيه. " قلت: قد تعرَّض الواحدي لهذه المسألة فَأَتْقَنها فقال: " وهذا ـ يعني قوله خلقه من تراب ـ ليس بصلةٍ لآدم ولا صفةٍ، لأنَّ الصلة للمبهمات والصفةً للنكرات ولكنه خبرٌ مستأنفٌ على جهةِ التفسير لحالِ آدَمَ عليه السلام " قال: " قال الزجاج " وهذا كما تقولُ في الكلام: " مَثَلُك كمثلِ زيد " تريد أنك تُشْبهه في فِعْلٍ ثم تخبرُ بقصة زيد، فتقول: فعل كذا وكذا ".
وقوله: { كُن فَيَكُونُ } اختلفوا في المقولِ له: كن، فالأكثرون على أنه آدم عليه السلام، وعلى هذا يقعُ الإِشكال في لفظ الآية، لأنه إنما يقول له: " كن " قبل أن يخلقَه لا بعده، وههنا يقولُ: " خَلَقه " ثم قال له: كن، والجواب: أنَّ الله تعالى أخبرَنا أولاً أنه خَلَقَ آدمَ مِنْ غيرِ ذَكَرٍ ولا أنثى، ثم ابتدأَ خبراً آخرَ، أرادَ أَنْ يُخْبِرَنا به فقال: إني مخبرُكم أيضاً بعد خبري الأول أني قلت له: " كن " فكان، فجاء بثم لمعنى الخبرِ الذي تقدَّم والخبر الذي تأخر في الذكر، لأنَّ الخَلْقَ تقدَّم على قولِه " كن " ، وهذا كما تقول: " أُخْبِرُك أني أُعطيك اليوم ألفاً، ثم أُخبرك أني أعطتيك أمسِ قبلَه ألفاً " فأمس متقدِّمَ على اليوم، وإنما جاء بثم لأنَّ خبرَ اليوم متقدِّمٌ خبرَ أمسِ، وجاءَ خبرُ أمس بعد مُضِيِّ خبر اليوم، ومثله قوله:{ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا }
[الزمر: 6] وقد خَلَقها بعد خَلْق زوجها، ولكن هذا على الخبر دون الخَلْق، لأنَّ التأويلَ: أخبركم أني قد خلقتكم من نفس واحدة؛ لأن حواء قد خُلقت من ضلعه، ثم أُخبركم أني خَلَقت زوجها منها، ومثلُ هذا مِمَّا جاء في الشعر قوله:
1311ـ إنَّ مَنْ ساد ثم ساد أبوه ثم قد سادَ قبل ذلك جَدُّهُ
ومعلومٌ أنَّ الأبَ متقدِّمٌ له والجَدَّ متقدمٌ للأب، فالترتيبُ يعودُ إلى الخبر لا إلى الوجودِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ المرادُ أنه خلقه قالباً من ترابٍ ثم قال له: كُنْ بَشَراً فيصِحُّ النَّظْمُ. وقال بعضُهم: المقولُ له كن: عيسى، ولا إشكالَ على هذا.

وقال الالوسي فى تفسيره

{ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } أي صر بشراً فصار، فالتراخي على هذا زماني إذ بين إنشائه مما ذكر وإيجاد الروح فيه وتصييره لحماً ودماً زمان طويل، فقد روي أنه بعد أن خلق قالبه بقي ملقى/ على باب الجنة أربعين سنة لم تنفخ فيه الروح؛ والتعبير بالمضارع مع أن المقام مقام المضي لتصوير ذلك الأمر الكامل بصورة المشاهد الذي يقع الآن إيذاناً بأنه من الأمور المستغربة العجيبة الشأن، وجوز أن يكون التعبير بذلك لما أن الكون مستقبل بالنظر إلى ما قبله، وذهب كثير من المحققين إلى أن { ثُمَّ } للتراخي في الإخبار لا في المخبر به، وحملوا الكلام على ظاهره، ولا يضر تقدم القول على الخلق في هذا الترتيب والتراخي ـ كما لا يخفى، والضمير المجرور عائد على ما عاد عليه الضمير المنصوب، والقول ـ بأنه عائد على عيسى ـ ليس بشيء لما فيه من التفكيك الذي لا داعي إليه ولا قرينة تدل عليه.
 
الجوهرة الرابعة والسبعون بعد الثلاثمائة

{ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِٱلْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
قال السمين الحلبي فى الدر المصون
والضمير في { لِتَحْسَبُوهُ } يجوزُ أَنْ يعودَ على ما دَلَّ عليه ما تقدم من ذِكْر الليِّ والتحريف أي: لتحسَبوا المحرَّف من التوراة، ويجوز أن يعودَ على مضافٍ محذوف دَلَّ عليه المعنى والأصل: يَلْوُون ألسنَتهم بشبه الكتاب لتحسَبوا شبه الكتاب الذي حرفوه من الكتاب، ويكون كقوله تعالى:
{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ }
[النور: 40] ثم قال " يَغْشاه " والأصل: أو كذي ظلمات، فالضميرُ من " يغشاه " يعود على ذي المحذوف.

{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله: { يَغْشَاهُ مَوْجٌ } صفةٌ أخرىٰ لـ " بَحْرٍ " هذا إذا أَعَدْنا الضميرَ في " يَغْشاه " على " بحرٍ " وهو الظاهر. وإنْ قدَّرنا مضافاً محذوفاً أي: أو كذي ظُلُمات ـ كما فَعَل بعضُهم ـ كان الضمير في " يَغْشاه " عائداً عليه، وكانت الجملةُ حالاً منه لتخصُّصِه بالإِضافة، أو صفةً له.
 
الجوهرة الخامسة والسبعون بعد الثلاثمائة

وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

وقوله: { يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ } جملةٌ في محل الجرِّ صفةً لسَراب أيضاً. وحَسُن ذلك لتقدُّمِ الجارِّ على الجملةِ. هذا إنْ جَعَلْنا الجارَّ صفةً. والضمائرُ المرفوعةُ في " جاءَه " وفي " لم يَجِدْه " وفي " وَجَد " ، والضمائرُ في " عنده " وفي " وَفَّاه " وفي " حسابه " كلُّها تَرْجِع إلى الظمآن؛ لأنَّ المرادَ به الكافرُ المذكورُ أولاً. وهذا قول الزمخشري وهو حَسَنٌ. وقيل: بل الضميران في " جاءه " و " وجد " عائدان على الظمآن، والباقيةُ عائدةٌ على الكافر، وإنما أُفْرِدَ الضميرُ على هذا ـ وإنْ تَقَدَّمه جمعُ وهو قولُه: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } ـ حَمْلاً على المعنىٰ، إذِ المعنىٰ: كلُّ واحدٍ من الكفار. والأولُ أَوْلى لاتساقِ الضمائرِ.

