بسم الله الرحمن الرحيم
هذه دراسة لآراء القائلين بأن الشيخ عبد القاهر أفاد من القاضي عبد الجبار في تطوير نظرية النظم، أرجو من الأساتذة أصحاب الاهتمام بهذا الموضوع إبداء آرائهم، وتصويب ما يرونه خطأ، مع الشكر سلفاً لكل من سيتجشم عناء القراءة والنقد.
[line]هذه دراسة لآراء القائلين بأن الشيخ عبد القاهر أفاد من القاضي عبد الجبار في تطوير نظرية النظم، أرجو من الأساتذة أصحاب الاهتمام بهذا الموضوع إبداء آرائهم، وتصويب ما يرونه خطأ، مع الشكر سلفاً لكل من سيتجشم عناء القراءة والنقد.
هل أفاد الشيخ عبد القاهر من القاضي عبد الجبار
حين حدث القاضي عبد الجبار الهمذاني عن الفصاحة(1)، وضّح مجالاتها، وبيّن أن الكلام يكون فصيحاً بجزالة لفظه وحسن معناه(2)، ثم قال: "واعلم أن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضمّ على طريقة مخصوصة، ولا بدّ مع الضمّ أن يكون لكل كلمة صفة، وقد يجوز في هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التي تتناول الضمّ، وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع، وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع؛ لأنه إما أن تعتبر فيه الكلمة، أو حركاتها، أو موقعها. ولا بدّ من هذا الاعتبار في كل كلمة، ثم لا بدّ من اعتبار مثله في الكلمات، إذا انضم بعضها إلى بعض؛ لأنه قد يكون لها عند الانضمام صفة، وكذلك لكيفية إعرابها وحركاتها وموقعها، فعلى هذا الوجه الذي ذكرناه إنما تظهر مزية الفصاحة بهذه الوجوه دون ما عداها.
فإنْ قال: فقد قلتم في أن جملة ما يدخل في الفصاحة حسن المعنى، فهلا اعتبرتموه ؟ قيل له: إن المعاني وإنْ كان لا بدّ منها، فلا تظهر فيها المزية وإنْ كان تظهر في الكلام لأجلها؛ ولذلك نجد المعبِّرَين عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من الآخر والمعنى متفق . . . على أنّا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد، فإذن يجب أن يكون الذي يُعتَبَر: التزايد عند الألفاظ التي يُعبّر بها عنها . . . فإذا صحَّت هذه الجملة فالذي تظهر به المزية ليس إلا الإبدال الذي به تختص الكلمات أو التقدّم والتأخر الذي يختص الموقع، أو الحركات التي تختص الإعراب، فبذلك تقع المباينة.
ولا بدّ من الكلامين اللذين أحدهما أفصح من الآخر أن يكون إنما زاد عليه بكل ذلك أو ببعضه، ولا يمتنع في اللفظة الواحدة أن تكون إذا استعملت في معنى تكون أفصح منها إذا استعملت في غيره، وكذلك فيها إذا تغيّرت حركاتها، وكذلك القول في جملة من الكلام"(3).
نسب كثير من الباحثين أصل نظرية النظم إلى القاضي عبد الجبار، ورأوا أن الشيخ عبد القاهر أفاد منه، وبنى على كلامه وطوّره، فمثلاً يقول الأستاذ شوقي ضيف إن عبد الجبار وقف على معنى النظم، فله أصل النظرية، وفضل السَّبق والابتكار يُنسب إليه، وعبد القاهر له فضيلة تفسيرها تفسيراً دقيقاً، بحيث أصبح فعلاً صاحبها الذي صوّرها وطبقها واستخرج على أساسها علم المعاني المعروف بين علوم العربية(4).
ويقول د. محمد أبو موسى ـ بعد أن سرد كلام القاضي عبد الجبار السابق ـ: "وتتكرر في دراسة عبد القاهر كلمة (الضمّ) الواردة هنا، كما تتكرر كذلك كلمة (المزية)، والنظر في الكلمة من حيث إعرابها وموقعها وإبدالها، جزء هام في دراسة عبد القاهر، وقول عبد الجبار: "على أنّا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد ، فإذن يجب أن يكـون الذي يُعتَبر : التزايد عند الألفـاظ"، من الكلام المشهور في دلائل الإعجاز"(5).
تبنّى كثير من الباحثين هذه الفكرة، معتمدين عبارتَين وردتا في كلام القاضي عبد الجبار:
العبارة الأولى: "واعلم أن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة".
