نظرة.. في مصطلح: ( قواعد التفسير ) ..

إنضم
24/04/2003
المشاركات
1,398
مستوى التفاعل
6
النقاط
38
الإقامة
المدينة المنورة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد..
فإن ضبط المصطلحات ذو أهمية بالغة ، لما له من تأثير في بيان العلوم وعلاقتها غيرها، لذلك كتب العلماء كتب التعريفات ، وحرروا المصطلحات العلمية في كثير الفنون.
وفي هذا المقال أحب الحديث عن مصطلح ( قواعد التفسير ) ،و بداية أُذَكِّرُ بأمرين :

أولاً: أن الكلمة العربية لها حالات :
1- أن تبقى على معناها في اللغة ولا تنتقل إلى معنى جديد . وهنا تكون الكلمة سائرة مع الحقيقة اللغوية، وعلى استعمال العرب. وهذا حال أغلب كلمات القرآن . لذلك فإن من أهم قواعد التفسير أن يفسَّر على مقتضى قواعد العرب في الفهم ، وأن تفسر كلماته على حقائقها العربية إن لم تنتقل إلى معنى شرعي أو عرفي جديد.

2- أن تنتقل إلى معنى عرفي جديد . ويكون هذا المعنى هو المراد عند إطلاق الكلمة بين أصحاب ذلك العرف، كما وقع التعارف على كلمة ( الفاعل ) بين أهل النحو على معناه الحادث بعد وهو : " ما أسند إليه الفعل أو شبهة على جهة قيامه به" أو غير ذلك مما عُرِّف به الفاعل، وهكذا كثير من الكلمات التي استُخدمت في العلوم بعد تصنيفها، وفي الدلالة على أقسام تلك العلوم وأنواعها. وإذا كان هذا العرف حادثاً بعد زمن التنزيل فإن من الخطأ أن تفسر الآيات بحسب ذلك العرف، كما يخطئ من يفسر قوله تعالى : ( كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً ) بأنه المكروه الاصطلاحي عند كثير من العلماء الذي هو دون المحرم، وكما يخطئ من يفسر قوله تعالى: ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) بالنسخ الاصطلاحي المعروف .

3- : أن تنتقل الكلمة إلى معنى شرعي جديد. وهذا ما وقع في عدد من الكلمات كالصلاة والزكاة والصيام والحج والإيمان والكفر وغير ذلك من الكلمات الوارة في الشرع على معنى جديد . وهنا يجب أن تفسر الكلمة بمعناها الشرعي لا اللغوي.
والكلمات القرآنية تُفسر بالحقيقة الشرعية إن وجدت فإن لم توجد فينتقل إلى الحقيقة العرفية أو اللغوية ، فتقدم الحقيقة الشرعية على غيرها إن وجدت.

ثانياً : أن المعنى اللَّقَبِيَّ للمصطلحات ليس بمعزل عن معنى ما تَرَكَّبَ منه المصطلحُ:
لذلك فإن تعريف المصلحات المركبة أو الوصفية ، ينبغي أن يراعى فيه معاني الأجزاء التي تُكَوِّنُ ذلك المصطلح.
ولا يكفي في ذلك الاكتفاء بتعريف أحد الجزئين ، بل لا بد من تعريف كل جزء على حده، ثم يُعَرَّفُ المعنى المركب من الجزئين حتى يكون التعريف منطبقاً على العلم ، جامعاً لمسائله ، مانعاً من دخول غيره فيه.

ومصطلح ( قواعد التفسير ) ، من المصطلحات التي لا تزال بحاجة إلى مزيد من التحرير والضبط، وذلك لأسباب:
1- أن هذا العلم لم يلقَ حظَّه من الكتابة والتحرير ، كغيره من العلوم المشابهة كقواعد الفقه ، فإن العلماء منذ زمنٍ بعيد قد كتبوا وحرروا مصطلح ( قواعد الفقه ) في كتب كثيرة ، بينما نجد أن قواعد التفسير لم يُكتب فيها إلا من قبل المعاصرين ، وقليل من المتقدمين الذين لم يصل إلينا من كتبهم إلا نزرٌ يسير.
2- أن ما كتبه المتقدمون وبعض المعاصرين ليس في موضوع قواعد التفسير بل في علوم القرآن ككتاب ( التيسير في قواعد علم التفسير ) للكافِيَجي ، وقد يشتمل على بعض قواعد التفسير كما في بعض الكتب المعاصرة.
3- اختلاط هذا العلم بعلم أصول الفقه ، وتداخل بعض المسائل بينهما، حتى أصبح تعداد قواعد الأصول ضمن قواعد التفسير أمرٌ معهود عند من كتب في قواعد التفسير.

بعد ما سبق يتبين أن هذا المصطلح بحاجة إلى تحرير وضبط ومراجعة حتى تنضبط مسائله ومفرداته، وليس المقصود في هذا المقال تحرير المصطلح بل المراد لفت الانتباه إلى أهمية ذلك ومحاولة فتح الطريق أمام الدراسين لمناقشة هذا الموضوع ، ولعل ذلك يكون بدراسة ما يلي:

أولاً: تعريف القاعدة :
القاعدة في اللغة بمعنى الاستقرار والثبات ، وأقرب المعاني إلى المراد في معاني القاعدة هو الأساس، نظراً لابتناء المعاني عليها كابتناء الجدران على الأساس(1).

