اعجاز القران عند الإمام ابن حزم وخطأ نسبة القول بالصرفة إليه

إنضم
04/02/2006
المشاركات
389
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
العمر
57
الإقامة
مصر
الموقع الالكتروني
www.aldahereyah.net
بسم الله الرحمن الرحيم
اختلف العلماء في أوجه الإعجاز القرآني على أقوال فمنهم من قال بالإعجاز البياني ومنهم من قال بالإعجاز العلمي ومنهم من قال بإعجازه بذكر المغيبات ومنهم من قال بالصرفة .
وقبل الاسترسال في الحديث نذكر قول الإمام القرطبي في التفريق بين معنيين للصرفة ذكرهما في كتابه الإحكام في الجزء الأول منه في صفحتي 75و76 حيث قال (واختلف من قال بهذه الصرفة على قولين : احدهم أنهم صرفوا عن القدرة عليه, ولو تعرضوا له لعجزوا عنه , والثاني أنهم صرفوا عنه مع كونه في مقدورهم وان تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه) .وهذا التفريق المهم للإمام القرطبي رحمه الله مفيد جداَ وكان من واجب الدارسين لهذه المسألة عدم إغفاله ,إذ في إغفاله ظلمٌ لمن يقول بالصرفة بالمعنى الأول الذي ذكره القرطبي ,وهو معنى لو تدبره القارئ بحكمة وروية لما اعترض عليه, فالقائل بهذا المعني يرى أن القدرة على المجيء بمثل القران معدومة لدى هؤلاء وكل ذلك بأمر الله وإرادته, فكما أن القرآن كلام الله كذلك التوراة والإنجيل كلام الله وكل الكتب السماوية من الله سبحانه وتعالى لكنه سبحانه أوكل أمر تلك الكتب لأهلها فضيعوها وحرفوها مع أنها كلامه المقدس ,لكنه سبحانه لم يحل بينهم وبين تحريفها لأمر أراده الله .والله سبحانه لايسئل عما يفعل.لذا فالقائلين بهذا الوجه يرون أن منعه سبحانه وتعالى الكفار عن المجئ بمثله نوع من التحدي والإعجاز , وهم بهذا القول لم يمنعوا من أن له إعجاز بلاغي ولم يمنعوا كذلك الأنواع الأخرى من الإعجاز. فالأصبهاني مثلا في كتابه الإتقان بإعجاز القرآن من جهة النظم والصرفة, والزركشي في البرهان يقول إن أهل التحقيق على أن الإعجاز وقع بجميع الوجوه والأقوال المذكورة لا بكل واحد منها ويتضح مما سبق أن من العلماء من جمع كل ما قيل وقال إن القرآن معجز من كل الوجوه.
هذا وقد حمل كثير من العلماء على من قال بالصرفة غير مميزين للمعنيين الذين ذكرهما الإمام القرطبي, وبذلك حكموا على كل من قال بالصرفة حكماَ واحداَ وهذا غير مقبول.
ويرد على من نسب القول بالصرفة لابن حزم قوله في الفصل موافقاَ لأهل الإسلام( ان نظم القرآن وما فيه من الغيوب كلها معجز وهو الحق الذي من ما خالفه فهو ضلال.) الفصل 3/11وقوله في الاحكام ج6 ص13 ( وقد وجدنا الله تعالى يأتي في القرآن وهو المعجز نظمه..).
فالإمام بن حزم مقصوده القول الأول من قولي القرطبي رحمه الله في الصرفة, وهذا الموافق لقوله بالإعجاز البلاغي.ومن ذلك نرى أن الإمام بن حزم لم يخالف علماء الإسلام في القول بالإعجاز القرآني
أما رد الإمام ابن حزم على من يقولون انه معجز لأنه في أعلى درجات البلاغة فانما يقود كما هو ظاهر من كلامه إلى أن القرآن ليس من جنس كلام البشر فلا يجوز قياسه ككلام البشر بحال من الأحوال وهذا لا يعقل ان يخالف فيه مسلم , لأنهم إن كان قصدهم أعلى درجات البلاغة لديهم فقولهم باطل سلفاَ للفرق البين بين كلام الله وكلام خلقه, فابن حزم وضع المسألة في مكانها الصحيح ولم ينف البلاغة عن القرآن لكن من قارن كلام الله بكلام عباده هم المخطئون وعلى كل حال المؤمن حسن الظن بإخوانه فضلاً عن أئمة الشرع.
وقد يسأل سائل عن كيفية جواب الإمام ابن حزم عن هذا السؤال حسب مذهبه في المسألة ((هل يمكن تبيان استطاعة الكفار الإتيان بمثل القرآن وجواز القدرة على ذلك وان سبب عدم مبادرتهم هو أنهم صرفوا عنه,))
أقول أن هذا السؤال خطأ، وهو سؤال لا يلزم ابن حزم بحسب ما يرى في مسألة إعجاز القرآن، ولكن نصححه وفق ما نراه الحق، فنقول:
القرآن كلام الله تعالى، وأن القرآن هو معجزة، وأن كلام الله تعالى ليس على نسق كلام المخلوقين ألبتة.
وأن الألفاظ الواردة في القرآن ككلمة ( سماء ، ماء ، أرض ) كلها كلمات لا إعجاز فيها في لغتنا، وإنما صارت من الإعجاز لأن الله تعالى تكلم بها، وصيرها معجزة.
وأن إعجاز القرآن إعجاز نظم، وإعجاز بإخبار ما فيه من الغيوب، وأن نظمه ليس على نسق بلاغة العرب ألبتة، وقد صح عن أنيس الغفاري وهو اخو أبو ذر، وقيل ابن أخيه، وكذلك ضماد الأزدي وهما فحول في اللغة وأنيس كما هو معلوم شاعر مخضرم، قالا: وضعنا كلام النبي صلى الله عليه وسلم على لسان الكهنة فلم نجده، وعلى لسان الشعراء فلم نجده.
فمعجزة النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن، وأن بلاغته ليست كبلاغة العرب، ولو كانت كذلك لما كانت معجزة، وهذا باطل.
ولو كانت العرب تعرف هذا النظم بهذه الكيفية لما تعجب منه فحول اللغة، فصح أن القرآن ونظمه ليس على بلاغة الناس أصلاً، وإنما هي بلاغة لم يألفوها من قبل، وقوة لن يصلوا إليها ألبتة.
وأن العرب حيل بينهم وبين القدرة على مثله، والإحالة هذه كما قلنا لأن القرآن ليس على نسق ما يعرفه العرب من بلاغة.
فهم لا يقدرون على مثله، وليس بمقدورهم أصلاً أن يأتي بمثله وإن اجتمعوا.
وأن من قال بالصرفة وهم النظام والمعتزلة قالوا بأن العرب يقدرون على الإتيان بمثله، لكن الله صرفهم عن ذلك، وهذا ليس قولنا، بل نقول أن قولهم باطل، فالعرب لا تقدر على مثله أصلاً.
فمن رمانا بمذهب المعتزلة فقد أخطأ النظر.
فالكفار وغيرهم لا يقدرون أصلاً على أن يأتوا بمثله؛ لأن الله حال بينهم وبين ذلك بمعنى أنهم لا توجد عندهم هذه المقدرة، ومبنى ذلك: أن المعجزات وهي إحالات الأشياء لا تكون إلا للأنبياء، ولا تكون إلا من الله تعالى، والقرآن معجز بذاته من نظم من حرف واحد منه إلى سوره كلها، ولو كان على نسق بلاغة العرب لعرفوا معنى الحروف المقطعة في أوائل السور أو اعتادوا عليها في لغتهم، ولم نجد هذا أصلاً عن أحد من العرب، ومن ادعاه فقد كذب.
هكذا سيكون جواب الإمام رحمه الله تقريباً بحسب مذهبه في كل ما حكيته عنه ..
فمن زعم أن الإمام ابن حزم موافق للنظام بالقول بالصرفة فقد أخطأ أو كذب ..
ورأيت خطأ محقق كتاب الدرة فيما يجب اعتقاده لابن حزم ونسبته إلى المعتزلة في هذه المسألة وهو خطأ منه وتهجم على المسألة دون تحقيق قول الإمام الذي ذكره في مواضع: مسألة إعجاز القرآن، والكلام على اليهود ومن قال بالثليث، وغيرها من مواضع فلتراجع.
وقد نقل نسبة بعض المعاصرين مذهب الصرفة إلى الإمام ابن حزم أيضاً الشيخ الفاضل عبد الرحمن بن معاضة الشهري في كتابه ((القول بالصرفة في إعجاز القرآن عرض ونقد)) وعزاه إلى كتاب الإعجاز البلاغى لمحمد أبو موسى وعلوم القرآن لناصر الدوسري وكتاب ابن حزم وآراؤه في علوم القرآن والتفسير لمحمد عبد الله أبو صعيليك وأصحاب الكتب أو الرسائل التى عزى إليها الشيخ عبد الرحمن الشهري يبدو أنهم تعجلوا وأخطأوا في نسبة القول لابن حزم وما ذكر في الموضوع رد على ما ذكروه
وتجد كتاب الشيخ الدكتور عبد الرحمن الشهري حفظه الله هنا
http://www.4shared.com/get/vfu9g3LP/______.html
وقد رد غير واحد من المعاصرين على من ينسب لابن حزم القول بمذهب الصرفة بسبب عدم فهمهم لكلامه رحمه الله منهم الشيخ الجليل مصطفى البويحياوي في دروسه في تفسير ابن عطية
 