العبارة الثانية: "على أنّا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد، فإذن يجب أن يكون الذي يُعتبر: التزايد عند الألفاظ التي يُعَبَّر بها عنها".
ورأى هؤلاء أن كلامَ القاضي الأساسُ النظري الذي استند إليه الشيخ عبد القاهر، وبنى عليه نظرية النظم.
هذا ما عليه أكثر الدارسين للنظرية، غير أنه مخالف لحقيقة الأمر، فالشيخ عبد القاهر لم يرتضِ أقوال القاضي ـ وبخاصة هاتين العبارتين ـ(6) ، فكيف يستند إليها ؟ !
لقد تتبع الشيخ أقواله، وشدّد الرد عليها، وكأنه أخذ على عاتقه إبطالها، وإثبات فسادها، فقد رأى أن هذه الأقوال تتعارض مع فكرة النظم التي تقوم على توخّي معاني النحو، ووَصَفَها بأنها بيّنة التهافت والسقوط، وأنها فاحشة الغلط، وأن الناظر فيها لا يرى موضعاً صحيحاً، ولا يرى باطلاً فيه شوب من الحق، وزيفاً فيه شيء من الفضة، ولكن يرى الغِشّ بحتاً، والغيظ صرفاً(7).
وفيما يلي ردود الشيخ على العبارة الأولى من كلام القاضي عبد الجبار "واعلم أن الفصاحة لا تظهر في أفراد..." :
•
•
وهذا سبيل كل ما قالوه، إذا أنت تأمّلتَه تراهم في الجميع قد دُفعوا إلى جعل المزية في معاني النحو وأحكامه من حيث لم يشعروا؛ ذلك لأنه أمر ضروري لا يمكن الخروج منه"(15).
•
كانت هذه ردود الشيخ عبد القاهر على العبارة الأولى من كلام القاضي عبد الجبار، أما العبارة الثانية: "على أنّا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد . . ."، فردّ عليها بقوله: "فإنْ قيل: فماذا دعا القدماءَ إلى أن قسّموا الفضيلة بين المعنى واللفظ، فقالوا: "معنى لطيف، ولفظ شريف"، وفخموا شأن اللفظ وعظّموه حتى تبعهم في ذلك مَن بعدهم، وحتى قال أهل النظر(20): " إن المعاني لا تتزايد، وإنما تتزايد الألفاظ"، فأطلقوا كما ترى كلاماً يُوهم كل مَن يسمعه أن المزية في حاقّ اللفظ ؟
قيل له: لما كانت المعاني إنما تتبين بالألفاظ، وكان لا سبيل للمرتِّب لها والجامع شملها، إلى أن يُعلمك ما صنع في ترتيبها بفكره، إلا بترتيب الألفاظ في نطقه، تجوَّزوا فكنوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ، ثم بالألفاظ، بحذف (الترتيب)، ثم أتبعوا ذلك من الوصف والنعت ما أبان الغرض وكشف عن المراد، كقولهم: "لفظ متمكن"، يريدون أنه بموافقة معناه لمعنى ما يليه كالشيء الحاصل في مكان صالح يطمئن فيه، و"لفظ قلق نابٍ"، يريدون أنه من أجل أن معناه غيرُ موافق لما يليه، كالحاصل في مكان لا يصلح له، فهو لا يستطيع الطمأنينة فيه، إلى سائر ما يجيء في صفة اللفظ، مما يُعلم أنه مستعار له من معناه، وأنهم نحلوه إياه، بسبب مضمونه ومؤدّاه.
هذا، ومَن تعلق بهذا وشبهه واعترضه الشك فيه، بعد الذي مضى من الحجج، فهو رجل قد أنِسَ بالتقليد، فهو يدعو الشبهة إلى نفسه من ههنا وثَمَّ، ومَن كان هذا سبيله، فليس له دواء سوى السكوتِ عنه، وتركِه وما يختاره لنفسه من سوء النظر، وقلة التدبر"(21).
وقال في موضع آخر: "ومما تجدهم يعتمدونه ويرجعون إليه قولهم: "إن المعاني لا تتزايد، وإنما تتزايد الألفاظ"، وهذا كلامٌ إذا تأمّلتَه لم تجد له معنى يصحُّ عليه، غير أن تجعل "تزايد الألفاظ" عبارة عن المزايا التي تحدث من توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم؛ لأن التزايد في الألفاظ من حيث هي ألفاظٌ ونطقُ لسان ، محال"(22).
