منهج أهل السنة في التفسير :

إنضم
31/07/2006
المشاركات
896
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
المغرب - الجديدة
إن مشروعية التساؤل عن مدى حاجتنا للتفسير تنطلق من كوننا نجد بعض الآيات القرآنية تشير إشارة واضحة إلى أن القرآن الكريم واضح الأهداف ، بين الغايات، لا من قبيل الطلاسم والمعميات ، فهو الوضوح، والنور والهدى . ولكننا عندما نلقي نظرة عما خلفه لنا الرهط المؤمن من علماء الأمة في مجال التفسير نذهل لعظمة هذا التراث. فما السر إذن في تعاطي المسلمين لهذا العلم الشريف رغم أن القرآن يصرح بأنه واضح ليس بعده بيان، وميسر ليس بعده يسر، يقول تعالى : {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} سورة القمر ، الآية 17.

ويمكننا أن نحدد الأسباب التي جعلت من التفسير ضرورة ملحة لفهم القرآن الكريم الذي هو مناط العلوم الشرعية في أربع نقط أساسية :

1- تدبر القرآن وفهمه واجب شرعي على كل مسلم ومسلمة، ونتبين ذلك من قوله تعالى : {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ، وليتذكر أولو الألباب}.
وقوله تعالى : {أفـلا يتدبــرون القــرآن أم علــى قـلوب أقفالها} .
وقوله عز وجل : {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر}.

2- كان الدين واضحا في ذهن المسلمين ، وبسبب عوامل سياسية معروفة لدينا نشأت فرق مبتدعة من شيعة وخوارج ومرجئة وقدرية وجبرية وغيرها مما جعلها تتجرأ على القرآن وتستمد منه شرعيتها . كما أن الدخلاء على الإسلام من أصحاب الثقافات المشرقية أو اليونانية كانوا وراء التفسير المغرض والتأويل الفاسد لآي الذكر الحكيم . وفي ذلك يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : " إن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان، فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف صار أهل التفرق، والإختلاف شيعا، صار هؤلاء عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم، عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر، والإيمان بالرسول وغير ذلك، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفها تأولوه. فلهذا نجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى، إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر على ذلك، والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها بشروع من قصد ردها كيف أمكن، ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول ، بل أن يدفع منازعه عن الإحتجاج بها".
كل ذلك جعل علماء الأمة الغيورين يتصدون لهذه التيارات المناوئة وذلك بتفسيرهم للقرآن الكريم تفسيرا يكشف في وضوح كليات العقيدة الإسلامية ويبين للناس طريق الهدى وسبل الرشاد.

3- إن الحياة دائمة التطور في كافة المجالات، علميا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، مما يحتم علينا الرجوع إلى القرآن الكريم نتلمس فيه القول الفصل في هذه الأمور التي استجدت .
وفضلا عن ذلك فإن القرآن الكريم قد ضمنه الله سبحانه وتعالى علوم الدين والدنيا "وما يتصل بهما من المعارف ما تتفاوت في إدراكه عقول الناس وما لا يزال الزمن والبحث يكشف عن درره وجواهره، ويبين غرائبه وعجائبه {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} سورة فصلت : الآية 53..

4- تفشي اللحن وانتشار العامية بالبعد عن الفصحى، جعل من التفسير ضرورة ملحة لفهم القرآن الكريم الذي هو منهاج المسلم في حياته . فلا يمكن أن يتبعه ويحكمه في حياته مالم يتفهمه وما لم يتضح في ذهنه. وبعد ذلك تأتي عملية التدبر المفضية إلى العمل والإتباع .

وللإمام السيوطي قول في هذا المعنى يبين فيه أسباب احتياج المسلمين إلى التفسير ، يقول رحمه الله :"وأما وجه الحاجة إليه فقال بعضهم : أعلم أن من المعلوم أن الله إنما خاطب خلقه بما يفهمونه . ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه. أنزل كتابه على لغتهم، وإنما احتيج إلى التفسير لما سيذكر بعد تقرير قاعدة وهي أن كل من وضع من البشر كتابا فإنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح، وإنما احتيج إلى الشروح لأمور ثلاثة :
أ- كمال فضيلة المصنف . فإنه لقوته العلمية يجمع المعاني الدقيقة في اللفظ الوجيز ، فربما عسر فهم مراده فقصد بالشرح ظهور تلك المعاني الخفية ، ومنهنا كان شرح بعض الأئمة تصنيفه أدل على المراد من شرح غيره له .
ب- إغفاله بعض تتمات المسألة أو شروط لها اعتمادا على وضوحها أو لأنها من علم آخر فيحتاج لبيان المحذوف ومراتبه .
ح- احتمال اللفظ لمعان كما في المجاز والاشتراك ودلالة الالتزام. فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه، وقد يقع في التصانيف ما لا يخلو عنه بشر من السهو والغلط أو تكرار الشيء أوحذف المبهم وغير ذلك، فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك .

إذا تقرر هذا نقول : إن القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمن أفصح العرب وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه، أما دقائق باطنه فإنما كان يظهر لهم بعد البحث والنظر مع سؤالهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأكثر كسؤالهم لما نزل قوله تعالى :{ولم يلبسوا إيمانهم بظلم}. قالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟ ففسره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالشرك، واستدل عليه بقوله تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم }... وغير ذلك مما سألوا عن آحاد منه. ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه وزيادة على ذلك مما لم يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم فنحن أشد الناس احتياجا إلى التفسير".

من كل ما سبق يتبين لنا أن تفسير القرآن الكريم ضرورة يفرضها الأمر بالتدبر والتذكر والإعتبار ومعرفة شرع الله كمنطلق أساسي لتحكيمه في واقعنا كما يفرضه جهلنا بعلوم اللغة وعلوم القرآن، وأخيرا تفرضه ظروف المواجهة والتحدي .
 
شروط المفسر

شروط المفسر

إن كثيرا من الدارسين المحدثين قد أقحموا في دراساتهم كتبا، هي أبعد ما تكون عن التفاسير، وقاموا بدراسة مباحث رجال هم أبعد ما يكونون عن المفسرين، فارتأيت أن أقوم بدارسة شروط وآداب المفسر حتى تكون نبراسا في اختيار التفاسير التي يعول عليه الإنسان في استنباط مراد الله تعالى من القرآن الكريم.
لقيام أي بحث علمي لابد من توفر شروط نظرية نتطلبها في الباحث الذي يريد خوض غمار الكشف عن الحقيقة وتجليتها. وهذه الشروط التي نشترطها فيه هي ذات بعدين :
البعد الذاتي :
ونعني به الأخلاق والقيم الروحية التي ينبغي أن تتوفر في الباحث، لتؤهله لتحمل أمانة الكشف عن الحقيقة وتجليتها لمن يجهلها من البشر. وقد عبر سلفنا الصالح عما ذهبنا إليه بآداب العالم أو سمت العلماء .
البعد المعرفي :
وهو يتمثل في جملة العلوم المساعدة والضرورية للكشف عن الحقيقة، والتي بدونها تذهب الجهود هدرا ودون جدوى، لأنها لم تتهيأ لها الأسباب الكفيلة بإيصالنا إلى الكشف الحقيقة التي نطمح إلى تجليتها وبيانها. وقد اصطلح العلماء على تسمية هذا البعد المعرفي بشروط العالم. وبالنسبة لمبحث تفسير القرآن الكريم فإن علماء الأمة قد وضعوا أيدينا على جملة آداب وشروط ينبغي توافرها في المفسر حتى يوفر لنفسه الأسباب الموصلة إلى الحقيقة .


شــــــروط المـــفــســر :

إذا تتبعنا الشروط التي اشترط العلماء توفرها في المفسر- والتي اجتهد الإمام السيوطي-رحمه الله- وصاحب كتاب "المباني" في جمعها لنا- لا نجدها تخرج عن هذه الشروط :
1- اللغة : لأن بها يعرف شرح المفردات ومدلولاتها بحسب السياق.
2- النحو : لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب . فلا بد من اعتباره.
3- التصريف : فيه تعرف الأبنية والصيغ .
4- الإشتقاق : لأن الإسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف باختلافهما .
5- علوم البلاغة : وهي علوم المعاني والبيان والبديع، لأن المفسر يعرف بالأول خواص تركيب الكلام من جهة إفادتها المعنى، وبالثاني خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، وبالثالث وجوه تحسين الكلام. وهذه العلوم هي أعظم الشروط التي ينبغي توفرها في المفسر، ذلك أنه مطالب بمراعاة ما يقتضيه الإعجاز ، وإنما يدرك بهذه العلوم .
والملاحظ أن النصوص الأدبية الرفيعة لا تدرك إلا بالذوق وليس كل من اشتغل بالنحو واللغة وغيرهما يكون من أهل الذوق، وممن يصلح لانتقاد تلكم النصوص. وإنما أهل الذوق هم الذين يشتغلون بعلم البيان وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر، وصارت لهم بذلك دراية وملكة تامة فهؤلاء يمكن الاعتماد عليهم في انتقاد النصوص وتمييزها .
6 علم القراءات وبه نعرف كيفية النطق بالقرآن، وبالقراءات يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض .
7- أصول الدين : بما في القرآن الكريم من الآيات الدالة بظاهرها على ما يجوز على الله تعالى، فالأصولي يؤول ذلك، ويستدل على ما يستحيل، وما يجب وما يجوز.
8- أصول الفقه : فيه يعرف وجه الإستدلال على الأحكام والإستنباط .
9- أسباب النزول والقصص : فبسبب النزول يمكننا معرفة الظروف والملابسات التي واكبت نزول الآية . وبالقصص يمكننا الوقوف على بعض أبعاد ما أجمل في القصص القرآني.
10- الناسخ والمنسوخ : ليعلم محكم آي الذكر الحكيم من غيره .
11- الفقه : حتى تفسر آيات الأحكام تفسيرا صحيحا لا يحيد بها عن جادة الحق والصواب.
12- الإلمام بالأحاديث النبوية الشريفة المبينة والمفسرة لما أجمل وأبهم من آي الذكر الحكيم .
13- علم الموهبة : وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم . وإليه يشير الحديث النبوي ( من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ).
أما بالنسبة للمفسر المعاصر فيتعين إضافة ثلاثة شروط أخرى، وهي :
1- الإلمام التام بعلوم العصر وذلك حتى يمكن أن يعطي للقرآن بعده الحضاري الصحيح فيتحقق مفهوم شمولية وعالمية الدين الإسلامي.
2- المعرفة بالفكر الفلسفي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، السائد والمهيمن على الساحة، وذلك حتى يستطيع دحض كل الشبهات المحاكة حول الدين الإسلامي، وإبراز حقيقة القرآن الكريم وموقفه من كل قضايا العصر، وذلك مساهمة منه في نشر الوعي بحقيقة الإسلام وريادته الفكرية والحضارية.
3- الوعي بمشكلات العصر وأزماته. والمعرفة بها ضرورية لإبراز موقف الإسلام منها وسبل تفاديها وكيفية معالجتها، ولصاحب " كتاب المباني " إشارة لطيفة لهذه النقطة، حيث يقول: " والثالثة أن يكون عالما بأبواب السر من الإخلاص والتوكل والتفويض والأذكار الباطنة التي افترضها الله تعالى، وبالإلهام والوسوسة وما يصلح الأعمال وما يفسدها، وبآفات الدنيا ومعايب النفس، وسبل التوقي من فسادهما ليتأتى له تفسير الآيات المنتظمة لهذه المعاني ".
والمتتبع للشروط المعرفية التي اشترطها علماؤنا ـ من أهل السنة ـ يتضح له أن هذه الشروط وإن كانت كلها معرفية فإنها تنقسم إلى قسمين :
1- شروط معرفية بحتة .
2- شروط منهجية .
وهذه الأخيرة اشترطوا فيها :
أ- تفسير القرآن بالقرآن .
ب- تفسير القرآن بالسنة .
ح - الأخذ بقول الصحابي .
د- الأخذ بأقوال كبار التابعين كمجاهد وابن جبر وسعيد ابن جبير، وعكرمة وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري ومسروق بن الأجدع وسعيد بن المسيب، وغيرهم ممن تلقى جميع التفسير عن الصحابة رضوان الله عليهم.
 
آداب المفسر

آداب المفسر

وهي ما سميناه بالبعد الذاتي، وللسيوطي قول جامع فيه : " اعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي، ولا يظهر له أسراره وفي قلبه بدعة أو كبر أو هوى أو حب الدنيا أو هو على ذنب أو غير متحقق بالإيمان أو ضعيف التحقيق أو يعتمد على قول مفسر ليس عنده علم أو راجع إلى معقوله، وهذه كلها حجب وموانع بعضها آكد من بعض. قلت : وفي هذا المعنى قوله تعالى : { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } .
قال سفيان بن عيينة " يقول أنزع عنهم فهم القرآن" أخرجه ابن أبي حاتم ".
من هذا القول الجامع للإمام السيوطي ـ رحمه الله ـ نستخلص جملة آداب يتعين على المفسر التحلي بها وهي :
1- صحة الاعتقاد .
2- التجرد عن الهوى.
3- حسن النية .
4- حسن الخلق .
5- التواضع ولين الجانب .
6- الزهد في متاع الدنيا، حتى يكون عمله خالصا لله تعالى .
7- إعلان التوبة والامتثال لأمور الشرع، والانتهاء عن نواهيه .
8- عدم الاعتماد في التفسير على أهل البدع والضلالة.
9- يتعين عليه أن لا يستكين إلى معقوله، وأن يجعل من كتاب الله أميرا يقتدى به .
وفي هذا يقول الشهيد حسن البنا ـ رحمه الله ـ "ومع هذا التعظيم لقدر التفسير والمفسرين الذين يعلمون فيما أنزلت الآيات وما أريد بها، فإن السلف رضوان الله عليهم، كانوا يتحرون دائما في التفسير ألا تتحكم فيما يفهمونه من الآيات أغراض خاصة، أو أهواء شخصية، أو ظروف طارئة، ولكنهم كانوا يجردوه من كل ذلك حتى يكون القرآن أميرا على تصرفاتهم، ويكون هواهم تبعا لما جاء به رسولهم . وهو صريح الإيمان . ومن هنا كان الكثير منهم يتحرج من التفسير ويخاف أن يقول في القرآن برأيه".
 
