لو قلت إن اسم الجمع هنا يذكر ويؤنث لقبلنا منك ذلك . ولكنك تقول إن التذكير للضرورة. وإليك بعض النقول عن أئمة التفسير:
يقول البيضاوي: "وتأنيث الضمير على المعنى فإن النحل مذكر". لاحظ أن البيضاوي يعتبر النحل مذكراً.
ويقول صاحب البحر، والذي هو من أئمة اللغة في عصره:" العنكبوت: حيوان معروف، ووزنه فعللوت ، ويؤنث ويذكر".
ثم أين الضرورة في قوله تعالى:"يا أيها النمل ادخلوا مسكنكم"، وليس:"ادخلن مساكنكن" مع جواز ذلك.
وأصحاب الإعجاز العلمي يشيرون إلى التزام التأنيث في النحل والعنكبوت وعند مخاطبة النمل ــ الذي يشمل الذكور والإناث ــ جاء بصيغة التذكير.
هل بعد ذلك لا تزال تتمسك بقولك:"وترى الكثير الكثير من أمثال هذه التفسيرات التي يحقّ للقاضي أن يمنع مبدعيها أو مبتدعيها من نشرها " نحمد الله تعالى أن منصب القضاء لم ينط بك، وإن كان قد أنيط....!!!
السلام عليكم ورحمة الله
القاعدة تقول إن اسم الجمع (وهو لفظ مفرد أي غير مجموع ، ولكنه يدل على مجموعة ، و لا يمكن إدخال تاء الإفراد عليه للدلالة على أحد مصاديقه ، أي: لا واحد له من لفظه ) ، إذا كان لغير العاقل ، أي غير الإنسان ، فهو يؤنث . وهذا مثل (إبل) ، قال تعالى (وإلى الإبل كيف خلقت) ، ومثل (عنكبوت) ، قال تعالى (اتخذت بيتا) . فالتأنيث في الآيتين لأن لفظتي (إبل) و (عنكبوت) مؤنثتان لأنهما اسما جمع ، إذ لا واحد لهما من لفظهما ، فلا يُقال (إبلة) بل يقال (بعير ، أو ناقة) ، ولا يقال (عنكبوتة) بل يقال (عنكبٌ ، أو عنكبة) . وهكذا . وتأنيث اسم الجمع قاعدة ليس فيها اختلاف لهجات ولا اختلاف مدارس نحوية .
وعليه فلا يدلّ التانيث في قوله (اتخذت بيتا) على إرادة الأنثى ، كما يزعم بعض كتاب الإعجاز العلمي ، بل لأن اللفظة في نفسها مؤنثة ، هكذا تكلم بها العرب . وإذا كان يريد الأنثى فاللفظة هي (عنكبة) ، ولفظ (العنكبوت) عام يدلّ على الحيوان من دون تفريق بين الذكر والأنثى .
وفي الوقت نفسه يمكن تذكير (عنكبوت) حتى في النثر ومن دون ضرورة ، وذلك لأنه ليس مؤنثا حقيقيا واجبَ التأنيث . فيمكن تذكيره أيضا ، ولكن القاعدة هي التأنيث .
وإذا ورد تأنيث (عنكبوت) في كلام عربي فهو من أجل هذه القاعدة وليس من أجل إرادة الأنثى . فالأنثى هي (عنكبة) كما بينا .
وزغلول النجار ، سامحه الله ، إذ يورد عن بعض أئمة اللغة أن لفظ (عنكبوت) : (يذكر ويؤنث) ، ويوهم بذلك أن تأنيثه في قوله (اتخذت بيتا) هو مقصود قصدا خاصا من إجل إرادة الأنثى ؛ إنما يخلط الأمور ، لأن لفظ (عنكبوت) وإن كان يجوز تذكيره ويمكن أن يأتي تذكيره في كلام عربي (وإن لم أجده إلا في شطر بيت شعري ، ضرورةً ) ، ولكن ما ورد في الآية من التأنيث هو بمقتضى القاعدة الأصلية التي تجعل لفظ (عنكبوت) مؤنثا معنويا لا علاقة له بالتأنيث الحقيقي . فلا يفيده ورود التذكير في زعمه أن تأنيث اللفظ في الآية من أجل إرادة الأنثى . أي : إذا ورد التأنيث فهو القاعدة ، وإذا ورد التذكير فهو لأن التأنيث غير واجب مثل تأنيث المؤنث الحقيقي .