وأما في الاصطلاح:
فإن معنى القاعدة ليس مختصاً بعلم بعينه ، وإنما هو قدرٌ مشترك بين جميع العلوم.
وعرفها بعضهم بقوله : " القواعد : القضايا الكلية "(2).
والقضايا : جمع قضية : وهي في اصطلاح المناطقة : ( قول يصح أن يقال لقائله إنه صادق فيه أو كاذب)(3).
والكلية : أي المحكوم على جميع أفرادها(4).
قال الدكتور يعقوب الباحسين : " فيبدو لنا ـ والله أعلم ـ أنه يكفي في تعريف القاعدة أنها: قضية كلية ، كما جاء في تعريف صدر الشريعة ... كما أن القضية لا يمكن أن تكون كلية إلا وهي منطبقة على جميع جزئياتها. وبناء على ذلك يمكن القول: إن كل قضية كلية هي قاعدة، أياً كان مجالها. فقولنا: كل شاعر مرهف الحسِّ، قضية كلية محكوم فيها على كل أفراد موضوعها، فهي قاعدة ... وهكذا يمكن إجراء هذا على كلِّ قضية من هذا القبيل، والله أعلم"(5).

إذا عُلم معنى القاعدة وأنها قضية كلية ، فإننا إذا أردنا أن نحصرها بميدان معين قيدناها به، فنقول: قضية كلية نحوية، وقضية كلية فقهية، وقضية كلية تفسيرية.

ثانياً: تعريف التفسير :
إن إضافة القواعد إلى التفسير، هو ما يحدد هذه القواعد ويميزها عن غيرها من القواعد، ولو كانت قواعد التفسير هي قواعد الأصول ـ أصول الفقه ـ لما كان لهذه الإضافة من معنى ، فكما نجد أن إضافة القواعد إلى الفقه قد أخرجتها عن قواعد أصول الفقه؛ فإنه ينبغي أن تكون إضافة القواعد إلى التفسير أو العقيدة أو النحو ذات دلالة في مسائل ذلك العلم وما يدخل تحته، وينبغي أن تكون مخرجة له عن قواعد أصول الفقه، بحيث لا ينطبق العلمان، وكما نجد أن مصطلح التفسير مغاير لمصطلح أصول الفقه، كذلك ينبغي أن تكون قواعد كل علمٍ مختلفة عن قواعد العلم الآخر.
وتعريف التفسير عند العلماء مشهور ويمكن ـ باختصار ـ أن نقول : إن هناك اتجاهين في تعريف التفسير :

الأول: من عمم معنى التفسير ، كما قال أبو حيان : " التفسير: علم يُبْحثُ فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تُحْمَل عليها حال التركيب وتتمات ذلك"(6).
وكما قال الزركشي : " علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه"(7).

الثاني: من خص التفسير بالبيان فقط ، وهو منهج عدد من المعاصرين منهم الشيخ ابن عثيمين والشيخ مناع القطان رحمهما الله، والدكتور مساعد الطيار وفقه الله .

ولا شك أن اختيار أحد التعريفين مؤثر جداً في تحديد قواعد التفسير ، فإذا كان التفسير بمعنى البيان فقط ، فلا شك أن قواعد بيان القرآن ، تُعد أقل من قواعد التفسير على المعنى الآخر إذ يدخل على ما ذكره أبو حيان والزركشي قواعد النطق بألفاظ القرآن وقواعد الدلالات وغير ذلك.

وعلى كلا الاتجاهين في تعريف التفسير؛ فإن قواعد التفسير ينبغي أن تكون مختصة بالتفسير ، كما اختصت قواعد الفقه بعلم الفقه، وكما اختصت قواعد النحو بعلم النحو، وهلم جرا.

ثالثاً: تمييز علم التفسير عن علم أصول الفقه :
فعلم التفسير هو أحد علوم القرآن، وقد ذكر العلماء اشتراط العلم بأصول الفقه للمفسِّر، لكن الملاحظ أنه قد وجد تداخل بين قواعد التفسير وقواعد أصول الفقه.
وهذا الأمر لم يقع بهذا الحجم بين علم قواعد الفقه وعلم أصول الفقه.
فلماذا كان الاشتراك كبيراً بين قواعد التفسير ، وقواعد أصول الفقه، وهل يُسَوِّغُ ذلك أن القرآن هو مصدر جميع العلوم .
يمكن تحليل الجواب على ذلك بتأمل ما يلي :

1- أن غاية علم أصول الفقه وهدفه معرفة أدلة الأحكام ويظهر ذلك من تعريف أصول الفقه وهو : (معرفة دلائل الفقه الإِجمالية وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد)(8). وقيل : ( هو العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الفقه )(9).
ويتضح من هذه التعريفات أن علم أصول الفقه خاصٌّ بمعرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الفقه ، ويخرج من ذلك قواعد العلوم الأخرى كقواعد النحو وغيره.
فالفقيه بهذه القواعد الأصولية يصل إلى معرفة جزئيات الفقه ، وإذا استعرضنا علم الفقه وجدناه عبارة عن مسائل:
- موضوعاتها: أفعال المكلفين من صلاة وصيام وحج وبيع ورهن وإجارة وتوكيل ووصية وغير ذلك .
- ومحمولاتها: أحكام شرعية من وجوب وندب وكراهة وتحريم وصحة وبطلان وغير ذلك .
فالفقيه يبحث في أفعال المكلفين ليستنبط لكل فعلٍ حكماً شرعياً من دليل جزئي ثم يثبته له مستعيناً في ذلك بقواعد الأصول(10).
ومثال ذلك : لو سأل رجل عن حكم الصلاة فإن الفقيه يقول : الصلاة واجبة لأن الله يقول : ( وأقيموا الصلاة ) والأمر للوجوب.
فهنا نجد أن قوله ( الأمر للوجوب ) هذه قاعدة أصولية أنزلها الفقيه على قوله تعالى : (أقيموا ) فاستخرج حكماً جزئياً وهو حكم الصلاة .
مما سبق يتضح أن قواعد أصول الفقه هي الموصلة لتلك الأحكام الفقهية ، فهي مختصة بالأحكام الشرعية الفرعية المسماة عند العلماء بالفقه.

