من مشاهد يوم القيامة

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
من مشاهد يوم القيامة
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.. أما بعد:
فالإيمان باليوم الآخر وما يشتمل عليه من أصول الإيمان الذي لا يصح إيمان عبد إلا به، فالساعة حق ومجيئها حتم، ] يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيد[ (الشورى: 18).
والحديث عن اليوم الآخر حديث عن العدل المطلق ، لأنه اليوم الذي ترد فيه الحقوق إلى أهلها، ويقتص فيه من الظالم للمظلوم، ومن الحاكم للمحكوم، ومن القوي للضعيف. يومٌ ليس فيه رشوة ولا واسطة ولا شفاعة لظالم ولا ملك لأحد إلا لله تعالى: ] يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ[ (غافر: 16، 17) . يومٌ يتمنى الظالم أن لم يكن ظلم ، ] يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ[ (آل عمران: 30) .
واليوم الآخر هو ذلك اليوم الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين ، ليوقفوا في مشهد مهيب رعيب في انتظار الفصل بينهم ، ] يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ[ (إبراهيم: 48). يومٌ تدنو فيه الشمس من الرؤوس، ويبلغ العرق فيه عند بعض العباد إلى الآذان، وينسى فيه الخليل خليله، ويفر فيه الحبيب من حبيبه: ] يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[ (عبس: 34: 37). يومٌ تنكس فيه رؤوس المجرمين ] خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ[ (الشورى: 45) ، ] وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ[ (السجدة: 12). يومٌ تخشع فيه الأصوات فلا يُسمع من هذا الجمع العظيم إلا همسًا ] يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا[ (طـه: 108). يومٌ يتمنى فيه الكافر أن يعود إلى الدنيا ليؤمن ] وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ[ (الأنعام: 27، 28) .
إنه يوم الخروج ] يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ[ (المعارج: 43) ، ] خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ[ (القمر: 7) .
ويوم الحاقة الذي يحق فيه الحق ، وقيل لأنه لا شك فيه .
ويوم القارعة التي تقرع الخلائق بأهوالها وأفزاعها .
ويوم الجمع الذي يجمع فيه الأولون والآخرون .
ويوم الفصل الذي يفصل فيه بين الخلائق .
ويوم الحساب الذي يحاسب فيه كل أحد بما كسب ] الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ[ (غافر: 17) .
ويوم التلاق الذي يتلاقى فيه الأولون والآخرون ، ويلتقي فيه أهل السماء بأهل الأرض، ويلتقي فيه الظالم بالمظلوم .
ويوم الحسرة : يوم يتحسر الجميع مؤمنهم وكافرهم ، طائعهم وعاصيهم ، فالمؤمن الطائع يتحسر أن لم يزدد من طاعته ، والعاص يتحسر على معصيته ، والكافر يتحسر أن لم يكن آمن ، ] وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ[ (مريم: 39، 40) .
ويوم التناد يوم ينادي الناس بعضهم بعضًا ؛ فينادي أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم ، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار: ] أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا[ (الأعراف: 44)، وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة: ] أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّه[ (الأعراف: 50) ، وتنادي الملائكة أصحاب الجنة : ] أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[ (الأعراف: 43) إلى غير ذلك من النداءات .
ويوم التغابن لأنه غبن فيه أهل الجنة أهل النار ، أي أن أهل الجنة أخذوا الجنة وأخذ أهل النارِ النار على طريق المبادلة ؛ فوقع الغبن لأجل مبادلتهم الخير بالشر والنعيم بالعذاب . يقال : غبنت فلانا إذا بايعته أو شاريته فكان النقص عليه والغلبة لك .
ويوم الوعيد وهو الذي توعد الله تعالى فيه الكافرين بالنار والعاصين بالعذاب .
ويوم الخلود ، أي : يوم يخلد أهل الجنة في الجنة ، في نعيم مقيم ؛ ويخلد أهل النار في النار ، في عذاب مقيم .
] إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [ (هود: 103).
ولحكمة أرادها الله تعالى جاء ذكر الساعة في كثير من سور القرآن ، طوالها وأوساطها وقصارها ، كما جاء في السورة التي يقرأها كل المسلمين في كل ركعة من صلاتهم : ] مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [ (الفاتحة: 4) .
ولعل ذلك للتذكير بها في كل وقت ، مما يجعل المسلم في مراقبة دائمة لله تعالى .
 
مـثِّل لنفسكَ أيـها المغـرورُ ... يـوم القيامـة والسماءُ تمـورُ
إذ كُوِّرَتْ شمس النهار وأدنيتْ ... حتى على رأس العـبادِ تسـيرُ
وإذا النجومُ تساقطتْ وتناثرتْ ... وتبدلتْ بعـد الضياءِ كـدورُ
وإذا البحارُ تفجرتْ من خوفِها ... ورأيتَها مِـثْلَ الجحيمِ تفـورُ
وإذا الجبالُ تقلعتْ بأصـولها ... فرأيتَها مِـثْلَ السحابِ تسـيرُ
وإذا العشارُ تعطلتْ وتخربتْ ... خلـتِ الديارُ فما بها معمـورُ
وإذا الوحوشُ لدى القيامةِ أحشرتْ ... وتقولُ للأملاكِ أين نسيرُ
وإذا تقاةُ المسلمين تزوجـتْ ... من حـورِ عـينِ زانهن شعورُ
وإذا المؤودةُ سُئِّلت عن شـأنها ... بأي ذنـبٍ قـتْلَها ميسـورُ
وإذا الجليلُ طوى السما بيمينهِ ... طـيَّ السجلِّ كتابَه المنشـورُ
وإذا الصحائفُ نُشِّرت وتطايرت ... وتهتكـتْ للمؤمنين سـتورُ
وإذا السماءُ تكشطتْ عن أهلِها ... ورأيتَ أفـلاكَ السماءِ تـدورُ
وإذا الجحيمُ تسـعرتْ نيرانُها ... فلها على أهـلِ الذنوبِ زفـيرُ
وإذا الجنانُ تزخرفتْ وتطيبتْ ... لفتىً على طـولِ البلاءِ صـبورُ
وإذا الجنينُ بأمـهِ متعلـقٌ ... يخشى القصاصَ وقلبه مذعـورُ
هذا بلا ذنبٍ يخافُ جنايةً ... كيفَ المصرُّ على الذنوبِ دهورُ
اللهم سلمِّنا ، وسلِّم منا ... آمييييين
 
استئثار الله تعالى بعلم الساعة

يوم القيامة مما استأثر الله تعالى بعلمه ، فلم يَطَّلَعَ على علمه ملكٌ مقرَّب ، ولا نبي مرسل ، ولا يعلم وقته إلا الله Y ، قال الله تعالى : ] يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ[ (الأعراف: 187) ، وقال I : ] يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [ (الأحزاب: 63) ، وقال جل وعلا : ] يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا. فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا. إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا . إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا . كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا[ (النازعات : 42 - 46) ، وقال U : ] إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ (لقمان: 34) .
وفي رواية أبي هريرة t لحديث جبريل u : " قال : يا رسول الله متى الساعة ؟ قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل ! ولكن سأحدثك عن أشراطها : إذا ولدت الأمة ربها ، فذاك من أشراطها ، وإذا كانت العراة الحفاة رءوس الناس ، فذاك من أشراطها ، وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان ، فذاك من أشراطها ، في خمس لا يعلمهن إلا الله ؛ ثم تلا e : ] إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ . قال: ثم أدبر الرجل فقال رسول اللهe:" ردوا علي الرجل". فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا فقال رسول الله e : " هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم " رواه أحمد والشيخان ([1]). فدلَّ ذلك على أن الله تعالى استأثر بعلمها وحده ، فلا ملك مقرب ولا نبي مرسل عنده علم بتوقيتها . ولذلك كان النبي e إذا سئل عن الساعة إما أن يجيب ببعض أشراطها ، أو يصرف السائل إلى ما هو أهم له في دينه وهو الاستعداد لها. ومن الأول ، ما روى أحمد والبخاري عن أبي هريرة t قال : بينما النبي e في مجلس يحدث القوم ، جاءه أعرابي فقال : متى الساعة ؟ فمضى رسول الله e يحدث فقال بعض القوم : سمع ما قال فكره ما قال ، وقال بعضهم : بل لم يسمع ؛ حتى إذا قضى حديثه قال : " أين أراه السائل عن الساعة ؟ " ، قال : ها أنا يا رسول الله . قال : " فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ". قال : كيف إضاعتها ؟ قال : " إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" ( [2] ). ومن الثاني : ما روى أحمد والشيخان عن أنس t أن رجلا سأل النبي e عن الساعة فقال: متى الساعة ؟ قال : " وماذا أعددت لها " ، قال : لا شيء ، إلا أني أحب الله ورسوله e . فقال : " أنت مع من أحببت " ، قال أنس : فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي e : " أنت مع من أحببت " ؛ قال أنس t : فأنا أحب النبي e وأبا بكر وعمر ، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم ، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم ( [3] ).
وعلى ذلك ، فكل ما يطلع على الناس بين الحين والآخر على ألسنة بعض من لا علم عندهم من تحديد لميعاد يوم القيامة ، ما هو إلا تخرصات وأكاذيب لا دليل عليها . والله تعالى يقول : ] قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين[ (البقرة: 111، والنمل: 64).
ولما كان الإيمان بالساعة وأشراطها من الإيمان بالغيب ، كان الكلام عنه موقوفًا على ما صح به الدليل من كتاب الله وسنة رسوله e ، فهو مما يثبت بالوحي لا بالعقل ، وإن كانت الأدلة العقلية تساند الأدلة النقلية ولا تعارضها ، بل يتضافران على أنه لابد من الإيمان باليوم الآخر ، وقد وقع مما أخبر به النبي e من علامات الساعة ، مما آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ، ليكون الواقع الذي شوهد دليلا على الغائب الذي لم يقع ، فكله حق وصدق ، وتلك من قضايا الإيمان ؛ والذين ينكرون ذلك ليس عندهم أثارة من علم .

1 – أحمد: 2 / 426، والبخاري (50، 4777)، ومسلم (9، 10). ورواه النسائي (499)، وابن ماجة (64، 4044)، وغيرهم.

[2] - أحمد : 2 / 361، والبخاري (59، 6496) . ورواه ابن حبان (104) .

[3] - أحمد في مواضع منها: 3 / 165، 208، والبخاري في مواضع منها (3688)، ومسلم (2639). ورواه أبو داود (5127)، والترمذي (2385)، وغيرهم.
 
الرد على من ينكر الساعة
الذين لا يؤمنون بالغيبيات ، ولا يؤمنون إلا بالمحسوسات تبعًا لأوهام وشبهات لشياطين الإنس والجن ، وبالتالي فهم يكذبون بأشراط الساعة ، ويكذبون بيوم الحساب ، نسألههم : أرأيت الروح منك أو من غيرك ؟ فإن قال : آثارها موجودة ، قيل : وتلك التي أخبر بها الوحي ووقعت - كالتطاول في البنيان ، وظهور الكاسيات العاريات ، وفشو الربا ، وانتشار الزنا ، وغير ذلك مما أخبر به المعصوم r فأصبح عينًا بعد خبر - أليست موجودة مشاهدة بعد أن كانت غيبًا ؟! ويقال لأحدهم : أين عقلك وفهمك إذا غلبك النوم ؟
إن الغيبيات التي أخبر بها الشرع المطهر هي قضايا الإيمان ، والذين يريدون أن يشككوا في ذلك إنما يرومون تشكيك المؤمنين في إيمانهم ، وهيهات هيهات ، فالإيمان الصادق لا يتأثر بمثل هذه الشبهات .
ولهذا فإن هؤلاء حين تخرج الشمس من مغربها ، ويراها الناس يؤمنون أجمعون ، ولكن ولات حين مناص : ] يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [ ( الأنعام : 158 ) .
 
شبهة والرد عليها
يثير المنكرون باليوم الآخر شبهة مؤداها أن الإيمان بالآخرة يدعو الناس إلى السلبية في الحياة الدنيا ، وإلى إهمال هذه الحياة وتركها بلا جهد لتحسينها وإصلاحها ، وإلى تركها للطغاة والمفسدين تطلعًا إلى نعيم الآخرة ..
والذين يفترون هذا الافتراء يضيفون على الافتراء الجهالة ! فهم يخلطون بين عقيدة الآخرة كما هي في التصورات الكنسية وعقيدة الآخرة في دين الله القويم ؛ فالدنيا في - التصور الإسلامي - هي مزرعة الآخرة ، والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه الحياة ودفع الشر عنها ، ومدافعة الطواغيت لرد الاعتداء عن سلطان الله فيها ، وتحقيق العدل والخير للناس جميعًا ؛ كل أولئك هو زاد الآخرة ، وهو الذي يفتح للمجاهدين أبواب الجنة ، ويعوضهم عما فقدوا في صراع الباطل ، وما أصابهم من الأذى .
فكيف يتفق لعقيدة هذه تصوراتها أن يدع أهلها الحياة الدنيا تركد وتأسن أو تفسد وتختل ، أو يشيع فيها الظلم والطغيان ، أو تتخلف في الصلاح والعمران ، وهم يرجون الآخرة ، وينتظرون فيها الجزاء من الله تعالى ؟! ([1]) .
وإنما سبيلهم إلى هذا الجزاء عمارة الأرض وفق منهج الله تعالى .

[1] - بتصرف من ( اليوم الآخر في ظلال القرآن ) ص 5، 6.
 
تعريف اليوم الآخر
اليوم الآخر هو يوم القيامة ، سمي بذلك لأنه آخر أيام الدنيا ؛ وأول ذلك دخول الإنسان قبره ، لما روى أحمد وابن ماجة والترمذي وحسنه عن عثمان t أنه كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته ، فقيل له : تذكر الجنة والنار فلا تبكي ، وتبكي من هذا ؟ فقال : إن رسول الله e قال : " القبر أول منازل الآخرة ، فإن ينج منه ، فما بعده أيسر منه ، وإن لم ينج منه ، فما بعده أشد منه " ( [1] ).
وقيل: أول ذلك من النشر ، أي : الخروج من القبور .
والجمع بينهما بأن دخول القبر أولية خاصة ، بالنسبة للمقبور ؛ والنشر أولية عامة ، للأولين والآخرين .. والعلم عند الله تعالى .
واتفق على أن آخره : استقرار أهل الجنة في الجنة ، واستقرار أهل النار - الذين هم أهلها – فيها .

http://vb.tafsir.net/tafsir38074/#_ftnref11 – أحمد : 1 / 63، والترمذي (2308) ، وابن ماجة (4267) ، ورواه الحاكم : 4 / 330، 331 ، وصححه ووافقه الذهبي .
 
معنى الإيمان باليوم الآخر
التصديق الجازم بيوم القيامة وما يتعلق به من مقدمات ومشتملات ، أما المقدمات : فعلامات الساعة ؛ وأما المشتملات : فالموت وما بعده من قبر وحياة البرزخ ، والنفخ في الصور ، والبعث والنشور ، والعرض ، والحساب ، والميزان ، والشفاعة ، والحوض ، والصراط ، والجنة والنار . نسأل الله الكريم الجنة ونعوذ به من النار .
قال الله تعالى : ] وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [ ( البقرة : 4 ) ، وقال سبحانه : ] وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [ ( البقرة : 177 ) ، وقال تعالى : ] فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [ (آل عمران: 25) .
وقد أجمعت الأمة على أن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان ، من أنكره فهو كافر .
 
