أخي الاستاذ ناصر وفقه الله
تفضلت بالقول :
بالنسبة للأخ عدنان الغامدي، رأيتك حدت في الجواب، سألتك: هل أنت ممن ينكر وقوع النسخ في القرآن فقط أم في الشريعة كلها؟ لكن ألمس من تدخلاتك أنك تنكر وقوع النسخ جملة وتفصيلا.
شريعة الله واحدة منذ بدء التكليف وحتى هذا اليوم ، ولكن الله جل شأنه (
ينسخ) بين الشرائع ويُنسي ، اي ان الله (
يكرر) شيئا مما نزل على موسى فيفرضه على محمد صلى الله عليه وسلم كالصلاة والزكاة والقصاص ونحو ذلك من الأحكام ، و
(يُنسي) أي يُغْفِل ويمحو بعض الاحكام الأخرى كالقبلة وأحكام الطعام وما كان من إصرٍ ومشقة جراء ما نزل ببني إسرائيل من عقوبات ، إلا أن (أم الكتاب) مشتملة على أصل الشرائع من صلاة وزكاة ونحو ذلك وهذا مصداق قوله تعالى:
{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة:106]
وهو ايضا مصداق قوله تعالى :
{ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } [الرعد:39]
فالله جل شأنه (يمحو) من الشرائع ما يشاء فينزل شريعة ليس فيها ما كان في قبلها ويثبت فيها بعض ما كان في قبلها ، أما أم الكتاب (اي أصل المكتوبات من الشرائع فهي عنده بكل ما فيها من مثبت وممحيّ.
أما القول بالإبطال في كتاب الله فقول باطل وأنا أبين الآن بأن هذا القول جرم عظيم يستوجب التوبة والرجوع عنه وعن الاعتقاد به وأرجو منك أخي ناصر رجاءً حاراً أن تقرأ هذا الموضوع الذي يفند فرية النسخ ويبطلها وفيه رد على كل ما تفضلت به :
وإن تعجب فاعجب لمن أنكر النسخ مع أن السلف أثبتوه، فهذا حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما يقول:"في قوله تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269] قال: "يعني: المعرفة بالقرآن؛ ناسخه ومنسوخه، ومحكَمه ومتشابهه، ومقدَّمه ومؤخَّره، وحلاله وحرامه، وأمثاله".-أخرجه ابن جرير في جامعه-.
لو رجعت بارك الله فيك إلى بحثي وقرأته بتفحص فسوف تصدم لان الكثير من الآيات المدعى ابطالها برواية ابن عباس رضي الله عنه دعوى باطلة لأن لابن عباس ثلاث روايات متناقضة واحدة تثبت الابطال وثانية تبطل جزئيا وثالثة تنفي وقوع الابطال (والابطال هنا ما يسمى بالنسخ) وليس موضعاً واحداً بل مواضع عديدة ، بل لا تجد اجماع ولا حديث صحيح واحد يثبت وقوع تلك الفرية بل روايات تضرب بعضها بعضا ويناقض بعضها بعضا والمنسوبة اليه واحد!.
و أسألك أخي عدنان وأرجو الإجابة دون حيدة: بالنسبة لقوله تعالى في آية المصابرة:"إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) " ثم قوله سبحانه بعدها:" الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) " -الأنفال-، هل حكم الأية الأولى باق أم رفع بنص الآية الثانية؟ ونفس السؤال بالنسبة لقوله تعالى:"وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)" هل هذا الحكم ثابت أم قد رفع بنص قوله تعالى:"وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)" البقرة.
أنا لا حيدة عندي بفضل الله ، وقد رددت على كل تلك الدعاوى الباطلة بالتفصيل بكلام طويل اقتبس منه:
إن المصابرة في الآية الأولى إنما كانت على سبيل التأييد الرباني وليست فرضاً أو حكماً ، فكان مضمون الآية يؤآزر المؤمنين بتأييد الله لهم بقوة إيمانهم وعزيمتهم وكذلك بسبب ضعف عدوهم وأنهم لا يفقهون ، فكان العشرة الصابرة يغلبوا مائة ، والمئتين من المقاتلين الصابرين يغلبوا ألفين بنسبة ثابتة طالما كان الإيمان في درجته تلك والصبر حاضر في اللقاء. ولم تشتمل الآية على أمر أو نهي بل اشتملت على بيان لقياس قوة المؤمنين بثقتهم بربهم وإيمانهم بسمو هدفهم مقارنة بِخَوَرِ المشركين وضعفهم لضياع عقيدتهم لأنهم لا يفقهون ما هم عليه من الشرك والكفر. ثم إنه جل وعلا عندما ضَعُفَ المسلمين وقل إيمانهم ، ودخل خلالهم من حدثاء الإسلام ضعفاء الإيمان ما أضعفهم فقد قلت قوتهم وغابت شوكتهم الأولى فأصبح المائة يغلبوا مئتين ، والألف يغلبوا ألفين بإذن الله.
أما من يتوفى عنها زوجها فالمبطلون ارتكبوا جريمة بحق النساء طيلة هذه القرون فحرموها من حقها جهلا وعدوانا على كتاب الله ولكي ابين لك تفصيل ذلك ساقتبس مما وصلت اليه وارجو ان تقراه بإنصاف :
متاع الأرملة حق لها:
وهذه الدعوى مردودة جملة وتفصيلاً فآية متاع الحول تلت آية العدة ، وفي الأصل فلا علاقة بين الآيتين فواحدة حكم والثانية حق فكيف والنسخ لا يكون إلا حكماً بحكم . يقول تعالى (
وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) فجعل للرجل أن يوصي بأن تبقى أرملته في بيته بعد وفاته حولاً كاملاً فكانت تلك الوصية حق من حقوق الارملة في حين أن العدة فريضة عليها ، وهذا من مقاصد الشرع الحنيف فالنساء اللائي لديهن ذرية صغاراً أو كن لا أهل لهن ولا منزل سوى منزل الزوج فقد أعطاهن الله فسحة من الأمر حولاً كاملاً يحق لهن البقاء في منزل الزوج المتوفى حتى يجدن سبيلاً إما بزواج أو بشراء منزل ونحوه ، وهذا في سبيل الحفاظ على نساء المسلمين وصيانة حقوقهن وكرامتهن.