2- أن غاية التفسير هي بيان معاني كلام الله تعالى ( القرآن ) والمتأمل يجد أن آيات القرآن من حيث دلالتها على الفقه قسمان :
أ ـ آيات أحكام فقهية . وهي الآيات الدالة دلالة ظاهرة على الأحكام الفقهية. وقد عدها مقاتل بن سليمان (500) آية(11).
ب ـ آيات غير فقهية : كآيات الأمثال والعظة والقصص وغير ذلك . وهذه الآيات لم تُسق في الأصل لمعرفة حكمٍ فقهي وإن كان قد يستنبط منها أحكام فقهية كثيرة.
فالقرآن جاء لبيان الفقه كما جاء لبيان غيره من أصول الاعتقاد والأخلاق وغير ذلك.
وإذا كان مقصود المفسر هو بيان الآيات، فإن كانت الآية مسوقة لبيان حكمٍ فقهي، فإن المفسر يستعين بقواعد أصول الفقه، لمعرفة الحكم الفقهي المأخوذ من الآية.
ومن هنا نقول إن المفسر يستعين بعلم الأصول كلِّه لاستخراج الأحكام الفقهية من القرآن، وعلم الأصول قد كُتب وحرِّر، منذ عهد مبكر في تاريخ التدوين.
فهل يفيدنا عندما نريد أن نحرر قواعد تفسير القرآن ، أن نعيد كتابة جميع تلك القواعد الأصولية لضرورة أن يرجع إليها المفسر، بينما يمكن اختصار ذلك كلِّه بقاعدة تفسيرية واحدة تنص على: أن استخراج الأحكام الفقيهة من القرآن يكون على مقتضى قواعد الأصول.
لا سيما أن من شروط المفسِّر معرفة أصول الفقه . فلا حاجة ـ في نظري والعلم عند الله ـ إلى إعادة كتابة أصول الفقه مرة أخرى ضمن قواعد التفسير .
ومما يؤيد ذلك أن المفسِّر قد يحتاج عند تفسيره إلى قواعد النحو ، فهل تُدرج قواعد النحو ضمن قواعد التفسير لحاجة المفسر لها!!.
من هنا يتضح أن علم التفسير مختلف عن علم الفقه فينبغي أن تكون قواعد التفسير غير قواعد أصول الفقه.

رابعاً: أنه يمكن تحرير قواعد التفسير بالنظر في كيفية تحرير العلماء لقواعد العلوم الأخرى:
فقواعد الفقه مثلاً قد حررها العلماء بطرق منها(12):

أ ـ النظر في النصوص الشرعية واستخراج القواعد منها :
إما نصاً: كاستخراجهم قاعدة ( الخراج بالضمان ) من الحديث الذي الشريف الوارد بهذا اللفظ(13).
وإما استنباطاً واستقراءً: كاستخراجهم قاعدة : الإيثار في القرب مكروه وفي غيرها محبوب استنباطاً من قوله تعالى : ( فاستبقوا الخيرات ) وقوله : ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) وقوله : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ).
وقاعدة الضرر يزال استقراءً من عدد من آيات القرآن كقوله تعالى : ( لا تضار والدة بولدها ).
فهل في نصوص القرآن والسنة ما يدل نصاً أو استنباطاً أو استقراءً على قواعد تفسيرية؟.
ولا شك أنه قد وجد ما يدل على ذلك ومن أمثلة ذلك :
قاعدة : تفسير القرآن بالقرآن ، من عمل النبي صلى الله عليه وسلم حين فسَّر عدداً من آيات القرآن بآيات أخرى. كتفسير الظلم في قوله تعالى : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ ) الآية بقوله تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ).
ومن الاستقراء أيضاً ما ذكره ابن ابن عطية :" وقوله تعالى : { فاتباع } رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره فالواجب والحكم اتباع ، وهذا سبيل الواجبات كقوله تعالى { فإمساك بمعروف } [ البقرة : 229 ] ، وأما المندوب إليه فيأتي منصوباً كقوله تعالى { فضرب الرقاب } [ محمد : 4 ]"(14).
وهكذا فإن استقراء النصوص الشرعية ـ ومنها التفسير النبوي ـ موصل لعدد من قواعد التفسير المهمة .

ب ـ استخراج القواعد من نصوص العلماء رحمهم الله :
وقد استخرج الفقهاء قواعد فقهية من كلام العلماء رحمهم الله من جيل الصحابة ومن بعدهم ، وذلك كقول الإمام مالك : ( لا يرث أحدٌ أحداً بالشك )(15).
فهل في استقراء كلام المفسرين من الصحابة ومن بعدهم ما يعين على استخراج قواعد التفسير.
ولا شك أن البحث في كتب التفسير والتنقيب في كلام الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم مفيد في معرفة قواعد في التفسير ، وقد يقف الباحث على قواعد كثيرة بالاستقراء، كما فعل ذلك شيح الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مقدمته في أصول التفسير.
وهنا نجد أيضاً أن كليات القرآن لها مدخل في تفسير كتاب الله تعالى حيث إن عدداً منها هو كلام العلماء رحمهم الله واستنباطهم ، وهي معينة بلا شك في تفسير كتاب الله تعالى.
ومن أمثلة ذلك ما قاله ابن عباس، وابن زيد: ( كل شيء في القرآن رجز فهو عذاب)(16).
وكذلك ما قاله الراغب الأصفهاني: ( التثويب في القرآن لم يجئ إلا في المكروه)(17).
وهذه الكليات مفيدة جداً في تفسير القرآن الكريم ، وهي صالحة لأن تكون قواعد للتفسير يمكن إدارجها ضمن قواعد التفسير لما لها من أثر كبير في التفسير وبيان المعاني.

وبعد .. فهذه إشارة في هذا الموضوع الهام ، وإن كان في النفس بقية حديث عنه، ولعل في مدارسة الإخوة الأكارم ومداخلاتهم ما يزيد الأمر وضوحاً ..