وقال ابن عطية فى المحرر الوجيز:

ويحتمل أن يعود الضمير في { جاءه } على " السراب " ، ثم يكون في الكلام بعد ذلك متروك يدل عليه الظاهر تقديره فكذلك الكافر يوم القيامة يظن عمله نافعاً { حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } ويحتمل الضمير أن يعود على العمل الذي يدل عليه قوله { أعمالهم } ويكون تمام المثل في قوله { ماء } ويستغني الكلام عن متروك على هذا التأويل، لكن يكون في المثل إيجاز واقتضاب لوضوح المعنى المراد به، وقوله { ووجد الله عنده } أي بالمجازاة، والضمير في { عنده } عائد على العمل،


الجوهرة السادسة والسبعون بعد الثلاثمائة

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { كَأَنَّهُنَّ ٱلْيَاقُوتُ وَٱلْمَرْجَانُ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله: { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ }: اختُلِفَ في هذا الضمير، فقيل: يعود على الجنات، فيقال: كيف تَقَدَّمَ تثنيةٌ ثم أُتِي بضمير جَمْع؟

فالجوابُ: أنَّ أقلَّ الجمعِ اثنان على قولٍ، وله شواهدُ قد تقدَّم أكثرُها. وإمَّا أن يقالَ: عائدٌ على الجنات المدلولِ عليها بالجنتْين، وإمَّا أَنْ يقالَ: إنَّ كل فردٍ فردٍ له جنتان فصَحَّ أنها جناتٌ كثيرة، وإمَّا أنَّ الجنةَ تشتمل على مجالسَ وقصورٍ ومنازلَ فأطلقَ على كلِّ واحدٍ منها جنة.

وقيل: يعودُ على الفُرُش. وهذا قولٌ حَسَنٌ قليلُ الكُلْفَةِ.

وقال الزمشخري: " فيهِنَّ: في هذه الآلاءِ المعدودة من الجنَّتَيْن والعينَيْن والفاكهةِ والفُرُشِ والجَنَى ". قال الشيخ: " وفيه بُعْدٌ " وكان قد اسْتَحْسَنَ الوجهَ الذي قبله. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الاستعمالَ أَنْ يُقال: على الفِراش كذا، ولا يقال: في الفِراش كذا إلاَّ بتكلُّف؛ فلذلك جَمَعَ الزمخشريُّ مع الفُرُش غيرَها حتى صَحَّ له أَنْ يقولَ: " فيهن " بحرف الظرفيَّة، ولأن الحقيقةَ أنَّ الفُرُشَ يكون الإِنسانُ عليها؛ لأنه مُستَعْلٍ عليها. وأمَّا كونُه فيها فلا يقال إلاَّ بمجازٍ. وقال الفراء: " كلُّ موضع في الجنةِ جنةٌ، فلذلك صَحَّ أَنْ يُقالَ: فيهِنَّ
 
الجوهرة السابعة والسبعون بعد الثلاثمائة

وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ }

قال ابن الجوزى فى زاد المسير

وفي قوله تعالى: { والليل إذا يسر } قولان.

أحدهما: أن الفعل له، ثم فيه قولان.

أحدهما: إذا يسري ذاهباً، قاله الجمهور، وهو اختيار الزجاج.

والثاني: إذا يسري مقبلا، قاله قتادة.

والقول الثاني: أن الفعل لغيره، والمعنى: إذا يسري فيه، كما يقال: ليل نائم، أي: ينام فيه، قاله الأخفش، وابن قتيبة.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

والهاء في " به " على سمعكم. وقيل: تعود على الجميع. وَوُحِّد ذهاباً به مذهب اسم الإِشارة وقيل: تعود على الهَدْي المدلول عليه بالمعنى. وقيل: يَعودُ على المأخوذ والمختوم المدلول عليهما بالأَخْذ والخَتْم. والاستفهام هنا للإِنكار.
 
الجوهرة الثامنة والسبعون بعد الثلاثمائة

{ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قال البقاعى فى نظم الدرر:

{ فأصلح بينهم } أي بين الموصي والموصي لهم إن كان ذلك قبل موته بأن أشار عليه بما طابت به الخواطر، أو بين الموصي لهم والورثة بعد موته إن خيف من وقوع شر فوفق بينهم على أمر يرضونه.

وقال الطبري فى تفسيره:

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل هذه الآية، فقال بعضهم: تأويـلها: فمن حضر مريضاً وهو يوصي عند إشرافه علـى الـموت، فخاف أن يخطىء فـي وصيته فـيفعل ما لـيس له أو أن يعمد جوراً فـيها فـيأمر بـما لـيس له الأمر به، فلا حرج علـى من حضره فسمع ذلك منه أن يصلـح بـينه وبـين ورثته بأن يأمره بـالعدل فـي وصيته، وأن ينهاهم عن منعه مـما أذن الله له فـيه وأبـاحه له..

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن خاف من أوصياء ميت أو والـي أمر الـمسلـمين من موص جَنفـاً فـي وصيته التـي أوصى بها الـميت، فأصلـح بـين ورثته وبـين الـموصى لهم بـما أوصى لهم به، فردّ الوصية إلـى العدل والـحق فلا حَرج ولا إثم..

وقال بعضهم: بل معنى ذلك: { فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفـاً أوْ إثْماً } فـي عطيته عند حضور أجله بعض ورثته دون بعض، فلا إثم علـى من أصلـح بـينهم، يعنـي بـين الورثة..

وقال آخرون: معنى ذلك: فمن خاف من موص جنفـاً أو إثماً فـي وصيته لـمن لا يرثه بـما يرجع نفعه علـى من يرثه فأصلـح بـين ورثته فلا إثم علـيه..

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن خاف من موص لآبـائه وأقربـائه جنفـاً علـى بعضهم لبعض فأصلـح بـين الآبـاء والأقربـاء فلا إثم علـيه...

وأولـى الأقوال فـي تأويـل الآية، أن يكون تأويـلها: فمن خاف من موص جنفـاً أو إثماً وهو أن يـميـل إلـى غير الـحقّ خطأ منه أو يتعمد إثماً فـي وصيته بأن يوصي لوالديه وأقربـيه الذين لا يرثونه بأكثر مـما يجوز له أن يوصي لهم به من ماله، وغير ما أذن الله له به مـما جاوز الثلث، أو بـالثلث كله، وفـي الـمال قلة، وفـي الورثة كثرة، فلا بأس علـى من حضره أن يصلـح بـين الذين يوصَى لهم وبـين ورثة الـميت وبـين الـميت، بأن يأمر الـميت فـي ذلك بـالـمعروف، ويعرّفه ما أبـاح الله له فـي ذلك، وأذن له فـيه من الوصية فـي ماله، وينهاه أن يجاوز فـي وصيته الـمعروف الذي قال الله تعالـى ذكره فـي كتابه:
{ كُتِبَ عَلَـيْكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ الـمَوْتُ إن تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ للْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِـينَ بـالـمَعْرُوفِ }
وذلك هو الإصلاح الذي قال الله تعالـى ذكره: { فأصْلَـحَ بَـيْنَهُمْ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ } وكذلك لـمن كان فـي الـمال فضل وكثرة، وفـي الورثة قلة، فأراد أن يقصر فـي وصيته لوالديه وأقربـيه عن ثلثه، فأصلـح من حضره بـينه وبـين ورثته وبـين والديه وأقربـيه الذين يريد أن يوصي لهم بأن يأمر الـمريض أن يزيد فـي وصيته لهم، ويبلغ بها ما رخص الله فـيه من الثلث، فذلك أيضاً هو من الإصلاح بـينهم بـالـمعروف.

