مساعد الطيار
مستشار
- إنضم
- 15/04/2003
- المشاركات
- 1,698
- مستوى التفاعل
- 5
- النقاط
- 38
نظرة في نشأة علوم القرآن الكريم
أثناء تعليقي على كتاب الاتقان للسيوطي ، جمعت مقدمة في تاريخ علوم القرآن ، فظهر لي في بحث النشأة معلومات جديدة من جهة تقسيم النشأة ، وطرائق العلماء في التدوين في علوم القرآن ، وما حدث لهذا المصطلح من تعدد في المرادات ، فأحببت أن تشاركوني فيها الرأي ؛ لأني سأعمد إلى تأليف كتاب مستقل في نشأة علوم القرآن الكريم ، وقد جمعت بعض الأفكار ، وسأطرح بعضها ملخصة لعلها تفيد كاتبها وقارئها ، فأقول :
إن مما يحسن تقريره أول الأمر أنني سأبحث عن مصطلح علوم القرآن كما نشأ تاريخيًّا ، وليس كما استقرَّ في أذهننا من خلال ما كتبه الزركشي ( ت : 794 ) أو السيوطي ( ت : 911 ) ؛ لأنه بسبب تصورنا عن علوم القرآن من خلال ما كتباه قد يَمُرُّ ما يعارضه فلا يُنتبه إليه ؛ لأن الأفكار المسبقة التي كوَّنَّها من خلال غلبة هذا علينا = قويةٌ ومؤثرةٌ بحيث صار العقل ينكر ما يتعارض مع هذه الأفكار أو يتجاهلها ، فإذا دخلتْ هذه الموضوعات إلى محل النقاش والجدل العلمي بان ما فيها من حاجة إلى تحرير وتنقيح .
وقد ظهر أثر استقرار المصطلح على ثلاثة أمور :
الأول : الغفلة عن تعدد إطلاقات هذا المصطلح عند العلماء ، حيث ظهر لي أنهم يطلقونه مرة على علم القراءات ، ومرة على التفسير ، ومرة على جملة علوم القرآن ، ودونك بعض الأمثلة من كتب التراجم :
1 ـ قال عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت : (( سمعت الشعبي ـ وقيل له : إن اسماعيل السدي قد أعطي حظا من علم القرآن ـ قال : إن اسماعيل قد أعطي حظا من جهل بالقرآن )) .
2 ـ عن الأصمعي قال : (( قال لي أبو عمرو : لو تهيأ لي أن أفرغ ما في صدري من العلم في صدرك لفعلت . لقد حفظت في علم القرآن أشياء لو كُتِبَتْ ما قدر الأعمش على حملها ، ولولا أن ليس لي أن أقرأ إلا بما قُرىء لقرأت كذا وكذا ، وذكر حروفًا )) معرفة القراء الكبار 1 : 103 .
3 ـ قال عمارة بن زيد المدني : (( كنت صديقا لمحمد بن الحسن ، فدخلت معه إلى الرشيد ، فسأله عن أحواله ، فقال : في خير يا أمير المؤمنين ، ثم تسارَّا ، فسمعت محمد بن الحسن يقول : إن محمد بن إدريس الشافعي يزعم أنه للخلافة أهل .
قال : فغضب الرشيد ، وقال : عليَّ به . فأُتِي به ، حتى وقف بين يدي الرشيد ، فَكَرِهَ الرشيد أن يعجل عليه من غير امتحان ، فقال له : هيه ؟ قال : وما هيه يا أمير المؤمنين ، أنت الداعي وأنا المدعو . وأنت السائل وأنا المجيب .
قال : فكيف علمك بكتاب الله ؟ فإنه أولى أن يُبتدأ به ؟ قال : جمعه الله في صدري وجعل جنبي دفتيه .
قال : فكيف علمك به ؟ قال : أي علم تريد يا أمير المؤمنين ؟ أعِلْم تأويله أم عِلْم تنزيله ؟ أم مَكِّيُّه أم مدنيُّه ؟ أم ليليه أم نهاريه ؟ أم سفريه أم حضريه ؟ أم هجريه أم عربيه .
فقال : له الرشيد : لقد ادعيت من علوم القرآن أمرا عظيما )) . تاريخ دمشق .( 51: 319 ـ 320 ) .
الثاني : عدم الاعتداد في أول مؤلَّف بما لا يحمل مصطلح ( علوم القرآن ) .
