من لطائف النظم القرآني(الجملة الاسمية والفعلية)

إنضم
22/06/2003
المشاركات
2
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
الإقامة
تبوك
من لطائف النظم القرآني
الجملة الفعلية والاسمية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين أما بعد.
فهذا الموضوع يدخل ضمن إطار البلاغة التي يمثل النص القرآني قمتها، كما أنه يسهم في فهم دلالة النص لأنه يبين بعض الفروق في دلالات الألفاظ والتراكيب، ومن ذلك الجملة الاسمية والفعلية.
أولا: الجانب النظري:
مما لاشك في اختلاف دلالة الجملة عن المفرد، ولاشك في اختلاف دلالة نوعي الجملة(اسمية وفعلية)، وسنركز الحديث هنا في الدلالة الوضعية للجملة بغض النظر عن موقعها.
وسأجعل الشواهد الجامعة بين الجملتين هي الأساس .
لحظ الدارسون من خلال الموازنة بين الجملتين ، أن هناك فوارق دلالية ناتجة عن التغيرات الأسلوبية فيهما ، ويمكن أن نجمل ذلك فيما يأتي:
أ- أن الجملة الاسمية أكثر لواحق من الفعلية ، (( ذلك أنها قد تتركب من اسم وفعل ؛ فكل ما يُكوِّن الفعل في جملتها من لواحق تحمله معه … وبذلك تحمل الجملة الاسمية الفعل ولواحقه ، ثم تتميز عنه بأشكال أخرى ، أو قل بلواحق على صور شتى … وبجانب هذه اللواحق للخبر في الجملة الاسمية توجد لواحق أحياناً للاسم الأول المرفوع فيها [ المبتدأ ] … ومن لواحق مبتدأ الجملة الاسمية : التوابع : نعته، والعطف عليه وتوكيده والبدل منه … وهناك لواحق أخرى … وبذلك يتضح أن لواحق الجملة الاسمية تتعدد تعدداً واسعاً ))( ) .
وهذا ملحظ جدير بالعناية، وهو ربما يفسر لنا تنوع دلالة الجملة الاسمية بين الثبوت والدوام والتجدد، وذلك أنها تتداخل فيها كل مميزات الجملة الفعلية ولا عكس ، ولهذا تحمل الاسمية من الدلالات ما لا تحمله الفعلية ، ومن ذلك دلالة التأكيد مثلاً، وهي ما أشار إليه ابن الأثير في حديثه عن (الخطاب بالجملة الفعلية والجملة الاسمية والفرق بينهما) حيث يقول :(( وإنما يعدل عن أحد الخطابين إلى الآخر لضرب من التأكيد والمبالغة ))( ).
ويظهر من شواهده التي ساقها أنه يقصد بدلالة التأكيد والمبالغة الجملة الاسمية أولاً وما فيها من مؤكدات مثل (إنّ)، و(اللام) في خبرها ، و(لام) الابتداء ، و(لام) القسم( ) ، وأما الفعلية فلم يذكر لها إلا نون التوكيد الثقيلة والخفيفة على سبيل الإلحاق حيث قال :((وكذلك فاعلم أن لنون الثقيلة متصلة بهذا الباب))( ) .
ب- أن التقديم للاسم أو الفعل في التركيب القابل لذلك يشعر بأهمية المقدم ،فإن قيل مثلاً: سافر زيد ، فهذه جملة فعلية ، فإذا قُدِّم (زيد) فقيل: زيد سافر كانت اسمية ، وهذه الجملة الاسمية لا تشعر بثبوت ولا استمرارية ، بل هي مثل سابقتها ، إلا أن هناك دلالات أخرى نتجت عن تغير موقع الكلمة، ففي الفعلية بُني الاسم على الفعل وجُعل الفعل هو الأهم وأنت به أعنى، وفي الاسمية بُني الفعل على الاسم ، فاحتمل الفعل ضميره ، فتعددت الدلالة ، فقد دلت الجملة أولاً على أهمية الاسم واعتناء المتكلم أو المخاطب به ، ودلت ثانياً على التأكيد لتكرر الإسناد( )، وربما دلت على الاختصاص( ) .