وأما ما قاله صاحب البحر، من أن لفظ (عنكبوت) : "يؤنث ويذكر" ، فهو من الاختصار المخل ، إذ يجب أن يكون واضحا أن لفظ (عنكبوت) ـ باعتباره اسم جمع لغير العاقل ـ مؤنث ، وكذلك (إبل) ، وبذلك نزل القرآن. وأما التذكير فهو جائز أيضا ، كما بينا ، ويمكن العثور على شاهد أو شواهد قليلة في الكلام العربي على ذلك . ومع ذلك ، فهذا القول المختصر لا يفيد شيئا لمن يريد أن يقول إن تأنيث (عنكبوت) في الآية من أجل إرادة الأنثى ، كما بينتُ .
وأما (نحل) و (نمل) مثلا ، فهما اسما جنس وليس اسما جمع ، لأنهما يمكن إفرادهما (أي : الدلالة على فرد واحد من مصاديقهما) بإدخال تاء الإفراد عليهما ، فيقال: نحلة ، نملة ، للدلالة على واحد من النحل والنمل . فهذا النوع ، أي اسم الجنس ، اختلفت فيه اللهجتان الحجازية والتميمية ، فلغة أهل الحجاز هي التأنيث وبه نزل القرآن ، ولغة تميم هي التذكير . وربما يعود تأنيث اللفظ في الحجازية إلى أن لفظ (نحل) مثلا وإن كان ليس مجموعا في نفسه إلا أنه يُعتبر جمعا و مفردُه (نحلة) ، ولذلك يؤنث في تلك اللهجة تأنيثَ الجمع .
ولذا يمكن لِلـُغويّ أن يقول إن النحل مذكر ، ولكن هذا محمول على قصد اللهجة التميمية ، وأما ما في القرآن فهو التأنيث . وإذا كان القرآن الكريم يؤنث (النحل) فذلك مصداق لكون القرآن نزل بلغة قريش ، ومن أجل التأنيث المعنوي للفظة في تلك اللهجة ، وليس من أجل تأنيث حقيقي .
أما ما قاله البيضاوي فشرحه ما قلته آنفا ، من أن لفظة (نحل) مذكرة في نفسها إذ لم تلحقها تاء (مثل ما في : نحلة ) ، ومن هنا يقول البيضاوي إن التأنيث من أجل المعنى ، أي من أجل أن لفظة (نحل) عامّة المعنى فتشبه اللفظ المجموع بدلالته على مجموعة . وربما أمكن لأحد أن يقول إن البيضاوي كان يقصد ما كان شائعا من التذكير الذي يعود إلى اللهجة التميمية ، ويبدو أنه شاع في اللسان العربي في العصور اللاحقة ، ونحن نعلم أن كثيرا من خصائص العربية الفصيحة الحديثة تعود إلى غير اللهجة الحجازية . ولكن ما يمنعني من تصديق ذلك هو أنه لا يمكن أن يطلق البيضاوي القول بتذكير لفظة (نحل) وهو يعلم اللهجتين المختلفتين في تأنيث وتذكير اسم الجنس مثل (نحل) . ولذا أرجح أن البيضاوي قصد أن لفظة (نحل) مذكرة لفظيا (أي لم تلحقه تاء) ولكنه أنثت في الآية باعتبار معناها الجامع الذي يجعلها في حكم الجموع الذي يؤنـَّث عادة ، و (كل جمع مؤنث) كما قيل. ومن هنا جاء التأنيث في اللهجة الحجازية .
وإلا فعبارة اللغويين القدماء تنص على تأنيث (النحل) وعلى جواز تذكيره مع ذلك. قال ابن الأنباري في (البلغة في الفرق بين المذكر والمؤنث):
[والنحل مؤنثة. قال الله تعالى: " وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً " . وقد يجوز فيها التذكير"]. لاحظ قوله (وقد..) الذي يدل على التقليل ..