إذا كانت العبرة في مصطلح علوم القرآن بما كُتب لا بعنوان المكتوب ، فإن ( فهم القرآن ) للحارث المحاسبي ( ت : 243 ) هو أول ما دُوِّن في علوم القرآن ؛ لأنَّ موضوعاته كلها في علوم القرآن ، وهي ( فضائل القرآن ، فضائل القراء ، فقه القرآن ، المحكم والمتشابه ، النسخ ـ وهو أطولها ـ التقديم والتأخير ، الإضمار ، الحروف الزوائد ، المفصَّل والموصول ) .
أما إذا كنا نبحث عن كتاب معنون بعلوم القرآن أو أحد مرادفاته ، فإن ظهورأول مدون في علوم القرآن سيتأخر ، وفي ذلك التأخير نظر ؛ لأن الأصل مادة الكتاب وليس عنوانه فقط ، لذا عدَّ بعض الباحثين المعاصرين كتاب ( جمال القراء وكمال الإقراء ) للسخاوي ( ت : 643 ) من كتب علوم القرآن ـ وإن لم يرد في عنوانه هذا المصطلح ، لكنه يتضمن جملة من علوم القرآن المتعلقة بالإقراء ـ ، فلم لم يعدوا كتاب ( فهم القرآن ) من كتب علوم القرآن .
ومما يلاحظ على بعض الكتب التي ذكرت في عنوانها ( علوم القرآن ) أو احد مرادفاتها أنها كتب تفسير ؛ أي أنها سارت على طريقة تفسير الآيات تفسيرًا تحليليًا ، وهي لا تختلف في طريقتها عن كتب التفسير الأخرى ، ككتاب ( الجامع لعلم القرآن ) ، للرماني ( ت : 384 ) ، وكتاب (اللباب في علوم الكتاب) ، لابن عادل الحنبلي ( ت : 880 ) .
الثالث : عدم ذكر مؤلفات ـ كانت حلقة من حلقات الكتابة في علوم القرآن ـ سارت على تفسير الآيات وذكرت جملة من علوم القرآن ذكرًا مقصودًا ، وهي على نوعين :
النوع الأول : أن يكون المؤلف رتَّب كتابه ترتيبًا يُظهر بعض علوم القرآن ، كما فعل الحوفي ( ت : 430 ) ، والمهدوي ( ت : 440 ) ، وغيرهما .
وإليك مقدمة المهدوي ( ت 440 ) ، قال ـ في كتابه ( التحصيل لما في التفصيل الجامع لعلوم التنزيل ) ـ : (( وأنا مبتدئ إن شاء الله في نظم هذا المختصر الصغير ، مجتهد أن أجمع فيه جميع اغراض الجامع الكبير من الأحكام المجملة ، والآيات المنسوخة ، واحكامها المهملة ، والقراءات المعهودة المستعملة ، والتفسير والغريب والمشكل والإعراب والمواعظ والمثال والآداب ، وما تعلق بذلك من سائر علو م التنزيل المحتملة للتأويل ، ويكون المحذوف من الأصل ما أنا ذاكره في هذا الفصل فأحذفه من الحكام الذي هي أصول الحلال والحرام أكثر تفريع المسائل المنثورة مما ليس بمنصوص في السورة ، وأقتصر من ذكر الاختلاف على الأقوال المشهورة ، وأذكر الناسخ والمنسوخ بكماله وأورده مختصرًا على أتم أحواله ، وأذكر القراءات السبع في الروايات التي اقتصر عليها اهل الأمصار ، سوى من لم يبلغ مبلغهم من الاشتهار إلا ما اختلاف فيه بين السبعة القراء ، فإني أذكره منسوبًا إلى بعض من روى عنه القراء ليعرف من هذا الاختصار ما هو من القراءات المروية مما لم يُقرأ به قارئ ، وإن كان جائزًا في العربية ، وأذكر من مسائل الإعراب الخفية ما يحتاج إليه ، مما اختلف القراء فيه ، او كان جائزًا في المقاييس العقلية ، فإذا أكملت السورة من هذا المختصر جمعت في آخره أصول القراءات واختصار التعليل فيها ، وأصول مواقف القراءة ومبادئها ؛ ليجمع ـ بعون الله وتوفيقه ـ هذا الاختصار ما لم تجمعه الدواوين الكبرى ، ولتكون أغراض الجامع مضمنة فيه ، ومجملة في معانيه .
وأجعل ترتيب السور مفصلاً ، ليكون أقرب متناولاً ، فأقول : القول من أول سورة كذا إلى موضع كذا منها ، فأجمع من آيِهَا عشرين آية أو نحوها ، بقدر طول الآية وقصرها .
