هل أفاد الشيخ عبد القاهر من القاضي عبد الجبار

روضة

New member
إنضم
06/01/2006
المشاركات
205
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الأردن
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه دراسة لآراء القائلين بأن الشيخ عبد القاهر أفاد من القاضي عبد الجبار في تطوير نظرية النظم، أرجو من الأساتذة أصحاب الاهتمام بهذا الموضوع إبداء آرائهم، وتصويب ما يرونه خطأ، مع الشكر سلفاً لكل من سيتجشم عناء القراءة والنقد.​
[line]
هل أفاد الشيخ عبد القاهر من القاضي عبد الجبار


حين حدث القاضي عبد الجبار الهمذاني عن الفصاحة(1)، وضّح مجالاتها، وبيّن أن الكلام يكون فصيحاً بجزالة لفظه وحسن معناه(2)، ثم قال: "واعلم أن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضمّ على طريقة مخصوصة، ولا بدّ مع الضمّ أن يكون لكل كلمة صفة، وقد يجوز في هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التي تتناول الضمّ، وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع، وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع؛ لأنه إما أن تعتبر فيه الكلمة، أو حركاتها، أو موقعها. ولا بدّ من هذا الاعتبار في كل كلمة، ثم لا بدّ من اعتبار مثله في الكلمات، إذا انضم بعضها إلى بعض؛ لأنه قد يكون لها عند الانضمام صفة، وكذلك لكيفية إعرابها وحركاتها وموقعها، فعلى هذا الوجه الذي ذكرناه إنما تظهر مزية الفصاحة بهذه الوجوه دون ما عداها.

فإنْ قال: فقد قلتم في أن جملة ما يدخل في الفصاحة حسن المعنى، فهلا اعتبرتموه ؟ قيل له: إن المعاني وإنْ كان لا بدّ منها، فلا تظهر فيها المزية وإنْ كان تظهر في الكلام لأجلها؛ ولذلك نجد المعبِّرَين عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من الآخر والمعنى متفق . . . على أنّا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد، فإذن يجب أن يكون الذي يُعتَبَر: التزايد عند الألفاظ التي يُعبّر بها عنها . . . فإذا صحَّت هذه الجملة فالذي تظهر به المزية ليس إلا الإبدال الذي به تختص الكلمات أو التقدّم والتأخر الذي يختص الموقع، أو الحركات التي تختص الإعراب، فبذلك تقع المباينة.

ولا بدّ من الكلامين اللذين أحدهما أفصح من الآخر أن يكون إنما زاد عليه بكل ذلك أو ببعضه، ولا يمتنع في اللفظة الواحدة أن تكون إذا استعملت في معنى تكون أفصح منها إذا استعملت في غيره، وكذلك فيها إذا تغيّرت حركاتها، وكذلك القول في جملة من الكلام"(3).

نسب كثير من الباحثين أصل نظرية النظم إلى القاضي عبد الجبار، ورأوا أن الشيخ عبد القاهر أفاد منه، وبنى على كلامه وطوّره، فمثلاً يقول الأستاذ شوقي ضيف إن عبد الجبار وقف على معنى النظم، فله أصل النظرية، وفضل السَّبق والابتكار يُنسب إليه، وعبد القاهر له فضيلة تفسيرها تفسيراً دقيقاً، بحيث أصبح فعلاً صاحبها الذي صوّرها وطبقها واستخرج على أساسها علم المعاني المعروف بين علوم العربية(4).
ويقول د. محمد أبو موسى ـ بعد أن سرد كلام القاضي عبد الجبار السابق ـ: "وتتكرر في دراسة عبد القاهر كلمة (الضمّ) الواردة هنا، كما تتكرر كذلك كلمة (المزية)، والنظر في الكلمة من حيث إعرابها وموقعها وإبدالها، جزء هام في دراسة عبد القاهر، وقول عبد الجبار: "على أنّا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد ، فإذن يجب أن يكـون الذي يُعتَبر : التزايد عند الألفـاظ"، من الكلام المشهور في دلائل الإعجاز"(5).

تبنّى كثير من الباحثين هذه الفكرة، معتمدين عبارتَين وردتا في كلام القاضي عبد الجبار:
العبارة الأولى: "واعلم أن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة".
العبارة الثانية: "على أنّا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد، فإذن يجب أن يكون الذي يُعتبر: التزايد عند الألفاظ التي يُعَبَّر بها عنها".


ورأى هؤلاء أن كلامَ القاضي الأساسُ النظري الذي استند إليه الشيخ عبد القاهر، وبنى عليه نظرية النظم.

هذا ما عليه أكثر الدارسين للنظرية، غير أنه مخالف لحقيقة الأمر، فالشيخ عبد القاهر لم يرتضِ أقوال القاضي ـ وبخاصة هاتين العبارتين ـ(6) ، فكيف يستند إليها ؟ !

لقد تتبع الشيخ أقواله، وشدّد الرد عليها، وكأنه أخذ على عاتقه إبطالها، وإثبات فسادها، فقد رأى أن هذه الأقوال تتعارض مع فكرة النظم التي تقوم على توخّي معاني النحو، ووَصَفَها بأنها بيّنة التهافت والسقوط، وأنها فاحشة الغلط، وأن الناظر فيها لا يرى موضعاً صحيحاً، ولا يرى باطلاً فيه شوب من الحق، وزيفاً فيه شيء من الفضة، ولكن يرى الغِشّ بحتاً، والغيظ صرفاً(7).

