من استدراكات المفسرين بعضهم على بعض

إنضم
18/05/2011
المشاركات
1,237
مستوى التفاعل
1
النقاط
38
قال السمين الحلبي رحمه الله في تفسيره لقول الله تعالى:
{
ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ }

قوله: { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ }: مبتدأٌ، و " هم " مبتدأ ثانٍ، و " يؤْمِنون " خبرُه. والجملةُ خبرُ الأولِ و " به " متعلِّقٌ بـ " يُؤْمِنون ". وقد يُعَكِّر على الزمخشريِّ وغيرِه مِنْ أهل البيانِ حيث قالوا: التقديمُ يُفيد الاختصاصَ وهنا لا يتأتَّى ذلك، لأنهم لو خَصُّوا إيمانَهم بهذا الكتابِ فقط لَزِمَ كفرُهم بما عَداه، وهو عكسُ المرادِ، وقد أَبْدىٰ أهلُ البيانِ هذا في قوله تعالى:
{ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا }
[الملك: 29] فقالوا: لو قَدَّم " به " لأَوْهَمَ الاختصاصَ بالإِيمان بالله وحدَه دونَ ملائكتِه وكتبِه ورسلِه واليومِ الآخر، وهذا بعينِه جارٍ هنا. والجوابُ: أنَّ الإِيمانَ بغيرهِ معلومٌ فانصَبَّ الغرضُ إلى الإِيمانِ بهذا.
 
ليس كل تقديم يفيد الاختصاص

قال الزمخشري في الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 8) : (( وإذا كان الكلام منصبا إلى غرض من الأغراض جعل سياقه له وتوجهه إليه، كأن ما سواه مرفوض مطرح. )) فإذا فُهِم كلامه هنا عُلم أن السياقات التي قال فيها بإفادة التقديم للاختصاص إنما هي كذلك ، لا أن كل تقديم هو اختصاص .
جاء في عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح (1/ 383) : (( رد الشيخ أبو حيان على مدعى الاختصاص بنحو قوله سبحانه وتعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ (4) وجوابه أنه لما كان من أشرك بالله غيره كأنه لم يعبد الله، كان أمرهم بالشرك كأنه أمر بتخصيص غير الله بالعبادة، ورد صاحب الفلك الدائر الاختصاص بقوله تعالى: كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ (5) وجوابه أنا لا ندعى اللزوم، بل الغلبة)) أي أن البيانيين لا يدعون الاختصاص في كل تقديم ، بل الغلبة ، والله أعلم .
 
جزاك الله خيرا شيخنا
قولكم ( ليس كل تقديم يفيد الإختصاص)
تريد ( ليس كل تقديم يفيد الاختصاص الحصر ) لكن بعض البيانيين يقول إن لم يفد الحصر فيفيد الإهتمام حكما ..
والسمين لا يعترض على هذا في قولهم في تفسير الآية ، إنما يعترض على القول بالحصر - كما أفهم من كلامه رحمه الله- فالتقدبم للإهتمام وقد يضم الحصر إليه كأن يسبقه نفي.
والله أعلم
 
استدراك السمين على ابن عطية رحمهما الله في تفسير قوله تعالى: ( وتثبيتا من أنفسهم ).

{
وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰلَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }


قال رحمه الله:
قوله تعالى: { ٱبْتِغَآءَ } فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ من أجلِه، وشروطُ النصبِ متوفرةٌ. والثاني: أنه حالٌ، و " تثبيتاً " عطفٌ عليه بالاعتبارين: أي لأجلِ الابتغاء والتثبيتِ، أو مبتغين مُثَبِّتِين. ومنع ابنُ عطية أن يكونَ " ابتغاء " مفعولاً من أجلِه، قال: " لأنه عَطَفَ عليه " تثبيتاً " ، وتثبيتاً لا يَصِحَّ أن يكونَ مفعولاً من أجلِه، لأنَّ الإِنفاقَ لا يكونُ لأجلِ التثبيتِ، وحَكَى عن مكي كونه مفعولا من أجلِه، قال: " وهو مردودٌ بما بَيَّنَّاه ".