آثار الإيمان باليوم الآخر
الإيمان باليوم الآخر من المهمات في حياة المسلم ، إذ الإيمان بالله العظيم يحقق له المعرفة بالله تعالى ، الذي أوجد هذا الكون بما فيه من مخلوقات مرئية وغير مرئية ، وما يجب على الإنسان أن يفعله من أداء لحق الخالق العظيم .
والإيمان باليوم الآخر يحقق المعرفة بالمصير الذي ينتهي إليه هذا الوجود ، وعلى ضوء هذا يحدد الإنسان هدفه وغايته ، ويتخذ الوسائل للوصول إلى الغاية المنشودة ، ومتى فقد الإنسان هذه المعرفة فسوف يعيش بلا هدف ولا غاية ، وحينئذ يفقد سموه الروحي وفضائله العليا ، فيعيش كما تعيش البهائم .
ومن أعظم آثار الإيمان باليوم الآخر السعادة في الدنيا ، الموصولة بسعادة الآخرة ؛ إذ السعادة في الدنيا مرتبطة بطيب النفس ، والرضا بالمقدور ، طلبًا لما وراء ذلك من النعيم المقيم ، الذي لا يحول ولا يزول ، ولا يكون ذلك إلى بالإيمان باليوم الآخر ، الذي يكون فيه هذا الجزاء ؛ والسعادة في الآخرة مربوطة بالنجاة يوم القيامة من عذاب الله تعالى ، قال الله تعالى: ] وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [ (هود: 108) .
وأما المكذبون باليوم الآخر فمتوعدون بالويل ، وهو الهلاك والعذاب ، قال الله تعالى : ] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ . الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ . وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [ (المطففين 10 : 12) .... اللهم سلِّمنا ، وسلِّم منا ... آمييييين .
 
علامات الساعة
الحديث عن مشاهد يوم القيامة لا بد له من تمهيد نذكر فيه بعض ما يتعلق بعلامات الساعة ، قال الله تعالى: ] فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا[ ( محمد : 18 ) ، والأشراط : العلامات ؛ وقد بيَّن القرآن الكريم بعض هذه العلامات : كخروج الدابة ، ونزول عيسى ابن مريم e ، وخروج يأجوج ومأجوج .
وأخبر النبي e أمته بما يكون إلى قيام الساعة ، فروى أحمد والشيخان عن حذيفة t قال: لقد خطبنا النبي e خطبة ما ترك فيها شيئًا إلى قيام الساعة إلا ذكره ، علمه من علمه وجهله من جهله ، إن كنت لأرى الشيء قد نسيته فأعرفه كما يعرف الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه ( [1] ) ؛ ولهذا جاءت أحاديث كثيرة تتحدث عن أشراط الساعة .
وقد قسم العلماء أشراط الساعة إلى : أشراط صغرى ، وأشراط كبرى .
وقسموا الأشراط الصغرى إلى ثلاثة أقسام : قسم ظهر وانقضى ، وقسم ظهر ولا زال يتتابع ويكثر ، وقسم لم يظهر بعد . أما العلامات الكبرى فلم يظهر بعد منها شيء .
وهذا التقسيم لأهل العلم لا يعني أنه لابد للعلامات الصغرى أن تنقضي قبل أن تظهر علامةٌ كبرى ، فقد تظهر بعض العلامات الكبرى ، ثم تتابع بعد ذلك من الصغرى والكبرى ما شاء الله أن يكون ؛ وكذلك ترتيب كثير من الأشراط هو اجتهاد ممن رتبها من أهل العلم ، لأنه لم يأتِ في ترتيب كثير منها شيء عن المعصوم e .
ولسنا هنا بصدد التفصيل في ذكر علامات الساعة ، فقد صنف فيها كثير من أهل العلم ، ولكنا نذكر ما هو متصل بمشاهد يوم القيامة ؛ وأول ما نتحدث عنه :

[1] - أحمد: 5 / 385، والبخاري (6604)، ومسلم (2891).
 
الريح التي تقبض أرواح المؤمنين
قضى الله تعالى أن تقوم الساعة على شرار الناس، روى أحمد ومسلم عن ابن مسعود t عن النبي e قال : " لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس" ( [1] ) .
وروى أحمد والطبراني والحاكم وصححه ، ووافقه الذهبي ، عن عِلْباء السلمي t أن رسول الله e قال : " لا تقوم الساعة إلا على حثالة الناس " ( [2] ) .
ولهذا وبعد توالي فتن آخر الزمان وأشراط الساعة ، ومن ذلك موت نبي الله عيسى e وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة ، والخسوف ، والدخان ، يرسل الله تعالى ريحًا باردة طيبة ألين من الحرير ، لا تدع أحدًا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته ؛ فقد روى مسلم عن عائشة - رضي الله عنها – قالت : سمعت رسول الله e يقول : " لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى " ؛ فقلت: يا رسول الله ! إن كنت لأظن حين أنزل الله : ] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [ ( التوبة :33 ، والصف : 9 ) ، أن ذلك تامًا ! قال : " إنه سيكون من ذلك ما شاء الله ، ثم يبعث الله ريحًا طيبة ، فتوفي كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ، فيبقى من لا خير فيه ، فيرجعون إلى دين آبائهم" ( [3] ) .
وفي حديث النواس بن سمعان t الذي رواه أحمد ومسلم : ".. فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحًا طيبة ، فتأخذهم تحت آباطهم ، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ، ويبقى شرار الناس ، يتهارجون فيها تهارج الحمر ، فعليهم تقوم الساعة " ( [4] ) .
وروى أحمد ومسلم عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله e : ".. ثم يرسل الله ريحًا باردة ، من قبل الشام ، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته ، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه " قال : سمعتها من رسول الله e قال : " فيبقى شرار الناس ، في خفة الطير وأحلام السباع ، لا يعرفون معروفًا ، ولا ينكرون منكرًا ، فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون ؟ فيقولون : فما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان ، وهم في ذلك دارٌّ رزقهم ، حسن عيشهم ، ثم ينفخ في الصور..." الحديث ( [5] ) .
وعند مسلم عن أبي هريرة t أن رسول الله e قال : " إن الله يبعث ريحًا من اليمن ألين من الحرير ، فلا تدع أحدًا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته " ( [6] ) ؛ ورواه أبو يعلى ومن طريقه ابن حبان بلفظ : " لا تقوم الساعة حتى تبعث ريح حمراء من قبل اليمن ، فيكفت الله بها كل نفس تؤمن بالله واليوم الآخر ، وما ينكرها الناس من قلة من يموت فيها : مات شيخ في بني فلان ، وماتت عجوز في بني فلان ؛ ويُسرى على كتاب الله فيرفع إلى السماء ، فلا يبقى في الأرض منه آية ، وتقيء الأرض أفلاذ كبدها من الذهب والفضة ، ولا ينتفع بها بعد ذلك اليوم ، يمر بها الرجل فيضربها برجله ويقول : في هذه كان يقتتل من كان قبلنا ، وأصبحت اليوم لا ينتفع بها " ( [7] ) .
وقد يبدو من ظاهر هذه الأحاديث تعارض ، ففي حديث أبي هريرة : " ريحًا من اليمن " ، وفى حديث ابن عمرو : " من قبل الشام " ؛ قال النووي - رحمه الله : ويجاب عن هذا بوجهين ؛ أحدهما : يحتمل أنهما ريحان شامية ويمانية ، ويحتمل أن مبدأها من أحد الإقليمين ، ثم تصل الآخر وتنتشر عنده ، والله أعلم .ا.هـ ( [8] ) .
وبعد قبض المؤمنين ، يبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع ( [9] ) ، لا يعرفون معروفًا ، ولا ينكرون منكرًا ، يتهارجون تهارج الحمر ، يأمرهم الشيطان فيعبدون الأصنام ، ولا يبقى على الأرض من يقول : الله ، الله ؛ وعلى هؤلاء الشرار تقوم الساعة .

[1] - أحمد: 1 / 394، 435، ومسلم (2949).

[2] - أحمد: 3 / 499، والطبراني في الكبير: 18 / 84 (156)، والحاكم (8517) وصححه.

[3] - مسلم ( 2907 ) .

[4] - أحمد : 4 / 181 ، ومسلم ( 2937 ) .

[5] - مسلم ( 2940 ) .

[6] - مسلم ( 117 ) .

[7] - أبو يعلى ( 6203 ) ، وابن حبان ( 6853 ) .

[8] - انظر المنهاج شرح مسلم للنووي: 2 / 133.

[9] - قال النووي في شرح مسلم: 18 / 76: قال العلماء : معناه يكونون فى سرعتهم الى الشرور وقضاء الشهوات والفساد كطيران الطير ، وفى العدوان وظلم بعضهم بعضًا في أخلاق السباع العادية .
 
النار التي تحشر الناس إلى محشرهم في آخر الزمان
الحشر لغة هو الجمع والضم ، واصطلاحًا : هو جمع الناس وضمهم إلى محشرهم ، أي : مكان جمعهم .
وأقسام الحشر أربعة : اثنان في الدنيا ، واثنان في الآخرة ؛ أما اللذان في الدنيا فأولهما ما ذكره الله تعالى في سورة الحشر : قال تعالى : ] هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [ ( الحشر : 2 ) ، وهذا كان في يهود بني النضير ؛ وأما الحشر الثاني : فهو موضوع حديثنا هنا ، وهو حشر الناس في آخر الزمان إلى أرض المحشر ببيت المقدس .
وأما الحشران يوم القيامة :
فالأول : الحشر إلى موقف القيامة ، كقوله تعالى : ] وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [ ( الكهف : 47 ) ، وكقول النبي e : " يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا " ( [1] ) ، وهذا يكون بعد البعث .
والثاني : حشر الناس إلى دار المستقر : فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة ، قال تعالى : ] يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [ (مريم: 85) .
وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار ، قال تعالى : ] احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [ ( الصافات : 22 ، 23 ) ؛ فهذا الحشر هو بعد حشرهم إلى الموقف ، وهو آخر ما يكون من أمر الناس قبل ذبح الموت .

[1] - البخاري (6527)، ومسلم (2859) عن عائشة رضي الله عنها.
 
وحديثنا هنا عن حشر الناس إلى أرض المحشر عند بيت المقدس في آخر الزمان ، فعن سمرة بن جندب t أن رسول الله e كان يقول لنا : " إنكم تحشرون إلى بيت المقدس ، ثم تجتمعون يوم القيامة " رواه الطبراني ( [1] ) .
وروى ابن ماجة وأبو يعلى والطبراني عن ميمونة بنت سعد - رضي الله عنها - مولاة النبي e قالت : يا رسول الله ، أفتنا في بيت المقدس ؟ قال : " هو أرض المحشر ، وأرض المنشر ، ائتوه فصلوا فيه ، فإن صلاة فيه كألف صلاة " قلنا : يا رسول الله ! فمن لم يستطع أن يتحمل إليه ؟ قال :" من لم يستطع أن يأتيه فليهد إليه زيتًا يسرج فيه ، فإن من أهدى إليه زيتًا كان كمن قد أتاه " وإسناده صحيح ( [2] ) .
فإذا أذن الله تعالى لجمع الناس إلى محشرهم ، أخرج النار التي تطردهم طردًا إلى أرض المحشر ، وتخرج هذه النار من قعر عدن ، كما في حديث حذيفة ابن أسيد t عند أحمد ومسلم : ".. وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم" ؛ وفي رواية : " ونار تخرج من قعرة عدن ترحل الناس" ( [3] ) .
وروى أحمد والترمذي وصححه وابن حبان عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله e : " ستخرج نار من حضرموت - أو من نحو حضرموت - قبل يوم القيامة ، تحشر الناس" ، قالوا : يا رسول الله ، فما تأمرنا ؟ قال : " عليكم بالشام " ( [4] ) .
وروى أحمد وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن أبي ذر قال : أقبلنا مع رسول الله e فرأينا ذا الحليفة ، فتعجل رجال إلى المدينة ، وبات رسول الله e وبتنا معه ، فلما أصبح سأل عنهم ، فقيل : تعجلوا إلى المدينة ، فقال : " تعجلوا إلى المدينة والنساء ، أما إنهم سيدعونها أحسن ما كانت " ، ثم قال : " ليت شعري متى تخرج نار من اليمن من جبل الوراق ، تضيء بها أعناق الإبل بروكا ( [5] ) ببصرى كضوء النهار" ( [6] ) .
وروى أحمد والبخاري عن أنس t قال : بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله e المدينة ، فأتاه فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ؟ ومن أي شيء ينزع إلى أخواله ؟ فقال رسول الله e : " أخبرني بهن آنفا جبريل " فقال عبد الله : ذاك عدو اليهود من الملائكة ! فقال رسول الله e : " أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب..." الحديث ( [7] ) ، ورواه ابن أبي شيبة عن أنس أن عبد الله بن سلام سأل النبي e : ما أول أشراط الساعة ؟ فقال : " أخبرني جبريل آنفًا أن نارًا تحشرهم من قبل المشرق " وإسناده حسن ، ورواه الطيالسي عن أنس عن النبي e قال : " أول شيء يحشر الناس نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب " ( [8] ) .
وقد يبدو بين ظاهر هذه الأحاديث تعارض ، في كون هذه النار أول العلامات أو آخرها : ففي حديث حذيفة بن أسيد t : " وآخر ذلك نار " ، وفي حديث أنس t : " أما أول أشراط الساعة فنار " ، وقد أجاب عن ذلك ابن حجر – رحمه الله - في ( الفتح ) فقال : ويجمع بينها بأن آخريتها باعتبار ما ذكر معها من الآيات ، وأوليتها باعتبار أنها أول الآيات التي لا شيء بعدها من أمور الدنيا أصلا ، بل يقع بانتهائها النفخ في الصور ، بخلاف ما ذكر معها ، فإنه يبقى بعد كل آية منها أشياء من أمور الدنيا . ا.هـ ([9]) .
وكذلك في مكان خروجها ففي حديث حذيفة t أنها : " تخرج من قعرة عدن " ، وفي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما : " من حضرموت ، أو من نحو حضرموت " ، وفي حديث أنس t : " تحشر الناس من المشرق إلى المغرب " ؛ قال ابن حجر – رحمه الله : ‎وأما كونها تخرج من قعر عدن ، فلا ينافي حشرها الناس من المشرق إلى المغرب ، وذلك أن ابتداء خروجها من قعر عدن ، فإذا خرجت انتشرت في الأرض كلها ، والمراد بقوله : " تحشر الناس من المشرق إلى المغرب " إرادة تعميم الحشر ، لا خصوص المشرق والمغرب ، أو أنها بعد الانتشار أول ما تحشر تحشرُ أهل المشرق ، ويؤيد ذلك أن ابتداء الفتن دائما من المشرق ، وأما جعل الغاية إلى المغرب فلأن الشام بالنسبة إلى المشرق مغرب .ا.هـ. بتصرف( [10] ) .