وفيما يلي ردود الشيخ على العبارة الأولى من كلام القاضي عبد الجبار "واعلم أن الفصاحة لا تظهر في أفراد..." :
"وإذا ثبت أنه ـ يقصد الإعجاز ـ في (النظم) و(التأليف)، وكنا قد علمنا أنْ ليس (النظم) شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، وأنّا إنْ بقينا الدهر نُجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكاً ينظمها، وجامعاً يجمع شملها ويؤلفها، ويجعل بعضها بسبب من بعض، غير توخي معاني النحو وأحكامه فيها، (8)طلبنا ما كل محال دونه، (9)فقد بان وظهر أن المتعاطي القول في (النظم)، والزاعم أنه يحاول بيان المزية فيه، وهو لا يَعرِض فيما يعيده ويبديه للقوانين والأصول التي قدمنا ذكرها، ولا يسلك إليه المسالك التي نهجناها، (10)في عمياء من أمره، وفي غرور من نفسه، وفي خداع من الأماني والأضاليل(11)؛ ذلك لأنه إذا كان لا يكون (النظم) شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، كان من أعجب العجب أن يزعم زاعم أنه يطلب المزية في (النظم)، ثم لا يطلبها في معاني النحو وأحكامه التي (النظم) عبارة عن توخيها فيما بين الكلم"(12).
"واعلم أن السبب في أن لم يقع النظر منهم ـ يقصد المعتزلة ـ موقعه، أنهم حين قالوا: (نطلب المزية)(13)، ظنّوا أن موضعها (اللفظ) بناء على أن (النظمَ) نظمُ الألفاظ، وأنه يلحقها دون المعاني، وحين ظنّوا أن موضعها ذلك واعتقدوه، وقفوا على (اللفظ)، وجعلوا لا يرمون بأوهامهم إلى شيء سواه، إلا أنهم ـ على ذلك ـ لم يستطيعوا أن ينطقوا في تصحيح هذا الذي ظنّوه بحرف، بل لم يتكلموا بشيء إلا كان ذلك نقضاً وإبطالاً لأن يكون (اللفظ) من حيث هو لفظ موضعاً للمزية، وإلا رأيتهم قد اعترفوا ـ من حيث لم يدروا ـ بأن ليس للمزية التي طلبوها موضعٌ ومكان تكون فيه، إلا معاني النحو وأحكامه؛ وذلك أنهم قالوا : "إن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلمات، وإنما تظهر بالضمّ على طريقة مخصوصة"(14)، فقولهم (بالضمّ)، لا يصح أن يراد به النطق باللفظة بعد اللفظة، من غير اتصال يكون بين معنييهما؛ لأنه لو جاز أن يكون لمجرد ضمّ اللفظ إلى اللفظ تأثير في الفصاحة، لكان ينبغي إذا قيل: " ضحك، خرج"، أن يحدث في ضمّ "خرج" إلى "ضحك" فصاحة ! وإذا بطل ذلك لم يبقَ إلا أن يكون المعنى في ضم الكلمة إلى الكلمة، توخي معنى من معاني النحو فيما بينهما، وقولهم: "على طريقة مخصوصة"، يوجب ذلك أيضاً، وذلك أنه لا يكون للطريقة ـ إذا أنت أردت مجرد اللفظ ـ معنىً.
وهذا سبيل كل ما قالوه، إذا أنت تأمّلتَه تراهم في الجميع قد دُفعوا إلى جعل المزية في معاني النحو وأحكامه من حيث لم يشعروا؛ ذلك لأنه أمر ضروري لا يمكن الخروج منه"(15).
"وكيف لا يكون في إسار الأُخْذة(16)، ومَحُولاً بينه وبين الفكرة، مَن يسلِّم أن الفصاحة لا تكون في أفراد الكلمات، وأنها إنما تكون فيها إذا ضُمّ بعضها إلى بعض(17)، ثم لا يعلم أن ذلك يقتضي أن تكون وصفاً لها، من أجل معانيها، لا من أجل أنفسها، ومن حيث هي ألفاظٌ ونطقُ لسان ؟ ذاك لأنه ليس من عاقلٍ يفتح عين قلبه إلا وهو يعلم ضرورة أن المعنى في "ضمِّ بعضها إلى بعض"، تعليقُ بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض، لا أن يُنطَق بعضُها في أثر بعض، من غير أن يكون فيما بينها تعلُّق، ويعلم كذلك ضرورة إذا فكّر، أن التعلق يكون فيما بين معانيها، لا فيما بينها أنفسها، ألا ترى أنّا لو جهدنا كل الجهد أن نتصور تعلّقاً فيما بين لفظين لا معنى تحتهما، لم نتصوّر؟ ومن أجل ذلك انقسمت الكلم قسمين: "مؤتلف"، وهو الاسم مع الاسم، والفعل مع الاسم، و"غير المؤتلف"، وهو ما عدا ذلك، كالفعل مع الفعل، والحرف مع الحرف، ولو كان التعلق يكون بين الألفاظ، لكان ينبغي أن لا يختلف حالها في الائتلاف، وأن لا يكون في الدنيا كلمتان إلا ويصح أن يأتلفا؛ لأنه لا تنافي بينهما من حيث هي ألفاظ. وإذا كان كل واحد منهم قد أعطى يده بأن الفصاحة لا تكون في الكلم أفراداً، وأنها إنما تكون إذا ضمّ بعضها إلى بعض، وكان يكون المراد بضمّ بعضها إلى بعض، تعليقَ معانيها بعضها ببعض، لا كونَ بعضها في النطق على إثر بعض، (18)كان واجباً إذا علم ذلك، أن يعلم أن الفصاحة تجب لها من أجل معانيها، لا من أجل أنفسها؛ لأنه محال أن يكون سببَ ظهور الفصاحة فيها، تعلقُ معانيها بعضها ببعض، ثم تكون الفصاحة وصفاً يجب لها لأنفسها لا لمعانيها، وإذا كان العلم بهذا ضرورة، ثم رأيتهم لا يعلمونه، فليس إلا أن اعتزامهم على التقليد قد حال بينهم وبين الفكرة، وعرض لهم منه شبهُ الأُخذة"(19).

كانت هذه ردود الشيخ عبد القاهر على العبارة الأولى من كلام القاضي عبد الجبار، أما العبارة الثانية: "على أنّا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد . . ."، فردّ عليها بقوله: "فإنْ قيل: فماذا دعا القدماءَ إلى أن قسّموا الفضيلة بين المعنى واللفظ، فقالوا: "معنى لطيف، ولفظ شريف"، وفخموا شأن اللفظ وعظّموه حتى تبعهم في ذلك مَن بعدهم، وحتى قال أهل النظر(20): " إن المعاني لا تتزايد، وإنما تتزايد الألفاظ"، فأطلقوا كما ترى كلاماً يُوهم كل مَن يسمعه أن المزية في حاقّ اللفظ ؟

قيل له: لما كانت المعاني إنما تتبين بالألفاظ، وكان لا سبيل للمرتِّب لها والجامع شملها، إلى أن يُعلمك ما صنع في ترتيبها بفكره، إلا بترتيب الألفاظ في نطقه، تجوَّزوا فكنوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ، ثم بالألفاظ، بحذف (الترتيب)، ثم أتبعوا ذلك من الوصف والنعت ما أبان الغرض وكشف عن المراد، كقولهم: "لفظ متمكن"، يريدون أنه بموافقة معناه لمعنى ما يليه كالشيء الحاصل في مكان صالح يطمئن فيه، و"لفظ قلق نابٍ"، يريدون أنه من أجل أن معناه غيرُ موافق لما يليه، كالحاصل في مكان لا يصلح له، فهو لا يستطيع الطمأنينة فيه، إلى سائر ما يجيء في صفة اللفظ، مما يُعلم أنه مستعار له من معناه، وأنهم نحلوه إياه، بسبب مضمونه ومؤدّاه.

