أبو صالح المدني
New member
- إنضم
- 01/02/2009
- المشاركات
- 33
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد :
فقد نقلت قناة المجد الفضائية إبان اعتداء اليهود على إخواننا في غزة كان الله لهم في (برنامج قطوف دانية) كلاما للشيخ الفاضل صالح بن عواد المغامسي حفظه الله، عن تفسير آيات من سورة الإسراء، وقد لفت نظري تفسيره لقوله تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) ).
وخلاصة ما ذكره الشيخ أن العلماء اختلفوا في هاتين المرتين اختلافا كثيرا، واستبعد قول من قال أن الإفساد الأول قد وقع وأن عقوبته كانت على يد بختنصر، ثم استظهر الشيخ أن الإفساد الأول هو ما يحصل في هذه الأيام في فلسطين لإخواننا المستضعفين على أيدي اليهود المعتدين، وأن العباد أولي البأس الشديد لعلهم حركة حماس أو أنهم قوم يأتون بعد حماس.
فاستغربت كلامه وترجيحه لقول بدون أن يذكر حجته في ذلك، وكذلك استبعاده للقول الثاني بدون أن يذكر حجة لذلك ، فقلت في نفسي : لعل بعض المفسرين ذكر ما يؤيد هذا، فذهبت إلى التفاسير أفتش فيها وأبحث، فلم أجد بغيتي، بل وجدت اتفاق المفسرين على أن الإفسادين قد وقعا، وقد عاقب الله بني إسرائيل عليهما.
بل قال العلامة الشيخ السعدي رحمه الله : "واختلف المفسرون في تعيين هؤلاء المسلّطين إلا أنهم اتفقوا على أنهم قوم كفار". تفسير السعدي - (ج 1 / ص 453). فلا أدري كيف يقوى الشيخ صالح على مخالفة هذا الاتفاق!!.
ثم ظهر لي أن الشيخ صالح استفاد هذا القول من الشيخ محمد متولي الشعراوي حيث يقول: "هذه هي المرة الأولى التي انتصر فيها المسلمون على اليهود يقول الحق سبحانه وتعالى { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ } ومادام الحق سبحانه وتعالى قال عليهم فهي على المسلمين لأنهم هم الذين انتصروا على اليهود، وقوله تعالى : { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } معناها أنهم ينتصرون على المسلمين وهذا ما هو حادث الآن، وما شاهدناه وما نشاهده في الفترة الأخيرة أي أن المدد والقوة تأتيهم من الخارج وليس من ذاتهم. ونحن نرى أن إسرائيل قائمة على جلب المهاجرين اليهود من الدول الأخرى وجلب الأموال والمساعدات من الدول الأخرى أيضا أي أن كل هذا يأتيهم بمدد من الخارج وإسرائيل لا تستطيع أن تعيش إلا بالمهاجرين إليها وبالمعونات التي تأتيها فالمدد لابد أن يأتي من الخارج إذا كانت هناك معركة وطلب قائد المدد . . فمعناه أنه يريد رجالا يأتونه من خارج أرض المعركة ليصبحوا مددا وقوة لهذا الجيش ... ويقول الحق سبحانه وتعالى : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } . . ومعنى هذا أن المسجد الأقصى سيضيع من المسلمين ويصبح تحت حكم اليهود فيأتي المسلمون ويحاربونهم ويدخلون المسجد كما دخلوه أول مرة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه" تفسير الشعراوي - (ج 1 / ص 170).
وكلام الشعراوي هذا موافق لما قاله المغامسي، إلا أن الشعراوي جعل الواقع الآن هو الإفساد الثاني والمغامسي جعل الواقع هو الإفساد الأول.
ومما ينبغي أن يعلم أنه لا يؤخذ بقول أحد إذا خالف اتفاق المفسرين وما عليه أئمتنا ، ولا أدري كيف حادا عما عليه المفسرون فليتنبه لذلك.
ومن العجائب والعجائب جمة أن الشعراوي - غفر الله له - يقول أيضا : "تحدّث العلماء كثيراً عن هاتين المرتين، وفي أيّ فترات التاريخ حدثتا، وذهبوا إلى أنهما قبل الإسلام – من الواضح أنه ينقل اتفاق العلماء على أنهما قبل الإسلام – ثم يقول مخالفا لهذا الاتفاق: والمتأمل لسورة الإسراء يجدها قد ربطتهم بالإسلام ، فيبدو أن المراد بالمرتين أحداثٌ حدثتْ منهم في حضْن الإسلام" . تفسير الشعراوي - (ج 1 / ص 5100)
وأحب هنا أن أنقل للقارئ الكريم طرفا يسيرا ونزرا قليلا من أقوال الأئمة في هذه الآية، والمراد بالإفسادين الواقعين من بني إسرائيل ليكون القارئ على بينة ظاهرة وحجة قاطعة:
1- ما روي عن الصحابة في تفسير الآية: نقل ابن جرير بسنده عن أبي صالح، وعن أبي مالك، عن ابن عباس، وعن مرّة، عن عبد الله – يعني: ابن مسعود – "أن الله عهد إلى بني إسرائيل في التوراة ( لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ) فكان أوّل الفسادين: قتل زكريا، فبعث الله عليهم ملك النبط، وكان يُدعى صحابين فبعث الجنود، وكان أساورته من أهل فارس، فهم أولو بأس شديد، فتحصنت بنو إسرائيل، وخرج فيهم بختنصر يتيما مسكينا، إنما خرج يستطعم، وتلطف حتى دخل المدينة فأتى مجالسهم، فسمعهم يقولون: لو يعلم عدونا ما قُذف في قلوبنا من الرعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا، فخرج بختنصر حين سمع ذلك منهم، واشتد القيام على الجيش، فرجعوا، وذلك قول الله ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ) ثم إن بني إسرائيل تجهَّزوا، فغزوا النبط، فأصابوا منهم واستنقذوا ما في أيديهم، فذلك قول الله ( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ) يقول: عددا". تفسير الطبري ( ج17/ ص375 ).
وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله : لتفسدن في الأرض مرتين قال : "الأولى قتل زكريا عليه الصلاة والسلام والأخرى قتل يحيى عليه السلام". الدر المنثور للسيوطي - (ج 5 / ص 239) فتح القدير للشوكاني (ج 3 / ص 302).
فهؤلاء ثلاثة من أعلم الصحابة: علي رابع الصحابة قدرا وفضلا، وابن مسعود أقرب الناس بالنبي هديا وسمتا ودلا، وابن عباس ترجمان القرآن الذي ملأ الدنيا علما، وهم جميعا قد فسّروا هذه الآية بما ترى، ونحن مأمورون أن نفهم القرآن بفهمهم، أفندع تفسيرهم لتفسير لم نسمع به إلا في القرن الخامس عشر الهجري؟!!
ثم إن هذه الآثار وإن كان فيها ضعف فإن ورودها عن جمع من الصحابة ينبئ أن لها أصلا، ثم إن الأخذ بها على ما فيها من ضعف أولى بالإتيان بقول لم يقل به أحد من السلف، ولا ورد عن أحد من أئمة التفسير، وهذا ظاهر لا يخالف فيه أحد.
2- ما روي عن أئمة السلف في تفسير الآية: روى ابن جرير في تفسيره عن الربيع في قوله: ( لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ) قال: "كان الفساد الأول، فبعث الله عليهم عدوًّا فاستباحوا الديار، واستنكحوا النساء، واستعبدوا الولدان، وخرَّبوا المسجد. فغَبَرُوا زمانًا، ثم بعث الله فيهم نبيًّا وعاد أمرهم إلى أحسن ما كان. ثم كان الفساد الثاني بقتلهم الأنبياء، حتى قتلوا يحيى بن زكريا، فبعث الله عليهم بُخْتنصَّر، فقتل من قتل منهم، وسبى من سبى، وخرب المسجد. فكان بختنصر الفسادَ الثاني". تفسير الطبري - (ج 10 / ص 459)
وقال قتادة: "إفسادهم في المرة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة، وركبوا المحارم".
وقال ابن إسحاق: "إفسادهم في المرة الأولى قتل شعياء بين الشجرة وارتكابهم المعاصي". تفسير البغوي - (ج 5 / ص 79)
ويقول البغوي: ( { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا } قال قتادة: "يعني جالوت الخزري وجنوده وهو الذي قتله داود". وقال سعيد بن جبير: "يعني سنجاريب من أهل نينوى". وقال ابن إسحاق: "بختنصر البابلي وأصحابه". وهو الأظهر ). تفسير البغوي (ج 5/ ص 79).
3- أقوال أئمة التفسير في معنى الآية:
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: "فإذا جاء وعد أولاهما ( أي أولى المرتين من فسادهم ) بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ( هم أهل بابل وكان عليهم بختنصر في المرة الأولى حين كذبوا إرمياء وجرحوه وحبسوه قاله ابن عباس وغيره، وقال قتادة: أرسل عليهم جالوت فقتلهم فهو وقومه أولوا بأس شديد وقال مجاهد: جاءهم جند من فارس يتجسسون أخبارهم ومعهم بختنصر فوعى حديثهم من بين أصحابه ثم رجعوا إلى فارس ولم يكن قتال وهذا في المرة الأولى فكان منهم جوس خلال الديار لا قتل". الجامع لأحكام القرآن - (ج 10 / ص 215).
ويقول الرازي : "واختلفوا في أن هؤلاء العباد من هم ؟ قيل : إن بني إسرائيل تعظموا وتكبروا واستحلوا المحارم وقتلوا الأنبياء وسفكوا الدماء، وذلك أول الفسادين فسلط الله عليهم بختنصر فقتل منهم أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرض نفسه فبقوا هناك في الذل إلى أن قيض الله ملكاً آخر غزا أهل بابل واتفق أن تزوج بامرأة من بني إسرائيل فطلبت تلك المرأة من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا، فهو قوله : {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} .
والقول الثاني : إن المراد من قوله : {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ} أن الله تعالى سلط عليهم جالوت حتى أهلكهم وأبادهم وقوله : {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ} هو أنه تعالى قوى طالوت حتى حارب جالوت ونصر داود حتى قتل جالوت فذاك هو عود الكرة.
والقول الثالث : إن قوله : {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ} هو أنه تعالى ألقى الرعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس ، فلما كثرت المعاصي فيهم أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم وبالغوا في قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم. واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم ، بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط عليهم أقواماً قتلوهم وأفنوهم". تفسير الفخر الرازى - (ج 1 / ص 2776).
ويقول ابن عاشور : "ويتعيّن أنّ ذلك إشارة إلى حادثين عظيمين من حوادث عصور بني إسرائيل بعد موسى عليه السّلام، والأظهر أنّهما حادث الأسْر البابِلي إذ سلّط الله عليهم ( بخنتصر ) ملك ( أشُور ) فدخل بيت المقدّس مرات سنة 606 وسنة 598 وسنة 588 قبل المسيح، وأتى في ثالثتها على مدينة أورشليم فأحرقها وأحرق المسجد وحَمَل جميع بني إسرائيل إلى بابل أسارى، وأنّ توبة الله عليهم كان مظهرها حين غلب ( كُورش ) ملك ( فَارس ) على الأشوريين واستولى على بابل سنة 530 قبل المسيح فأذن لليهود أن يرجعوا إلى بلادهم ويعمّروها فرجعوا وبنوا مسجدهم، وحادث الخراب الواقع في زمن ( تِيطس ) القائد الرّوماني وهو ابن الأنبراطور الرّوماني ( وسبسيانوس ) فإنّه حاصر ( أورشليم ) حتّى اضطرّ اليهود إلى أكل الجلود وأن يأكل بعضُهم بعضاً من الجوع، وقتَل منهم ألفَ ألفِ رجلٍ، وسبى سبعة وتسعين ألفاً، على ما في ذلك من مبالغة، وذلك سنة 69 للمسيح . ثمّ قفّاه الأنبراطور ( أدريان ) الرّوماني من سنة 117 إلى سنة 138 للمسيح فهدَم المدينة وجعلها أرضاً وخلط ترابها بالمِلح . فكان ذلك انقراض دولة اليهود ومدينتهم وتفرّقَهم في الأرض. وقد أشار القرآن إلى هذين الحدثين بقوله : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتُفْسِدُنّ في الأرض مرّتَيْن ولتَعَلُنّ عُلُوّاً كبيراً فإذا جاء وعد أُولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولِي بأسٍ شديد فجاسوا خِلال الدّيار وكان وَعْداً مفعولاً ثُمّ رددنا لكم الكَرّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنِين وجعلناكم أكثر نَفيراً إنْ أحسنتُم أحسنتم لأنفسكم وإنْ أسأتم فلها فإذا جاء وعْد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تتبيراً. التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (ج 6 / ص 277-278).