ثم أقول الأحكام والنسخ وأذكرهما .
ثم أقول التفسير فأذكره .
ثم اقول القراءات فأذكرها .
ثم أقول الإعراب فأذكره .
ثم أذكر الجزء الذي يليه حتى آتي على آخر الكتاب إن شاء الله على ما شرطته فيه ، وأذكر في آخر كل سورة موضع نزولها ، واختلاف اهل المصار في عددها ، وأستغني عن تسمية رؤوس آيها ، وأبلغ غاية الجهد في التقريب والقصد ... )) .
( التحصيل ، تحقيق الفاتحة والبقرة ، تحقيق علي بن محمود بن سعيد هرموش ، رسالة مرقومة على الآلة الكاتبة ص : 5 ـ 6 ) .
النوع الثاني : أن يذكر المؤلف من مقاصده الإلمام ببعض علوم القرآن ، لكنه يذكرها منثورةً خلال تفسيره للآيات ، وليس كسابقه الذي يرتب كل نوع على حده ، وإليك مثالٌ لمؤلف قصد هذا المقصد :
كتاب ( البستان في علوم القرآن ) ، لأبي القاسم هبة الله بن عبد الرحيم بن إبراهيم الجهيني الحموي ( ت : 738 )
قال الحموي : (( أما بعد : فهذا كتاب ( البستان في علوم القرآن ) ، قصدت فيه الاختصار مع البيان ، وجمع الفوائد مع الإتقان ، راجيًا به ـ لي ولمحصليه ـ الغفران ، والرحمة من الله والرضوان ، ويشتمل على أنواع من علوم الكتاب العزيز ؛ المسمى بالفرقان :
النوع الأول : معرفة تفسير غريب اللفظ والمعنى ، وأسباب النُّزول ، والقصص ، وما صحَّ من المنسوخ على ما ذهب إليه في ذلك كل من يُعتمد عليه .
النوع الثاني : معرفة المبهمات من الأسماء والأنساب ، وضمائر الغيبة والخطاب ، والعدد ، والمدد ، واختلاف الأقوال في ذلك ...
الثالث : معرفة قراءات الأئمة السبعة رحمة الله عليهم ، ولكل إمام منهم راويان ...
الرابع : معرفة الوقوف والموقوف عليه إن لم يتوقف فهمه على ما بعده وبالعكس ، فالوقف لازم إن اختلَّ المعنى بالوصل ، وتامٌّ إن لم يختل ، ولم يكن للثاني تعلق بالأول ...
الخامس : معرفة خط الإمام مصحف عثمان بن عفان ...
السادس : معرفة عدد آي كل سورة ( العدد الكوفي ) ، وكونها مكية أو مدنية أو مختلفًا فيها ، وذلك مذكور في أول كل سورة .
السابع : معرفة رؤوس الآيات وأخماسها وأعشارها ، والمختلف في كونه آية أو غير آية بين الكوفيين وغيرهم ...
الثامن : معرفة أجزائه الثلاثين وأخماسها وأنصافها وأنصاف أسداسها وأسباع القرآن وأرباع الأسباع ... )) ، ثم شرع في تفسير الاستعاذة والبسملة والفاتحة حتى ختم كتابه بتفسير سورة بالناس .
( البستان في علوم القرآن / مخطوط بمكتبة الحرم المكي ، لوحة 1 أ ـ ب ) .
ولا يعني أن هذه التفاسير تختلف في مادتها العلمية عن التفاسير السابقة ، لكن المقصود أن مؤلفيها قد رتبوها ترتيبًا متوافقًا مع أنواع علوم القرآن ، أو قصدوا ذكر جملة من علوم القرآن قصدًا مباشرًا ، وهذا مما لا يحسن إغفاله في نشأة علوم القرآن .
...............
ومن باب تتميم الفائدة في هذا الموضوع أذكر ما يأتي :
أولاً : إن هناك إضافات مرادفة لعلوم القرآن يحسن التنبه لها ، وهي ( علم القرآن ، علوم التنزيل ، علم التنزيل ، علوم الكتاب ، علم الكتاب ) إذ قد يرد في كتب التراجم أو في عناوين بعض الكتب أحد هذه الألفاظ .
ثانيًا : إن أضافة علوم للقرآن تحتمل أن يكون المراد به أي معلومة تنتسب للقرىن او تخرج منه ، ومن ثمَّ فإن علوم القرآن على هذا المعنى لا يمكن حصرها ، بل هي مما يتنامى مرة بعد مرة ، وهذا المعنى افضافي ليس هو المراد عند من كتب في علوم القرآن ، وإن كان بعضهم قد يشير إليه إشارة من باب التنبيه عليه فحسب .