[1] - الطبراني في الكبير: 7 / 264 (7076)، وإسناده حسن.

[2] - أحمد: 6 / 463، ابن ماجة (1407)، وأبو يعلى (7088).

[3] - أحمد: 4 / 6، 7، ومسلم (2901)، وأبو داود (4311)، والترمذي (2183).

[4] - أحمد: 2 / 8، والترمذي (2217) وصححه، وابن حبان كما في موارد الظمآن (2312).

[5] - أي الإبل في حال بروكها.

[6] - أحمد: 5 / 144، ابن حبان (6841)، والحاكم: (8366).

[7] - أحمد: 3 / 189، والبخاري (3329، 3938، 4480). ولفظ البخاري: بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، قال: ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة، ومن أي شيء ينزع الولد إلى أخواله، فقال صلى الله عليه وسلم:" خبرني بهن آنفا جبريل، قال عبد الله: ذاك عدو البهود من الملائكة، فقال صلى الله عليه وسلم: أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب؛ وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد حوت؛ وأما الشبه في الولد: فإن الرجل إذا غشِيَ المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإن سبق ماؤها كان الشبه لها" قال: أشهد أنك رسول الله.

[8] - مصنف ابن أبي شيبة (37316)، والطيالسي (2050).

[9] - فتح الباري: 13 / 82.

[10] - فتح الباري: 11 / 378، 379.
 
صفة الحشر
وأما صفة هذا الحشر فروى الشيخان عن أبي هريرة t قال : قال رسول الله e : " يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق : راغبين راهبين ، واثنان على بعير ، وثلاثة على بعير ، وأربعة على بعير ، وعشرة على بعير ، وتحشر بقيتهم النار ، تقيل معهم حيث قالوا ، وتبيت معهم حيث باتوا ، وتصبح معهم حيث أصبحوا ، وتمسي معهم حيث أمسوا " ( [1] ) .
وروى الطبراني والحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي عن عبد الله بن عمرو t قال : قال رسول الله e : " تبعث نار على أهل المشرق ، فتحشرهم إلى المغرب ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا ، يكون لها ما سقط منهم وتخلف ، وتسوقهم سوق الجمل الكسير " ( [2] ) .
وروى أحمد والترمذي والطبراني والحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن معاوية بن حيدة t قال : قلت : يا رسول الله أين تأمرني ؟ قال : " ههنا " ، ونحا بيده نحو الشام ، قال : " إنكم محشورون رجالا ، وركبانا ، وتجرون على وجوهكم " ( [3] ) .

[1] - البخاري (6522)، ومسلم (2861).

[2] - الطبراني في الأوسط (8092)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 8 / 12: رجاله ثقات. ا.هـ. ورواه الحاكم (8414، 8647).

[3] - أحمد: 5 / 3، 5، والترمذي (2424) وصححه، والطبراني في الكبير: 19 / 408 (974)، والحاكم (8686).
 
زمن هذا الحشر
من هذه الأحاديث تبيَّن أن الحشر المقصود هنا قبيل يوم القيامة ، وهو إلى أرض المحشر بالشام ، وأن سرعة الحشر بطيئة كالجمل الكسير ، وأن النار تقف عن الحركة عند البيات والقيلولة ، وأن الناس في حشرهم هذا طرائق ثلاث :
الأولى : راغبين راهبين ، أي : راغبين في النجاة راهبين من النار .
والثانية : يعتقبون على البعير الاثنان والثلاثة والأربعة والعشرة .
والثالثة : تحشرهم النار فتحيط بهم من ورائهم وتسوقهم إلى المحشر من كل جانب ؛ ومن يتخلف تأكله .
 
لماذا كانت الشام هي أرض المحشر ؟
في تعليل أن الشام هي أرض المحشر يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو يتحدث عن مناقب الشام : وفيها المسجد الأقصى ، وفيها مبعث أنبياء بني إسرائيل ، وإليها هجرة إبراهيم ، وإليها معراج ومسرى نبينا ، ومنها معراجه ، وبها ملكه وعمود دينه وكتابه ، والطائفة المنصورة من أمته ، وإليها المحشر والمعاد ، كما أن من مكة المبدأ ، فمكة أم القرى من تحتها دحيت الأرض ، والشام إليها يحشر الناس ، كما في قوله تعالى : ] لأَوَّلِ الْحَشْر [ [ الحشر : 2 ] ، نبه على الحشر الثاني ، فمكة مبدأ وإلياء معاد في الخلق ، وكذلك بدأ الأمر ، فإنه أسري بالرسول من مكة إلى إلياء ، ومبعثه ومخرج دينه من مكة ، وكمال دينه وظهوره وتمامه حتى يملكه المهدي بالشام ؛ فمكة هي الأول والشام هي الآخر في الخلق والأمر ، في الكلمات الكونية والدينية ( [1] ) ا.هـ.
وبعد ؛ فجملة القول أن هذه النار هي آخر العلامات المؤذنة بانتهاء الدنيا ، وأنها تحشر الناس إلى محشرهم ليصعقوا ، فليس بعدها إلا النفخ في الصور ، ثم البعث ، فهي بهذا الاعتبار أول العلامات لبدء القيامة . والعلم عند الله تعالى .

[1] - انظر مناقب الشام ص 78 ، تحقيق الألباني المكتب الإسلامي .
 
آخر يوم من أيام الدنيا
آخر يوم من أيام الدنيا هو يوم جمعة ، فقد روى أحمد ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ : " خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا ، وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ" ( [1] ) . وقد أخبر النبي e أن الخلائق جميعًا إلا الإنس والجن تكون في يوم الجمعة مستمعة ، مصغية ، منتظرة للساعة ، مشفقة منها ؛ فروى مالك وأحمد وأبو داود والنسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ أُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ ، وَفِيهِ مَاتَ ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ تُصْبِحُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، شَفَقًا مِنَ السَّاعَةِ ، إِلا الْجِنَّ وَالإِنْسَ " ( [2] ) .

[1] - أحمد : 2 / 417 ، مسلم ( 854 ) .

[2] - مالك : 1 / 108 ( 242 ) ، وأحمد : 5 / 453 ، وأبو داود ( 1046 ) ، والنسائي ( 1430 ) وإسناده صحيح .
 
النفخ في الصور
تعريف الصور :
الصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام ، ويقال : إن الصور اسم القرن بلغة أهل اليمن ، وشاهده قول الشاعر :
نحن نفخناهم غداة النقعين ... نفخًا شديدًا لا كنفخ الصورين

وروى أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي في الكبرى وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن عبد الله بن عمرو t قال: جاء أعرابي إلى النبي e فقال : ما الصور ؟ قال : " قرن ينفخ فيه " ( [1] ) .
صاحب الصور وصفته :
اشتهر أن صاحب الصور هو إسرافيل u ، قال القرطبي - رحمه الله : والأمم مجمعة على أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل عليه السلام ( [2] ) .
وروى الحاكم وصححه عن أبي هريرة t قال : قال رسول الله e : " إن طرف صاحب الصور - مذ وكل به - مستعد ينظر نحو العرش ، مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه ، كأن عينيه كوكبان دريان " ( [3] ) .

[1] - أحمد : 2 / 162 ، 192 ؛ ورواه أبو داود ( 4742 ) ، والترمذي ( 2430 ، 3244 ) وحسنه ، والنسائي في الكبرى (11312، 11381 ، 11456 ) ، والدارمي ( 2794 ) ، وابن حبان ( 7312 ) ، والحاكم : 2 / 436 ، 506، 4 / 560 ، وصححه ووافقه الذهبي .

http://vb.tafsir.net/tafsir38074/#_ftnref2 - [2]انظر تفسير القرطبي : 7 / 20 ، والتذكرة : 1 / 224 .

[3] - الحاكم : 4 / 603 ( 8676 ) ، ورواه أبو نعيم في الحلية : 4 / 99 ، وحسن إسناده الحافظ في الفتح : 11 / 368.
 
كم مرة ينفخ في الصور
ذهب بعض العلماء إلى أنها ثلاث نفخات : الأولى نفخة الفزع ، والثانية نفخة الصعق ، والثالثة نفخة البعث ؛ والأكثر على أنهما نفختان : الأولى نفخة الصعق وهي نفخة الفزع ، ولكنها تطول فيفزع الناس ثم يصعقوا ؛ والثانية هي نفخة البعث ؛ وسبب الخلاف هل الفزع في قول الله تعالى : ] وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [ [ النمل : 87 ] ، هو نفخة مستقلة ، أم أنه صفة لنفخة الصعق ؟ والراجح أنه صفة لنفخة الصعق ؛ لأنه لم يذكر في سورة الزمر إلا نفختان ، قال الله تعالى : ] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [ [ الزمر : 68 ] ؛ والعلم عند الله تعالى .
 
ماذا يحدث قبيل النفخ في الصور ؟

قبيل نفخة الصعق تتغير معالم الكون ، فتنشق السماء وتنفطر ، وتكور الشمس ، وتتناثر الكواكب ، وتزلزل الأرض وتدك ، وتسير الجبال ، وتنفجر البحار وتسجر ، في دمار كوني شامل رهيب يَشْدَهُ الناس ويزلزل قلوبهم ، روى ابن جرير عن أبي بن كعب قال : ست آيات قبل يوم القيامة : بينا الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس ، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم ، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض ، فتحركت واضطربت واختلطت ، ففزعت الجن إلى الإنس ، والإنس إلى الجن ، واختلطت الدواب والطير والوحوش ، فماجوا بعضهم في بعض ، ] وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [ [ التكوير : 5 ] ، قال : اختلطت ، ] وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ [ [ التكوير : 4 ] ، قال : أهملها أهلها ، ] وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [ [ التكوير : 6 ] ؛ قال : قالت الجن : نحن نأتيكم بالخبر ، قال : انطلقوا إلى البحر ، فإذا هو نار تتأجج ، قال : فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى ، وإلى السماء السابعة العليا ، قال : فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم ( [1] ) .
وأخرج أحمد والترمذي والطبراني وصححه الحاكم من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – يرفعه : " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ : ] إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [ ، و ] إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ [ ، و ] إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ [ " ( [2] ) .

1 – ابن جرير : 30 / 41 ، وإسناده حسن .

[2] - أحمد : 2 / 27، 36، 37، 100، والترمذي (3333) وحسنه ؛ ورواه الحاكم : 4 / 576، 577 ، وصححه ووافقه الذهبي .
 
سرعة قيام الساعة:
عندما يريد الله تعالى أن ينهي الحياة يأذن لإسرافيل بالنفخ في الصور ، فينفخ النفخة الأولى ، وهي نفخة الصعق ( [1] ) ، وهي نفخة عظيمة تصعق كل من في السماوات والأرض إلا من شاء الله ، يسمعها كل أحد فلا يستطيع مع سماعها أن يوصي بشيء ، أو أن يعود إلى أهله ، قال الله تعالى : ] مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ . فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [ [ يس : 49 ، 50 ] ؛ وقال I : ] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [ [ الزمر : 68 ] .
وفي حديث أبي هريرة t الذي رواه أحمد والبخاري أن رسول الله e قال : ".. وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا ، فَلا يَتَبَايَعَانِهِ وَلا يَطْوِيَانِهِ ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ ، فَلا يَطْعَمُهُ ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ ، فَلا يَسْقِي فِيهِ ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أَحَدُكُمْ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ ، فَلا يَطْعَمُهَا " ( [2] ) .
وفي حديث عبد الله بن عمرو t الذي رواه أحمد ومسلم : " يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين ، لا أدري أربعين يومًا أو أربعين شهرًا أو أربعين عامًا ، فيبعث الله عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود ، فيطلبه فيهلكه ، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام ، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته ، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه " قال سمعتها من رسول الله e قال : " فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع ، لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا ، فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون ؟ فيقولون : فما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان ، وهم في ذلك دارٌّ رزقهم ، حسن عيشهم ، ثم ينفخ في الصور ، فلا يسمعه أحد إلا أصغى لِيتًا ، ورفع ليتًا " ، قال : " وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله ( [3] ) فيصعق ، ويصعق الناس .." الحديث ( [4] ) .
وروى الطبراني والحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي عن عقبة بن عامر t قال : قال رسول الله e : " يطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من قبل المغرب ، مثل الترس ، فلا تزال ترتفع في السماء وتنتشر ، حتى تملأ السماء ، ثم ينادي مناد : أيها الناس ، أتى أمر الله فلا تستعجلوه " ، قال رسول الله e : " فوالذي نفسي بيده إن الرجلين ينشران الثوب ، فلا يطويانه ، وإن الرجل ليمدر ( [5] ) حوضه ، فلا يسقي منه شيئا أبدًا ، والرجل يحلب ناقته ، فلا يشربه أبدًا ، ويشتغل الناس" ( [6] ) .
فهذه الأحاديث تخبر عن سرعة قيام الساعة ، وأن من تقوم عليهم الساعة هم شرار الناس ، وأنهم تظلهم سحابة سوداء ، تطلع من جهة المغرب ، وتنتشر حتى تملأ السماء ، وينادي مناد : ] أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [ ( النحل : 1 ) ، ثم ينفخ في الصور .

[1] - الصعق: أن يُغشَى على الإنسانِ من صَوتٍ شديدٍ يسمَعُه , وربَّما مات منه , ثم استُعْمل في الموت كثيراً 0قاله في النهاية في غريب الحديث: 3 / 32.

[2] - أحمد : 2 / 369 ، والبخاري ( 6506 ) .

[3] - يلوط حوض إبله ، أي : يصلحه ويطينه.

[4] - أحمد : 2 / 166 ، ومسلم ( 2940 ) ؛ والليت : هو صفحة العنق ، أي : أمال عنقه ليستمعه من السماء جيدًا .

[5] - قال ابن قتيبة في غريب الحديث: 2 / 350: يقال: هو يَمْدُر حَوْضه إذا أخذ المَدَر فسدَّ به حَصاص ما بين حجارته.

[6] - الطبراني في الكبير: 17 / 325 (899)، وقال المنذري في الترغيب: 4 / 382: بإسناد جيد، رواته ثقات مشهورون. ا.هـ. وقال الهيثمي في المجمع: 10 / 331: ورجاله رجال الصحيح إلا محمد بن عبد الله مولى المغيرة وهو ثقة.ا.هـ. والحاكم: 4 / 539، 540، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
 
نفخة الصعق
نفخة الصعق هي نفخة الفزع عند جمهور العلماء ، فعندما ينفح إسرافيل النفخة الأولى يفزع الناس ثم يصعقون ، قال الله تعالى : ] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [ (الزمر: 68) ؛ وقال I : ] وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [ (النمل: 87) ، وقال Y : ] فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُور ِ. فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ . عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [ (المدثر: 8 - 10) ، وقال U : ] وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ [ (ص: 15) ، وقال سبحانه : ] وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ . فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [ (يس: 48: 50) ؛ قال ابن كثير – رحمه الله : أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة ، وهذه - والله أعلم - نفخة الفزع ، ينفخ في الصور نفخة الفزع والناس في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم ، فبينما هم كذلك إذ أمر الله U إسرافيل فنفخ في الصور نفخة يطولها ويمدها ، فلا يبقى أحد على وجه الأرض إلا أصغى ليتا ورفع ليتا ، وهي صفحة العنق ، يتسمع الصوت من قبل السماء ، ثم يساق الموجودون من الناس إلى محشر القيامة بالنار تحيط بهم من جوانبهم ، ولهذا قال تعالى : ] فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً [ أي : على ما يملكونه ، الأمر أهم من ذلك ، ] وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [ ثم يكون بعد هذا نفخة الصعق ، التي تموت فيها الأحياء كلهم ما عدا الحي القيوم ، ثم بعد ذلك نفخة البعث .ا.هـ ( [1] ).