وهذا التقديم للمعتنى به منهما له مواطن تقتضي تقديمه وتأخير غيره ، ولعلنا نجد بغيتنا في هذا الأمر فيما سطره عبد القاهر بقوله، عن تقديم المتحدث عنه بعد واو الحال:(( إذا علم السامع من حال رجل أنه على نية الركوب والمضي إلى موضع، ولم يكن شك وتردد أنه يركب أو لا يركب، كان خبرك فيه أن تقول: (قد ركب)، ولا تقول :(هو قد ركب) ، فإن جئت بمثل هذا في صلة كلام، ووضعته بعد واو الحال حسن حينئذ ، وذلك قولك:(جئته وهو قد ركب)، وذلك أن الحكم يتغير إذا صارت الجملة في مثل هذا الموضع ، ويصير الأمر بمعرض الشك، وذاك أنه إنما يقول هذا من ظن أنه يصادفه في منزله، وأنه يصل إليه من قبل أن يركب، فإن قلت : فإنك قد تقول: (جئته وقد ركب) بهذا المعنى ، ومع هذا الشك - فإن الشك لا يقوى حينئذ قوته في الوجه الأول أفلا ترى أنك إذا استبطأت إنساناً فقلت: أتانا والشمس قد طلعت، كان ذلك أبلغ في استبطائك له من أن تقول: أتانا وقد طلعت الشمس...))( )،وهذا كلام في غاية الجمال لكنه يحتاج إلى تبيين وإيضاح، ولعل ما سيأتي من تحليل للشواهد وموازنات بين الجمل الاسمية ما يسهم في ذلك .
د- أن الجملة الاسمية ، الأصل فيها أنها تدل على الثبوت والاستمرار ، بخلاف الفعلية فهي تدل على التجدد والحدوث، وهذا ليس على إطلاقه بل لذلك تفصيل مرده في الجملة الاسمية إلى نوع الخبر، فله الأثر الكبير في تغير الدلالة ، يقول الكفوي :((الجملة الاسمية تدل بمعونة المقام على دوام الثبوت، وإن دخل عليها حرف النفي دلت على استمرار الثبوت، وإذا دخل عليها حرف الامتناع دلت على استمرار الامتناع، وإذا كان خبرها اسماً فقد يقصد بها الدوام والاستمرار الثبوتي بمعونة القرائن، وإذا كان خبرها مضارعاً فقد يفيد استمراراً تجددياً))( ) .
(( أما الفعلية فإنها تفيد الحدوث: يجيء الشتاء، يفوز المجتهد... وقد تفيد الاستمرارية بالقرائن... ومنه قول المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي عـلى قـدر المكــارم
وتعظم في عين الصغـير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم))( )
وخلاصة القول في هذا أن الحكم على الجملة الاسمية بأنها تفيد الثبوت والاستمرار دائماً حكم لا يصح على إطلاقه بل هي خاضعة في ذلك لنوع خبرها ، فإن كان اسماً مفرداً أو جملة اسمية مثل: الضوء ساطع، والله فضله عظيم ، فهي تفيد الثبوت لعدم وجود منازع لدلالة الاسم فيها، وربما تدل على الدوام بالقرائن ، وإن كان الخبر فيها فعلاً مضارعاً دلت على التجدد والنشوء، وإن كان ماضياً دلت على الانقضاء فلا استمرارية ولا تجدد ( ) .

تحليل الشواهد القرآنية
ومما تنوع فيه الأسلوب بين الجملتين ، قوله تعالى : { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ} [247 البقرة ] ، فقوله جل ذكره: (ونحن أحق) و (ولم يؤت) حالان عطفت إحداهما على الأخرى( )، واختلفتا في الاسمية والفعلية، فما سر ذلك ؟ .
يقول الطاهر بن عاشور :(( وجعلوا الجملة حالاً للدلالة على أنهم لما ذكروا أحقيتهم بالملك لم يحتاجوا إلى الاستدلال على ذلك؛ لأن هذا الأمر عندهم مسلم معروف ، إذ هم قادة وعرفاء وشاوول رجل من السوقة ، فهذا تسجيل منهم بأحقيتهم عليه ، وقوله: (ولم يؤت سعة من المال) معطوفة على الحال فهي حال ثانية، وهذا إبداء مانع فيه من ولاية الملك في نظرهم ، وهو أنه فقير وشأن الملك أن يكون ذا مال ...))( )، ولو عدنا إلى الجملة الاسمية: (ونحن أحق) لرأينا أنها تدل على أنهم أرادوا إظهار أنفسهم وإشهارها ، لذا قدموا ضميرهم (نحن) ثم جاءوا بــ(أحق) الدالة على التفضيل، ثم ذكروا ما فيه التفضيل ، ثم نصوا على المفضَّل عليه (منه)، فالكلام مبني على إظهار اختصاصهم وفخرهم، وهذا ما تنوء به الجملة الاسمية على النمط الذي سيقت عليه( )، يقول الحرالي :(( فثنوا اعتراضهم بما هو أشد، وهو الفخر بما ادعوه من استحقاق الملك على من ملكه الله عليهم، فكان فيه حظ من فخر إبليس حيث قال حين أمر بالسجود لآدم: أنا خير منه ))( ) .