ثالثًا : إنَّ علوم القرآن التي استقرَّت التسمية عليها الآن تشمل جملة العلوم :
ـ المنبثقة منه ، كعلم القراءات .
ـ أو المتعلقة به ويشترك معه فيها غيره ، إما لكونه نصَّا تشريعيًّا فتشترك معه السنة في بعض الموضوعات ؛ كالناسخ والمنسوخ والعام والخاص وغيرها من مسائل أصول الفقه .
وإما لكونه نصًّا عربيًا ، فتشترك معه علوم العربية والبلاغة ؛ كعلم غريب القرآن من جهة المعنى اللغوي ، وعلم إعجاز القرآن من جهة المعنى البلاغي .
وستلاحظ أن طرح هذه العلوم في كتب علوم القرآن قد اتخذ صورًا متعددة .
رابعًا : إن بعض الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن بعض أصحابه تشير إلى ( علوم القرآن ) ، وإن لم تبيِّن المراد به على وجه التحديد ، وإليك بعض هذه الأحاديث والآثار :
1 ـ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن العباس رضي الله عنهما لما قال : (( اللهم فقه في الدين ، وعلمه الكتاب )) رواه البخاري وغيره .
وهذا الحديث يشير إلى أن للكتاب علومًا والرسول صلى الله عليه وسلم يدعو لابن عمه في أن يعلمه الله إياها ، ولقد تحقق ذلك له ، وصار ترجمان القرآن ، وأكثر الصحابة تفسيرًا له .
2 ـ قوله صلى الله عليه وسلم : (( خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه )) رواه البخاري .
وهذا يشملُ جُملةَ علومِ القرآنِ من قراءته وحفظه وتفسيره وغيرِها ؛ لأنَّه خبر مطلقٌ غير محدَّدٍ بنوعِ من أنواع تعلُّمِ القرآنِ وتعليمه .
3 ـ من الآثار ما رواه ابن أبي شيبة بسنده عن أبي البختري عن علي قالوا : أخبِرْنا عن عبد الله .
قال : علم القرآن والسنة ، ثم انتهى ، وكفى بذلك علمًا « ( ).
وهذه الأضافات ( علم القرآن ، علوم القرآن ، علم الكتاب ، علوم الكتاب ، علم التنزيل ، علوم التنزيل ) أو ما يشير إليها في الأحاديث والآثار تحتاج إلى دراسة مستقلة ؛ لاستجلاء المراد بها .
........................
فائدة : قال ابن خير الإشبيلي ( ت : 575 ) في ( فهرسة ما رواه عن شيوخه ) : (( ذكر ما رويته عن شيوخي رحمهم الله من الدواوين المؤلفة في علوم القرآن )) ص : 23 .
وقد ذكر كثيرًا من كتب القراءت وما يتصل بها ، وكتب التفسير وغيرها ، ومما ذكر فيها ما يأتي : (( كتاب البرهان في علوم القرآن ، في مائة سفر ، لأبي الحسن الحوفي ... )) ص : 71 .
ونستفيد من هذا النقل فائدتان :
الأولى : النظر في أنواع علوم الكتب التي ضمنها ابن خير فهرسة ما رواه في علوم القرآن ، فيظهر لنا مراده بعلوم القرآن ، وهو على ما استقر عليه المصطلح عندنا .
الثاني : أن الاختلاف في تسمية كتاب الحوفي ( ت : 430 ) لازالت قائمة تحتاج إلى تحرير ، فابن خير يروي الكتاب بسنده إلى المؤلف ، ويسميه بهذا الاسم ، لا باسم ( البرهان في تفسير القرآن ) كما جاء في بعض المصادر ، وقد قال ابن خير في آخر روايته لهذا الكتاب : (( ... قال شريح بن محمد : وحدثني به أيضًا ـ إجازة ـ الفقيه أبو محمد عبد الله بن إسماعيل بن محمد بن خزرج اللخمي رحمه الله ، قال أجازني أبو الحسن علي بن إبراهيم بن علي الحوفي المقرئ النحوي جميع روايته وأوضاعه بخط يده على يدي أبي صاحب الوردة في ربيع الآخر سنة 421 )) ص 71 .
وهذ يفيد في معرفة زمن تأليف كتاب البرهان ، وانه متقدم على تاريخ هذه الإجازة .