وإنـما اخترنا هذا القول لأن الله تعالـى ذكره قال: { فَمَنْ خافَ مِن مُوصٍ جَنَفـاً أوْ إثْماً } يعنـي بذلك: فمن خاف من موص أن يجنف أو يأثم. فخوف الـجنف والإثم من الـموصي إنـما هو كائن قبل وقوع الـجنف والإثم، فأما بعد وجوده منه فلا وجه للـخوف منه بأن يجنف أو يأثم، بل تلك حال من قد جنف أو أثم، ولو كان ذلك معناه قـيـل: فمن تبـين من موص جنفـاً أو إثماً، أو أيقن أو علـم، ولـم يقل فمن خاف منه جنفـاً.

فإن أشكل ما قلنا من ذلك علـى بعض الناس فقال: فما وجه الإصلاح حينئذٍ والإصلاح إنـما يكون بـين الـمختلفـين فـي الشيء؟ قـيـل: إن ذلك وإن كان من معانـي الإصلاح، فمن الإصلاحِ الإصلاحُ بـين الفريقـين فـيـما كان مخوفـاً حدوث الاختلاف بـينهم فـيه بـما يؤمن معه حدوث الاختلاف لأن الإصلاح إنـما هو الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البـين، فسواء كان ذلك الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البـين قبل وقوع الاختلاف أو بعد وقوعه.

فإن قال قائل: فكيف قـيـل: فأصلـح بـينهم، ولـم يجر للورثة ولا للـمختلفـين أو الـمخوف اختلافهم ذكر؟ قـيـل: بل قد جرى ذكر الله الذين أمر تعالـى ذكره بـالوصية لهم، وهم والدا الـموصي وأقربوه والذين أمروا بـالوصية فـي قوله:
{ كُتِبَ عَلَـيْكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ الـمَوتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصيّةُ للْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِـينَ بـالـمَعْرُوفِ }
ثم قال تعالـى ذكره: { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ } لـمن أمرته بـالوصية له { جنَفَـاً أوْ إثْماً فأصْلَـحَ بَـيْنَهُمْ } وبـين من أمرته بـالوصية له، { فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ } والإصلاح بـينه وبـينهم هو إصلاح بـينهم وبـين ورثة الـموصي.
 
الجوهرة التاسعة والسبعون بعد الثلاثمائة

وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيۤ أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله: { فَٱحْذَرُوهُ } الهاءُ في " فاحذَرُوه " تعودُ على اللَّهِ تعالى، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي: فاحذَرُوا عقابَه. ويَحْتَمِلُ أَنْ تعودَ على " ما " في قوله { مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ } بمعنى ما في أنفسكم من العَزْمِ على ما لا يجوزُ، قاله الزمخشري.
 
الجوهرة الثمانون بعد الثلاثمائة

لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }

قال القرطبي فى تفسيره:

{ وَتُعَزِّرُوهُ } أي تعظموه وتفخّموه؛ قاله الحسن والكلبي. والتعزير: التعظيم والتوقير. وقال قتادة: تنصروه وتمنعوا منه. ومنه التعزير في الحدّ؛ لأنه مانع. قال القَطَامِيّ:
ألا بَكَرَتْ مَيٌّ بغير سَفَاهةٍ تُعاتِبُ والْمَوْدُودُ ينفعه العَزْر
وقال ابن عباس وعكرمة: تقاتلون معه بالسيف. وقال بعض أهل اللغة: تطيعوه. { وَتُوَقِّرُوهُ } أي تسوِّدُوه؛ قاله السدي. وقيل تعظموه. والتوقير: التعظيم والتَّرْزِين أيضاً. والهاء فيهما للنبيّ صلى الله عليه وسلم. وهنا وقف تام، ثم تبتدىء «وَتُسَبِّحُوهُ» أي تسبحوا الله { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي عَشِيًّا. وقيل: الضمائر كلّها للّه تعالى؛ فعلى هذا يكون تأويل «تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ» أي تُثبتوا له صحة الربوبية وتَنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك. وٱختار هذا القول القشيري. والأوّل قول الضحاك، وعليه يكون بعض الكلام راجعاً إلى الله سبحانه وتعالى وهو «وَتُسَبِّحُوهُ» من غير خلاف. وبعضه راجعاً إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وهو «وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ» أي تدعوه بالرسالة والنبوّة لا بالاسم والكُنْيَة. وفي «تُسَبِّحُوهُ» وجهان: أحدهما ـ تسبيحه بالتنزيه له سبحانه من كل قبيح. والثاني ـ هو فعل الصلاة التي فيها التسبيح. «بُكْرَةً وَأَصِيلاً» أي غُدْوة وعَشِيًّا. وقد مضى القول فيه. وقال الشاعر:
لَعَمْرِي لأنت البيتُ أُكْرِمُ أهْلَهُ وأجلس في أفْيَائه بالأصائل
 
الجوهرة الواحدة والثمانون بعد الثلاثمائة

{ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ }

الظاهر ان الضمير فى انها للارض المقدسة كما ذكر السادة المفسرون وهو الصحيح بلاشك

قال الماتريدى فى تفسيره:

وقوله - عز وجل -: { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً... } الآية.

قوله تعالى: { مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ }: من الحرمان والمنع، هو - والله أعلم - ليس على التحريم؛ كقوله - تعالى -:
{ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ }
[القصص: 12] ليس هو من التحريم الذي هو تحريم حكم، ولكن من المنع والحرمان؛ فعلى ذلك الأول، والله أعلم.

وقال قائلون: محرمة عليهم أبداً لم يدخلوها حتى ماتوا، لكن ولد لهم أولاد؛ فلما ماتوا هم دخل أولادهم؛ لأنهم قالوا: { لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً }.

وقال قائلون: قوله تعالى: { مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ }: أي: التوبة محرمة عليهم، لن يتوبوا أبداً، والله أعلم.

وقوله - عز وجل -: { أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ }: فالمدة هاهنا للتيه - والله أعلم - لا لقوله تعالى: { مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ }.

ثم اختلف في التيه: قال قائلون: لم يكن موسى وهارون - عليهما السلام - معهم في التيه؛ لأن ذلك لهم من الله كان عقوبة، ولا يحتمل أن يكون الله - عز وجل - يعذب رسوله بذنب قومه؛ لأنه لم يعذب قوماً بتكذيب الرسول قط إلا من بعد ما أخرج الرسول من بين أظهرهم؛ فعلى ذلك لا يحتمل أن يكون موسى يعذب بعصيان قومه، والله أعلم.

