وهم (الوحدة الموضوعية) في السورة القرآنية.

أبو عبد المعز

Active member
إنضم
20/04/2003
المشاركات
586
مستوى التفاعل
25
النقاط
28
وهم (الوحدة الموضوعية) في السورة القرآنية

عندما يقول العربي المسلم قال العالم الأمريكي كذا ، أو قال الفيلسوف الألماني كذا ، فهو لا يقصد قطعا تعريف ذلك العالم بالنسبة إلى بلد ما ، خاصة وأن ذلك العالم قد يكون أعرف واشهر من الناقل عنه ، ولكنه يقصد الترويج لذلك القول وإغراء القارئ به ، لأنه صادر من أمريكا أو ألمانيا!

فيصبح الفكر "ماركة" مثل بقية المصنوعات المعروضات في الأسواق ...فالحذاء الذى كتب فيه (مصنوع في السويد) يتهافت عليه أكثر من الحذاء الذي كتب فيه (صنع في السودان) بل قد يلقيه بسرعة من يده ترفعا ، مع أن الحذاء السوداني أفضل وأجمل ولو كلف نفسه إدخال رجله في الحذائين على سبيل التجربة لوجد أن قدمه في الحذاء السوداني أكثر راحة واطمئنانا وملاءمة لكنه لن يجرب فلا مجال عنده للمقارنة بين بلد اسكندنافي وقبيلة افريقية!!

هذه مصيبة المسلمين في هذا العصر الرديء ، فالقول السفيه والأثيم البادي السفه والإثم مقبول لديه بل مقدم عنده ولا سلطان إلا أن قائله فرنسي أو ياباني ، فحجة "الماركة" أقوى بكثير من حجة "التجربة والعقل"...ومهما بحثت عن تعبير يصف هذه الآفة فلن تجد أقوى وأبلغ من قول النبي عليه الصلاة والسلام: "حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"...نعم نتبعهم لاهثين دون أن نسأل وماذا سنفعل في جحر الضب!!!

زعموا أن علم الجمال قرر أن العمل الفني الشعري يكون أجمل إذا كان فيه وحدة الموضوع. تلقفوا هذا الزعم واستوردوه ماركة مسجلة وسرعان ما طبقوه على كلام الله.. قالوا في السورة القرآنية وحدة موضوعية فتجد فاضلا مثل عبد الله دراز يستهويه الزعم فيمضي باحثا عن وحدة موضوعية مفترضة في سورة البقرة وليته سكت!

وسنبين- بحول الله - تهافت قاعدة الوحدة الموضوعية بعد حين...
 
الوحدة الموضوعية المشروطة في العمل الفني( الشعري خاصة ) ليس له سند من المنطق والواقع ومعياره الوحيد هو الذوق أو العرف، وما كان للأعراف أو الأذواق أن يؤسس عليها علم حقيقي . إن ما يسمونه ( الاستيطيقا )أو (علم الجمال) ليس له من العلمية إلا الاسم ، فمرجعه الذوق الشخصي ، والأذواق مختلفة فلا يمكن تأسيس علم إلا على مرجع ثابت وموحد. فقد يسلم بعلمية المنطق لأن القوانين العقلية واحدة ، وقد يسلم بعلمية الفزياء لأن المرجع فيه هو الواقع والواقع ثابت موضوعي لا تغيره الأهواء، لكن الاستيطيقا ليست كذلك فما يراه زيد جميلا يحكم عليه عمرو بالقبح ومحال الفصل بينهما أو ترجيح رأي على رأي لأنهم هم أنفسهم قرروا المبدأ الشهير: "الأذواق والألوان لا تناقش"