هذا، ومَن تعلق بهذا وشبهه واعترضه الشك فيه، بعد الذي مضى من الحجج، فهو رجل قد أنِسَ بالتقليد، فهو يدعو الشبهة إلى نفسه من ههنا وثَمَّ، ومَن كان هذا سبيله، فليس له دواء سوى السكوتِ عنه، وتركِه وما يختاره لنفسه من سوء النظر، وقلة التدبر"(21).

وقال في موضع آخر: "ومما تجدهم يعتمدونه ويرجعون إليه قولهم: "إن المعاني لا تتزايد، وإنما تتزايد الألفاظ"، وهذا كلامٌ إذا تأمّلتَه لم تجد له معنى يصحُّ عليه، غير أن تجعل "تزايد الألفاظ" عبارة عن المزايا التي تحدث من توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم؛ لأن التزايد في الألفاظ من حيث هي ألفاظٌ ونطقُ لسان ، محال"(22).
*·~-.¸¸,.-~**·~-.¸¸,.-~*​

هذا هو رأي الشيخ عبد القاهر في كلام القاضي عبد الجبار، فكيف يُقال إنه استند إليه، والاستناد إلى الشيء يتضمّن قبوله، ولا يُعقل أن يرفض الشيخ عبد القاهر كلاماً ويستند إليه ـ أي يقبله ـ في آن واحد؛ لأنه بذلك يكون قد جمع بين طرفي نقيض، وهذا محال .

غير أن عدم قبول الشيخ عبد القاهر لآراء القاضي عبد الجبار لا ينفي فضل الأخير في خدمة قضية النظم، حيث يمكن مناقشة الشيخ فيما ذهب إليه:

يتلخص ما نسبه عبد القاهر إلى عبد الجبار في قضيتين:
الأولى: أن القاضي عبد الجبار زعم أنه يطلب المزية في النظم، ثم لم يتوخاها في معاني النحو، والنظم عبارة عن توخّيها فيما بين الكلم، وأنه اعترف من حيث لا يدري بأن المزية تعود إلى معاني النحو، وذلك بقوله: "إن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلمات . . . ".
الثانية: وقع القاضي عبد الجبار في القضية الأولى؛ لأنه ظنّ أن موضع المزية في (اللفظ)، بناء على أن (النظمَ) نظمُ الألفاظ، فأهمل المعاني التي بين الكلمات، ووقف على الألفاظ، كما أن قوله: " إن المعاني لا تتزايد . . . " يوهم أن المزية في حاقِّ اللفظ.


لقد حمل الشيخ عبد القاهر أقوال القاضي على محمل معين؛ ولذلك نسب إليه ما نسب، لكن باستطاعتنا أن نفسرها على غير الوجه الذي فسّرها به عبد القاهر؛ وذلك لأن أقوال عبد الجبار بمجموعها تنفي ما ذهب إليه الشيخ، فمثلاً بعد أن يذكر أن الفصاحة تظهر في الكلمات المضمومة يُعدّد وجوهاً ثلاثة تظهر بها مزية الفصاحة، يقول: "فالذي تظهر به المزية، ليس إلا الإبدال الذي به تختص الكلمات ، أو التقـدم والتأخر الذي يختص الموقع، أو الحركات التي تختص الإعراب، فبذلك تقع المباينة، ولا بدّ من الكلامين اللذين أحدهما أفصح من الآخر أن يكون إنما زاد عليه بكل ذلك أو ببعضه"(23).

ويقول: "فإنْ قال: أفيمكن حصر هذا العلم، الذي يمكن معه إيراد الكلام الفصيح، والذي يتميز به، مما فوقه في الفصاحة ودونه ؟
قيل له: قد بيّنا ذلك في الجملة، وهو أن يعلم أفراد الكلمات، وكيفية ضمّها وتركيبها ومواقعها، فبحسب هذه العلوم والتفاضل فيها، يتفاضل ما يصح منهم من رتب الكلام الفصيح"(24).

أقواله هذه تدل على أنه نسب مزية الكلام الفصيح إلى معاني النحو وأحكامه؛ وذلك لأن قوله: "ضمّ على طريقة مخصوصة" يعني ترتيب الكلمات في الجملة على نحو معين، ينتج عنه معنى مفيد، وليس ضمّاً عشوائياً، لا ترتبط فيه الكلمة بجاراتها، فيغدو الكلام مفكّكاً مجزّءاً، لا يستطيع قارئه أن يقف له على وجه، ثم اشترط وجوهاً ثلاثة مع الضمّ، تنضوي جميعها تحت أحكام النحو، فبعد أن تضم الكلمات، لا بدّ أن تراعى فيها هذه الوجوه: الإبدال، وهو انتقاء الكلمة المناسبة للسياق، وموقع الكلمة في الجملة تقديماً وتأخيراً، وحركة إعرابها التي تلقي ضوءاً على معناها.
وهذه الوجوه الثلاثة من معاني النحو التي يتميز بها نظم الكلام.

وقد اعترف الشيخ عبد القاهر بأن كلام القاضي عبد الجبار ينطوي على إثبات المزية لمعاني النحو، حين قال: "فقولهم: "بالضمّ" لا يصح أن يراد به النطق باللفظة بعد اللفظة، من غير اتصال يكون بين معنييهما؛ لأنه لو جاز أن يكون لمجرد ضمّ اللفظ إلى اللفظ تأثير في الفصاحة، لكان ينبغي إذا قيل: "ضحك"، "خرج" أن يحدث في ضمّ "خرج" إلى "ضحك" فصاحة ! وإذا بطل ذلك لم يبقَ إلا أن يكون المعنى في ضمّ الكلمة إلى الكلمة، توخي معنى من معاني النحو فيما بينهما"(25).

ولكنه يرى أن عبد الجبار دُفع إلى هذا دفعاً من حيث لا يدري، ولعل قول الأخير: إن الفصاحة تظهر "بالضم على طريقة مخصوصة" غير كافٍ بالنسبة لعبد القاهر، حيث حمله على أنه ضمّ اللفظة إلى اللفظة بغضّ النظر عن المعاني التي تربط بينها، والسبب في هذا ـ كما يقول عبد القاهر ـ أنه يطلب المزية في الألفاظ، ويهمل المعاني، فيجعل الفصاحة وصفاً للكلمات المضمومة، لا من أجل معانيها، بل من أجل أنفسها.