وهذا الذي رَدَّه لا بُدَّ فيه من تفصيلٍ، وذلك أنَّ قولَه: " وتثبيتاً " إمَّا أنْ يُجْعَلَ مصدراً متعدياً أو قاصراً، فإن كان قاصراً، أو متعدياً وقَدَّرْنا المفعولَ هكذا: " وتثبيتاً من أنفسهم الثوابَ على تلك النفقة " ، فيكونُ تثبيتُ الثواب وتحصيلُه من اللهِ حاملاً لهم على النفقةِ، وحينئذٍ يَصحُّ أَنْ يكونَ " تثبيتاً " مفعولاً من أجلِه، وإنْ قَدَّرْنا المفعولَ غيرَ ذلك، أي: وتثبيتاً من أنفسِهم أعمالَهم بإخلاصِ النية، أو جَعَلْنَا " مِنْ أنفسهم " هو المفعول في المعنى، وأنَّ " مِنْ " بمَعْنَى اللام أي: لأنفسهم، كما تقولُ: " فَعَلْتُه كسراً مِنْ شهوتي " فلا يتضحُ فيه أن يكون مفعولاً من أجلِه.

وأبو البقاء قد قَدَّر المفعولَ المحذوفَ " أعمالَهم بإخلاصِ النيةِ " ، وجَوَّز أيضاً أن يكونَ " مِنْ أنفسهم " مفعولاً، وأن [تكونَ] " مِنْ " بمعنى اللام، وكان قَدَّم أولاً أنه يجوزُ فيهما المفعولُ من أجلِه والحالية، وهو غيرُ واضحٍ كما تقدَّم.

وتلخَّص أنَّ في " من أنفسهم " قولين، أحدُهما: أنه مفعولٌ بالتجوُّز في الحرفِ، والثاني: أنه صفةٌ لـ " تثبيتاً " ، فهو متعلِّقٌ بمحذوفٍ، وتلخَّص أيضاً أن التثبيت يجوزُ أن يكونَ متعدّياً، وكيف يُقَدَّر مفعولُه، وأَن يكونَ قاصراً.

فإن قيل: " تثبيت " مصدرَ ثَبَّت وثَبَّتَ متعدٍ، فكيفَ يكونُ مصدرُه لازماً. فالجوابُ أنَّ التثبيتَ مصدرُ تَثَبَّتَ فهو واقعٌ موقعَ التثبُّتِ، والمصادرُ تنوبُ عن بعضها. قال تعالى:
{ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً }
[المزمل: 8] والأصلُ: " تبتُّلا " ويؤيِّد ذلك قراءةُ مَنْ قرأ: " وَتَثَبُّتاً " ، وإلى هذا نحا أبو البقاء. قال الشيخ: " ورُدَّ هذا القولُ بأنَّ ذلكَ لا يكونُ إلا مع الإِفصاح بالفعلِ المتقدِّم على المصدر، نحوُ الآيةِ، وأمَّا أَنْ يُؤْتى بالمصدرِ من غيرِ نيابةٍ على فعلٍ مذكورٍ فلا يُحْمَل على غيرِ فعلِه الذي هو له في الأصل " ثم قال: " والذي نقول: إنَّ ثَبَتَ - يعني مخففاً - فعلٌ لازمٌ معناه تمكَّن ورَسَخَ، وثَبَّت معدَّى بالتضعيف، ومعناه مَكَّن وحَقَّق.
قال ابن رواحة:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]1067 ـ فَثَبَّتَ اللهُ ما أتاك مِنْ حَسَنٍ[/TD]
[TD] [/TD]
[TD]تثبيتَ عيسى ونصراً كالذي نُصِروا[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
فإذا كان التثبيتُ مُسْنَداً إليهم كانت " مِنْ " في موضِع نصب متعلقةً بنفس المصدرِ، وتكونُ للتبعيضِ، مثلُها في " هَزَّ من عِطْفِهِ " و " حَرَّك مِنْ نشاطِه " وإن كان مسنداً في المعنى إلى أنفسهم كانت " مِنْ " أيضاً في موضعِ نصبٍ صفة لتثبيتاً ".

قال الزمخشري: " فإنْ قلت: فما معنى التبعيضُ؟ قلت: معناه أنَّ مَنْ بَذَلَ مالَه لوجه الله فقد ثَبَّتَ بعضَ نفسه، ومَنْ بَذَلَ روحَه ومالَه معاً فقد ثَبَّت نفسَه كلَّها ". قال الشيخ: " والظاهرُ أنَّ نفسَه هي التي تُثَبِّته وتَحْمِلُه على الإِنفاق في سبيل الله ليس له مُحَرِّكٌ إلا هي، لِما اعتقدَتْه من الإِيمان والثواب " يعني فيترجَّح أنَّ التثبيتَ مسندٌ في المعنى إلى أنفسِهم ".

