استدراك صاحب الظلال على الشيخ محمد عبده وغيره في تفسيرهم لقوله تعالى: (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ*
تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ).
حيث قال رحمه الله:
ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده , فأرسل عليهم جماعات من الطير تحصبهم بحجارة من طين وحجر , فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة، كما يحكي عنهم القرآن الكريم .. وأصيب أبرهة في جسده ,وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة , حتى قدموا به صنعاء , فما مات حتى انشق صدره عن قلبه كما تقول الروايات .. وتختلف الروايات هنا في تحديد نوع هذه الجماعات من الطير , وأشكالها , وأحجامها , وأحجام هذه الحجارة ونوعها وكيفية فعلها.
كما أن بعضها يروي أن الجدري والحصبة ظهرا في هذا العام في مكة.
ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات , وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعمل عملها , أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة أقرب وأولى.
وأن الطير قد تكون هي الذباب والبعوض التي تحمل الميكروبات , فالطير هو كل ما يطير.
قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسيره للسورة في جزء عم: "وفي اليوم الثاني فشا في جند الجيش داء الجدري والحصبة .. قال عكرمة: وهو أول جدري ظهر ببلاد العرب.
وقال يعقوب بن عتبة فيما حدث: إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري ببلاد العرب ذلك العام.
وقد فعل الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله.
فكان لحمهم يتناثر ويتساقط فذعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين , وأصيب الجيش , ولم يزل يسقط لحمه قطعة قطعة , وأنملة أنملة حتى انصدع صدره ومات في صنعاء".
"هذا أول ما اتفقت عليه الروايات , ويصح الاعتقاد به.
وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح".
"فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض , وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات , فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه , فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه.
وأن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر , وأن هذا الحيوان الصغير
الذي يسمونه الآن بالمكروب
لا يخرج عنها.
وهو فرق وجماعات لا يحصي عددها إلا بارئها .. ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين , على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال , ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب , ولا على أن يكون له ألوان خاصة به , ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها .. فلله جند من كل شيء ".
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد "وليست في الكون قوة إلا وهي خاضعة لقوته.
فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت , أرسل الله عليه من الطير ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة , فأهلكته وأهلكت قومه , قبل أن يدخل مكة.
وهي نعمة غمر الله بها أهل حرمه
على وثنيتهم
حفظا لبيته , حتى يرسل من يحميه بقوة دينه صلى الله عليه و سلم وإن كانت نعمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت دون جرم اجترمه , ولا ذنب اقترفه".
"هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة.
وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل , إن صحت روايته.
ومما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل
وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسما
ويهلك , بحيوان صغير لا يظهر للنظر , ولا يدرك بالبصر , حيث ساقه القدر.
لا ريب عند العاقل أن هذا أكبر وأعجب وأبهر !! ".
ونحن لا نرى أن هذه الصورة التي افترضها الاستاذ الإمام
صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم
أو تلك التي جاءت بها بعض الروايات من أن الحجارة ذاتها كانت تخرق الرؤوس والأجسام وتنفذ منها وتمزق الأجساد فتدعها كفتات ورق الشجر الجاف وهو ( العصف) .. لا نرى أن هذه الصورة أو تلك أدل على قدرة الله , ولا أولى بتفسير الحادث.
فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع.
ومن حيث الدلالة على قدرة الله وتدبيره , ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس , المعهودة المكشوفة لعلمهم هي التي جرت فأهلكت قوما أراد الله إهلاكهم أو أن تكون سنة الله قد جرت بغير المألوف للبشر , وغير المعهود المكشوف لعلمهم , فحققت قدره ذاك.
إن سنة الله ليست فقط هي ما عهده البشر وما عرفوه.
وما يعرف البشر من سنة الله إلا طرفا يسيرا يكشفه الله لهم بمقدار ما يطيقون , وبمقدار ما يتهيأون له بتجاربهم ومداركهم في الزمن الطويل , فهذه الخوارق
كما يسمونها
هي من سنة الله.
ولكنها خوارق بالقياس إلى ما عهدوه وما عرفوه ! ومن ثم فنحن لا نقف أمام الخارقة مترددين ولا مؤولين لها
متى صحت الرواية
أو كان في النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت خارقة , ولم تجر على مألوف الناس ومعهودهم.
وفي الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على السنة المألوفة أقل وقعا ولا دلالة من جريانه على السنة الخارقة للمألوف.
