الأخ الكريم أبا عمرو:
1. لا شك أنك قد أضعت وقتك - كما تقول - وأنت تبحث في كلام البشر. ولا شك أنها إضاعة للوقت، لأنك تفعل وأنت مدرك أنها تلفيقات. وهل تعتقد أن من ينظر في كتاب الله تعالى يمكن أن يضيع وقته؟!
الرد على هذا من وجوه:
1. نعم، أضعت وقتي لأنني أومن ببطلان الإعجاز العددي المدعى. أما على شرط أرباب الإعجاز العددي فما أوردته من ملاحظات عددية في بيت الشعر أمر يستحق النظر! كيف لا وفيها من التوافقات العددية ما يروق ويعجب؟!
2. وإذا كنتُ أنا مومناً بأن هذه أوهام وتخرصات، فالأصل ألا يمنعك هذا من النظر فيما أوردته، وما يدريك أنك بإهمالك لما أوردتُه من توافقات عددية في البيت تضيع أصلاً عظيماً من أصول العلم؟! وتغفل باباً واسعاً في فهم كلام العرب وأشعارها؟! بل ربما كان الأصل أن يقودك هذا إلى قراءة أشعار العرب، والمعلقات، والنظر في ترتيب أبياتها، وما ورد فيها من ذكر الذباب والناقة والجمل والصحراء، ثم تربط هذا بالحقائق والأسرار العلمية المكتشفة حديثاً، فتستدرك ما فاتك في هذا الباب؟!!
3. أما قولك بأن هذا بحث في كلام البشر، فهذه مصادرة لم يكن لك أن تقع فيها! على غرار المصادرة التي وقع فيها المدافعون عن الإعجاز العلمي، وبيانها كالتالي:
أ. أنتم تزعمون أن هذا الكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله وليس كلام بشر، ودليلكم على ذلك إما اشتمال القرآن على أسرار في العلوم التجريبية، وإما اشتمال القرآن على أسرار عددية في ترتيبه أو في إشارة هذه الأعداد إلى أسرار علمية!!
ب. فجيناكم بشيء من كلام العرب ندعي فيه اشتماله على أسرار في العلوم التجريبية، أو أسرار عددية تشير إلى حقائق وأسرار علمية!
ت. فماذا كان الجوب؟! تقولون: لا ينبغي أن نزن كلام الله بكلام البشر!
ث. فكيف وأنتم بعد لم تثبتوا أنه كلام الله من حيث وجود الإعجاز العلمي أو العددي فيه؟!
ج. فاعتراضك بأنني أبحث في كلام البشر مردود، وهو حجة عليك لا لك.
4. إيمانك بأن هذا من متين العلم، وإيماني بأن هذه أوهام وتخرصات وتلفيقات، مما لا يجديني ولا يجديك في محل النزاع، فالحكم للدليل. وما كان ينبغي لك أن تذكر هذا، هل تريدني أن أسلم لك بصدق دعواك في الإعجاز العددي حتى لا أضيع وقتي؟! كيف وأنت لم تثبت صدق دعواك؟!
5. إذا نظر الناظر في كتاب الله تعالى على غير وجهه فقد أضاع وقته، ولا شك في ذلك.
ثم إذا كنتَ مومناً بإمكان دلالة آيات القرآن – عددياً- على شيءٍ من أسرار الكون، فلم لا توسع دراستك فتضم إليها شيئاً من شعر العرب، وهذه المعلقات السبع أو العشر، ودواوين الشعراء كالمتنبي والمعري وأبي تمام والبحتري بين يديك؟!
هل تعتقد أن من ينظر في كلام العرب وأشعارها ودلالتها العددية بالإضافة إلى القرآن يضيع وقته؟!
على شرطي نعم...
أما على شرطك فلا...
2. لم أكن معنياً بمتابعة صدق ما تقول لأنني أعلم مرادك، ولو كانت المسألة جادة لبحثت في كل ملاحظة ورددت عليك، وكيف أفعل ذلك وأنا أراك تؤمن أنك تضيع وقتك؟!
هذا هروب لا يجديك...
إذا لم أكن جاداً فيما ذكرت من أسرار عددية في بيت الشعر، فذلك أني لا أومن بهذه الدلالة العددية ابتداءً.
أما على مذهبك، فالأصل أن تكون جاداً، وأن توسع دراستك العددية حتى تشمل شعر العرب قديمها وحديثها، وأنا واثق بأنك ستخرج بأشياء كثيرة. ذلك أن المسألة بسيطة، إلا أنها بحاجة إلى خبرة في حساب الجمل، وفي جمع الأعداد وطرحها، وهذا ما لا أحسنه.
ما الذي يمنعك أن توسع دراستك في الأعداد حتى تشمل شعر العرب؟!
لا تعد إلى نفس المصادرة فتقول: ننظر في كتاب الله ولا ننظر في شعر العرب، فأنت بعد لا يستقيم لك إثبات أن القرآن من عند الله بناءً على ثبوت الإعجاز العددي فيه...