 
استدراك صاحب الظلال على الشيخ محمد عبده وغيره في تفسيرهم لقوله تعالى: (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ*
تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ).
حيث قال رحمه الله:
ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده , فأرسل عليهم جماعات من الطير تحصبهم بحجارة من طين وحجر , فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة،
كما يحكي عنهم القرآن الكريم .. وأصيب أبرهة في جسده ,وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة , حتى قدموا به صنعاء , فما مات حتى انشق صدره عن قلبه كما تقول الروايات .. وتختلف الروايات هنا في تحديد نوع هذه الجماعات من الطير , وأشكالها , وأحجامها , وأحجام هذه الحجارة ونوعها وكيفية فعلها.
كما أن بعضها يروي أن الجدري والحصبة ظهرا في هذا العام في مكة.
ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات , وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعمل عملها , أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة أقرب وأولى.
وأن الطير قد تكون هي الذباب والبعوض التي تحمل الميكروبات , فالطير هو كل ما يطير.
قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسيره للسورة في جزء عم: "وفي اليوم الثاني فشا في جند الجيش داء الجدري والحصبة .. قال عكرمة: وهو أول جدري ظهر ببلاد العرب.
وقال يعقوب بن عتبة فيما حدث: إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري ببلاد العرب ذلك العام.
وقد فعل الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله.
فكان لحمهم يتناثر ويتساقط فذعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين , وأصيب الجيش , ولم يزل يسقط لحمه قطعة قطعة , وأنملة أنملة حتى انصدع صدره ومات في صنعاء".
"هذا أول ما اتفقت عليه الروايات , ويصح الاعتقاد به.
وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح".
"فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض , وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات , فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه , فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه.
وأن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر , وأن هذا الحيوان الصغير
الذي يسمونه الآن بالمكروب
لا يخرج عنها.
وهو فرق وجماعات لا يحصي عددها إلا بارئها .. ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين , على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال , ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب , ولا على أن يكون له ألوان خاصة به , ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها .. فلله جند من كل شيء ".
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد "وليست في الكون قوة إلا وهي خاضعة لقوته.
فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت , أرسل الله عليه من الطير ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة , فأهلكته وأهلكت قومه , قبل أن يدخل مكة.
وهي نعمة غمر الله بها أهل حرمه
على وثنيتهم
حفظا لبيته , حتى يرسل من يحميه بقوة دينه صلى الله عليه و سلم وإن كانت نعمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت دون جرم اجترمه , ولا ذنب اقترفه".
"هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة.
وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل , إن صحت روايته.
ومما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل
وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسما
ويهلك , بحيوان صغير لا يظهر للنظر , ولا يدرك بالبصر , حيث ساقه القدر.
لا ريب عند العاقل أن هذا أكبر وأعجب وأبهر !! ".
ونحن لا نرى أن هذه الصورة التي افترضها الاستاذ الإمام
صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم
أو تلك التي جاءت بها بعض الروايات من أن الحجارة ذاتها كانت تخرق الرؤوس والأجسام وتنفذ منها وتمزق الأجساد فتدعها كفتات ورق الشجر الجاف وهو ( العصف) .. لا نرى أن هذه الصورة أو تلك أدل على قدرة الله , ولا أولى بتفسير الحادث.
فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع.
ومن حيث الدلالة على قدرة الله وتدبيره , ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس , المعهودة المكشوفة لعلمهم هي التي جرت فأهلكت قوما أراد الله إهلاكهم أو أن تكون سنة الله قد جرت بغير المألوف للبشر , وغير المعهود المكشوف لعلمهم , فحققت قدره ذاك.
إن سنة الله ليست فقط هي ما عهده البشر وما عرفوه.
وما يعرف البشر من سنة الله إلا طرفا يسيرا يكشفه الله لهم بمقدار ما يطيقون , وبمقدار ما يتهيأون له بتجاربهم ومداركهم في الزمن الطويل , فهذه الخوارق
كما يسمونها
هي من سنة الله.
ولكنها خوارق بالقياس إلى ما عهدوه وما عرفوه ! ومن ثم فنحن لا نقف أمام الخارقة مترددين ولا مؤولين لها
متى صحت الرواية
أو كان في النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت خارقة , ولم تجر على مألوف الناس ومعهودهم.
وفي الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على السنة المألوفة أقل وقعا ولا دلالة من جريانه على السنة الخارقة للمألوف.
فالسنة المألوفة هي في حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر .. إن طلوع الشمس وغروبها خارقة
وهي معهودة كل يوم
وإن ولادة كل طفل خارقة
وهي تقع كل لحظة , وإلا فليجرب من شاء أن يجرب !
وإن تسليط طير
كائنا ما كان يحمل حجارة مسحوقة ملوثة بميكروبات الجدري والحصبة وإلقائها في هذه الأرض , في هذا الأوان , وإحداث هذا الوباء في الجيش , في اللحظة التي يهم فيها باقتحام البيت .. إن جريان قدر الله على هذا النحو خارقة بل عدة خوارق كاملة الدلالة على القدرة وعلى التقدير.
وليست بأقل دلالة ولا عظمة من أن يرسل الله طيرا خاصا يحمل حجارة خاصة تفعل بالأجسام فعلا خاصا في اللحظة المقررة .. هذه من تلك .. هذه خارقة وتلك خارقة على السواء .. فأما في هذا الحادث بالذات , فنحن أميل إلى اعتبار أن الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة , وأن الله أرسل طيرا أبابيل غير معهودة
وإن لم تكن هناك حاجة إلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفا مثيرا , نجد له نظائر في مواضع أخرى تشي بأن عنصر المبالغة والتهويل مضاف إليها !
تحمل حجارة غير معهودة , تفعل بالأجسام فعلا غير معهود .. نحن أميل إلى هذا الاعتبار.
لا لأنه أعظم دلالة ولا أكبر حقيقة.