فالسنة المألوفة هي في حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر .. إن طلوع الشمس وغروبها خارقة
وهي معهودة كل يوم
وإن ولادة كل طفل خارقة
وهي تقع كل لحظة , وإلا فليجرب من شاء أن يجرب !
وإن تسليط طير كائنا ما كان يحمل حجارة مسحوقة ملوثة بميكروبات الجدري والحصبة وإلقائها في هذه الأرض , في هذا الأوان , وإحداث هذا الوباء في الجيش , في اللحظة التي يهم فيها باقتحام البيت .. إن جريان قدر الله على هذا النحو خارقة بل عدة خوارق كاملة الدلالة على القدرة وعلى التقدير.
وليست بأقل دلالة ولا عظمة من أن يرسل الله طيرا خاصا يحمل حجارة خاصة تفعل بالأجسام فعلا خاصا في اللحظة المقررة .. هذه من تلك .. هذه خارقة وتلك خارقة على السواء .. فأما في هذا الحادث بالذات , فنحن أميل إلى اعتبار أن الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة , وأن الله أرسل طيرا أبابيل غير معهودة
وإن لم تكن هناك حاجة إلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفا مثيرا , نجد له نظائر في مواضع أخرى تشي بأن عنصر المبالغة والتهويل مضاف إليها !
تحمل حجارة غير معهودة , تفعل بالأجسام فعلا غير معهود .. نحن أميل إلى هذا الاعتبار.
لا لأنه أعظم دلالة ولا أكبر حقيقة.
ولكن لأن جو السورة وملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب.
فقد كان الله
سبحانه
يريد بهذا البيت أمرا.
كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمنا ; وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة , في أرض حرة طليقة , لا يهيمن عليها أحد من خارجها , ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها.
ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال , حتى ليمتن بها على قريش بعد البعثة في هذه السورة , ويضربها مثلا لرعاية الله لحرماته وغيرته عليها .. فمما يتناسق مع جو هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود , بكل مقوماته وبكل أجزائه.
ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذ .. وبخاصة أن المألوف في الجدري أو الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده ,فإن الجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضوا عضوا وأنملة أنملة , ولا يشق الصدر عن القلب .. وهذه الصورة هي التي يوحي بها النص القرآني: ( فجعلهم كعصف مأكول) .. إيحاء مباشرا قريبا.
ورواية عكرمة وما حدث به يعقوب بن عتبة ليست نصا في أن الجيش أصيب بالجدري.
فهي لا تزيد على أن تقول: إن الجدري ظهر في الجزيرة في هذا العام لأول مرة.
ولم ترد في أقوالهما أية إشارة لأبرهة وجيشه خاصة بالإصابة بهذا المرض .. ثم إن إصابة الجيش على هذا النحو وعدم إصابة العرب القريبين بمثله في حينه تبدو خارقة إذا كان الطير تقصد الجيش وحده بما تحمل.
وما دامت المسألة خارقة فعلام العناء في حصرها في صورة معينة لمجرد أن هذه الصورة مألوفة لمدارك البشر ! وجريان الأمر على غير المألوف أنسب لجو الحادث كله ! إننا ندرك ونقدر دوافع المدرسة العقلية التي كان الأستاذ الإمام
رحمه الله على رأسها في تلك الحقبة .. ندرك ونقدر دوافعها إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات في تفسير القرآن الكريم وأحداث التاريخ , ومحاولة ردها إلى المألوف المكشوف من السنن الكونية .. فلقد كانت هذه المدرسة تواجه النزعة الخرافية الشائعة التي تسيطر على العقلية العامة في تلك الفترة ; كما تواجه سيل الأساطير والإسرائيليات التي حشيت بها , كتب التفسير والرواية في الوقت الذي وصلت فيه الفتنة بالعلم الحديث إلى ذروتها , وموجة الشك في مقولات الدين إلى قمتها.
فقامت هذه المدرسة تحاول أن ترد إلى الدين اعتباره على أساس أن كل ما جاء به موافق للعقل.
ومن ثم تجتهد في تنقيته من الخرافات والأساطير.
كما تحاول أن تنشئ عقلية دينية تفقه السنن الكونية , وتدرك ثباتها واطرادها , وترد إليها الحركات الإنسانية كما ترد إليها الحركات الكونية في الأجرام والأجسام
وهي في صميمها العقلية القرآنية
فالقرآن يرد الناس إلى سنن الله الكونية باعتبارها القاعدة الثابتة المطردة المنظمة لمفردات الحركات والظواهر المتناثرة.
ولكن مواجهة ضغط الخرافة من جهة وضغط الفتنة بالعلم من جهة أخرى تركت آثارها في تلك المدرسة.