وقال آخرون: كان موسى معهم في تلك الأرض مقيماً فيها، ولكن الحيرة والتيه كانت لقومه، قيل: كانوا يرتحلون ثم ينزلون من حيث أصبحوا أربعين سنة، وكان ماؤهم في الحجر الذي كان مع موسى - عليه السلام - فكان إذا نزل [ضربه] موسى بعصاه،
{ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً }
[البقرة: 60]، لكل سبط عين، ولم يكن حل بموسى مما كان حل بقومه قليل ولا كثير؛ إنما أمر بالمقام فيها؛ فأقام من غير أن كان به حيرة.

وقال الرازى فى تفسيره:

وفي قوله { أَرْبَعِينَ سَنَةً } قولان:

أحدهما: أنها منصوبة بالتحريم، أي الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة، ثم فتح الله تعالى تلك الأرض لهم من غير محاربة، هكذا ذكره الربيع بن أنس.

والقول الثاني: أنها منصوبة بقوله { يَتِيهُونَ فِى ٱلأَرْضِ } أي بقوا في تلك الحالة أربعين سنة، وأما الحرمة فقد بقيت عليهم وماتوا، ثم إن أولادهم دخلوا تلك البلدة.

قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ٱلَّذِي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ } * { وَتَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } * { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ }

قال الامام ابو حيان فى البحر المحيط:

والظاهر أن الضمير في { فطرهن } عائد على السموات والأرض، ولما لم تكن السموات والأرض تبلغ في العدد الكثير منه جاء الضمير ضمير القلة.

وقيل في { فطرهن } عائد على التماثيل. قال الزمخشري: وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم انتهى. وقال ابن عطية: { فطرهن } عبارة عنها كأنها تعقل، هذه من حيث لها طاعة وانقياد وقد وصفت في مواضع بما يوصف به من يعقل. وقال غير { فطرهن } أعاد ضمير من يعقل لما صدر منهن من الأحوال التي تدل على أنها من قبيل من يعقل، فإن الله أخبر بقوله
{ قالتا أتينا طائعين }
[فصلت: 11] وقوله صلى الله عليه وسلم: " أطلت السماء وحق لها أن تئط " انتهى. وكأن ابن عطية وهذا القائل تخيلاً أن هن من الضمائر التي تخص من يعقل من المؤنثات وليس كذلك بل هو لفظ مشترك بين من يعقل وما لا يعقل من المؤنث المجموع ومن ذلك قوله
{ فلا تظلموا فيهن أنفسكم }
[التوبة: 36] والضمير عائد على الأربعة الحرم،

ملحوظة

سبق ان ذكرنا مرجع الضمير فى اليه يرجعون
 
الجوهرة الثانية والثمانون بعد الثلاثمائة

{ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ ٱلجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ }

قال ابن الجوزى فى زاد المسير

{ وجَعَلوا بينه وبين الجِنَّة نَسَباً } فيه ثلاثة أقوال.

أحدها: أنهم قالوا: هو وإِبليس أخَوان، رواه العوفي عن ابن عباس؛ قال الماوردي: وهو قول الزنادقة والذين يقولون: الخير مِنَ الله، والشَّرُّ من إِبليس.

والثاني: أن كفار قريش قالوا: الملائكة بنات الله، والجِنَّة صِنف من الملائكة. يقال لهم: الجِنَّة، قاله مجاهد.

والثالث: أن اليهود قالت: إِن الله تعالى تزوّج إِلى الجن فخرجت من بينهم الملائكة، قاله قتادة، وابن السائب.

فخرج في معنى الجِنَّة قولان:

أحدهما: أنهم الملائكة.

والثاني: الجن.

فعلى الأول، يكون معنى قوله: { ولقد عَلِمَتِ الجِنَّةُ } أي: عَلِمَت الملائكةُ { إَنهم } أي: إِن هؤلاء المشركين { لَمُحْضَرُونَ } النّار.

وعلى الثاني: [ { ولقد عَلِمت الجِنَّةُ] إنهم } أي: إِن الجن أنفسها " لَمُحْضَرونَ " الحساب.
 
الجوهرة الثالثة والثمانون بعد الثلاثمائة

{ خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } * { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } * { إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } * { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ }

قال ابن كثير فى تفسيره

وقوله تعالى: { إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } فيه قولان:

(أحدهما) على رجع هذا الماء الدافق، إلى مقره الذي خرج منه لقادر على ذلك.قاله مجاهد وعكرمة وغيرهما.

(والقول الثاني) إنه على رجع هذا الإنسان المخلوق من ماء دافق، أي: إعادته وبعثه إلى الدار الآخرة لقادر؛ لأن من قدر على البداءة، قدر على الإعادة، وقد ذكر الله عز وجل هذا الدليل في القرآن في غير ما موضع، وهذا القول قال به الضحاك، واختاره ابن جرير، ولهذا قال تعالى: { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } أي: يوم القيامة تبلى فيه السرائر، أي: تظهر وتبدو، ويبقى السر علانية، والمكنون مشهوراً

{ نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ }

قال الرازى فى تفسيره

قوله تعالى: { وَمَا يَسْطُرُونَ }.

اعلم أن ما مع ما بعدها في تقدير المصدر، فيحتمل أن يكون المراد وسطرهم، فيكون القسم واقعاً بنفس الكتابة، ويحتمل أن يكون المراد المسطور والمكتوب، وعلى التقديرين فإن حملنا القلم على كل قلم في مخلوقات الله كان المعنى ظاهراً، وكأنه تعالى أقسم بكل قلم، وبكل ما يكتب بكل قلم،

وقيل: بل المراد ما يسطره الحفظة والكرام الكاتبون،

ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه، فيكون الضمير في { يَسْطُرُونَ } لهم، كأنه قيل: وأصحاب القلم وسطرهم، أي ومسطوراتهم.

وأما إن حملنا القلم على ذلك القلم المعين، فيحتمل أن يكون المراد بقوله: { وَمَا يَسْطُرُونَ } أي وما يسطرون فيه وهو اللوح المحفوظ، ولفظ الجمع في قوله: { يَسْطُرُونَ } ليس المراد منه الجمع بل التعظيم، أو يكون المراد تلك الأشياء التي سطرت فيه من الأعمال والأعمار، وجميع الأمور الكائنة إلى يوم القيامة.

وقال ابو حيان فى بحره

، والضمير في { يسطرون } عائد على الكتاب لدلالة القلم عليهم، فإما أن يراد بهم الحفظة، وإما أن يراد كل كاتب. وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه، فيكون الضمير في { يسطرون } لهم، كأنه قيل: وأصحاب القلم ومسطوراتهم أو وتسطيرهم. انتهى. فيكون كقوله:
{ أو كظلمات في بحر لجي }
[النور: 40] أي وكذي ظلمات، ولهذا عاد عليه الضمير في قوله:
{ يغشاه موج }
[النور: 40].
 