تنبيه : ورد في مطبوعة فهرست ابن خير( الجوفي ) بالجيم ، وهو تصحيف ، والله أعلم .
أثناء تعليقي على كتاب الاتقان للسيوطي ، جمعت مقدمة في تاريخ علوم القرآن ، فظهر لي في بحث النشأة معلومات جديدة من جهة تقسيم النشأة ، وطرائق العلماء في التدوين في علوم القرآن ، وما حدث لهذا المصطلح من تعدد في المرادات ، فأحببت أن تشاركوني فيها الرأي ؛ لأني سأعمد إلى تأليف كتاب مستقل في نشأة علوم القرآن الكريم ، وقد جمعت بعض الأفكار ، وسأطرح بعضها ملخصة لعلها تفيد كاتبها وقارئها ، فأقول :
إن مما يحسن تقريره أول الأمر أنني سأبحث عن مصطلح علوم القرآن كما نشأ تاريخيًّا ، وليس كما استقرَّ في أذهننا من خلال ما كتبه الزركشي ( ت : 794 ) أو السيوطي ( ت : 911 ) ؛ لأنه بسبب تصورنا عن علوم القرآن من خلال ما كتباه قد يَمُرُّ ما يعارضه فلا يُنتبه إليه ؛ لأن الأفكار المسبقة التي كوَّنَّها من خلال غلبة هذا علينا = قويةٌ ومؤثرةٌ بحيث صار العقل ينكر ما يتعارض مع هذه الأفكار أو يتجاهلها ، فإذا دخلتْ هذه الموضوعات إلى محل النقاش والجدل العلمي بان ما فيها من حاجة إلى تحرير وتنقيح .
وقد ظهر أثر استقرار المصطلح على ثلاثة أمور :
الأول : الغفلة عن تعدد إطلاقات هذا المصطلح عند العلماء ، حيث ظهر لي أنهم يطلقونه مرة على علم القراءات ، ومرة على التفسير ، ومرة على جملة علوم القرآن ، ودونك بعض الأمثلة من كتب التراجم :
1 ـ قال عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت : (( سمعت الشعبي ـ وقيل له : إن اسماعيل السدي قد أعطي حظا من علم القرآن ـ قال : إن اسماعيل قد أعطي حظا من جهل بالقرآن )) .
2 ـ عن الأصمعي قال : (( قال لي أبو عمرو : لو تهيأ لي أن أفرغ ما في صدري من العلم في صدرك لفعلت . لقد حفظت في علم القرآن أشياء لو كُتِبَتْ ما قدر الأعمش على حملها ، ولولا أن ليس لي أن أقرأ إلا بما قُرىء لقرأت كذا وكذا ، وذكر حروفًا )) معرفة القراء الكبار 1 : 103 .
3 ـ قال عمارة بن زيد المدني : (( كنت صديقا لمحمد بن الحسن ، فدخلت معه إلى الرشيد ، فسأله عن أحواله ، فقال : في خير يا أمير المؤمنين ، ثم تسارَّا ، فسمعت محمد بن الحسن يقول : إن محمد بن إدريس الشافعي يزعم أنه للخلافة أهل .
قال : فغضب الرشيد ، وقال : عليَّ به . فأُتِي به ، حتى وقف بين يدي الرشيد ، فَكَرِهَ الرشيد أن يعجل عليه من غير امتحان ، فقال له : هيه ؟ قال : وما هيه يا أمير المؤمنين ، أنت الداعي وأنا المدعو . وأنت السائل وأنا المجيب .
قال : فكيف علمك بكتاب الله ؟ فإنه أولى أن يُبتدأ به ؟ قال : جمعه الله في صدري وجعل جنبي دفتيه .
قال : فكيف علمك به ؟ قال : أي علم تريد يا أمير المؤمنين ؟ أعِلْم تأويله أم عِلْم تنزيله ؟ أم مَكِّيُّه أم مدنيُّه ؟ أم ليليه أم نهاريه ؟ أم سفريه أم حضريه ؟ أم هجريه أم عربيه .
فقال : له الرشيد : لقد ادعيت من علوم القرآن أمرا عظيما )) . تاريخ دمشق .( 51: 319 ـ 320 ) .
الثاني : عدم الاعتداد في أول مؤلَّف بما لا يحمل مصطلح ( علوم القرآن ) .