ويقول العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي : "لما بين جلَّ وعلا أن بني إسرائيل قضى إليهم في الكتاب أنهم يفسدون في الأرض مرتين، وأنه إذا جاء وعد الأولى منهما: بعث عليهم عباداً له أولي بأس شديد، فاحتلوا بلادهم وعذبوهم. وأنه إذا جاء وعد المرة الآخرة: بعث عليهم قوماً ليسوءوا وجوههم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيراً. وبين أيضاً: أنهم إن عادوا للإفساد المرة الثالثة فإنه جلَّ وعلا يعود للانتقام منهم بتسليط أعدائهم عليهم. وذلك في قوله: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا}[17/8]، ولم يبين هنا: هل عادوا للإفساد المرة الثالثة أو لا؟ ولكنه أشار في آيات أخر إلى أنهم عادوا للإفساد بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتم صفاته ونقض عهوده، ومظاهرة عدوه عليه، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة. فعاد الله جلَّ وعلا للانتقام منهم تصديقاً لقوله: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا}[17/8] فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم، والمسلمين. فجرى على بني قريظة والنضير، وبني قينقاع وخيبر، ما جرى من القتل، والسبي، والإجلاء، وضرب الجزية على من بقي منهم، وضَرْب الذلة والمسكنة. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - (ج 18 / ص 23-25).
وقفة مع سياق الآيات: المتأمل في سياق الآيات يتبين له قطعا أن الإفسادين قد وقعا من بني إسرائيل، وأن القوم المسلَّطين عليهم قوم كفار، وذلك من عدة أوجه :
1- قوله تعالى : ( وليتبروا ما علوا تتبيرا ) قال الشنقيطي : "تبّر كلاًّ منهم تتبيرًا، أي: أهلكهم جميعًا إهلاكًا مستأصلاً، والتتبير الإهلاك والتكسير، ومنه قوله تعالى: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً}" أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - (ج 28 / ص 97). وقال ابن عاشور : والتتبِير : الإهلاك والإفساد . التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (ج 15 / ص 37).
والجهاد في الإسلام ليس فيه إفساد وتكسير، بل هو جهاد غرضه الأكبر الدعوة إلى الله، وليس الهدف منه إراقة الدماء والتكسير والإفساد في الأرض، وهذا يبين أن القوم المسلطين قوم كفار.
2- قوله تعالى : ( عسى ربكم أن يرحمكم ) وعسى من الله واجبة، كما قال ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فيما أخرجه ابن المنذر والبيهقي. انظر: الدر المنثور - (ج 1 / ص 587)، فهل يعقل أن يقال أن الله سيرحم بني إسرائيل وهم على دينهم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ؟!! أم أن المقصود الظاهر من الآية أن الله يرحمهم إذا عادوا للتمسك بدينهم، وهذا إنما يقال حين كان دينهم صحيحا.
وكذلك قوله تعالى : ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ) قال الفخر الرازي : "اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما عصوا سلط عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنهب والسبي ، ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة وأعاد عليهم الدولة ، فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا فقد أحسنوا إلى أنفسهم ، وإن أصروا على المعصية فقد أساؤا إلى أنفسهم". تفسير الفخر الرازى - (ج 1 / ص 2777).
3- قوله تعالى : ( وإن عدتم عدنا ) يقول تعالى وإن عدتم يعني في المستقبل للإفساد عدنا لعقوبتكم.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : "بعث الله عليهم في الأولى جالوت فجاس خلال ديارهم وضرب عليهم الخراج والذل ... إلى أن قال: قال الله : بعد الأولى والآخرة عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا قال : فعادوا فسلط الله عليهم المؤمنين". الدر المنثور - (ج 5 / ص 239-240).
وفي ذلك يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "ثم بين أنهم إن عادوا إلى الإفساد عاد إلى الانتقام منهم بقوله: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}، فعادوا إلى الإفساد بتكذبيه صلى الله عليه وسلم، وكتم صفاته التي في التوراة، فعاد الله إلى الانتقام منهم، فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم فذبح مقاتلة بني قريظة، وسبى نساءهم وذراريهم، وأجلى بني قينقاع، وبني النضير. كما ذكر تعالى طرفاً من ذلك في سورة الحشر". أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - (ج 6 / ص 160).
أقول هنا: لقد كان للشيخين الفاضلين غنية عن مخالفة اتفاق المفسرين، إذ لو اعتمدا في الواقع الذي يجري في فلسطين على قوله تعالى : ( وإن عدتم عدنا ) لكفى، فمتى ما عاد بنو إسرائيل للإفساد في الأرض عاد الله للانتقام منهم.
وبعد سرد هذه الأقوال يتبين لكل ذي لب صحة ما قاله الشيخ السعدي في تفسير الآية وما نقله من الاتفاق على أن القوم المسلطين عليهم قوم كفار، وبها يظهر جليا خطأ ما ذهب إليه الشيخ صالح المغامسي مقلدا فيه الأستاذ محمد متولي الشعراوي. والله أعلم.