ولكن لأن جو السورة وملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب.
فقد كان الله
سبحانه
يريد بهذا البيت أمرا.
كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمنا ; وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة , في أرض حرة طليقة , لا يهيمن عليها أحد من خارجها , ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها.
ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال , حتى ليمتن بها على قريش بعد البعثة في هذه السورة , ويضربها مثلا لرعاية الله لحرماته وغيرته عليها .. فمما يتناسق مع جو هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود , بكل مقوماته وبكل أجزائه.
ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذ .. وبخاصة أن المألوف في الجدري أو الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده ,فإن الجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضوا عضوا وأنملة أنملة , ولا يشق الصدر عن القلب .. وهذه الصورة هي التي يوحي بها النص القرآني: ( فجعلهم كعصف مأكول) .. إيحاء مباشرا قريبا.
ورواية عكرمة وما حدث به يعقوب بن عتبة ليست نصا في أن الجيش أصيب بالجدري.
فهي لا تزيد على أن تقول: إن الجدري ظهر في الجزيرة في هذا العام لأول مرة.
ولم ترد في أقوالهما أية إشارة لأبرهة وجيشه خاصة بالإصابة بهذا المرض .. ثم إن إصابة الجيش على هذا النحو وعدم إصابة العرب القريبين بمثله في حينه تبدو خارقة إذا كان الطير تقصد الجيش وحده بما تحمل.
وما دامت المسألة خارقة فعلام العناء في حصرها في صورة معينة لمجرد أن هذه الصورة مألوفة لمدارك البشر ! وجريان الأمر على غير المألوف أنسب لجو الحادث كله ! إننا ندرك ونقدر دوافع المدرسة العقلية التي كان الأستاذ الإمام
رحمه الله على رأسها في تلك الحقبة .. ندرك ونقدر دوافعها إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات في تفسير القرآن الكريم وأحداث التاريخ , ومحاولة ردها إلى المألوف المكشوف من السنن الكونية .. فلقد كانت هذه المدرسة تواجه النزعة الخرافية الشائعة التي تسيطر على العقلية العامة في تلك الفترة ; كما تواجه سيل الأساطير والإسرائيليات التي حشيت بها , كتب التفسير والرواية في الوقت الذي وصلت فيه الفتنة بالعلم الحديث إلى ذروتها , وموجة الشك في مقولات الدين إلى قمتها.
فقامت هذه المدرسة تحاول أن ترد إلى الدين اعتباره على أساس أن كل ما جاء به موافق للعقل.
ومن ثم تجتهد في تنقيته من الخرافات والأساطير.
كما تحاول أن تنشئ عقلية دينية تفقه السنن الكونية , وتدرك ثباتها واطرادها , وترد إليها الحركات الإنسانية كما ترد إليها الحركات الكونية في الأجرام والأجسام
وهي في صميمها العقلية القرآنية
فالقرآن يرد الناس إلى سنن الله الكونية باعتبارها القاعدة الثابتة المطردة المنظمة لمفردات الحركات والظواهر المتناثرة.
ولكن مواجهة ضغط الخرافة من جهة وضغط الفتنة بالعلم من جهة أخرى تركت آثارها في تلك المدرسة.
من المبالغة في الاحتياط , والميل إلى جعل مألوف السنن الكونية هو القاعدة الكلية لسنة الله.
فشاع في تفسير الأستاذ الشيخ محمد عبده
كما شاع في تفسير تلميذيه الأستاذ الشيخ رشيد رضا والأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي
رحمهم الله جميعا
شاع في هذا التفسير الرغبة الواضحة في رد الكثير من الخوارق إلى مألوف سنة الله دون الخارق منها , وإلى تأويل بعضها بحيث يلائم ما يسمونه "المعقول" ! وإلى الحذر والاحتراس الشديد في تقبل الغيبيات.
ومع إدراكنا وتقديرنا للعوامل البيئية الدافعة لمثل هذا الاتجاه , فإننا نلاحظ عنصر المبالغة فيه , وإغفال الجانب الآخر للتصور القرآني الكامل.
وهو طلاقة مشيئة الله وقدرته من وراء السنن التي اختارها
سواء المألوف منها للبشر أو غير المألوف
هذه الطلاقة التي لا تجعل العقل البشري هو الحاكم الأخير.
ولا تجعل معقول هذا العقل هو مرد كل أمر بحيث يتحتم تأويل ما لا يوافقه
كما يتكرر هذا القول في تفسير أعلام هذه المدرسة.
هذا إلى جانب أن المألوف من سنة الله ليس هو كل سنة الله.
إنما هو طرف يسير لا يفسر كل ما يقع من هذه السنن في الكون.
وأن هذه كتلك دليل على عظمة القدرة ودقة التقدير .. وكل ذلك مع الاحتياط من الخرافة ونفي الأسطورة في اعتدال كامل , غير متأثر بإيحاء بيئة خاصة , ولا مواجهة عرف تفكيري شائع في عصر من العصور !!! إن هنالك قاعدة مأمونة في مواجهة النصوص القرآنية , لعل هنا مكان تقريرها .. إنه لا يجوز لنا أن نواجه النصوص القرآنية بمقررات عقلية سابقة.
لا مقررات عامة.
, ولا مقررات في الموضوع الذي تعالجه النصوص.
بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص لنتلقى منها مقرراتنا.
فمنها نتلقى مقرراتنا الإيمانية , ومنها نكون قواعد منطقنا وتصوراتنا جميعا ; فإذا قررت لنا أمرا فهو المقرر كما قررته ! ذلك أن ما نسميه "العقل" ونريد أن نحاكم إليه مقررات القرآن عن الأحداث الكونية والتاريخية والإنسانية والغيبية هو إفراز واقعنا البشري المحدود , وتجاربنا البشرية المحدودة.
وهذا العقل وإن يكن في ذاته قوة مطلقة لا تتقيد بمفردات التجارب والوقائع بل تسمو عليها إلى المعنى المجرد وراء ذواتها , إلا أنه في النهاية محدود بحدود وجودنا البشري.
وهذا الوجود لا يمثل المطلق كما هو عند الله.
والقرآن صادر عن هذا المطلق فهو الذي يحكمنا.
ومقرراته هي التي نستقي منها مقرراتنا العقلية ذاتها.
ومن ثم لا يصلح أن يقال: إن مدلول هذا النص يصطدم مع العقل فلا بد من تأويله
كما يرد كثيرا في مقررات أصحاب هذه المدرسة.
وليس معنى هذا هو الإستسلام للخرافة.
ولكن معناه أن العقل ليس هو الحكم في مقررات القرآن.
ومتى كانت المدلولات التعبيرية مستقيمة واضحة فهي التي تقرر كيف تتلقاها عقولنا , ويكف تصوغ منها قواعد تصورها ومنطقها تجاه مدلولاتها , وتجاه الحقائق الكونية الأخرى ونعود من هذا الاستطراد إلى سورة الفيل , وإلى دلالة القصة .. ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) .. وهو سؤال للتعجيب من الحادث , والتنبيه إلى دلالته العظيمة.
فالحادث كان معروفا للعرب ومشهورا عندهم , حتى لقد جعلوه مبدأ تاريخ.
يقولون حدث كذا عام الفيل , وحدث كذا قبل عام الفيل بعامين , وحدث كذا بعد عام الفيل بعشر سنوات .. والمشهور أن مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم كان في عام الفيل ذاته.
ولعل ذلك من بدائع الموافقات الإلهية المقدرة ! وإذن فلم تكن السورة للإخبار بقصة يجهلونها , إنما كانت تذكيرا بأمر يعرفونه , المقصود به ما وراء هذا التذكير ..
 