[align=center]والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأجمعين ..[/align]
[align=center]السبت 4 / 1 / 1430هـ[/align]
ــــــــــــ
(1) انظر : معجم مقاييس اللغة : ( 5 / 108 )، والقواعد الفقهية للباحسين : ( 14 ).
(2) انظر : التوضيح بحاشية التلويح لصدر الشريعة : ( 1 / 20 ).
(3) التعريفات للجرجاني: ( 154 ).
(4) انظر: حاشية العطار : ( 1 / 31 ).
(5) القواعد الفقهية : ( 37 ).
(6) البحر المحيط: ( 1 / 121 ).
(7) البرهان : ( 1 / 13 ).
(8) انظر هذا التعريف في معجم اصطلاحات أصول الفقه : (29 - 30 ).
(9) التحرير بشرح التيسير : ( 1 / 22 ).
(10) انظر : أصول الفقه لمحمد شلبي : ( 24 ـ 25 ).
(11) اعترض عدد من العلماء على هذا الحصر وذكروا أنه للدلالات الظاهرة .
(12) انظر في ذلك : القواعد الفقهية للباحسين: ( 192 ) وما بعدها.
(13) رواه الخمسة.
(14) المحرر الوجيز: ( 1 / 194 ).
(15) المدونة الكبرى : ( 1 / 6 ).
(16) تفسير الطبري: ( 1/305 – 306 ).
(17) المفردات: ( 180 ).
 
مقال بعنوان : قراءة في أصول التفسير وقواعده

مقال بعنوان : قراءة في أصول التفسير وقواعده

[align=justify]قراءة في أصول التفسير وقواعده
د. محمد السيسي
كلية الآداب، مكناس

يعلم من الثروة الهائلة للفكر التفسيري أن هناك طرائق وآليات مختلفة لمناهج بيان القرآن الكريم، وقد شكلت هذه المناهج مدارس واتجاهات في علم التفسير بما اعتمدته من أدوات وقواعد الاستمداد من النص القرآني على مستوى الألفاظ والمعاني والمضامين والمقاصد.. ميزت النشاط التفسيري منذ نشأته إلى يوم الناس هذا، وبما جد فيه من مناهج الفهم والإفهام والاستنباط، انطلاقا من مسلمة هيمنة الخطاب القرآني على الإنسان والزمان والمكان.

وما كان لهذه المناهج أن تتجدد وتستجيب لحاجات عصرها لولا جهود العلماء الربانيين في مجال النقد والتقويم والمقارنة والتجديد وإعادة القراءة لمكونات المنهج الأم مادة وتوظيفا، لتكشف للجيل الوارث عن القضايا والإشكالات المعرفية والمنهجية قصد صيانة الموروث واستثماره في الاستجابة لواجب العصر، وإن واجب العصر كما قرره كثير من المهتمين بصيرورة الأمة؛ إعادة روح التكامل المنهجي بين العلوم الشرعية، لإيجاد نسق معرفي قوامه الوحدة والتناسق، نموذجه في ذلك وحدة الوحي ومحورية القرآن، وتفتق العلوم والمعارف الإسلامية عنه خادمة له فهمًا وبيانا، وفي مقدمتها علم التفسير، الذي قام على أصول حاكمة على التفسير التطبيقي وبياناته، ليبقى متجانسا مع القرآن، موافقا له مهما تراكمت عليه الأقوال وتطاولت عليه الأزمنة.

فالمراجعة المستمرة لما راكمه السابقون واللاحقون حول الوحي من مناهج ومفاهيم، بحثا عن أقوم مناهج الاستنباط والاستثمار والاستمداد، أمر يوجبه تجديد أمر الدين في هذا الدين ومن نتائج المراجعة تجريح المنهج الجزئي في التعامل مع قواعد وآليات الاستمداد من الوحي؛ لأن في ذلك تفتيت لوحدته الموضوعية والعضوية والمقاصدية، وتكريس ودعم لأشكال الاضطراب المنهجي والمعرفي من حيث ندري أولا ندري.

وفي معمعة التوحيد المنهجي هذه وأنت تستشعر برد المبشرات بثمرة البدايات، تصطدم بمن ينعتُ "التفسير التطبيقي بأنه مجال فوضى يدخله كل من هب ودب... وأنه لم يصغ بعد الصياغة التي تقيم صلبه وتشكل أركانه وتضبط أنساقه القاعدية والمنهجية... بل بقي عريا من أي سياج نظري نقدي له نسقه الذي يحكمه، ومنطقه الذي يقننه ويقعده... ومن هنا كان التفسير التطبيقي مرتعا للخلل والخطل، في حين تجد علم أصول الفقه مثلا أو علم النقد الحديثي يفوقان علم أصول التفسير بكثير، بانضباط المصطلح ووجود التقعيد والمنهج بالمعنى الحقيقي[1].

إن إشكالية إعادة النظر في نسقية مباحث قواعد التفسير وعلاقة أصول الفقه بأصول التفسير وقواعده تأتي في مقدمات مراجعة مناهج قراءة الوحي، إلا أن تشهد بأن (التفسير التطبيقي بقي عريا[2] من أي سياج نظري يقننه ويقعده) فهذا يعني أن مفسري الأمة منذ 14 قرنا كانوا يهرفون بما لا يعرفون، وإلا القول إن أصول الفقه أو علم النقد الحديثي يتميزان بوجود التقعيد والمنهج الحقيقي، فهذا لا معنى له إلا توسيع الشقة بين الشيء وذاته، وتكريس التجزئة بين أدوات وآليات الاستمداد من الوحي، وكأن الوحي مصدرا وطبيعة، لم يأت من إلَـه واحد، ولا كان بلغة واحدة ولا على يد رسول واحد؟

تلك بعض موجبات المداخلة وبعضها الآخر توجبه مراجعة مباحث علمي الأصول، إسهاما في بناء نسق منهجي منتظم متجانس مستوعب يحيي الأمة كما أنشأها أول مرة.