وأما عن قولك ـ أخي البيراوي ـ : [ثم أين الضرورة في قوله تعالى:"يا أيها النمل ادخلوا مسكنكم"، وليس:"ادخلن مساكنكن" مع جواز ذلك.] ، فأقول : أنا لم أذكر أمر الضرورة بالنسبة لاسم جنس مثل (نمل) ، بل ذكرته لاسم جمع مثل (عنكبوت) الذي ورد تذكيره في شطر بيت ضرورة .
وأما قوله تعالى (ادخلوا مسكانكم) ، فضمير الجماعة فيه لا علاقة له بتذكير ولا تأنيث ، بل هو التغليب الذي يقتضي أن يُخبَر عن الجماعة كالذكور تغليبا وإن كانت فيهم إناث ، وهكذا اعتاد اللسان العربي . وما في الآية لم يُقصَد فيه تفريق بين ذكور وإناث ، بل المراد هو جماعة النمل ، من دون إرادة الذكورة والأنوثة ، والأسلوب العربي في هذه الحالات هو التذكير أي الإخبار عن جماعة الذكور .
وأعود إلى قولي : إن من يفسر قوله تعالى (اتخذت بيتا) و (يخرج من بطونها شراب) بأنه يقصد الأنثى ، إنما يثبت بذلك أنه لم يملك زمام اللسان العربي ، وأنه لا يرى في النص و لا يفهم إلا ما قرّر مسبقا أن يراه ويفهمه ، وهو بفعله هذا لا يدع القرآن يقول قوله ، بل يقوّله ما يريد ويهوى ، أقول هذا وأعلم أن عبارتي هذه قد تكون غير لائقة بمقام الحديث عن كتاب الله .
وأما عن القضاء وحالة إناطة القضاء بي ، كما تفضل الأخ البيراوي بأن تندّر بذلك ، فأقول : لو كنتُ قاضيا لمنعت كل الذين يفسرون القرآن برأيهم دون اعتماد على المأثور وخصائص اللسان العربي الذي نزل به القرآن ، من أن يتصدّروا الحلقات والمنابر .
وأقول : إن منطق التفسير العلمي يقضي بأن الأمة ، والنبي عليه الصلاة والسلام ، لم يفهموا القرآن ، أو لم يفهموه على وجهه الصحيح ، واستمرت هذه الحالة العصيبة ، إلى أن جاء سادة مدرسة الإعجاز العلمي بتفسير صحيح ففعلوا ما لم يستطع أن يفعله النبي عليه الصلاة والسلام ولا الصحابة ولا التابعون ولا المفسرون النابغون من بعدهم . هل هذا منطق ؟!
هل يمكن أن أعتبر كاتبا ـ يمكنني أن أعتبره قزما إذا قارنتـُه بمفسرينا القدماء العمالقة ـ مفسرا وآخذ منه التفسير ، وهو يأتي بتفسيرات تخالف ـ أحيانا كثيرة ـ الوجهَ اللغوي والنحوي و تخالف ـ أحيانا ـ أحاديث صحيحة صريحة جاءت تفسر بعض الآيات ؟
وهاكم مثالا ـ حتى لا يكون كلامي أسلوبا خطابيا وحرصا على التعبير بشكليات بالفصحى بعيداً عن الجوهر ;)ـ:
قال تعالى (والشمس تجري لمستقر لها) ، وجاءت الأحاديث الصحيحة تفسر ذلك الجريان بأنه الجريان اليومي للشمس من مشرقها إلى مغربها كما نراه كل يوم ، وتفسر ذلك الاستقرار بما يقع في الليل من استقرار الشمس حيث لا نجدها متحركة في السماء كما هي في النهار..
وبعد هذا يجيء كتـّاب التفسير العلمي ويقولون بل (مُراد الله تعالى) في تلك الآية هو الإخبار عن أن الشمس تدور حول مجرة درب التبانة ، وهذا ما توصّل إليه العلم الحديث في العقود الأخيرة من القرن العشرين ..
وهذا يعني أن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الوارد في الأحاديث الصحيحة لم يكن صحيحا ، أو ـ على الأقل ـ كان تفسيرا مرحليا مؤقتا !! (وهذا أقبح من الأول)..
هذا هو مؤدى منطق التفسير العلمي ونتيجته .. يا سادة ..