فلماذا كانت الوحدة الموضوعية شرط جمال وعلى أي أساس بنيت ؟

إن مفهوم الوحدة الموضوعية لم تظهر عند الغربيين أنفسهم كمعيار إلا في زمن هيمنة الفكر الرومنطيقي خاصة عند( كانت) و(هيغل). وهذا الأخير روج لها في كتبه عن فلسفة الفن وليس ذلك بغريب عن فيلسوف يعتقد بوحدة الوجود !ولعل الشيخ عبد الله دراز قد أعجبته فكرة الوحدة الموضوعية – وهو الذي اشتغل كثيرا بكانت عندما بحث في فلسفة الأخلاق عند الفيلسوف الألماني وقارنها بنظرية الأخلاق في القرآن فلا بد أن يكون قد اطلع على النظرية الجمالية عند كانت وخلفه هيغل- ودراز رحمه الله وهوالمدافع عن القرآن رأى أن القرآن أولى من غيره في أن تكون فيه وحدة موضوعيه فمضى يبحث عنها في سورة البقرة على اعتبار طولها وتنوع مواضيعها فإن كان فيها وحدة موضوعية فأولى أن تكون في السور القصيرة!

كان على الشيخ أن يمحص مفهوم الوحدة الموضوعية أولا قبل أن يخضع القرآن لذوق كانت وهيغل....ولو فعل لربما اكتشف أن الوحدة الموضوعية هي أبعد عن الفطرة والجبلة البشرية كما سنبين بحول الله.
 
الإنسان مفطور على نشدان التنوع والاختلاف ، والمشهد الوحيد اللون سرعان ما يكون باعثا على الملل والسأم، فهؤلاء بنو إسرائيل ، قوم موسى، رزقهم الله من السماء منا وسلوى ، رزقا طيبا مجانا ، لا يكلفهم حرثا ولا جهدا، ومع ذلك رفضوه بسبب وحدته واعتبروه كأنه عقوبة تحتاج إلى صبر:

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [البقرة : 61]

لا شك أن ما في السماء والنازل منها أشرف مما في الأرض والصاعد منها ، ومع ذلك فضلوا الأدنى المتنوع على الخيرغير المختلف...وهذا المسلك عند الإنسان لا يتعلق بالمأكول والمرئي فقط بل يشمل المسموع أيضا ، فمن ملذات الإنسان السمر، ولا يكون السمر متعة إلا إذا كان فيه "تجاذب أطراف الحديث" إي الانتقال من موضوع إلى موضوع آخر... وقد يتعجب المرء عندما يستعرض ما راج في مجلس السمر كيف بدأ الحديث بموضوع وكيف انتهى بموضوع لا يمت إلى الأول بأدنى صلة...هذه متعة السمر، ولو كان الموضوع واحدا في الليل كله لجاء الملل وخرج السمر عن طوره ليصبح مناظرة أو جدالا أو غير ذلك.

والقرآن المبين نزل وفق فطرة الإنسان فتجد في الصفحة الواحدة – فضلا عن السورة الواحدة- سياحة تنقل القاريء من التاريخ إلى الجغرافيا ومن الدنيا إلى الآخرة ومن الترغيب إلى الترهيب ومن التشريع إلى الحكاية...لكن أتباع الداخلين إلى مسكن الضب يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير!

للحديث بقية....
 
إن مسالة استجلاب نظريات الغرب والشرق وأذواقهم ومحاولة اسقاطها على الإسلام مسالة قديمة لم تبدأ في العصر الحديث ، بل بدأت منذ تجاوز دين الله حدود جزيرة العرب فاختلط الدين مع ذوي الثقافات والأديان والوثنية والنصرانية واليهودية فبدأ العبث وإدخال الفلسفة والمنطق وعلم الكلام وعقائد الهندوس واليونان ونبتت من وراء ذلك مذاهب فقهية وعقائد لا يقبل من أحد اليوم أن ينتقدها ، فلا يوجد فرقة من الفرق المنتسبة للإسلام إلا وتجد في جذرها الفكري لمسة من عقيدة وثنية غربية أو شرقية ، وحتى من نافح لمواجهة تلك التيارات كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يسلم من محاكاتهم ف يمحاولة للوصول لنقطة متوسطة توازن بين تأصيلاتهم وحقيقة الإسلام وهذه مسالة يحتاج بسطها لمساحات كبيرة ليس محلها هنا..
واصل أعانك الله
 