تتمة: وأثناء اطلاعي على ما ذكره الشيخ محمد متولي الشعراوي لفت نظري أنه يربط هذه الآية بآية أخرى في سورة الإسراء وهي قوله تعالى (وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) [الإسراء/104] حيث يقول: "قوله تعالى : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } والمراد بوَعْد الآخرة : هو الإفساد الثاني لبني إسرائيل ... وهذه الإفسادة هي ما نحن بصدده الآن، حيث سيتجمع اليهود في وطن واحد ليتحقق وَعْد الله بالقضاء عليهم، وهل يستطيع المسلمون أن ينقضُّوا على اليهود وهم في شتيت الأرض؟ لا بُدَّ أن الحق سبحانه أوحى إليهم بفكرة التجمُّع في وطن قومي لهم كما يقولون، حتى إذا أراد أَخْذهم لم يُفلتوا ، ويأخذهم أخْذ عزيز مقتدر. وهذا هو المراد من قوله تعالى: { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } أي: مجتمعين بعضكم إلى بعض من شَتّى البلاد، وهو ما يحدث الآن على أرض فلسطين" . تفسير الشعراوي - (ج 1 / ص 5334). ورأيت في شبكة الانترنت للشيخ المغامسي ما يوافق هذا الكلام، فظهر لي بهذا أن الشيخ صالح المغامسي يستفيد كثيرا من الأستاذ محمد متولي الشعراوي.
وعندما قرأت هذا التفسير استغربت أشد الاستغراب من هذا التفسير ومن هذه الجرأة على حمل الآية على الواقع المعاصر بالجزم واليقين، وكأن هذا التفسير قد ثبت بالنص الصحيح الصريح !!!
وبعد تتبع أقوال الأئمة في الآية وجدتهم يفسرون الآية بما هو ظاهر ومتبادر إلى الذهن من أن المراد بالآخرة الساعة ويوم القيامة وهؤلاء هم الأكثر، وفسّرها بعضهم بنزول عيسى عليه السلام، وأذكر للقارئ الكريم طرفا من أقوالهم :
1- يقول الطبري: ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) يقول: "فإذا جاءت الساعة، وهي وعد الآخرة، جئنا بكم لفيفا: يقول: حشرناكم من قبوركم إلى موقف القيامة لفيفا: أي مختلطين قد التفّ بعضكم على بعض، لا تتعارفون، ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيِّه". تفسير الطبري - (ج 17 / ص 572).
2- ويقول القرطبي: "فإذا جاء وعد الآخرة ( أي القيامة ) جئنا بكم لفيفا ( أي من قبوركم مختلطين من كل موضع قد اختلط المؤمن بالكافر لا يتعارفون ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيه". الجامع لأحكام القرآن - (ج 10 / ص 338).
3- وقال ابن الجوزي: "قوله تعالى: فاذا جاء وعد الآخرة يعني القيامة جئنا بكم لفيفا أي جميعا قاله ابن عباس ومجاهد وابن قتيبة". زاد المسير - (ج 5 / ص 95).
4- ويقول الألوسي: "{ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاخرة } أي الكرة أو الحياة أو الساعة أو الدار الآخرة، والمراد على جميع ذلك قيام الساعة { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا } أي مختلطين أنتم وهم ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم". تفسير الألوسي - (ج 11 / ص 123).
5- ويقول ابن عاشور: "ووعد الآخرة ما وعد الله به الخلائق على ألسنة الرسل من البعث والحشر . واللفيف : الجماعات المختلطون من أصناف شتى، والمعنى : حكمنا بينهم في الدنيا بغرق الكفرة وتمليك المؤمنين، وسنحكم بينهم يوم القيامة". التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (ج 15 / ص 229).
6- وفي التفسير الميسر: "وقلنا من بعد هلاك فرعون وجنده لبني إسرائيل: اسكنوا أرض "الشام"، فإذا جاء يوم القيامة جئنا بكم جميعًا مِن قبوركم إلى موقف الحساب". التفسير الميسر - (ج 5 / ص 98).
فهذه خلاصة ما ذكره الأئمة في معنى ( وعد الآخرة ) ولم يشر أحد منهم إلى علاقة الآية بإفساد بني إسرائيل كما ترى والله أعلم.
وقفة مع حال إخواننا المسلمين في غزة وفي غيرها : من خلال هذه الآيات كان من الواجب أن يبيَّن أن الله ساق لنا أخبار بني إسرائيل وبين لنا أنهم لما أفسدوا في الأرض بالمعاصي عاقبهم الله وسلط عليهم عدوهم لنعتبر ونتعظ، فنحن المسلمين إن حصل منا إفساد في الأرض بالشرك والبدع والمعاصي سلط الله علينا أعداءنا وعشنا في حياة الذل والخزي والعار، يقول الرازي في تفسير الآية : " المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط عليهم أقواماً قتلوهم وأفنوهم".
ويقول السعدي في الآية : "سلطهم الله على بني إسرائيل لما كثرت فيهم المعاصي وتركوا كثيرا من شريعتهم وطغوا في الأرض". تفسير السعدي (ج 1 / ص 453). ومصداق ذلك قول الله تعالى : (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ).
وهذا نداء وتذكير لنا ولإخواننا المستضعفين في غزة وللمسلمين في سائر المعمورة عموما ، بأن يتوبوا إلى ربهم ويوحدوا الله حق التوحيد ، ويحذروا الشرك بالله صغيره وكبيره ، وأن يوالوا أهل الإسلام والسنة، ولا يركنوا إلى أهل الكفر والزيغ من الرافضة وغيرهم، وأن يقلعوا عن جميع المعاصي، وأن يقبلوا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تعلما وعملا ودعوة وتعليما، فإن الله قد وعد بالنصر من نصره قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ) وقال تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ) ووعد الله لا يتخلف، ولنتذكر ما حصل لخير القرون يوم أحد لما خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلننصر الله بأقوالنا وأفعالنا ولنأمر بالمعروف ولننه عن المنكر، ولنتمسك بالسنة ولنبتعد عن البدع والأهواء، وليبدأ كل واحد بالإصلاح من بيته وأهله وأقاربه ومجتمعه، ولنلازم الاستغفار، ولا نغفل عن الإعداد الذي أمرنا الله به في قوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) ولنعلم أن الإعداد الديني الإيماني هو مقدمة الإعداد البدني.