التفسير والتأويل لغة :

التفسير والتأويل لغة :

للغويين في معنى التفسير أقوال طريفة ومتعددة، وكلها تلتقي في معنى الإيضاح والبيان والكشف، فقد "ذكر الليث عن الخليل بن أحمد أنه قال : مأخذ التفسير من الفسر وهو البيان، قال والتفسرة اسم البول الذي تنظر فيه الأطباء وتستدل به على مرض البدن، وكل شيء يعرف به تفسير الشيء فهو تفسرته ".
وقد وردت لفظة (التفسير) في القرآن الكريم في موضع واحد وهو قوله تعالى: { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا }.
وقال ابن عباس في معنى الآية : أي تفصيلا .
ومن معاجم اللغة يتبين لنا أن التفسير يستعمل لغة في الكشف الحسي ـ ولعل قول الخليل السالف الذكر يقوم دليلا على ذلك ـ وقلما يستعمل في المعاني المعقولة.
وأما التأويل في اللغة فهو من آل يؤول إلى كذا أي يرجع إليه، ويقول الرازي في مختار الصــحاح : " التأويل تفسير ما يؤول إليه الشيء، وقد أوله تأويلا وتأوله بمعنى ،وآل الرجل أتباعه وعياله ، وآله أيضا أتباعه " .
وقد وردت كلمة "التأويل" في سبعة عشر موضعا من القرآن الكريم، وكلها تحوم حول هذه المعاني :
1- تأويل الأحاديث : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث } .
2- تأويل الأحـلام : { وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين }.
3- تأويل الأعلام وبيان ما يقصد منها : { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } .
4- ما يتعلق بالمتشابه الذي لا يعلمه إلى الله :{ وما يعلم تأويله إلى الله }.
والسياق الذي وردت فيه كلمة "التأويل" في القرآن الكريم يبين أن استعمالها يكون أكثر في الكشف عن المعاني المعنوية العقلية .
ويرى جلة من العلماء أن التأويل مرادف للتفسير في أشهر معانيهما اللغوية ، ومما يؤكد ذلك ما ذهب إليه الدكتور الجليند من أن التأويل بمعنى " نقل ظاهر اللفظ إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل، أي صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر يحتمله اللفظ " لم يرد في المعاجم التي ألفت قبل القرن الرابع الهجري. ويخلص من ذلك إلى القول إن " كلمة التأويل كانت تستعمل على ألسنة اللغويين من رواة ومحدثين حتى بداية القرن الخامس الهجري في معنى: المرجع والمصير والعود. حيث لم يرد إلينا في المعاجم التي وضعت في هذه الفترة. وهي المصدر الوحيد لكل المعاجم التي وضعت بعد ذلك ما يخالف ذلك .
وليس معنى هذا أن التفسير هو عين التأويل لغة، فقد أثبتت الدراسات اللغوية أن الترادف لا يعني التماثل والتوافق التام في المعنى، بل هناك تشابه في المعنى العام، مع وجود فروق دقيقة لابد من التنبيه إليها. ومن ثم يمكن القول إن التفسير يرتبط بتفسير الأمور الحسية في الغالب. أما التأويل فيستعمل ـ غالبا ـ في الأمور التي تحتاج إلى إعمال الفكر والنظر.
وقد نبه الراغب الأصفهاني (ت502هـ) إلى ذلك حيث قال : " والتفسير أعم من التأويل، وأكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ، والتأويل في المعاني، كتأويل الرؤيا والتأويل يستعمل أكثره في الكتب الإلهية والتفسير يستعمل فيها وفي غيرها، والتفسير أكثره يستعمل في مفردات الألفاظ، والتأويل أكثره يستعمل في الجمل".
 
التفسـيــر والتــأويــل اصطـــلاحا :

التفسـيــر والتــأويــل اصطـــلاحا :

بسط العلماء القول في تعريف التفسير اصطلاحا، ولعل أجمع أقوالهم ما أثبته الزرقاني في كتابه "مناهل العرفان في علوم القرآن " حيث قال : " والتفسير في الاصطلاح : علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية ".
ويستعان في التفسير ببعض العلوم المساعدة كعلم اللغة والقراءات، والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، والفقه وأصول الفقه، مع الإلمام بأصول الدين وقواعده. ويؤكد هذا المعنى قول الزركشي عند تعريفه لمصطلح التفسير فهو " علم نزول الآية وسورتها وأقاصيصها والإشارات النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومحكمها ومفسرها.
وزاد فيها قوم فقالوا : علم حلالها وحرامها . ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها ".
وأما مصطلح التأويل فمصطلح مشكل، ذلك أن استعمالاته تختلف من قرن لآخر، ومن قوم إلى آخرين، ومن بيئة ثقافية إلى أخرى، ومن ثم تعددت وتنوعت تعريفاته. فمنها ما يفتقر إلى الدقة العلمية، ومنها ما يتسم بالتدقيق والتحديد التام الذي يصبح معه دلالة المصطلح واضحة جلية .
والتأويل كما يوضح ابن تيمية ينبغي في تحديد دلالته الإصطلاحية بالتفريق بين جيلين :
1- السلف الصالح .
2- متأخري المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم .
فعند الأوائل نجد له معنيين :
1- تفسير الكلام وبيان معناه، سواء أكان موافقا لظاهره أم مخالفا له، ومن ثم يكون التأويل والتفسير شيئا واحدا، أي مترادفين .
وهذا هو المعنى نفسه الذي استعمله محمد بن جرير الطبري (ت310هـ) حيث يقول عند تفسيره لآي الذكر الحكيم : القول في تأويل قوله كذا وكذا . واختلف أهل التأويل في هذه الآية ونحو ذلك . وكله محمول -كما أسلفنا - على التفسير والبيان .
2- هو نفس المراد بالكلام، فإذا كان الكلام عن طلوع الشمس فالتاويل هو نفس طلوعها، أي هو نفس الحقيقة الموجودة في الواقع الخارجي، وهذا في نظر ابن تيمية -رحمه الله- هو لغة القرآن التي نزل بها.
أما عند متأخري المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة : فالتأويل هو صرف اللغظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به. وهذا التأويل هو الذي نجد المتكلمين قد استعملوه في معظم كتبهم، ويتجلى ذلك في موقفهم من آيات الصفات. ومن ثم يتضح لنا أن القول بالباطن هو الأساس الذي جعلهم يقصرون دلالة التأويل على هذا المعنى.
واستغلت الباطنية المعنى الأخير للتأويل ـ بعد أن استندوا على حديث ينسب إلى الرسول  " للقرآن ظهر وبطن " أو " للقرآن باطن " ـ فراحوا يفسرون القرآن الكريم وفق هواهم، وتبعا لأذواقهم ومواجيدهم الباطلة شرعا، وقد رد ابن تيمية ـ رحمه لله ـ هذا الحديث فقال : " أما الحديث المذكور فمن الأحاديث المختلفة التي لم يروها أحد من أهل العلم، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث " .
والتأويل بهذا المعنى ينقسم إلى قسمين: أحدهما يوافق العلم الظاهر، وهو إما صحيح مقبول أو باطل مردود أو ملتبس فيتوقف عنه.
أما إذا كان التأويل مخالفا للعلم الظاهر فهو باطل شرعا، والقائل به إما ملحد زنديق أو جاهل ضال.
والمتأول بالمعنى الأخير مطالب بأمرين :
1- أن يبين احتمال اللفظ للمعنى الذي حمله عليه وادعى أنه المراد منه.
2- أن يبين الدليل الذي أوجب صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح.
وبدون ذكر ذلك يكون التأويل فاسدا وضربا من التلاعب بالنصوص، وحملها على الهوى وصرفها عن معناها الحقيقي المستفاذ من ظاهرها، وتعطيل لشرائع الله. وكل ذلك ملاحظ في تفاسير الفرق الضالة .
وقد دأب العلماء على التفريق بين التفسير والتأويل، ولهم في ذلك أقوال متعددة، فمنهم مـن قال: " التفسير هو تحقيق المعنى وذلك لا يكون إلا من قبل الله تعالى، والتأويل هو على احتمال اللغات، فلكل واحد من أهل اللغة أن يتأول بلغته.
" ومنهم من قال التفسير هو ذكر القصص وما أنزل فيه، والتأويل هو ما يحتمله معنى الكلام ".
ويشير الزركشي إلى السبب العلمي والمنهجي في التفريق بين التفسير والتأويل وجعل كل منهما ذا دلالة محددة وواضحة، ومتميزة ومخالفة لدلالة الآخر، وذلك حيث يقول : " والحق أن علم التفسير منه ما يتوقف على النقل كسبب النزول والنسخ وتعيين المبهم، وتبيين المجمل، ومنه ما لا يتوقف ويكفي في تحصيله التفقه على الوجه المعتبر، وكأن السبب في اصطلاح بعضهم على التفرقة بين التفسير والتأويل، التمييز بين المنقول والمستنبط، ليحمل على الإعتماد في المنقول، وعلى النظر في المستنبط، تجويزا له وازديادا، وهذا من الفروع في الدين.
ويفهم من هذا الكلام ومن الذي قبله أن التفسير يتعلق بالرواية، وأما التأويل فمرتبط بالدراية وإعمال النظر، ولكل منهما شروط صحة وقبول.
وخلاصة القول أنه يتعين علينا التفريق بين جيلين من المفسرين، فالاول منهما كان يستعمل اللفظين بمعنى واحد، وعلى أساس أنهما مترادفان، أما الجيل الثاني منهما فقد فرق بينهما، فعين التفسير للمنقول، والتأويل للمعقول ولهذا دلالة واضحة على طبيعة التفسير ذاته. ذلك أن السلف الصالح كانوا يعتمدون في تفسيرهم النقل والعقل معا دون التفريق بينهما، وكان شعارهم في ذلك أن صريح المعقول يوافق صحيح المنقول، وهذا الاتجاه واضح في تفسير الإمام الطبري، والإمام ابن تيمية وابن كثير وغيرهم من مفسري أهل السنة .
أما الخلف فقد أصبحت تفاسيرهم للذكر الحـكيم ـ في الأعم والأغلب ـ تشكل ثنائية ضدية حادة. فهناك تفاسير بنيتها الأساسية النقل، وأخرى تعتمد أساسا العقل، فكان تفريقهم بين اصطلاحي التفسير والتأويل تقريرا لواقع التفسير وطبيعته في عصرهم .
وعلماء التفسير غالبا يقسمونه إلى منهجين أساسين هما:
1- التفسير بالمأثور .
2- التفسير بالمعقول أو الرأي .
ويرجعون إليهما كل ضروب وأنواع التفاسير التي ألفها العلماء، إلا أن هذا التقسيم يتسم بالخطورة والخلط. فخطورته تتجلى في مساهمته في إحداث انشطار شخصية وعقلية الإنسان المسلم إلى ثنائية ضدية حادة وصارمة: العقل والنقل. وكأن الأمرين لا يمكن الجمع بينهما، في حين يثبت واقع ديننا الإسلامي الحنيف أن النقل الصحيح لا يتعارض مع العقل الصريح، وهذا المبدأ المنهجي العظيم يخلصنا من الوقوع في مطب الإنشطار الذي جنى على أمتنا ولا زال. ويمكننا من تجاوز ثنائية العقل والنقل إلى حلول وإمكانات أخرى متاحة.

أما الخلط فيتبين لنا في تجاهل أنواع التفسير الأخرى والتي لها مميزاتها وصفاتها التي تجعلها متميزة عن التفسير المأثور أو المعقول، كالتفسير الإشاري أو الصوفي، والتفسير الموضوعي، والتفسير الأدبي/الإجتماعي، والتفسير العلمي وغيرها من أنواع التفسير الكثيرة التي يعبر تجاهلها عن خلط في تصور طبيعة المناهج التفسيرية .
ونشير هنا إلى أن الغالبية العظمى من تفاسير القرآن الكريم لا يمكن تصنيفها ضمن اتجاه أو منهج معين إلا بالتغليب والترجيح، وذلك أننا نجدها تستفيد من كل المناهج والمعارف والعلوم المتاحة، مما يجعلها تسمو وترتفع فوق التصنيف المقرر لتعبر عن شمولية الدين الإسلامي الحنيف، ولتبرهن عن تآزر النقل والعقل من أجل إبراز الحقيقة وتجليتها.
وقد تنبه أهل السنة عند كتابتهم عن مناهج واتجاهات التفسير إلى أن اتجاهات التفسير ثلاث وهي :
1- التفسير النقلي .
2- التفسير العقلي .
3- التفسير الصوفي .
وهذا يتمشى وينطبق مع مبدئهم الأساسي، ألا وهو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، فتجاوزوا بذلك الوقوع في مطلب ثنائية الرواية والدراية، أو العقل والنقل .
والمناهج التفسيرية ـ حسب ما يتضح لنا من استعراض المراحل التاريخية للتفسير ـ تختلف باختلاف ما يستعين به المفسر من أدوات علمية مساعدة، وهي التي يسميها العلماء بعلوم الآلة. كما أنها تختلف باختلاف مصادر التفسير، وباختلاف الاتجاه الفكري والسياسي، واختلاف الواقع المعيشي لمفسر الذكر الحكيم، وهذا هو ما سنحاول الكشف عنه عند تحليلنا لأهم تفاسير الذكر الحكيم الحديثة .
 
منهج أهل السنة في التفسير :

وضع ابن تيمية -رحمه الله- في رسالته "مقدمة في أصول التفسير" أصلا هاما يعتمد عليه في نقد تفاسير القرآن الكريم في كل زمان ومكان. وذلك أن هذا الأصل يعتبر من الثوابت التي لا تتغير والتي تعتبر معلما من معالم المنهج السني، سواء أكان الأمر يتعلق بعلم التوحيد أم بالتفسير أم بالفقه، وقد سطره ابن تيمية في مقدمة رسالته حتى يكون المقياس الذي يميز به الغث من السمين، ويفرق به بين الحق والباطل.
وهذا الأصل ينص على أن نقد النصوص يتوقف على أمرين لا ثالث لهما. فالعلم إما أن يؤخذ من مشكاة النبوة وهو الحق الأبلج والحجة البالغة، وإما رأي واجتهاد يقوم عليه دليل من العقل أو النقل. وقد نص ابن تيمية على هذا الأصل الهام باختصار شديد حيث قال: " والعلم إما نقل مصدق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم . وما سوى هذا فإما زيف مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود".
وبناء على هذا الأصل يبين ابن تيمية أن الاختلاف في التفسير على نوعين، ذلك حسب الأصول التي يستند إليها المفسرون وهي إما نقلية أو عقلية :
النـقـــــــل :
وهو إما أن يكون عن معصوم أو عن غير معصوم، وهذا بذاته يفرعه ابن تيمية إلى قسمين :
1- ما يتوصل إلى معرفة صحته فيؤخذ به مطلقا ولا يجوز تجاوزه إلى غيره.
2- ما لا يتوصل إلى معرفة صحته من ضعيفه وهذا يتوقف عنده ولا يجزم فيه برأي، ومن ذلك ما ينقل عن كعب ووهب ومحمد بن إسحاق، وغيرهم ممن يأخذون عن أهل الكتاب، وهذا القسم الثاني من النقل هو مما لا فائدة فيه، ومثاله الاختلاف الحاصل في أحوال أهل الكهف، وفي البعض الذي ضرب به قتيل بني إسرائيل من البقرة، وغير ذلك مما يختلف فيه المقرون اختلافا كبيرا، وهو مما لا فائدة فيه على الإطلاق، فالحق سبحانه ما ترك من أمر يفيد الناس في دينهم أو دنياهم إلا أقام عليه الدليل نقلا أو عقلا.
العقل أو الإستدلال :
وأما ما كان مصدره العقل أو الرأي أو ما يسميه ابن تيمية بالإستدلال، فإن الخطأ فيه يكون من ناحيتين :
الأولى :
أن يأتي المفسر إلى القرآن طالبا دليلا ينتصر به لرأيه أو مذهبه بحيث يجعل القرآن تابعا ولا متبوعا، ومأمورا لا أميرا، وهؤلاء قد ركزوا على المعنى الذي ذهبوا إليه دون النظر إلى دلالة وبيان ألفاظ القرآن مما يجعلهم يحملون اللفظ القرآني على غير محمله.