ما أجمل هذا وفقك الله يا أبا عبدالمعز وليتك تفصل وتتوسع في هذه المسألة فهي في غاية الأهمية وكل الدراسات المعاصرة والبحوث تسير في هذا الاتجاه
 
إذا سلمنا جدلا أن (الوحدة الموضوعية) شرط من شروط جمال النص وبلاغته فإنه يلزم أن تكون في القرآن على أعلى صورة منها ، وما هذه الصورة العليا إلا ما يسمونه (الوحدة العضوية)...وهي درجة سامية في تماسك النص بحيث لا يمكن حذف مقطع أو نقله من مكانه تقديما أو تأخيرا، إذا كانت القصيدة ذات الوحدة الموضوعية يمكن التصرف فيها بحذف بيت شعري أو تغيير ترتيب المقاطع من غير أن يؤثر ذلك في وحدة الغرض والموضوع، فإن ذلك لا يتأتى في القصيدة ذات الوحدة العضوية.

ولو نزل القرآن وفق أهواء "الجحريين" لاتخذه الناس مهجورا جزئيا ذلك لأنه ستكون فيه- مثلا- سورة خاصة بقواعد الإرث وسورة خاصة بأحكام الطلاق ومن الناس من لا يستهويه مجال الأحكام فلن يجد ميلا لتلاوة السور المتخصصة في الأحكام ويفضل عليها سور الأخبار والوقائع وللناس في هذا المجال ميول وأذواق فلا يمكن للنص الواحد أن يرضيهم جميعا...

وهذا التنوع في مواضيع السورة القرآنية لهو من دلائل إعجازه لو كان "الجحريون" يعلمون...(ونحن نقصد بالإعجاز هنا المعنى الحقيقي وليس المعنى المبتذل الذي شاع على الألسنة حيث يرون أية نكتة بلاغية إعجازا وأي حكمة في التشريع إعجازا وسيكون لنا موضوع بحول الله فيه تنقيح لمفهوم الإعجاز)

ففي الصفحة الواحدة من القرآن تجد انتقالا سريعا من موضوع إلى آخر دون أن يشعر القاريء بفجوة أو صدمة وهذا أمر وجداني يشعر به كل مرتل ولا يحتاج إلى استدلال ولو حاول الناس مجاراة التنزيل في ذلك لجاء خطابهم هذيانا أو شبيها بالهذيان!!
 
الانتقال الموضوعي بين مقاطع الآيات يثيرانتباه القارئ، لكنه أيضا يحفز على تأمل الصلة بين المقطعين (ترغيب ثم ترهيب. تذكير بنعمة المطر والنبات ثم ذكر إحياء الموتى كإحياء الأرض الموات، إلخ)
فالمناسبة موجودة، وخيطها أحيانا واضح وأحيانا يتطلب قدرا أكبر من التأمل.
لكن معك حق في مسألة الوحدة الموضوعية. فلا يمكن إجبار النص على مراعاة قواعد نضعها نحن من عندنا لم يلزم النص بها نفسه أصلا.
في الأدب المسرحي والقصصي قديما (قبل ما يعد الحداثة) كان النقاد يعيبون النصوص التي لا تلتزم بقواعد أرسطو عن وحدة الزمان والمكان! مع أن الإثارة والتشويق تتطلب التنويع.. وانتقال المشاهد من ساحة معركة مثلا إلى نقاش سياسي في بلاط ملك، مرورا ربما بفاصل قصير عن تأثر المدنيين بنتائج المعركة، يبدو أفضل من مسرحية فصل واحد تدور كل أحداثها بين شخصيتين فقط في غرفة واحدة.
في نقاشي مع الأجانب أحتاج أحيانا لاقتباس ترجمات قرآنية إنجليزية، فأجدهم مصدومين من الانتقال الموضوعي بين الآيات، لأنهم تعودوا على أسلوب التوراة القصصي والمتسلسل زمنيا: أولا قصة الخلق ثم آدم ثم نوح وهكذا. مترجمو معاني القرآن يعانون من صعوبة نقل الرابط الخفي - الموجود بين المقاطع - للإنجليزية، فيظن القارئ الأجنبي أن القرآن نص غير مترابط وأنه يقفز عشوائيا من موضوع لموضوع، في حين أن المناسبة بين المقاطع موجودة وإن خفيت.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين أما بعد الموضوع مهم وجيد
لكن يا أخي الكريم ألا ترى معي أن العنوان فيه مشكلة؟
لإن حضرتكم ترفض فكرة الموضوعية لكن الكثير من العلماء والمفسرين يؤكدون وجودها وكتبت عنها رسائل وأطاريح في الدراسات العليا فليس من الصحيح أن تعنون
ب ( وهم ) والله تعالى أعلم .
 