3. كان مقصدي من مسألة الحديد أن أصحح المعلومة والمسألة أكبر مما تتخيل.
4. اختلف علماء اللغة في كون اللغة العربية توقيفية أو اصطلاحية. وقدّم كل طرف أدلته. ونحن نرى أن منها ما هو توقيفي. فانظر مثلاً كلمة إبليس، التي اشتق منها أبلس، كيف أنها وجدت قبل خلق الإنسان. وأقول هذا للرد على ملاحظتك حول الجُمّل المتعلق بكلمة الحديد.
وكذلك مسألة الحديد في بيت الشعر، ومسألة الذباب في شعر عنترة العبسي، والناقة في شعر امريء القيس ما يدريك أن وراءها أسراراً عجيبة أكبر مما تتخيل!
ما عليك إلا أن تحاول...
أما أن اللغة اصطلاح أو توقيف، فليس هذا محل بحثنا، محل البحث أن أسماء هذه العناصر كانت معروفة للعرب قبل نزول القرآن، فلا وجه لجعل حساب الجمل خاصاً بالقرآن دون لسان العرب.
5. كل ما هو موجود في القرآن الكريم هو مراد لله تعالى على خلاف كلام البشر، وبالتالي لا يجوز أن نهمل أية ملاحظة تتعلق بكتاب الله المعجز. ولا أظنك تزعم أن كون ترتيب سورة الحديد الذي يوافق الجُمّل والوزن الذري غير مراد لله تعالى. وأقبلُ هذا الزعم من غير مسلم. أما المسلم فيعلم أنه كتاب لا تنقضي عجائبه، وبالتالي لا يهمل أية ملاحظة.
وهذا مسلك ضعيف، إذ لا زلت تقع في نفس المصادرة!!
أخي الكريم:
إن كنت تسمي ما في القرآن من توافقات عددية إعجازاً، فأنا أسمي ما ورد في بيت الشعر إعجازاً، أو دليلاً على بطلان زعمكم تفرد القرآن بالتوافقات العددية العجيبة.
وإن سميتَه توافقاً عددياً عجيباً، فأنا أسمي ما ورد في بيت الشعر توافقاً عددياً عجيباً، فلا يتميز ما تزعمونه من توافق في القرآن عما أزعمه من توافق في شعر العرب.
ثم ما الذي تريدونه من إثبات هذه التوافقات العددية في القرآن؟!
إذا كان المقصود بذلك الاستدلال على أن القرآن من عند الله، فما ينبغي لك أن تقول هذا مراد في القرآن على خلاف كلام البشر ، لأنك لم تثبت بعد أنه كلام الله.
وإن كان المقصود لفت النظر إلى هذه التوافقات العددية، فاقبلوا من أن نلفت أنظاركم إلى هذه التوافقات في أشعار العرب.
وأخيراً: نريد منك دليلاً على دعواك أن ترتيب سورة الحديد الذي يوافق الجُمّل والوزن الذري مراد لله تعالى!
ولا يشفع لك أن هذا هو الواقع، فإنه أيضاً في كلام العرب واقع، فلم لا يكون مراداً للشاعر؟!
ولا حاجة بنا إلى عجيبة لم يستطع أصحابها أن يقيموا عليها دليلاً واحداً....
6. لم يتوقف الأمر في سورة النحل على ترتيب السورة في المصحف بل هناك ملاحظات عديدة تتعلق بالعدد 16. أما لماذا 16 وليس 32 (الأنثى) فلأن وحدة البناء في النحل هو العدد 16 ومضاعفاته. وذكرنا النمل والعنكبوت ولم نذكر البقرة، لأن الجامع الذي يجمع السور الثلاث كونها حشرات فلماذا نحشر معها الفيل والبقرة؟! ولكن لكل سورة نظامها العددي.
ولماذا لا تكون وحدة البناء في النحل العدد 32 وقواسمه؟!
ولا سيما أنك تزعم أن وراء التأنيث سراً، هو أن القرآن أشار إلى أن الأنثى هي التي تنتج العسل...
فكان الأولى أن تجتمع هذه التوافقات بأن يكون ترتيب السورة موافقاً لعدد كروموسومات أنثى النحل؟!
ثم ما يمنع أن تجمع إليها سورة البقرة وسورة الإنسان لاشتراك هذه جميعاً في الحيوانية، فإن كان لديك دليل على أن كونها حشرات معتبر فهاته...
إما دعواكم أن لكل سورة نظامها العددي فلنا أن نقول في مقابل ذلك إنها ذريعة تتهربون بها من ذكر قاعدة عامة معتبرة فيما تذهبون إليه من التعداد.