إذا كانت العبرة في مصطلح علوم القرآن بما كُتب لا بعنوان المكتوب ، فإن ( فهم القرآن ) للحارث المحاسبي ( ت : 243 ) هو أول ما دُوِّن في علوم القرآن ؛ لأنَّ موضوعاته كلها في علوم القرآن ، وهي ( فضائل القرآن ، فضائل القراء ، فقه القرآن ، المحكم والمتشابه ، النسخ ـ وهو أطولها ـ التقديم والتأخير ، الإضمار ، الحروف الزوائد ، المفصَّل والموصول ) .
أما إذا كنا نبحث عن كتاب معنون بعلوم القرآن أو أحد مرادفاته ، فإن ظهورأول مدون في علوم القرآن سيتأخر ، وفي ذلك التأخير نظر ؛ لأن الأصل مادة الكتاب وليس عنوانه فقط ، لذا عدَّ بعض الباحثين المعاصرين كتاب ( جمال القراء وكمال الإقراء ) للسخاوي ( ت : 643 ) من كتب علوم القرآن ـ وإن لم يرد في عنوانه هذا المصطلح ، لكنه يتضمن جملة من علوم القرآن المتعلقة بالإقراء ـ ، فلم لم يعدوا كتاب ( فهم القرآن ) من كتب علوم القرآن .
ومما يلاحظ على بعض الكتب التي ذكرت في عنوانها ( علوم القرآن ) أو احد مرادفاتها أنها كتب تفسير ؛ أي أنها سارت على طريقة تفسير الآيات تفسيرًا تحليليًا ، وهي لا تختلف في طريقتها عن كتب التفسير الأخرى ، ككتاب ( الجامع لعلم القرآن ) ، للرماني ( ت : 384 ) ، وكتاب (اللباب في علوم الكتاب) ، لابن عادل الحنبلي ( ت : 880 ) .
الثالث : عدم ذكر مؤلفات ـ كانت حلقة من حلقات الكتابة في علوم القرآن ـ سارت على تفسير الآيات وذكرت جملة من علوم القرآن ذكرًا مقصودًا ، وهي على نوعين :
النوع الأول : أن يكون المؤلف رتَّب كتابه ترتيبًا يُظهر بعض علوم القرآن ، كما فعل الحوفي ( ت : 430 ) ، والمهدوي ( ت : 440 ) ، وغيرهما .
وإليك مقدمة المهدوي ( ت 440 ) ، قال ـ في كتابه ( التحصيل لما في التفصيل الجامع لعلوم التنزيل ) ـ : (( وأنا مبتدئ إن شاء الله في نظم هذا المختصر الصغير ، مجتهد أن أجمع فيه جميع اغراض الجامع الكبير من الأحكام المجملة ، والآيات المنسوخة ، واحكامها المهملة ، والقراءات المعهودة المستعملة ، والتفسير والغريب والمشكل والإعراب والمواعظ والمثال والآداب ، وما تعلق بذلك من سائر علو م التنزيل المحتملة للتأويل ، ويكون المحذوف من الأصل ما أنا ذاكره في هذا الفصل فأحذفه من الحكام الذي هي أصول الحلال والحرام أكثر تفريع المسائل المنثورة مما ليس بمنصوص في السورة ، وأقتصر من ذكر الاختلاف على الأقوال المشهورة ، وأذكر الناسخ والمنسوخ بكماله وأورده مختصرًا على أتم أحواله ، وأذكر القراءات السبع في الروايات التي اقتصر عليها اهل الأمصار ، سوى من لم يبلغ مبلغهم من الاشتهار إلا ما اختلاف فيه بين السبعة القراء ، فإني أذكره منسوبًا إلى بعض من روى عنه القراء ليعرف من هذا الاختصار ما هو من القراءات المروية مما لم يُقرأ به قارئ ، وإن كان جائزًا في العربية ، وأذكر من مسائل الإعراب الخفية ما يحتاج إليه ، مما اختلف القراء فيه ، او كان جائزًا في المقاييس العقلية ، فإذا أكملت السورة من هذا المختصر جمعت في آخره أصول القراءات واختصار التعليل فيها ، وأصول مواقف القراءة ومبادئها ؛ ليجمع ـ بعون الله وتوفيقه ـ هذا الاختصار ما لم تجمعه الدواوين الكبرى ، ولتكون أغراض الجامع مضمنة فيه ، ومجملة في معانيه .
وأجعل ترتيب السور مفصلاً ، ليكون أقرب متناولاً ، فأقول : القول من أول سورة كذا إلى موضع كذا منها ، فأجمع من آيِهَا عشرين آية أو نحوها ، بقدر طول الآية وقصرها .
ثم أقول الأحكام والنسخ وأذكرهما .
ثم أقول التفسير فأذكره .