السلام عليكم: الموضوع المطروح يدخل في خانة المسائل الخلافية؛ أي رأيي صواب ويحتمل الخطأ، ورأيك غيري خطأ ويحتمل الصواب. فيستفاد من رأي الغير في سد الثغرات، وتحصين الفكرة باعتدال دون غلو، وعليه أوافق الرأي على كل الأفكار التي ذكرت في ثنايا الاستدلال، لكن لا أوافق جملة وتفصيلا على فكرة الموضوع؛ وذلك أن التفسير الموضوعي للسورة القرآنية والتناسب القرآني بين آيات السورة وجهان لعملة واحدة؛ فالتناسب القرآني أداة هامة للمفسر الموضوعي؛ لقول الأمام الرازي: "إن أكثر لطائف القرآن مُودعة في الترتيبات والروابط"، فهما من العلوم القرآنية الهامة التي تهتم بفهم معاني القرآن الكريم وأسرار ترتيبه، والسعي إلى استنباط المعاني العميقة والدقيقة من آيات القرآن الكريم. فعلى الرغم من تباين مجالهما، إلا أنهما يتقاطعان ويتكاملان في العديد من النقاط، ومن بينها حل المشكلات التفسيرية التي قد تنشأ عند تفسير الآيات بشكل منفصل عن سياقها. فالمسلم لا يرفض كل ما يأتي الغرب دون تمحيص، وذلك لأن الفكر الغربي نتاج العقل، والعقل هبة إلهية وهو مناط التكليف وهنا نتعامل وفق مبادئ إسلامية المعرفة وهي نفسها التعامل مع الإسرائليات فنقبل ما يتوافق مع شرعنا ونرد ما يخالفه ونتوقف في غير ذلك.
 
1-

الوحدة الموضوعية شيء والتناسب شيء آخر وإنكار الأولى لا يعنى البتة إنكار الثاني، والأمران ليسا من قبيل وجهي العملة الواحدة بل إن العلاقة بينهما أقرب إلى التقابل والتضاد ذلك لأن الداعي إلى البحث عن التناسب يكون أقوى عندما تختلف الموضوعات فلو كان الموضوع متحدا لكانت الوحدة هي نفسها المناسبة ولا يتصورالإنسان باحثا عن الشيء الذي هو ماثل أمامه...فلا يقال عن رجل إن لون بشرته تناسبه أو أن شكل أنفه يناسبه بل يقال ملبسه يناسبه لأنه أجنبي عن الذات ....وما قاله الرازي لا يبعد عن هذا فهو يرى أن الفجوات التي يشعر بها قارئ القرآن بين آية وآية يمكن ملؤها بالتدبر لاكتشاف المناسبة الخفية بين الآيتين وهذا نهج من شأنه أن يكشف عن أسرار القرآن ويثري التفسير...أنا لا أرتاح إلى منهج الرازي - رحمه الله- في التفسير ولا أوافقه في كثير من آرائه لكننىي أعترف أن ما قاله عن التناسب جيد...وقد نصوغ هنا قاعدة من قواعد التفسيرمفادها:" إذا وجدت فجوات في مسار موضوع الآيات فابحث عن المناسبة الخفية..."