جزاكم الله خيرا أخي , ولكن كلام ابن حزم رحمه الله هو من جنس القول بالصرفة ,وأنت قلت أنه بالمعنى الأول ,والمعنى الأول أيضا فيه نفس الإشكال الذي أجبت عنه عن ابن حزم فتأمل رحمك الله .فهم كانوا يقدرون وأصبحوا لا يقدرون .
 
أخى الكريم
المعنى الأول لا إشكال فيه فهم صرفوا عنه ولو تعرضوا لم يستطيعوا أصلاً بخلاف الثانى الذي نسب إلى المعتزلة.
 
جزاك الله خيرا شيخنا الكريم وهى دعوة كريمة لفهم كلام أئمتنا من خلال كتبهم ونصوصهم وفكرهم وكلما قربنا بين وجهات النظر كلما وضح الحق
وفي اجتهادك تقوية لرأي الجمهور بأن يصف في صفهم علم مجتهد كابن حزم
 
السلام عليكم
فإن مما هو معروف أن الصرفة يلزم منها لازم فاسد و هو سلب الإعجاز البلاغي من القرآن و أصحاب المعنى الأول للصرفة - و التى نتستطيع أن نصطلح عليها بالصرفة النظامية - يلتزمون بهذا الازم - و العياذ بالله - و بالتصريح كأبي موسى مردار , و عباد ابن سليمان , و هشام القوطي , و أبي إسحاق النصيبي و من الشيعة محمد ابن نعمان البغدادي و آخرين من بعدهم أما الذين تبنوا المعنى الثاني من الصرفة - و التي نستطيع أن نصطلح عليها بالصرفة الجاحظية - فلم يلتزموا باللازم بل أنكروه و ردوه و أثبتوا الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم و هم كثر : فمن المعتزلة الجاحظ و الرماني و من الأشاعرة الاسفراييني و الراغب و الماوردي و الرازي و الغزالي - رحمهم الله جميعا - ( و كذا ابن حزم كما تفضل به الأخ الكريم أبو محمد ) ... و أظن أن القول بالصرفة الجاحظية لها خطورتها و إن كانت تقل عن المعنى الأول للصرفة , على الأقل في كونها ذريعة للقول بالصرفة النظامية خاصة إذا علمنا أن الصرفة الجاحظية - كفكرة - قد ولدت على يد الجاحظ - كما تدل عليه النسبة - حيث حاول " تعديل " فكرة الصرفة عند النظام - الذي كان أستاذه الأكبر - و ذالك بإثبات أصل فكرة الصرفة ثم نفي لازمها الفاسد بإثبات الإعجاز البلاغي و لقد ذهب الأستاذ محمد صادق الرافعي - رحمه الله - إلى أن الجاحظ قد وقع في تناقض عند إثباته للصرفة و للإعجاز البلاغي لكنه لو تأمل الفرق بين الصرفتين كما بين ذالك القرطبي لاتضح الأمر ...
هذا و تتميما لما تفضل به الأخ أبو محمد فإن هناك نوع ثالث من أنواع الصرفة و التى يمكن أن نصطلح لها الصرفة الشريفية - نسبة إلى الشريف المرتضى - و تتمثل في : سلب العلوم البيانية التى قد يستعملها مشركو العرب عند المعارضة . و قد عرف هذا النوع من الصرفة عند الكثير من الشيعة على رأسهم الشريف المرتضى و أبي سنان الخفاجي ... و لكي نكون منصفين فلقد حارب بعض الشيعة فكرة الصرفة من أصلها و منهم من تراجع عنها كالطوسي كما جاء في كتابه الإقتصاد ...
 