ثم اقول القراءات فأذكرها .
ثم أقول الإعراب فأذكره .
ثم أذكر الجزء الذي يليه حتى آتي على آخر الكتاب إن شاء الله على ما شرطته فيه ، وأذكر في آخر كل سورة موضع نزولها ، واختلاف اهل المصار في عددها ، وأستغني عن تسمية رؤوس آيها ، وأبلغ غاية الجهد في التقريب والقصد ... )) .
( التحصيل ، تحقيق الفاتحة والبقرة ، تحقيق علي بن محمود بن سعيد هرموش ، رسالة مرقومة على الآلة الكاتبة ص : 5 ـ 6 ) .
النوع الثاني : أن يذكر المؤلف من مقاصده الإلمام ببعض علوم القرآن ، لكنه يذكرها منثورةً خلال تفسيره للآيات ، وليس كسابقه الذي يرتب كل نوع على حده ، وإليك مثالٌ لمؤلف قصد هذا المقصد :
كتاب ( البستان في علوم القرآن ) ، لأبي القاسم هبة الله بن عبد الرحيم بن إبراهيم الجهيني الحموي ( ت : 738 )
قال الحموي : (( أما بعد : فهذا كتاب ( البستان في علوم القرآن ) ، قصدت فيه الاختصار مع البيان ، وجمع الفوائد مع الإتقان ، راجيًا به ـ لي ولمحصليه ـ الغفران ، والرحمة من الله والرضوان ، ويشتمل على أنواع من علوم الكتاب العزيز ؛ المسمى بالفرقان :
النوع الأول : معرفة تفسير غريب اللفظ والمعنى ، وأسباب النُّزول ، والقصص ، وما صحَّ من المنسوخ على ما ذهب إليه في ذلك كل من يُعتمد عليه .
النوع الثاني : معرفة المبهمات من الأسماء والأنساب ، وضمائر الغيبة والخطاب ، والعدد ، والمدد ، واختلاف الأقوال في ذلك ...
الثالث : معرفة قراءات الأئمة السبعة رحمة الله عليهم ، ولكل إمام منهم راويان ...
الرابع : معرفة الوقوف والموقوف عليه إن لم يتوقف فهمه على ما بعده وبالعكس ، فالوقف لازم إن اختلَّ المعنى بالوصل ، وتامٌّ إن لم يختل ، ولم يكن للثاني تعلق بالأول ...
الخامس : معرفة خط الإمام مصحف عثمان بن عفان ...
السادس : معرفة عدد آي كل سورة ( العدد الكوفي ) ، وكونها مكية أو مدنية أو مختلفًا فيها ، وذلك مذكور في أول كل سورة .
السابع : معرفة رؤوس الآيات وأخماسها وأعشارها ، والمختلف في كونه آية أو غير آية بين الكوفيين وغيرهم ...
الثامن : معرفة أجزائه الثلاثين وأخماسها وأنصافها وأنصاف أسداسها وأسباع القرآن وأرباع الأسباع ... )) ، ثم شرع في تفسير الاستعاذة والبسملة والفاتحة حتى ختم كتابه بتفسير سورة بالناس .
( البستان في علوم القرآن / مخطوط بمكتبة الحرم المكي ، لوحة 1 أ ـ ب ) .
ولا يعني أن هذه التفاسير تختلف في مادتها العلمية عن التفاسير السابقة ، لكن المقصود أن مؤلفيها قد رتبوها ترتيبًا متوافقًا مع أنواع علوم القرآن ، أو قصدوا ذكر جملة من علوم القرآن قصدًا مباشرًا ، وهذا مما لا يحسن إغفاله في نشأة علوم القرآن .
...............
ومن باب تتميم الفائدة في هذا الموضوع أذكر ما يأتي :
أولاً : إن هناك إضافات مرادفة لعلوم القرآن يحسن التنبه لها ، وهي ( علم القرآن ، علوم التنزيل ، علم التنزيل ، علوم الكتاب ، علم الكتاب ) إذ قد يرد في كتب التراجم أو في عناوين بعض الكتب أحد هذه الألفاظ .
ثانيًا : إن أضافة علوم للقرآن تحتمل أن يكون المراد به أي معلومة تنتسب للقرىن او تخرج منه ، ومن ثمَّ فإن علوم القرآن على هذا المعنى لا يمكن حصرها ، بل هي مما يتنامى مرة بعد مرة ، وهذا المعنى افضافي ليس هو المراد عند من كتب في علوم القرآن ، وإن كان بعضهم قد يشير إليه إشارة من باب التنبيه عليه فحسب .