أسأل الله أن يرفع عن أمتنا ما أصابها من الذل والمهانة، وأن ينصرنا على أعدائنا، وأن يحمي المسلمين من كيد الكافرين، وأن يوفق قادة الأمة لما فيه نصر المسلمين وعزهم. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والله تعالى أعلى وأعلم وأجل وأحكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
فقد نقلت قناة المجد الفضائية إبان اعتداء اليهود على إخواننا في غزة كان الله لهم في (برنامج قطوف دانية) كلاما للشيخ الفاضل صالح بن عواد المغامسي حفظه الله، عن تفسير آيات من سورة الإسراء، وقد لفت نظري تفسيره لقوله تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) ).
وخلاصة ما ذكره الشيخ أن العلماء اختلفوا في هاتين المرتين اختلافا كثيرا، واستبعد قول من قال أن الإفساد الأول قد وقع وأن عقوبته كانت على يد بختنصر، ثم استظهر الشيخ أن الإفساد الأول هو ما يحصل في هذه الأيام في فلسطين لإخواننا المستضعفين على أيدي اليهود المعتدين، وأن العباد أولي البأس الشديد لعلهم حركة حماس أو أنهم قوم يأتون بعد حماس.
فاستغربت كلامه وترجيحه لقول بدون أن يذكر حجته في ذلك، وكذلك استبعاده للقول الثاني بدون أن يذكر حجة لذلك ، فقلت في نفسي : لعل بعض المفسرين ذكر ما يؤيد هذا، فذهبت إلى التفاسير أفتش فيها وأبحث، فلم أجد بغيتي، بل وجدت اتفاق المفسرين على أن الإفسادين قد وقعا، وقد عاقب الله بني إسرائيل عليهما.
بل قال العلامة الشيخ السعدي رحمه الله : "واختلف المفسرون في تعيين هؤلاء المسلّطين إلا أنهم اتفقوا على أنهم قوم كفار". تفسير السعدي - (ج 1 / ص 453). فلا أدري كيف يقوى الشيخ صالح على مخالفة هذا الاتفاق!!.
ثم ظهر لي أن الشيخ صالح استفاد هذا القول من الشيخ محمد متولي الشعراوي حيث يقول: "هذه هي المرة الأولى التي انتصر فيها المسلمون على اليهود يقول الحق سبحانه وتعالى { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ } ومادام الحق سبحانه وتعالى قال عليهم فهي على المسلمين لأنهم هم الذين انتصروا على اليهود، وقوله تعالى : { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } معناها أنهم ينتصرون على المسلمين وهذا ما هو حادث الآن، وما شاهدناه وما نشاهده في الفترة الأخيرة أي أن المدد والقوة تأتيهم من الخارج وليس من ذاتهم. ونحن نرى أن إسرائيل قائمة على جلب المهاجرين اليهود من الدول الأخرى وجلب الأموال والمساعدات من الدول الأخرى أيضا أي أن كل هذا يأتيهم بمدد من الخارج وإسرائيل لا تستطيع أن تعيش إلا بالمهاجرين إليها وبالمعونات التي تأتيها فالمدد لابد أن يأتي من الخارج إذا كانت هناك معركة وطلب قائد المدد . . فمعناه أنه يريد رجالا يأتونه من خارج أرض المعركة ليصبحوا مددا وقوة لهذا الجيش ... ويقول الحق سبحانه وتعالى : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } . . ومعنى هذا أن المسجد الأقصى سيضيع من المسلمين ويصبح تحت حكم اليهود فيأتي المسلمون ويحاربونهم ويدخلون المسجد كما دخلوه أول مرة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه" تفسير الشعراوي - (ج 1 / ص 170).
وكلام الشعراوي هذا موافق لما قاله المغامسي، إلا أن الشعراوي جعل الواقع الآن هو الإفساد الثاني والمغامسي جعل الواقع هو الإفساد الأول.
ومما ينبغي أن يعلم أنه لا يؤخذ بقول أحد إذا خالف اتفاق المفسرين وما عليه أئمتنا ، ولا أدري كيف حادا عما عليه المفسرون فليتنبه لذلك.
ومن العجائب والعجائب جمة أن الشعراوي - غفر الله له - يقول أيضا : "تحدّث العلماء كثيراً عن هاتين المرتين، وفي أيّ فترات التاريخ حدثتا، وذهبوا إلى أنهما قبل الإسلام – من الواضح أنه ينقل اتفاق العلماء على أنهما قبل الإسلام – ثم يقول مخالفا لهذا الاتفاق: والمتأمل لسورة الإسراء يجدها قد ربطتهم بالإسلام ، فيبدو أن المراد بالمرتين أحداثٌ حدثتْ منهم في حضْن الإسلام" . تفسير الشعراوي - (ج 1 / ص 5100)
وأحب هنا أن أنقل للقارئ الكريم طرفا يسيرا ونزرا قليلا من أقوال الأئمة في هذه الآية، والمراد بالإفسادين الواقعين من بني إسرائيل ليكون القارئ على بينة ظاهرة وحجة قاطعة:
1- ما روي عن الصحابة في تفسير الآية: نقل ابن جرير بسنده عن أبي صالح، وعن أبي مالك، عن ابن عباس، وعن مرّة، عن عبد الله – يعني: ابن مسعود – "أن الله عهد إلى بني إسرائيل في التوراة ( لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ) فكان أوّل الفسادين: قتل زكريا، فبعث الله عليهم ملك النبط، وكان يُدعى صحابين فبعث الجنود، وكان أساورته من أهل فارس، فهم أولو بأس شديد، فتحصنت بنو إسرائيل، وخرج فيهم بختنصر يتيما مسكينا، إنما خرج يستطعم، وتلطف حتى دخل المدينة فأتى مجالسهم، فسمعهم يقولون: لو يعلم عدونا ما قُذف في قلوبنا من الرعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا، فخرج بختنصر حين سمع ذلك منهم، واشتد القيام على الجيش، فرجعوا، وذلك قول الله ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ) ثم إن بني إسرائيل تجهَّزوا، فغزوا النبط، فأصابوا منهم واستنقذوا ما في أيديهم، فذلك قول الله ( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ) يقول: عددا". تفسير الطبري ( ج17/ ص375 ).
وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله : لتفسدن في الأرض مرتين قال : "الأولى قتل زكريا عليه الصلاة والسلام والأخرى قتل يحيى عليه السلام". الدر المنثور للسيوطي - (ج 5 / ص 239) فتح القدير للشوكاني (ج 3 / ص 302).