وإذا أبطلنا السبب الذي من أجله نفى عبد القاهر أن يكون عبد الجبار قد قصد إثبات المزيـة لمعاني النحو(26)، يمكننا أن نصل ـ من وجه آخر غير الذي فُهم من كلامه مباشرة ـ إلى أن عبد الجبار أدرك أن مزية الكلام في توخي معاني النحو، وأنه لم يُدفع إلى هذا دفعاً :

لعل عبد القاهر أيّد ما ذهب إليه ـ من أن عبد الجبار يطلب المزية في اللفظ ـ بما ورد في كتاب (المغني) ، حيث قال عبد الجبار: "فإن قال: فقد قلتم في أن جملة ما يدخل في الفصاحة حسن المعنى، فهلا اعتبرتموه ؟ قيل له: إن المعاني وإن كان لا بد منها، فلا تظهر فيها المزية، وإنْ كان تظهر في الكلام لأجلها"، واستدل على هذا بأمور: "نجد المعبِّرَين عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من الآخر، والمعنى متفق، وقد يكون أحد المعنيين أحسن وأرفع، والمعبِّر عنه في الفصاحة أدون، فهو مما لا بدّ من اعتباره، وإنْ كانت المزية تظهر بغيره"، ثم قال: "على أنّا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد، فإذن يجب أن يكون الذي يُعتَبَر: التزايد عند الألفاظ التي يُعَبَّر بها عنها على ما ذكرناه".

وفي موضع آخر نفى أن يكون التحدي بالمعاني، وبيّن أن الذي يظهر به التفاضل الوجوه الثلاثة التي ذكرها دون المعاني، وإنْ كان حسن المعاني كالشرط، وكالمؤثر في هذا الباب(27)، وقال: "كما نعلم أن حسن المعنى يؤكد كون الكلام الفصيح معجزاً، وإنْ كان لو انفرد لم يختص لهذه الصفة"(28).

قد تكون هذه الأقوال هي التي جعلت عبد القاهر يرى أن عبد الجبار قصر نظره على تعلّق الألفاظ بعضها ببعض من حيث هي ألفاظ، بعيداً عن معانيها.

ويبدو لي أن الشيخ عبد القاهر بالغ في هذا الأمر، فمَن له أدنى علم باللغة، وبتركيب الكلام يعلم أن ضمّ الكلمات بعضها إلى بعض يخضع لما تحمله الكلمات من المعاني، فكيف بالقاضي عبد الجبار، وهو العلامة المتكلم، المعروف بتصانيفه البلاغية ؟ ! ألا يعلم أن تعلّق الكلمات بعضها ببعض يكون فيما بين معانيها، لا فيما بينها أنفسها ؟

لقد حاولت أن أفهم كلام القاضي بما يتماشى مع تصريحاته التي تؤكد إثبات المزية للوجوه الثلاثة التي تُعدُّ من معاني النحو :

فقوله: "إن المعاني، وإنْ كان لا بدّ منها، فلا تظهر فيها المزية"، يقصد بالمعاني هنا: الموضوعات، وليس المعاني التي بين الكَلِم، وهذا واضح من سياق الكلام الذي بعده: "نجد المعبّرَين عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من الآخر والمعنى متفق"، أي أن الفكرة أو الموضوع المعبَّر عنه واحد، ثم يتنافس المتنافسون في التعبير عنه بطرق مختلفة تتفاوت في ميزان الفصاحة، وكذلك حديثه عن التحدي، فهو يقصد أن الموضوعات ليست هي محل التحدي.

وهذا الذي قاله عبد الجبار قاله كذلك عبد القاهر: "وقد أردت أن أكتب جملة من الشعر الذي أنت ترى الشاعِرَين فيه قد قالا في معنى واحد، وهو ينقسم قسمين: قسمٌ أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى بالمعنى غُفلاً ساذجاً، وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتُعجِب، وقسم أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى وصوّر"(29).

وقال في التحدي: ". . . فإن التحدي كان إلى أن يجيئوا في أيّ معنى شاءوا من المعاني، بنظم يبلغ نظم القرآن في الشرف أو يقرُب منه، يدل على ذلك قوله تعالى:قل فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13]، أي مثله في النظم، وليكن المعنى مفترىً لما قلتم، فلا إلى المعنى دُعيتم، ولكن إلى النظم"(30).

أما قول عبد الجبار: "على أنّا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد . . . " فقد ذكر له عبد القاهر تفسيرين:
الأول: أن المزية في حاقّ اللفظ، ورفض هذا التفسير ووصفه بأنه موهِم.
الثاني: أن تجعل (تزايد الألفاظ) عبارة عن المزايا التي تحدث من توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، ويرى أنه المعنى الصحيح الوحيد الذي يمكن أن تُحمل عليه هذه العبارة، وقد افترض أن عبد الجبار عنى التفسير الأول، وافتراضه هذا ينسجم مع تفسيراته السابقة لكلام القاضي.

بيد أن عبد الجبار نفى صراحة أن تكون المزية للفظ، حيث يقول ـ بعد أن ذكر الوجوه الثلاثة التي تظهر بها مزية الكلام ـ : "وهذا يبين أن المعتبر في المزية ليس بنية اللفظ، وأن المعتبر فيه ما ذكرناه من الوجوه"(31)، وأرى أن قوله: "على أنّا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد . . ." يُفهم على أنه يمكن التعبير عن المعنى الواحد بصور متعددة، تتزايد تبعاً للوجوه التي ذكرها، وهذا المفهوم لا يتعارض مع فكرة النظم.
~*¤ô§ô¤*~~*¤ô§ô¤*~​


بات واضحاً الآن أن عبد الجبار لم يقصد إثبات المزية للفظ، بل أكّد ـ في أكثر من موضع ـ أن المزية ثابتة للوجوه الثلاثة التي ذكرها، والتي تدخل في باب أحكام النحو، وبهذا يبطل السبب الذي من أجله نفى عبد القاهر أن يكون عبد الجبار قصد من كلامه إثبات المزية لمعاني النحو.