والمتتبع لتفسيرات هؤلاء المفسرين يجدهم يتعاملون مع النص القرآني بمنهجين متباينين، ولكنهما متكاملان من حيث الغاية والهدف، ذلك أنهم يحاولون أن يستدلوا على صحة مذهبهم وينتصروا له بآيات ليست دالة على ما ذهبوا إليه، وهم يحملونها على ظاهرها دون مراعاة للسياق الذي وردت فيه.
وأما إذا وجدوا في القرآن ما يعارض مذهبهم فإنهم يسارعون إلى تأويله بتأويلات منحرفة وضالة وبعيدة عما دلت عليه في سياقها، مدعين أن ذلك من المتشابه، وممن سلك هذا المسلك - في نظر ابن تيمية - الفرق الضالة التي اعتقدت مذهبا يخالف الحق الذي عليه سلف الأمة وأئمتها، ومنهم الخوارج والروافض والجهمية والقدرية والمرجئة والمعتزلة وغيرهم.
وهؤلاء قد يخطئون مرة في الدليل وحده، وقد يخطئون في الدليل والمدلول وذلك حسب المنهج الذي اتبعوه في تأويلهم لآي الذكر الحكيم .
الثــانـية :
أن يعمل المفسرون على تفسير القرآن بمجرد ما يدل عليه اللفظ العربي، وما يريد به الناطق بالعربية دون مراعاة خصوصية القرآن الكريم .
وهؤلاء يركزون أكثر ما يركزون على اللفظ وحده دون اعتبار للسياق القرآني، فيكون غلطهم في المعنى -الذي حملوا عليه آي الذكر الحكيم – فاحـــشا .
 
حقيقة اختلاف السلف في تفسير القرآن الكريم :

حقيقة اختلاف السلف في تفسير القرآن الكريم :

بين أهل السنة ـ خاصة منهم ابن تيمية في رسالته " مقدمة في أصول التفسير " والزركشي في كتابه " البرهان في علوم القرآن " والسيوطي في كتـابه " الإتقان في علوم القرآن " ـ أن السلف لم يختلفوا في تفسير القرآن الكريم، بل قد يكون ذلك ممتنعا في حقهم لأنهم كانوا معتصمين بالكتاب والسنة. ولما قرروا هذا الأصل راحوا يوضحون أن اختلافهم في تفسير آية من آيات الذكر الحكيم ليس اختلافا تضاد بل هو اختلاف تنوع، وفي ذلك يقول الزركشي : " يكثر في معنى الآية أقوالهم واختلافهم، ويحكيه المصنفون للتفسير بعبارات متبانية الألفاظ، ويظن من لا فهم عنده أن في ذلك اختلافا فيحكيه أقوالا وليس كذلك، بل يكون كل واحد منهم ذكر معنى ظهر من الآية، وإنما اقتصر عليه لأنه أظهر عند ذلك القائل، أو لكونه أليق بحال السائل، وقد يكون أحدهم يخبر عن الشيء بلازمه ونظيره، والآخر بمقصوده وثمرته، والكل يؤول إلى معنى واحد غالبا، والمراد الجميع فليتفطن لذلك، ولا يفهم نم اختلاف العبارات اختلاف المرادات ".
إلا أن ابن تيمية في رسالته يعترف أن هناك اختلافا محققا بين السلف في التفسير خاصة فيما يتعلق بالأحكام . ولكنه يرى أن اختلافهم قليل جدا وهذا يعود ـ في نظره ـ إلى شرف عصرهم . وهو في ذلك يتأول حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير أمتي القرن الذين بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " . وهو يقول في ذلك : " كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلا جدا، وهو إن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة فهو قليل إلى من بعدهم، وكلما كان العصر أشرف كان الإجتماع والإئتلاف والعلم والبيان فيه أكثر" .
وبعد أن بين ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أن اختلاف السلف في التفسير قليل وغلطهم يسير بالمقارنة مع اختلاف وغلط من جاء بعدهم، وأرجع ذلك إلى عتصامهم بالكتاب والسنة، ونقاء سريرتهم، وصلاحهم وتقواهم، مما عبر عنه بصلاح عصرهم، انتقـل إلى بيـان أن اختـلافهــم
في التفسير هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وأرجع ذلك لأمور نجملها فيما يلي :
1- تعبيرهم عن المراد بألفاظ بين المترادفة والمتباينة، وإن كان في كل منها إضافة دلالية ليست في الأخرى ولكنها تؤول إلى عين الشيء، من ذلك أسماء الله الحسنى، وأسماء الرسول  وأسماء القرآن فهي كلها تدل على مسمى واحد. وإن كان بينها فروق دلالية واضحة، لكنها لا ترقى إلى أن تجعلها ألفاظا متباينة. وبعد هذا الطرح النظري يضرب لذلك مثلا عمليا فيقول: " مثال ذلك تفسيرهم للصراط المستقيم، فقال بعضهم : هو القرآن - أي اتباعه... وقال بعضهم هو الإسلام . فهذان القولان متفقان لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر، كما أن لفظ " صراط " يشعر بوصف ثالث. وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة، وقول من قال : هو طريق العبودية، وقول من قال : هو طاعة الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمثال ذلك، فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة لكن وصفها كل بصفة من صفاتها" .
2- أن يكون اللفظ عاما فيذكرون بعض أنواعه على سبيل التمثيل لا على سبيل المطابقة : " الصنف الثاني أن يذكر كل منهم الاسم العام ببعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى لفظ " الخبز " فأرى رغيفا، وقيل له : هذا، فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى الرغيف وحده.
مثال ذلك ما نقل في قوله : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات }. فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للحرمات. والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات. والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات. فالمقتصدون أصحاب اليمين والسابقون أولئك المقربون.
ثم إن كلا منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات، كقول القائل : السابق الذي يصلي في أول الوقت. والمقتصد الذي يصلي في أثنائه. والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار، أو يقول : السابق والمقتصد والظالم قد ذكرهم في آخر سورة البقرة، فإنه ذكر المحسن بالصدقة، والظالم بأكل الربا والعادل بالبـيع ...".
وهذا ليس اختلافا حقيقيا بل هو من قبيل ذكر أنواع متعددة لجنس واحد .
3- ما يكون من قبيل المشترك اللفظي، أو ما كان متواطئا في الأصل وأريد به أحد النوعين، وما كان ذلك شأنه فقد تحمل عليه أقوال السلف كلها، وقد تحــمل : " ومن الأقوال الموجودة عنهم ويجعلها بعض الناس اختلافا أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة لا مترادفة، فإن الترادف في اللغة قليل، وأما في ألفاظ القرآن فإما نادر وإما معدوم، وقل أن يعبر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه، بل يكون فيه تقريب لمعناه وهذا من أسباب إعجاز القرآن، فإذا قال القـائل:{ يوم تمور السماء مورا }: إن المور هو الحركة كان تقريبا، إذ المور حركة خفيفة سريعة، وكذلك إذا قال : الوحي الإعلام، أو قيل : أوحينا إليك انزلنا إليك، أو قيل : { وقضينا إلى بني إسرائيل } أي أعلنا وأمثال ذلك، فهذا كله تقريب لا تحقيق" .
4- معرفة أسباب النزول: فقد يذكر كل واحد من السلف سببا لنزول الآية أو السورة غير ما يذكره الآخر، وكلاهما صادق فيما أخبر به، إذ قد تكون نزلت عقب تلك الأحداث كلها فاعتقد كل واحد منهم أنها نزلت في حادثة معينة، أو قد تكون نزلت مرتين أو أكثر لأسباب مختلفة : " ومعرفة سبب النزول تعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، وإذ ذكر أحدهم لها سببا نزلت لأجله، وذكر الآخر سببا فقد يمكن صدقهما بأن تكون نزلت عقب تلك الأسباب، أوتكون نزلت مرتين، مرة لهذا السبب، ومرة لهذا السبب".

أما بالنسبة لاختلاف السلف في الأحكام فقد بيـن ـ أي ابن تيمية ـ أن اختلافهم ذلك لم يكن عن قصد ولا عن تعنت وحب ظهور، ولا عن إعراض عن كتاب الله وسنة نبيه، بل هو راجع إلى أمور خارجة عن إرادتهم، ولا دخل لهم فيها إطلاقا، وقد يمكن رد اختلاف السلف في الأحكام إلى أربعة أسباب:
أ- خفاء الدليل .
ب- عدم سماع الدليل .
ح- الغلط في فهم النص .
د- اعتقاد معارض راجح .
وقد عبر ابن تيمية عن ذلك بقوله : " والاختلاف قد يكون لخفاء الدليل، أو الذهول عنه، وقد يكون لعدم سماعه، وقد يكون الغلط في فهم النص، وقد يكون اعتقاد معارض راجح" .

وأما السيوطي فقد تحدث في كتابه "الإتقان في علوم القرآن" عن أوجه اختلاف السلف في التفسير وأوضح أنه اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد ، واستشهد بكثير من الأمثلة الدالة على ذلك مما يجعلنا في غنى عن سردها هاهنا.
 
أسباب الاختلاف في تفسير القرآن الكريم :

أسباب الاختلاف في تفسير القرآن الكريم :

إذا تتبع الباحث الأسباب الحقيقية التي أدت إلى الإختلاف في تفسير القرآن الكريم قد لا يجدها تخرج عن الأسباب التالية :
1- مخالفة القرآن الكريم وعدم الإعتصام به، وقد نص على ذلك ابن تيمية مرات عديدة في فتاويه، ومن ذلك قوله : " إن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان، فلما حدث في الامة ما حدث من التفرق والاختلاف، صار اهل التفرق والاختلاف شيعا، صار هؤلاء عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم، عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسل وغير ذلك، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفها تأولوه، فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى، إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر على غير ذلك، والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن، ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول، بل أن يدفع منازعه عن الإحتجاج بها".
2- مخالفة السنة وعدم التمسك بها أفضى إلى كثير من الاختلافات في التفسير خاصة أن بالقرآن ما هو مجمل غير مفصل، وعام غير مخصص، مما يحتاج إلى إيضاح وتفسير من قبل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ " كل من خالف الرسول لا يخرج عن الظن وما تهوى الأنفس، فإن كان ممن يعتقد ما قاله وله فيه حجة يستدل بها، كان غايته الظن الذي لا يغني من الحق شيئا، كاحتجاجهم بقياس فاسد، أو نقل كاذب، أو خطاب ألقي إليهم اعتقدوا أنه من الله وكان من إلقاء الشيطان".
3- مخالفة الصحابة والتابعين، وهم الصفوة الذين تلقوا القرآن تلاوة وتفسيرا، وإيمانا وعملا عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكل من خالفهم في تفسير آي الذكر الحكيم فقد أخطأ في الدليل والمدلول معا مهما أقام من الحجج على صحة مذهبه، فإن ذلك لا يخلو أن يكون استدلالا فاسدا، أو نقلا كاذبا، أو وحيا من الشيطان: " فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته وطرق الصواب، ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول معا. ومعلوم أن كل من خالف قولهم له شبهة يذكرها إما عقلية وإما سمعية".
وهذه الأسباب الثلاثة تبين أن الاختلاف في تفسير القرآن الكريم ليس ناشئا عن النص ذاته، بل هو ناتج عن المنهج المتبع في التفسير، والذي يكون في الأغلب الأعم مغرضا وغير علمي، كما هو الشأن بالنسبة للباطنية والفرق الضالة الذين لا يعتمدون في دينهم على القرآن، ولا على الإيمان الذي جاء به الرسول الكريم، بل على أصول ابتدعها مشايخهم، وهم اضطروا إلى تأويل القرآن على حسب مذهبهم المنحرف ومعتقدهم الباطل حتى لا يرموا بالزندقة والكفر البواح، وحتى يلبسوا على عامة المسلمين دينهم ويفتنوهم عن هديه وصراطه المستقيم .
وهم إنما يفعلون ذلك خوفا من سلطان المسلمين من جهة ، ولأنهم يرون أن ذلك هو السبيل الأقوم لإبعاد المسلمين عن دينهم الحنيف .
وهذا الطريق المعوج، والسبيل الملتوي غالبا ما يسلكه بعض الموثورين من الشعوب الحديثة العهد بالإسلام، والذين لم تتشرب قلوبهم بعد حلاوة الإيمان .
وبتحديد الأسباب المفضية إلى الاختلاف في تفسير القرآن الكريم، يكون أهل السنة قد شخصوا الداء الحقيقي الذي يفتك بالأمة، ومن خلال هذا التشخيص بينوا الدواء الكافي، والبلسم الشافي، ألا وهو الاعتصام بالكتاب والسنة، وتتبع أثرهما في كل كبيرة وصغيرة، ففي ذلك لمّ الشعث، واتحاد الأمة، ونفي الفرقة والاختلاف من بينها .
 