صحيح أن علم أصول التفسير من حيث كونه علم مصادر وآليات وقواعد فهم الوحي وإفهامه، ومن حيث كونه محور مناهج قراءة الوحي يحتاج إلى مراجعة نقدية تحديدية تحيينية، تعيد إلى العلوم الشرعية وحدتها وحيويتها وشموليتها، وتجتث من مباحثها ومفاهيمها ما يثبت النقد العلمي أنها طفيليات علقت به وتكاثرت في ظروف فكرية وتاريخية معينة، لإعادة إحكام الصياغة المنهجية ورصف بناء المباحث، وأحسب أن الدعوة إلى تحقيق مشروع إعادة بناء علم أصول التفسير استجابة لما سطرته الأقلام والأفكار ذات البعد التوحيدي المعاصرة[3] هي ما تحتاج إليه المرحلة -وهي واجب العصر- بتعبير الأستاذ الشاهد البوشيخي، أي: بناء نسق منهجي ينتظم ويستوعب بمقوماته الوحي بشقيه القرآن والسنة، وقضاياه الموضوعاتية والمقاصدية: العقيدة والأخلاق والنظم العملية، فكل ذلك شريعة وكل ذلك حكم وأمر من الحاكم الآمر، لا ترى فيه عوجا ولا أمتا: يصدق بعضه بعضا وحيا وموضوعا ومقاصد.

وإن الذي صار عريا من السياج الناظم هو فكر المسلمين في مرحلة الركوض والذي صار مجال فوضى ودخله كل من هب ودب هو عالم المسلمين يوم أن ترهلت لحمته ووهن نسيجه الحضاري فتنامى في جسمه من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين [سورة النساء / الآية: 45]، فلا أصول الفقه سلمت ولا الفقه نجا، ولا علم نقد الحديث منعهم من التقول والافتراء.

فعلم أصول الفقه -بالمفهوم القائم والموروث من عصور الانحطاط- مع القول بعلميته، ها هم أهله يتنادون بتجديده بتنقيته من المنطق الأرسطي، وهيمنة الفكر الكلامي، ومما أقحم فيه من مباحث معرفية تعيق التوظيف والإجراء، كشرع من قبلنا وتأخر البيان عن وقت الحاجة، ومما تشابه منه بالقواعد الفقهية، ومن إشكالية مبحث اتصال وانفصال المقاصد، الخ… وإن نظرت إليه من جهة المذهبية الفقهية ترى الاختلاف في عدد مصادر التشريع وفي ترتيبها، مرورا بمباحث الدلالة ومنهاج توظيفها ومع كل هذا فهو يؤدي وظيفته بشكل عام، كما يؤديها علم أصول التفسير وقواعده.

بل إن علم أصول الفقه بإجماع علوم القرآن وأصول التفسير هو جزء لا يتجزأ من علم أصول التفسير وقواعده، ولولا ما تراكم على هذا المنهج من تصورات تجزيئية ومفاهيم انفصالية والتباعد الذي أنشأته جفوة الاصطلاح وشدة التقسيم، لكان لمنهاج الاستنباط من الوحي شأن آخر.

ونحن اليوم إذا أردنا الإحسان في بناء المناهج والتوفيق في توظيفها، مطالبون بإعادة مفهوم أصول الفقه إلى المعنى الأصلي الذي نشأ به وعنه هذا العلم ضمن العلوم المساعدة والضابطة لفهم القرآن الكريم إذ واقع الدرس الأصولي عند المتأخرين وكما هو عليه أمرها في المؤلفات المدرسية تعريفا وتصنيفا وممارسة، انحصر توظيف قواعده فيما عرفوه بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية[4].

ويعنون بالأحكام العملية ما ليس اعتقادا، كالوحدانية والرسالة والعلم باليوم الآخر وإن سماه السلف الفقه الأكبر، وما ليس أخلاقا وقيما، وينضم إلى هذا الإخراج القهري ما تعلق بالسنن الكونية والاجتماعية وما يخدمها من القصص القرآني.

وهذا الحصر المفهومي فتح ممارسة سلبية في عقلية المجتمع الإسلامي أثرت على التأليف والتصنيف في الفكر الفقهي ومنه إلى التأثير في أخلاق وسلوكيات المجتمع الإسلامي يوم أن تخلت مؤلفات الفقه الإسلامي عن مباحث العقيدة ومباحث الأخلاق، لتفقد بذلك أعمال الجوارح روحها وحيويتها فضعف التدين في الناس بضعف منهج فقه الدين.

ولقد تأثر التفسير التطبيقي بذلك يوم أن اجتزأ من القرآن آيات الأحكام وصاغها على منهج الفقهاء، إلا صنيع أبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي في تفسيره: "الجامع لأحكام القرآن".

إن منهج التصحيح يلزمنا بالرجوع إلى أصل نشأة هذا الفن من العلوم، علم أصول الفقه بمعنى فهم الشريعة بمعناه الجامع، والبحث في ذلك يحيلنا إجماعا على أن مفتقه هو الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة"، وسبب تأليفها شاهد على أنها أنجزت في مبادئ وقواعد فقه القرآن كل القرآن، ودون استثناء.

يكتب عبد الرحمن بن مهدي الحافظ الإمام (ت: 198) إلى الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابا في معاني القرآن والسنة، فوضع له كتاب الرسالة[5] والشافعي في مقدمتها ينص على أن ما يؤسسه هو لفهم القرآن بقوله: "كل ما أنزل في كتابه جل ثناؤه رحمة وحجة... ومن أدرك علم أحكام الله في كتابه نصا واستدلالا ووفقه الله للقول والعمل بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه… وليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها"[6].