للفائدة وقد نُسب له القول بها وهماً

للفائدة وقد نُسب له القول بها وهماً

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أشكر الإخوة على الطرح والمناقشة ، وأرى المسألة تحتاج لتريث وتتبع ، فإننا أمام علماء فحول ، ونسبة القول أكثر احتمالا للخطأ من قصدهم له - ولا ندَّعي العصمة لهم - لكن تحرير المسائل وتحقيق القول فيها يكون بطريق علمي صحيح.
أما العواطف والإلزامات ومجرد تتابع النسبة دون النظر في مجموع كلامهم ومناسبته ففيه نوع من التعجل.
ولأنني لم أتتبع المسألة عند ابن حزم ، فإنني أعين الإخوة بمثال آخر ؛ وهو نسبة القول بالصرفة لابن تيمية ، ومن قرأ كلامه فهم مراده من أن القول بها صحيح على وجه التقدير والافتراض وإلزام الخصم - أمّا هو فلا يقول بها ويراها لاتصح.
وممّا جاء في الجواب الصحيح 6/250- 253 :
"وكل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن هو حجة على إعجازه ولا تناقض في ذلك بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له.
ومن أضعف الأقوال قول من يقول من أهل الكلام إنه معجز بصرف الدواعي مع تمام الموجب لها أو بسلب القدرة التامة أو بسلبهم القدرة المعتادة في مثله سلبا عاما مثل قوله تعالى لزكريا: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً}.
وهو أن الله صرف قلوب الأمم عن معارضته مع قيام المقتضي التام فإن هذا يقال على سبيل التقدير والتنزيل وهو أنه إذا قدر أن هذا الكلام يقدر الناس على الإتيان بمثله فامتناعهم جميعهم عن هذه المعارضة مع قيام الدواعي العظيمة إلى المعارضة من أبلغ الآيات الخارقة للعادات بمنزلة من يقول إني آخذ أموال جميع أهل هذا البلد العظيم وأضربهم جميعهم وأجوعهم وهم قادرون على أن يشكوا إلى الله أو إلى ولي الأمر وليس فيهم مع ذلك من يشتكي فهذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة.
ولو قدر أن واحدا صنف كتابا يقدر أمثاله على تصنيف مثله أو قال شعرا يقدر أمثاله أن يقولوا مثله وتحداهم كلهم فقال عارضوني وإن لم تعارضوني فأنتم كفار مأواكم النار ودماؤكم لي حلال امتنع في العادة أن لا يعارضه أحد فإذا لم يعارضوه كان هذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة.
والذي جاء بالقرآن قال للخلق كلهم أنا رسول الله إليكم جميعا ومن آمن بي دخل الجنة ومن لم يؤمن بي دخل النار وقد أبيح لي قتل رجالهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم ووجب عليهم كلهم طاعتي ومن لم يطعني كان من أشقى الخلق ومن آياتي هذا القرآن فإنه لا يقدر أحد على أن يأتي بمثله وأنا أخبركم أن أحدا لا يأتي بمثله.
فيقال لا يخلوا إما أن يكون الناس قادرين على المعارضة أو عاجزين.
فإن كانوا قادرين ولم يعارضوه بل صرف الله دواعي قلوبهم ومنعها أن تريد معارضته مع هذا التحدي العظيم أو سلبهم القدرة التي كانت فيهم قبل تحديه فإن سلب القدرة المعتادة أن يقول رجل معجزتي أنكم كلكم لا يقدر أحد منكم على الكلام ولا على الأكل والشرب فإن المنع من المعتاد كإحداث غير المعتاد فهذا من أبلغ الخوارق.
وإن كانوا عاجزين ثبت أنه خارق للعادة فثبت كونه خارقا على تقدير النقيضين النفي والإثبات فثبت أنه من العجائب الناقضة للعادة في نفس الأمر.
فهذا غاية التنزل
وإلاَّ فالصواب المقطوع به أن الخلق كلهم عاجزون عن معارضته لا يقدرون على ذلك ولا يقدر محمد نفسه من تلقاء نفسه على أن يبدل سورة من القرآن بل يظهر الفرق بين القرآن وبين سائر كلامه لكل من له أدنى تدبر كما قد أخبر الله به في قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}.
وأيضا فالناس يجدون دواعيهم إلى المعارضة حاصلة لكنهم يحسون من أنفسهم العجز عن المعارضة ولو كانوا قادرين لعارضوه وقد انتدب غير واحد لمعارضته لكن جاء بكلام فضح به نفسه وظهر به تحقيق ما أخبر به القرآن من عجز الخلق عن الإتيان بمثله مثل قرآن مسيلمة الكذاب كقوله يا ضفدع بنت ضفدعين نقي كم تنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين رأسك في الماء وذنبك في الطين.
وكذلك أيضا يعرفون أنه لم يختلف حال قدرتهم قبل سماعه وبعد سماعه فلا يجدون أنفسهم عاجزين عما كانوا قادرين عليه كما وجد زكريا عجزه عن الكلام بعد قدرته عليه.
وأيضا فلا نزاع بين العقلاء المؤمنين بمحمد والمكذبين له إنه كان قصده أن يصدقه الناس ولا يكذبوه وكان مع ذلك من أعقل الناس وأخبرهم وأعرفهم بما جاء به ينال مقصوده سواء قيل إنه صادق أو كاذب فإن من دعى الناس إلى مثل هذا الأمر العظيم ولم يزل حتى استجابوا له طوعا وكرها وظهرت دعوته وانتشرت ملته هذا الانتشار هو من عظماء الرجال على أي حال كان فإقدامه مع هذا القصد في أول الأمر وهو بمكة وأتباعه قليل على أن يقول خبرا يقطع به أنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله لا في ذلك العصر ولا في سائر الأعصار المتأخرة لا يكون إلا مع جزمه بذلك وتيقنه له وإلا فمع الشك والظن لا يقول ذلك من يخاف أن يظهر كذبه فيفتضح فيرجع الناس عن تصديقه.
وإذا كان جازما بذلك متيقنا له لم يكن ذلك إلا عن إعلام الله له بذلك وليس في العلوم المعتادة أن يعلم الإنسان أن جميع الخلق لا يقدرون أن يأتوا بمثل كلامه إلا إذا علم العالم أنه خارج عن قدرة البشر والعلم بهذا يستلزم كونه معجزا فإنا نعلم ذلك وإن لم يكن علمنا بذلك خارقا للعادة ولكن يلزم من العلم ثبوت المعلوم وإلا كان العلم جهلا فثبت أنه على كل تقدير يستلزم كونه خارقا للعادة." أهـ.
 