*·~-.¸¸,.-~**·~-.¸¸,.-~*
هذا هو رأي الشيخ عبد القاهر في كلام القاضي عبد الجبار، فكيف يُقال إنه استند إليه، والاستناد إلى الشيء يتضمّن قبوله، ولا يُعقل أن يرفض الشيخ عبد القاهر كلاماً ويستند إليه ـ أي يقبله ـ في آن واحد؛ لأنه بذلك يكون قد جمع بين طرفي نقيض، وهذا محال .
غير أن عدم قبول الشيخ عبد القاهر لآراء القاضي عبد الجبار لا ينفي فضل الأخير في خدمة قضية النظم، حيث يمكن مناقشة الشيخ فيما ذهب إليه:
يتلخص ما نسبه عبد القاهر إلى عبد الجبار في قضيتين:
الأولى: أن القاضي عبد الجبار زعم أنه يطلب المزية في النظم، ثم لم يتوخاها في معاني النحو، والنظم عبارة عن توخّيها فيما بين الكلم، وأنه اعترف من حيث لا يدري بأن المزية تعود إلى معاني النحو، وذلك بقوله: "إن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلمات . . . ".
الثانية: وقع القاضي عبد الجبار في القضية الأولى؛ لأنه ظنّ أن موضع المزية في (اللفظ)، بناء على أن (النظمَ) نظمُ الألفاظ، فأهمل المعاني التي بين الكلمات، ووقف على الألفاظ، كما أن قوله: " إن المعاني لا تتزايد . . . " يوهم أن المزية في حاقِّ اللفظ.
لقد حمل الشيخ عبد القاهر أقوال القاضي على محمل معين؛ ولذلك نسب إليه ما نسب، لكن باستطاعتنا أن نفسرها على غير الوجه الذي فسّرها به عبد القاهر؛ وذلك لأن أقوال عبد الجبار بمجموعها تنفي ما ذهب إليه الشيخ، فمثلاً بعد أن يذكر أن الفصاحة تظهر في الكلمات المضمومة يُعدّد وجوهاً ثلاثة تظهر بها مزية الفصاحة، يقول: "فالذي تظهر به المزية، ليس إلا الإبدال الذي به تختص الكلمات ، أو التقـدم والتأخر الذي يختص الموقع، أو الحركات التي تختص الإعراب، فبذلك تقع المباينة، ولا بدّ من الكلامين اللذين أحدهما أفصح من الآخر أن يكون إنما زاد عليه بكل ذلك أو ببعضه"(23).
ويقول: "فإنْ قال: أفيمكن حصر هذا العلم، الذي يمكن معه إيراد الكلام الفصيح، والذي يتميز به، مما فوقه في الفصاحة ودونه ؟
قيل له: قد بيّنا ذلك في الجملة، وهو أن يعلم أفراد الكلمات، وكيفية ضمّها وتركيبها ومواقعها، فبحسب هذه العلوم والتفاضل فيها، يتفاضل ما يصح منهم من رتب الكلام الفصيح"(24).
أقواله هذه تدل على أنه نسب مزية الكلام الفصيح إلى معاني النحو وأحكامه؛ وذلك لأن قوله: "ضمّ على طريقة مخصوصة" يعني ترتيب الكلمات في الجملة على نحو معين، ينتج عنه معنى مفيد، وليس ضمّاً عشوائياً، لا ترتبط فيه الكلمة بجاراتها، فيغدو الكلام مفكّكاً مجزّءاً، لا يستطيع قارئه أن يقف له على وجه، ثم اشترط وجوهاً ثلاثة مع الضمّ، تنضوي جميعها تحت أحكام النحو، فبعد أن تضم الكلمات، لا بدّ أن تراعى فيها هذه الوجوه: الإبدال، وهو انتقاء الكلمة المناسبة للسياق، وموقع الكلمة في الجملة تقديماً وتأخيراً، وحركة إعرابها التي تلقي ضوءاً على معناها.
وهذه الوجوه الثلاثة من معاني النحو التي يتميز بها نظم الكلام.