الفرق بين التفسير والتأويل عند أهل السنة :

الفرق بين التفسير والتأويل عند أهل السنة :

لاحظ أهل السنة ـ خاصة ابن تيمية ـ أن مشكلة تأويل القرآن الكريم من أخطر المشاكل التي جرت على الأمة كثيرا من الويلات، فهو أولا حادث في الأمة نتيجة الخلاف والفرقة بين المسلمين عشية مقتل الخليفة الثالث سيدنا عثمان بن عفان، وهو ما يعرف في التاريخ الإسلامي بالفتنة الكبرى، وبعد ذلك صار التأويل مدخلا أساسيا للبدع التي حلت بالدين الإسلامي. وفي ذلك يقول ابن تيمية : " إن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان، فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرقة والاختلاف صار أهل التفرق والاختلاف شيعا، صار هؤلاء عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسول وغير ذلك، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفها تأولوه. فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى، إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر على غير ذلك، والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن، ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول، بل أن يدفع منازعه عن الاحتجاج بها ".
ولما كانت قضية التأويل بذلك الحجم وبتلكم الخطورة، فقد أولاها ابن تيمية قسطا وافيا من الدراسة، متتبعا هذا المشكل من أوله، فلاحظ أن الكلام عموما ينقسم إلى قسمين :
1- إما أن يكون إنشاء وهو ما تضمن أمرا بالفــعل أو الترك .
2- وإما أن يكون إخبارا بأمور قد مضت كتاريخ وقصص الأمم السابقة، أو بأمور مستقبلية ستحــدث، أو بأمور غيبية استأثر الله بعلمها، ومن ذلك المعاد والبعث والقيامة، والجنة والنار، وغيرها من الأمور الغيبية التي أخبر بها القرآن الكريم .
وأما الأول فتأويله هو إتيان ما أمر به المشرع والانتهاء عما نهى عنه، ومن ثم كان السلف يقولـون : " إن السنة هو تأويل الأمر. قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن ".
وأما الإخبار " فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع، ليس تأويله فهم معناه " ، فتأويل الخبر إذن ليس هو إدراك معناه، بل إدراك الحقيقة الخارجية له، وهو ما لا يستطيعه الإنسان، فهو فوق مستوى إدراكه، إذ إنه لا يمتلك تصورا ذهنيا لحقيقة تلكم الأمور الغيبية على ما هي عليه في واقعها، " فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما، ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها، أو نظيرها من كل وجه، وتلك الحقائق علىما هي عليه هي تأويل ما أخـبر الله به ".
وفضلا عن ذلك فهذه الأمور الغيبية قد استأثر الله بعلمها، وحجبها عن الإنسان ـ رحمة به ـ ولن يدركها على ماهي عليه في واقع أمرها، إلا حين يأتي وقت المشاهدة والمعاينة. والحديث عن أنواع الكلام هو بمثابة مدخل ضروري، وتوطئة لازمة لإبراز أنواع التأويل الممكنة. وقد حصرها في ثلاثة أنواع :
أولا : مفهوم التأويل في القرآن الكريم :
بين ابن تيمية أن لفظ التأويل ورد كثيرا في القرآن الكريم، وقد حاول أن يبين المعنى الذي ينبغي أن يفهم من لفظ التأويل في القرآن، وذلك من خلال تتبعه لاستعمالها في السياقات المختلفة التي وردت فيها مع التركيز على تفسير قوله تعالى : { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق }.
فالتأويل معناه هنا تحقق هذه الأمور الغيبية التي أخبر بها القرآن الكريم، على ما هي عليه في واقع أمرها، يقول ابن تيمية : ثم قال : { هل ينظرون إلى تأويله } إلى آخر الآية ، إنما ذلك مجيء ما أخبر القرآن بوقوعه من القيامة وأشراطها : كالدابة ويأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، ومجيء ربك والملك صفا صفا، وغير ذلك، فحينئذ يقولون :
{ قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل }
وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته وقدره وصفته إلا الله ".
فهذه الحقائق الغيبية الكبرى يتعذر على الإنسان إدراكها، ومن ثم يستحيل تأويل أمثالها مما ورد في القرآن الكريم .
ثانيا : مفهوم التأويل عند السلف :
وأما التأويل عند السلف فله معنيان : الأول : هو نفس مفهوم التأويل في القرآن الكريم، وأما المعنى الثاني عندهم فهو مرادف للفظ التفسير. وفي ذلك يقول ابن تيمية : "وأما التأويل في لفظ السلف فله معنيان : "أحدهما " تفسير الكلام وبيان معناه سواء وافق ظاهره أو خالفه فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقاربا أو مترادفا .
وهذا ـ والله أعلم ـ هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله. ومحمد ابن جرير يقول في تفسيره : القول في تأويل قوله كذا وكذا . واختلف أهل التأويل في هذه الآية ونحو ذلك ومراده التفسير .
و"المعنى الثاني " في لفظ السلف وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقا : هو نفس المراد بالكلام فإن الكلام إن كان طلبا تأويله نفس الفعل المطلوب وإن كان خبرا كان تأويله نفس الشيء المخبر به ".
ثالثا : مفهوم التأويل عند الخلف :
"التأويل في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم، هو صرف اللفظ عن المعنى الراجع إلى المعنى المرجوح لدليل يعترن به، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف، فإذا قال أحدهم : هذا الحديث أو هذا النص مؤول أو هو محمول على كذا . قال الآخر : هذا نوع تأويل ، والتأويل يحتاج إلى دليل" .
وهذا المعنى للتأويل معنى مبتدع، وهو يشكل خطورة كبيرة على عقيدة الامة الإسلامية، وعلى كيانها وسيادتها، إذ أخذ مطية من طرف الروافض، وملاحدة الفلاسفة وغلاة الصوفية، وبالأخص من طرف موثوري الشعوب الدخيلة - لمحاربة الدين الإسلامي، وزعزعة الأمن والنظام في البلاد الإسلامية، ومن ثم وجدنا ابن تيمية يرفضه فيقول: " والتأويل المردرد هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره ".
ويعقد ابن تيمية مقارنة بين معنيي التأويل عند السلف فيبين أن التأويل بمعنى التفسير أو المرادف له هو من باب العلم والشرح والإيضاح، والمتكلم فيه يتحدث عن أشياء قد عقلها وأحسها وكون عنها تصورا كافيا يمكنه من التحدث عنها وهو مطمئن إلى سلامة ما يقول. أما المعنى الثاني للتأويل عند السلف وهو المرادف للحقيقة الخارجية على ما هي عليه في واقعها، فهذا مما لا يستطيع الإنسان إدراكه إذ لا يمتلك تصورا ذهنيا كاملا للموضوع، بل كل ما يعرفه في هذا الأمر هو صفاتها وأحوالها التي اخبره بها المخاطب عن طريق التقريب وضرب المثل : " وبين هذا والذي قبله بون، فإن الذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام، كالتفسير والشرح والإيضاح، ويكون وجود التأويل في القلب واللسان له الوجود الذهني واللفظي والرسمي. وأما هذا فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء كانت ماضية أو مستقبلة، فإذا قيل: طلعت الشمس، فتأويل هذا نفس طلوعها، ويكون "التأويل " من باب الوجود العيني الخارجي، فتأويل الكلام هو الحقائق الثابتة في الخارج بما هي عليه من صفاتها وشؤونها وأحوالها، وتلك الحقائق لا تعرف على ما هي عليه بمجرد الكلام والإخبار إلا أن يكونا المستمع قد تصورها أو تصور نظيرها بغير كلام وأخبار، ولكن يعرف من صفاتها وأحوالها قدر ما أفهمه المخاطب : إما بضرب المثل، وإما بالتقريب، وإما بالقدر المشترك بينها وبين غيرها، وإما بغير ذلك".
وبهذا النص الهام جدا، يضع ابن تيمية أيدينا على نقطتين هامتين، ترفعان ما يمكن أن توصم به نظرية أهل السنة في التفسير من تناقض واضطراب، وهما :
1- مرتكزات التفريق بين التفسير والتأويل .
2- الفرق بين تأويل الآية وفهم معناها.
 
مرتكزات التفريق بين التفسير والتأويل عند أهل السنة:

مرتكزات التفريق بين التفسير والتأويل عند أهل السنة:

بين النص السابق أن أهل السنة حددوا مفهومهم للتفسير والتأويل اعتمادا على مراتب الوجود وهي :
1- علم اليقين : هو ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمته مبلغا عن ربه .
2- عين اليقين : وهو المشاهدة .
3- حق اليقين : وهو الملامسة .
فالتفسير يخص النوع الأول من الكلام أي الأمر بفرعيه : الفعل والترك، أي ما يصطلح عليه بأحكام القرآن، كما أنه يخص الجانب الأول من المتشابه وهو ما يتعلق بإدراك الخبر القرآني وحده، دون أن يتعلق الأمر بإدراك عين الحقيقة المخبر بها .
ومن تم يمكننا القول إن التفسير عند أهل السنة يشمل جوانب ثلاث، وهي :
1- إدراك الأحكام التكليفية العملية .
2- إدراك ما أخبر به الحق سبحانه من أمور غيبية تتعلق بالبعث وأهوال يوم القيامة ومشاهد الجنة والنار وغيرها من الأمور الغيبية التي وردت بالقرآن الكريم .
3- إدراك ما أثبته الله لنفسه من أسماء وصفات .
وأما التأويل فيتعلق بالجانب الثاني من المتشابه، وهو ما يتعلق بإدراك المخبر به فقط، وهم يلاحظون أن مهمة التأويل خارجة عن القدرة الإنسانية في الفهم والإدراك، ذلك أنه يقوم أساسا على إدراك الحقائق الغيبية على ما هي عليه في عالم المعاينة والمشاهدة، وهذا مما استأثر الله تعالى بعلمه، وهم إذ يفعلون ذلك إنما يتأولون قوله تعـــالى : { ذلك خير وأحسن تأويلا }.
{ هل ينظرون إلا تأويله }.
{ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله }.

فهذه الآيات تفيد أن تأويل الأمور الغيبية -بمعنى إدراك الحقيقة التي هي عليها في واقع أمرها -هو من العلم الذي استأثر الله به، وخص به ذاته المقدسة ولم يطلع عليه أحدا من خلقه .
ومما سبق يتبين لنا أن التأويل عند أهل السنة لا يخرج عن هذه الأمور الثلاث :
1- التفسير والبيان، وهو ما درجوا على استعماله في تفاسيرهم، وهو المفهوم من أقوال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأقوال الصحابة والتابعين .
2- إدراك الحقيقة الواقعية، وهذا مما استأثر الله بعلمه، وهم لا يخوضون في القضايا الغيبية على طريقة المتكلمين والفلاسفة والروافض وغلاة الصوفية، بل يوجهون كل جهودهم إلى معرفة هذه الحقائق وتمييز بعضها عن بعض، ففي الصفات مثلا لا يحاولون إدراك معنى الصفة على ما هي عليه حقيقة، بل يحاولون التعرف على معنى الصفة كما وردت في القرآن الكريم، وفي الحديث النبوي الشريف، بحيث يفهمون من صفة القدرة غير ما يفهمونه من صفة الكلام والعلم وهكذا.
3- والمعنى الثالث للتأويل استنبطوه من الحديث الذي روته السيدة عائشة : (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي بتأول القرآن ) تعني قوله تعالى : {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا }.
والتأويل هنا معناه تنفيذ الأمر الرباني، أمرا كان أم نهيا.
ثانيا : الفرق بين تأويل الآية وفهم معناها :
للتفريق بين تأويل الآية وفهم معناها، ناقش علماء أهل السنة ما إذا كان في القرآن شيء لا يدرك معناه، ومن ثم يحرم الخوض فيه.
ومن خلال مراجعتنا لآراء كل من ابن عطية والطبري، والزركشي، وابن تيمية في هذا الموضوع، تبين لنا أنهم يعترفون بأن في القرآن أشياء استأثر الله تعالى بعلمها، وهي من قبيل الغيبيات كأسماء الله وصفاته، والجنة والنار، ونحو ذلك من الأمور الغيبية المستقبلية كخروج الدابة، والنفخ في الصور، وعدد النفخات، ومن ذلك قول الإمام الطبري : " وأن نمه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار، وذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة، وأوقات آتية، كوقت قيام الساعة، والنفخ في الصور، ونزول عيسى بن مريم ، وما أشبه ذلك، فإن تلك أوقات لا يعلم أحد حدودها ولا يعرف أحد من تأويلها إلا الخبر بأشراطها لاستئثار الله بعلم ذلك على خلقه ".
وعلى هذا المعنى الذي أورده الإمام الطبري حملوا الاحاديث الواردة في النهي عن التفسير القرآني الكريم، يقول الزركشي في " البرهان " : " ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل لقوله تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } وقوله : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }. وقوله تعالى: { لتبين للناس ما نزل إليهم } . فأضاف البيان إليهم، وعليه حملوا قوله صلى الله عليه وسلم : ( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ). رواه البيهقي من طرق، من حديث ابن عباس. وقوله صلى الله عليه وسلم : (من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ). أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال غريب من حديث ابن جندب .
وقــال البيـهـقي في "شعـب الإيـمان" هـذا إن صح، فإنـما أراد ـ والله أعلم ـ الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه، فمثل هذا الذي لا يجوز الحكم به في النوازل ، وكذلك لا يجوز تفسير القرآن به.
وأما الرأي الذي يسنده برهان فالحكم به في النوازل جائز، وهذا معنى قول الصديق : " أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي".
وهذا الأمر نفسه دفع القرطبي (ت671هـ) في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن" والإمام ابن عطيـة (ت 546هـ) في تفسيره "الجامع المحرر الوجيز" إلى مناقشة الحديث الذي روته السيدة عائشة والذي بينت فيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يفسر من القرآن إلا بضع آيات وبوحي من الله عز وجل، يقول ابن عطية : " روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت : (ما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفسر من كتاب الله إلا آيات بعدد علمه إياهن جبريل).
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ : " ومعنى هذا الحديث في مغيبات القرآن، وتفسير مجمله ونحو هذا مما لا سبيل إليه إلا بتوفيق من الله تعالى، ومن جملة مغيباته ما لم يعلم الله به كوقت قيام الساعة ونحوه، ومنها ما يستقرأ من ألفاظه كعدد النفخات في الصور، وكرتبة خلق السموات والأرض" .
ولا يفهم من كلام هؤلاء العلماء أن في القرآن ما لا يفهم معناه، بحيث يكون بالنسبة لذي العلم باللسان العربي، بمثابة الكلام الأعجمي الذي لا يفقه منه شيئا، بل يستفاد من أقوالهم أن هناك أمورا أخبر بها القرآن، كصفات الله وأسمائه مثلا. فهذه فعلا يستحيل على الإنسان فهمها على ما هي عليه في واقع أمرها. وبتعبير آخر لا يدرك الإنسان حقيقتها الخارجية، ولكنه يدرك حقيقتها العلمية بحيث يفهم من كل صفة غير ما يفهمه من الصفات الاخرى. وفي ذلك يقول ابن تيمـية ـ مبطلا قول من جعل أسماء وصفات الله سبحانه من المتشابه الذي لا يفهم معناه ـ : " أما الدليل على بطلان ذلك فإني لا أعلم عن أحد من سلف الأمة، ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره، أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا : إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا أحاديث الصفات تمر كما جاءت، وينهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه".
وانطلاقا من هذه النقطة بدأ ابن تيمية يبين الفرق بين تأويل الآية وفهم معناها . وذلك عبر مرحلتين :
المرحلة الأولى:
ناقش فيها من يدعون أن القرآن يتضمن ما لا يفهم معناه، ومن ثم يتعين عدم الخوض فيه، وذلك حيث يقول : " قال : ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ). أي كذبوا بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله. وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله : فإن الإحاطة بعلمه معرفة معاني الكلام على التمام، وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به، وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به، فمعرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن، ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله .
ونكتة ذلك أن الخبر لمعناه صورة علمية وجودها في نفس العالم كذهن الإنسان مثلا، ولذلك المعنى حقيقة ثابتة في الخارج عن العلم، واللفظ إنما يدل ابتداء على المعنى الذهني، ثم تتوسط ذلك أو تدل على الحقيقة الخارجة، فالتأويل هو الحقيقة الخارجة، وأما معرفة تفسيره ومعناه فهو معرفة الصورة العلمية، وهذا هو الذي بيناه فيما تقدم أن الله إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم، ويفقه ويتدبر ويتفكر فيه، محكمه ومتشابهه، وإن لم يعلم تأويله ".
وهكذا يبين ابن تيمية أن تأويل الآية هو غير فهم معناها، وبذلك يفند رأي من قالوا بعدم الخوض في آيات الصفات لأنها مما استأثر الله بعلمه، وأنها بمثابة قول أعجمي لا يفقه له معنى ، وهم إنما يفعلون ذلك لأحد أمرين .
1- إنتصارا للهوى والمذهب، كالمعطلة وغيرهم من الفرق الضالة التي أحدثث في الإسلام أقوالا، وأفعالا غريبة عن طبيعته، وشاذة عن هديه وصراطه المستقيم: " وأما أولئك -كنفاة الصفات من الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم، وكالفلاسفة -فيجعلون ما ابتدعوه هم برأيهم هو المحكم الذي يجب اتباعه، وإن لم يكن معهم من الأنبياء والكتاب والسنة ما يوافقه، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء وإن كان صريحا قد يعلم معناه بالضرورة، ويجعلونه من المتشابه، ولهذا كان هؤلاء أعظم مخالفة للأنبياء من جميع أهل البدع ".
2- أو خوفا من أن تتسرب بعض المفاهيم البعيدة عن الإسلام إليه إذا فتح باب التأويل على مصراعيه، وذهب إلى ذلك بعض علماء أهل السنة .
وافحاما لهؤلاء جميعا، وإقامة للحجة عليهم يبين ابن تيمية أن دعواهم -بأن أسماء الله وصفاته من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله- لا أساس لها من الصحة ولا سند لها، ومن ثم فهي محض افتراء، وادعاء باطل وقول مبتدع، وحادث في الملة : "وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله ... من قال إن هذا من المتشابه وأنه لا يفهم معناه، فنقول : أما الدليل على بطلان ذلك فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة، ولا من الأئمة لا أحمد ابن حنبل ولا غيره، أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا : إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات : تمر كما جاءت ، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه، ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد، والفضائل، وغــير ذلك ".
المرحلة الثانية :