الإخوة الأكاريم؛

حينما نتعاطى للقول في القرآن الكريم، هل فعلا نضع نصب أعيننا قوله تعالى:
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام : 21]
فإن رمنا البحث عن الإعجاز القرآني استفسرنا كتاب الله وجاءنا بالبينات، دون المرور عمن تكلموا في مجاله بعلم أو بغير علم. أما اعتماد أقوال المتكلمين ما أراه إلا ضلال وانحراف عن السبيل.
فالقرآن الكريم معجزته بينة واضحة في كونه روحا، والروح من أمر ربي. فهل قرأنا قوله تعالى:
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى : 52]
فبالروح تحدانا القرآن الكريم في خلق ذبابة، وبها اختص الله جل جلاله بالخلق والأمر {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }[الأعراف : 54]، ومن هنا اشتبه الأمر على من قال بخلق القرآن. فالخلق شيء والأمر شيء آخر. والله غالب على أمره.
ومن لم يستنير بنور القرآن ضل ولو كان من كان.
أما القول بالصرفة فهو حقيقة القرآنية لا مجال للجدل في مضمونه:
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ }[الأعراف : 146]
ألم يصرف الله جل جلاله هذه الفئة من الناس عن كتابه رغما عنهم، وقد سد في وجههم باب الهداية، لكون الله جل علاه تعهد بأن الله لا يهدي القوم المستكبرين لما بهم من فسق:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ [المنافقون : 5]سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المنافقون : 6]}

وهل صرف الله فقط هؤلاء؟...

هذا من جانب العهود الربانية التشريعية، أما من حيث التطبيق العملي:

{{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان : 7].

إنها إشارات تكفي لكل عاقل، وتطلبه بالاستنارة بنور الكتاب لا بالأقوال التي سيقت على لسان المتكلمين أو غيرهم، فقد سلكوا سبيل من ضل عن السبيل، وصدق رسولنا الكريم :
ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما الفتن وعظمها وشددها ، فقال علي بن أبي طالب : يا رسول الله ! فما المخرج منها ؟ قال : كتاب الله فيه حديث ما قبلكم ، ونبأ ما بعدكم ، وفصل ما بينكم ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن يبتغي الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، والذكر الحكيم والصراط المستقيم ، هو الذي لما سمعته الجن قالت ?إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به? الآية . هو الذي لا يختلف به الألسن ، ولا يخلقه كثرة الرد
الراوي: معاذ بن جبل المحدث: أبو نعيم - المصدر: حلية الأولياء - الصفحة أو الرقم: 5/287 خلاصة حكم المحدث: غريب من حديث أبي إدريس

فكل من سعى لفهم الكتاب بغير قيد أفعال الله والتي هي سننه في الكون والقرآن ضل وانحرف، وقال على الله بغير علم، وكان الله له يوم لقائه.
 
تحقيق مذهب ابن حزم في الإعجاز :
الأساتذة والأخوة الفضلاء كانت رسالتي للعالمية عن " البحوث القرآنية في تراث ابن حزم جمع ودراسة ونقد " عقدت فيها فصلا لإعجاز القرآن الكريم عند ابن حزم تناولت فيه هذه الأبحاث في قريب من خمسين ورقة :
الفصل الأول: إعجاز القرآن الكريم عند ابن حزم .

البحث الأول : تعريف المعجزة عند ابن حزم.