وقد اعترف الشيخ عبد القاهر بأن كلام القاضي عبد الجبار ينطوي على إثبات المزية لمعاني النحو، حين قال: "فقولهم: "بالضمّ" لا يصح أن يراد به النطق باللفظة بعد اللفظة، من غير اتصال يكون بين معنييهما؛ لأنه لو جاز أن يكون لمجرد ضمّ اللفظ إلى اللفظ تأثير في الفصاحة، لكان ينبغي إذا قيل: "ضحك"، "خرج" أن يحدث في ضمّ "خرج" إلى "ضحك" فصاحة ! وإذا بطل ذلك لم يبقَ إلا أن يكون المعنى في ضمّ الكلمة إلى الكلمة، توخي معنى من معاني النحو فيما بينهما"(25).
ولكنه يرى أن عبد الجبار دُفع إلى هذا دفعاً من حيث لا يدري، ولعل قول الأخير: إن الفصاحة تظهر "بالضم على طريقة مخصوصة" غير كافٍ بالنسبة لعبد القاهر، حيث حمله على أنه ضمّ اللفظة إلى اللفظة بغضّ النظر عن المعاني التي تربط بينها، والسبب في هذا ـ كما يقول عبد القاهر ـ أنه يطلب المزية في الألفاظ، ويهمل المعاني، فيجعل الفصاحة وصفاً للكلمات المضمومة، لا من أجل معانيها، بل من أجل أنفسها.
وإذا أبطلنا السبب الذي من أجله نفى عبد القاهر أن يكون عبد الجبار قد قصد إثبات المزيـة لمعاني النحو(26)، يمكننا أن نصل ـ من وجه آخر غير الذي فُهم من كلامه مباشرة ـ إلى أن عبد الجبار أدرك أن مزية الكلام في توخي معاني النحو، وأنه لم يُدفع إلى هذا دفعاً :
لعل عبد القاهر أيّد ما ذهب إليه ـ من أن عبد الجبار يطلب المزية في اللفظ ـ بما ورد في كتاب (المغني) ، حيث قال عبد الجبار: "فإن قال: فقد قلتم في أن جملة ما يدخل في الفصاحة حسن المعنى، فهلا اعتبرتموه ؟ قيل له: إن المعاني وإن كان لا بد منها، فلا تظهر فيها المزية، وإنْ كان تظهر في الكلام لأجلها"، واستدل على هذا بأمور: "نجد المعبِّرَين عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من الآخر، والمعنى متفق، وقد يكون أحد المعنيين أحسن وأرفع، والمعبِّر عنه في الفصاحة أدون، فهو مما لا بدّ من اعتباره، وإنْ كانت المزية تظهر بغيره"، ثم قال: "على أنّا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد، فإذن يجب أن يكون الذي يُعتَبَر: التزايد عند الألفاظ التي يُعَبَّر بها عنها على ما ذكرناه".
وفي موضع آخر نفى أن يكون التحدي بالمعاني، وبيّن أن الذي يظهر به التفاضل الوجوه الثلاثة التي ذكرها دون المعاني، وإنْ كان حسن المعاني كالشرط، وكالمؤثر في هذا الباب(27)، وقال: "كما نعلم أن حسن المعنى يؤكد كون الكلام الفصيح معجزاً، وإنْ كان لو انفرد لم يختص لهذه الصفة"(28).
قد تكون هذه الأقوال هي التي جعلت عبد القاهر يرى أن عبد الجبار قصر نظره على تعلّق الألفاظ بعضها ببعض من حيث هي ألفاظ، بعيداً عن معانيها.
ويبدو لي أن الشيخ عبد القاهر بالغ في هذا الأمر، فمَن له أدنى علم باللغة، وبتركيب الكلام يعلم أن ضمّ الكلمات بعضها إلى بعض يخضع لما تحمله الكلمات من المعاني، فكيف بالقاضي عبد الجبار، وهو العلامة المتكلم، المعروف بتصانيفه البلاغية ؟ ! ألا يعلم أن تعلّق الكلمات بعضها ببعض يكون فيما بين معانيها، لا فيما بينها أنفسها ؟
لقد حاولت أن أفهم كلام القاضي بما يتماشى مع تصريحاته التي تؤكد إثبات المزية للوجوه الثلاثة التي تُعدُّ من معاني النحو :
فقوله: "إن المعاني، وإنْ كان لا بدّ منها، فلا تظهر فيها المزية"، يقصد بالمعاني هنا: الموضوعات، وليس المعاني التي بين الكَلِم، وهذا واضح من سياق الكلام الذي بعده: "نجد المعبّرَين عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من الآخر والمعنى متفق"، أي أن الفكرة أو الموضوع المعبَّر عنه واحد، ثم يتنافس المتنافسون في التعبير عنه بطرق مختلفة تتفاوت في ميزان الفصاحة، وكذلك حديثه عن التحدي، فهو يقصد أن الموضوعات ليست هي محل التحدي.