الجوهرة الرابعة والثمانون بعد الثلاثمائة

وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } * { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } * {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ }

قال القرطبي فى تفسيره

{ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } من أشكل ما في السورة؛ لأنهم هم المحمولون. فقيل: المعنى وآية لأهل مكة أنا حملنا ذرية القرون الماضية «فيِ الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» فالضميران مختلفان؛ ذكره المهدوي. وحكاه النحاس عن عليّ بن سليمان أنه سمعه يقوله. وقيل: الضميران جميعاً لأهل مكة على أن يكون ذرياتهم أولادهم وضعفاءهم؛ فالفلك على القول الأوّل سفينة نوح. وعلى الثاني يكون ٱسماً للجنس؛ خبّر جل وعز بلطفه وٱمتنانه أنه خلق السفن يحمل فيها من يصعب عليه المشي والركوب من الذرية والضعفاء، فيكون الضميران على هذا متفقين. وقيل: الذرية الآباء والأجداد، حملهم الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام؛ فالآباء ذرية والأبناء ذرية؛ بدليل هذه الآية؛ قاله أبو عثمان. وسمّي الآباء ذرية؛ لأن منهم ذرأ الأبناء. وقول رابع: أن الذرية النُّطَف حملها الله تعالى في بطون النساء تشبيهاً بالفلك المشحون؛ قاله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه؛ ذكره الماوردي. وقد مضى في «البقرة» ٱشتقاق الذرية والكلام فيها مستوفًى. و «الْمَشْحُون» المملوء الموقَر، و «الْفُلْك» يكون واحداً وجمعاً. وقد تقدّم في «يونس» القول فيه.

قوله تعالى: { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } والأصل يركبونه فحذفت الهاء لطول الاسم وأنه رأس آية.

وفي معناه ثلاثة أقوال: مذهب مجاهد وقتادة وجماعة من أهل التفسير، وروي عن ٱبن عباس أن معنى «مِنْ مِثْلِهِ» للإبل، خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن المركوبة في البحر؛ والعرب تشبه الإبل بالسفن. قال طرفة:
كأنّ حُدُوجَ المالكيةِ غُدوةً خَلاَيَا سفِينٍ بالنواصِفِ مِن دَدِ
جمع خلّية وهي السفينة العظيمة.

والقول الثاني أنه للإبل والدواب وكل ما يركب.

والقول الثالث أنه للسفن؛ النحاس: وهو أصحها لأنه متصل الإسناد عن ٱبن عباس. { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } قال: خلق لهم سفناً أمثالها يركبون فيها. وقال أبو مالك: إنها السفن الصغار خلقها مثل السفن الكبار؛ وروي عن ٱبن عباس والحسن. وقال الضحاك وغيره: هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح. قال الماورديّ: ويجيء على مقتضى تأويل علي رضي الله عنه في أن الذرّية في الفلك المشحون هي النطف في بطون النساء قول خامس في قوله: { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } أن يكون تأويله النساء خلقن لركوب الأزواج لكن لم أره محكياً.

قوله تعالى: { وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ } أي في البحر فترجع الكناية إلى أصحاب الذرية، أو إلى الجميع، وهذا يدلّ على صحة قول ابن عباس ومن قال: إن المراد «مِنْ مِثْلِهِ» السفن لا الإبل.

وقال ابن الجوزى فى زاد المسير

قوله تعالى: { وخَلَقْنا لهم مِنْ مِثْلِه } فيه قولان.

أحدهما: مِثْل سفينة نوح، وهي السُّفُن، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، وأبو مالك، وأبو صالح، والمراد بهذا ذِكْر مِنَّته بأن خَلَق الخشب الذي تُعْمَل منه السُّفُن.

والثاني: أنها الإِبل، خَلَقها لهم للرُّكوب في البَرِّ، مثل السُّفُن المركوبة في البحر، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وعن الحسن وقتادة كالقولين.

وقال الرازى فى تفسيره

المسألة الثالثة: الضمير في { مّثْلِهِ } على قول الأكثرين عائد إلى الفلك فيكون هذا كقوله تعالى:
{ وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوٰجٌ }
[ص: 58] وعلى هذا فالأظهر أن يكون المراد الفلك الآخر الموجود في زمانهم ويؤيد هذا هو أنه تعالى قال:
{ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ }
[يس: 43] ولو كان المراد الإبل على ما قاله بعض المفسرين لكان قوله: { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } فاصلاً بين متصلين، ويحتمل أن يقال الضمير عائد إلى معلوم غير مذكور تقديره أن يقال: وخلقنا لهم من مثل ما ذكرنا من المخلوقات في قوله:
{ خَلَق ٱلأَزْوٰجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ }
[يس: 36] وهذا كما قالوا في قوله تعالى:
{ لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ }
[يس: 35] أن الهاء عائد إلى ماذكرنا، أي من ثمر ما ذكرنا، وعلى هذا فقوله: { خَلَقْنَا لَهُم } فيه لطيفة، وهي أن ما من أحد إلا وله ركوب مركوب من الدواب وليس كل أحد يركب الفلك فقال في الفلك حملنا ذريتهم وإن كان ما حملناهم، وأما الخلق فلهم عام وما يركبون فيه وجهان أحدهما: هو الفلك الذي مثل فلك نوح ثانيهما: هو الإبل التي هي سفن البر، فإن قيل إذا كان المراد سفينة نوح فما وجه مناسبة الكلام؟ نقول ذكرهم بحال قوم نوح وأن المكذبين هلكوا والمؤمنين فازوا فكذلك هم إن آمنوا يفوزوا وإن كذبوا يهلكوا.
 
الجوهرة الخامسة والثمانون بعد الثلاثمائة

سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله: { فِيهَا صَرْعَىٰ } صَرْعَى حالٌ، جمعُ صَريع نحو: قتيل وقَتْلى، وجريح وجَرْحى، والضمير في " فيها " للأيام والليالي، أو للبيوت، أو للرِيح، أظهرُها الأولُ لقُرْبِه، ولأنَّه مذكورٌ.

الجوهرة السادسة والثمانون بعد الثلاثمائة

{ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ ٱلنَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّٰتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ ٱنْظُرُوۤاْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذٰلِكُمْ لأَيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

قال السمين فی الدر المصون

قوله: { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ } في الهاء وجهان أحدهما: أن تعود على النبات وهذا هو الظاهر ولم يذكر الزمخشري غيره، وتكون " مِنْ " على بابها مِنْ كونها لابتداء الغاية أو تكون للتبعيض، وليس بذلك.