البحث الثاني : وجه إعجاز القرآن عند ابن حزم :

المسألة الأولى : مذاهب الناس في وجه الإعجاز .
المسألة الثانية : اعتراضات ابن حزم على الإعجاز البلاغي .
المسألة الثالثة : مذهب ابن حزم في إعجاز القرآن .
البحث الثالث : أقل المعجز من القرآن عند ابن حزم :

المسألة الأولى : مذاهب العلماء في أقل المعجز من القرآن .
المسألة الثانية : اختيار ابن حزم .
البحث الرابع : بقاء إعجاز القرآن عند ابن حزم .
ويسرني أن أضع بين أيديكم بعض ما ورد في هذا الفصل عن مذهب ابن حزم في الإعجاز :


المسألة الثانية : اعتراضات ابن حزم على الإعجاز البلاغي :
بعد اتفاق المسلمين على إعجاز القرآن اختلف العلماء في تحديد علة عجز العرب عن معارضة القرآن ، فذهب أكثر العلماء إلى أن إعجازه راجع إلى كونه في أعلى درجات البلاغة والفصاحة الخارجة عن قدرة البشر فرادى ومجتمعين ، وهو ما يسمى بالإعجاز البلاغي ، وأضاف بعضهم إليه أوجها أخرى من الإعجاز الغيبي ، والعلمى ، والتشريعي ؛ لكن ظل الإعجاز البلاغي هو عمدة أنواع الإعجاز عند جمهور العلماء .
أما صاحبنا ابن حزم فيرفض رفضا باتا هذا الوجه من أوجه إعجاز القرآن ، ويعده خطأ شديدا ، ويرى القول به إثما يستعاذ بالله منه ، ويرسل إليه سهام النقد سهما بعد سهم .
وهو مذهب ربما رآه المرء غريبا من رجل كابن حزم ، على ورعه وعلمه وذكائه . ولا أنكر أنني قد حرت في أمره أياما وليالي ، وبت أردد النظر في كلامه مرات ومرات ، وأنا لا أكاد أصدق أن يكون أديب كابن حزم تمرس بالعربية لغة ونحوا وصرفا ، وخبر موازين الكلام نظما ونثرا ـ تخفى عليه بلاغة القرآن حتى ينكر أن يكون القرآن معجزة بلاغية أصلا !
وسنعرض هنا لموقف ابن حزم من الإعجاز البلاغي وانتقاداته إياه ، متبعين كل فقرة من كلامه بالتعليق عليها ، ولا نرجئ التعليق إلى انتهاء كلامه ؛ كي لا يبعد العهد بين الكلام ومناقشته ، فيشق على القارئ مراجعته لطول كلام ابن حزم .
النص : قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد ظن قوم أن عجز العرب ومن تلاهم من سائر البلغاء عن معارضة القرآن إنما هو لكون القرآن في أعلى طبقات البلاغة
1- قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا خطأ شديد ولو كان ذلك ـ وقد أبى الله عز و جل أن يكون ـ لما كان حينئذ معجزة ؛ لأن هذه صفة كل باسق في طبقته ، والشيء الذي هو كذلك وإن كان قد سبق في وقت ما فلا يؤمن أن يأتي في غد ما يقاربه ؛ بل ما يفوقه . " [1]
قلت :
أ- أما قوله : " هذه صفة كل باسق في طبقته " ، فلم يقل أحد من العلماء إن القرآن من طبقة كلام الناس حتى يلزمهم ما يقول . بل نصوا على أن القرآن بلغ منزلة تنقطع دونها الآمال وتعجز عنها الهمم . يقول عبد القاهر : ولم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى الفصاحة والبلاغة .. ووجدت المعول على أن هاهنا نظماً وترتيباً ، وتأليفاً وتركيباً ، وصياغة وتصويراً ، ونسجاً وتحبيراً ، ...وأنه يفضل بعض الكلام بعضاً. ويتقدم منه الشيء الشيء ، ثم يزداد من فضله ذلك ويترقى منزلة فوق منزلة ، ويعلو مرقباً بعد مرقب ، ويستأنف له غاية بعد غاية ، حتى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع ، وتحسر الظنون ، وتسقط القوى ، وتستوي الأقدام في العجز " [2] .
ب- وأما قوله : " فلا يؤمن أن يأتي في غد ما يقاربه بل ما يفوقه !! " . فالعجب أن يأتي هذا من إمام ظاهري كابن حزم ! أفلا قال : نحن على أصل إعجازه حتى يظهر لنا ما ينقضه ، فإذا ظهر فما لنا إلا اتباع الحق دون مكابرة .
2-قال ابن حزم : وقد بينا في غير هذا المكان أن القرآن ليس من نوع بلاغة الناس ؛ لأن فيه الأقسام التي في أوائل السور والحروف المقطعة التي لا يعرف أحد معناها ، وليس هذا من نوع بلاغة الناس المعهودة . " [3]
قلت : أما الأقسام فليس فيها ما يعاب في لغة العرب ، ولا ما ينكر في بلاغتهم ، وأما الأحرف المقطعة فإن كان قد توقف فيها رجال فقد فسرها غيرهم ، وإن كان ابن حزم قد عدهما من المتشابه ، فإن جمهورا من العلماء على خلافه ، وليس تأخره حجة على من تقدم .
ولم نقل : " إن القرآن من نوع بلاغة الناس المعهودة " ؛ بل فيه من الأساليب مالا عهد لهم به . واللغة التي " نزل بها القرآن معجزا قادرة بطبيعتها هي أن تحتمل هذا القدر الهائل من المفارقة بين كلامين : كلام هو الغاية في البيان فيما تطيقه القوى ، وكلام [معجز] يقطع هذه القوى ببيان ظاهر المباينة له من كل الوجوه " .[4] كما يقول العلامة محمود شاكر .
3- قال ابن حزم : وقد روينا عن أنيس أخي أبي ذر الغفاري _رضي الله عنهما_أنه سمع القرآن فقال : لقد وضعت هذا الكلام على ألسنة البلغاء وألسنة الشعراء ، فلم أجده يوافق ذلك أو كلاما هذا معناه .
فصح بهذا ما قلناه من أن القرآن خارج عن نوع بلاغة المخلوقين ، وأنه على رتبة قد منع الله تعالى جميع الخلق عن أن يأتوا بمثله " [5]
قلت : قول أنيس الشاعر أخرجه مسلم في قصة طويلة ، ونصه قال أنيس : لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدى أنه شعر ، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. [6] وهذا القول لا يختلف فيه اثنان من المسلمين .
4- قال أبو محمد : وأما ذكرهم : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)(البقرة : من الآية179) وما كان نحوها من الآيات فلا حجة لهم فيها ، ويقال لهم : إن كان كما تقولون _ومعاذ الله من ذلك _ فإنما المعجز منه على قولكم هذه الآيات خاصة ، وأما سائره فلا ، وهذا كفر لا يقوله مسلم. " [7]
5- فإن قالوا جميع القرآن مثل هذا الآيات في الإعجاز ، قيل لهم : فلم خصصتم بالذكر هذه الآيات دون غيرها إذا ، وهل هذا منكم إلا إيهام لأهل الجهل أن من القرآن معجزا وغير معجز . " [8]
قلت : هذا والذي قبله تحكم لا يخفى ومماحكة ، وددنا لو تنزه عن مثلها ابن حزم رحمه الله .
6- قال ابن حزم : ثم نقول لهم قول الله تعالى : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً)(النساء : من الآية163) ، أمعجز هو على شروطكم في كونه في أعلى درج البلاغة أم ليس معجزا ؟ فإن قالوا : ليس معجزا ، كفروا ، وإن قالوا : إنه معجز صدقوا وسئلوا هل على شروطكم في أعلى درج البلاغة فإن قالوا : نعم ، كابروا وكفوا مؤنتهم ؛ لأنها أسماء رجال فقط ليست على شروطهم في البلاغة ! " [9]
قلت : الجواب من وجوه :
أ- لا يخفى أن ابن حزم مقر بكون الآية معجزة ؛ لكنه يناقش في كونها في أعلى درج البلاغة .
ب- نمنع تكفير من لم يقر بكون الآية الواحدة معجزة ، فقد قال جمهور من أئمة المسلمين إن أقل المعجز ثلاث آيات كما سبق .
ج – أما الآية فنعم نختار أنها معجزة ، وأنها في أعلى درج البلاغة ، لكن ليست البلاغة هنا هي جودة التشبيه ، ودقة الاستعارة ، وحسن الالتفات ، بل في غير ذلك من حسن الترتيب ، وجمال الإيقاع ، وتناسب الأسماء ، ودقة المبدء والختام ، ولغير ذلك من " لطف الملاحظة في اعتبار السياق ، والمعاني والأحداث ، والأحوال ما يبهر ويقهر " [10] . وقد تناول العلماء نحوا من هذه الآيات ، وتحدثوا عن جمال خاص بها ، فالباقلاني يذكر قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ... الآية )(النساء : من الآية23) فيقول : فإن قال قائل : فقد نجد في آيات من القرآن ما يكون نظمه بخلاف ما وصفت ولا تتميز الكلمات بوجه البراعة !
ويجيب الباقلاني : الذي يعتبر في نحو ذلك تنزيل الخطاب ، وظهور الحكمة في الترتيب والمعنى وذلك حاصل في هذه الآية - إن تأملت ، ألا ترى أنه بدأ بذكر الأم لعظم حرمتها ، وإدلائها بنفسها ، ومكان بعضيتها ، فهي أصل لكل من يدلي بنفسه منهن ، ولأنه ليس في ذوات الأنساب أقرب منها ، ولما جاء إلى ذوات الأسباب ألحق بها حكم الأم من الرضاع ، لأن اللحم ينشره اللبن بما يغذوه فيتحصل بذلك أيضا لها حكم البعضية ، فنشر الحرمة بهذا المعنى وألحقها بالوالدة ، وذكر الأخوات من الرضاعة فنبه بها على كل من يدلي بغيرها ، وجعلها تلو الأم من الرضاع ، والكلام في إظهار حكم هذه الآية وفوائدها يطول ولم نضع كتابنا لهذا ...فلم تنفك هذه الآية من الحكم التي تخلف حكمة الإعجاز في النظم والتأليف ، والفائدة التي تنوب مناب العدول عن البراعة في وجه الترصيف . فقد علم السائل أنه لم يأت بشيء ، ولم يهتد للأغراض في دلالات الكلام ، وفوائده ، ومتصرفاته ، وفنونه ، ومتوجهاته ، وقد يتفق في الشعر ذكر الأسامي فيحسن موقعه ، كقول أبي ذؤاب الأسدي :
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ** بعتيبة بن الحارث بن شهاب
بأشدهم كلبا على أعدائه ** وأعزهم فقدا على الأصحاب
وقد يتفق ذكر الأسامي فيفسد النظم ويقبح الوزن ... " [11]

