واقع البحث العلمي (1)
بين يدي الموضوع:
الحمدلله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله؛سيدي محمد وآله وصحبه الأخيار،إنّّّ الحديث عن واقع البحث العلمي في مؤسساتنا طويل بطول ليل الأمة ،وقد ألقى هذا الواقع بظلاله الكثيفة على أول تجربة بحثية قمت بها،وانطلقت أثرثر هنا وهناك عن الآفات المرضية التي أصيب بها البحث العلمي في العلوم الإنسانية،ولم أكن لأجرؤ أن أسجل كلامي في الملتقى لاعتقادي بأن ما أراه قد يجانب الصواب ،او يكون مجرد انطباعات عن تجربة شخصية ،إلى ان دفعت الأقدار بين يدي في هذا الشهر الفضيل كتاباً للدكتور عبد الوهاب المسيري فوجدت فيه كلاماً يطابق مطابقة كاملة ما اعتقدته وما تحدثت به ،فعزمت ان أسجل ما أراه (من وجهة نظري )في واقع البحث العلمي في جامعاتنا لعل كلمتي يصل صداها إلى صناع القرار في مؤسساتنا التعليمية .
واقع البحث العلمي في جامعاتنا:
يعاني البحث العلمي في جامعاتنا من آفات عديدة يدركها المرء عندما يخوض هذا الغمار بدءاً من اختيار الموضوع مروراً بوضع خطة البحث ومناقشتها وصولاً إلى إتمام البحث ومناقشته وإجازته ،ويعد السبب الرئيسي لهذه الآفات ما يسمى الموضوعية العلمية ،وهذه الموضوعية هي نتاج النظرة المادية للعالم التي جعلت أولوية للمادة على الفكر ،وهذه الموضوعية تعني ان المعرفة عملية تراكمية وهي عبارة عن التقاط أكبر عدد من المعلومات وإدراجها في البحث للوصول إلى نتيجة، وهذه النتيجة يصل إليها الأشخاص على قدر المساواة إذا توافرت نفس المعلومات ونفس الظروف،ولا يخفى على القارئ أن هذا المنهج يتناسب تماماً مع نظريات ومسائل الرياضيات ؛الفرضية في الرياضيات تأتي أولاً ،ثم المعلومات التي تلزم لإثبات هذه الفرضية ،ثم نتيجة حتمية لا يختلف فيها اثنان ،في معطيات مسألة الرياضيات لا يوجد معلومات رئيسية وأخرى هامشية يقوم المرء بتحييدها عن الدراسة ؛فكل معلومة هي قطعاً ذكرت للحاجة لها لحل المسألة ،في الرياضيات لا مكان للإبداع وللتحليل وإعادة التركيب ،ولا مكان للمخزون القيمي عند الأفراد في تحديد النتيجة ،فقل لي بربك كيف يمكن تحييد المخزون القيمي للفرد في الأبحاث الشرعية ؟وهل يمكن للعلماني والكافر والمسلم أن يبحثوا في موضوع علمي شرعي ويصلوا لنفس النتيجة بموضوعية تامة ؟
مظاهر آفة الموضوعية العلمية في العلوم الشرعية :
اختيار موضوع البحث:
-عندما تنقدح في ذهن أحدهم فكرة للبحث العلمي لا يناقشها مع زملائه ولا حتى مع أساتذته إلا من رحم ربي خوفاً من أن يسرق الموضوع ،وهذا يستدعي التهكم إذ كيف يمكن لأحد على سبيل المثال أن يسرق بحثي من عنوانه وفكرته ،فهذه ليست مسألة رياضية ولا يمكن لأحد أن ينجز ما أريد إنجازه، فالبحث ليس معلومات متراكمة وتوثيقها وإنما تحليل وتفكيك وتجريد أطر جديدة من المعلومات وهذه امور لا وجود لها في الواقع ولا يمكن سرقتها فهي جزء من خريطتي الإدراكية للعالم كما يسميها الدكتور المسيري وجزء من مخزوني المعرفي.
- ومن مظاهر آفة الموضوعية العلمية أن موضوع الرسالة ينبغي أن يكون جديداً؛ بمعنى أن كل موضوع بحثي ينبغي أن يكتب فيه مرة واحدة ،وهذا يعيدني مجدداً للرياضيات ؛فرضية أو نظرية بعض المعطيات ونتيجة قطعية ،ولأن هذا ليس ممكناً في العلوم الإنسانية ،فاشتراط الجدة في الموضوع يعد اعترافاً ضمنياً من المؤسسات البحثية أن البحث العلمي هو فقط عملية استقرائية وصفية لما كتب سابقاً في الموضوع لا دور للتحليل والتركيب فيها ،وبهذا يتم تحييد العقل البشري ودوره في إدراك الموضوع وفي إبداع النتائج،ولعل المثال الذي يحضرني الآن هو واقع رسائل التفسير الموضوعي في الجامعات فقد بدأ البحث في هذا الموضوع قبل أن تستقر أصول منهج التفسير الموضوعي ويستوي على سوقه فهل يعقل أن لا يعاد بحث الموضوعات التي بحثت سابقاً ؟هذا من جهة ،من جهة أخرى فالتفسير الموضوعي هو خطوة بعد التفسير التحليلي مبناها النظر والتدبر والتأمل للخروج برؤية قرآنية كلية، وهذا تختلف أفهام الناس فيه فقد يفتح الله من المعاني لشخص مالا يفتح لغيره ،والتفسير الموضوعي هو تفسير بالرأي فمظنة الاختلاف فيه واردة وكذلك الزلل،وما ينسحب على التفسير الموضوعي ينسحب على باقي الموضوعات الفكرية والسياسية وحتى الموضوعات المختصة في مناهج المفسرين فإذا تم تجاوز التوصيف فسيختلف تحليل كل باحث لمنهج المفسر عن باحث آخر وفق القدرة الإدراكية والنقدية والإبداعية لكل باحث.
خطة البحث:
- من آفات البحث العلمي خطة البحث ومنهجيته والدراسات السابقة وهذه على قول الدكتور عبد الوهاب المسيري وإن كانت إجراء"..يحمي بعض الطلبة متوسطي الذكاء من الدخول في طريق لن يؤدي بهم إلى شيء ،ولكنه يجعل الهدف من الرسالة عملية توثيقية ،لأن كل شيء لا بد ان يكون معروف مسبقاً"فتقسيم الفصول والمطالب والمباحث وسرد الدراسات السابقة وآخر ما كتب في الموضوع،والمراجع والمصادر يشعر بأن البحث تم إنجازه قبل إقرار الخطة ولم يتبق إلا حشد المعلومات وتوثيقها،يضاف إلى هذا الطريقة الساذجة في تقسيم الخطة إلى مشكلة البحث وأهميته وأهدافه وأعتقد أن هذا ليس موجوداً في الغرب فهناك فقط سؤال البحث. (وللحديث بقية)