من المبالغة في الاحتياط , والميل إلى جعل مألوف السنن الكونية هو القاعدة الكلية لسنة الله.
فشاع في تفسير الأستاذ الشيخ محمد عبده
كما شاع في تفسير تلميذيه الأستاذ الشيخ رشيد رضا والأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي
رحمهم الله جميعا
شاع في هذا التفسير الرغبة الواضحة في رد الكثير من الخوارق إلى مألوف سنة الله دون الخارق منها , وإلى تأويل بعضها بحيث يلائم ما يسمونه "المعقول" ! وإلى الحذر والاحتراس الشديد في تقبل الغيبيات.
ومع إدراكنا وتقديرنا للعوامل البيئية الدافعة لمثل هذا الاتجاه , فإننا نلاحظ عنصر المبالغة فيه , وإغفال الجانب الآخر للتصور القرآني الكامل.
وهو طلاقة مشيئة الله وقدرته من وراء السنن التي اختارها
سواء المألوف منها للبشر أو غير المألوف
هذه الطلاقة التي لا تجعل العقل البشري هو الحاكم الأخير.
ولا تجعل معقول هذا العقل هو مرد كل أمر بحيث يتحتم تأويل ما لا يوافقه
كما يتكرر هذا القول في تفسير أعلام هذه المدرسة.
هذا إلى جانب أن المألوف من سنة الله ليس هو كل سنة الله.
إنما هو طرف يسير لا يفسر كل ما يقع من هذه السنن في الكون.
وأن هذه كتلك دليل على عظمة القدرة ودقة التقدير .. وكل ذلك مع الاحتياط من الخرافة ونفي الأسطورة في اعتدال كامل , غير متأثر بإيحاء بيئة خاصة , ولا مواجهة عرف تفكيري شائع في عصر من العصور !!! إن هنالك قاعدة مأمونة في مواجهة النصوص القرآنية , لعل هنا مكان تقريرها .. إنه لا يجوز لنا أن نواجه النصوص القرآنية بمقررات عقلية سابقة.
لا مقررات عامة.
, ولا مقررات في الموضوع الذي تعالجه النصوص.
بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص لنتلقى منها مقرراتنا.
فمنها نتلقى مقرراتنا الإيمانية , ومنها نكون قواعد منطقنا وتصوراتنا جميعا ; فإذا قررت لنا أمرا فهو المقرر كما قررته ! ذلك أن ما نسميه "العقل" ونريد أن نحاكم إليه مقررات القرآن عن الأحداث الكونية والتاريخية والإنسانية والغيبية هو إفراز واقعنا البشري المحدود , وتجاربنا البشرية المحدودة.
وهذا العقل وإن يكن في ذاته قوة مطلقة لا تتقيد بمفردات التجارب والوقائع بل تسمو عليها إلى المعنى المجرد وراء ذواتها , إلا أنه في النهاية محدود بحدود وجودنا البشري.
وهذا الوجود لا يمثل المطلق كما هو عند الله.
والقرآن صادر عن هذا المطلق فهو الذي يحكمنا.
ومقرراته هي التي نستقي منها مقرراتنا العقلية ذاتها.
ومن ثم لا يصلح أن يقال: إن مدلول هذا النص يصطدم مع العقل فلا بد من تأويله
كما يرد كثيرا في مقررات أصحاب هذه المدرسة.
وليس معنى هذا هو الإستسلام للخرافة.
ولكن معناه أن العقل ليس هو الحكم في مقررات القرآن.
ومتى كانت المدلولات التعبيرية مستقيمة واضحة فهي التي تقرر كيف تتلقاها عقولنا , ويكف تصوغ منها قواعد تصورها ومنطقها تجاه مدلولاتها , وتجاه الحقائق الكونية الأخرى ونعود من هذا الاستطراد إلى سورة الفيل , وإلى دلالة القصة .. ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) .. وهو سؤال للتعجيب من الحادث , والتنبيه إلى دلالته العظيمة.
فالحادث كان معروفا للعرب ومشهورا عندهم , حتى لقد جعلوه مبدأ تاريخ.
يقولون حدث كذا عام الفيل , وحدث كذا قبل عام الفيل بعامين , وحدث كذا بعد عام الفيل بعشر سنوات .. والمشهور أن مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم كان في عام الفيل ذاته.
ولعل ذلك من بدائع الموافقات الإلهية المقدرة ! وإذن فلم تكن السورة للإخبار بقصة يجهلونها , إنما كانت تذكيرا بأمر يعرفونه , المقصود به ما وراء هذا التذكير ..