وإذا بطل السبب بطلت النتيجة المبنية عليه، فيثبت أن عبد الجبار قصد من كلامه إثبات المزية لمعاني النحو، وإنْ لم يسمها بهذا الاسم.
*·~-.¸¸,.-~**·~-.¸¸,.-~*​

أردتُ من هذه المناقشة أن أصل إلى الحقيقة في قضيتين:
الأولى : هل اعتمد الشيخ عبد القاهر أقوال القاضي عبد الجبار، وبنى عليها، كما هو شائع عند الدارسين ؟
الثانية : إنْ لم يكن اعتمدها، فهل هذا ينفي فضل القاضي عبد الجبار في تطوير فكرة النظم ؟


ووصلتُ إلى أن الشيخ عبد القاهر رفض أقوال القاضي عبد الجبار، ورأى أنها مخالفة لرؤيته للنظم التي تقوم على توخي معاني النحو، فما عليه أكثر الدارسين (وهو أن عبد القاهر أفاد من عبد الجبار) مخالف للحقيقة الثابتة التي تنطق بها صفحات كتاب (الدلائل)، فالشيخ نفسه ينفي صحة أقوال القاضي، فكيف له أن يستعين بها ويطوّرها ؟!
هذا ما يتعلق بالقضية الأولى.
أما القضية الثانية، فوصلتُ بها إلى أن الشيخ عبد القاهر إنْ لم يحمل كلام القاضي على المحمل الذي يجعله إطاراً نظرياً لفكرة النظم التي بلورها وأخرجها في صورتها النهائية، وإنْ لم يرَ أن القاضي قصد إثبات المزية لمعاني النحو، فإن هذا لا ينفي أن القاضي أثبت المزية ـ حقيقة ـ لمعاني النحو، وإنْ لم يذكرها بالاسم الذي أطلقه عبد القاهر، ولا ينفي أنه خطا بالنظم خطوة متقدمة، فلا يمكننا أن نغفل فضله، وننسى جهده.


[line]
(1) "الفصاحة التي أشار إليها القاضي ليست هي الفصاحة التي استقر عليها علماء البلاغة المتأخرون، وهي التي تكون وصفاً للكلمة أو الكلام، وذلك بخلوّه من العيوب كالغرابة والثقل ومخالفة قواعد اللغة، إنما الفصاحة التي عناها القاضي تشمل في مفهومنا نظم الكلمات بعضها مع بعض، وهي ملحوظة قيّمة، وخطوة ذات شأن خطاها في إبراز نظرية النظم". فضل عباس، إعجاز القرآن الكريم، ص(62).
(2) عبد الجبار الهمذاني، المغني، (197:16).
(3) عبد الجبار الهمذاني، المغني، (199:16).
(4) ينظر: شوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ، ص(118).
(5) محمد أبو موسى، البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري، وأثرها في الدراسات البلاغية، ص(128)، وينظر: وليد مراد، نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني، ص(39)، وعبد الله عنبر، نظرية النظم عند العرب، ص(59)، رسالة دكتوراة، الجامعة الأردنية.
(6) أشار الشيخ محمود شاكر إلى هذا في المقدمة التي صدّر بها كتاب (دلائل الإعجاز)، ص(ب)، ولم أجد أحداً أشار إلى هذا غيره.
(7) ينظر: الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص(465).
(8) السياق هنا: "وأنّا إنْ بقينا الدهر نجهد أفكارنا . . . طلبنا ما كل محال دونه".
(9) والسياق هنا: "وإذا ثبت أنه في النظم، وكنا قد علمنا . . . فقد بان وظهر" ، وهو جواب (إذا) في صدر الجملة.
(10) السياق: "بان وظهر أن المتعاطي. . . في عمياء من أمره".
(11) يعني بقوله: "المتعاطي القول في النظم" و"الزاعم أنه يحاول بيان المزية. . . وهو لا يعرض فيما يعيده ويبديه للقوانين والأصول التي قدمنا ذكرها. . . في عمياء من أمره، وفي غرور من نفسه"، يعني بهذا كله المعتزلي الكبير القاضي عبد الجبار، وما كتبه في المغني (197:16) وما بعده؛ لأنه هو الذي استخدم لفظ (النظم ) فأَكْثَرَ، ولم يخرج بطائل. (تعليق الشيخ محمود شاكر).
(12) الجرجاني، الدلائل، ص(391-393).
(13) إنما يعني بهذا كله القاضي عبد الجبار.
(14) هذا لفظ القاضي عبد الجبار بنصه في المغني (199:16)، (فصل في الوجه الذي له يقع التفاضل في فصاحة الكلام).
(15) الجرجاني، الدلائل، ص(393-395).
(16) الأُخذة: أصلها ضرب من التمائم، تُؤَخِّذُ المرأة به زوجها عن النساء غيرها، وهو من السحر.
(17) هذا نص القاضي عبد الجبار.
(18) السياق: "وإذا كان كل واحد قد أعطى . . . كان واجباً . . .".
(19) الجرجاني، الدلائل، ص(466،467).
(20) أهل النظر: هم المتكلمون، ويعني بهم هنا المعتزلة، وقولهم هذا هو نصّ كلام القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه (المغني)، (199:16)، بعنوان: "فصل في الوجه الذي له يقع التفاضل في فصاحة الكلام".
(21) الجرجاني، الدلائل، ص(63،64).
(22) المرجع السابق، ص(395).
(23) عبد الجبار الهمذاني، المغني، (199:16).
(24) المرجع السابق، (16: 208).
(25) الجرجاني، الدلائل، ص(393).
(26) السبب ـ كما يرى عبد القاهر ـ أن عبد الجبار طلب المزية في اللفظ.
(27) ينظر: عبد الجبار الهمذاني، المغني، (222:16).
(28) المرجع السابق، (224:16).
(29) الجرجاني، الدلائل، ص(489).
(30) عبد القاهر الجرجاني، (الرسالة الشافية)، ضمن (ثلاث رسائل في إعجاز القرآن)، ص(141).
(31) عبد الجبار الهمذاني، المغني، (199:16).
 