أما الحال الثانية فقد جاءت فعلية فعلها مضارع منفي، وكان يمكن أن تجيء مكانها الاسمية فيقال : (وهو فقير) فتتناسق الجملتان ، فما سر العدول عنها إلى الفعلية ؟.
إن أول ما يلحظ في الفرق بينها أن الفعلية نافية ، والاسمية مثبتة ، والمناسب هنا النفي ؛ لأنهم أرادوا بمجموع كلامهم إبراز أحقيتهم بالملك ، فذكروا ذلك بإثبات الأحقية لهم ، فكان من المناسب أن يضيفوا ما يبين عدم أحقيته وذلك بأن ينفوا عنه ما به يكون الملك في نظرهم وهو المال ؛ لأن الحاكم يتقوى به ويجلب به الأعوان، و (( ليكفي نوائب الأمة فينفق في العدد والعطاء، وإغاثة الملهوف))( ) ، فلو قيل : (وهو فقير) لكان في ذلك إثبات لفقره فحسب ، وأما (ولم يؤت سعة من المال ) ففيه تصريح بفقره ، وأنه وإن ملك منه شيء إلا أنه لا يفي بالمطلوب ، فلا بد من (سعة المال) ، وفيه تنصيص على نوع المفقود وهو (المال)، وأنه لو ملكه لربما قبل منه ذلك، ولعل فيه إشعاراً بأنه لا سبيل إلى اغتنائه بحال من الحال ، مثل قولهم : فلان لم يؤت العلم ، أي: مهما تعلم لا يُفلح ، فهذا مثله .
ومن الشواهد أيضاً قوله تعالى : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }[266 البقرة ] ، فقوله جل ذكره: (وأصابه الكبر) حال ، وكذلك (وله ذرية ضعفاء) فهو حال من الهاء في ( أصابه)( )، وهي حال متداخلة ، إحداهما جاءت فعلية فعلها ماض ، والثانية جاءت اسمية على تقديم الخبر شبه الجملة ، فما سر مجيء كل منها على ما جاءت عليه ؟.
لو قيل : له فيها من كل الثمرات وهو كبير محتاج لاحتمله الأسلوب، لكننا نجد أن جملة: (وأصابه الكبر) أدل على المطلوب وأعظم تصويراً لما سيقت له، وذلك لما في هذا الفعل(وأصابه) من الدلالة التي أشار إليها السمين بقوله :(( وأتى به في هذه الآيات كلها ، نحو : فأصابه وابل، وأصابه الكبر ، فأصابها إعصار ؛ لأنه أبلغ وأدل على التأثير بوقوع الفعل على ذلك الشيء ، من أنه لم يُذكر بلفظ الإصابة ، حتى لو قيل : وَبَل ، وكَبِر ، وأعصرت لم يكن فيه ما في لفظ الإصابة من المبالغة ))( ) ، وهذا يعني أن (وهو كبير) لا تعطي من مدلول سطو الكبر فيه، وتأثيره عليه ما تعطيه (وأصابه)، ثم التعبير بالماضي يدل على وقوع ذلك وتحققه ، وأن حالته هذه سابقة وما زالت ، وهذا يشعر بشدة الحاجة التي هو فيها ، ولو قيل بالاسمية: ( وهو كبير ) لما أشعر بذلك ألبتة ؛ لأنه لا دلالة فيها على المضي .
أما جملة ( وله ذرية ضعفاء ) فكان يمكن أن يكون مكانها ( وأبناؤه صغار محتاجون ) لكن ما ذُكر ، فيه تقديم للخبر (له) المشعر باختصاص ذلك به، ومجيء المبتدأ بهذا اللفظ:( ذرية ) وهي كلمة تشعر بالضعف بخلاف ( أبناء ) ، وقد جاءت في قوله تعالى: { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}[37 إبراهيم] وهو مشابه لهذا الموضوع في المسكنة والحاجة ، وكذلك وصفها (بضعفاء) ، ففيه إظهار لمدى مسكنة هذه الذرية ، يقول الطاهر بن عاشور:((وصف صاحبها بأقصى صفات الحاجة إلى فائدة جنته ، بأنه ذو عيال فهو في حاجة إلى نفعهم وأنهم ضعفاء - أي صغار - ...، وقد أصابه الكبر فلا قدرة له على الكسب غير تلك الجنة ...، فحصل من تفصيل هذه الحالة أعظم الترقب لثمرة هذه الجنة ))( ) .