وأنا زعيم أن التناسب قائم في كل سور القرآن وإن تعددت المواضيع في السورة الواحدة والأمران لا يتماهيان...ثم إن البحث عن الموضوع الواحد لن يخلو من التعسف والشطط وإلا كيف تكون وحدة الموضوع بين آيات الطلاق والرضاع وقصة طالوت وجالوت!!

هذا التعسف تجده عند النقاد والأدباء الذين تعسفوا أيما تعسف في بحثهم عن الوحدة الموضوعية في المعلقات والقصائد الطوال فلما عدموها قالوا بالوحدة النفسية حفاظا على ماء الوجه ليس إلا!!

فإذا وجدوا- مثلا- غرض رثاء مسبوقا بمقدمة طردية (وصف رحلة قنص ) قالوا الوحدة نفسية فوصف مصرع ذئب لا بد أن يسبب حزنا للذئبة أمه وهذا الحزن يتحد مع الحزن في الغرض الأساسي الرثاء!

2-

عندي وقفة مع مصطلح التفسير الموضوعي فليس المراد به اعتبار السورة ذات موضوع واحد بل هو منهج عام يتبناه المفسر(والمنهج كما هو معروف سلسلة من القواعد الأولية على ضوئها يقارب الآية والسورة أوقل هي خارطة طريق سيتبعها المفسر) فالمفسر الموضوعي يقول مثلا - قبل مباشرة التفسير- سأستقرئ مواضيع سورة من القرآن وأتتبعها ،وقد يجد موضوعا واحدا أو عشرين موضوعا ، فلا علاقة للتفسير الموضوعي بالوحدة الموضوعية التي نحن بصددها،لأن الأول منهج كلي والثاني مفهوم جزئي ، وزيادة في البيان نقول إن التفسير الموضوعي يقابله التفسير البلاغي مثلا، المفسر البلاغي له خارطة طريق مختلفه فهو يقول سأتتبع "أسلوب الاستفهام" في السورة ولا يهمه كثيرا إن ورد الاستفهام في قصة أو في أحكام الطلاق أو في وصف الجنة...باختصار الموضوعي يتتبع المواضيع والبلاغي يتتبع الأساليب، وقد يتبنى المفسر منهجا شاملا يجمع المواضيع والأساليب وغيرها....
 
1-

الوحدة الموضوعية شيء والتناسب شيء آخر وإنكار الأولى لا يعنى البتة إنكار الثاني، والأمران ليسا من قبيل وجهي العملة الواحدة بل إن العلاقة بينهما أقرب إلى التقابل والتضاد ذلك لأن الداعي إلى البحث عن التناسب يكون أقوى عندما تختلف الموضوعات فلو كان الموضوع متحدا لكانت الوحدة هي نفسها المناسبة ولا يتصورالإنسان باحثا عن الشيء الذي هو ماثل أمامه...فلا يقال عن رجل إن لون بشرته تناسبه أو أن شكل أنفه يناسبه بل يقال ملبسه يناسبه لأنه أجنبي عن الذات ....وما قاله الرازي لا يبعد عن هذا فهو يرى أن الفجوات التي يشعر بها قارئ القرآن بين آية وآية يمكن ملؤها بالتدبر لاكتشاف المناسبة الخفية بين الآيتين وهذا نهج من شأنه أن يكشف عن أسرار القرآن ويثري التفسير...أنا لا أرتاح إلى منهج الرازي - رحمه الله- في التفسير ولا أوافقه في كثير من آرائه لكننىي أعترف أن ما قاله عن التناسب جيد...وقد نصوغ هنا قاعدة من قواعد التفسيرمفادها:" إذا وجدت فجوات في مسار موضوع الآيات فابحث عن المناسبة الخفية..."

وأنا زعيم أن التناسب قائم في كل سور القرآن وإن تعددت المواضيع في السورة الواحدة والأمران لا يتماهيان...ثم إن البحث عن الموضوع الواحد لن يخلو من التعسف والشطط وإلا كيف تكون وحدة الموضوع بين آيات الطلاق والرضاع وقصة طالوت وجالوت!!

