هل كان العرب الذين اتهموا النص القرآني بأن كاتبه شاعر لا يدركون الفرق بين الشعر وغير الشعر ؟" ا.هـ
أولا رحم الله شيخك وأسكنه فسيح الجنان.
ثانيا: أظن أن الجواب بمنتهى الاختصار ـ وأرجو من الله التوفيق ـ يتلخص في :
أن القوم يجوّدون فنون الكلام، فبضاعتهم التي تغص بها الأسواق في هذه الحقبة من الزمن هي الفصاحة والبلاغة والبيان ، ومن هنا فإننا نجزم بأن القوم كانوا يدركون بجلاء الفرق بين الشعر بأنواعه " رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ..."
ولنا أن نحمل قولهم " بشعرية القرآن " ـ إن صح التعبير ـ على الكيد وإبداء السخط فحسب ، إذ هو تشويه متعمد مع سبق منهم وترصد .
ومن أدل الأدلة على ذلك ما رواه عكرِمة، أن الوليد بن المُغيرة جاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فقال: أي عمّ إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ؟
قال: لِمَ؟ قال: يعطونكه فإنك أتيت محمدا تتعرّض لما قِبَله، قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالا،
قال: فقل فيه قولا يعلم قومك أنَّك مُنكر لما قال، وأنك كاره له.
قال: فما أقول فيه؟
فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني.
ولا أعلم برجزه مني.
ولا بقصيده.
ولا بأشعار الجنّ.
والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو ولا يعلى، قال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه؛ فلما فكَّر قال: هذا سحر يأثره عن غيره، فنزلت( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ) قال قتادة: خرج من بطن أمه وحيدا، فنزلت هذه الآية حتى بلغ تسعة عشر.
وفي البحر ـ مع كامل تقديرنا لوجهة أستاذك ـ رحمه الله ـ في قوله تعالى" :"{ إنه فكر وقدر }
روي أن الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في أمر القرآن وقال : إن له لحلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن فرعه لجناة ، وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو وما يعلى ، ونحو هذا من الكلام ، فخالفوه وقالوا :
هو شعر .
فقال : والله ما هو بشعر .
قد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه .
قالوا : فهو كاهن ، قال : والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، قالوا : هو مجنون ، قال : والله ما هو بمجنون ، لقد رأينا المجنون وخنقه ، قالوا : هو سحر ، قال : أما هذا فيشبه أنه سحر ويقول أقوال نفسه . وروي هذا بألفاظ غير هذا ويقرب من حيث المعنى ، وفيه : وتزعمون أنه كذب ، فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب؟ فقالوا : في كل ذلك اللهم لا ، ثم قالوا : فما هو؟ ففكر ثم قال : ما هو إلا ساحر . أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ وما الذي يقوله إلا سحر يؤثره عن مثل مسيلمة وعن أهل بابل ، فارتج النادي فرحاً وتفرّقوا متعجبين منه . وروي أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه ، ثم سمع كذلك مراراً حتى كاد أن يقارب الإسلام . ودخل إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه مراراً ، فجاءه أبو جهل فقال : يا وليد ، أشعرت أن قريشاً قد ذمّتك بدخولك إلى ابن أبي قحافة ، وزعمت أنك إنما تقصد أن تأكل طعامه؟ وقد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد ،
وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في هذا الكلام قولاً يرضيهم ، ففتنه أبو جهل فافتتن وقال : أفعل.."
وقديما قال عبد اللّه بن معاوية:
وعين الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ ****** ولكنَّ عينَ السُّخط تُبْدي المساويا
وقال رَوْح أبو همَّام:
وعينُ السُّخْطِ تبصِرُ كلَّ عيبِ ******** وعينُ أخي الرِّضا عن ذاكَ تَعْمى
وقيل:
وعين البغض تبرز كل عيب ... وعين الحب لا تجد العيوبا
ولقد دافع رب العزة عن القرآن من خلال حكاية أقوال الكفار المترجمة لتخبطهم مع علمهم المتيقن بأنهم لا يلون على شيء فقال تعالى:
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }يونس38
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }هود13
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ }هود35
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ }السجدة3
{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }المؤمنون70
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }الشورى24
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }الأحقاف8
{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ }الطور30
الرد: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ }الحاقة41
{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ }الطور33
إذن فالعرب يعرفون القرآن كلاما معجزا كما يعرفون أبناءهم ، ويعرفون أنه ليس بشعر كمعرفتهم المتيقنة بالشعر وضروبه وفنونه .
والله الموفق