أما المرحلة الثانية فيرد فيها على من يزعمون أن كل ما تضمنه القرآن يمكن تأويله، معتمدين في ذلك على حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يدعو فيه لابن عباس أن يعلمه الله تأويل الكتاب . ون هؤلاء غلاة الشيعة والصوفية والملاحدة وغيرهم من الفرق الباطنية . يقول ابن تيمية : "وما أحسن ما يعاد التأويل إلى القرآن كله فإن قيل : فقد قال صلى الله عليه وسلم لعبد ا بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : ( اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل )، قيل أما تأويل الأمر والنهي فذاك يعلمه، واللام هنا للتأويل المعهود، لم يقل : تأويل كل القرآن فالتأويل المنفي هو تأويل الأخبار التي لا يعلم حقيقة مخبرها إلى الله. والتأويل المعلوم هو الأمر الذي يعلم العباد تأويله، وهذا كقوله : { هل ينظرون إلى تأويله يوم يأتي تأويله } . وقوله : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتـهم تأويله }. فإن المراد تأويل الخبر الذي أخبر فيه عن المستقبل، فإنه هو الذي " ينتظر " و " يأتى " و " لما يأتهم "، وأما تأويل الأمر والنهي فذاك في الأمر، وتأويل الخبر عن الله وعمن مضى إن أدخل في التأويل لا ينتظر . والله سبحانه أعلم ".
وأهل السنة يعترفون أن التفسير يعتمد النقل بالأساس، والتأويل يعتمد الإستدلال والإستنباط أساسا، ومن ثم راحوا يوضحون منهجهم في التأويل حتى لا يلتبس بمفهوم التأويل عند الفرق الضالة التي تلتجىء إليه انتصارا للرأي والمذهب والهوى .
يقول الزركشي في كتابه "البرهان" : "وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الإجتهاد فيه، وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل، وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه على ما تقدم بيانه، وكل لفظ احتمل معنيين فهو قسمان :
أحدهما : أن يكون أحدهما أظهر من الآخر، فيجب الحمل على الظاهر إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي دون الجلي فيحمل عليه .
الثاني : أن يكونا جليين والإستعمال فيهما حقيقة . وهذا على ضربين :
أحدهما حقيقة لغوية ، وفي الآخر حقيقة حقيقة شرعية . فالشرعية أولى إلا أن تدل قرينته على إرادة اللغوية نحو قوله تعالى : { وصل عليهم إن صلاتك ســكن لهم }. وكذلك إذا دار بين اللغوية والعرفية، فالعرفية أولى لطريانها على اللغة، ولو دار بين الشرعية والعرفية، فالشرعية أولى لأن الشرع ألزم ".
وهذا النص الهام يبين لنا عنصرين هامين من عناصر المنهج السني :
أولهما : أن أهل السنة لا يتنكرون لحقيقة قائمة كما هو الشأن بالنسبة للتأويل، فرغم أنهم يعلمون خطورته البالغة على عقيدة المسلم، وعلى كيان الدولة المسلمة ككل - إذ هو المدخل الذي تنفذ منه كل الدعاوي الباطلة والمذاهب الهدامة- رغم كل ذلك نجدهم يقررون أهميته، ويعترفون به لا كأمر واقع فحسب، بل كأداة منهجية يستدعى استخدامها النص القرآني، إذ هناك كثير من المواقف التي تتطلب من المفسر أن يستعمل فيها الإستدلال والإستنباط للوقوف على المعنى الحقيقي للآية أو السورة التي يروم تفسيرها.
الثاني: إن قبولهم التأويل واعترافهم به لا يعني التسليم بكل تأويل، بل وضعوا المنهج القويم للتأويل المرتضى، وأسسوه على قاعدة منهجية وعلمية وموضوعية، بحيث يكون النص هو الذي يفرض الأداة المنهجية التي ينبغي أن نتعامل معه بها، وألا نسقط عليه أدوات منهجية غريبة عنه تفضي بنـا ـ في النهاية ـ إلى مفارقات صارخة، وإلى نتائج غريبة عن طبيعة الإسلام العقدية والشرعية .
فما ينبغي أن يعرف من موقف أهل السنة في قضية التأويل إجمالا أنهم لم يرفضوه بالكلية، وإنما رفضوا المعنى الأخير، الذي قال به متأخروا المتكلمين والفلاسفة والأصوليين وغيرهم، حيث يصرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وقد رفضوه لأنه استحدث في الأمة لأغراض غير نزيهة وغير علمية، ذلك أنه المدخل الذي تلج منه البدع والضلالات بعد أن تلبس ثوب الشريعة الإسلامية، وتصبغ بصبغتها في الظاهر، لتجنب نفسها المعارضة الشعبية التي كانت ستواجهها حتما إن هي أسفرت عن باطلها وضلالها.
في الوقت نفسه نجد علماء أهل السنة يقررون المعنى القرآني للتأويل، وهو رد الشيء المخبر به إلى حقيقته وآماله، وينصون على أن ذلك مما استأثر الله تعالى بعلمه، ومن ثم لم يجوزوا الخوض فيه موضحين أن المنهج السليم هو إثبات المعنى الذي جاء به القرآن الكريم، والقول به من غير زيادة أو نقصان.
كما أنهم قالوا بمعنى التأويل الذي ورد عن السلف وهو ما يفيد التفسير والبيان من جهة، وتنفيذ الأمر الرباني - أمرا كان أو نهيا - من جهة أخرى، وهذا مما أفاضوا الكلام فيه .
 
أسباب الاختلاف في تفسير القرآن الكريم :

أسباب الاختلاف في تفسير القرآن الكريم :

إذا تتبع الباحث الأسباب الحقيقية التي أدت إلى الإختلاف في تفسير القرآن الكريم قد لا يجدها تخرج عن الأسباب التالية :
1- مخالفة القرآن الكريم وعدم الإعتصام به، وقد نص على ذلك ابن تيمية مرات عديدة في فتاويه، ومن ذلك قوله : " إن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان، فلما حدث في الامة ما حدث من التفرق والاختلاف، صار اهل التفرق والاختلاف شيعا، صار هؤلاء عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم، عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسل وغير ذلك، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفها تأولوه، فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى، إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر على غير ذلك، والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن، ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول، بل أن يدفع منازعه عن الإحتجاج بها".
2- مخالفة السنة وعدم التمسك بها أفضى إلى كثير من الاختلافات في التفسير خاصة أن بالقرآن ما هو مجمل غير مفصل، وعام غير مخصص، مما يحتاج إلى إيضاح وتفسير من قبل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ " كل من خالف الرسول لا يخرج عن الظن وما تهوى الأنفس، فإن كان ممن يعتقد ما قاله وله فيه حجة يستدل بها، كان غايته الظن الذي لا يغني من الحق شيئا، كاحتجاجهم بقياس فاسد، أو نقل كاذب، أو خطاب ألقي إليهم اعتقدوا أنه من الله وكان من إلقاء الشيطان".
3- مخالفة الصحابة والتابعين، وهم الصفوة الذين تلقوا القرآن تلاوة وتفسيرا، وإيمانا وعملا عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكل من خالفهم في تفسير آي الذكر الحكيم فقد أخطأ في الدليل والمدلول معا مهما أقام من الحجج على صحة مذهبه، فإن ذلك لا يخلو أن يكون استدلالا فاسدا، أو نقلا كاذبا، أو وحيا من الشيطان: " فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته وطرق الصواب، ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول معا. ومعلوم أن كل من خالف قولهم له شبهة يذكرها إما عقلية وإما سمعية".
وهذه الأسباب الثلاثة تبين أن الاختلاف في تفسير القرآن الكريم ليس ناشئا عن النص ذاته، بل هو ناتج عن المنهج المتبع في التفسير، والذي يكون في الأغلب الأعم مغرضا وغير علمي، كما هو الشأن بالنسبة للباطنية والفرق الضالة الذين لا يعتمدون في دينهم على القرآن، ولا على الإيمان الذي جاء به الرسول الكريم، بل على أصول ابتدعها مشايخهم، وهم اضطروا إلى تأويل القرآن على حسب مذهبهم المنحرف ومعتقدهم الباطل حتى لا يرموا بالزندقة والكفر البواح، وحتى يلبسوا على عامة المسلمين دينهم ويفتنوهم عن هديه وصراطه المستقيم .
وهم إنما يفعلون ذلك خوفا من سلطان المسلمين من جهة ، ولأنهم يرون أن ذلك هو السبيل الأقوم لإبعاد المسلمين عن دينهم الحنيف .
وهذا الطريق المعوج، والسبيل الملتوي غالبا ما يسلكه بعض الموثورين من الشعوب الحديثة العهد بالإسلام، والذين لم تتشرب قلوبهم بعد حلاوة الإيمان .
وبتحديد الأسباب المفضية إلى الاختلاف في تفسير القرآن الكريم، يكون أهل السنة قد شخصوا الداء الحقيقي الذي يفتك بالأمة، ومن خلال هذا التشخيص بينوا الدواء الكافي، والبلسم الشافي، ألا وهو الاعتصام بالكتاب والسنة، وتتبع أثرهما في كل كبيرة وصغيرة، ففي ذلك لمّ الشعث، واتحاد الأمة، ونفي الفرقة والاختلاف من بينها .
 
التأويل المقبول والتأويل المردود :

التأويل المقبول والتأويل المردود :

يكاد أهل السنة يجمعون على قبول التأويل المبني على أصول اجتهادية صحيحة، وقواعد منهجية وعلمية مقررة وثابتة تمكن المفسر من سبر أغوار الخطاب القرآني ورفع الحجب عن معانيه .
ومن هذا المنطلق نجدهم قد أسهبوا في مناقشة الأحاديث النبوية ورد النهي فيها عن التفسير بالرأي ، منها ما رواه "يحيى بن طلحة اليربوعي، قال حدثنا شريك عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال :"من قال
في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار).
والحديث الذي رواه ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والذي جاء فيه : (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار).
وقد لخص الإمام الزركشي آراء العلماء في مناقضة هذه الأحاديث، فحمل النهي فيها على تأويل الخطاب القرآني بمجرد الرأي والهوى، أي من غير أن يكون هناك منهج علمي يقيم الدليل، ويقرع الحجة بالحجة، بل هو مجرد رأي مجتث الجذور لا أصل له ولا قاعدة، مخالف للمنطق والوقع والعلم لأنه نابع عن تعصب أعمى للذات والهوى، مما يحجب عنها الحقيقة التي لا تتجلى إلا لمن أخلص في طلبها من أجل ذاتها لا لأي مقصد او هدف آخر. يقول الزركشي : "ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل لقوله تعالى : {لا تقف ما ليس لك به علم}. وقوله : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} . وقوله تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } فأضاف البيان إليهم .
وعليه حملوا قوله صلى الله عليه وسلم : ( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) رواه البيهقي من طرق من حديث ابن عباس. وقوله صلى الله عليه وسلم : (من تكلم في القرآن برأيه فاصاب فقد أخطأ) ، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وقال غريب من حديث ابن جندب .