وهذا الذي قاله عبد الجبار قاله كذلك عبد القاهر: "وقد أردت أن أكتب جملة من الشعر الذي أنت ترى الشاعِرَين فيه قد قالا في معنى واحد، وهو ينقسم قسمين: قسمٌ أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى بالمعنى غُفلاً ساذجاً، وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتُعجِب، وقسم أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى وصوّر"(29).
وقال في التحدي: ". . . فإن التحدي كان إلى أن يجيئوا في أيّ معنى شاءوا من المعاني، بنظم يبلغ نظم القرآن في الشرف أو يقرُب منه، يدل على ذلك قوله تعالى:قل فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13]، أي مثله في النظم، وليكن المعنى مفترىً لما قلتم، فلا إلى المعنى دُعيتم، ولكن إلى النظم"(30).
أما قول عبد الجبار: "على أنّا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد . . . " فقد ذكر له عبد القاهر تفسيرين:
الأول: أن المزية في حاقّ اللفظ، ورفض هذا التفسير ووصفه بأنه موهِم.
الثاني: أن تجعل (تزايد الألفاظ) عبارة عن المزايا التي تحدث من توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، ويرى أنه المعنى الصحيح الوحيد الذي يمكن أن تُحمل عليه هذه العبارة، وقد افترض أن عبد الجبار عنى التفسير الأول، وافتراضه هذا ينسجم مع تفسيراته السابقة لكلام القاضي.
بيد أن عبد الجبار نفى صراحة أن تكون المزية للفظ، حيث يقول ـ بعد أن ذكر الوجوه الثلاثة التي تظهر بها مزية الكلام ـ : "وهذا يبين أن المعتبر في المزية ليس بنية اللفظ، وأن المعتبر فيه ما ذكرناه من الوجوه"(31)، وأرى أن قوله: "على أنّا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد . . ." يُفهم على أنه يمكن التعبير عن المعنى الواحد بصور متعددة، تتزايد تبعاً للوجوه التي ذكرها، وهذا المفهوم لا يتعارض مع فكرة النظم.
~*¤ô§ô¤*~~*¤ô§ô¤*~
بات واضحاً الآن أن عبد الجبار لم يقصد إثبات المزية للفظ، بل أكّد ـ في أكثر من موضع ـ أن المزية ثابتة للوجوه الثلاثة التي ذكرها، والتي تدخل في باب أحكام النحو، وبهذا يبطل السبب الذي من أجله نفى عبد القاهر أن يكون عبد الجبار قصد من كلامه إثبات المزية لمعاني النحو.
وإذا بطل السبب بطلت النتيجة المبنية عليه، فيثبت أن عبد الجبار قصد من كلامه إثبات المزية لمعاني النحو، وإنْ لم يسمها بهذا الاسم.
*·~-.¸¸,.-~**·~-.¸¸,.-~*
أردتُ من هذه المناقشة أن أصل إلى الحقيقة في قضيتين:
الأولى : هل اعتمد الشيخ عبد القاهر أقوال القاضي عبد الجبار، وبنى عليها، كما هو شائع عند الدارسين ؟
الثانية : إنْ لم يكن اعتمدها، فهل هذا ينفي فضل القاضي عبد الجبار في تطوير فكرة النظم ؟
ووصلتُ إلى أن الشيخ عبد القاهر رفض أقوال القاضي عبد الجبار، ورأى أنها مخالفة لرؤيته للنظم التي تقوم على توخي معاني النحو، فما عليه أكثر الدارسين (وهو أن عبد القاهر أفاد من عبد الجبار) مخالف للحقيقة الثابتة التي تنطق بها صفحات كتاب (الدلائل)، فالشيخ نفسه ينفي صحة أقوال القاضي، فكيف له أن يستعين بها ويطوّرها ؟!
هذا ما يتعلق بالقضية الأولى.
أما القضية الثانية، فوصلتُ بها إلى أن الشيخ عبد القاهر إنْ لم يحمل كلام القاضي على المحمل الذي يجعله إطاراً نظرياً لفكرة النظم التي بلورها وأخرجها في صورتها النهائية، وإنْ لم يرَ أن القاضي قصد إثبات المزية لمعاني النحو، فإن هذا لا ينفي أن القاضي أثبت المزية ـ حقيقة ـ لمعاني النحو، وإنْ لم يذكرها بالاسم الذي أطلقه عبد القاهر، ولا ينفي أنه خطا بالنظم خطوة متقدمة، فلا يمكننا أن نغفل فضله، وننسى جهده.