فهؤلاء ثلاثة من أعلم الصحابة: علي رابع الصحابة قدرا وفضلا، وابن مسعود أقرب الناس بالنبي هديا وسمتا ودلا، وابن عباس ترجمان القرآن الذي ملأ الدنيا علما، وهم جميعا قد فسّروا هذه الآية بما ترى، ونحن مأمورون أن نفهم القرآن بفهمهم، أفندع تفسيرهم لتفسير لم نسمع به إلا في القرن الخامس عشر الهجري؟!!
ثم إن هذه الآثار وإن كان فيها ضعف فإن ورودها عن جمع من الصحابة ينبئ أن لها أصلا، ثم إن الأخذ بها على ما فيها من ضعف أولى بالإتيان بقول لم يقل به أحد من السلف، ولا ورد عن أحد من أئمة التفسير، وهذا ظاهر لا يخالف فيه أحد.
2- ما روي عن أئمة السلف في تفسير الآية: روى ابن جرير في تفسيره عن الربيع في قوله: ( لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ) قال: "كان الفساد الأول، فبعث الله عليهم عدوًّا فاستباحوا الديار، واستنكحوا النساء، واستعبدوا الولدان، وخرَّبوا المسجد. فغَبَرُوا زمانًا، ثم بعث الله فيهم نبيًّا وعاد أمرهم إلى أحسن ما كان. ثم كان الفساد الثاني بقتلهم الأنبياء، حتى قتلوا يحيى بن زكريا، فبعث الله عليهم بُخْتنصَّر، فقتل من قتل منهم، وسبى من سبى، وخرب المسجد. فكان بختنصر الفسادَ الثاني". تفسير الطبري - (ج 10 / ص 459)
وقال قتادة: "إفسادهم في المرة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة، وركبوا المحارم".
وقال ابن إسحاق: "إفسادهم في المرة الأولى قتل شعياء بين الشجرة وارتكابهم المعاصي". تفسير البغوي - (ج 5 / ص 79)
ويقول البغوي: ( { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا } قال قتادة: "يعني جالوت الخزري وجنوده وهو الذي قتله داود". وقال سعيد بن جبير: "يعني سنجاريب من أهل نينوى". وقال ابن إسحاق: "بختنصر البابلي وأصحابه". وهو الأظهر ). تفسير البغوي (ج 5/ ص 79).
3- أقوال أئمة التفسير في معنى الآية:
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: "فإذا جاء وعد أولاهما ( أي أولى المرتين من فسادهم ) بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ( هم أهل بابل وكان عليهم بختنصر في المرة الأولى حين كذبوا إرمياء وجرحوه وحبسوه قاله ابن عباس وغيره، وقال قتادة: أرسل عليهم جالوت فقتلهم فهو وقومه أولوا بأس شديد وقال مجاهد: جاءهم جند من فارس يتجسسون أخبارهم ومعهم بختنصر فوعى حديثهم من بين أصحابه ثم رجعوا إلى فارس ولم يكن قتال وهذا في المرة الأولى فكان منهم جوس خلال الديار لا قتل". الجامع لأحكام القرآن - (ج 10 / ص 215).
ويقول الرازي : "واختلفوا في أن هؤلاء العباد من هم ؟ قيل : إن بني إسرائيل تعظموا وتكبروا واستحلوا المحارم وقتلوا الأنبياء وسفكوا الدماء، وذلك أول الفسادين فسلط الله عليهم بختنصر فقتل منهم أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرض نفسه فبقوا هناك في الذل إلى أن قيض الله ملكاً آخر غزا أهل بابل واتفق أن تزوج بامرأة من بني إسرائيل فطلبت تلك المرأة من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا، فهو قوله : {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} .
والقول الثاني : إن المراد من قوله : {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ} أن الله تعالى سلط عليهم جالوت حتى أهلكهم وأبادهم وقوله : {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ} هو أنه تعالى قوى طالوت حتى حارب جالوت ونصر داود حتى قتل جالوت فذاك هو عود الكرة.
والقول الثالث : إن قوله : {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ} هو أنه تعالى ألقى الرعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس ، فلما كثرت المعاصي فيهم أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم وبالغوا في قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم. واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم ، بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط عليهم أقواماً قتلوهم وأفنوهم". تفسير الفخر الرازى - (ج 1 / ص 2776).
ويقول ابن عاشور : "ويتعيّن أنّ ذلك إشارة إلى حادثين عظيمين من حوادث عصور بني إسرائيل بعد موسى عليه السّلام، والأظهر أنّهما حادث الأسْر البابِلي إذ سلّط الله عليهم ( بخنتصر ) ملك ( أشُور ) فدخل بيت المقدّس مرات سنة 606 وسنة 598 وسنة 588 قبل المسيح، وأتى في ثالثتها على مدينة أورشليم فأحرقها وأحرق المسجد وحَمَل جميع بني إسرائيل إلى بابل أسارى، وأنّ توبة الله عليهم كان مظهرها حين غلب ( كُورش ) ملك ( فَارس ) على الأشوريين واستولى على بابل سنة 530 قبل المسيح فأذن لليهود أن يرجعوا إلى بلادهم ويعمّروها فرجعوا وبنوا مسجدهم، وحادث الخراب الواقع في زمن ( تِيطس ) القائد الرّوماني وهو ابن الأنبراطور الرّوماني ( وسبسيانوس ) فإنّه حاصر ( أورشليم ) حتّى اضطرّ اليهود إلى أكل الجلود وأن يأكل بعضُهم بعضاً من الجوع، وقتَل منهم ألفَ ألفِ رجلٍ، وسبى سبعة وتسعين ألفاً، على ما في ذلك من مبالغة، وذلك سنة 69 للمسيح . ثمّ قفّاه الأنبراطور ( أدريان ) الرّوماني من سنة 117 إلى سنة 138 للمسيح فهدَم المدينة وجعلها أرضاً وخلط ترابها بالمِلح . فكان ذلك انقراض دولة اليهود ومدينتهم وتفرّقَهم في الأرض. وقد أشار القرآن إلى هذين الحدثين بقوله : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتُفْسِدُنّ في الأرض مرّتَيْن ولتَعَلُنّ عُلُوّاً كبيراً فإذا جاء وعد أُولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولِي بأسٍ شديد فجاسوا خِلال الدّيار وكان وَعْداً مفعولاً ثُمّ رددنا لكم الكَرّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنِين وجعلناكم أكثر نَفيراً إنْ أحسنتُم أحسنتم لأنفسكم وإنْ أسأتم فلها فإذا جاء وعْد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تتبيراً. التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (ج 6 / ص 277-278).