وقال البيهقي في "شعب الإيمان "هذا إن صح فإنما أراد -والله أعلم- الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه، فمثل هذا الذي لا يجوز الحكم به في النوازل . وكذلك لا يجوز تفسيره القرآن به .
وأما الرأي الذي يسنده برهان فالحكم به في النوازل جائز، وهذا معنى قول الصديق : " أي سماء تظللني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله برأيي" .
وقد بحث علماء أهل السنة الأسباب التي تجعل من هذا التأويل تأويلا مقبولا، ومن الآخر تأويلا مردودا، وهي ما يمكن أن نصطلح عليه بمرتكزات التفريق بين التأويل المردود والتأويل المقبول، وسنحاول أن نعرض آراء هؤلاء العلماء وذلك لما تفصح عنه من دقة منهجية وأصالة علمية، وشمولية في التفكير، وفي معالجة القضايا المشكلة، ولما تتضمنه من موضوعية حقة تتحقق في أبحاث كثير من دعاة العلمية والموضوعية .
أولا : مرتكزات التفريق بين نوعي التأويل عند ابن عطية (ت 671هـ) :
يرى ابن عطية أن السبب الرئيسي في جعل التأويل مردودا هو سبب منهجي، ذلك أن من يروم تفسير القرآن الكريم لابد أن يزود نفسه بجملة علوم ضرورية تمكنه من سبر أغوار الآيات والسور القرآنية والكشف عن معانيها وإدراك، أحكامها وفقه توجيهاتها، ومن ثم فإنه لا يجوز لكل ذي تخصص معين أن يفسر القرآن الكريم من جانب تخصصه فقط. فصاحب اللغة يفسر لغته، وصاحب النحو يفسر نحوه، وصاحب الفقه يفسر آيات الأحكام، فأصحاب الاختصاص بتعبيرنا اليوم، وأهل الجهة باصطلاح السلف الصالح، هم وحدهم الذين يجوز لهم تفسير ما لم يرد فيه نص من الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة والتابعين. وهذا نص كلام ابن عطية في هذه المسألة : " ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقــد أخطأ ) ومعنى هذا : أن يسأل الرجل عن معنى في كتاب الله فيتسور عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء، أواقتضته قوانين العلوم كالنجوم والأصول، وليس يدخل في هذا الحديث أن يفسر اللغويون لغته، والنحاة نحوه، والفقهاء معانيه ، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر . فإن هذا القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرد رأيه ".
وهنا تبدو المنهجية العلمية واضحة جلية، ويتضح أن تفسير القرآن الكريم ليس عملا هينا، بل هو عمل علمي جبار يحتاج إلى دراية، وخبرة وتمرس، فضلا عما يحتاجه المفسر من ملكات مبدعة وقدرات فذة، تمكنه من التفاعل مع الخطاب القرآني والتجاوب معه، مما يفتح الباب أمامه للكشف عن بعض حقائق الذكر الحكيم .
ثانيا: مرتكزات التفريق بين نوعي التأويل عند الإمام الطبري (ت310هـ) :
والإمام الطبري يحصر الأسباب التي تجعل التأويل مردودا في أسباب نصية داخلية، ذلك أن من النصوص ما لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم وهذه النصوص يتعين التوقف عندها، ولا يقال فيها أبدا، لأن ذلك مجازفة علمية خطيرة، قد تفضي إلى تشويش العقيدة الإسلامية، وتحريف الشريعة وإدخال البدع والضلالات، وبالتالي إحلال الفرقة والخلاف بين المسلمين، ومن ثم نص الطبري في تفسـيره على أن : " ما كان من تأويل أي القرآن الذي لا يدرك علمه إلا بنص بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بنصية الدلالة عليه، فغير جائز لأحد القيل فيه برأيه، بل القائل في ذلك بــرأيه ـ وإن أصاب الحق فيه ـ فمخطئ فيما كان من فعله بقيله فيه برأيه، لأن إصابته ليست إصابة موقن أنه محق، وإنما هو إصابة خارص وظان، والقائل في دين الله بالظن، قائل على الله ما لم يعلم، وقد حرم الله جل ثناؤه ذلك في كتابه على عباده، فقال : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن. والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا. وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }.
فالقائل في تأويل كتاب الله الذي لا يدرك علمه إلا ببيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي جعل الله إليه بيانه ، قائل بما لا يعلم، وإن وافق قيله ذلك في تاويله ما أراد الله به من معناه، لأن القائل فيه بغير علم، قائل على الله ما لا علم له به ".
وهذا النص يفصح عن عقلية منضبطة بمنطق علمي، وبمنهج ثابت الأصول والقواعد، قرره الكتاب والسنة، وأكدته أعمال وأبحاث السلف الصالح الذين كانوا يتورعون عن الخوض في ما لا علم لهم به، حتى أثرت عنهم كلمة "لا أدري" في كثير من القضايا والأمور التي استفتوا فيها، بل جعلوا "لا أدري" قاعدة ثابتة من قواعد المنهج الإسلامي في البحث ، فأثر عن الإمام مالك-رحمه الله- قوله : "العلم آية محكمة،
أو سنة مبينة ثابتة، أو : لا أدري" .
وليس في هذا حجر على العقول كما يزعم البعض، بل هو السبيل الأمثل للتوظيف الصحيح لكل الطاقات العقلية والفكرية والوجدانية التي حبانا الله بها، وهو التجرد للعلم وللحقيقة بحيث لا يكون الهوى أو الانتصار للمذهب هو الذي يتحكم ويرسم طريق البحث وتحصيل العلم والمعرفة . ومن هنا "دخل الإلتزام بكلمة "والله أعلم" . يثبتها علماء الإسلام بعد الذي يقدمون أو يدونون من علم، وتلقانا "والله اعلم" في تراث السلف الصالح ، فيتندر بها من لا يدرون أنها من تحرج العلماء، ولعلها التي تحمي الامة من جرأة من يجسر على ادعاء العلم بكل شيء، وما خشي نبينا صلى الله عليه وسلم على الدين إلا من آفتــــه ( آفة الدين ثلاث : فقيه فاجر، وإمام جائر، ومجتهد جاهل ) ".
ثالثــا: مرتكـــزات التفـريــق بين نـوعي التأويـل عند الإمـام الغزالي (ت 505هـ) :
يرى الإمام الغزالي ـ رحمه الله ـ في كتابه الجامع "إحياء علوم الدين" أن النهي عن تأويل القرآن الكريم إنما هو نهي عن نوعين من التأويل وهما :
1- التأويل المذهبي الذي يحكم الرأي والهوى في تفسير القرآن الكريم بحيث يكون هذا الأخير تابعا لا متبوعا .
2- التأويل الذي يحمل المعنى فيه على ظاهر اللغة العربية .
ويفصل الإمام الغزالي القول في ذلك فيقول : "وأما النهي فإنه ينزل على أحد وجهين (أحدهما) : أن يكون له في الشيء رأي، وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأول له من القرآن ذلك المعنى ، وهذا تارة يكون من العلم كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته، وهو يعلم أنه ليس المراد بالآية ذلك، ولكن يلبس به على خصمه، وتارة يكون مع الجهل برأيه وهواه، فيكون قد فسر برأيه، أي رأيه هو الذي حمله على ذلك التفسير، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه، وتارة قد يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلا من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما أريد به. فهذه الفنون أحد وجهي المنع من التفسير بالرأي، ويكون المراد بالرأي الرأي الفاسد الموافق للهوى دون الاجتهاد الصحيح، والرأي يتناول الصحيح والفاسد، والموافق للهوى قد يخصص باسم الرأي.
والوجه الثاني: أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية، من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن، وما فيه من الألفاظ المهمة والمبدلة، وما فيه من الاختصار والحذف، والإضمار والتقديم والتأخير، فمن لم يحكم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه، ودخل في زمرة من يفسر بالرأي" .
وهذه الأسباب التي تحدث عنها الإمام الغزالي كلها أسباب خارجية وليست نصية، أي أنها غير نابعة من النص، بل هي أخطاء منهجية بتجاوزها إلى قواعد منهجية علمية وسليمة قد يصبح التأويل مقبولا من الناحية الشرعية أولا، ومن الناحية العقلية المنطقية ثانيا.
رابعا: مرتكزات التفريق بين نوعي التأويل عند الراغب الأصفهاني (ت 502هـ) :
تمشيا مع منهج أهل السنة في قضية التأويل، نجد الراغب الأصفهاني في كتابه " مقدمة التفسير" " لا يرفض التأويل بصفة كلية، بل يبين أن التأويل نوعان منه ماهو مردود مرفوض، ويصطلح عليه بالتأويل المستكره، ومنه ما هو مقبول ويصطلح عليه بالتأويل المنقاد، ويضرب أمثلة للتأويل المستكره، يمكن أن نستخلص منها الأسباب التي جعلته يكون مرفوضا من طرق هذا العالم الجليل ، ويمكن حصرها في أربعة أسباب منهجية خارجية عن النص وهي :
1- التلفيق بين لفظين كل منهما ورد في سياق مخالف للسياق الذي ورد فيه الآخر .
2- ما يفسر بحديث موضوع أو ضعيف ، واصطلح عليه بخبر مزور أو كالمزور .
3- ما يفسر تفسيرا لغويا متعسفا .
وهذا نص كلامه: " والتأويل نوعان مستكره ومنقاد. فالمستكره ما يستبشع إذا سبر بالحجة ... وذلك على أربعة أضرب. الأول أن يكون لفظ عام فيخصص في بعض ما يدخل تحته نحو قوله تعالى : {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين}، حمله بعض الناس على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقط. والثاني أن تلفق بين اثنين نحو قول من زعم أن الحيوانات كلها مكلفة بقوله تعالى : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير }. وقد قال تعالى : { وما من دابة في الارض . ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم }. فدل بقوله أمم أمثالكم أنهم مكلفون كما نحن مكلفون . والثالث ما استعين فيه بخبر مزور أو كالمزور كقول بعضهم في قوله تعالى : { يوم يكشف عن ساق } عني به الجارحة مستدلا بحديث موضوع . والرابع ما يستعان فيه باستعارات واشتقاقات بعيدة كما قال بعض الناس في البقر إنه إنسان يبقر عن أسرار العلوم . وفي الهدهد إنه إنسان موصوف بجودة البحث".
ويبين بعد ذلك الراغب الأصفهاني المجالات العلمية التي يغلب عليها كل ضرب من هذه الأخطاء المنهجية الأربع فيقول : " فالأول أكثر ما يروج على المتفقهة الذين لم يقووا في معرفة الخاص والعام. والثاني على المتكلم الذي لم يقو في معرفة شرائط النظم. والثالث على صاحب الحديث الذي لم يتهذب في شرائط قبول الأخبار. والرابع على الأديب الذي لم يتهذب بشرائط الاستعارات والاشتقاقات" .
وأما التأويل المنقاد عند الراغب فهو التأويل المقبول، وهو ما سلم من عيوب التأويل المستكره، وهو مما قد يقع الخلاف فيه بين الراسخين في العلم. وموجبات الخلاف هنا هي غير موجبات الخلاف في التأويل المستكره، ذلك أنها هنا تكون كلها راجعة إلى النص ذاته، في حين نجدها في التأويل المستكره ترجع إلى أسباب منهجية خارجة عن النص، بل تكون مفروضة عليه وليست نابعة منه ولا هو يستدعيها، مما يؤدي إلى مفارقات غريبة في الإستنباط والنتائج . وفي ذلك يقول الأصفهاني : " والمنقاد من التأويل مالا يعرض فيه البشاعة المتقدمة، وقد يقع الخلاف فيه بين الراسخين في العلم لاحدى جهات ثلاث، وإما لاشتراك في اللفظ نحو قوله تعالى : { لا تدركه الأبصار } هل هو من بصر العين، أو من بصر القلب، أو لأمر راجع إلى النظم نحو قوله تعالى : { وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا }، هل هذا الإستثناء مقصور على المعطوف، أو مردود إليه وإلى المعطوف عليه معا. وإما لغموض المعنى، ووجازة اللفظ نحو قــوله تعالى : { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم }" .
ومن خلال هذه الدراسة المنهجية والتحليل العلمي للقضايا المشكلة، تبدو لنا الدقة المنهجية في البحث، والخبرة بتحليل النصوص وسبر أغوارها، مما يفصح عما كان يتمتع به الراغب الأصفهاني من عقلية علمية ومنهجية نحن أحوج ما نكون إليها اليوم .
خامسا: مرتكزات التفريق بين نوعي التأويل عند الزركشي (ت 794هـ) :
ينص الزركشي في كتابه "البرهان في علوم القرآن " على أن النهي عن التأويل، إنما اقتصر على المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وهذا هو السبب الداخلي أي النص الوحيد الذي يعتبره من موانع التأويل، أو من موجبات رده وعدم قبوله بل الأخذ به. وفي ذلك يقول :" النهي إنما انصرف إلى المتشابه منه لا إلى جميعه، كما قال تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه }. لأن القرآن إنما نزل حجة على الخلق، فلو لم يجز التفسير لم تكن الحجة بالغة، فإذا كان كذلك جاز لمن عرف لغات العرب، وشأن النزول أن يفسره، وأما من كان من المكلفين ولم يعرف وجوه اللغة فلا يجوز أن يفسره إلا بمقدار ما سمع، فيكون ذلك على وجه الحكاية لا على سبيل التفسير، فلا بأس به، ولو أنه يعلم التفسير فأراد أن يستخرج من الآية حكمة أو دليلا لحكم فلا بأس به، ولو قال المراد من الآية كذا من غير أن يسمع شيئا فلا يحل، وهو الذي نهى عنه".
ويفهم من النص أن من التأويل ـ وهو الذي يصطلح عليه بالتأويل المردود ـ ما يكون محظورا على أهل الاختصاص ـ أو ما يعرف عند السلف الصالح بأهل الجهة ـ الخوض فيه . ومنه ما يجوز لهم الخوض فيه، ولكنه محظور على العوام ويدخل ضمنهم كل من لم يستكمل شروط المقسر العلمية والدينية .
أما الأسباب المنهجية الخارجية الموجهة لرد التأويل، وعدم الاخذ به فيحصرها الزركشي في سببين:
1- معارضة القرآن بالرأي والمذهب والهوى. وفيه يقول: فأما التأويل المخالف للآية والشرع فمحظور لأنه تأويل الجاهلين، مثل تأويل الروافض لقوله تعالى :{مرج البحرين يلتقيان} أنهما علي وفاطمة. ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) يعني الحسن والحسين - رضي الله عنهما - وكذلك قالوا في قوله تعالى : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل} إنه معاوية وغير ذلك".
2- الجهل بعلوم اللغة وبعلم أصول الفقه، وفي هذا السبب المنهجي يقول الزركشي : " وإذا تقرر ذلك فينزل قوله تعالى: ( من تكلم في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) على قسمين من هذه الأربعة :
أ- أحدهما : تفسير اللفظ لاحتياج المفسر له إلى التبحر في معرفة لسان العرب .
ب- الثاني : حمل اللفظ المحتمل على أحد معنييه، لاحتياج ذلك إلى معرفة أنواع من العلوم: علم العربية واللغة والتبحر فيهما، ومن علم الأصول ما يدرك به حدود الأشياء، وصيغ الأمر والنهي، والخبر والمجمل والمبين، والعموم والخصوص، والظاهر والمضمر، والمحكم والمتشابه والمؤول، والحقيقة والمجاز، والصريح والكتابة، والمطلق والمقيد".
سادسا: مرتكزات التفريق بين نوعي التأويل عند ابن تيمية :
يرى الإمام ابن تيمية أن الأسباب الرئيسية في رد التأويل، وعدم الأخذ به تكمن في الأدوات المنهجية الموظفة في تفسير القرآن الكريم، والتي تفتقر إلى النزاهة والموضوعية العلمية، ويمكننا أن نجمل الأسباب في نقطتين :
1- عدم التقيد بمصادر التفسير المتفق عليها عند أهل السنة ، بحيث لا يقال في التفسير بالاجتهاد والرأي، إلا بعد أن يطلب تفسيرها في القرآن ثم في السنة، ثم في أقوال الصحابة، ثم في أقوال التابعين. فإذا استنفدنا البحث واستفرغنا الجهد في هذه المصادر كلها ولم نجد تفسيرا للآية أو السورة التي نروم تفسيرها، عندها فقط يجوز الإجتهاد في تفسيرها لمن توفرت فيه شروط الأهلية، واكتملت لديه وسائل الاجتهاد وأدواته، وهي ما يصطلح عليه السلف الصالح بعلوم الآلة، وهي علوم ضرورية لكل من يريد أن يفسر الذكر الحكيم .
وابن تيمية ينص في هذا السبب على أنه يتعين على من يشتغل بالتفسير أن لا يقول برأيـه فـي آيــة ثبت تفسيــرها من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومما ينبغي أن يعلم أن القرآن والحديث إذ عرف تفسيره من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى أقوال أهل اللغة فإنه قد عرف تفسيره، وما أريد بذلك من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم، ولهذا قال الفقهاء " الأسماء ثلاثة أنواع " نوع يعرف حده بالشرع كالصلاة والزكاة، ونوع يعرف حده باللغة كالشمس والقمر، ونوع يعرف حده بالعرف كلفظ القبض، ولفظ المعروف في قوله تعالى: ( وعاشروهن بالمعروف ) ".
2- معارضة القرآن بالرأي والذوق والوجوه، في حين يتعين على المفسر أن لا يعارض القرآن إلى بالقرآن، أو بما صح من السنة التي تفسره وتوضحه، ولا يجوز إطلاقا ـ وذلك هو مذهب السلف ـ معارضته لا بالمعقول ولا بالقياس، ولا بالرأي ولا بالوجد، ولا بأي شيء من ذلك كله، فقد " كان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن لا برأيه ولا ذوقه ولا معقوله، ولا قياسه ولا وجده. فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات، والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحـق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم... فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدى به، ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة، ولا قال قط قد تعارض في هذا العقل والنقل، فضلا عن أن يقوم فيجب تقديم العقل والنقل ـ يعني القرآن والحديث وأقوال الصحابة والتابعين ـ إما أن يفوض وإما أن يؤول ... ولم يكن السلف يقبلون معارضة الآية إلا بآية أخرى تفسرها وتنسخها، أو بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تفسرها، فإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين القرآن وتدل عليه وتعبر عنه" .
وحتى لا ينخرم ما بنى عليه ابن تيمية حكــمه ـ من أن السلف لم يكن يعرف لديهم معارضة القرآن بالعقل والرأي والذوق، أو الوجد والقياس ـ يناقش كيفية ظهور البدع الأولى، فيبين أن بدعة الخوارج لم تكن نتيجة معارضتهم القرآن الكريم بالرأي أو العقل أو القياس أو الوجد أو شيء من ذلك، بل كانت نتيجة سوء فهمهم للقرآن الكريم لا غير. وفي ذلك يقول ابن تيمية "وكانت البدع الأولى مثل " بدعة الخوارج " إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب ، إذ كان المؤمن هو البر التقي، قالوا : فمن لم يكن برا تقيا فهو كافر، وهو مخلد في النار، ثم قالوا : وعثمان وعلي ومن والاهما ليسوا بمؤمنين لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله ".
وحتى لا تضيع المقاييس أو تلتبس بغيرها، يبين الأصل والقاعدة المنهجية، الفاصلة والمميزة بين منهج أهل السنة في البحث العلمي، وبين منهج أهل البدعة، فأهل السنة لا يتكلمون في شيء من الدين إلا اتباعا لما جاء به أهل الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا أراد العالم السني معرفة شيء من الدين نظر في الكتاب والسنة، فهما المعين والمصدر الذي لا ينضب، وهما اللذان يمدانه بالمعرفة الحقيقية التي لا يحتاج بعدها إلى أي معرفة أخرى. كيف لا وهي معرفة تفجرت من عرش الرحمن، ورشحت على لسان الرسـول الكـريم صلى الله عليه وسلم أما أهل البدعة فهم يجعلون آراءهم ومواجيدهم وعقولهم وأذواقهم، هي الأصل الذي يستمدون منه تصورهم للوجود كله، ثم ينظرون في الكتاب والسنة فإن وجدوا فيهما ما يوافق مذهبهم، أو هواهم أو مواجيدهم، اتخذوه حجة على صحة مذهبهم وسلامة منزعهم، وإن وجدوهما يخالفان ما ذهبوا إليه، أعرضوا عنهما بدعوى تفويض أمره إلى الله تعالى، أو حرفوهما بدعوى التأويل.
يقول ابن تيمية : " فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلى تبعا لما جاء به الرسول، ولا يتقدم بين يديه، بل ينظر ما قال، فيكون قوله تبعا لقوله، وعلمه تبعا لأمره. فهكذا كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين، لهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله، ولا يؤسس دينا غير ما جاء به الرسول، فمنه يتعلم وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر وبه يستدل، فهذا أصل أهل السنة .
وأهل البدع لا يجعلون اعتمادهم في الباطن ونفس الأمر على ما تلقوه عن الرسول، بل على ما رأوه أو ذاقوه، ثم إن وجدوا السنة توافقهم وإلا لم يبالوا بذلك، فإذا وجدوها تخالفه أعرضوا عنها تفويضا، أو حرفوها تأويلا" .
وابن تيمية إذ يحصر الأسباب التي تجعل التأويل مردودا في المنهجية المتبعة في التفسير - أي أنها كلها أسباب خارجية عن النص، وليست متولدة منه - ينطلق من قاعدة أساسية سطرها عند تحديد موقفه من التأويل، والتي تنص على أن كل ما في القرآن يستطيع أهل العلم وأهل الإختصاص الوقوف على معناه، وأنه ليس في القرآن ما لا يدرك علمه .
سابعا: مرتكزات التفريق بين نوعي التأويل عند صاحب مقدمة "كتاب المباني " :
وهذا المؤلف المجهول ـ لذي يتضح لنا من طريقة معالجته لقضية التأويل أنه يتبنى منهج أهل السنة في التفسير ـ يرى أن السبب في رد التأويل هو سبب منهجي، ذلك أن المفسر قد يحمل معنى الآية على حديث معين، أو على معنى لغوي معين ثم يجزم بأن ذلك هو وحده مراد الله . والتعامل مع كتاب الله تعالى بهذه الصورة يعد من قلة الأدب، فضلا عما فيه من بعد عن الموضوعية، وعن البحث العلمي النزيه الذي لا يقر الآراء الشخصية ـ ولو كانت نابعة عن اجتهاد ودراسة وبحث ـ ويجعلها وحدها الصحيحة دون غيرها، فيعطل بذلك المسيرة العلمية التي هي مظنة الخصب الفكري، والنماء العلمي والمنهجي ". وقال بعض العلماء: ما روى في كراهة التفسير فعلى جهات:
أحداها: أن تفسر ذلك بأحاديث متفردة على الجزم والقطع، لا على أن ذلك كما روى، والآية تحتمل غيره، أو على الجهل بكلام العرب، وحجج العقول.
فأما على الوجه الآخر من اشتراط معاني لفظة من ألفاظ اللغة وأحكامه من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعميم خاصه وتخصيص عامه، وإجازة ما احتمل المعاني، ورد ذلك إلى أنه لا يجوز أن يكون أحد تلك المعاني بغير قطع، أو كلها إن كانت جائزة، ورد ذلك إلى الله صلى الله عليه وسلم ، إذ لم يصمم على شيء من ذلك، وليس في ظاهر الآية دلالة عليه، فذلك هو الجائز ".
من خلال هذا العرض المفصل للأسباب النصية والمنهجية، أو الداخلية النابعة من النص، والخارجية المفروضة عليه من الخارج، وغير المنسجمة معه، يمكننا حصر أنواع التأويل الباطلة في النقط التالية:
1- التأويل مع الجهل بالعلوم الضرورية ـ أو ما يعرف بعلوم الآية ـ لكل من يروم تفسير الذكر الحكيم، وهي تبدأ بعلوم اللغة كلها مرورا بالسيرة والفقه وأصول الفقه، وانتهاء بعلوم القرآن كلها.
2- تأويل المتشابه من غير سند من الكتاب أو السنة .
3- حمل المعنى القرآني على ظاهر اللغة ، والتعسف في تفسيره تفسيرا لغويا بحتا من غير الرجوع إلى علوم القرآن والسيرة، والفقه وأصول الفقه، وإلى أقوال العلماء .
4- التفسير المذهبي الذي يحكم الرأي والهوى في تفسير القرآن الكريم، ومعارضته بالرأي أو العقل أو القياس، أو الوجد والذوق وغير ذلك.
5- تخصيص اللفظ القرآني العام من غير حجة أو دليل، فضلا عن أن السياق لا يحتمل تخصيصه .
6- التلفيق بين لفظتين كل منهما وردت في سياق مخالف للسياق الذي وردت فيه الأخرى .
7- عدم التقيد بمصادر التفسير وفق الترتيب المتفق عليه من طرف أهل السنة، حيث يفسر القرآن بالقرآن، فإن لم نجد فسرناه بالسنة، فإن لم نجد فسرناه بأقوال الصحابة، فإن لم نجد فبأقوال التابعين فإن لم نجد جاز الاجتهاد لمن توفرت فيه شروطه.
8- تفسير الآية من القرآن ثم القطع بأن ذلك هو مراد الله، وفي ذلك غلق لباب الإجتهاد فضلا عما فيه من قلة أدب في التعامل مع كلام الله سبحانه .
 
