الأخ الكريم البيراوي:
1. القرآن الكريم تحدى البشر أن يأتوا بمثله، ولم يتحد بمثل بيانه. ومن هنا لا يصح زعم البعض أن الإعجاز يقتصر على الإعجاز البياني.
بل يصح هذا ولا يصح غيره.
فما فهمه العرب هو أن يأتوا بمثل بيانه وبلاغته وروعته. وإنه وإن كانت المثلية هنا مطلقة، إلا أن العرف مخصص لها، فينصرف معناها إلى المعهود بالمثلية عند العرب الأولين ولا يجاوزه، كما أن قوله تعالى ((حرمت عليكم أمهاتكم)) معناها تحريم النكاح أو مطلق الاستمتاع، وليس الكلام، والنظر والقبلة على وجه البر والرفق بها. والعرف هنا هو المخصص، وكذلك الأمر في المثلية.
2. طال الكلام في الإعجاز العددي ولا يغني ضرب الأمثال السريعة. ومن كان معنياً بمعرفة الحقيقة فليبحث، وقد كان المسلم من السلف الصالح يرحل السنين يطلب العلم.
وكذلك لا تغنيكم - يا أخي- كثرة التوافقات والتلفيقات التي تخرجون بها، وتوافوننا بها المرة تلو المرة، إذ لا بد لكم من دليل على أصل دعواكم، لا بد من دليل يدلكم على أصل المسألة من فقه اللغة أو من كلام العرب، وكما ذكر الأخ أبو عمرو: هل منا من ينصرف عند قراءة كلام بشري إلى عد الأسطر والكلمات، ثم يقول عدد كلمات المقالة تساوي عدد كلمات عنوان المقالة مضروبة بعدد الأسطر أو ما إلى ذلك من هذه التلفيقات؟
أنتم تقرؤون كلام الله، ثم تنصرفون إلى عدِّ الآيات وترتيب السور والضرب والجمع والطرح والقسمة...إلخ. فما الذي جعلكم تسلكون هذا المسلك في تدبر القرآن؟!
هل من دليل عندكم على جواز الضرب على الآلة الحاسبة عند قراءة القرآن؟!
أم هو حب الظفر بجديد لم يأت به الأولون ولو كان باطلاً؟!
إذا كان ضرب الأمثلة السريعة لا يجدي فكذلك الأمر في تلفيقاتكم الكثيرة التي وافيتمونا بها، فهي على كثرتها لا تغنيكم شيئاً ما لم تأتونا بدليل على أصل المسألة.
3. هذا يعني أن نجري البحوث على المصاحف العثمانية. ولكن سيكون من قبيل التشتيت أن تبحث في كل المصاحف. ومن هنا ننصح من يبحث في الإعجاز العددي أن يستمر في النسخة السائدة في العالم الإسلامي. وعندما نحدد النسخة السائدة نساعد الناس في التحقق من صدق البحوث ونساعدهم في المساهمة في هذه الجهود المباركة.
وماذا عن المسلمين في المغرب العربي ورواية ورش هي السائدة عندهم؟!
ثم إن التحقق من صدق التلفيقات العددية التي تخرجون بها مما لا ننازعكم فيه ابتداءً، بل نحن ننازعكم في أصل مسألة دلالة الأعداد في القرآن. وهذا ما لا يغنيكم فيه كثرة الأمثلة.
4. الاختلاف في رسم المصاحف العثمانية مرصود ومعلومة مواقعه وانعكاس ذلك على البحوث العددية محدود، لأن المشترك بين المصاحف العثمانية هو عصب هذه البحوث. وهنا لا بد من التنبيه إلى أن الأبحاث العددية لا تتعامل مع القراءات وإنما مع رسم المصحف فليكن ذلك معلوماً.
الخلاف ليس في رسم المصاحف فقط، بل في عد الآي، وزيادة رقم أو نقصانه في تعداد الآيات يؤثر في عمليات الحساب عندكم.
ثم بإمكانكم أن تقولوا: لكل قراءة متواترة نظامها العددي الخاص!!! فتسدوا علينا باب المعارضة ها هنا كما أنكم تقولون لكل سورة نظامها العددي الخاص!!!
ولا دليل لكم على هذا كله، ولا زلنا نطالبكم بدليل على أصل المسألة.
5. مجموع الأبحاث الجادة التي صدرت تؤكد وجود البناء الرياضي المذهل. وفقط من بات يؤمن بهذا الوجه من وجوه الإعجاز هم الذين سيكشفون عن تفاصيل هذا الإعجاز، أما أهل المعارضة فنشبههم بالكوابح التي تمنع الاسترسال في الشطط.
ولنا أن نسمي مجموع هذه الأبحاث "تلفيقات ما أنزل الله بها من سلطان". وهذا البناء الرياضي المذهل الذي تزعمونه إنما هو عملكم أنتم في ربط الأعداد بعضها ببعض جمعاً أو طرحاً، ضرباً أو قسمة....
مثال هذا ما ذكره الأخ جلغوم عندما بين لنا أن "خلق السماوات والأرض في ستة أيام" ذكر سبع مرات في القرآن، ولو كان ذكر ست مرات لقال: انظر إلى هذا التناسق العجيب، ستة أيام وست مرات!
