مَيْلِ القرآن عَنْ الألفاظ الْمُسْتَقْبَحِ ذِكْرُها الْمُسْتَقْبَحِ سَمَاعُها إلى الكناية
من بديع القرآن الكريم انصرافه عن الألفاظ الْمُسْتَقْبَحَة ومَيْلِهِ عنها لِمَا تُسَبِّبُه مِنْ أَذًى في النفس أو حَرَجٍ، فَيَمِيلُ عنها القرآن، ويتركها، ويَنْصَرِفُ عن اللفظ غير اللائق الْمُسْتَقْبَحِ ذِكْرُه الْمُسْتَقْبَحِ سَمَاعُه، ويَكَنِّي عنها بألفاظٍ أُخْرَى لَطِيفَةِ الْمَأْخَذِ والأثر. وذلك في القرآن كثير ومنه:
تَرْكُ القرآن لِلَفْظِ [التَّبَرُّز] والكناية عنه بالغائط أو بالأكل:
- قال تعالى: [{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}] الغائط هو مَوْضِعٌ منخفض من الأرض يَسْتُرُ مَنْ يَنْزِلُه وكُنِّيَ به عَن التَّبَرُّز.
- وقول الله تعالى عن مريم وابنها عليهما السلام: {[كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ}]. أكل الطعام هنا كناية عن التَّبَرُّز، أي: إنهما ليسا إلهين، كيف وهما يأكلان فَيَتَبَرَّزان؟
ترك القرآن للفظ [الْجِماع] والكناية عنه باللَّمْس أو بالحرث أو بالرَّفَث، أو...:
قال الله عز وجل: [{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} ملامسة النساء] هنا كناية عن الجماع، فانصرف عن لفظ الجماع الْمُسْتَقَبَحِ سَمَاعُه وكَنَّى عنه بالْمُلامَسَة.
قول الله تعالى: [{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}] الحرث هو مَوْضِع الزرع ومَنْبَتُ الولد، وكُنِّىَ به عَن مَوْضِعِ الْجِماع، الذي هو قُبُلُ الْمَرأة وليس دُبُرَهَا، {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} أي فَجَامِعُوهُنَّ في مَوْضِعِ الزرع ومَنْبَتِ الْوَلَد، {أَنَّى شِئْتُمْ} أي كيف شِئْتُم: قِياما أو اِسْتِلْقَاء، مِن الأمام أو مِن الخلف شرط أن يكون في القُبُل مَوْضَعِ الحرث، وكَنَّى هنا عن [الجماع] لأنه لفظ مُسْتَقْبَحُ الذِّكْرِ مُسْتَقْبَحُ السَّمَاعِ بِلَفْظِ [الحرث].
ويحضرني في ذلك كناية لطيفة لعمر ابن الخطاب رضي الله عنه: جاء عمرُ إلى رسولِ اللهِ r فقال: يا رسولَ اللهِ هلكتُ. فقال وما أهلكَك؟ قال: حوَّلت رحلي البارحةَ. [يقصد جامع زوجته في قُبُلِها مِنَ الخلف] فلم يردَّ علَيّه شيئًا. قال: فأُوحِيَ إلى رسولِ اللهِ r هذه الآيةُ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فقال لعمر: "أقبلْ وأدبرْ واتقِ الحيضةَ والدبرَ".
[حَوَّلْتْ رَحْلِّي] تحويل الرَّحْل كناية كَنَّى بها عمر رضي الله عنه عن جِمَاعِهِ لزوجته من الخلف.
وقول الله عز وجل: [{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}] الرفث في اللغة: هو كل ما يريده الرجل من المرأة من تقبيل وضم ومباشرة وجماع وغيره، وكَنَّي هُنَا عن [الجماع] بالرفث كراهة ذكر لفظ الجماع، لأنه لفظ مُسْتَقْبَحُ.
وتأملوا هذه الآية البديعة: [{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}].
إن الآية كناية عن حال الرجل والمرأة وقت الجماع، من العناق، والتلاحم، والالتصاق حتى صارا كأنهما جسد واحد. وقد يتأذى البعض من كلامي هذا وبيان ذلك والحديث عنه، وأقول لمن يَتَأَذَّى: لقد أردتُ ذلك حتى تشعر بِـمَدَى جمال اللفظ القرآن وجميل تَعَفُّفِهِ. وقد صرح بعض المفسرين بما أكثر من ذلك، فلا حَرَجَ.
وتأملوا هذه التعبيرات القرآنية؛ إنها كلها كنايات عن الجماع:
لأن الجماع لفظ يُسْتَقْبَحُ ذِكْرُه ويُسْتَقْبَحُ سَمَاعُهُ، عَدَلَ عنه القرآن إلى الكنايات اللطيفة البديعة، لأن القرآن الكريم يَعِفُّ عن ذكر مثل هذه الألفاظ. وأخيرا: لعلي قد آذيتكم بصراحة الألفاظ في المقال، فعذرا: لقد قصدت ذلك قصدا، حتى تلمسوا عفة كلام الله وجلاله، وحتى تروا جميل بيان قرآنه، وحتى تشعروا بلطيف معانيه وتقفوا على بعض أسراره. والله أعلم د. محمد الجبالي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الاستاذ الفاضل محمد الجبالي
لقد قلتم : ( وقول الله تعالى عن مريم وابنها عليهما السلام: {[كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ}]. أكل الطعام هنا كناية عن التَّبَرُّز، أي: إنهما ليسا إلهين، كيف وهما يأكلان فَيَتَبَرَّزان؟ )
قال الامام الطبري رحمه الله تعالى : ( وقوله: " كانا يأكلان الطعام "، خبٌر من الله تعالى ذكره عن المسيح وأمّه: أنهما كانا أهل حاجةٍ إلى ما يَغْذُوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب كسائر البشر من بني آدم، فإنّ من كان كذلك، فغيرُ كائنٍ إلهًا، لأن المحتاج إلى الغذاء قِوَامه بغيره. وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه، دليلٌ واضحٌ على عجزه. والعاجز لا يكون إلا مربوبًا لا ربًّا )
ولم يذكر ما ذكرته على كثرة ما يذكر من أقوال .