[1] - انظر ( فتح الجواد الكريم في اختصار وتحقيق تفسير القرآن العظيم ) : 3 / 593 .
 
كم بين النفختين
بين نفخة الصعق ونفخة البعث أربعون ، ففي الصحيحين وغيرهما عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ " ، قَالُوا : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ، أَرْبَعُونَ يَوْمًا ؟ قَالَ : أَبَيْتُ ؛ قَالُوا : أَرْبَعُونَ شَهْرًا ، قَالَ : أَبَيْتُ ، قَالُوا : أَرْبَعُونَ سَنَةً ؟ قَالَ : أَبَيْتُ ؛ " ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ " ؛ قَالَ : " وَلَيْسَ مِنَ الإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلاَّ يَبْلَى ، إِلاَّ عَظْمًا وَاحِدًا ، وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ( [1] ) . وأَبَيْت ، مَعْنَاهُ : اِمْتَنَعْت مِنْ تَبْيِينِهِ ، لِأَنِّي لَا أَعْلَمُهُ ، فَلَا أَخُوضُ فِيهِ بِالرَّأْيِ . ولم يصح في تحديد هذه الأربعين شيء ، فنقول في تبيينها ما قال أبو هريرة t : أبيت ... والعلم عند الله تعالى .

[1] - البخاري ( 4814 ، 4935 ) ، ومسلم ( 2955 ) .
 
نفخة البعث
بعد تكامل الخلق ، ينفخ في الصور نفخة البعث ، فترد كل روح في جسدها ، ليقوم الناس لرب العالمين ، حفاة عراة غرلا كما ولدتهم أمهاتهم ؛ ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : سمعت رسول الله e يقول : " يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا " ، قلت : يا رسول الله ! النساء والرجال جميعًا ينظر بعضهم إلى بعض ؟! قال e : " يا عائشة ، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض" ( [1] ) . ورواه الطبراني والحاكم عن سودة زوج النبي e قالت : قال رسول الله e : " يبعث الناس حفاة عراة غرلا ، يلجمهم العرق ويبلغ شحمة الأذن " ، قالت : قلت : يا رسول الله ، واسوءتاه ! ينظر بعضنا إلى بعض ؟! قال : " شغل الناس عن ذلك " وتلا رسول الله e : ] يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ . وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ . لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [ ( عبس : 34 – 37 )" ( [2] ) .

[1] - البخاري ( 6527 ) ، ومسلم ( 2859 ) .

[2] - الطبراني في الكبير : 24 / 34 ( 91 ) ، وقال الهيثمي في المجمع : 10 / 333 : رجاله رجال الصحيح ، غير محمد بن عياش وهو ثقة .ا.هـ. ورواه الحاكم : 2 / 154 ، 515 ، وصححه على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي .
 
البعث
البعث لغة : التحريك والإثارة .
وشرعًا : إعادة الأبدان وإدخال الأرواح فيها ، فيخرج الناس عند نفخة البعث أحياء ] مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [ ( القمر : 8 ) .
والإيمان به واجب ، وإنكاره كفر ناقل عن الملة ، وقد أقام الله تعالى الأدلة على البعث في كتابه لدحض شبه المتشككين ، ورد افتراء الكافرين ، قال الله تعالى : ] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ . لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ [ ( النحل : 38 ، 39 ) .
وهذه الأدلة على كثرتها تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : أن الله على كل شيء قدير ، فلا يعجزه إعادة الأجسام بعد أن رمت ، فأول الأدلة على البعث أنه أمر يسير على الله تعالى ، قال جل وعلا : ] زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [ (التغابن: 7) .
لأن الذي بدأ الخلق من العدم لا يعجزه أن يعيده بعد أن صار رميمًا ، بل الخلق من العدم - في تقدير البشر - أشد وأصعب من إعادة الرفات إلى ما كانت عليه قبل أن تموت ، ومن هنا قال الله تعالى : ] وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ (الروم: 27) .
وروى البخاري عن أبي هريرة t عن النبي e قال : " قال الله : كذبني بن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي : فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ، وأما شتمه إياي : فقوله : اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد ، لم ألد ، ولم أولد ، ولم يكن لي كفؤا أحد " ( [1] ) .
وليس هناك شيء هو أصعب على الله تعالى ، ] إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ ( يس : 82 ) ، فالإرادة التي تخلق بمجرد توجه المشيئة إلى الخلق يستوي عندها الواحد والكثير ، فهي لا تبذل جهدًا في خلق كل فرد ، ولا تكرر الجهد مع كل فرد ، وعندئذ يستوي خلق الواحد وخلق الكثيرين ، وبعث الواحد وبعث الكثيرين ، قال جل وعلا : ] مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [ ( لقمان : 28 ) ، قال ابن كثير في تفسيره : أي ما خلق جميع الناس وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كنسبة خلق نفس واحدة ، الجميع هين عليه : ] إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[ ، ] وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [ ( القمر :50) : أي لا يأمر بالشيء إلا مرة واحدة ، فيكون ذلك الشيء ، لا يحتاج إلى تكرره وتوكيده ، ] فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ . فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [ ( النازعات : 13، 14 ) ، وقوله : ] إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [ أي : كما هو سميع لأقوالهم ( أي : لأقوال جميع الخلق ) ، بصير بأفعالهم ( أي : بأفعال جميع الخلق ) ، كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة ، كذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس واحدة .ا.هـ ( [2] ) .
وروى الحاكم والضياء في المختارة عن ابن عباس t أن العاص بن وائل السهمي أخذ عظمًا من البطحاء ، ففته بيده ، ثم قال لرسول الله e : أيحيى الله هذا بعدما أرى ؟ قال رسول الله e : " نعم ؛ يميتك الله ثم يحييك ، ثم يدخلك نار جهنم " . قال : فنزلت الآيات من آخر يس ( [3] ) ؛ وهي ] أَوَلَمْ يَرَ الْإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ . أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ . إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ (يس :77 - 82) ، وفي هذه الآيات عدة أدلة على البعث :
أولها : أن الذي بدأ خلق الإنسان قادر على أن يعيده بعد موته .
وثانيها : أن الذي أنشأ العظام وكساها لحما قادر على أن يعيدها بعد أن ترم .
ثالثها : أن الذي أخرج لكم من الشجر الأخضر نارا تحرق الشجر لا يمتنع عليه فعل ما أراد ، ولا يعجز عن إحياء العظام التي قد رمت وإعادتها بشرًا سويًّا وخلقًا جديدًا ، كما بدأها أول مرة ؛ وذلك أن الكافر قال : النطفة حارة رطبة بطبع الحياة فخرج منها الحياة ، والعظم بارد يابس بطبع الموت ، فكيف تخرج منه الحياة ؟! فأنزل الله تعالى : ] الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [ أي : إن الشجر الأخضر من الماء والماء بارد رطب ضد النار ، وهما لا يجتمعان ، فأخرج الله منه النار ، فهو القادر على إخراج الضد من الضد ، وهو على كل شيء قدير .
الرابع : أن الذي خلق السماوات والأرض يقدر على أن يبعثهم وهو الخلاق العليم ، قال الله تعالى : ] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ ( الأحقاف : 33 ) .

[1] - البخاري ( 3193 ، 4974 ، 4975 ) .

[2] - انظر فتح الجواد الكريم : 3 / 473 .

[3] - الحاكم: 2 / 429 ؛ وصححه على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي ، والضياء في المختارة : 10 / 87 ، 88 ( 82 ) .
 
القسم الثاني : الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة
قال الله تعالى : ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً..[ الآية ( الحج : 5 ) .
قال الطبري في تفسيره : يا أيها الناس إن كنتم في شك من قدرتنا على بعثكم من قبوركم بعد مماتكم وبلائكم استعظاما منكم لذلك، فإن في ابتدائنا خلق أبيكم آدم e من تراب، ثم إنشائناكم ( أي : إنشاؤنا لكم ) من نطفة آدم ، ثم تصريفناكم ( أي : تصريفنا لكم ) أحوالا ؛ حالا بعد حال : من نطفة إلى علقة ، ثم من علقة إلى مضغة ، لكم معتبرًا ومتعظًا تعتبرون به ، فتعلمون أن من قدر على ذلك فغير متعذر عليه إعادتكم بعد فنائكم ، كما كنتم أحياء قبل الفناء .ا.هـ ( [1] ) .
ويتكرر هذا المشهد في القرآن ليدل على قدرة الله تعالى ، وليرد على منكري البعث .
وروى أحمد وابن ماجة عن بسر بن جحاش القرشي t قال : بَزَقَ النَّبِيُّ e فِي كَفِّهِ ، ثُمَّ وَضَعَ أُصْبُعَهُ السَّبَّابَةَ ، وَقَالَ : " يَقُولُ اللَّهُ U : أَنَّى تُعْجِزُنِي ابْنَ آدَمَ ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ ، فَإِذَا بَلَغَتْ نَفْسُكَ هَذِهِ - وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ – قُلْتَ : أَتَصَدَّقُ ، وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ ؟ " ( [2] ) .
ولما أنكر الكافرون البعث ، وقالوا : ] أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا[ جاء الجواب : ] قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا . أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [ ( الإسراء : 49 – 51 ) .
قال شارح الطحاوية - رحمه الله : فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال على التفصيل ، فإنهم قالوا أولاً : ] أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا[، فقيل لهم جوابًا : إن كنتم تزعمون أن لا خالق لكم ، ولا رب لكم ، فهلا كنتم خلقًا لا يفنيه الموت ، كالحجارة والحديد ، أو ما هو أكبر في صدوركم من ذلك ؟! فإن قلتم : كنا على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء ، فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم وبين إعادتكم خلقًا جديدًا ؟!
أو للحجة تقرير آخر وهو : لو كنتم حجارة أو حديدًا أو خلقًا أكبر منهما ، فالله تعالى قادر على أن يفنيكم ويحيل ذواتكم ، وينقلها من حال إلى حال ، ومن يقدر على التصرف في هذه الأجسام من شدتها وصلابتها بالإفناء والإحالة ، فما الذي يعجزه فيما دونها ؟!
ثم أخبر أنهم يسألون سؤالا آخر بقولهم : من يعيدنا إذا استحالت جسومنا ؟ فأجابهم : ] قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [ ؛ فلما أخذتهم الحجة ، ولزمهم حكمها ، انتقلوا إلى سؤال آخر يتعللون به بعلل المنقطع ، وهو قولهم : متى هو ؟ فأجيبوا : ] قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [. ا.هـ ( [3] ) .

[1] - انظر ابن جرير: 17 / 116 (دار الفكر).

[2] - أحمد: 4 / 212، وابن ماجة (2707) وإسناده صحيح.

[ 3 ] - انظر ( شرح الطحاوية ) : 2 / 216 ، 217 ( دار البصيرة ) .
 
القسم الثالث: الاستدلال بإحياء موات الأرض
قال U : ] وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ (فصلت: 39) ، وخشوع الأرض : سكونها قبل نزول الماء ، فلا حياة فيها ولا نبات ؛ والمعنى : أن من البراهين الدالة على كمال قدرته تبارك وتعالى ، والعلامات المظهرة ليسر إحياء الله تعالى الموتى وبعثهم من قبورهم ، أنك ترى الأرض ساكنة هامدة لا حياة فيها ، فهي ميتة ، فإذا أنزل الله تعالى عليها الماء تحركت وأخرجت من جميع الزروع وألوان الثمار ، فالله القدير الذي أحيا الأرض بعد موتها هو الذي يحيي الموتى ، وهو على كل شيء قدير .
ونظير ذلك قوله تعالى : ] وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ . ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [ ( الحج : 5 : 7 ) .
وهكذا يتكرر المشهد - أيضًا - كنموذج للإحياء في الآخرة ، ودليلا على طلاقة القدرة ، فمشهد الإحياء في الأرض قريب من كل قلب وعقل ، وما على الإنسان إلا أن يُعمل الإحساس والفكر فيرى هذه الدلالة واضحة جلية .
وروى أحمد والطيالسي والطبراني في الكبير والحاكم وصححه ووافقه الذهبي عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ t أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَكُلُّنَا يَرَى رَبَّهُ U يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَنْظُرُ إِلَى الْقَمَرِ مُخْلِيًا بِهِ ؟ " قَالَ : بَلَى ؛ قَالَ : " فَاللَّهُ أَعْظَمُ " ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى ؟ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ ؟ قَالَ : " أَمَا مَرَرْتَ بِوَادِي أَهْلِكَ مَحْلًا ؟ " قَالَ : بَلَى ؛ قَالَ : " أَمَا مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضِرًا ؟ " قَالَ : قُلْتُ : بَلَى ؛ قَالَ : " ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ مَحْلًا ؟ " قَالَ : بَلَى ؛ قَالَ : " فَكَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى ، وَذَلِكَ آيَتُهُ فِي خَلْقِهِ " هذا لفظ أحمد والحاكم ( [1] ) .
تلكم الحجج البينات القاطعات ، فهل بعد إقامة هذه الحجج لأحد أن يتشكك أو يرتاب في البعث ؟ اللهم لا ، إلا من خُتم على قلبه ، وأغلق على عقله ، فكان ممن حكى الله عنهم قولهم : ] وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ [ فرد الله تعالى عليهم هذه الفرية بقوله : ] وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ . وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [ (الجاثية : 24 - 26) .
فهؤلاء المنكرون رد الله تعالى عليهم بأن إنكارهم لا معنى له ولا دليل عليه ، وإنما دعاهم إلى هذا القول الظن ، والظن ليس علمًا ، ولا يغني من الحق شيئًا ، وسبب ذلك أنهم يجهلون عظمة الله تعالى وقدرته وحكمته وعلمه ، ثم هم لا يتفكرون في أنفسهم ، فهم أنفسهم أول الدلائل وأقوى الحجج على إثبات ما ينكرون ، فالله تعالى أحياهم أولا ، ويميتهم ثانيًا ، ولا تزال القدرة صالحة لإحيائهم مرة أخرى ، وجمعهم يوم القيامة ، فأي استبعاد في هذا ؟!

[1] - أحمد : 4 / 11، وأبو داود (4731) ، وابن ماجة (180) ، والحاكم : 4 / 560، وصححه ووافقه الذهبي .
 