ويقول العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي : "لما بين جلَّ وعلا أن بني إسرائيل قضى إليهم في الكتاب أنهم يفسدون في الأرض مرتين، وأنه إذا جاء وعد الأولى منهما: بعث عليهم عباداً له أولي بأس شديد، فاحتلوا بلادهم وعذبوهم. وأنه إذا جاء وعد المرة الآخرة: بعث عليهم قوماً ليسوءوا وجوههم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيراً. وبين أيضاً: أنهم إن عادوا للإفساد المرة الثالثة فإنه جلَّ وعلا يعود للانتقام منهم بتسليط أعدائهم عليهم. وذلك في قوله: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا}[17/8]، ولم يبين هنا: هل عادوا للإفساد المرة الثالثة أو لا؟ ولكنه أشار في آيات أخر إلى أنهم عادوا للإفساد بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتم صفاته ونقض عهوده، ومظاهرة عدوه عليه، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة. فعاد الله جلَّ وعلا للانتقام منهم تصديقاً لقوله: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا}[17/8] فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم، والمسلمين. فجرى على بني قريظة والنضير، وبني قينقاع وخيبر، ما جرى من القتل، والسبي، والإجلاء، وضرب الجزية على من بقي منهم، وضَرْب الذلة والمسكنة. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - (ج 18 / ص 23-25).
وقفة مع سياق الآيات: المتأمل في سياق الآيات يتبين له قطعا أن الإفسادين قد وقعا من بني إسرائيل، وأن القوم المسلَّطين عليهم قوم كفار، وذلك من عدة أوجه :
1- قوله تعالى : ( وليتبروا ما علوا تتبيرا ) قال الشنقيطي : "تبّر كلاًّ منهم تتبيرًا، أي: أهلكهم جميعًا إهلاكًا مستأصلاً، والتتبير الإهلاك والتكسير، ومنه قوله تعالى: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً}" أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - (ج 28 / ص 97). وقال ابن عاشور : والتتبِير : الإهلاك والإفساد . التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (ج 15 / ص 37).
والجهاد في الإسلام ليس فيه إفساد وتكسير، بل هو جهاد غرضه الأكبر الدعوة إلى الله، وليس الهدف منه إراقة الدماء والتكسير والإفساد في الأرض، وهذا يبين أن القوم المسلطين قوم كفار.
2- قوله تعالى : ( عسى ربكم أن يرحمكم ) وعسى من الله واجبة، كما قال ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فيما أخرجه ابن المنذر والبيهقي. انظر: الدر المنثور - (ج 1 / ص 587)، فهل يعقل أن يقال أن الله سيرحم بني إسرائيل وهم على دينهم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ؟!! أم أن المقصود الظاهر من الآية أن الله يرحمهم إذا عادوا للتمسك بدينهم، وهذا إنما يقال حين كان دينهم صحيحا.
وكذلك قوله تعالى : ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ) قال الفخر الرازي : "اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما عصوا سلط عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنهب والسبي ، ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة وأعاد عليهم الدولة ، فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا فقد أحسنوا إلى أنفسهم ، وإن أصروا على المعصية فقد أساؤا إلى أنفسهم". تفسير الفخر الرازى - (ج 1 / ص 2777).
3- قوله تعالى : ( وإن عدتم عدنا ) يقول تعالى وإن عدتم يعني في المستقبل للإفساد عدنا لعقوبتكم.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : "بعث الله عليهم في الأولى جالوت فجاس خلال ديارهم وضرب عليهم الخراج والذل ... إلى أن قال: قال الله : بعد الأولى والآخرة عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا قال : فعادوا فسلط الله عليهم المؤمنين". الدر المنثور - (ج 5 / ص 239-240).
وفي ذلك يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "ثم بين أنهم إن عادوا إلى الإفساد عاد إلى الانتقام منهم بقوله: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}، فعادوا إلى الإفساد بتكذبيه صلى الله عليه وسلم، وكتم صفاته التي في التوراة، فعاد الله إلى الانتقام منهم، فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم فذبح مقاتلة بني قريظة، وسبى نساءهم وذراريهم، وأجلى بني قينقاع، وبني النضير. كما ذكر تعالى طرفاً من ذلك في سورة الحشر". أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - (ج 6 / ص 160).
أقول هنا: لقد كان للشيخين الفاضلين غنية عن مخالفة اتفاق المفسرين، إذ لو اعتمدا في الواقع الذي يجري في فلسطين على قوله تعالى : ( وإن عدتم عدنا ) لكفى، فمتى ما عاد بنو إسرائيل للإفساد في الأرض عاد الله للانتقام منهم.
وبعد سرد هذه الأقوال يتبين لكل ذي لب صحة ما قاله الشيخ السعدي في تفسير الآية وما نقله من الاتفاق على أن القوم المسلطين عليهم قوم كفار، وبها يظهر جليا خطأ ما ذهب إليه الشيخ صالح المغامسي مقلدا فيه الأستاذ محمد متولي الشعراوي. والله أعلم.