وقال القرطبي ( بعد ان ذكر قولا قريبا من قول الطبري) : (وقال بعض المفسرين في قوله : كانا يأكلان الطعام إنه كناية عن الغائط والبول )
وقال ابن كثير : ( كانا يأكلان الطعام ) أي : يحتاجان إلى التغذية به ، وإلى خروجه منهما ، فهما عبدان كسائر الناس وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة )
ونلاحظ ان قوله تعالى : ( كانا يأكلان الطعام ) هو الاساس وهو المراد لدرجة ان الطبري لم يذكر
موضوع خروج الطعام ، وان القرطبي أحال القول إلى غيره ...والله تعالى اعلم .
{{كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} }يجب حملها كما هي عليه، أي هما يأكلون الطعام لكي يبقون على قيد الحياة و هذا فيه عجز ،عكس الله تعالى الذي لا يحتاج لشيء لبقاء وجوده لأنه هو الحي القيوم.قوله تعالى : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]}
الذي ذكره الأخ الكريم البهيجي في معنى الأكل هو المشهور والمعروف في تأويل الآية. وما ذكرته اخي الكريم محمد بان المراد البراز قول غريب. وعلى فرض ان من معاني الاكل ما ذكرت فإن كلام الله تعالى يحمل على المعنى المشهور لا الغريب النادر كما قرره الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى وكما ذكره الدكتور خالد السبت في قواعده. واما بالنسبة لاعتذارك اخي محمد فلا ارى سببا لهذا الاعتذار لان كلامك لا أذية في سماعه. والله المستعان. وجزاك الله خيرا.
اخي البهيجي الطبري ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كل ما يقوله صحيحاً أو محيطاً بكل معاني الآية.
وما تفضل به الدكتور الجبالي سديد فطالما كان عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام يأكلان الطعام فلا بد أن يحصل منهما الإخراج ، فأكل الطعام له عدة لوازم منها ما قال الطبري وغير الطبري وهو ما يفهم بداهة أصلا من كتاب الله من غير قول الطبري ومن لوازم اكل الطعام الاخراج.
ولما كان سياق بحث الدكتور الجبالي محصور في استحضار المواضع التي تنزهت آيات القرآن عن القبيح من الكلام فقد اقتصر على ما يتعلق بالاخراج من لوازم اكل الطعام ولم ينفي ما سوى ذلك.
ثم أن أكل الطعام على إطلاقه لا يلزم منه أن الاكل لازم من لوازم الحياة فأهل الجنة يأكلون الطعام للتلذذ وليس للبقاء ولكنهم لا يخرجون كما كانوا في الأرض، فالأقرب أن قوله تعالى (كانا يأكلان الطعام) يشير إلى مسألة الإخراج، إذ لو احتج النصارى بأن أهل الجنة يأكلون الطعام أيضاً ولا يؤثر ذلك في بقائهم من عدمه فيكون الرد عليهم بأن الإشارة في الآية للوازم الطعام وهو الإخراج.
والله اعلم
المقصود في الآية الأكل و ليس غير ذلك، و ذلك لاسباب منها :
١.الآية تتكلم عن الأشياء المشاهدة المتكررة والتي رآها كل من عايش زمن المسيح و أمه فلو قلنا أنها تتكلم عن الغائط (حاشاكم)فهل يا ترى كانوا يتجسسان إليهما لكي يرون هل كان يأتيهما الغائط أم لا؟ و لو قلنا إن الآية فقط تتكلم عن النصارى الذي اتخذاهما إلهين بينما لم يعشن زمانهما و أن المقصود من الآية الغائط فهناك من المعارضين من النصارى من سيقول أين حجتكم أنهما كانا يأتيهما الغائط،؟ و لكن عكس ذلك لو قلنا أن المقصود في الآية هو الأكل، لأن هناك عدة آيات تعزز أنهما كان يأكلان الطعام، و منها قوله تعالى :{ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖۖ}[مريم:26].
٢
حاجة الإنسان للأكل هي أدل لعجزه و تظهر أكثر افتقاره و حاجته من قضاء حاجته, لأن الغائط قد تفعله حتى فوق سروالك (حاشاكم).
٣.حاجة المخلوق للأكل لكي يبقى على قيد الحياة تناقض كونه إلها، لأن الإله الحق لا يحتاج شيئا لكي يبقى حيا لأنه هو الحي القيوم.
و لا أنسى أبدي شكري للإخوان البهيجي و عبد الغفور لهذه اللفتة الطيبة.
و الله المستعان