ومن الأدلة على البعث وقوع إحياء الموتى في الدنيا
أخبر الله تعالى عن وقوع إحياء الموتى في الحياة الدنيا ، ومشاهدة الناس الذين عاصروا ذلك لها ، وإخبارهم بها ، وتناقل ذلك عبر العصور ؛ فقد سأل خليل الرحمن إبراهيم e أن يريه الله كيف يحيي الموتى ؟ قال الله تعالى في سورة البقرة : ]وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) [ .
وتكرر الأمر في بني إسرائيل مرارًا : مع الذين اختارهم موسى لميقات ربه ، قال جل وعلا : ]وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)[ .
ومع أصحاب البقرة ، قال الله تعالى : ] وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَءْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) [ .
ومع الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، قال تعالى : ] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243)[ .
ومع الذي مر على القرية ، قال U : ] أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)[ ؛ وهذه الآيات كلها من سورة البقرة ؛ وهي واضحة في بيان إحياء الموتى .
بل جعل الله تعالى من معجزات عيسى u أنه يحيي الموتى بإذنه سبحانه .
 
صفة الكفار عند بعثهم
قال الله تعالى : ] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ . خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ . مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [ (القمر : 6 - 8 ) . وقال I : ] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [ (يـس: 51) . وقال U : ]يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ . خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [ (المعارج : 43 ، 44) ؛ والأجداث : القبور ؛ ومهطعين ، أي : مسرعين مديمي النظر ؛ وينسلون ، أي : يخرجون مسرعين .
فبعد نفخة البعث يخرج الكفار من قبورهم مسرعين ، مديمي النظر ، ذليلين ، ينتشرون يركب بعضهم بعضًا .
وقال تعالى : ] يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [ ( القارعة : 4 ) ؛ والمبثوث : المتفرق المنتشر ؛ فهما صفتان في وقتين مختلفين ، أحدهما : عند الخروج من القبور ، يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون ، فيدخل بعضهم في بعض ؛ فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض ، لا جهة له يقصدها .
الثاني : إذا سمعوا المنادي قصدوه ، فصاروا كالجراد المنتشر ؛ لأن الجراد له جهة يقصدها ( [1] ) .
وقال البيهقي - رحمه الله : وأما قول الله U في صفة الكفار يوم القيامة : ] خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ [ ، وقوله : ] خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ [ فإن المراد بذلك - والله أعلم - حال مضيهم إلى الموقف ؛ وقوله : ] مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [ ( إبراهيم : 43 ) ، وإنما هو إذا طال القيام عليهم في الموقف ، فيصيرون في الحيرة كأنهم لا قلوب لهم ، ويرفعون رؤوسهم فينظرون النظر الطويل الدائم ، ولا يرتد إليهم طرفهم ، كأنهم قد نسوا الغمض أو جهلوه ؛ والناس في القيامة لهم أحوال ومواقف ، واختلاف الأخبار عنهم لاختلاف مواقفهم وأحوالهم ( [2] ) .

[1] - انظر ( تفسير القرطبي ) : 17 / 130 .

[2] - انظر ( شعب الإيمان ) : 1 / 320 .
 
يبعث كل عبد على ما مات عليه
إن الله الكريم قد أجرى عادته - بكرمه - أنه من عاش على شيء مات عليه ، ومن مات على شيء بعث عليه ؛ روى أحمد ومسلم عَنْ جَابِرٍ t قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ e يَقُولُ : " يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ " ( [1] ) .
قال النووي - رحمه الله : قال العلماء : معناه يبعث على الحالة التي مات عليها ( [2] ) .
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أنَّ النَّبِيِّ e قَالَ : " لا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ - إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ ؛ اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ" ( [3] ) .
وفيهما عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِي الله عَنْهمَا – قال : خَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَعِيرِهِ فَوُقِصَ فَمَاتَ ، فَقَالَ النَّبِيِّ e : " اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ ، وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا " ( [4] ) ، وكان ذلك في حجة الوداع .
وروى أحمد والطبراني عن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ t أنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " مَنْ مَاتَ عَلَى مَرْتَبَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ بُعِثَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قَالَ حَيْوَةُ : يَقُولُ : رِبَاطٌ ، أَوْ حَجٌّ ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ( [5] ) .
وروى أبو داود والحاكم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو t قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنِ الْجِهَادِ وَالْغَزْوِ ؟ فَقَالَ : " يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو ، إِنْ قَاتَلْتَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا بَعَثَكَ اللَّهُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا ، وَإِنْ قَاتَلْتَ مُرَائِيًا مُكَاثِرًا بَعَثَكَ اللَّهُ مُرَائِيًا مُكَاثِرًا ، يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو ، عَلَى أَيِّ حَالٍ قَاتَلْتَ أَوْ قُتِلْتَ بَعَثَكَ اللَّهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ" ( [6] ) .
وعند أحمد ومسلم عن أََبي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ t أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ : " النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا ، تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ" ( [7] ) . وقوله e : " تقام " أي : تقام من قبرها وتحشر .
فاللهم أحسن خاتمتنا ، يا أكرم الأكرمين ، ويا أرحم الراحمين .

[1] - أحمد : 3 / 331 ، ومسلم ( 2878 ) .

[2] - شرح مسلم : 17 / 210 .

[3] - البخاري ( 5533 ) ، ومسلم ( 1876 ) .

[4] - البخاري ( 1265 - 1267 ) ، ومسلم ( 1206 ) .

[5] - أحمد : 6 / 19 ، 20 ، وإسناده حسن ، ورواه الطبراني في الكبير : 18 / 350 ( 784 ، 785 ) ، وحيوة هو ابن شريح أحد رواة الحديث .

[6] - أبو داود ( 2519 ) ، والحاكم ( 2437 ) ، وصححه .

[7] - أحمد : 5 / 542 ، ومسلم ( 934 ) .
 
الحشر يوم القيامة
الحشر لغة : الجمع والضم ؛ وشرعًا : جمع الأولين والآخرين يوم القيامة ، وسوقهم إلى مكان حسابهم ، فيحاسبون على ما قدموا ، وتوزن أعمالهم ، ويعرف كل واحد مصيره .
والحشر يوم القيامة حشران - كما تقدم - الأول : بعد ما ينفخ في الصور نفخة البعث ، فيبعث الموتى ، ثم يحشرون إلى أرض الموقف ، قال تعالى : ] وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [ ( المؤمنون : 79 ) .
والحشر الثاني : حشر الناس إلى دار المستقر : الجنة أو النار .
قال ابن القيم - رحمه الله : الحشر هو الضم والجمع ، ويراد به تارة : الحشر إلى موقف القيامة ، كقول النبي e : " إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا " ( [1] )، وكقوله تعالى : ] وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [ ( التكوير : 5 ) ، وكقوله تعالى : ] وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [ ( الكهف : 47 ) ؛ ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر ، فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة ، وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار ؛ قال تعالى : ] يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [ ( مريم : 85 ) ، وقال تعالى : ] احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [ ( الصافات : 22 ، 23 )( [2] ) .

[1] - البخاري ( 6527 ) ، ومسلم ( 2859 ) عن عائشة رضي الله عنها .

[2] - انظر ( مفتاح دار السعادة ) : 1 / 45 ، 46 .
 
الحشر عام لجميع المخلوقات
وهذا الحشر لا يختص بالإنس والجن فقط بل يعم سائر المخلوقات ، قال الله تعالى : ] وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [ ( الأنعام : 38 ) ، وهذا يشمل جميع المخلوقات من حشرات وهوام وفقاريات ومخلوقات تطير ، وجميع هذه المخلوقات علمها عند الله لا ينسى منها شيئًا من رزقه وتدبيره ، سواء كان بريًّا أو بَحريًّا ، فما ترك الله تعالى شيئًا من خلقه بلا تدبير يشمله ، وعلم يحصيه ، وفي النهاية تحشر جميع الخلائق إلى ربها فيقضي في أمرها ما يشاء .
روى أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة t قال : قال رسول الله e : " لتؤدن الحقوق إلى أهلها ، حتى تقاد الشاة الجماء ( الجلحاء ) من الشاة القرناء يوم القيامة " وفي رواية لأحمد : " يقتص للخلق بعضهم من بعض ، حتى للجماء من القرناء ، وحتى للذرة من الذرة " ( [1] ) .

[1] - أحمد : 2 / 235 ، 301 ، ومسلم ( 2582 ) ، والترمذي ( 2420 ) .
 
صفة أرض المحشر
أرض المحشر يوم القيامة بيضاء عفراء ، أي : ليست شديدة البياض ، وإنما يشبه بياضها بياض الرغيف المنخول دقيقه المنظف ، ويحشر الناس عليها جميعًا ، قال الله تعالى : ] يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [ ( إبراهيم : 48 ) ، وروى الشيخان عن سهل بن سعد t قال : قال رسول الله e : " يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي، ليس فيها علم لأحد " ، وفي رواية : " ليس فيها معلم لأحد " ( [1] ) .
والعفراء هي البيضاء ليس بياضها بالناصع ، والنقي هو الخبز الأبيض ، والمعلم بفتح الميم : ما يجعل علمًا وعلامة للطريق والحدود ، وقيل : المعلم الأثر ، ومعناه أنها لم توطأ قبل فيكون فيها أثر أو علامة لأحد .
فهذه صفة الأرض التي يحشر الناس عليها يوم القيامة .

[1] - البخاري (6521) ، ومسلم (2790) .
 
صفة الناس في أرض المحشر
وأما صفة الناس في أرض المحشر ؛ فالمؤمنون يكونون ناضري الوجوه مشروحي الصدور ، والمشركون يكونون سود الوجوه ، زرقًا ، مكروبين ، قال الله تعالى : ] يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ . وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ [ ( آل عمران : 106 – 108 ) ، وذلك حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ، ووجوه الكافرين مسودة ؛ وقيل : إن ذلك عند قراءة الكتاب ، فإذا قرأ المؤمن كتابه ، فرأى في كتابه حسناته استبشر ، وابيض وجهه ، وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه ، فرأى فيه سيئاته ، أسود وجهه ؛ والعلم عند الله تعالى ( [1] ) .
وقال تعالى: ] يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [ ( طـه : 102 ) ؛ أي : تشوه خلقتهم بزرقة عيونهم وسواد وجوههم ؛ وقيل : ] زُرْقًا [ أي : عميًا ، وقيل : عطاشًا ، قد ازرقت أعينهم من شدة العطش ، وقيل : زرق العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال ( [2] ) .
وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله e يقول : " يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا " ؛ قلت : يا رسول الله ! النساء والرجال جميعًا ، ينظر بعضهم إلى بعض ؟! قال e : " يا عائشة ، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض" ( [3] ) ؛ ورواه الطبراني والحاكم عن سودة - رضي الله عنها - زوج النبي e قالت : قال رسول الله e : " يبعث الناس حفاة عراة غرلا ، يلجمهم العرق ، ويبلغ شحمة الأذن " ؛ قالت : قلت : يا رسول الله ، واسوءتاه ! ينظر بعضنا إلى بعض ؟! قال : " شغل الناس عن ذلك " وتلا رسول الله e : ] يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [ (عبس : 34 – 37 ) " ( [4] ) .
قال العلماء : يحشر العبد غدًا وله من الأعضاء ما كان له يوم ولد ، فمن قطع منه عضو ، يرد في القيامة عليه ، وهذا معنى قوله :" غرلا " غير مختونين ، أي : يرد عليهم ما قطع منهم عند الختان .
وفي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ t قَالَ : قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ e خَطِيبًا بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ، ] كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعلينَ[ ( الأنبياء : 104 ) ؛ أَلا وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ u ، أَلا وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ، فَأَقُولُ : يَا رَبِّ أَصْحَابِي ! فَيُقَالُ : إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ : ] وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ . إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ ( المائدة : 117 ، 118 ) " ؛ قَالَ : " فَيُقَالُ لِي : إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ " ( [5] ) .
قال الحافظ – رحمه الله : قوله : " عراة " قال البيهقي : وقع في حديث أبي سعيد t - يعني الذي أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان - أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ دَعَا بِثِيَابٍ جُدُدٍ فَلَبِسَهَا ثُمَّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " إِنَّ الْمَيِّتَ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا " ( [6] ) ، ويجمع بينهما ، بأن بعضهم يحشر عاريًا ، وبعضهم كاسيا ، أو يحشرون كلهم عراة ، ثم يكسى الأنبياء ، فأول من يكسى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أو يخرجون من القبور بالثياب التي ماتوا فيها ، ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر ، فيحشرون عراة ، ثم يكون أول من يكسى إبراهيم ؛ وحمل بعضهم حديث أبي سعيد على الشهداء ؛ لأنهم الذين أمر أن يزملوا في ثيابهم ، ويدفنوا فيها ، فيحتمل أن يكون أبو سعيد سمعه في الشهيد ، فحمله على العموم ، وممن حمله على عمومه معاذ بن جبل t فأخرج ابن أبي الدنيا بسند حسن عن عمرو بن الأسود قال : دفنا أم معاذ بن جبل ، فأمر بها فكفنت في ثياب جدد ، وقال : أحسنوا أكفان موتاكم ، فإنهم يحشرون فيها . قال : وحمله بعض أهل العلم على العمل ؛ وإطلاق الثياب على العمل وقع في مثل قوله تعالى : ] وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [ ( الأعراف : 26 ) ، وقوله تعالى : ] وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [ (المدثر: 4) ، على أحد الأقوال ، وهو قول قتادة ، قال : معناه وعملك فاخلصه ( [7] ) .

[1] - انظر تفسير القرطبي عند الآية ( 106 ) من سورة آل عمران .

[2] - انظر تفسير القرطبي: 11 / 244، وتفسير الطبري: 16 / 210، وتفسير ابن كثير: 3 / 166.

[3] - البخاري (6527)، ومسلم (2859).

[4] - الطبراني في الكبير: 24 / 34 (91)، وقال الهيثمي في المجمع: 10 / 333: رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عياش وهو ثقة.ا.هـ. والحاكم: 2 / 154، 515، وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

[5] - البخاري (3349، 4625)، ومسلم (2860).

[6] - أبو داود (3114)، وابن حبان (7316، ورواه الحاكم: 1 / 490 (1260) وصححه على شرط الشيخين.

[7] - انظر فتح الباري: 11 / 383، وشعب الإيمان للبيهقي: 1 / 320.
 