حكم التأويل :

حكم التأويل :

لما كان أهل السنة قد فرقوا بين نوعين من التأويل ـ فسموا الأول بالتأويل المقبول مرة وبالتأويل المنقاد مرة أخرى، وسموا الثاني بالتأويل المردود في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى سموه بالتأويل المستكره أو المذموم ـ فإن حكمهم يختلف باختلاف مجال التأويل، فإذا كان التأويل تتوفر فيه الأسباب الداعية إلى رده وعدم الأخذ به ـ وهي التي فصلنا القول فيها عند كثير من علماء ومفسري أهل السنة، ثم أجملناها في ثمان نقط هي جماع ما نصوا عليه من أسباب نصية ومنهجية تقتضي رد هذا التأويل وعدم الأخذ به - فإننا نجدهم يحرمون هذا النوع من التأويل . يقول ابن تيمية في "مقدمة في أصول القرآن " : " أما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، حدثنا عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ) ".
وأما إذا سلم التأويل من العيوب الثمانية القادحة فيه، فإن أهل السنة حكموا بجوازه بل اعتبروه واجبا يتعين على علماء الأمة القيام به، وذلك لما فيه من إضافة علمية، وتوسيع لمجال البحث عن الحقيقة، فضلا عما فيه من إقرار ضمني بعظمة القرآن الكريم وإعجازه الذي يتفجر جواهره ودرره لطلابه بوما بعد آخر، وجيلا بعد جيل، بحيث يجد فيه كل طالب حقيقة بغيته وكل جيل مراده .
يقول محيي الدين الكافيجي : " أما التفسير بالرآي فيما يحتاج الناس إلى معرفة ما يتضمنه اللفظ من وجوب الاعتقاد والعمل فأمر ورد الشرع بإيجابه ، فضلا عن الجواز ".
ويبين الزركشي مجال التأويل المقبول والذي حكم العلماء بجوازه ـ بل منهم من اعتبره واجبا كما هو الشأن بالنسبة للكافيجي ـ فيقول : " قالوا وهذا غير محظور على العلماء بالتفسير، وقد رخص فيه أهل العلم، وذلك مثل قوله تعالى : { ولا تلقوا بايديكم إلى التهلكة }، قيل : الذي يمسك عن النفقة، وقيل : الذي ينفق الخبيث من ماله، وقيل: الذي يتصدق بماله كله ثم يتكفف الناس. ولكل منه مخرج ومعنى ... فهذا وأمثاله ليس محظورا على العلماء استخراجه بل معرفته واجبة، ولهذا، ولهذا قال تعالى : { وابتغاء تأويله }" .
والأمثلة التي ضربها الزركشي لأنواع التأويل الجائزة بل الواجب على العلماء استنباطها، إن هي إلا جزء من اختلاف السلف في التفسير، حيث نجد لهم أقوالا عدة في تفسير آية واحدة، قد يظنها البعض أقوالا مختلفة ومتعارضة ولكن المدقق يكتشف أنه لا تعارض بينها، وكلها مما يتحمله النص، وينتصب له الدليل نقلا أوعقلا .
 