والثاني: أن تعود على الماء وتكون " مِنْ " سببية، وذكر أبو البقاء الوجهين فقال: " وأخرجنا منه أي: بسببه. ويجوز أن تكون الهاء في " منه " راجعة على النبات وهو الأشبه، وعلى الأول يكون " فأخرجنا " بدلاً من " أخرجنا " الأول ". أي إنه يُكتفى في المعنى بالإِخبار بهذه الجملة الثانية وإلا فالبدل الصناعي لا يظهر، والظاهر أنَّ " فأخرجنا " عطف على " فأخرجنا " الأول. وقال الشيخ: " وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلاً مِنْ فأخرجنا ". قلت: إنما جعله بدلاً بناء على عود الضمير في " منه " على الماء فلا يصحُّ أن يحكى عنه أنه جعله بدلاً مطلقاً؛ لأن البدلية لا تُتَصَوَّرُ على جعل الهاء في " منه " عائدة على النبات...
 
الجوهرة السابعة والثمانون بعد الثلاثمائة

{ وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } * { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } * { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }

قال القاضى الماوردى فى النكت والعيون

{ وَلَقَدْ تّرَكْنَاهَآ ءَايَةً } فيها وجهان:

أحدها: الغرق.

الثاني: السفينة روى سعيد عن قتادة أن الله أبقاها بباقردي من أرض الجزيرة عبرة وآية حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة.

وقال السمين الحلبي فى الدر المصون

وضميرُ " تَرَكْناها " إمَّا للقصة. أو الفَعْلة، أو السفينة، وهو الظاهرُ.

{ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } * {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }

قال ابو حيان فى بحره المحيط

والضمير في عليه عائد على دين الله أي: ما تبتغي عليه أجراً على دين الله، وقيل: على القرآن، وقيل: على التبليغ، وقيل: على الإنباء بمعنى القول..

وقرأ عكرمة وعمرو بن قائد: والأرض بالرفع على الابتداء، وما بعده خبر. ومعنى يمرون عليها فيشاهدون ما فيها من الآيات. وقرأ السدي: والأرض بالنصب، وهو من باب الاشتغال أي: ويطوون الأرض يمرون عليها على آياتها، وما أودع فيها من الدلالات. والضمير في عليها وعنها في هاتين القراءتين يعود على الأرض، وفي قراءة الجمهور وهي بجر الأرض، يعود الضمير على آية أي: يمرون على تلك الآيات ويشاهدون تلك الدلالات، ومع ذلك لا يعتبرون
 
الجوهرة الثامنة والثمانون بعد الثلاثمائة

الضمائر والقراءات

{ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

وقرأ قتادة " فلم تُغادِرْ " بالتاءِ من فوقُ، والفاعلُ ضميرُ الأرض،ِ أو الغَدْرَةِ المفهومةِ من السياق

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوۤاْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله تعالى: { مِن بَعْدِهَا }: أي: مِنْ بعدِ عَمَلِ السوءِ والتوبةِ والإِصلاح، وقيل: على الجهالةِ. وقيل: على السوءِ؛ لأنه في معنى المعصيةِ.

{ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }

قال ابن الجوزى فى زاد المسير

قوله تعالى: { فكلوا مما رزقكم الله } في المخاطَبين بهذا قولان:

أحدهما: أنهم المسلمون، وهو قول الجمهور.

والثاني: أنهم أهل مكة المشركون، لما اشتدت مجاعتهم، كلَّم رؤساؤُهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إِن كنتَ عاديتَ الرجال، فما بال النساء والصبيان؟! فأَذِن رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس أن يحملوا الطعام إِليهم، حكاه الثعلبي، وذكر نحوه الفراء، وهذه الآية والتي تليها مفسرتان في [البقرة: 172 173]

{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قولِه: { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } قرأ ابنُ عامر " فَتَنوا " مبنياً للفاعل، أي: فَتَنُوا أَنْفُسَهم، فإن عاد الضميرُ على المؤمنين فالمعنى: فَتَنُوا انفسَهم بما أَعْطَوا المشركين من القولِ ظاهراً، أو أنهم لَمَّا صبروا على عذابِ المشركين فكأنهم فَتَنُوا أنفسَهم، وإنْ عاد على المشركين فهو واضحٌ، أي: فتنُوا المؤمنين.

والباقون " فُتِنُوا " مبنياً للمفعول. والضميرُ في " بعدها " للمصادرِ المفهومةِ من الأفعالِ المتقدمةِ، أي: مِنْ بعد الفتنةِ والهجرةِ والجهادِ والصبرِ. وقال ابن عطية: " عائدٌ على الفتنةِ أو الفَعْلة أو الهجرة أو التوبة ".
 
الجوهرة التاسعة والثمانون بعد الثلاثمائة

{ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

والضمير في " قَدَّرناه " يعود على القمر وحده؛ لأنه هو عمدةُ العربِ في تواريخهم. وقال ابن عطية: " ويُحتمل أن يريدهما معاً بحسب أنهما يتصرَّفان في معرفة عدد السنين والحساب، لكنه اجتُزِىءَ بذِكْر أحدهما كقوله تعالى:
{ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ }
[التوبة: 62] وكما قال الشاعر:
2572 ـ رماني بأمرٍ كنتُ منه ووالدي بريئاً ومِنْ أجل الطَّوِيِّ رماني

{ هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

وقوله: { بِهِم } فيه التفاتٌ من الخطابِ إلى الغَيْبة. قال الزمخشري:/ " فإن قلت: ما فائدةُ صَرْفِ الكلامِ عن الخطابِ إلى الغَيْبة؟ قلت: المبالغةُ كأنه يَذْكُرُ لغيرهم حالَه ليُعْجِبَهم منها ويَسْتدعي منهم الإِنكارَ والتقبيح ". وقال ابن عطية: " بهم " خروجٌ من الخطاب إلى الغَيْبة وحَسُنَ ذلك لأن قوله: { كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ } هو بالمعنى المعقول، حتى إذا حَصَلَ بعضُكم في السفن " انتهىٰ. فقدَّر اسماً غائباً وهو ذلك المضافُ المحذوف، فالضميرُ الغائب يعود عليه. ومثلُه
{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ }
[النور: 40] تقديره: أو كذي ظلمات " وعلى هذا فليس من الالتفات في شيءٍ. وقال الشيخ: " والذي يَظْهر أنَّ حكمةَ الالتفاتِ هنا هي أن قولَه { هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ } خطابٌ فيه امتنانٌ وإظهارُ نعمةٍ للمخاطبين، والمسيَّرون في البر والبحر مؤمنون وكفَّار، والخطابُ شاملٌ، فَحَسُن خطابُهم بذلك ليستديمَ الصالحُ الشكرَ، ولعلَّ الطالحَ يتذكر هذه النعمةَ، ولمَّا كان في آخر الآية ما يقتضي أنهم إذا نَجَوا بَغَوا في الأرضِ عَدَلَ عن خطابهم بذلك إلى الغَيْبة لئلا يخاطب المؤمنين بما لا يليق صُدورُه منهم وهو البغيُ بغير الحق "

قوله: { جَآءَتْهَا } الظاهرُ أن هذه الجملةَ الفعلية جواب " إذا " ، وأن الضميرَ في " جاءَتْها " ضميرُ الريح الطيبة، أي: جاءَتِ الريحَ الطيبةَ ريحٌ عاصفٌ، أي: خَلَفَتْها. وبهذا بدأ الزمخشري، وسبقه إليه الفراء وجَوَّز أن يكونَ الضميرُ للفلك، ورجَّح هذا بأن الفُلْكَ هو المُحَدَّث عنه.

{ إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

وقوله: " فاختلطَ به " في هذه الباءِ وجهان، أحدهما: أنها سببيَّةٌ. قال الزمخشري: " فاشتبك بسببه حتى خالط بعضُه بعضاً " ، وقال ابن عطية: " وَصَلَتْ فِرْقَةٌ " النباتَ " بقوله: " فاختلط " ، أي: اختلط النباتُ بعضُه ببعض بسبب الماء ". والثاني: أنها للمصاحبة بمعنى أنَّ الماءَ يجري مجرىٰ الغذاء له فهو مصاحبه. وزعم بعضُهم أن الوقفَ على قولِه: " فاختلط " على أن الفعلَ ضميرٌ عائد على الماء، وتَبْتَدىء { بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } على الابتداء والخبر. والضمير في " به " على هذا يجوز عَوْدُه على الماء، وأن يعود على الاختلاط الذي تضمنَّه الفعل، قاله ابن عطية. قال الشيخ: " الوقف على قوله: " فاختلط " لا يجوزُ، وخاصةً في القرآن لأنه تفكيكٌ للكلام المتصلِ الصحيح والمعنى الفصيحِ، وذهابٌ إلى اللُّغْز والتعقيد

وقوله: { أَهْلُهَآ } ، أي: أهل نباتها. و " أتاها " هو جوابُ " إذا " فهو العاملُ فيها. وقيل: الضميرُ عائد على الزينة. وقيل: على الغَلَّة، أي: القُوت فلا حَذْفَ حينئذ

قوله: { كَأَن لَّمْ تَغْنَ } هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً مِنْ مفعول " جَعَلْناها " الأول، وأن تكون مستأنفةً جواباً لسؤال مقدر. وقرأ مروان ابن الحكم " تتغَنَّ " بتاءين بزنة تنفَعَّل، ومثله قول الأعشىٰ:
2580 ـ..................... طويلَ الثَّواءِ طويلَ التَّغَنّ
وهو بمعنى الإِقامة، وقد تقدَّم تحقيقُه في الأعراف. وقرأ الحسن وقتادة { كأن لم يَغْنَ } بياء الغيبة، وفي هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ، أجودُها: أن يعودَ على الحصيد لأنه أقرب مذكور.وقيل: يعودُ على الزخرف، أي: كأن لم يَقُم الزخرف. وقيل: يعود على النبات أو الزرع الذي قدَّرته مضافاً، أي: كأن لم يَغْنَ زَرْعُها ونباتها.
 
الجوهرة التسعون بعد الثلاثمائة

ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىظ° آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }

قال الالوسي في تفسيره

والظاهر أن ضمير { فَمَا رَعَوْهَا } لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية، والمراد نفي وقوع الرعاية من كلهم على أن المعنى فما رعاها كلهم بل بعضهم، وليس المراد بالموصول فيما سبق أشخاصاً بأعيانهم بل المراد به ما يعم النصارى إلى زمان الإسلام ولا يضر في ذلك أن أصل الابتداع كان من قوم مخصوصين لأن إسناده على نحو الإسناد في ـ بنو تميم قتلوا زيداً ـ والقاتل بعضهم.

وقال الضحاك وغيره: الضمير في { فَمَا رَعَوْهَا } للأخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين، والأول أوفق بالصناعة.
 
الجوهرة الواحدة والتسعون بعد الثلاثمائة

{ عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً } * { إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } * { لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً }

قال ابن الجوزي في زاد المسير:

فقال تعالى: { فإنه يسلك من بين يديه } أي: من بين يدي الرسول { ومِن خلفه رَصَداً } أي: يجعل له حَفَظَةً من الملائكة يحفظون الوحي من أن تَسْتَرِقَه الشياطين، فتلقيه إلى الكَهَنة، فيتكلَّمون به قبل أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم الناس.

وقال الزجاج: يسلك من بين يَدَيْ الملَك ومن خلفه رصداً.

وقيل يسلك من بين يدي الوحي. فالرُّصَّدُ من الملائكة يدفعون الشياطين عن أن تستمع ما ينزل من الوحي.

قوله تعالى: { ليعلم } فيه خمسة أقوال.

أحدها: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل قد بلَّغ إليه، قاله ابن جبير.

والثاني: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن الرسل قبله { قد أبلغوا رسالاتِ رِّبهم } وأن الله قد حفظها فدفع عنها، قاله قتادة.

والثالث: ليعلم مكذبو الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم، قاله مجاهد.

والرابع: ليعلم الله عز وجل ذلك موجوداً ظاهراً يجب به الثواب، فهو كقوله تعالى:
{ ولمَّا يعلمِ الله الذين جاهدوا منكم }
[آل عمران: 142] قاله ابن قتيبة.

والخامس: ليعلم النبيُّ أن الرسل قد أتته، ولم تصل إلى غيره، ذكره الزجاج. وقرأ رويس عن يعقوب { ليُعْلَم } بضم الياء على ما لم يسم فاعله. وقال ابن قتيبة: ويُقرأ { لتَعْلَم } بالتاء، يريد: لتعلم الجن أن الرسل قد بلَّغت عن إلههم بما رَجَوْا من استراق السمع { وأحاط بما لديهم } أي: علم الله ما عند الرسل { وأحصى كل شيء عدداً } فلم يفته شيء حتى الذَّرّ والخردل

وقال القرطبي

قوله تعالى: { لِّيَعْلَمَ } قال قتادة ومقاتل: أي ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلّغ هو الرسالة. وفيه حذف يتعلق به اللام؛ أي أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ بالحقّ والصدق.

وقيل: ليعلم محمد أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه؛ قاله ٱبن جبير. قال: ولم ينزل الوحي إلا ومعه أربعة حفظة من الملائكة عليهم السلام.

وقيل: ليعلم الرسل أن الملائكة بلّغوا رسالات ربهم.

وقيل: ليعلم الرسول أيُّ رسول كان أن الرسل سواه بلّغوا.