أحوال الناس في أرض المحشر
روى الشيخان عن أبي هريرة t أن رسول الله e قال:" يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب في الأرض عرقهم سبعين ذراعًا ، وإنه يلجمهم حتى يبلغ آذانهم" لفظ البخاري ( [1] ) .
وروى الجماعة إلا أبا داود عن ابن عمر – رضي الله عنهما - عن النبي e : ] يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [ ( المطففين 6 ) ، قال : " يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه " ( [2] ) .
وروى أحمد ومسلم والترمذي عن المقداد t قال : سمعت رسول الله e يقول : " تُدنَى الشمس يوم القيامة من الخلق ، حتى تكون منهم كمقدار ميل " ؛ قال سليم بن عامر ( أحد الرواة ) والله ما أدري ما يعني بالميل : مسافة الأرض ، أو الميل التي تكحل به العين ؟ قال : " فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق : فمنهم من يكون إلى كعبيه ، ومنهم من يكون إلى ركبتيه ، ومنهم من يكون إلى حقويه ، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا " وأشار رسول الله e بيده إلى فيه ( [3] ) .
وروى أحمد والطبراني والحاكم عن عقبة بن عامر t قال : سمعت رسول الله e يقول : " تدنو الشمس من الأرض ، فيعرق الناس ، فمن الناس من يبلغ عرقه عقبيه ، ومنهم من يبلغ نصف الساق ، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه ، ومنهم من يبلغ إلى العجز ، ومنهم من يبلغ الخاصرة ، ومنهم من يبلغ منكبيه ، ومنهم من يبلغ عنقه ، ومنهم من يبلغ وسطه - وأشار بيده ألجمها فاه : رأيت رسول الله e يشير هكذا – ومنهم من يغطيه عرقه " ، وضرب بيده وأشار وأَمَرَّ يده فوق رأسه – من غير أن يصيب الرأس دور راحتيه - يمينا وشمالا ( [4] ) .
وروى الطبراني في الأوسط بإسناد جيد عن أنس t يرفعه : " لم يلق ابن آدم شيئًا منذ خلقه الله U أشد عليه من الموت ، ثم إن الموت أهون مما بعده ، وإنهم ليلقون من هول ذلك اليوم شدة ، حتى يلجمهم العرق ، حتى إن السفن لو أجريت فيه لجرت " ( [5] ) .
وكذلك هم يختلفون في طريقة الحشر اختلافًا بينًا حسب أعمالهم : فمن صلحت عقيدته ، وزكت نفسه ، يحشر على أحسن حال ، راكبًا أو ماشيا ، ويحشر العصاة حسب أحوالهم ، وأما الكافرون فيحشرون على وجوههم ؛ فعن أبي هريرة t قال : قال رسول الله e : " يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف : صنفًا مشاة ، وصنفا ركبانًا ، وصنفًا على وجوههم " . قيل : يا رسول الله ، وكيف يمشون على وجوههم ؟ قال : " إن الذي أمشاهم على أقدامهم ، قادرٌ على أن يمشيهم على وجوههم ، أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك " رواه أحمد والطيالسي والترمذي ، وقال حديث حسن ( [6] ) .
وقال الله تعالى : ] الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً[ ( الفرقان : 34 ) ، وقال U : ] يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ[ ( القمر : 48 ) .
وروى أحمد والشيخان عن أنس t أن رجلا قال : يا نبي الله كيف يحشر الله الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ قال رسول الله e : " أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه ؟ " ؛ قال قتادة حين بلغه : بلى وعزة ربنا ( [7] ) .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص t أن رسول الله e قال : " يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال ، يغشاهم الذل من كل مكان ، يساقون إلى سجن في جهنم يقال له : بولس ، تعلوهم نار الأنيار ، يسقون من عصارة أهل النار ، طينة الخبال " رواه أحمد والترمذي ( [8] ) .‎
فهذه أحوال الناس في يوم يطول على الكافرين ، ويخفف على المؤمنين .
إنه أمر شديد ، وخطب عصيب ، يشيب له الوليد ، ] يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [ ( الحج : 2 ) .
روى الشيخان عن أبي سعيد t قال : قال النبي e : " يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم ؛ فيقول : لبيك ربنا وسعديك ، فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار ، قال : يا رب ، وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف - أراه قال - تسعمائة وتسعة وتسعون ، فحينئذ تضع الحامل حملها ، ويشيب الوليد ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد " فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم ، قال النبي e : " من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد ، أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض ، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود ، إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة " فكبرنا ، ثم قال : " شطر أهل الجنة " فكبرنا ( [9] ) .
اللهم إنا نسألك الجنة ، وما قرَّب إليها من قول وعمل ، ونعوذ بك من النار ، وما قرَّب إليه من قول وعمل ... آميييييين .

[1] - البخاري ( 6532 ) ، ومسلم ( 2863 ) .

[2] - أحمد : 2 / 13، 19، البخاري ( 4938 ، 6531 ) ، ومسلم ( 2862 ) ، والترمذي ( 2422 ، 3335 ، 3336 ) ، والنسائي في الكبرى (11657) ، وابن ماجة (4278) .

[3] - أحمد : 6 / 3 ، ومسلم ( 2864 ) ، والترمذي ( 2421 ) .

[4] - أحمد : 4 / 157 . ورواه الطبراني في الكبير : 17 / 302 ( 834 ) ، 17 / 306 ( 844 ) ، وابن حبان ( 7329 ) ، والحاكم : 4 / 571 ، وصححه ، ووافقه الذهبي ، وهو كما قالا .

[5] - الطبراني في الأوسط ( 1976 ) ، وقال المنذري في الترغيب : 4 / 210 ، والهيثمي في مجمع الزوائد : 10 / 334 : إسناده جيد .

[6] - أحمد : 2 / 354 ، 363 ، والطيالسي ( 2566 ) ، والترمذي ( 3142 ) .

[7] - أحمد : 3 / 167 ، والبخاري ( 4760 ، 6523 ) ، ومسلم ( 2806 ) .

[8] ­- أحمد : 2 / 179 ، ورواه ابن المبارك في الزهد ( 191 ) وإسناده حسن ، ومن طريقه الترمذي ( 2492 ) وقال : حسن صحيح .

http://vb.tafsir.net/forum13/thread38074-2.html#_ftnref91 – البخاري ( 3348 ، 4741 ) ، ومسلم ( 222 ) .
 
مقدار يوم القيامة
روى أبو يعلى وابن حبان عن أبي هريرة t عن النبي e قال : ] يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [ ( المطففين : 6 ) ، قال : " مقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة ، فيهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس للغروب إلى أن تغرب " ( 1 ) .
وروى الحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن عبد الله بن عمرو t قال : تلا رسول الله e : ] يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [ ، فقال رسول الله e : " كيف بكم إذا جمعكم الله كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة ، ثم لا ينظر الله إليكم" ( 2 ) . ولا تعارض بين الحديثين إذا الأول يتحدث عن مقدار قيام الناس لرب العالمين في ذلك اليوم قبل الفصل بينهم ، والثاني يتحدث عن قدر ذلك اليوم في تقدير الله جل وعلا ؛ والعلم عند الله تعالى .
وعن أبي سعيد t عن رسول الله e قال : " يومًا كان مقداره خمسين ألف سنة " ؛ فقيل : ما أطول هذا اليوم ؟ قال النبي e:" والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن ، حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة "رواه أحمد وأبو يعلى وابن حبان ( 3 ) .

[1] - أبو يعلى (6025)، وابن حبان (7333)، وإسناده صحيح.

[2] - الحاكم (8707) وقال: صحيح الإسناد.

[3] - أحمد: 3 / 75، وأبو يعلى (1390)، وابن حبان (7334)، وحسنه الهيثمي في مجمع الزوائد: 10 / 337، والحافظ في الفتح: 11 / 448.
 
ما ينجي من أهوال يوم القيامة
مع أن هول المطلع شديد ، فالعقول ذاهلة ، والأبصار شاخصة ، والشمس من الرؤوس دانية ، والأمر أفظع من أن يوصف بأهوال الدنيا .. مع هذه الشدة ، وذلك الهول ، هناك أعمال خاصة تنجي أصحابها من ذلك الكرب ، وتلك الشدة ؛ ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا ، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا ، سَتَرَهُ اللَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ" ( [1] ) ؛ وفيه - أيضًا - أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ t طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ ، فَتَوَارَى عَنْهُ ، ثُمَّ وَجَدَهُ ، فَقَالَ : إِنِّي مُعْسِرٌ ! فَقَالَ : آللهِ ؟ قَالَ : آللهِ ، قَالَ : فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ " ( [2] ) .
وكذلك هناك من لهم أعمال يظلهم الله بسببها في ظله ، يوم لا ظل إلا ظله ، فروى الشيخان عن أبي هريرة t أن رسول الله e قال : " سبعة يظلهم الله في ظله ، يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجلان تحابا في الله ، اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه ، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله رب العالمين ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها ، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " ( [3] ) .

[1] - مسلم ( 2699 ) .

[2] - مسلم ( 1563 ) .

[3] - البخاري (660 ، 1423 ، 6806 ) ، ومسلم ( 1031 ) .
 
الشفاعة
الشفاعة لغة : الطلب والوسيلة ، فشفع إليه في معنى : طلب إليه ، وأصل الشفع ضم الشيء إلى مثله ، والشفاعة الانضمام إلى آخر ناصرًا له وسائلا عنه ، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو أدنى ؛ فسمي الشافع شافعًا لأنه يضم طلبه ورجاءه إلى طلب المشفوع له ؛ وعرفها البعض بأنها : طلب الخير للغير . وقيل : هي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم .
الشفاعة في الدنيا وأقسامها
الشفاعة هي طلب قضاء حاجة المشفوع فيه ، وهي في الدنيا قسمان : الأول : شفاعة حسنة ، مثل من يشفع عند ذي جاه أو منصب لتُقضى حاجة لمشفوع له تعطل قضاؤها .
والثاني : شفاعة سيئة ، مثل الشفاعة في حد من حدود الله تعالى ، أو الشفاعة لمن يريد أن يأخذ ما ليس له بحق .
والشفاعة الحسنة يؤجر عليها صاحبها ، كما أن الشفاعة السيئة يأثم بها ، قال الله تعالى : ] مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا[ ( النساء : 85 ) .
وروى الجماعة إلا ابن ماجة عن أبي موسى t قال : كان رسول الله e إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال : " اشفعوا تؤجروا ، ويقضي الله على لسان نبيه e ما شاء " ( [1] ) .
ورواه أبو داود والنسائي عن معاوية t مرفوعا بلفظ : " اشفعوا تؤجروا " ( [2] ) .

[1] - رواه أحمد : 4 / 400 ، 409 ، والبخاري ( 1432 ، 6027 ، 6028 ، 7476 ) ، ومسلم ( 2627 ) ، وأبو داود ( 5131 ، 5133 ) ، والترمذي (2672) ، والنسائي (2556) .

[2] - أبو داود ( 5132 ) ، والنسائي ( 2557 ) .
 
الشفاعة يوم القيامة وأقسامها

اعلم - رحمني الله وإياك - أن الشفاعة يوم القيامة قسمان : ثابتة ، ومنفية .
الأول الشفاعة الثابتة : وهي التي أثبتها الله تعالى في كتابه في آيات ذوات عدد ، كمثل قوله تعالى: ] قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ [ الزمر : 44 ] ، ولها شرطان :
الأول : الإذن ، قال الله تعالى : ] منْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ [ [ البقرة : 255 ] ، ] وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ له[ [ سبأ : 23 ] .
والثاني: الرضا ، وهو نوعان :
الأول : الرضا عن الشافع ، ودليله قوله I : ] وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى[ [ النجم : 26 ] .
والثاني : الرضا عن المشفوع فيه ، ودليله قوله تعالى : ] وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى[ [ الأنبياء : 28 ] ، وقال U : ] يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً[ [ طه : 109 ] ، قال القرطبي - رحمه الله: أي : لا تنفع الشفاعة أحدًا إلا شفاعة من أذن له الرحمن ورضي له قولا ، أي : رضي قوله في الشفاعة ، وقيل : المعنى أي : إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له ( 1 ) .
فيكون الإذن للشافع ، والرضى عن الشافع والمشفوع فيه .

[1] - انظر تفسير القرطبي عند الآية ( 109 ) من سورة طه .
 
والقسم الثاني : الشفاعة المنفية : وهي التي نفاها الله تعالى في كتابه ، كما في قوله تعالى : ] فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [ ( المدثر : 48 ) ، وقد كان المشركون يعتمدون على أصنامهم ، ويعتقدون أنها ستشفع لهم عند الله ، فآيسهم الله تعالى من الاعتماد على هذه الشفاعة ، قال تعالى : ] وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [ ( الأنعام : 94 ) .
 
أنواع الشفاعة الثابتة
الشفاعة يوم القيامة أنواع ، منها ما يختص بالنبي e ، ومنها ما لا يختص به ، وإليك بيان ذلك :
النوع الأول : الشفاعة العظمى : وهي الشفاعة في فصل القضاء ، لإراحة الخلق من شدة الموقف وأهواله ، وهي خاصة برسولنا e ، وهي المقام المحمود الذي ذكره الله تعالى في سورة الإسراء : ] وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُودًا (79) [ ، روى البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ e : " إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الْأُذُنِ ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ بِمُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ e ، فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ ، فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ " . ورواه النسائي في الكبرى بلفظ : " إن الناس يصيرون يوم القيامة جثًا ( [1] ) ، كل أمة تتبع نبيها ، يقولون : أي فلان ، اشفع لنا ؛ حتى تنتهي الشفاعة إلى رسول الله e ، فذلك يوم يبعثه الله تبارك وتعالى المقام المحمود " ( [2] ) .
وروى أحمد والترمذي عن أبي هريرة t عن النبي e : ] عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُودًا [ قال : " الشفاعة " ؛ وفي رواية لأحمد : " هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه " ( [3] ) .
ففي ذلك اليوم العصيب ، وفي ذلك المجمع المهيب ، يوم يجمع الله تعالى الأولين والآخرين ، لميقات يوم معلوم ، حفاة عراة غرلاً ، تدنو من رؤوسهم الشمس ، ويبلغ بهم الكرب حدًّا لا يحتملونه ، ويطول الانتظار ، ولا يؤذن في فصل الحساب ، ويشتد بهم الحال ، فيتحادثون : من يشفع لنا عند ربنا ؟ ألا ترون ما نحن فيه ؟ ألا ترون ما قد بلغنا ؟ فيذهبون إلى آدم ، فيردهم إلى نوح ، ويردهم نوح إلى إبراهيم ، وإبراهيم إلى موسى ، وموسى إلى عيسى - صلى الله عليهم وسلم أجمعين - كل واحد يقول : " لست هناكم " أو : " لست لها " ( [4] ) ؛ ثم يردهم عيسى e إلى محمد e ، قال رسول الله e : " فانطلق فآتي تحت العرش ، فأقع ساجدًا لربي ، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه لأحد قبلي ، ثم يقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، سل تعطه ، اشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأقول : يا رب أمتي أمتي ، فيقال : يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه ، من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ، والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر ( قرية بالبحرين ) ، أو كما بين مكة وبصرى " ، كما في حديث أبي هريرة t الطويل الذي رواه أحمد والشيخان ( [5] ) .
وهذه هي الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود الذي وعده الله تعالى، فقوله e : " فيقال : يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه ، من الباب الأيمن من أبواب الجنة " يشير إلى بدء الفصل بين العباد ، فمن لا حساب عليه يدخل الجنة ، ومن كان عليه حساب سيفصل في أمره ، والله تعالى أعلم .
قال القاضي عياض - رحمه الله - في قول الأنبياء : " لست هناكم ، أو لست لها " : هذا يقولونه تواضعًا وإكبارًا لما يسئلونه .. قال : وقد تكون إشارة من كل واحد منهم إلى أن هذه الشفاعة وهذا المقام ليس له بل لغيره ، وكل واحد منهم يدل على الآخر ، حتى انتهى الأمر إلى صاحبه ... قال : ويحتمل أنهم علموا أن صاحبها محمد e معينًا ، وتكون إحالة كل واحد منهم على الآخر على تدريج الشفاعة في ذلك إلى نبينا محمد e ... قال : وأما مبادرة النبي e لذلك ، وإجابته لدعوتهم ، فلتحققه e أن هذه الكرامة والمقام له e خاصة .ا.هـ ( [6] ) .
وقال النووي - رحمه الله : والحكمة في أن الله تعالى ألهمهم سؤال آدم ومَنْ بعده - صلوات الله وسلامه عليهم - في الابتداء ، ولم يلهموا سؤال نبينا محمد e هي - والله أعلم - إظهار فضيلة نبينا محمد e ؛ فإنهم لو سألوه ابتداء لكان يحتمل أن غيره يقدر على هذا ويحصله ، وأما إذا سألوا غيره من رسل الله تعالى وأصفيائه ، فامتنعوا ثم سألوه فأجاب ، وحصل غرضهم ، فهو النهاية في ارتفاع المنزلة ، وكمال القرب ، وعظيم الإدلال والأنس ، وفيه تفضيله e على جميع المخلوقين من الرسل والآدميين والملائكة ، فإن هذا الأمر العظيم ، وهي الشفاعة العظمى ، لا يقدر على الإقدام عليه غيره صلى الله عليه وعليهم أجمعين . والله أعلم .ا.هـ ( [7] ) .