نتساءل باحثين: من خصص أحكام الله بما اصطلح عليه بالأحكام الشرعية العملية وأخرج منها الأحكام العقدية والأحكام الأخلاقية، ومن أوقف النوازل على أفعال الجوارح، واستثنى منها أفعال القلوب وهي الأصل في أفعال الجوارح، ومن حاصر أصول الفقه بمعنى آليات فهم الوحي في شق واحد من أجزاء الشريعة.

إن ابتداء أمر الأصول والقواعد ونشأة الآليات والضوابط يوم أن احتيج إليها لبناء منهاج نظري للبيان، كان لبيان ما يحتاج إلى البيان، في القرآن. والسنة تبع له، وإن كانت السنة أداة رئيسة من أدوات البيان. وعلماء الشريعة الأوائل، بنوا قواعد البيان للوحي بكل أبعاده الموضوعاتية، ولم يزعم أي علم من علوم الشريعة استقلاله بقواعد البيان، مستغن بنفسه عن غيره، وإن عوامل اجتماعية وبيئية وفكرية معينة هي التي خصصت أصول البيان، بعد أن تأسست أصولا لفهم الوحي، بما اصطلح عليه بأصول الفقه بمباحثه المعروفة وهي لا تكفي وحدها في نظرنا للاستمداد من الوحي ولا إلى بيانه.

إن القاعدة في الإطار التفسيري توظف جنبا إلى جنب مع قواعد بلاغية وعقدية وأخلاقية واجتماعية وتربوية انسجاما مع موضوعات الوحي وقضاياه فضلا عن الاستفادة من علم القراءات وعلم الرسم القرآني، ومثل هذه الأدوات تخلو منها مباحث أصول الفقه.

وما لم نحرر مفهوم الفقه ومفهوم الحكم ومفهوم الشريعة من قيد المصطلح الذي ألصق به، ونرجع به إلى المفهوم القرآني، لن نحقق النسقية المنهاجية التي تستلزمها نسقية الوحي. وتلك قضية مطلوب البث فيها على استعجال بالمصطلح القضائي.

ومع ما قيل في علم أصول الفقه وفي علم أصول التفسير وما يمكن أن يقال، فإن هناك مباحث عديدة تمثل القاسم المشترك بينهما، وإن توحد المصطلح والمفهوم لهذين العلمين أو على الأقل سريان عرف العموم والخصوص بينهما يسمح بفتح باب مراجعة جملة من المباحث الجامعة ومن ذلك:

النموذج الأول: قضية جمع القرآن مرتين، وأعني جمعه في مصحف واحد وهذا لم يكن إلا مرة واحدة في عهد أبي بكر الصديق أما ما قام به عثمان فلم يكن إلا نسخا للمصحف المجموع في عدة نسخ ثم نشرها في عواصم الأقاليم الإسلامية المشهورة في عهد عثمان.

تجمع الروايات أن السبب هو اختلاف القراءة بين الغزاة أثناء غزو أرمينيا وأذريبجان. وأن عثمان كان قد نمى إليه أن شيئا من ذلك الخلاف يحدث للذين يقرئون الصبية، فأكبر الصحابة هذا الأمر مخافة أن ينجم عنه التحريف والتبديل وأجمعوا أمرهم أن ينسخوا الصحف التي كانت عند أبي بكر.

يروي البخاري في صحيحه في باب فضائل القرآن الكريم عن أنس بن مالك أن عثمان أرسل إلى حفصة "أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها ثم نردها إليك، فأرسلت إليه بتلك الصحف ثم أرسل إلى زيد بن ثابت الأنصاري وإلى عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فأمرهم أن ينسخوها في المصاحف حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.

فعثمان عدد نسخ القرآن وأرسل إلى كل إقليم بمصحف إمام يرجع إليه عند الاختلاف لا أنه جمع القرآن مرة ثانية.

النموذج الثاني: قضية إبقاء عثمان على حرف واحد ونسخ الستة
تجد عددا كبيرا من كتب علوم القرآن قد أضاف مؤلفوها إلى رواية البخاري السابقة استنباطا من عند أنفسهم دون دليل، القول بأن عثمان أبقى على حرف واحد[7] مع العلم أن رواية البخاري لم تذكر إلا نسخ الصحف في مصاحف وأن نزول القرآن على سبعة أحرف عملية وحي والوحي لا يرفعه إلا الوحي، وما كان لعثمان أن يرفع وحيا ولاسيما والصحابة معه وما عارضوا ولا جاءنا خبر بمراجعة. وما كان لهم أن يسكتوا على فعل كهذا. ثم إن الأحرف السبعة نزلت للتيسير ودواعيه قائمة إلى قيام الساعة والقراءات القرآنية بوجوهها الثابتة المعجزة تستوعبها. إذن، فلم هذا التحمل، الذي لا تتحمله طبيعة الوحي ولا واقع التنزيل[8].

النموذج الثالث: هل فسر الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن كله؟ وضع السؤال بهذه الصيغة يوحي بتقصير الرسول صلى الله عليه وسلم في أداء مهمة البيان مع أنه ما أنزل عليه الذكر إلا ليبين مهمته محصورة في البلاغ المبين.

وما دام مفهوم البيان يشمل ما يبين به الشيء من الدلالة وغيرها من أدوات الكشف كالكتابة والإشارة والعلامة والحال... وكل ما يبين به الشيء[9]، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين كل ما يحتاج إلى البيان بالنسبة لمرحلة النبوة وبين القواعد والكليات التي تستوعب ما يحتاج إلى بيان بالنسبة إلى ما بعد النبوة...
ثم إن قصد التكليف لا يتحقق إلا بالبيان وإلا استحال الامتثال. وشرط التكليف القدرة على المكلف به على الوجه الرافع للحرج، ولا يعقل خطاب مقصود من غير فهم كما أبان ذلك الشاطبي[10].