تتمة: وأثناء اطلاعي على ما ذكره الشيخ محمد متولي الشعراوي لفت نظري أنه يربط هذه الآية بآية أخرى في سورة الإسراء وهي قوله تعالى (وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) [الإسراء/104] حيث يقول: "قوله تعالى : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } والمراد بوَعْد الآخرة : هو الإفساد الثاني لبني إسرائيل ... وهذه الإفسادة هي ما نحن بصدده الآن، حيث سيتجمع اليهود في وطن واحد ليتحقق وَعْد الله بالقضاء عليهم، وهل يستطيع المسلمون أن ينقضُّوا على اليهود وهم في شتيت الأرض؟ لا بُدَّ أن الحق سبحانه أوحى إليهم بفكرة التجمُّع في وطن قومي لهم كما يقولون، حتى إذا أراد أَخْذهم لم يُفلتوا ، ويأخذهم أخْذ عزيز مقتدر. وهذا هو المراد من قوله تعالى: { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } أي: مجتمعين بعضكم إلى بعض من شَتّى البلاد، وهو ما يحدث الآن على أرض فلسطين" . تفسير الشعراوي - (ج 1 / ص 5334). ورأيت في شبكة الانترنت للشيخ المغامسي ما يوافق هذا الكلام، فظهر لي بهذا أن الشيخ صالح المغامسي يستفيد كثيرا من الأستاذ محمد متولي الشعراوي.
وعندما قرأت هذا التفسير استغربت أشد الاستغراب من هذا التفسير ومن هذه الجرأة على حمل الآية على الواقع المعاصر بالجزم واليقين، وكأن هذا التفسير قد ثبت بالنص الصحيح الصريح !!!
وبعد تتبع أقوال الأئمة في الآية وجدتهم يفسرون الآية بما هو ظاهر ومتبادر إلى الذهن من أن المراد بالآخرة الساعة ويوم القيامة وهؤلاء هم الأكثر، وفسّرها بعضهم بنزول عيسى عليه السلام، وأذكر للقارئ الكريم طرفا من أقوالهم :
1- يقول الطبري: ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) يقول: "فإذا جاءت الساعة، وهي وعد الآخرة، جئنا بكم لفيفا: يقول: حشرناكم من قبوركم إلى موقف القيامة لفيفا: أي مختلطين قد التفّ بعضكم على بعض، لا تتعارفون، ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيِّه". تفسير الطبري - (ج 17 / ص 572).
2- ويقول القرطبي: "فإذا جاء وعد الآخرة ( أي القيامة ) جئنا بكم لفيفا ( أي من قبوركم مختلطين من كل موضع قد اختلط المؤمن بالكافر لا يتعارفون ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيه". الجامع لأحكام القرآن - (ج 10 / ص 338).
3- وقال ابن الجوزي: "قوله تعالى: فاذا جاء وعد الآخرة يعني القيامة جئنا بكم لفيفا أي جميعا قاله ابن عباس ومجاهد وابن قتيبة". زاد المسير - (ج 5 / ص 95).
4- ويقول الألوسي: "{ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاخرة } أي الكرة أو الحياة أو الساعة أو الدار الآخرة، والمراد على جميع ذلك قيام الساعة { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا } أي مختلطين أنتم وهم ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم". تفسير الألوسي - (ج 11 / ص 123).
5- ويقول ابن عاشور: "ووعد الآخرة ما وعد الله به الخلائق على ألسنة الرسل من البعث والحشر . واللفيف : الجماعات المختلطون من أصناف شتى، والمعنى : حكمنا بينهم في الدنيا بغرق الكفرة وتمليك المؤمنين، وسنحكم بينهم يوم القيامة". التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (ج 15 / ص 229).
6- وفي التفسير الميسر: "وقلنا من بعد هلاك فرعون وجنده لبني إسرائيل: اسكنوا أرض "الشام"، فإذا جاء يوم القيامة جئنا بكم جميعًا مِن قبوركم إلى موقف الحساب". التفسير الميسر - (ج 5 / ص 98).
فهذه خلاصة ما ذكره الأئمة في معنى ( وعد الآخرة ) ولم يشر أحد منهم إلى علاقة الآية بإفساد بني إسرائيل كما ترى والله أعلم.
وقفة مع حال إخواننا المسلمين في غزة وفي غيرها : من خلال هذه الآيات كان من الواجب أن يبيَّن أن الله ساق لنا أخبار بني إسرائيل وبين لنا أنهم لما أفسدوا في الأرض بالمعاصي عاقبهم الله وسلط عليهم عدوهم لنعتبر ونتعظ، فنحن المسلمين إن حصل منا إفساد في الأرض بالشرك والبدع والمعاصي سلط الله علينا أعداءنا وعشنا في حياة الذل والخزي والعار، يقول الرازي في تفسير الآية : " المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط عليهم أقواماً قتلوهم وأفنوهم".
ويقول السعدي في الآية : "سلطهم الله على بني إسرائيل لما كثرت فيهم المعاصي وتركوا كثيرا من شريعتهم وطغوا في الأرض". تفسير السعدي (ج 1 / ص 453). ومصداق ذلك قول الله تعالى : (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ).
وهذا نداء وتذكير لنا ولإخواننا المستضعفين في غزة وللمسلمين في سائر المعمورة عموما ، بأن يتوبوا إلى ربهم ويوحدوا الله حق التوحيد ، ويحذروا الشرك بالله صغيره وكبيره ، وأن يوالوا أهل الإسلام والسنة، ولا يركنوا إلى أهل الكفر والزيغ من الرافضة وغيرهم، وأن يقلعوا عن جميع المعاصي، وأن يقبلوا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تعلما وعملا ودعوة وتعليما، فإن الله قد وعد بالنصر من نصره قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ) وقال تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ) ووعد الله لا يتخلف، ولنتذكر ما حصل لخير القرون يوم أحد لما خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلننصر الله بأقوالنا وأفعالنا ولنأمر بالمعروف ولننه عن المنكر، ولنتمسك بالسنة ولنبتعد عن البدع والأهواء، وليبدأ كل واحد بالإصلاح من بيته وأهله وأقاربه ومجتمعه، ولنلازم الاستغفار، ولا نغفل عن الإعداد الذي أمرنا الله به في قوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) ولنعلم أن الإعداد الديني الإيماني هو مقدمة الإعداد البدني.
أسأل الله أن يرفع عن أمتنا ما أصابها من الذل والمهانة، وأن ينصرنا على أعدائنا، وأن يحمي المسلمين من كيد الكافرين، وأن يوفق قادة الأمة لما فيه نصر المسلمين وعزهم. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والله تعالى أعلى وأعلم وأجل وأحكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.