[1] - جثى : أي قعودًا على ركبهم .

[2] - البخاري ( 1475 ) ، واللفظ الثاني رواه النسائي في الكبرى ( 11295 ) عن ابن عمر مرفوعًا ، والبخاري ( 4718 ) موقوفًا ، وهو في حكم المرفوع ، لأنه لا يقال من قبل الرأي .

[3] - أحمد : 2 / 441 ، 444 ، والترمذي ( 3137 ) وحسنه .

[4] - لفظ حديث أنس عند الشيخين : البخاري ( 4476 ) ، ومسلم ( 193 ) .

[5] - أحمد : 2 / 435 ، 436 ، والبخاري ( 4712 ) ، ومسلم ( 194 ) ، وانظر شح النووي على مسلم : 3 / 69 .

[6] - انظر شرح مسلم للنووي : 3 / 56 .

[7] - انظر شرح مسلم للنووي : 3 / 56 .
 
النوع الثاني من الشفاعة : الشفاعة في دخول أهل الجنة الجنة ؛ وهي خاصة بالنبي e أيضًا ، فقد روى مسلم عن أبي هريرة وحذيفة – رضي الله عنهما - قالا : قال رسول الله e : " يجمع الله تبارك وتعالى الناس ، فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة ، فيأتون آدم فيقولون : يا أبانا استفتح لنا الجنة ، فيقول : وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم ؟ لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله ؛ قال : فيقول إبراهيم : لست بصاحب ذلك ، إنما كنت خليلا من وراء وراء ، اعمدوا إلى موسى الذي كلمه الله تكليمًا ، فيأتون موسى فيقول : لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه ؛ فيقول عيسى : لست بصاحب ذلك ، فيأتون محمدًا e فيقوم ، فيؤذن له .." الحديث ( [1] ) .
وروى أحمد ومسلم عن أنس قال : قال رسول الله e : " آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح ، فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : محمد ؛ فيقول : بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك " ( [2] ) . وعند مسلم عن أنس قال : قال رسول الله e : " أنا أكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة ، وأنا أول من يقرع باب الجنة " ( [3] ) .
النوع الثالث: الشفاعة في قوم يدخلون الجنة بغير حساب ، وتقدم في حديث أبي هريرة : " ثم يقال : يا محمد ارفع رأسك ، سل تعطه ، اشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأقول : يا رب ، أمتي ، أمتي ، فيقال : يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه ، من الباب الأيمن من أبواب الجنة.." الحديث ( [4] ) ؛ وهذه - أيضًا - خاصة بنبينا محمد e .

[1] - مسلم ( 195 ) .

[2] - أحمد : 3 / 144 ، ومسلم ( 197 ) .

[3] - مسلم ( 196 ) .

[4] - البخاري ( 3340 ) ، ومسلم ( 194 ) .
 
النوع الرابع : الشفاعة في قوم استوجبوا النار ألا يدخلوها ، وهذه ليست خاصة بالنبي محمد e ، فيشفع فيها هو ومن يأذن الله تعالى له من أهل الشفاعات .
وممن يشفع فيها الولدان لآبائهم ، فعن شرحبيل بن شفعة عن بعض أصحاب النبي e أنه سمع النبي e يقول : " يقال للولدان يوم القيامة : ادخلوا الجنة ، فيقولون : يا رب ، حتى يدخل آباؤنا وأمهاتنا ، قال : فيأبون ، قال : فيقول الله عز وجل : ما لي أراهم محبنطئين ؟ ادخلوا الجنة . قال : فيقولون : يا رب ، آباؤنا ، قال : فيقول : ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم " رواه أحمد ( [1] ) .
وعن حبيبة أنها كانت عند عائشة – رضي الله عنها - فجاء النبي e حتى دخل عليها ، فقال : " ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث ، إلا جيء بهم يوم القيامة حتى يوقفوا على باب الجنة ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة ، فيقولون : حتى تدخل آباؤنا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم " رواه الطبراني ( [2] ) .
وروى النسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنِ النَّبِيِّ e قَالَ : " مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَمُوتُ بَيْنَهُمَا ثَلاثَةُ أَوْلادٍ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ ، إِلا أَدْخَلَهُمَا اللَّهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمُ الْجَنَّةَ ، قَالَ : يُقَالُ لَهُمُ : ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ، فَيَقُولُونَ : حَتَّى يَدْخُلَ آبَاؤُنَا ، فَيُقَالُ : ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ " ( [3] ) .
وقد يشفع في هذه الدرجة من الشفاعة الشهيد ، لما روى عبد الرزاق وأحمد والترمذي وصححه وابن ماجة عن المقدام بن معد يكرب قال : قال رسول الله e : " للشهيد عند الله ست خصال : يغفر له في أول دفعة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين من أقاربه " ( [4] ) ؛ فذكر الشفاعة هنا عامًّا ، فقد يدخل فيه هذا النوع ، والعلم عند الله تعالى .

[1] - أحمد: 4 / 105، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10 / 383): ورجاله رجال الصحيح غير شرحبيل وهو ثقة ؛ وقال في لسان العرب : 7 / 271: قال أَبو زيد : المُحْبَنْطِىء ، مهموز وغير مهموز : الممْتَلىء غَضَبًا ، والنون والهمزة والأَلف والباء زَوائدُ للإِلحاق .

[2] - الطبراني في الكبير: 24 / 225 (571) ، وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب : 3 / 56.

[3] - النسائي (1876).

[4] - عبد الرزاق ( 9559 ) ، وأحمد : 4 / 131 ، والترمذي ( 1663 ) وصححه ، وابن ماجة ( 2799 ) . وله شاهد عن عبادة عند البزار ( 2696 ) ، وآخر عن عقبة بن عامر عند الطبراني في الشاميين ( 1163 ) .
 
النوع الخامس : الشفاعة فيمن دخل النار من مذنبي الموحدين ؛ فقد صحت الأحاديث في ثبوت الشفاعة في إخراجهم من النار ، ويشفع فيهم النبي e والملائكة ، كما يشفع فيهم إخوانهم من المؤمنين ؛ ففي حديث أنس t في الشفاعة الذي رواه الشيخان قال رسول الله e : ".. فيأتونني فأقول : أنا لها ، فأستأذن على ربي فيؤذن لي ، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن ، فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدًا ، فيقال : يا محمد ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعط ، واشفع تشفع ؛ فأقول : يا رب ، أمتي أمتي ، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان ، فأنطلق فأفعل ، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخر له ساجدًا ، فيقال : يا محمد ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعط ، واشفع تشفع ، فأقول يا رب ، أمتي أمتي ، فيقال : انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان ، فأنطلق فأفعل ، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخر له ساجدًا ، فيقال : يا محمد ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعط ، واشفع تشفع ؛ فأقول : يا رب ، أمتي أمتي ، فيقول : انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان ، فأخرجه من النار ، فأنطلق فأفعل " ، فلما خرجنا من عند أنس قلت لبعض أصحابنا : لو مررنا بالحسن - وهو متوار في منزل أبي خليفة - فحدثناه بما حدثنا أنس بن مالك ؟ فأتيناه فسلمنا عليه ، فأذن لنا ، فقلنا : يا أبا سعيد ، جئناك من عند أخيك أنس بن مالك ، فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة ، فقال : هيه فحدثناه بالحديث ، فانتهى إلى هذا الموضع ، فقال : هيه ! فقلنا : لم يزد لنا على هذا ! فقال : لقد حدثني وهو جميع منذ عشرين سنة ، فلا أدري أنسي أم كره أن تتكلوا ؟ قلنا : يا أبا سعيد ، فحدثنا ، فضحك ، وقال : خلق الإنسان عجولا ، ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم ، حدثني كما حدثكم به ، وقال : " ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخر له ساجدًا ، فيقال : يا محمد ارفع رأسك ، وقل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب ، ائذن لي فيمن قال : لا إله إلا الله ، فيقول : وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله " لفظ البخاري ( [1] ) .
وروى البخاري عن أنس t قال : سمعت النبي e يقول : " إذا كان يوم القيامة شفعت ، فقلت يا رب أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة ، فيدخلون ، ثم أقول : أدخل الجنة من كان في قلبه أدنى شيء " فقال أنس : كأني أنظر إلى أصابع رسول الله e ( [2] ) .
وروى أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وابن حبان والحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي عن أنس t عن النبي e قال : " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " ، ورواه الترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه على شرط مسلم عن جابر ( [3] ) .
وروى أبو يعلى والطبراني في الأوسط وابن أبي عاصم في السنة بإسناد حسن عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا رسول الله e يقول : ] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [ [ النساء : 48 ] ، قال : " إني ادخرت دعوتي شفاعة لأهل الكبائر من أمتي " قال : فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ، ثم نطقنا بعد ، ورجونا ( [4] ) .
وروى أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجة عن عمران بن حصين t عن النبي e قال : " يخرج قوم من النار بشفاعة محمد ، فيدخلون الجنة ، ويسمون الجهنميين" ( [5] ) ؛ ورواه أحمد والطيالسي وابن أبي عاصم في السنة بإسناد حسن عن حذيفة t مرفوعا : " يخرج الله قومًا منتنين ، قد محشتهم النار ، بشفاعة الشافعين ، فيدخلهم الجنة ، فيسمون الجهنميين" ( [6] ) .
وروى أحمد ومسلم والدارمي عن أبي سعيد t قال : قال رسول الله e : " أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون ، ولكن ناس أصابتهم نار بذنوبهم ، أو بخطاياهم ، فأماتتهم إماتة ، حتى إذا كانوا فحمًا أذن لهم في الشفاعة ، فجيء بهم ضبائر ضبائر ، فبثوا على أنهار الجنة ، فقيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم ، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل " . قال : فقال رجل من القوم : كأن رسول الله e قد كان في البادية ( [7] ) .
وروى أحمد والترمذي وصححه ، وابن ماجة ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي عن عبد الله بن أبي الجدعاء t أنه سمع النبي e يقول : " ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم " قالوا : يا رسول الله سواك ؟ قال :" سواي " ( [8] ) .
وعن جابر t قال: قال رسول الله e : " يفتقد أهل الجنة ناسًا كانوا يعرفونهم في الدنيا ، فيأتون الأنبياء فيذكرونهم ، فيشفعون فيهم فيشفعون ، يقال لهم الطلقاء ، وكلهم طلقاء ، يصب عليهم ماء الحياة " رواه الطبراني في الأوسط ، وإسناده حسن ( [9] ) .
وروى أحمد والطبراني بإسناد حسن في الشواهد عن أبي أمامة t قال : سمعت رسول الله e يقول : " ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين ربيعة ومضر " فقال رجل : يا رسول الله ، أوما ربيعة من مضر ؟ قال : " إنما أقول ما أقول " ( [10] ) .
وروى أحمد عن أبي برزة t قال : سمعت رسول الله e يقول : " إن من أمتي لمن يشفع لأكثر من ربيعة ومضر ، وإن من أمتي لمن يعظم للنار حتى يكون ركنًا من أركانها " وإسناده جيد ( [11] ) .
وعن أنس t قال : قال رسول الله e : " إن الرجل ليشفع للرجلين والثلاثة " رواه البزار ، وقال المنذري والهيثمي : ورجاله رجال الصحيح ( [12] ) .

[1] - البخاري (4476)، ومسلم (193).

[2] - البخاري ( 7509 ) .

[3] - أحمد: 3 / 213 ، وأبو داود ( 4739 ) ، والترمذي ( 2435 ) ، وابن حبان ( 6468 ) ، والحاكم ( 228 ) ؛ وحديث جابر رواه الترمذي ( 2436 ) وحسنه ، وابن ماجة ( 4310 ) ، وابن حبان ( 6467 ) ، والحاكم ( 231 ) .

[4] - أبو يعلى ( 5813 ) ، والطبراني في الأوسط ( 5942 ) ، وابن أبي عاصم في السنة ( 830 ) ؛ وصححه السيوطي في ( الدر المنثور ) : 2 / 557 ، وحسنه الألباني في ( ظلال الجنة ) .

[5] - أحمد : 4 / 434 ، والبخاري ( 6566 ) ، أبو داود ( 4740 ) ، والترمذي ( 2600 ) ، وابن ماجة ( 4315 ) .

[6] - أحمد : 5 / 402 ، والطيالسي ( 419 ) ، وابن أبي عاصم في السنة ( 835 ) ، وحسنه الألباني في ( ظلال الجنة ) .

[7] - أحمد : 3 / 11 ، 25 ، 79 ، ومسلم ( 185 ) ، والدارمي ( 2813 ) .

[8] - أحمد: 3 / 470 ، والترمذي ( 2438 ) ، وابن ماجة ( 4316 ) ، وابن حبان ( 7376 ) ، والحاكم ( 236 ، 237 ) .

[9] - الطبراني في الأوسط ( 3044 ) ، وقال الهيثمي في ( المجمع : 10 / 379 ) : إسناده حسن .

[10] - أحمد: 5 / 257، 261، 267، وإسناده صحيح. ورواه الطبراني في الكبير: 8 / 143 (6738)، والشاميين (1079).

[11] - أحمد : 4 / 212، قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 10 / 381 ) : ورجاله ثقات .

[12] - قال المنذري في الترغيب : 4 / 241 ، والهيثمي في مجمع الزوائد : 10 / 382: رواه البزار ، ورجاله رجال الصحيح .
 