ويتضح لنا من هذا أن بيان اختصاص الاسمية بموقعها والفعلية بمكانها أمر لا يتوقف على دلالة الثبوت والاستمرار أو الحدوث والتجدد فقط ، بل هناك نظم الجملة له دلالته، ونوع الفعل له دلالته، واختيار اللفظ المعبّر له دلالته ، وإن كانت دلالة النشوء في الفعل ظاهرة؛ لأنه يدل على الحركة، وهي تقتضي التجدد ، فهو -كذلك-أقدر من الاسم على التصوير الحركي، وربما تظهر تلك الدلالة بصورة أوضح في الشواهد التي يلتقي فيها الحالان في الإثبات أو النفي، ويمكن لأحدهما أن يحل مكان الآخر دون قلق في التركيب، وإن كان هناك تفاوت في المعنى ، ومن ذلك قوله تعالى : {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}[40 آل عمران ] ، فقوله تعالى:( وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ) جملتان حاليتان ، جيء بهما لتعليل الاستعلام الحاصل من زكريا عليه السلام ((على سبيل الاستعظام لقدرة الله))( ) ((لتعذر عمل المكانين الذين هما سبب التناسل وهما: الكبر ، والعقْرة))( )، يقول أبوحيان معللاً اختلاف الجملتين:((وكانت الجملة الأولى فعلية؛ لأن الكبر يتجدد شيئاً فشيئاً، فلم يكن وصفاً لازماً، وكانت الثانية اسمية والخبر(عاقر)؛ لأن كونها عاقراً أمر لازم لها لم يكن وصفاً طارئاً عليها، فناسب لذلك أن تكون الأولى جملة فعلية ، وناسب أن تكون الثانية جملة اسمية))( ).
ولعلنا نلحظ أن في قوله:(وقد بلغني الكبر) إشارةً إلى أن هذا الكبر الذي لحقه هو المعهود عادة في منع الإنجاب ، وهو ما توحي به ( أل ) في ( الكبر ) ، ولو قيل : (وأنا كبير) لكان فيه إخبار بكبره فحسب، وليس فيه إشارة إلى بلوغ الكبر المانع؛ لأنه ليس كل كبر يمنع من الإنجاب، ثم إن في الجملة الاسمية: ( وأنا كبير ) لو قدرناها ما يدل على أن هذا الكبر وصف لازم ، وهذا ليس بحق، بل الكبر وصف عارض طارئ بعد أن لم يكن ، وأما جملة: ( وامرأتي عاقر ) فجاءت اسمية ولم تكن ( وقد عقرت ) ؛ لأن ذلك يوحي بتجدد العقم بعد أن لم يكن ، وهذا مخالف للواقع ولطبيعة العقم ؛ إذ هو حالة قديمة مستديمة فيها كما أشار إليه أبو حيان من قبل .
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى :{ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ}[61 المائدة] ، فقوله جل ذكره: ( وقد دخلوا ) في موضع الحال من فاعل ( قالوا ) أو ( آمنا ) ، (وهم قد خرجوا به ) حال أخرى ( ) ، أما عن سر المخالفة بين الحالين فيقول ابن عطية : ((وقوله (وهم) : تخليص من احتمال العبارة أن يدخل قوم بالكفر ثم يؤمنوا، ويخرج قوم وهم كفرة فكان ينطبق على الجميع : وقد دخلوا بالكفر وقد خرجوا به، فأزال الاحتمال قوله تعالى: (وهم قد خرجوا به) أي: هم بأعينهم))( )، وبقيت الحال الأولى على فعليتها من غير ذكر ضميرهم؛ لأن الحديث عن اليهود المعاصرين له صلى الله عليه وسلم والمنافقين الذين لا ينتفعون بإرشاد ( )، فهم معلومون ولا يلتبس معهم غيرهم فلا حاجة لذكر ضميرهم ليميزهم ويخصصهم .