ولنا أن نقول أيضاً: تأملوا شعر العرب، وانظروا فيه، فلكل قصيدة فيه نظامها العددي، وتأملوا شعر الجاهليين بيتاً بيتاً، لأن وحدة البناء في القصيدة الجاهلية عند أهل الأدب هي البيت، ولكل بيت من شعر الجاهليين نظامه العددي الخاص.
7. كلما زادت الملاحظات بَعُدَ أن يكون الأمر من قبيل المصادفة (ولا يوجد في كتاب الله مصادفات بل كله يراد). فكيف بنا والملاحظات لدينا تتوارد وتتواتر كلما بحثنا، وهي الآن تتجاوز المئات. ولا شك أن القانون الجامع يأتي بعد جمع أكبر عدد ممكن من الملاحظات، وهذا هو المنطق السوي في منهجية البحث. وكما تلاحظ فقد سمى الشيخ بسام كتابه"إرهاصات الإعجاز العددي". فهو يعتبر أن هذه مقدمات ترهص بوجود الإعجاز العددي. وله كتاب في عنوانه:" مقدمات تنتظر النتائج". فهل تقترح علينا أن نهمل هذه الملاحظات ولا نتابع البحث حتى لا نضيع وقتنا!! وهل ترى أن إثبات وجود وجه ومن وجوه الإعجاز القرآني لا يدخل في باب الهداية؟! إذا كان الأمر كذلك فلماذا بحث الإعجاز البلاغي، والغيبي، والتشريعي.. ؟!
وأنا واثق أن بإمكان الشيخ بسام أو غيره ممن يقولون بالإعجاز العددي أن يجدوا مئات الملاحظات العددية في شعر العرب ودواوينها ومعلقاتها لو أنهم أعطوها حقها من التأمل والبحث، ولم يضربوا عنها صفحاً...
فإن شيتم أن تهملوا هذه الملاحظات التي تجدونها في القرآن، فلا تضيعوا وقتكم، فافعلوا...
وإلا، فأقترح عليكم أن توسعوا دراستكم لتشمل شعر العرب فتستدركوا ما فاتكم في هذا الباب.
8. لابد من التفريق بين الأبحاث الجادة والأبحاث المتكلفة، وهذا مطلوب في كل وجه من وجوه الإعجاز. فكم من باحث في الإعجاز البياني لا يُبين.
واصدقك إذ أقول: إنني لا أجد في دعاوى الإعجاز العلمي والعددي إلا التكلف...
وإذا كان الباحثون في الإعجاز البياني لا يبينون، فهل كشف لنا أرباب الإعجاز العلمي والعددي عن شيء يستحق النظر؟!
9. الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وواضح أنك تحكم على علم ترى أنه تضييع للوقت، ومن هنا لا أتصور أنك كلّفتَ نفسك عناء أن تبحث فيه. والفرق بيني وبينك أنني تابعتُ أبحاث شيخي ناقداً لها، فكانت من أكبر المفاجآت، بل والمتع الفكرية والروحية. وكم حلّقت بي في آفاق السرور والنشوة، لما أجده من آفاق إعجازية يسهل أن تميّز بينها وبين ما يمكن أن يتكلفه البشر من بناء.
بارك الله فيك...
أنا لم أحكم ببطلان الإعجاز العددي إلا بعد أن تصورته، وتحققته، ثم تبينت مواطن الخلل فيه.
ولو أنني لم أكلف نفسي عناء البحث كما تدعي، لما تمكنت من إثبات توافق عددي في شعر العرب على مثال التوافق العددي في القرآن.
ثم اعلم أن بعض أهل الباطل كالنصارى والبوذيين وغيرهم يحلقون في خيالات وأوهام يحسبونها حقيقة، ويحصل لهم من السرور والنشوة ما تجده في نفسك، فليس حصول النشوة من حيث هو دليلاً على صحة المدعى.
وختاماً:
فكن على ثقةً أنه لم يكن من غرضي الاستهزاء، فأنا أحرص كل الحرص على أن يستمر حوارنا هادئاً، وإنما أهدف إلى بيان فساد ما ذهبتَ إليه بطريق الإلزام والمقابلة.
بيت الشعر الذي أوردته:
نحن قوم تذيبنا الأعين النجـ .... ـل على أننا نذيب الحديدا
يحفل بالتوافقات العددية التي أوردتها، ولم أجد عندك في الرد إلا عين المصادرات التي رأيتها من الأخوة سابقاً، وما كان ينبغي لك أن تقع فيها.
ثم ادعيت أنك لم تنظر فيما أوردته من توافقات لأنني لستُ جاداً!!
فما لك ولجديتي؟!
لقد أوردت هذا لإلزامك، فكان ينبغي أن تأتي بجواب تنفصل به عن هذه الإلزامات!
إلا أنك لم تفعل...
لذلك أعيد عليك السؤال:
ما الفرق بين ما تزعمونه من توافق عددي في القرآن، وبين ما أوردناه من توافق عددي في شعر العرب؟!
سؤال لم تجب عنه يا أبا عمرو؟