7- قال ابن حزم : وأيضا فلو كان إعجاز القرآن لأنه في أعلى درج البلاغة لكان بمنزلة كلام الحسن ، وسهل بن هارون ، والجاحظ ، وشعر امرئ القيس _ومعاذ الله من هذا_ لأن كل ما يسبق في طبقته لم يؤمن أن يأتي من يماثله ضرورة ، فلا بد لهم من هذه الخطة ، أو من المصير إلى قولنا أن الله تعالى منع من معارضته فقط " [12]
قلت : قد قلنا من قبل إنه ليس من طبقة كلام العرب .
8- قال ابن حزم : وأيضا فلو كان إعجازه من أنه في أعلى درج البلاغة المعهودة لوجب أن يكون ذلك الآية ، ولما هو أقل من آية وهذا ينقض قولهم أن المعجز منه ثلاث آيات لا أقل . " [13]
قلت : أما على قول من يقول بهذا ، فيعلَّلُ بأن التصرف في فنون البلاغة لا يظهر في الكلمة والكلمتين حتى يكون كلام يظهر فيه ذلك ، وهو ما لا يكون في أقل من قدر سورة " الكوثر " . وأما على ما اخترناه من أن كل كلمة منه معجزة في سياقها وحسن اختيارها لموقعها ، فلا اعتراض .
9- قال ابن حزم : فإن قالوا : فقولوا أنتم ، هل القرآن موصوف بأنه في أعلى درج البلاغة أم لا ؟ قلنا وبالله تعالى التوفيق : إن كنتم تريدون أن الله قد بلغ به ما أراد ، فنعم هو في هذا المعنى في الغاية التي لا شيء أبلغ منها .
وإن كنتم تريدون ، هل هو في أعلى درج البلاغة في كلام المخلوقين ؟ فلا ؛ لأنه ليس من نوع كلام المخلوقين ، لا من أعلاه ، ولا من أدناه ، ولا من أوسطه . " [14]
قلت : قول ابن حزم : " قد بلغ به ما أراد " قول مبهم ، فإن الله قد بلغ بالعجزة والمرضى والمقعدين ما أراد ، وليس العجز والمرض والقعد معجزة يتحدى بها الناس ، وأما قوله : " هو في أعلى درج البلاغة في كلام المخلوقين " ، فلم يقله أحد من الناس ، وهو في نفسه كلام فاسد ينقض آخره أوله ! إذ حاصله أن كلام الله هو أفصح كلام المخلوقين !! .
10- قال ابن حزم : وبرهان هذا أن إنسانا لو أدخل في رسالة له ، أو خطبة ، أو تأليف ، أو موعظة ، حروف الهجاء المقطعة لكان خارجا عن البلاغة المعهودة جملة بلا شك ؛ فصح أنه ليس من نوع بلاغة الناس أصلا ، وأن الله تعالى منع الخلق من مثله ، وكساه الإعجاز ، وسلبه جميع كلام الخلق"[15].
قلت : حديثه عن الأحرف المقطعة إن قلنا هي أسماء للسور فما بأس أن يقول الرجل : قرأت " الم السجدة " ، وإن كانت من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله – كماهو مذهب ابن حزم – فاستشهاد بالمتشابه على المحكم وهو غير منصف .
11- قال ابن حزم : برهان ذلك أن الله حكى عن قوم من أهل النار أنهم يقولون إذا سئلوا عن سبب دخولهم النار : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ)(المدثر : 42ـ47) ، وحكى تعالى عن كافر قال : (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ)(المدثر : 24ـ25) ، وحكى عن آخرين أنهم قالوا : (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ)(الإسراء : 90ـ 93).
قال : فكان هذا كله إذ قاله غير الله عز و جل غير معجز بلا خلاف ، إذ لم يقل أحد من أهل الإسلام أن كلام غير الله تعالى معجز ؛ لكن لما قاله الله تعالى وجعله كلاما له أصاره معجزا ، ومنع من مماثلته ، وهذا برهان كاف لا يحتاج إلى غيره ، والحمد لله "[16].
قلت : هذا الأخير هو ما جعل الرافعي يسخر بابن حزم فيقول : " بل هو فوق الكفاية وأكثر من أن يكون كافيا ، لأنه لما قاله ابن حزم وجعله رَأيًَا لَهُ أصاره كافيا لا يحتاج إلى غيره ..! وهل يراد من إثبات الإعجاز للقرآن إلا إثبات أنه كلام الله تعالى!"[17].
فإن الله حين يقص علينا أقوال الناس في القرآن إنما يقصها بأسلوب القرآن وبلاغته ، وإلا فقد قص الله علينا أقوال آدم ، ونوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، بعربية بليغة فصيحة ، فهل نشأ هؤلاء في بني سعد ، أو درجوا في ربوع تميم ؟ كلا ؛ بل الأمر كما يقول ابن حزم نفسه : صح أن الله تعالى إنما يحكي لنا معاني كلام كل قائل في لغته باللغة التي بها نتفاهم ؛ ليبين لنا عز و جل فقط " [18]
بقي أن نقول إن كلام ابن حزم في هذا الفصل يدور كله على نفي أن يكون القرآن يدخل هو وكلام المخلوقين تحت حد واحد ، ومقياس واحد ، وهذا بالتأكيد ما لم يقله أحد من القائلين بالإعجاز البلاغي ، فما نقل عن أحد أنه يقول : إن القرآن في " أعلى درج البلاغة في كلام المخلوقين " كما يقول ابن حزم رحمه الله ، وإنما قالوا : إنه في درج البلاغة التي تفوت قدرة المخلوقين فوتا يبهر ويقهر " حتى تنقطع الأطماع عن المعارضة ، وتخرس الألسن عن دعوى المداناة ، وحتى لا تحدث نفس صاحبها بأن يتصدى " [19].