النموذج الرابع: وهو من مقدمة جامع البيان في مسألة البيان، فمع أن القرآن نص على مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، هي البيان، ومع أن البيان في اللغة شامل لكل ما تتم به عملية البيان، تجد عددا كبيرا من مصنفات علوم القرآن تتساءل في مبحث خاص، هل فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل ما يحتاج إلى البيان؟ معتمدة في هذا التساؤل على ما نسب إلى عائشة رضي الله عنهما "ما كان صلى الله عليه وسلم يفسر شيئا من القرآن إلا آيات تعد علمهن إياه جبريل"[11].

قال الطبري معلقا على المبحث والحديث: "ولو كان تأويل الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان لا يفسر من القرآن شيئا، إلا آيات تعد هو ما يسبق إلى أوهام أهل الغباء من أنه لم يكن يفسر من القرآن إلا القليل، كان إنما أنزل إليه الذكر ليترك البيان لا ليبين[12]، هذا مع ما في الخبر عن عائشة -والقول له- من العلة التي… لا يجوز معها الاحتجاج به… لأن روايته عمن لا يعرف في أهل الآثار وهو جعفر بن محمد الزبيري[13].

النموذج الخامس: وهو مأخوذ من مقدمة الطبري في جامع البيان "باب القول في الوجوه التي من قبلها يتوصل إلى معرفة تأويل القرآن[14] فبعد أن بين أن مما أنزل الله من القرآن… ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إن منه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار، وذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة، وأوقات آتية، كوقت قيام الساعة والنفخ في الصور، ونزول عيسى…[15] فإن تلك لا يعلم أحد حدودها ولا يعرف أحد تأويلها إلا الخبر بأشراطها. ومحل القول في النص أمران، مع التقدير الكبير لشيخ المفسرين.

الأول: إذا كان التأويل عنده بمعنى التفسير، فإن المتلقي للخطاب يعلم منه أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن النفخ في الصور واقع لا محالة، وأن نزول عيسى آت لا شك فيه، كما يعلم أن آجال ذلك لا يعلمه إلا الله.

الثاني: أن التعبير عن المعلومة بالقوللا يعلم تاويله إلا الله، جعلت عددا من الدراسات القرآنية تذهب إلى القول بأن هناك آيات في القرآن الكريم، لا يعرف معناها من كل الوجوه إلا الله وحده، وهذا يتنافى مع تصريح القرآن من حيث كونه بيان، ومن حيث كون الرسول صلى الله عليه وسلم مبينا لما يحتاج من البيان إلى البيان.
وقد رتب الطبري على هذا التقسيم الاستشهاد له بما روي عن ابن عباس: "التفسير على أربعة أوجه وجه تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله".

والشاهد في هذا السياق يجعل القارئ في حيرة من معنى التفسير والتأويل في قول ابن جرير، كما يجعله يؤكد موقفه من كون الوجه الرابع من التفسير لا يعلمه إلا الله على إطلاقه، مع أن هذا المنقول عن ابن عباس لم تحقق روايته بمنهج المحدثين.

النموذج السادس: من البرهان للزركشي، في مبحث: ما نزل من القرآن مكررا. قال معللا، تكرار المنزل "وقد ينزل الشيء مرتين تعظيما لشأنه وتذكيرا به عند حدوث سببه، خوف نسيانه، وهذا كما قيل في الفاتحة نزلت مرتين، مرة بمكة ومرة بالمدينة"، والظاهر أن هذا التعليل لا يستقيم مع قول الله تعالى: سنقرئك فلا تنسى، إلا ما شاء الله... [سورة الاَعلى/ الآيتان: 7- 6].

فمع كون الفاتحة مما يحضر في كل ركعات الصلاة، والصلاة فرضت في مكة، تجد قولهم بتكرار النازل، ولعل الذي دفعهم إلى ذكر ذلك، كون آيات مدنية، تخللت سور مكية أو العكس.

قال الزركشي: والحكمة في هذا كله أنه قد يحدث سبب من سؤال أو حادثة، تقتضي نزول آية، وقد نزل قبل ذلك ما يتضمنها، فتؤدى تلك الآية بعينها تذكيرا لهم بها، وبأنها تتضمن هذه[16]. وفي هذا ما فيه من التحمل والتكلف.
ومن هذا الضرب ما عنون له صاحب البرهان، "بتقدم نزول الآية على الحكم"، ومثل له بقول الله تعالى: قد اَفلح من تزكى [سورة الاَعلى/ الآية: 14] فإنه يستدل بها على زكاة الفطر، بما رواه البيهقي بسنده عن ابن عمر، ومع أنه نقل عن بعضهم قوله "لا أدري ما وجه هذا التأويل لأن هذه السورة مكية، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة" فإنه ضرب صفحا عن هذا النقد، ورده بما قاله البغوي في تفسيره بأنه يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم[17].
وبنفس المنهاج استدل على نزول قوله تعالى: سيهزم الجمع ويولون الدبر[سورة القمر / الآية: 45]، في مكة. وتأخر حكمها إلى المدينة، قال: قال عمر بن الخطاب، كنت لا أدري أي الجمع يهزم، فلما كان يوم بدر، رأيت رسول الله صلى الله عليه ويسلم يقول، (سيهزم الجمع ويولون الدبر)[18]. مع أنه واضح من نظم الآية وسياقها، أنها تخبر عن مستقبل، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم، رددها مستشهدا ومخبرا بصدق ما أخبر به القرآن، "لا نزولا لها قبل الحكم"، وإنما أخبر بما سيحدث، ويشهد لهذا قولة عمر سابقا في الآية، وفي عدد من المباحث في البرهان من هذا النمط كثير. من مثل قول عدد من المفسرين وأصحاب أسباب النزول[19]، أن قوله تعالى: اِلا تنصروه فقد نصره الله... [سورة التوبة / الآية: 40]. الآيات أنها مكية في سورة مدنية مع أن سبب النزول وسياقه ودلالة الآية في سياقها تدل على أن الآية مدنية في سورة مدنية[20].