ويلمح أبوحيان سراً آخر وراء هذه المخالفة فيقول :(( وقيل معنى (هم) للتأكيد في إضافة الكفر إليهم، ونفي أن يكون من الرسول ما يوجب كفرهم من سوء معاملته لهم، بل كان يلطف بهم ويعاملهم بأحسن معاملة ، فالمعنى : أنهم هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم، لا أنك أنت الذي تسببت لبقائهم في الكفر ، والذي نقول : إن الجملة الاسمية الواقعة حالاً المصدرة بضمير ذي الحال المخبر عنها بفعل أو اسم يحتمل ضمير ذي الحال آكد من الجملة الفعلية، من جهة أنه يتكرر فيها المسند إليه فيصير نظير: قام زيد زيد( )، ولما كانوا حين جاءوا الرسول أو المؤمنين قالوا : آمنا ملتبسين بالكفر، كان ينبغي لهم ألا يخرجوا بالكفر ، ... بل يخرجون بالرسول مؤمنين ظاهراً وباطناً ، فأكد وصفهم بالكفر بأن كرر المسند إليه تنبيهاً على تحققهم بالكفر وتماديهم عليه ، وأن رؤية الرسول لم تجْدِ عنهم شيئاً ولم يتأثروا بها ))( ) .
ويقول أيضاً (( وخالف بين جملتي الحال اتساعاً في الكلام ))( ) ، وهذا القول الأخير وزنه في البلاغة قليل ؛ لذلك نحاه أبوحيان جانباً ، وأتبعه بالتحليل المطول الجميل السابق الذي أكد فيه أن دلالة الجملة الحالية الاسمية على التأكيد - وهو أحد دلالاتها - نابع من جهة تركيبها ونظمها، وما ذكره ابن عطية أيضاً كان رائعاً ؛ لأن الكلام يحتمله ،وهكذا تأتي الجملة القرآنية بكل مكوناتها مصورة للمعنى المراد أدق تصوير وأبينه بحيث لا يختلط مع غيره ، ولا يختلط معه غيره.
ومن الشواهد أيضاً قوله تعالى : { وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ، سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ}[49-50 إبراهيم] ، فجاءت الحال مفردة في (مقرنين) ، وجملة اسمية في (سرابيلهم من قطران) وفعلية في (وتغشى وجوههم النار)( ) ، ولعل السر في مجيء الحال المصورة للباسهم الناري اسمية أن المراد وصف نوع اللباس لا فعل اللبس ، وهذا ثابت غير منشأ ولا محدث ، ولو قيل: (يلبسون من قطران) لأفهم ذلك أنهم يحدثون فعل اللبس آناً بعد آن، وما تدل عليه الآية هو ديمومة لبسهم ذلك لا تجدده أما غشيان النار لوجوههم فهو حادث متجدد بدليل تغير الجلود وسقوط فروة الوجه عند شرب الحميم - حمانا الله من ذلك - فلما كان غشيان النار لوجوههم متكرراً متجدداً - وهو أنكى في العذاب - جاء التعبير معه بالفعل .
ومن الشواهد الجامعة بين الجملتين قوله تعالى :{ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى }[8-10 عبس] ، يقول السمين:(( (يسعى) : حال من فاعل(جاءك)، وقوله: (وهو يخشى) جملة حالية من فاعل (يسعى) فهو حال من حال، وجعلها حالاً ثانية معطوفة على الأول ليس بالقوي))( ) ، فالأظهر فيها أنها حال متداخلة، يقول عبدالستار سعيد عن دلالة هاتين الجملتين :(( دلالة (يسعى) غير دلالة (وهو يخشى) ففي (يسعى) دلالة على تصوير حركة الماشي الذي يقطع الطريق شيئاً فشيئاً ، وفي (وهو يخشى) إثبات الخشية من الله لذلك الماشي ، والجملتان حاليتان لاتقوم إحداهما بما قامت به الأخرى))( )؛ لأن الحال الأولى حركية فعلية فناسب إظهارها الفعل لما فيه من التنصيص على الحركة وهي (السعي) من أول الأمر ، وهي حركة تنشأ شيئاً فشيئاً وهذه هي دلالة الفعل ، ولو قيل: (وهو يسعى) لكان في ذلك لفتاً للساعي ذاته لا لفعله ، فلما كان الساعي معلوماً والاهتمام إنما بتصوير حالته وهيئته في قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم طالباً للمزيد من الخبر كان الفعل هو الأنسب لتصوير تلك الحال ، أما الحال الثانية فجاءت لبيان استقرار الخشية من الله في قلبه ، أو لإظهار ضعفه حيث كان أعمى لا قائد له فهو يخاف العثار والسقوط والهوام( ) ، وجيء بالضمير للتنصيص على أن ذلك الساعي هو من هذه الحالة ، أو لتأكيد اتصافه بالخشية وديمومتها فيه ، خاصة إذا نظرنا للخشية بأنها عمل قلبي الأصل فيه الديمومة فتناسبه الجملة الاسمية الدالة على ذلك .