وقيل: أي ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه وٱستراق أصحابه

. وقال ٱبن قتيبة: أي ليعلم الجنّ أن الرسل قد بلّغوا ما نزل عليهم ولم يكونوا هم المبلّغين بٱستراق السمع عليهم

. وقال مجاهد: ليعلم من كذّب الرسل أن المرسلين قد بلّغوا رسالات ربهم. وقراءة الجماعة «لِيَعْلَمَ» بفتح الياء وتأويله ما ذكرناه. وقرأ ٱبن عباس ومجاهد وحُميد ويعقوب بضم الياء أي ليُعْلِم الناس أنّ الرسل قد أبلغوا. وقال الزجاج: أي ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته بفتح الياء؛ كقوله تعالى:
{ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّابِرِينَ }
[آل عمران:142] المعنى: ليعلم الله ذلك علم مشاهدة كما علمه غيباً. { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ } أي أحاط علمه بما عندهم، أي بما عند الرسل وما عند الملائكة. وقال ٱبن جبير: المعنى: ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط علمه بما لديهم، فيبلّغوا رسالاته
 
الجوهرة الثانية والتسعون بعد الثلاثمائة

{ وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَٰتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ }


قال الرازي في تفسيره

أما قوله: { وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } فمعناه أول من كفر به أو أول فريق أو فوج كافر به أو ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به.

ثم فيه سؤلان: الأول: كيف جعلوا أول من كفر به وقد سبقهم إلى الكفر به مشركو العرب؟*

والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ولأنهم كانوا هم المبشرون بزمان محمد صلى الله عليه وسلم والمستفتحون على الذين كفروا به فلما بعث كان أمرهم على العكس لقوله تعالى: { فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ }
[البقرة: 89].*

وثانيها: يجوز أن يراد ولا تكونوا مثل أول كافر به يعني من أشرك من أهل مكة، أي ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكوراً في التوراة والإنجيل مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له.*

وثالثها: ولا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب لأن هؤلاء كانوا أول من كفر بالقرآن من بني إسرائيل وإن كانت قريش كفروا به قبل ذلك.

ورابعها: ولا تكونوا أول كافر به، يعني بكتابكم يقول ذلك ولعلمائهم: أي و لا تكونوا أول أحد من أمتكم كذلك كتابكم لأن تكذيبكم بمحمد صلى الله عليه وسلم يوجب تكذيبكم بكتابكم.*

وخامسها: أن المراد منه بيان تغليظ كفرهم وذلك لأنهم لما شاهدوا المعجزات الدالة على صدقه عرفوا البشارات الواردة في التوراة والإنجيل بمقدمه فكان كفرهم أشد من كفر من لم يعرف إلا نوعاً واحداً من الدليل والسابق إلى الكفر يكون أعظم ذنباً ممن بعده لقوله عليه السلام: " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها " فلما كان كفرهم عظيماً وكفر من كان سابقاً في الكفر عظيماً فقد اشتركا من هذا الوجه فصح إطلاق اسم أحدهما على الآخر على سبيل الاستعارة.*

وسادسها: المعنى ولا تكونوا أول من جحد مع المعرفة لأن كفر قريش كان مع الجهل لا مع المعرفة.*

وسابعها: أول كافر به من اليهود لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وبها قريظة والنضير فكفروا به ثم تتابعت سائر اليهود على ذلك الكفر فكأنه قيل: أول من كفر به من أهل الكتاب وهو كقوله:
{ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ }
[البقرة: 47، 122] أي على عالمي زمانهم.*

وثامنها: ولا تكونوا أول كافر به عند سماعكم بذكره بل تثبتوا فيه وراجعوا عقولكم فيه.....

وقال السمين الحلبي في الدر المصون:

والهاءُ في " به " تعودُ على " ما أَنْزَلْتُ " وهو الظاهرُ، وقيل: على " ما معكم " وقيل: على الرسولِ عليه السلام لأنّ التنزيلَ يَسْتَدْعِي مُنَزَّلاً إليه، وقيل: على النعمةِ ذهاباً بها إلى معنى الإِحسانِ
 
الجوهرة الثالثة والتسعون بعد الثلاثمائة

وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَي فِي السَّمَوا°تِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

قال السمين الحلبي فی الدر المصون

قوله: { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ }: في " أَهْوَن " قولان، أحدهما: أنها للتفضيل على بابِها. وعلى هذا يُقال: كيف يُتَصَوَّرُ التفضيلُ، والإِعادةُ والبُداءة بالنسبةِ إلى اللَّهِ تعالى على حدٍّ سواء؟ في ذلك أجوبة، أحدها: أنَّ ذلك بالنسبةِ إلى اعتقاد البشرِ باعتبارِ المشاهَدَة: مِنْ أنَّ إعادَة الشيءِ أهونُ من اختراعِه لاحتياجِ الابتداءِ إلى إعمالِ فكر غالباً، وإن كان هذا منتفياً عن الباري سبحانَه وتعالى فخوطبوا بحسَبِ ما أَلِفوه.

الثاني: أنَّ الضميرَ في " عليه " ليس عائداً على الله تعالى، إنما يعودُ على الخَلْقِ أي: والعَوْدُ أهونُ على الخَلْقِ أي أسرعُ؛ لأن البُداءةَ فيها تدريجٌ مِنْ طَوْرٍ إلى طَوْر، إلى أنْ صار إنساناً، وَالإِعادةُ لا تحتاجُ إلى هذه التدريجاتِ فكأنه قيل: وهو أقصرُ عليه وأَيْسَرُ وأقلُّ انتقالاً.

الثالث: أنَّ الضميرَ في " عليه " يعودُ على المخلوق، بمعنى: والإِعادةُ أهونُ على المخلوقِ أي إعادتُه شيئاً بعدما أَنْشأه، هذا في عُرْفِ المخلوقين، فكيف يُنْكِرون ذلك في جانب اللَّهِ تعالى؟

والثاني: أنَّ " أهونُ " ليسَتْ للتفضيل، بل هي صفةٌ بمعنى هَيِّن، كقولهم: اللَّهُ أكبرُ [أي]: الكبير. والظاهرُ عَوْدُ الضمير في " عليه " على الباري تعالى ليُوافِقَ الضميرَ في قوله: { وَلَهُ ظ±لْمَثَلُ ظ±لأَعْلَىظ° }. قال الزمخشري: " فإن قلتَ: لِمَ أُخِّرَتِ الصلةُ في قوله { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } وقُدِّمَتْ في قولِه
{ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ }
؟ قلت: هنالك قُصِدَ الاختصاصُ، وهو مَحَزُّه فقيلِ: هو عليَّ هيِّنٌ وإن كان مُسْتَصعباً عندك أن يُوْلَدَ بين هِمٍّ وعاقِر، وأمَّا هنا فلا معنى للاختصاص. كيف والأمرُ مبنيٌّ على ما يعقلون من أنَّ الإِعادةَ أسهلُ من الابتداء؟ فلو قُدِّمَت الصلة لَتَغيَّر المعنى ". قال الشيخ: " ومبنى كلامِه على أنَّ التقديمَ يُفيد الاختصاصَ وقد تكلَّمْنا معه ولم نُسَلِّمه ". قلت: الصحيحُ أنه يُفيده، وقد تقدَّم جميعُ ذلك.
 
عودة
أعلى