النوع السادس : الشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة ؛ وهي ليست خاصة بالنبي e إجماعًا ؛ لكنه أول من يشفع فيها ، فقد روى مسلم وأبو يعلى عن أنس t مرفوعًا : " أنا أول الناس يشفع في الجنة ، وأنا أكثر الأنبياء تبعًا " ؛ وفي رواية : " أنا أول شفيع في الجنة ، لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت ، وإن من الأنبياء نبيًّا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد " ( [1] ) .
النوع السابع : الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه من أهل النار ، وهي خاصة بالنبي e ، وفي عمه أبي طالب خاصة ؛ ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري t أنه سمع النبي e وذكر عنده عمه فقال : " لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة ، فيجعل في ضحضاح من النار ، يبلغ كعبيه ، يغلي منه دماغه " ( [2] ) .
وفيهما عن العباس بن عبد المطلب t أنه قال : يا رسول الله ، هل نفعت أبا طالب بشيء ، فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال : " نعم ، هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار " ؛ وفي رواية لمسلم : " نعم ، وجدته في غمرات من النار ، فأخرجته إلى ضحضاح " ( [3] ) .
والضحضاح: ما رق من الماء على وجه الأرض ، ويبلغ نحو الكعبين ، واستعير في النار ؛ والغمرات : واحدتها غمرة بإسكان الميم ، وهي : المعظم من الشيء .
هذا وقد أجمع السلف ومن بعدهم من أهل السنة على ثبوت الشفاعة المستوفية لشروطها ، وأنها جائزة عقلا ، واجبة سمعا ، لتواتر الأحاديث فيها .

[1] - مسلم ( 196 ) ، وأبو يعلى ( 3967 ) .

[2] - البخاري ( 3885 ) ، ومسلم ( 210 ) .

[3] - البخاري ( 3883 ) ، ومسلم ( 209 ) .
 
أعمال توجب شفاعة النبي e
في الصحيحين عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله e:" لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ فَأُرِيدُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ( [1] ) .
في هذا الحديث بيان شفقة النبي e على أمته ، ورأفته بهم ، واعتنائه بالنظر في مصالحهم المهمة ، وحرصه عليهم ، فأخر دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجتهم ؛ ومن شدة حرصه عليهم e دلهم على عملٍ مَنْ عمله وجبت له شفاعته ، فروى الجماعة إلا البخاري وابن ماجة عن عبد الله بن عمرو t أنه سمع رسول الله e يقول : " إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إِلا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ " ( [2] ) .
وروى الجماعة إلا مسلمًا عن جابر t قال : قال رسول الله e : " مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ : اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ ، وَالصَّلاةِ الْقَائِمَةِ ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ ؛ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ( [3] ) .
وروى أحمد والبخاري والنسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّهُ قَالَ : قلتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ : لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ " ( [4] ) . اللهم اجعلنا من أسعد الناس بشفاعة نبينا e . آمين .

[1] - البخاري ( 6304 ، 7474 ) ، ومسلم ( 198 ) .

[2] - أحمد : 2 / 168 ، ومسلم ( 384 ) ، وأبو داود ( 523 ) ، والترمذي ( 3614 ) ، والنسائي ( 678 ) .

[3] - أحمد : 3 / 354 ، البخاري ( 614 ، 4719 ) ، وأبو داود ( 529 ) ، والترمذي ( 211 ) ، والنسائي ( 680 ) ، وابن ماجة ( 722 ) .

[4] - أحمد : 2 / 373 ، والبخاري ( 99 ، 6570 ) ، والنسائي في الكبرى ( 5842 ) .
 
صحائف الأعمال
بعد الشفاعة العظمى ، تنشر الكتب ، وتوضع الموازين ، ويحاسب الناس .
والناس يومئذ صنفان :
الأول : آخذ كتابه بيمينه ، مستبشرًا ، يقول: ] هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ . إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [ ( الحاقة : 19 ، 20 ) .
والثاني: آخذ كتابه بشماله ، يدعو بالويل والثبور، ويقول : ] يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ. يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ. مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [ ( الحاقة : 25 : 29 ) .
ونشر الكتب يعني : بسطها ، وفتحها بعد أخذها ، قال الله تعالى : ] وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [ ( التكوير : 10 ) ، وقال عز وجل : ] وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا . اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [ ( الإسراء : 13 ، 14 ) .
قال الزجاج : ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق ( [1] ) .

[1] - نقلا عن ( تفسير القرطبي ) : 10 / 229 .
 
كيفية إيتاء الكتاب يوم القيامة
لقد بيَّن الكتاب والسنة مشاهد الحساب ، ووقائع الثواب والعقاب ؛ ليقف كل عاقل مع نفسه ، ويتدبر أمره ، ويُعدَّ عدته ليوم الحساب .
وفي كيفية إيتاء الكتاب - حسب أعمال العبد - يوم القيامة قال الله تعالى : ] يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ . فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ . فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا . وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا . وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ . فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا . وَيَصْلَى سَعِيرًا . إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا . إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ . بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا [ [ الانشقاق : 6 - 15 ] ؛ والكدح هو الجد والاجتهاد وجهد النفس في العمل ، قال الشاعر :
ومضت بشاشة كل عيش صالح ... وبقيت أكدح في الحياة وأنصب
ومعنى الآية : إنك يا ابن آدم مجد بأعمالك جدًّا ، ثم نهايتك إلى ربك فتلاقيه ، فيكافئك بأعمالك : إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشر .
ثم بين الله تعالى حال الناس في تلقي كتبهم ، فمنهم من يؤتى كتابه بيمينه ، فهذا هو الناجي السعيد ، ويكون حسابه يسيرًا ، عرضًا فقط ، لا نقاش فيه ، ثم يعود بعد ذلك إلى أهله في الجنة مسرورًا مغتبطًا .
روى الجماعة إلا ابن ماجة عن عائشة - رضي الله عنها – قالت : قال رسول الله e : " من حوسب يوم القيامة عذب " ، فقلت : أليس قد قال الله U : ] فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [ ؟ فقال : " ليس ذاك الحساب ، إنما ذاك العرض ، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب " ؛ ورواه الطبراني بنحوه عن عبد الله ابن الزبير t بإسناد صحيح ، ورواه الترمذي عن أنس t مرفوعًا بلفظ : " من حوسب عذب " ( [1] ) .
وأما الذي يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره ، فتثنى يده إلى ورائه ويعطى كتابه بها كذلك ؛ فهذا هو الشقي ، الذي يدعو بالخسارة والهلاك والويل والثبور ؛ هذا الذي كان في الدنيا فرحًا ، لا يفكر في العواقب ، ولا يخاف مما أمامه ، فأعقبه ذلك الفرح اليسير الحزن الطويل ، والغم والشقاء والعويل ، ذلك لأنه كان يعتقد أن ليس بعد الموت بعث ورجوع إلى الله تعالى ؛ قال الله تعالى : ] بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا [ أي : سيعيده ، ويجازيه على أعماله ، فهو خالقه وهو به بصير عليم خبير .
فهذا موضع من مواضع قرآنية كثيرة تعرضت لهذه القضية ؛ وما أحسن ما قال الشاعر :
مثِّل وقوفك يوم العرض عريانا ... مستوحشًا قلق الأحشاء حـيرانا
والنار تلهب من غيظ ومن حنق ... على العصاة ورب العرش غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على مهل ... فهل ترى فيه حرفًا غير ما كانا
لـما قرأت ولم تنكـر قراءته ... إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي ... امضوا بعبد عصا للنار عطشانا
المشركون غدًا في النار يلتهبوا ... والمؤمنون بدار الخلد سـكانا
وروى أحمد وابن ماجة عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " يُعْرَضُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ ؛ فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَطِيرُ الصُّحُفُ فِي الْأَيْدِي ، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ " . ورواه الترمذي عن أبي هريرة .

[1] - حديث ابن الزبير رواه الطبراني في الأوسط ( 6676 ) ، وحديث أنس رواه الترمذي ( 3338 ) ، وإسناده حسن .
 
الحساب
أما الحساب فهو : توقيف الله تعالى عباده على أعمالهم - قبل الانصراف من المحشر - خيرًا كانت أو شرًّا .
فهناك يوقف الجميع ليسألهم الملك سبحانه عن أعمالهم ، وينبئهم بها ، قال الله تعالى: ] وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ [ ( الصافات : 24 ) ، وقال U : ] يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [ ( المجادلة : 6 ) ، وقال I : ] وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [ ( الكهف : 49 ) .
وفي دقة الحساب والميزان يقول الله تعالى : ] وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [ ( الأنبياء : 47 ) ؛ أي : توضع الموازين العدل وتقام ليوزن بها أعمال العباد ، ولا ينقص من إحسان محسن ، ولا يزاد في إساءة مسيء ، وإن كان العمل مما يستحقره الناس فإنه يجاء به ليوزن لصاحبه ، ولو كان زنة حبة الخردل ، وهي المتناهية في الصغر ، والتي تستعمل في مقارنة المكاييل بالموازيين الدقيقة ، إذ الكيلو جرام منها يبلغ ( 912 ألف حبة ) ، أي أن الحبة الواحدة منه تزن جزء من اثني عشر وتسعمائة جزء من الجرام ؛ فأي دقة هذه ؟ وأي عدل هذا ؟ اللهم إنه العدل المطلق ، الذي لا يغيب عنه شيء وإن دق : ] فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [ ( الزلزلة : 7 ، 8 ) .
وروى أحمد والترمذي عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ e فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ ، يُكْذِّبُونَنِي ، وَيَخُونُونَنِي ، وَيَعْصُونَنِي، وَأَشْتُمُهُمْ وَأَضْرِبُهُمْ ، فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ ؟ قَالَ : " يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَّبُوكَ وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ ؛ فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ ، كَانَ كَفَافًا ؛ لا لَكَ ، وَلا عَلَيْكَ ؛ وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ ، كَانَ فَضْلًا لَكَ ؛ وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمُ ، اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ" ، قَالَ : فَتَنَحَّى الرَّجُلُ ، فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ : ] وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [ ( الأنبياء : 47 ) " فَقَالَ الرَّجُلُ : وَاللَّهِ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا أَجِدُ لِي وَلِهَؤُلاءِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ ، أُشْهِدُكُمْ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ ( [1] ) .
إن الحساب في الآخرة هو مقتضى العدل المطلق ، فالله تعالى متصف بصفات الكمال والجلال والجمال ، ومنها العدل والحكمة ، فهو سبحانه عدل ، لا يظلم أحدًا من خلقه : ] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [ ( النساء : 40 ) .

[1] - أحمد : 6 / 280 ، والترمذي ( 3165 ) ، والبيهقي في الشعب ( 8586 ) ، وإسناده صحيح .
 
كيفية حساب المؤمن والكافر
إن الله سبحانه حكيم يضع كل شيء في موضعه ، ومقتضى العدل والحكمة ألا يسوى بين البر والفاجر ، ولا بين المؤمن والكافر ، ولا بين المحسن والمسيء ، فإن التسوية بينهما منتهى الظلم والسفه ، قال سبحانه : ] أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [ ( القلم : 35 ، 36 ) ، وقال تعالى : ] أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ ( ص : 28 ) ، وقال جل وعلا : ] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [ ( الجاثية : 21 ) .
فمقتضى العدل الإلهي ألا يُسوَّى بين الفريقين ، فلقد قضى كل من الفريقين حياته : هذا يجاهد نفسه وهواه وشيطانه لإرضاء الله تعالى ، ويجاهد في سبيل الله ليعلي كلمته ، ويرفع رايته ، ويطهر الأرض من الفساد والشر والسوء .
وعلى النقيض الفريق الثاني : يجاهد من أجل شهواته وغرائزه الدنيا ، سائرًا في ركب إبليس ، تابعًا لنفسه الأمارة بالسوء ، يركب المعاصي ، ويسخر من الأبرار ، ويستهزئ بالقيم ؛ فهل من العدل والحكمة أن يكون مصير هؤلاء جميعًا واحدًا ؟!! اللهم لا ؛ بل الله تعالى أعدل العادلين وأحكم الحاكمين ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا .
إنه لابد من يوم تتكشف فيه الحقائق ، وتظهر فيه السرائر ، ويُقضى بين الناس بالقسط وهم لا يظلمون ؛ روى أحمد والشيخان عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - : كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ فِي النَّجْوَى ؟ قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ : " يُدْنَى الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ U حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ ، فَيَقُولُ : هَلْ تَعْرِفُ ؟ فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ أَعْرِفُ ، قَالَ : فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ ، فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ ؛ وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ : ] هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [ ( هود : 18 ) " ( [1] ) .
فهذا بالنسبة للمؤمن هو العرض الذي سبق في حديث عائشة وأنس وابن الزبير y ، واللهم إنا نسألك سترك الجميل في الدنيا والآخرة .
وعند أحمد ومسلم والترمذي عَنْ أَبِي ذَرٍّ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا ؛ رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ : اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا ، فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ ، فَيُقَالُ : عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا ، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا ، فَيَقُولُ : نَعَمْ ؛ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ ، فَيُقَالُ لَهُ : فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً ، فَيَقُولُ : رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لا أَرَاهَا هَا هُنَا " فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ e ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ( [2] ) .

[1] - أحمد: 2 / 74، 105، والبخاري (2441، 4685، 7514)، ومسلم (2768) .

[2] - أحمد : 5 / 157 ، ومسلم ( 190 ) ، والترمذي ( 2596 ) .
 
ما يسأل عنه العبد يوم القيامة
قال الله تعالى : ] إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [ (الإسراء: 36) ، وقال I : ] فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [ (الزلزلة: 7، 8) ، وقال U : ] ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [ (التكاثر: 8).
وروى الترمذي وابن حبان والحاكم عن أَبي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قال رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - يَعْنِي الْعَبْدَ - مِنَ النَّعِيمِ ، أَنْ يُقَالَ لَهُ : أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ ، وَنُرْوِيَكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ ؟ " ([1]) .
وعند مسلم وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ e ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ ، فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَقَالَ :" مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ " قَالا : الْجُوعُ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ :" وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا ، قُومُوا " ، فَقَامُوا مَعَهُ ، فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ : مَرْحَبًا وَأَهْلًا ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ e : " أَيْنَ فُلانٌ ؟ " ، قَالَتْ : ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ ، إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ ، فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e وَصَاحِبَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي ؛ قَالَ : فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ ، فَقَالَ : كُلُوا مِنْ هَذِهِ ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ " ، فَذَبَحَ لَهُمْ ، فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ ، وَشَرِبُوا ، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ " ( [2] ) .
وروى الترمذي وصححه والدارمي عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله e : " لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ [ به ] ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاهُ " ؛ ورواه البزار والطبراني في الكبير عن معاذ مرفوعًا بإسناد صحيح ، ورواه الترمذي والطبراني في الأوسط عن ابن مسعود بإسناد حسن في المتابعات ، وفيه : " وعن شبابه فيما أبلاه " ، بدلا عن جسمه ( [3] ) .
وهذه الأمور تعم حياة الإنسان كلها ، وما يتعلق بها من علم وعمل ومال ، فأين المفر ؟
لا مفر من الله إلا إليه .

[1] - الترمذي ( 3358 ) ، وابن حبان ( 7364 ) ، والحاكم : 4 / 138 ، وصححه ، ووافقه الذهبي .

[2] - مسلم ( 2038 ) .

[3] - الترمذي ( 2417 ) ، والدارمي ( 537 ) عن أبي برزة ؛ ورواه البرزار ( 2640 ) ، والطبراني في الكبير : 20 / 60 ( 111 ) عن معاذ ؛ ورواه الترمذي ( 2416 ) ، و البزار ( 1435 ) ، والطبراني في الأوسط ( 7576 ) ، والبغدادي في تاريخه : 12 / 440 عن ابن مسعود .
 
عودة
أعلى