وهكذا تتعدد الشواهد وتتنوع الصيغ والأساليب ، لكن يبقى للجملة الفعلية التي عمادها الفعل دلالتها الخاصة التي يسندها فيها لواحق وسوابق ، كأدوات النفي ونونا التوكيد ، وكل ذلك يؤثر في دلالة الجملة الفعلية ، وكذلك الاسمية فدلالة التوكيد فيها أظهر وأقوى لتعدد أدوات التوكيد معها على ما سبق ذكره ، وتبقى للفعل دلالة الإنشاء والحركة ، وللاسم دلالة الثبوت والسكون، ويظل للسياق والقرائن في ذلك الأثر الكبير في الحكم بهذا أو ذاك .

_____________________
( 1) - تجديد النحو 253، 254.
( 2) - المثل السائر 2/269 .
( 3) - انظر المثل السائر 2/269 وما بعدها .
(4 ) - المثل السائر 2/274 .
( 5) - انظر بعض هذا في تجديد النحو 253 وما بعدها.
( 6) - انظر الطراز 2/25 وما بعدها .
( 7) - دلائل الإعجاز 135، 136 .
( 8) - الكليات : 1010 المتن والحاشية .
(9 ) - البلاغة فنونها وأفنانها ( علم المعاني ) 92،والبيتان في ديوان المتنبي(بشرح العكبري) 3/378،379، ولمزيد من معرفة هذه الفروق بين الجملتين يحسن الاطلاع على ما قيل حول قوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ} [62 الأعراف] في حق نبي الله نوح عليه السلام، و قوله تعالى:{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [68 الأعراف]في حق نبي الله هود عليه السلام، انظر ذلك بتوسع في: مفاتيح الغيب 14/127،وملاك التأويل1/401،والبحر المحيط 5/87 ، ونظم الدرر 7/436 ، وتفسير أبي السعود 3/238 ، وروح المعاني المجلد الرابع الجزء الثامن 156 ، والتحرير والتنوير 8 القسم الثاني 203.
( 10) - ينظر بعض هذا في البلاغة فنونها وأفنانها ( علم المعاني ) 92.
( 11) - انظر الكشاف، وكلام الزمخشري الممتع عن الفرق بين الواوين ، وكذلك تعليق ابن المنير عليه 1/292 وانظر أيضاً البحر المحيط 2/575 والدر المصون 2/521 .
( 12) - التحرير والتنوير 2/491 .
( 13) - انظر الضمير المنفصل في النظم القرآني دراسة بلاغية تطبيقية (رسالة ماجستير) 270 .
( 14) - نظم الدرر 3/416، 417 .
( 15) - التحرير والتنوير 2/491 .
( 16) - انظر البحر المحيط 2/672 ،673 ، والدر المصون 2/597 ، 598 .
( 17) - الدر المصون 2/598 .
( 18) - التحرير والتنوير 3/54 .
( 19) - البحر المحيط 3/137 .
( 20) -التحرير والتنوير 3/242 ، وقد قال هذا على أن (أنّى) يقصد بها المكان.
( 21) - البحر المحيط 3/136 .
( 22) - انظر التبيان 1/449 .
( 23) - المحرر الوجيز 5/147 .
( 24) - انظر المحرر الوجيز 5/146 ، والبحر المحيط 4/310 .
( 25) - لعل الصحيح أنه نظير : قام زيد ، قام زيد ليظهر تكرر الإسناد ، فالقيام أسند إلى زيد مرتين، أما ما ذكره فهو تكرار في الفاعل من غير تكرر للعامل؛ وبهذا لم يتكرر الإسناد، وإنما يتكرر في الجملة الواحدة في مثل آية الاستشهاد.
( 26) - البحر المحيط 4/310 ، 311 .
( 27) - البحر المحيط 4/310 .
( 28) - انظر الفريد في إعراب القرآن المجيد 3/179،180 .
( 29) - الدر المصون 10/688 .
( 30) - الحال في الأسلوب القرآني 127 .
( 31) - البحر المحيط 10/407 .
 
عودة
أعلى