قال الواحدي رحمه الله:
وقوله تعالى:
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} قال أبو زيد وابن الأعرابي: عشى يعشو عَشْوًا وعُشُوًّا، إذا أتى نارًا للضيافة، وعشا يعشو، إذا ضعف بصره ، ونحو هذا قال الليث، قال: والعاشية كل شيء يعشو بالليل إلى ضوء نار من أصناف الحيوان كالفراش وغيره وأنشدوا:
مَتَى تَأتِه تَعْشُو إلى ضوْءِ نارِهِ...تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَها خَيْرُ مُوقِدِ
وذكر المفسرون وأهل التأويل في هذه الآية قولين:
أحدهما: أن المراد بقوله (يعش): يعم ويضعف بصره.
والآخر: أن المعنى: ومن يعرض عن ذكر الرحمن، والأول قول مقاتل وابن زيد وابن عباس في رواية عطاء وأبي عبيدة وابن قتيبة.
قال مقاتل: يقول: ومن يعم بصره عن ذكر الرحمن، يعني القرآن.
وقال ابن عباس: ومن يعم عن ذكر الله تعالى.
وقال أبو عبيدة: ومن تظلم عينه، واختاره ابن قتيبة .
والقول الثاني: هو قول قتادة، وروي ذلك عن ابن عباس وهو اختيار الفراء وأبي إسحاق .
وشرح الأزهري القولين وبيَّن الأصوب فقال: قال القتيبي معنى قوله: {وَمَنْ يَعْشُ} أي ومن يظلم بصره، قال: وهذا قول أبي عبيدة، ثم ذهب يرد قول الفراء ويقول: لم أر أحدًا يجيز عشوت عن الشيء، أي: تغافلت عنه كأني لم أره وكذلك تعاميت.
قال الأزهري: أغفل القتيبي موضع الصواب، واعترض مع غفلته على الفراء يرد عليه، فذكرت قوله لأبين عواره، فلا يغتر به الناظر في كتابه، العرب تقول: عَشَوت إلى النار أعشو عَشْوًا، أي قصدتها مهتديًا بها، وعشوت عنها، أي: أعرضت فيفرقون بين (إلى) و (عن) موصولين بالفعل.
قال أبو الهيثم: عشا عن كذا يعشو عنه، إذا مضى، وعشا إلى كذا يعشو إليه عَشْوًا وعُشُوًّا، إذا قصد إليه مهتديًا بضوء ناره، وإنما أتى القتيبي في وهمه الخطأ من جهة أنه لم يفرق بين عشا إلى النار، وعشا عنها, ولم يعلم أن كل واحد منهما ضد الآخر في باب الميل إلى الشيء والميل عنه كقولك: عدلت إلى بني فلان، وعدلت عنهم، وكذلك ملت إليهم، وملت عنهم، ومضيت إليهم، ومضيت عنهم.
وهكذا قال أبو إسحاق الزجاج في هذه الآية كما قال الفراء قال: معنى الآية: أن من أعرض عن القرآن وما فيه من الحكمة إلى أباطيل المضلين، يعاقبه بشيطان يقيضه له حتى يضله ويلازمه قرينًا له، فلا يهتدي مجازاة له حين آثر الباطل على الحق البين .
قال الأزهري: وأبو عبيدة صاحب معرفة الغريب، وأيام العرب، وهو بليد النظر في باب النحو ومقاييسه، انتهت الحكاية عن الأزهري ، والقول ما اختاره؛ لأن الإعراض عن القرآن صح يعني من العمى عنه، ولهذا الوجه أدلة من التنزيل كقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124] وقوله: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ} [الجن: 17] والأول ليس ببعيد، ويحمل على أنه يعمى عن الاستدلال بحججه والتأويل في تبيانه، ونظيره من التنزيل قوله: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} [الكهف: 101]
قوله: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} تفسير التقييض قد تقدَّم في سورة السجدة [آية: 25]، قال مقاتل: يعني يضم إليه .
(فهو له) في الدنيا (قرين) يعني صاحبًا يزين له العمى، وقال ابن عباس: فهو له قرين: يريد في الدنيا والآخرة .
قوله: {فَهُوَ} يجوز أن يكون كناية عن الشيطان، ويجوز أن يكون كناية عن المعرض, لأن كل واحد منهما قرين لصاحبه، وفي هذا تكذيب للقدرية لأنه تعالى ذكر أنه يسلط الشيطان على الكافر حتى يضله، ويخيل إليه أنه على الهدى وهو على الضلالة، وذلك قوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} الهدى، وذكر الكناية عن الشيطان وابن آدم بلفظ الجمع في قوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ} لأن قوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} في مذهب جمع وإن كان اللفظ على الواحد.
قاله الفراء .
قوله تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} قال مقاتل: يحسب كفار مكة أنهم على هدى ، وقال أبو إسحاق: الشيطان يصدهم عن السبيل، ويحسب الكفار أنهم مهتدون .
 