[1] - الفصل في الملل والأهواء والنحل - (1 / 87)

[2] - دلائل الإعجاز - (1 / 47)

[3] - الفصل في الملل والأهواء والنحل - (1 / 87)

[4] - مداخل إعجاز القرآن ، العلامة محمود شاكر :

[5] - الفصل في الملل والأهواء والنحل - (1 /87).

[6] - أخرجه مسلم ج4/ص1919(2473) كتاب فضائل لصحابة رضي الله عنهم / باب من فضائل

[7] - الفصل في الملل والأهواء والنحل - (3 / 12)

[8] - الفصل في الملل والأهواء والنحل - (3 / 12)

[9] - الفصل في الملل والأهواء والنحل - (3 / 12)

[10] - الإعجاز البلاغي دراسة تحليلية في تراث أهل العلم ، د: محمد محمد أبو موسى :366

[11] - إعجاز القرآن للباقلاني - (207).

[12] - الفصل في الملل والأهواء والنحل - (3 / 12)

[13] - الفصل في الملل والأهواء والنحل - (3 / 12)

[14] - الفصل في الملل والأهواء والنحل - (3 / 12)

[15] - الفصل في الملل والأهواء والنحل - (3 / 12)

[16] - الفصل في الملل والأهواء والنحل - (3 / 12)

[17] - إعجاز القرآن والبلاغة النبوية : مصطفى صادق الرافعي :126.

[18] - الإحكام لابن حزم - (1 / 37).