ولكن لما أشكل عليه ورود الخلق سبع مرات ذهب إلى استنباط علاقة أخرى ورابط آخر، أو تعليل آخر جديد.
وكذلك ما حصل معك أنت أخي البيراوي، ربطت بين ترتيب كروموسومات ذكر النحل وترتيب سورة النحل في المصحف، ووافق هذا عدد كروموسومات العنكبوت والنمل، ولكن لم يوافق ترتيب سورتي البقرة والإنسان عدد كروموسومات البقرة والإنسان!!
فقلتم لأن الحديث عن الحشرات!!
فما بال الثدييات؟!
ثم تزعمون أننا نتكلف التلفيق! فكيف وأنتم غارقون فيه؟!
ثم إني لا أظنكم تعجزون عن إيجاد رابطة "تلفيق" يجمع الإنسان والبقرة، ويربطهما بترتيب سورتي البقرة والإنسان!
وهكذا تمضون في إيجاد ما تستطيعون من أبنية رياضية مذهلة!!
ويبقى سؤالنا – نحن أهل المعارضة- قائماً لم نجد له جواباً عندكم:
أين دليلكم على أصل المسألة الأعداد في القرآن؟!
وكثرة التلفيقات التي تأتوننا بها لا تنهض دليلاً على صحة دعواكم، لأنه ليس لها ما يسندها أصلاً.
إضافة لما ورد في المداخلة السابقة أقول:
1. عندما يستيقن المسلم أن القرآن الكريم كلمة الله عليه أن يدرك أنه يختلف عن كلام البشر، وبالتالي عليه أن يتوقع المفاجآت التي تليق بكلام من خلق السماوات والأرض.
إذا كان الأمر متعلقاً بالإعجاز، فهذه مصادرة، إذا لا يمكن أن تتيقن أن القرآن كلام الله ولمّا يثبتْ لنا أن القرآن كلام الله من حيث وجود الإعجاز العددي فيه.
ثم إن المفاجآت التي تليق بكلام من خلق السماوات والأرض لا بد لها من دليل يدل عليها، ولا يكفيك كثرة التلفيقات.
ثم إن كثيراً من تفسيرات الباطنية والصوفية تختزن مفاجأت عجيبة مثيرة، إذ يفطنون إلى تفسيرات وتأويلات لا تخطر على قلب بشر!
وكون هذه المفاجأة لائقة أو غير لائقة بحاجة إلى دليل، لا نزال نطالبكم به.
علاوة على أن قولك "توقع المفاجآت التي تليق بكلام الله" يوكد لنا ولوع الكثيرين من أرباب الإعجاز العلمي والعددي بشيء يسبقون إليه مما لم تأت به الأوائل، ونحن لا نقف حجر عثرة في طريقهم، ولا نمنع أن يأتونا بشيء لم تأت به الأوائل إذا كان صحيحاً مدعماً بالدليل...
أما أن يكون عارياً عن الدليل، ولمجرد السبق ليس إلا، فلا...
2. عندما يقوم المسلم بواجبه في الدراسة والبحث واستجلاء الأسرار يمكنه بعد ذلك أن يقيم الحجة الدامغة على غير المسلم. وكيف للمسلم أن يقيم الحجة على غير المسلم في هذا العصر وهو لا يزال يتعامل مع القرآن الكريم بأسلوب الترجمة اللفظية.
على الأقل: الترجمة اللفظية خير من الهذيان العددي...
فالمتعلق بالألفاظ ودلالاتها لم يجاوز المعقول، إذ هذا هو الأصل في الكلام من حيث هو كلام.
أما الذاهبون إلى الأرقام، اللاهثون وراء مفاجآت ما أنزل الله بها من سلطان، الذين يتدبرون القرآن بلغة الـdigital لا بلسان العرب فأنى لهم أن يقيموا الحجة؟!
3. لم ينزل القرآن الكريم للعرب فقط، وإنما نزل للبشرية إلى يوم القيامة، والقرآن الكريم ليس مجرد ألفاظ، بل هو معاني، ولم يكن العرب في عصر نزول الرسالة يملكون المعارف التي تؤهلهم للتعمق في تدبر القرآن الكريم. وإن تعجب فاعجب ممن يزعم أنهم أزكى نفوساً وبالتالي أعظم علماً.أمّا أنهم أزكى نفوساً بالمجمل فنعم، أمّا أعلم فلا، ومن زعم غير ذلك فعليه الدليل من القرآن أو السنة.
ولنا أن نقول في مقابل دعواك، ثم نكون أصدق قيلاً: إن الأولين كانوا أسعد حظاً، وأحسن حالاً من حيث إنهم علموا حدود ما أنزل الله على رسوله فلم يجاوزوه إلى ضروب من الهذيان ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يقوِّلوا الله ورسوله ما لم يقولاه.
فهلا أتيتنا بدليل على أصل مدعاك؟!
الأمر كما قلتَ: القرآن ليس مجرد ألفاظ، بل هو معانٍ...
فأين الدليل على أن القرآن أرقام؟!!
أنت من يلزمك الدليل أخي، وليس نحن.
ولا زلنا نطالبك به...