وقرأ ابن عباس وعكرمة " ومن يعش " بفتح الشين , ومعناه يعمى ; يقال منه عشي يعشى عشا إذا عمي .
ورجل أعشى وامرأة عشواء إذا كان لا يبصر ; ومنه قول الأعشى : رأت رجلا غائب الوافدي ن مختلف الخلق أعشى ضريرا وقوله : أأن رأت رجلا أعشى أضر به ريب المنون ودهر مفند خبل الباقون بالضم ; من عشا يعشو إذا لحقه ما يلحق الأعشى .
وقال الخليل : العشو هو النظر ببصر ضعيف ; وأنشد : متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد

وقال آخر : لنعم الفتى يعشو إلى ضوء ناره إذا الريح هبت والمكان جديب
الجوهري : والعشا ( مقصور ) مصدر الأعشى وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار .
والمرأة عشواء , وامرأتان عشواوان .
وأعشاه الله فعشي ( بالكسر ) يعشى عشى , وهما يعشيان , ولم يقولوا يعشوان ; لأن الواو لما صارت في الواحد ياء لكسرة ما قبلها تركت في التثنية على حالها .
وتعاشى إذا أرى من نفسه أنه أعشى .
والنسبة إلى أعشى أعشوي .
وإلى العشية عشوى .
والعشواء : الناقة التي لا تبصر أمامها فهي تخبط بيديها كل شيء .
وركب فلان العشواء إذا خبط أمره على غير بصيرة .
وفلان خابط خبط عشواء .

