أحببت نقل رسالة الانكفاف عن إقراء الكشاف
بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله الذي هدانا بنبيه محمد , و أحسن عاقبتنا به و أحمد , و شرفنا باتباعه و أسعد , و رفعنا فوق كثير من خلقه و أصعد , و وفقنا بسنته إلى أقوم مقصد , صلى الله عليه و على آله ما أتهم ركب و أنجد , و لاح قمري و غرد , و سلم تسليما كثيرا لا يبيد و لا ينفد , و بعد :
فإن كتاب الزمخشري كنت قرأت منه شيئا على الشيخ علم الدين عبد الكريم بن علي المشهور بالعراقي في سنة اثنتين و سبعمائة , و كنت أحضر قرائته عند قاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجي , و كان له به عناية و معرفة , ثم لم أزل أسمع دروس الكشاف المذكور , و أبحث فيه , و لي فيه غرام لما إشتمل عليه من الفوائد و الفضائل التي لم يسبق إليها , و النكت البديعة و الدقائق التي بعد الحصول عليها , و أتجنب ما فيه من الإعتزال , و أتحرج الكدر , و أشرب الصفو الزلال , و فيه ما لا يعجبني مثل كلامه في قوله تعالى ( عفا الله عنك ) ( التوبة 43 ) .
و طلب مني مرة بعض أهل المدينة نسخة من الكشاف , فأشرت عليه بأن لا يفعل حياء من النبي صلى الله عليه و سلم أن يحمل إليه كتاب فيه ذلك الكلام .
ثم صار هذا الكتاب يقرأ علي و أنا أسفر عن فوائده و أعوم به حتى وصل إلى تفسير سورة التحريم , و قد تكلم في الزلة , فحصل لي بذلك الكلام مغص , ثم وصلت إلى كلامه في سورة التكوير في قوله تعالى ( إنه لقول رسول كريم ) ( التكوير 19 ) إلى آخر الآية : و الناس إختلفوا في هذا الرسول الكريم , من هو ؟ فقال الأكثرون : جبريل . و قال بعضهم : محمد صلى الله عليه و سلم , فاقتصر الزمخشري على القول الأول , ثم قال : و ناهيك بهذا دليلا على جلالة مكان جبريل و فضله على الملائكة و مبانة منزلته بمنزلة أفضل الألي محمد صلى الله عليه و سلم إذا وازنت بين الذكرين حتى قرن بينهما , و قايست بين قوله
( إنه لقول رسول كريم , ذي قوة عند ذي العرش مكين , مطاع ثم أمين )
( التكوير 19 - 21 ) إنتهى كلامه ...
فطرحت الكشاف من يدي , و أخرجته من خلدي , و نويت أن لا أ قرأه , و لا أنظر فيه إن شاء الله تعالى , و كان ذلك يوم البون من إقرائي لي يوم الثلاثاء رابع عشر جمادى الآخرة سنة أربع و خمسين و سبعمائة , و ذلك لأني أحب النبي صلى الله عليه و سلم و أجله بحسب ما أوصى الله من محبته و إجلاله , و إمتنعت من هذه الموازنة و المقايسة التي قالها الزمخشري , ذهب إلى أن الملائكة أفضل من البشر , كما تقول المعتزلة .
أما كان هذا الرجل يستحي من النبي صلى الله عليه و سلم أن يذكر هذه المقايسة بينه و بين جبريل بهذه العبارة ؟
و الذي أقوله أن كتاب الله المبين لا مراء فيه , و فيه :
( و إن تطيعوه تهتدوا ) ( النور 54 )
( إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ) ( آل عمران 31 )
( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) ( الأحزاب 21 )
( قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم ) ( النساء 170 )
و غير ذلك مما القرآن طافح به و بتعظيمه .
و أنا واحد من الناس , كل ما أنا فيه من خير من أمور الدنيا و الآخرة من الله تعالى بواسطة النبي صلى الله عليه و سلم و أعلم أن الله تعبدني بذلك , و قام جبريل عليه السلام يعلمه أكثر منا , فما لنا و الله حول في هذا المكان الضيق , و لم يكلفنا الله بذلك , فحسب إمرئ إذا لم يعترف بفضل الملك على البشر , و لا البشر على الملك , أن يتأدب و يقف عند حده , و يعظم كلا منهما كما يجب له من التعظيم , و يكف لسانه و حلقه عن فضول لا يعنيه , و لم يكلف به , و لا بعلمه , و يقدر في نفسه أن هذين المخلوقين العظيمين حاضران و هو بين أيديهما ضئيل حقير , و الله تعالى رابعهم , و هو عالم بما تخفي الصدور , نسأل الله العصمة و السلامة بمنه و كرمه .
و جمهور أهل السنة على أن الإنسان أفضل من الملائكة , و على أن محمدا صلى الله عليه و سلم أفضل الخلق , و بذلك قال صاحب التنبيه , و صلى الله على سيدنا محمد خير خلقه .
و جمهور المعتزلة على أن الملائكة أفضل .
و هذه المسألة مما لم يكلف الله العباد معرفتها حتى لو أن إنسانا لم تخطر هذه المسألة بباله طول عمره و مات , لم يسأله الله عنها , فالسكوت عنها أسلم , و القول بأن محمد سيد الخلق ينشرح الصدر له , و هو الذي نعتقده بأدلة وفقنا الله لها , و لا نقول إنه يجب على كل أحد أن يعتقد ذلك , لأن علمه قد يقصر عنه , و إنما على أن يكف لسانه و قلبه عن خلافه , و كما لا يغنيه فضلا عما يجره إلى شئ آخر . نسأل الله العافية