[19] - الرسالة الشافية لعبد القاهر الجرجاني : [FONT=&quot]133[/FONT]






[FONT=AF_Najed]رابعا : تحقيق مذهب ابن حزم في الإعجاز : [/FONT]

1- يقر ابن حزم بأن القرآن معجز للخلق جميعا قليله وكثيره في ذلك سواء وهو بهذا متقدم على من يقول بسورة منه أو قدرها لا ينكر هذا .
2- ابن حزم قائل بالصرفة التي لا تنفي علو القرآن ، ولم نجد له كلمة واحدة يقول فيها إن الله لو خلى بين الناس وبين القرآن لأتوا بمثله ، ولا كلاما يشبه هذا المعنى . بل له ما يفيد عكسه . هذا وقد مرت مناقشته في مذهب الصرفة هذا والرد عليه من خمسة عشر وجها.
3- يقر ابن حزم بسمو رتبة القرآن على كلام البشر بل على كل كلام للإنس والجن جميعا وهذه عبارته : صح بهذا ما قلناه من أن القرآن خارج عن نوع بلاغة المخلوقين وأنه على رتبة قد منع الله تعالى جميع الخلق عن أن يأتوا بمثله[1] والخارج عن نوع بلاغة المخلوقين إما أن يكون دونها أو فوقها لا مساويا لها ، ومراده الاول بدليل قوله " وأنه على رتبة ... " فأثبت له رتبة وقف الخلق دونها .وأصرح من ذلك قوله : فصح أنه ليس من نوع بلاغة الناس أصلا وأن الله تعالى منع الخلق من مثله وكساه الإعجاز وسلبه جميع كلام الخلق . " [2] فتأمل قوله : " منع الخلق من مثله وكساه الإعجاز " تعرف صحة ما نقول .

4- يرفض ابن حزم أن يَجمعَ القرآنَ مع كلام الخلق نوعٌ واحدٌ هو البلاغة ، بحيث يشتركان في أن كلا منهما كلام بليغ وينفرد القرآن بكونه في أعلى مراتب البلاغة . يقول : لأنه ليس من نوع كلام المخلوقين لا من أعلاه ولا من أدناه ولا من أوسطه " [3] .
5- يرى ابن حزم أن توجيه الإعجاز بكون القرآن في أعلى مراتب البلاغة ـ يقلل من شأن القرآن ولا يرفعه . وأن إدخاله مع كلام البشر في مقياس واحد " هو البلاغة " يسيء إليه ، حتى لو قيل هذا في أعلى الدرجات وذاك في أدناها .
يقول رحمه الله :
لأن معجز الأنبياء هو خارج عن الرتب وعن طبائع كل ما في العالم وعن بنية العالم لا يجري شيء من ذلك على قانون ولا على سنن معلوم لكن قلب عين وإحالة صفات ذاتية كشق القمر وفلق البحر واختراع طعام وماء وقلب العصا حية و إحياء ميت قد أرم " [4] .
بل يذهب إلى أن هذا القول يخل بالإعجاز أصلا : " لو كان إعجازه لكونه في أعلى درج البلاغة لكان لا حجة فيه لأن هذا يكون في كل من كان في أعلى طبقة وأما آيات الأنبياء فخارجة عن المعهود " [5]
فكأنه يرى أن البلاغة هي المقاييس البشرية لجودة الكلام ، والقرآن ليس يدخل تحت هذه المقاييس أصلا ، والقول بأن القرآن أبلغ من كلام البشر ظلم لكلام الله تعالى ، يشبه قالة من يقول إن قدرة الله أشد من قدرة الناس ، وعلمه تعالى أوسع من علم البشر ، وهي مقارنة جائرة غير منصفة بحال ، وما قدرة الناس وعلمهم بجوار علم الله وقدرته إلا محض عدم ، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(البقرة : من الآية216). وكأني بابن حزم في هذه الحال يتمثل قول الشاعر :
متى ما أقل مولاي أفضل منهم ** أكن للذي فضلته متنقصا​
ألم تر أن السيف يزري به الفتى ** إذا قال هذا السيف أمضى من العصا [6]
6- يرفض ابن حزم وهو الظاهري أن يعلل عجز الخلق عن الإتيان بمثل القرآن بأي علة أخرى سوى أنهم قد عجزوا فاختار القول لذلك بالصرفه فهو الذي يفيد ذلك ، فالقائلون بها لا يذكرون لعجز الناس سببا سوى أن الله أراد ذلك . وهذا ما يريده ابن حزم الظاهري الكاره لكل علة وتعليل لشيء من أفعال الله تعالى أو أحكامه . فهو الذي جاهد جهادا مريرا لنفي القياس والتعليل .
فاختيار ابن حزم هنا متناسب تمام التناسب مع أصوله الفكرية العامة .
وبعد هذا البيان لا نرى مقبولا أبدا قول د : محمد أبو موسى " واحتجاج ابن حزم كان متجها إلى توهين القول بتفوق القرآن في النظم والبلاغة وهذا شيء فريد في بابه . " ، ولا قوله " إنه لم يتقن بحث الإعجاز .. " [7]
ونرى أن الشيخ قد عجل على ابن حزم دون أن يقف معه وقفة تأمل يستحقها الإمام بلا شك لمكانته ومنزلته في العلم والدين . بل لعل ابن حزم رحمه الله ما أراد بهذا إلا أن يرفع مكانة القرآن الذي قال فيه : مع القرآن أحيا متمسكا به وأموت إن شاء الله متمسكا به ولا أبالي بمن سلك غير طريق القرآن ولو أنهم جميع أهل الأرض غيري " [8]

[1] - الفصل في الملل والأهواء والنحل - (1 / 87)

[2] - الفصل في الملل والأهواء والنحل - (3 / 12)

[3] - الفصل في الملل والأهواء والنحل - (3 / 12)

[4] -: الفصل في الملل والأهواء والنحل - (5 / 4)

[5] - الفصل في الملل والأهواء والنحل - (3 / 11)

[6] - البيتان لأبي درهم البندنيجي كما في يتيمة الدهر - (2 / 224)

[7] - الإعجاز البلاغي ، د:محمد محمد أبو موسى : 360 وما بعدها .

[8] - الإحكام لابن حزم - (4 / 571)
 
عودة
أعلى