[line]
(1) "الفصاحة التي أشار إليها القاضي ليست هي الفصاحة التي استقر عليها علماء البلاغة المتأخرون، وهي التي تكون وصفاً للكلمة أو الكلام، وذلك بخلوّه من العيوب كالغرابة والثقل ومخالفة قواعد اللغة، إنما الفصاحة التي عناها القاضي تشمل في مفهومنا نظم الكلمات بعضها مع بعض، وهي ملحوظة قيّمة، وخطوة ذات شأن خطاها في إبراز نظرية النظم". فضل عباس، إعجاز القرآن الكريم، ص(62).
(2) عبد الجبار الهمذاني، المغني، (197:16).
(3) عبد الجبار الهمذاني، المغني، (199:16).
(4) ينظر: شوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ، ص(118).
(5) محمد أبو موسى، البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري، وأثرها في الدراسات البلاغية، ص(128)، وينظر: وليد مراد، نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني، ص(39)، وعبد الله عنبر، نظرية النظم عند العرب، ص(59)، رسالة دكتوراة، الجامعة الأردنية.
(6) أشار الشيخ محمود شاكر إلى هذا في المقدمة التي صدّر بها كتاب (دلائل الإعجاز)، ص(ب)، ولم أجد أحداً أشار إلى هذا غيره.
(7) ينظر: الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص(465).
(8) السياق هنا: "وأنّا إنْ بقينا الدهر نجهد أفكارنا . . . طلبنا ما كل محال دونه".
(9) والسياق هنا: "وإذا ثبت أنه في النظم، وكنا قد علمنا . . . فقد بان وظهر" ، وهو جواب (إذا) في صدر الجملة.
(10) السياق: "بان وظهر أن المتعاطي. . . في عمياء من أمره".
(11) يعني بقوله: "المتعاطي القول في النظم" و"الزاعم أنه يحاول بيان المزية. . . وهو لا يعرض فيما يعيده ويبديه للقوانين والأصول التي قدمنا ذكرها. . . في عمياء من أمره، وفي غرور من نفسه"، يعني بهذا كله المعتزلي الكبير القاضي عبد الجبار، وما كتبه في المغني (197:16) وما بعده؛ لأنه هو الذي استخدم لفظ (النظم ) فأَكْثَرَ، ولم يخرج بطائل. (تعليق الشيخ محمود شاكر).
(12) الجرجاني، الدلائل، ص(391-393).
(13) إنما يعني بهذا كله القاضي عبد الجبار.
(14) هذا لفظ القاضي عبد الجبار بنصه في المغني (199:16)، (فصل في الوجه الذي له يقع التفاضل في فصاحة الكلام).
(15) الجرجاني، الدلائل، ص(393-395).
(16) الأُخذة: أصلها ضرب من التمائم، تُؤَخِّذُ المرأة به زوجها عن النساء غيرها، وهو من السحر.
(17) هذا نص القاضي عبد الجبار.
(18) السياق: "وإذا كان كل واحد قد أعطى . . . كان واجباً . . .".
(19) الجرجاني، الدلائل، ص(466،467).
(20) أهل النظر: هم المتكلمون، ويعني بهم هنا المعتزلة، وقولهم هذا هو نصّ كلام القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه (المغني)، (199:16)، بعنوان: "فصل في الوجه الذي له يقع التفاضل في فصاحة الكلام".
(21) الجرجاني، الدلائل، ص(63،64).
(22) المرجع السابق، ص(395).
(23) عبد الجبار الهمذاني، المغني، (199:16).
(24) المرجع السابق، (16: 208).
(25) الجرجاني، الدلائل، ص(393).
(26) السبب ـ كما يرى عبد القاهر ـ أن عبد الجبار طلب المزية في اللفظ.
(27) ينظر: عبد الجبار الهمذاني، المغني، (222:16).
(28) المرجع السابق، (224:16).
(29) الجرجاني، الدلائل، ص(489).
(30) عبد القاهر الجرجاني، (الرسالة الشافية)، ضمن (ثلاث رسائل في إعجاز القرآن)، ص(141).
(31) عبد الجبار الهمذاني، المغني، (199:16).