هذا التعسف تجده عند النقاد والأدباء الذين تعسفوا أيما تعسف في بحثهم عن الوحدة الموضوعية في المعلقات والقصائد الطوال فلما عدموها قالوا بالوحدة النفسية حفاظا على ماء الوجه ليس إلا!!

فإذا وجدوا- مثلا- غرض رثاء مسبوقا بمقدمة طردية (وصف رحلة قنص ) قالوا الوحدة نفسية فوصف مصرع ذئب لا بد أن يسبب حزنا للذئبة أمه وهذا الحزن يتحد مع الحزن في الغرض الأساسي الرثاء!

2-

عندي وقفة مع مصطلح التفسير الموضوعي فليس المراد به اعتبار السورة ذات موضوع واحد بل هو منهج عام يتبناه المفسر(والمنهج كما هو معروف سلسلة من القواعد الأولية على ضوئها يقارب الآية والسورة أوقل هي خارطة طريق سيتبعها المفسر) فالمفسر الموضوعي يقول مثلا - قبل مباشرة التفسير- سأستقرئ مواضيع سورة من القرآن وأتتبعها ،وقد يجد موضوعا واحدا أو عشرين موضوعا ، فلا علاقة للتفسير الموضوعي بالوحدة الموضوعية التي نحن بصددها،لأن الأول منهج كلي والثاني مفهوم جزئي ، وزيادة في البيان نقول إن التفسير الموضوعي يقابله التفسير البلاغي مثلا، المفسر البلاغي له خارطة طريق مختلفه فهو يقول سأتتبع "أسلوب الاستفهام" في السورة ولا يهمه كثيرا إن ورد الاستفهام في قصة أو في أحكام الطلاق أو في وصف الجنة...باختصار الموضوعي يتتبع المواضيع والبلاغي يتتبع الأساليب، وقد يتبنى المفسر منهجا شاملا يجمع المواضيع والأساليب وغيرها....
بادئ ذي بدء أشكركم على طرح الموضوع من وجهة نظر مختلفة فالاختلاف رحمة ويظهر صلابة الرجال والأقوال في الحق ودون مجاملة أحب الناس إلى قلبي من ينظر لجهة غير التي ينظر إليها باقي الناس فينقل لنا ما فاتنا فهو بذلك يكملنا، وأنا أتتبع ما تكتبون في التفسير باهتمام بالغ.

وبعد:

فإن قولكم: (عندي وقفة مع مصطلح التفسير الموضوعي فليس المراد به اعتبار السورة ذات موضوع واحد بل هو منهج عام يتبناه المفسر). نعم هو كما قلتم التفسير الموضوعي منهج من مناهج التفسير، وأما قولكم: (التفسير الموضوعي فليس المراد به اعتبار السورة ذات موضوع واحد) فليس دقيقا، نعم اختلفوا في تعريفه لأنه علم حديث نسبيا ولكن بدأ التعريف يستقر خلاف ما ذكرتم بعد أن أصبح علما قائما بذاته ويدرس بالجامعات وكتبت فيه موسوعتان كل منهما في عدت مجلدات ناهيك عن المصنفات النظرية والتطبيقية والتي تعد بالمئات. ومن تعاريف على سبيل التمثيل لا الحصر والتي تبين أنواعه: أذكر قولهم: (هو بيان موضوع ما من خلال آيات القرآن، الكريم في سورة واحدة أو سورة متعددة). وقيل أيضا: (هو علم يتناول القضايا حسب المقاصد القرآنية من خلال سورة أو أكثر). وذكر مصطفى مسلم أن للتفسير الموضوعي أشكال ثلاثة: التفسير الموضوعي للمصطلح القرآني، وللموضوع القرآني، وللسورة القرآنية. وبهذا يتبين أن اطلاق التفسير الموضوعي على الوحدة الموضوعية صحيح. وأما قولنا الوحدة الموضوعية في السورة والتناسب بين آي السورة الواحدة وجهان لعملة واحدة فهو قول مجمل وقد بيناه بقولنا بعده: (فعلى الرغم من تباين مجالهما، إلا أنهما يتقاطعان ويتكاملان في العديد من النقاط، ومن بينها حل المشكلات التفسيرية التي قد تنشأ عند تفسير الآيات بشكل منفصل عن سياقها.( وأما أسباب رفضكم للوحدة الموضوعية فيمكن عزوها إلى ثلاثة أسباب رئيسية: التعسف في ادعاء الوحدة الموضوعية في السورة، والتبعية والانسياق للفكر الغربي، وأن القول بالوحدة الموضوعية يناقض اعجاز النظم القرآني بحيث رغم تعدد مواضيع السورة الواحدة لا يحس القارئ بالنشاز والتنافر. وفي هذه الأخيرة يصعب اقناعكم لأن كل شخص ينظر للموضوع من زاويته كالرقم ستة فمن زاوية يمكن قراءته تسعة، وأما التعسف فهو موجود في كل اتجاهات التفسير بل في كل العلوم الشرعية وحتى الكونية، فلا يصلح سببا لرد فكرة الوحدة الموضوعية في السورة رأسا ولكن يعتبر احترازا ويرد به ما قيل في بعض المواضع نشازا، وفيما الانسياق للفكر الغربي فما تراه غزوا فكريا وتبعية مستدلا بالسنة فغيرك يراه تلاقح للأفكار والحضارات واستفادة من نتاج العقل الذي هو هبة ربانية وجعله مناط التكليف، وقد يستدل على ذلك من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ﴾ [الحجرات: 13]، وأما ما جئتم به من أمثلة فلا تنهض حجة على صحة ما ذهبتم إليه من تهافت إدعاء الوحدة الموضوعية في السورة القرآنية، هب مثلا أن حاجا يخاف المرتفعات فيفضل ركوب الباخرة على ركوب الطائرة مستدلا بسقوط الطائرات وموت المئات متناسيا غرق السفن وموت المئات أيضا، ومدعيا أيضا أن الله لو أراد لنا أن نطير في السماء لخلق لنا أجنحة على هيئة الطير وأن في الطيران خرقا للسنن الإلهية في النفس (خلق البشر دون جناح) والكون/ أي الجاذبية، فهل ستتوقف صناعة الطائرات أو هل سيكف الناس على ركوبها طبعا لا، لكن نبحث عن أسباب سقوط الطائرات لنتحرز من ذلك. وأما أن أصل فكرة الوحدة الموضوعية هم الغرب فإن اليهود والشيعة يقولون بعقيدة المهدي فهل يترك أهل السنة الاعتقاد بالمهدي رغم البون الشاسع بينهما في القول بالإمام المهدي وحتى لو كانت الفكرة نفسها أي القول بالوحدة الموضوعية عند مفكري الغرب والمفسرين المسلمين فالقصد مختلف وإنما الأعمال بالنيات. وفي الختام المسألة خلافية باعتبار زاوية النظر، وعلى حد قول أحدهم ما لا يقتلني يقويني، فإن الطعون في الوحدة الموضوعية تأخذ بعين الاعتبار عند تقعيد وضبط هذا العلم. ومرة أخرى شكر الله لكم صنيعكم فما موقفكم هذا إلا تنزيها للقرآن عن المطاعن وغيرة على دين الإسلام.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
(

الوحدة الموضوعيّة في سورة الإخلاص )

الحمد لله رب العالمين أما بعد في المجلة الافريقية للدراسات المتقدمة في العلوم الاجتماعية والانسانية المجلد الاول العدد الرابع اكتوبر ديسمبر
2022 م نشر الدكتور مزمل محمد عابدين محمد البحث أعلاه وهو (

الوحدة الموضوعيّة في سورة الإخلاص )​

ومن الممكن تحميل من الرابط الآتي : https://aaasjournals.com/index.php/ajashss/article/view/122/114
يرجى الاطلاع عليه وفقنا الله تعالى واياكم .
 
عودة
أعلى