ثالثًا : إنَّ علوم القرآن التي استقرَّت التسمية عليها الآن تشمل جملة العلوم :
ـ المنبثقة منه ، كعلم القراءات .
ـ أو المتعلقة به ويشترك معه فيها غيره ، إما لكونه نصَّا تشريعيًّا فتشترك معه السنة في بعض الموضوعات ؛ كالناسخ والمنسوخ والعام والخاص وغيرها من مسائل أصول الفقه .
وإما لكونه نصًّا عربيًا ، فتشترك معه علوم العربية والبلاغة ؛ كعلم غريب القرآن من جهة المعنى اللغوي ، وعلم إعجاز القرآن من جهة المعنى البلاغي .
وستلاحظ أن طرح هذه العلوم في كتب علوم القرآن قد اتخذ صورًا متعددة .
رابعًا : إن بعض الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن بعض أصحابه تشير إلى ( علوم القرآن ) ، وإن لم تبيِّن المراد به على وجه التحديد ، وإليك بعض هذه الأحاديث والآثار :
1 ـ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن العباس رضي الله عنهما لما قال : (( اللهم فقه في الدين ، وعلمه الكتاب )) رواه البخاري وغيره .
وهذا الحديث يشير إلى أن للكتاب علومًا والرسول صلى الله عليه وسلم يدعو لابن عمه في أن يعلمه الله إياها ، ولقد تحقق ذلك له ، وصار ترجمان القرآن ، وأكثر الصحابة تفسيرًا له .
2 ـ قوله صلى الله عليه وسلم : (( خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه )) رواه البخاري .
وهذا يشملُ جُملةَ علومِ القرآنِ من قراءته وحفظه وتفسيره وغيرِها ؛ لأنَّه خبر مطلقٌ غير محدَّدٍ بنوعِ من أنواع تعلُّمِ القرآنِ وتعليمه .
3 ـ من الآثار ما رواه ابن أبي شيبة بسنده عن أبي البختري عن علي قالوا : أخبِرْنا عن عبد الله .
قال : علم القرآن والسنة ، ثم انتهى ، وكفى بذلك علمًا « ( ).
وهذه الأضافات ( علم القرآن ، علوم القرآن ، علم الكتاب ، علوم الكتاب ، علم التنزيل ، علوم التنزيل ) أو ما يشير إليها في الأحاديث والآثار تحتاج إلى دراسة مستقلة ؛ لاستجلاء المراد بها .
........................
فائدة : قال ابن خير الإشبيلي ( ت : 575 ) في ( فهرسة ما رواه عن شيوخه ) : (( ذكر ما رويته عن شيوخي رحمهم الله من الدواوين المؤلفة في علوم القرآن )) ص : 23 .
وقد ذكر كثيرًا من كتب القراءت وما يتصل بها ، وكتب التفسير وغيرها ، ومما ذكر فيها ما يأتي : (( كتاب البرهان في علوم القرآن ، في مائة سفر ، لأبي الحسن الحوفي ... )) ص : 71 .
ونستفيد من هذا النقل فائدتان :
الأولى : النظر في أنواع علوم الكتب التي ضمنها ابن خير فهرسة ما رواه في علوم القرآن ، فيظهر لنا مراده بعلوم القرآن ، وهو على ما استقر عليه المصطلح عندنا .
الثاني : أن الاختلاف في تسمية كتاب الحوفي ( ت : 430 ) لازالت قائمة تحتاج إلى تحرير ، فابن خير يروي الكتاب بسنده إلى المؤلف ، ويسميه بهذا الاسم ، لا باسم ( البرهان في تفسير القرآن ) كما جاء في بعض المصادر ، وقد قال ابن خير في آخر روايته لهذا الكتاب : (( ... قال شريح بن محمد : وحدثني به أيضًا ـ إجازة ـ الفقيه أبو محمد عبد الله بن إسماعيل بن محمد بن خزرج اللخمي رحمه الله ، قال أجازني أبو الحسن علي بن إبراهيم بن علي الحوفي المقرئ النحوي جميع روايته وأوضاعه بخط يده على يدي أبي صاحب الوردة في ربيع الآخر سنة 421 )) ص 71 .
وهذ يفيد في معرفة زمن تأليف كتاب البرهان ، وانه متقدم على تاريخ هذه الإجازة .
تنبيه : ورد في مطبوعة فهرست ابن خير( الجوفي ) بالجيم ، وهو تصحيف ، والله أعلم .