ملاحظات عابرة

ملاحظات عابرة


هذا شكر عميم مع تحية عرفان للأستاذة / روضة ؛ فقد قرأنا في هذا التحليل فهما وعمقا لقضية النظم التي شغلت البلاغيين زمنا طويلا ، وإن كنت أتحفظ على بعض ما جاء في تفسير نقاط القضية ، ولعلي أعرض لهذا في وقت لاحق إن شاء الله ، والذي أبديه الآن شيء علق بالذاكرة من المقروء ومن المسموع ؛ من ذلك :
1 ـ الألفاظ (مستند ) و (استند ) و ( الاستناد ) ونحوها : ليس معناها اتخاذ هذا الشيء أساسا ينبني عليه غيره ، إنما الاستناد إلى الشيء الاتكاء عليه والتعاضد لئلا يتهاوى المُسْتنِد ، وهو من المعاني التي تؤخذ من السياق فلم يُنصَّ عليه في اللسان - مثلا - وعلى هذا يتضح مراد البلاغيين من قولهم : ( إن الشيخ عبد القاهر استند إلى أو على كلام القاضي عبد الجبار في صياغة نظريته في النظم ) بأن عبد القاهر اتكأ على كلام عبد الجبار إما بالموافقة وإما بالمخالفة ؛ أي أن عبد القاهر تناول كلام عبد الجبار بالدرس والتفسير فوافقه في بعض وخالفه في بعض . هذا هو الذي قرأناه في كلام شيخنا محمود محمد شاكر في كتابه ( مداخل إعجاز القرآن ) ، ونتائج بحث الأستاذة روضة تؤيد هذا الاتجاه في تفسير كلام البلاغيين إن شاء الله .
2 ـ قول الأستاذة : ( ثم لم يتوخاها في معاني النحو ) لعل القصد ( لم يتوخها ) وهو الصواب ، فحدث سبق الضغط على ألف غير مرغوب فيها ‘ فلزم التنويه ولكم الشكر سلفا .
 
لعل الرجوع إلى السفر الجليل "القاضي عبد الجبار وأثره في الدراسات القرآنية" يفيد في هذه القضية
 
شكر الله لكما مروركما..

الأستاذ منصور مهران..
ما قصدتُه باستخدامي للفظة (الاستناد)، هو المعنى المتبادر من اللفظة، وهو قبول الشيء، واتخاذه أساساً، ثم البناء عليه، وهذا ما يُفهم من سياق كلام الباحثين الذين أردت مناقشة صحة قولهم، فبغض النظر عن الألفاظ التي استعملوها ـ فقد لا نجد فيها كلمة (الاستناد) ـ فإن ما يُفهم من كلامهم أن الشيخ عبد القاهر قَبِل كلام القاضي عبد الجبار، وأفاد منه، وبنى عليه.
وهذا ما أردت دراستَه والبحثَ عنه.

وأنا في انتظار تحفظاتكم وملاحظاتكم للإفادة منها، وشكراً على التصويب.
 
ما زلت في انتظار ملاحظاتكم، وآرائكم، وخاصة الأستاذ منصور مهران.
وجزاكم الله خيراً
 
قرأت هذه المشاركة النافعة مرات ، وقد ظهر لي مبالغة عبدالقاهر الجرجاني (ت471هـ) في الرد على ما قاله الهمذاني ، وهذا الرد والتفنيد ليس دليلاً على عدم تأثره بالقاضي عبدالجبار الهمذاني ؛ إذ إن الشأن في اقتباس الأفكار والنظريات فيه من الخفاء في أحيان كثيرة ما يصرف نظر الدارس عن التنبه له ، أو الالتفات إليه. فقد يأخذ أحدهم الفكرة من خطأ فكرة لم يرتضها ، ويكتشف من بين الخطأ صواباً كثيراً دله عليه الخطأ ، وقد أفاض الدكتور محمد أبو موسى في بعض كتبه في هذه المسألة .
وعبدالقاهر قد بالغ في الإزراء والرد على القاضي عبدالجبار الهمذاني في قوله الأول الذي نقله مبتوراً ، في حين إنه لم يبعد كثيراً عن الرأي الذي رده ، بل إنه هو هو لو أكمل نقل النص .
ثم إنك لو تأملت في الأمر لوجدت الهمذاني مسبوقاً بآخرين أمثال الجاحظ وابن قتيبة في الحديث عن هذا الأمر ، والجاحظ مسبوق بغيره من الأدباء الذين نقل الجاحظ كلامهم في البيان والتبيين كبشر بن المعتمر وغيره ، فإعادة فضل الكلام وتفاضله إلى نظمه أمر غير خافٍ على الأدباء والشعراء قبل عصر الهمذاني والجرجاني . وإنما نسب ذلك المتأخرون للجرجاني باعتباره قد أفاض وأعاد وأبدى فيه في كتبه وخاصة دلائل الإعجاز ، فاستحق هذا الاختصاص بنسبة نظرية النظم إليه .
وفي الحق إن عبدالقاهر الجرجاني رحمه الله قد استفاد كثيراً من كتابات عبدالجبار الهمذاني دون أدنى إشارة إليه باسمه مع ذكره لآخرين أقل أثراً منه ، مثل الجاحظ وابن الأنباري والأصمعي والمرزباني وسيبويه وأبي علي الفارسي ، وإن كان يظهر للدارس المتتبع أن عبدالجبار الهمذاني هو صاحب ذلك الكلام . ولستُ أدري سبب إغفال عبدالقاهر الجرجاني لذكر عبدالجبار الهمذاني !
وليس هناك ما يثبت لقاء الجرجاني للهمذاني ، وإن كان ممكناً ، حيث توفي عبدالجبار عام 415هـ ، وعبدالقاهر الجرجاني قد أدرك القاضي علي بن عبدالعزيز الجرجاني المتوفى سنة 392هـ ، وأخذ عنه ، وكان يفتخر بذلك كما يقال . وبين وفاة علي الجرجاني ووفاة عبدالجبار 23 سنة ، وهي كافية إن صحت للأخذ عن عبدالجبار ، ولكن لا أعرف دليلاً يثبت أخذ عبدالقاهر عن عبدالجبار ، ولا سيما إذا علمنا أن عبدالقاهر لم يغادر بلده جرجان ، ولم يرحل منها حتى توفي .
وقد ظهر لي هذا الرأي منذ قرأتُ هذه المشاركة إبان طرحها ، غير أن تريثت في طرحه حتى أراجع رسالة عبدالفتاح لاشين ، وكانت بعيدةً عني في مكتبتي ، فلما راجعتها قبل أيام اطمأننت لما ذهبت إليه ، وهذا ما وجدته في الرسالة حول الموضوع.
رجعتُ إلى رسالة الدكتور عبدالفتاح لاشين التي كتبها عام 1393هـ بعنوان (بلاغة القرآن في آثار القاضي عبدالجبار وأثره في الدراسات البلاغية) فوجدته قد أفرد لهذه المسألة صفحات طوال ، وأظنك أختي الكريمة لو رجعتِ لهذا الكتاب لوجدت فيه أدلة مقنعةً على تأثر عبدالقاهر الجرجاني بآراء عبدالجبار الهمذاني ، وسأنقل مقتطفات من أقوال عبدالفتاح لاشين حول هذه المسألة .
في الباب الرابع من الكتاب الذي عنونه بـ : مدرسة عبدالجبار البلاغية . ويشتمل على فصول ستة :
1- عبدالقاهر الجرجاني وتأثره بالقاضي عبدالجبار . وقد استغرق هذا الفصل من صفحة 485 إلى صفحة 531 . ومما قاله في هذا الموضوع :
قال ص 506 : (ثم أخذ عبدالقاهر بعيب معاصريه من العلماء الذين توهم أنهم فهموا النظم على خلاف ما يفهم ، وأخذ ينقل آثارهم مبتورة ، ويرد عليهم أقوالهم في غير تروٍّ ولا تؤدة ، بل أخذ يكيل لهم التهم واحدة تلو الأخرى وهم منها براء كما سنبين ..).