النموذج السابع: ونأخذه من كتاب قواعد التفسير، لخالد السبت، باعتباره ممثلا لما نحن بصدده في هذه المرحلة المعاصرة، وذلك في صورتين مشابهتين لما عند الزركشي.

الصورة الأولى: قرر تحت عنوان "قاعدة: نزول القرآن تارة يكون مع تقرير الحكم، وتارة يكون قبله، والعكس"[21]. ومثل لما نزل قبل تقرير الحكم، بقوله تعالى:قد اَفلح من تزكى [سورة الاَعلى/ الآية: 14]. وهو وإن علق بقوله وفيه نظر، فقد ساق ما ساق من نصوص شارحة للقاعدة نقلا عن الزركشي في البرهان وغيره، وأثبته جزء قاعدة في الباب.

الصورة الثانية: ما مثل به لقاعدة: "قد يكون سبب النزول واحدا"، والآيات النازلة متفرقة، والعكس"[22]. ومثل له بما أخرجه البخاري في قصة عويمر العجلاني الذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: "يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلا، أيقتله فتقتلونه، أم كيف يصنع؟ فقال صلى الله عليه وسلم: قد أنزل الله عليه القرآن فيك وفي صاحبتك"[23]. وبما أخرج البخاري أيضا "أن هلال ابن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم، بشريك بن سمحاء، فقال له النبي: البينة أو حد في ظهرك... فقال هلال: والذي بعثك بالحق، إني لصادق فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد. فنزل جبريل وأنزل عليه والذين يرمون أزواجهم... [سورة النور/ الآية: 6].

وصاحب قواعد التفسير هذا، وإن انتبه إلى إشكالية الصحة وعدمها في النقل، تحت قاعدة "إذا تعددت المرويات في سبب النزول، نظر إلى الثبوت، فاقتصر على الصحيح"[24]، فهو من جهة يقرر في سياق القاعدة، تكرار النزول، ومن جهة أخرى لم يوظف مبدأ الثبوت في قاعدة إنفراد السبب وتعدد النازل[25]. إذ جاء بروايات متعددة في سبب نزول قوله تعالى: ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض [سورة النساء / الآية: 32]. دون أن يحقق الروايات أو يعلق عليها، بما يخرج المتلقي من حيرة شتات الفهم، وتضارب القواعد، أما قصة عويمر العجلاني فتدل على أن القرآن كان قد نزل سابقا في قصة هلال بن أمية ولم يكن جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لعويمر إلا جواب فتوى وإصدار حكم.

وبعد، ففي علوم القرآن، جملة مباحث تحتاج إلى مراجعة على مستوى التصنيف وتوحيد المصطلحات، وتحديد المفاهيم وتصحيح المضامين، سعيا إلى بناء قواعد منهج البيان، وهو أمر لا يتم إلا بعمل جماعي متكامل من أهل الاختصاص يبدئ فيه لتحقيق المناط بين علم أصول التفسير وعلم أصول الفقه.[/align]


الهوامش

--------------------------------------------------------------------------------

1. انظر: أبجديات البحث في العلوم الشرعية للدكتور فريد الأنصاري 156، ومداخلة الدكتور الأنصاري أيضا في الدورة التدريبية للباحثين في التراث العربي الإسلامي (نحو منهجية للتعامل مع التراث ص: 172، فما بعدها).
2. عدي عريا من ثيابه خلعا فهو عار وعريان سلم من الغيب ونزع عنه الثوب، وعداه من الأمر جرده وخلصه منه.
3. مثل صنيع الأستاذ لطفي الصباغ في كتابيه: بحوث في أصول التفسير:16، ولمحات في علوم القرآن: 151،
ومثل النداءات المتكررة المكتوبة والشفهية للأستاذ الشاهد البوشيخي.
4. انظر نموذج ذلك في كتاب أصول الفقه لأبي زهرة، ص: 7، وهو يعد من أئمة العصر في هذا المجال.
5. انظر مقدمة الرسالة، ص: 19.
6. نفسه.
7. مثلا مباحث في علوم القرآن للقضان، ص: 85.
8. للتوسع،انظر النشر في القراءات العشر لابن الجزري،1/48، والملل والنحل لابن حزم، 2 / 77.
9. انظر معجم مقاييس اللغة ولسان العرب، ومفردات الراغب، مادة بان...
10. انظر الموافقات، 3 / 344.
11. أنظر جامع البيان، 1 / 55.
12. نفس المصدر، 1/57.
13. نفس المصدر، 1/58.
14. جامع البيان، 1/50.
15. نفس المصدر، 1/47.
16. البرهان للزركشي،1/31.
17. نفسه.
18. نفسه.
19. بنوا هذا القول بمدنية ومكية آيات في سورة يعينها-****على [المعنى والقصد والسياق] البيان.
20. أنظر أسباب النزول للواحدي، 141.
21. أنظر قواعد التفسير، 1/58.
22. قواعد التفسير للسبت، 1/65.
23. صحيح البخاري، كتاب التفسير.
24. قواعد التفسير للسبت، 1/69.
25. نفس المرجع والصفحة.


المصدر
 
وفقكم الله جميعاً على هذا الطرح المهم والنافع لاحرمكم الله الأجر..وجزاكم الله عنا خيرا
 
وفقكم الله جميعاً على هذا الطرح المهم والنافع لاحرمكم الله الأجر..
وجزاكم الله عنا وعن الامة الاسلامية خيرا
 
حبذا لو كان هناك قسم مختص يعنى بقواعد التفسير لان هذه القواعد حماية لطلاب العلم من القول في التفسير برأيهم من حيث لا يشعرون وما ابرئ نفسي ولكنها الحقيقة فعسى هناك اطروحات في هذا المجال لمناقشتها من قبل الاعضاء وكما قيل من حرم الاصول حرم الوصول
 
عودة
أعلى