ولكن إن أرادت الأرملة غير ذلك وخرجت قبل تمام الحول فلا جناح عليها ولا على أولياء الزوج المتوفى فيما تفعل في نفسها فعل معروف سواء بزواج أو باستقلال في منزل تملكه.
عدة الأرملة فريضة عليها:
بينما نجد في آية العدة أمراً آخر تماما لا علاقة له بالمتاع فهو فرض على كل من توفى عنها زوجها ، لا خيار لها في ترك العدة ، يقول تعالى (
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فهنا يجب عليهن فريضة من الله فإن انقضى الأجل فلها حق استمرار المتاع في منزل المتوفى ولها أن تنزل منزلا غيره.
فلو انقضت عدتها وكان المنزل الذي تسكنه معروضاً للبيع ولها فيه ميراث ولها منزل لأهلها أو ملكاً لها فآثرت بعد العدة أن تنتقل لمنزلها او منزل أهلها حتى يتحقق تقسم الميراث فلها ذلك ولكن بعد انقضاء عدتها.
ولو انقضت عدتها (أربعة أشهر وعشراً) وأرادت أن تمكث في منزل الزوج ما يكمل الحول فلا يجوز إخراجها منه لقوله تعالى (
مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) غير إخراج ولم يقل غير خروج أي لا يجوز (إخراجها) من منزل الزوج. ولو توفي رجل عن امرأة حامل فيقول تعالى {
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } [الطلاق:4]فتنتهي عدة الحامل بوضعها ولكن يبقى لها إن كان توفي عنها زوجها بقية الحول ، وهذا من المقاصد العظيمة للشرع الحنيف فلولا أن لها التمتع في بيت المتوفى عنها حولاً كاملاً لا يجوز إخراجها لحق لأهل المتوفى اخراجها بعد الوضع مباشرة وهذا فيه ارهاق وجور على الوالدة وولدها ، فكان حول السكنى حق يمكن الأرملة والوالدة من المكوث في راحة وأمن حتى يحصل لهن سبيل يخرجن به من منزل المتوفى.
وهنا فقبل القول بالنسخ ينبغي أن نفقه المواضع الثلاثة ونميز بين (
الحق) و(
الفريضة) فلا ينبغي أن نخلط الشرائع والأوامر بلا تمييز وننسخ واحدة بما لا ينبغي أن ينسخها. وهنا فالقول بالتناسخ بين هاتين الآيتين باطل غير متحقق لعدم التجانس بين الآيتين
وقد حرمن الارامل من حقهن في السكنى في بيت أزواجهن حولا بسبب الخلط بين العدة التي هي واجب على الارملة وبين المتاع الذي هو حق للارملة فابطلوا الحق بالفريضة والله المستعان.
تفضلت بالقول :
وأراك تتكلم عن النسخ بالمفهوم اللغوي مع أن له في اللغة كما ذكر علماءها ثلاث معان: الإبطال والإزالة كقولنا نسخت الشمس الظل أي أزالته
بالله عليك هل الشمس تزيل الظل أم تصنع الظل ؟؟؟ إن الشمس تكرر صورة الشيء الذي تقع عليه على صورته كظل فكيف نقول ان الشمس تزيل الظل والحقيقة ان غياب الشمس هو ما يزيل الظل وظهورها يظهر الظل ، لماذا نقرأ وننقل وننسخ ولا نفكر فيما نقرأ ؟؟
ولماذا نحرف الحقائق الكونية ونعبث بقوانين الضوء كلها حتى نثبت ان كلام الله جاء ما يبطله وان هذه الآية تفيد الابطال في حين انها تفيد النسخ (بمعنى التكرار) وتفيد الانساء بمعنى الازالة ، فكيف يكرر الازالة فيقول (ننسخ من آية أو ننسها) فنعتبر انهما ذات الفعل في حين انهما متغايران ننسخ نكررها من شريعة في اخرى ، وننسها أي نترك افتراضها على قوم في حين كانت مفروضة على سابقيهم.
أما لماذا عدلت عن المعنيين الاول والثاني فلأنهما صحيحان ، فقد نقل الله شرائعا ممن قبلنا إلينا وترك أخرى ولكن المشكلة في مسألة اعتبار النسخ إزالة وهذا باطل ، وحتى لو فرضنا جدلا بأن النسخ إزالة فهو إزالة لحكم في شريعة سابقة وليس لقرآن يتلى.
وإن كنت جاداً حفظك الله في بحث الأمر فأرجو أن تقرأ بحثي قراءة فاحصة متأنية وأرجو كل الرجاء أن ترد عليه وعلى كل جزئية منه وستجدني عواداً للحق مذعناً إليه إن رددت ما اسوقه من حجج واثبت عكس ما اقول واحتسب في ما سيلحق بك من مشقة لتثبت ما تريد وأنا أحتسب ما لحق بي من أذى ومشقة في سبيل تنزيه كلام الله عن الابطال والعبث الذي لم ينزل بقول معصوم كما نقل الينا كلام الله بقول معصوم ، وعند الله تجتمع الخصوم والله اعلم.