قال ص 508 :( وبعد أن لخصنا وجه الإعجاز عند عبدالقاهر وعرفنا أنه لا يعد وجهاً له سوى النظم ، وعرضنا بعض أقواله في ذلك نستسمح القارئ أن نعيد عليه في مقابل تلك النصوص نصوص القاضي عبدالجبار لنرى بالدليل ، ونتأكد أن القاضي عبدالجبار كان هو المشعل الذي أضاء لعبدالقاهر الطريق ، وكان هو الهادي الذي هداه السبيل ، وهو رائد الفكرة التي بنى عليها عبدالقاهر نظريته في الإعجاز).

قال ص 508 :(عرضنا لرأي عبدالقاهر ونظريته في الإعجاز ، وصورنا نظرية عبدالجبار وما يراه فيه ، ومن خلال المقارنة بين كلامهما السابق والمشار إليه ، نجد أن الفرق بينهما ينحصر في الفرق بين الإجمال في الفكرة ، والتفصيل فيها ، وبين الإيجاز في العرض من جهة والإطناب والإيضاح فيه من جهة أخرى .
فعبدالجبار كان رائداً وسابقاً ، وعبدالقاهر كان موضحاً ومبيناً).


قال ص 521 :(إننا حين نعيد المبتور من النص السابق الذي تركه عبدالقاهر نرى أن عبدالجبار قصد بما قال نفس ما قصد عبدالقاهر من أن النظم هو عبارة عن معاني النحو ، إلا أن عبدالقاهر كان جيد التوصيل فالتقط هذا وأعمل عقله وفنه وذوقه في كلام عبدالجبار ، وخرج بنظريته المتكاملة التي نحمده عليها ويحمده كتاب العربية وعلماء البلاغة).
وقال ص 522 :( ثم إن كلمة الضم عند عبدالجبار ، أليست هي النظم عند عبدالقاهر ؟
وليس مطلق الضم هو المقصود كما شوهه عبدالقاهر ، وإنما المراد الضم على طريقة مخصوصة وهذه الطريقة المخصوصة حددها عبدالجبار وجعلها من جهات ثلاث : وضع الكلمة في اللغة ، ثم موقعها من الإعراب ، ثم موقعها في الجملة ، أليست هذه هي معاني النحون عند عبدالقاهر ؟ ... فنرى أن عبدالجبار ابتكر الفكرة وبدأ الطريق وأضاء المشعل ، واستغل ذلك كله عبدالقاهر ، وتلقف الفكرة وواصل السير ، فتولى شرح ذلك وتفصيله ، وضرب الأمثلة والاستشهاد بالشواهد)...


ومن أراد التفصيل فعليه بكتاب الدكتور عبدالفتاح لاشين ففيه تفاصيل جيدة ، حول هذا الموضوع .
وأختم مرة أخرى بشكر الأخت الباحثة روضة على إثارتها هذه المسألة البلاغية ، وأود الإشارة إلى مسألة الأفكار وانتقالها وتطورها والزيادة عليها ، وأخذ جوانب خفية منها والبناء عليها بناء جديداً لا يرى البعض فيه أي أثر للمأخذ الذي أخذت منه ، وقد حفلت كتب السرقات الشعرية بأمثلة كثيرة لأخذ الشعراء بعضهم من بعض أخذاً خفياً دقيقاً باعترافهم هم ، ومن أجمل ما قرأته في ذلك كتاب أبي الحسن الحاتمي (الموضحة في بيان سرقات المتنبي) ففيه فرائد بديعة من هذا الباب .
وهناك مسألة أخرى ، وهي أن بعض الباحثين أثبت تأثر عبدالقاهر بعبدالجبار كالدكتور شوقي ضيف والدكتور أبو موسى وعبدالفتاح لاشين وغيرهم ، وهناك من زعم أن عبدالقاهر أخذ نظرية النظم من أرسطو وهو طه حسين في مقدمته لكتاب نقد النثر الذي نسب خطأ لقدامة بن جعفر ، وزعم محمد خلف الله أن الجرجاني تأثر بأرسطو ولكن بكتابه الشعر . وذهب الدكتور أحمد بدوي إلى أن الجرجاني تأثر في نظريته بالجاحظ ، وذكر الدكتور بدوي طبانة أن فكرة النظم من اختراع أبي عبدالله محمد بن زيد الواسطي المتكلم المتوفى سنة 307هـ مع إن كتابه مفقود . فآراء المعاصرين مختلفة في هذه المسألة كما ترون . وعبدالقاهر الجرجاني نفسه يعترف بفضل السابقين في إظهار مزية النظم ، وأنه هو المعتبر في تفاضل الكلام ، غير أنه زاد عليهم بإكثاره من الأمثلة والشواهد حتى نسبت النظرية إليه .
 
جزاك الله خيرا يا دكتور عبد الرحمن فقد سبقت بالفضل وأربيت لا فض فوك . وأود الإشارة إلى أن كتاب الدكتور لاشين من الكتب التي تستحق القراءة.
 
لقاء لا يثبت

لقاء لا يثبت

إلى أخي العالم الجليل الدكتور عبد الرحمن الشهري تحيتي وتشوقي للقائه ، وبعد ،
فمسألة اللقاء أو التلقي الذي ينسب إلى عبد القاهر الجرجاني من عبد العزيز الجرجاني ، لا تثبت إلا بدليل ، وقد نفاها فارق الزمن بين الرجلين ، والفارق الكبير بين وفاتيهما كان مستند الذين نفوا هذا اللقاء أو هذا التلقي ، وكنت كتبت شيئا من هذا يوم دارت المناقشة حول التفسير المنسوب إلى عبد القاهر ، فالمسألة لا تزال في دائرة البحث عن دليل قاطع مع أن الأدلة النافية أوشكت أن تبلغ حد اليقين ، والله الموفق والمعين .
 