وهذه الآية تتصل بقوله أول السورة : " أفنضرب عنكم الذكر صفحا " [ الزخرف : 5 ] أي نواصل لكم الذكر ; فمن يعش عن ذلك الذكر بالإعراض عنه إلى أقاويل المضلين وأباطيلهم
" نقيض له شيطانا " أي نسبب له شيطانا جزاء له على كفره " فهو له قرين " قيل في الدنيا , يمنعه يمنعه من الحلال , ويبعثه على الحرام , وينهاه عن الطاعة , ويأمره بالمعصية ; وهو معنى قول ابن عباس .
وقيل في الآخرة إذا قام من قبره ; قاله سعيد الجريري .
وفي الخبر : أن الكافر إذا خرج من قبره يشفع بشيطان لا يزال معه حتى يدخلا النار .
وأن المؤمن يشفع بملك حتى يقضي الله بين خلقه ; ذكره المهدوي .

وقال القشيري : و الصحيح فهو له قرين في الدنيا والآخرة .
وقال أبو الهيثم والأزهري : عشوت إلى كذا أي قصدته .
وعشوت عن كذا أي أعرضت عنه , فتفرق بين " إلى " و " عن " ; مثل : ملت إليه وملت عنه .
وكذا قال قتادة : يعش , يعرض ; وهو قول الفراء .
النحاس : وهو غير معروف في اللغة .
وقال القرظي : يولي ظهره ; والمعنى واحد .
وقال أبو عبيدة والأخفش : تظلم عينه .
وأنكر العتبي عشوت بمعنى أعرضت ; قال : وإنما الصواب تعاشيت .
والقول قول أبي الهيثم والأزهري .
وكذلك قال جميع أهل المعرفة .
 
عودة
أعلى