الدكتور الفاضل عبد الرحمن الشهري،
بارك الله فيكم على هذا الرد القيّم، فقد وجدت فيه ما يشفي الغليل ويجلّي الفكرة، وخاصة ما جاء في الفقرة الأولى، ففيها ما يحل الإشكال، وهو قولكم:

وقد ظهر لي مبالغة عبدالقاهر الجرجاني (ت471هـ) في الرد على ما قاله الهمذاني ، وهذا الرد والتفنيد ليس دليلاً على عدم تأثره بالقاضي عبدالجبار الهمذاني ؛ إذ إن الشأن في اقتباس الأفكار والنظريات فيه من الخفاء في أحيان كثيرة ما يصرف نظر الدارس عن التنبه له ، أو الالتفات إليه. فقد يأخذ أحدهم الفكرة من خطأ فكرة لم يرتضها ، ويكتشف من بين الخطأ صواباً كثيراً دله عليه الخطأ.
أما كتاب د. عبد الفتاح لا شين فقد بدأت بقراءته قبل سنوات لكني لم أكمله، وسأستأنف القراءة فيه قريباً إن شاء الله.

أكرر شكري لكم على إفادتكم وعمق نظرتكم . . . جزاكم الله خيراً.
 
حبذا قراءة الفصل الماتع الذي سطره يراع استاذنا العلامة محمد محمد ابو موسى في كتابه القيم مراجعات في اصول الدرس البلاغي فهو مهم في هذا الجانب
 
أخي العزيز الدكتور جمال أبو حسان : وأنت كذلك جزاك الله خيراً ، ونحن من تلاميذكم بارك الله فيكم ، وأتفق معك في جودة كتاب الدكتور عبدالفتاح لاشين في موضوعه . وأما كتاب (مراجعات في اصول الدرس البلاغي ) الذي نسبتموه للأستاذ الدكتور محمد أبو موسى فلم أطلع عليه مع حرصي على كتبه وبحوثه ، فهل هو كتاب قائم برأسه ، أم هو فصل في أحد كتبه المطبوعة ؟

أخي العزيز الأستاذ الجليل منصور مهران : أحسن الله إليك فقد بالغتَ في وصفي كعادتك بما لا أستحقه لقلة علمي ، وصغر سني ، ولكن أسأل الله أن يوفقنا جميعاً للعلم النافع والعمل الصالح ما بقينا ، وأن يغفر لنا الزلل والخطأ وما أكثره ، وأما ما تفضلتم به حول لُقيِّ عبدالقاهر الجرجاني للقاضي علي بن عبدالعزيز الجرجاني فقد كتبته من الذاكرة حيث قرأت ذلك في بعض كتب التراجم ، ورأيكم عندي أقوى من رأيي لسعة اطلاعكم ودقة نظركم ، وسأكون شاكراً لو أفدتمونا حول هذه المسألة إن كان في وقتكم متسع ، وسأراجع الأمر أيضاً طلباً للفائدة أحسن الله إليكم وبارك في علمكم .

الأخت الكريمة الباحثة الموفقة روضة : شكر الله لك حسن أدبك وتعقيبك ، وقد انتفعتُ بما كتبتهِ في هذا الموضوع ، ودفعني ذلك للمراجعة والقراءة ، ودمتِ موفقة لكل خير ، وحياة العلم في مذاكرته والبحث الدائم في مسائله ومراجعه .
 
كتاب مراجعات في اصول الدرس البلاغي كتاب قائم براسه ويقع في قرابة 320 صفحة وهو مطبوع في مكتبة وهبة بمصر في سنة 2005
وتقبل تحياتنا يا شيخ عبد الرحمن اكرمكم الله
 
جزاك الله خير الجزاء يا أبا محمد على هذه الفائدة ، وسأسعى للحصول على هذا الكتاب بإذن الله أحسن الله إليك وإلي الدكتور محمد أبو موسى فطالما انتفعتُ بكتبه .
 
بارك الله فيكم على هذا الموضوع المتميز والردود المفيدة النافعة التي ننتفع بها في تخصصنا في اللغة العربية والبلاغة ، وليتكم تبرزونها في ركن خاص أو قسم خاص ليسهل الاطلاع عليها في الملتقى .
 
وقفة تقدير للأخت
روضه
ولجميع المشاركين في هذا الموضوع وعلى رأسهم د/الشهري
نعم والحق الفصل فيما ذكر من ان كتاب مراجعات في أصول الدرس البلاغي للعلامة أبوموسى
حيث هو من أجمل الكتب التي اشتريتها مؤخرا من مكتبة العبيكان

واأنا مع الدكتور ابو موسى حيث ذكر في الفصل الخاص بهذه المسألة
انه تبين له أن عبد القاهر لم يقرأ لعبد القاهر أصلا
ولذلك هاجمه
وإنما كان نقده له ورده لإراءه
عن طريق أشياعه من المعتزلة وما فهموه عنه ونقلوه
حيث أنهما -- عبدالقاهر وعبدالجبار--- إلتقيا في عدد من الأمور وكان الجرجاني يرد اشياء ردها من قبله عبد الجبار
واثبت ابوموسى رعاه الله
ذلك
وقد أشقى غليلي فقد كنت اتسأل أن بين ما قاله عبدالقاهر في النطم
وبين ما قاله غبد الجبار في الضم سيان
والقول عندي هو قول علامتنا ابو موسى حفظه الله

الاخت روضة كم أنا عطشى لمثل هؤا الموضوع
 
لنفتح موضوع تاثر عبد القاهر الجرجاني بالقاضي عبد الجبار

لنفتح موضوع تاثر عبد القاهر الجرجاني بالقاضي عبد الجبار

ويمكننا ان نطرح من جديد هذا التساؤل
هل يمكن ان يكون الذي اثر في الشيخين -بغض النظر عما قيل في شانهما تاثرا- هو الخطابي الذي يعد من السابقين في تقرير موضوع النظم عندما اشار اليه اشارة واضحة لا تحتمل التاويل وذلك في رسالته بيان اعجاز القران؟
ادع السؤال لهمة الباحثين الفضلاء في هذا الملتقى وانتظر ثراء مشاركاتهم
 
عودة
أعلى