منهج أهل السنة في التفسير (2):

منهج أهل السنة في التفسير (2):

سطر أهل السنة منهجهم في التفسير ـ ونحن هنا نقصد بالمنهج الطريقة العلمية المحددة والمرسومة مسبقا، وفقا لقواعد علمية مستمدة من الخبرة في معالجة النصوص والقضايا ـ والهدف منه وقاية المفسر من الوقوع في الخطأ، وقد أولى الزركشي هذا الجانب المنهجي أهمية خاصة، بحيث أفاض فيه القول وبين الطريقة العلمية التي ينبغي على المفسر التزامها، وذلك حتى لا يقع في المحظور. والغريب في تناول الزركشي لهذه القضية المنهجية هو الدقة والإحاطة والشمول، بحث تناول القضية من جميع أطرافها، فبين أن التفسير قسمان، قسم ورد تفسيره بالنقل، والآخر لم لم يرد فيه شيء. فالأول يتعين على المفسر أن لا يبادر إلى قبوله من الوهلة الأولى، بل عليه أن يقوم بدراسته دراسة نقدية من حيث المتن والسند حتى إذا ثبت لديه صحته أخذ به، ولا يجوز له تجاوزه إلى غيره، وهذا فيما يخص السنة . أما فيما يخص قول الصحابي أو التابعي فإنه يسطر فيه المبادئ التي قررها أهل السنة في التعامل معها. وهي التي سنتحدث عنها في الفصل الخاص بمصادر التفسير.
وفي ذلك يقول الزركشي : "واعلم أن القرآن قسمان : أحدهما ورد تفسيره بالنقل عمن يعتبر تفسيره، وقسم لم يرد . والأول ثلاثة أنواع : إما أن يرد التفسير عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو عن الصحابة أو عن رؤوس التابعين، فالأول يبحث فيه عن صحة السند . والثاني ينظر في تفسير الصحابي، فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتماده، وإن فسره بما شاهده من الأسباب والقرائن لا شك فيه، وحينئذ إن تعارضت أقوال جماعة من الصحابة، فإن أمكن الجمع فذاك، وإن تعذر قدم ابن عباس، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشره بذلك حيث قال :( اللهم علمه التأويل ) ، وقد رجح الشافعي قول زيد في الفرائض، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( أفرضكم زيد ). فإن تعذر الجمع جاز للمقلد أن يأخذ بأيها شاء . وأما الثالث وهم رؤوس التابعين إذا لم يرفعوه إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا إلى أحد من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فحيث جاز التقليد فيما سبق فكذا هنا، وإلا وجب الاجتهاد".
وأما ما لم يرد في شأنه أي شيء مأثور ، فإنه يتعين الإجتهاد فيه، وأول طرق الإجتهاد هو تحقيق معاني مفرداته، وذلك بدراستها دراسة معجمية مستوفية، لأن ذلك هو الأساس الذي يمكنه من الاجتهاد الصحيح. كما أن الشرح المعجمي للألفاظ يزوده بأساس المعنى، ومن ثم وجدنا الزركشي ينص على أن أول ما " يجب على المفسر البداءة به العلوم اللفظية، وأول ما يجب البداءة به منها تحقيق الألفاظ المفردة، فتحصيل معاني المفردات من ألفاظ القرآن من أول المعادن لمن يريد أن يدرك معانيه، وهو كتحصيل اللبن من أوائل المعادن في بناء ما يريد أن يبنيه "
والزركشي لا يقرر هذا المبدأ المنهجي نظريا فقط، بل هو يقوم بمحاولة تطبيقية لنظريته، وذلك حتى يتسنى للباحثين من بعده الإستفادة منها، فيبين أن هناك ألفاظا مشكلة، وذلك لاحتمالها لمعنيين اصطلح عليهما بالظاهر والمؤول . والظاهر هو اللفظ الذي يحمل على المعنى المعجمي الصرف. أما المؤول فهو الذي لا يسعفنا المعجم في تحديد معناه، مما يضطرنا إلى الإستفادة من أداة منهجية تسعفنا في تحديد المعنى القرآني للكلمة، وهي دلالة السياق التي سيأتي الحديث عنها .
"وقد يكون اللفظ محتملا لمعنيين، وهو في أحدهما أظهر فيسمى الراجع ظاهرا، والمرجوح مؤولا.
مثال المؤول قوله تعالى :{ وهو معكــم أينما كنتم } فإنه يستحيل حمل المعية على القرب بالذات، فتعين صرفه عن ذلك، وحمله إما على الحفظ والرعاية، أو على القدرة والعلم والرؤية، كما قال تعالى: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } ...
ومثال الظاهر قوله تعالى : (فمن اضطر غير باغ ولا عاد} فإن الباغي يطلق على الجاهل، وعلى الظالم وهم فيه أظهر وأغلب، كقوله : {ثم بغى عليه لينصرنه الله} ...
وقد يكون الكلام ظاهرا في شيء فيعدل به عن الظاهر بدليل آخر كقوله تعالى :{الحج أشهر معلوما} والأشهر اسم لثلاثة ، لأنه أقل الجمع .
وكقوله تعالى :{ فإن كان له إخوة فلأمه الســدس }، فالظاهر اشتراط ثلاثة من الإخوة، لكن قام الدليل من خارج على أن المراد اثنان، لأنهما يحجبانها عن الثلث إلى السدس".
وفي هذه الدراسة اللغوية المعجمية، يحذر الزركشي من أن يفلت زمام الأمر من يد المفسر، فيبتدع منهجا لا يوحى به النص، مما يؤدي إلى مفارقات في النتائج والاستنباطات، ومن ثم يتعين عليه مراعاة مطابقة التفسير للنص المفسر، بحيث يقع الحافر على الحافر من غير زيادة أو نقصان في المبنى والمعنى، لأن ذلك قمين بالإزراء بكلام الله والبعد به عن مقصده وهدفه، بل قد يأتي بعكس النتــائج والأهــداف التي يتوخاها النص القرآني . يقول الزركشي : " ويجب أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسر، وأن يتحرز في ذلك من نقص المفسر عما يحتاج إليه من إيضاح المعنى المفسر، أو أن يكون في ذلك المعنى زيادة لا تليق بالغرض، أو أن يكون في المفسر زيغ عن المعنى المفسر وعدول عن طريقته، حتى يكون غير مناسب له ولو من بعض أنحائه، بل يجتهد في أن يكون وفقه من جميع الأنحاء، وعليه بمراعاة الوضع الحقيقي والمجازي، ومراعاة التأليف، وأن يوافي بين المفردات وتلميح الوقائع، فعند ذلك تتفجر له ينابيع الفوائد".
ثم ينتقل الزركشي إلى الحديث عن دلالة السياق وإبراز أهميتها في فهم وإدراك معنى آي الذكر الحكيم، بل يعتبرها من أعظم الأدوات المنهجية التي يتعين على المفسر أن يتسلح بها وهو يخوض غمار عملية من أصعب وأخطر العمليات التفسيرية، ذلك أنها تتعلق بتفسير كلام رب العالمين. وهذا التفسير الخطأ فيه ليس سهلا أو هينا، وذلك لما قد تترتب عنه من أحكام وأمور وقضايا تتعلق بحياة المسلم الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية الدينية . فدلالة السياق إذن هي التي "ترشد إلى تبين المجمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظيره، وغالط في مناظراته. وانظر إلى قوله تعـــالى : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } ، كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير".
ويطلب الزركشي من مفسر القرآن الكريم أن يكون حاضر البديهة، شديد الملاحظة متوقد الإحساس، وذلك حتى يتمكن من التفاعل معه تفاعلا حقيقيا، وإيجابيا يفضي إلى رفع الحجاب عن كل الحقيقة أو بعضها. ومن مظاهر حضور البديهة "ملاحظة النقل عن المعنى الأصلي، وذلك أنه قد يستعار الشيء لمشابهة، ثم يستعار من المشابة لمشابه المشابة، ويتباعد عن المسمى الحقيقي بدرجات، فيذهب عن الذهن الجهة المسوغة لنقله من الأول إلى الآخر، وطريق معرفة ذلك بالتدريج، كقوله تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين }. وذلك أن أصل "دون" للمكان الذي هو أنزل من مكان غيره، ومنه الشيء الدون للحقير، ثم استعير للتفاوت في الأحوال والرتب، فقيل زيد دون عمرو في العلم والشرف، ثم اتسع فيه فاستعير في كل ما يتجاوز حدا إلى حد، وتخطى حكما إلى حكم آخر، كما في الآية المذكورة، والتقدير لا تتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين".
ويختم الزركشي حديثه عن المنهج السني المقترح لتفسير الذكر الحكيم بالنص على أن معرفة أسباب النزول أداة منهجية عظيمة، تمكن الباحث من الوقوف على الظروف والملابسات المواكبة لنزول القرآن الكريم، مما يجعله يعيش في بيئة القرآن ساعة نزوله، وكل ذلك يساهم في إذكاء التفاعل مع الخطاب القرآني، بحيث تتفجر معانيه، وتتفتق غرره، وتتكف درره . وفي ذلك يقول :" معرفة النزول، وهو من أعظم المعين على فهم المعنى، وسبق منه في أول الكتاب جملة، وكانت الصحابة والسلف يعتمدونه، وكان عروة بن الزبير قد فهم من قوله تعالى: { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } أن السعي ليس بركن، فردت عليه عائشة ذلك وقالت : لو كان كما قلت، لقال : " فلا جناح عليه ألا يطوف بهما " وثبت أنه إنما أتى بهذه الصيغة، لأنه كان وقع فزع في قلوب طائفة من الناس كانوا يطوفون قبل ذلك بين الصفا والمروة للأصنام . فلما جاء الإسلام كرهوا الفعل الذي كانوا يشركون به، فرفع الله ذلك الجناح من قلوبهم، وأمرهم بالطواف. رواه البخاري في صحيحه، فثبت أنها نزلت ردا على ما كان يمتنع من السعي".
والملاحظ أن تناول الإمام الزركشي لقضية المنهج السني المقترح في تفسير القرآن الكريم يتسم بالإحاطة والشمول، بحيث يلم بدراسة القضايا من كل أطرافها. فيبدأ بالطرح النظري، ثم يعقبه بضرب الأمثال، فيكتمل بناء النموذج المقترح نظريا وتطبيقيا. وأما الراغب الأصفهاني فيضع أيدينا على منهج في التأويل يمكن أن يجنبنا الاختلاف والفرقة في تأويل النصوص المشكلة، وذلك حيث يقول : " والوجوه التي يعتبر فيها تحقيق أمثالها أن ينظر فإن كان ما ورد فيه ذلك أمرا أو نهيا عقليا فزع في كشفه إلى الأدلة المعقلية، فقد حث تعالى على ذلك في قوله تعالى: { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألبــاب }. وإن كان أمرا شرعيا فزع في كشفه إلى آية محكمة أو سنة مبينة. وإن كان من الأخبار الاعتقادية فزع إلى الحجج العقلية. وإن كان من الاعتبارية فزع إلى الأخبار الصحيحة المشروحة في القصص".
ومن هنا نستخلص أن من أول مهمات المفسـر ـ خاصة فيما يتعلق بالنصوص المشكلة ـ دراسة النصوص دراسة داخلية نصية تمكنه من تحديد طبيعتها، لأن ذلك كفيل بإرشادنا إلى المنهج الذي يتعين علينا أن ندرسها به، وبذلك يكون تفسيرنا منهجيا وعلميا وموضوعيا في الوقت نفسه.
 
ذكر ابن جزي رحمه الله في مقدمة تفسيره التسهيل 12 سببا من أسباب اختلاف المفسرين
وتطرق شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله في مقدمتة إلى شيء من ذلك .وكذا السيوطي في الإتقان والزركشي في البرهان .
وللشيخ سعود بن عبدالله الفنيسان وفقه الله رسالة علمية نال بها درجة الدكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بعنوان اختلاف المفسرين أسبابه وآثاره .
وللدكتور الشايع وفقه الله بحث مطبوع بعنوان أسباب اختلاف المفسرين
 
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فأرى أن الأستاذ أحمد قد اقتصر في ذكر أسباب الاختلاف في التفسير على الاختلاف المذموم، ولم يتحدث عن غيره..
وأرى أن الاختلاف الممدوح أوسع بكثير من المذموم، ومن هنا اختلف الصحابة رضي الله عنهم في فهم بعض آيات القرآن الكريم، وتعددت أقوالهم في الآية الواحدة أو اللفظة الواحدة، ولم يكن ثمة سبب من الأسباب التي أشار إليها الكاتب.
ولكن هنا أسباب أخرى، ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته، وذكرها الشيخ الدكتور/ مساعد الطيار في كتابه (فصول في أصول التفسير) وغيرهما، مما يسوغ الاختلاف بين العلماء.
وعليه فإن القول (بأن الاختلاف في التفسير ليس ناتجا عن النص ذاته، بل هو ناتج عن المنهج المتبع في التفسير) كما ذكر الكاتب ليس على إطلاقه..
بل إن من إعجاز القرآن احتمال اللفظ لأكثر من معنى، وإفادة المعنى المتعددة في لفظ واحد، وهذا مما يميز القرآن الكريم
وليس عيبا أن تتعدد الأقوال ما دام الاختلاف سائغا مبينا على أصول وقواعد اللغة العربية، موافقا للكتاب والسنة ... فإذا خرج عن ذلك كان اختلافا مذموما.
 
مصــــادر التفسيــــــر

مصــــادر التفسيــــــر

ذهب الزركشي إلى أن تفسير القرآن قسمان، منه ما ورد تفسيره بالنقل، ومنه ما لم يرد ، وبهذه الطريقة المنهجية الرائعة استطاع هذا العالم الجليل أن يبين أن مصادر التفسير الأساسية - والتي كاد العلماء يجمعون عليها أمرهم - خمسة :
1- القرآن الكريم .
2- السنة النبوية الشريفة .
3- أقوال الصحابة .
4- أقوال التابعين .
5- اللغة وعلومها .

وفي ذلك يقول : "واعلم أن القرآن قسمان أحدهما ورد تفسيره بالنقل عمن يعتبر تفسيره ، وقسم لم يرد.

والأول على ثلاثة أنواع : إما أن يرد التفسير عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أو عن الصحابة ، أو عن رؤوس التابعين . فالأول يبحث فيه عن صة السند، والثاني ينظر في تفسير الصحابي ، فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتمادهم ، وإن فسره بما شاهده من الأسباب والقرائن فلا شك فيه ، وحينئد إن تعارضت أقوال جماعة من الصحابة فإن أمكن الجمع فذاك، وإن تعذر قدم ابن عباس ، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشره بذلك حيث قال :"اللهم علمه التأويل" . وقد رجح الشافعي قول زيد في الفرائض ، لقوله -صلى الله عليه وسلم- "أفرضكم زيد"، فإن تعذر الجمع جاز للمقلد أن يأخذ بأيها شاء . وأما الثالث وهم رؤوس التابعين إذ لم يرفعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا إلى أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- فحيث جاز التقليد فيما سبق، فكذا هنا، والأوجب الإجتهاد .الثاني : مالم يرد فيه نقل عن المفسرين . وهو قليل، وطريق التوصل إلى فهمه النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب ومدلولاتها، واستعمالها بحسب السياق..." .
أولا : القــــــــرآن :
يقسم العلماء القرآن الكريم من حيث الوضوح والبيان إلى قسمين: الأول بين بنفسه ، والثاني يحتاج إلى بيان ، وهذا البيان قد نجدله في القرآن ، أو في السنة أو غيرها من المصادر التي أوردناها سابقا .
فالقرآن الكريم كلما قرأه الإنسان قراءة واعية، وصادقة مترفعة عن كل هوى ، إلا تفتقت له أسراره ، وعندها يتضح له أن هناك بعض الآيات التي أشكل عليه أمرها في سورة من السور، قد ارتفع إشكالها بقراءة آية أخرى تكون موضحة ومفسرة لها، كما يتبين له أن ما أجمل في موضع قد فصل في آخر، وما اختصر في مكان قد بسط في مكان آخر. ومن ثم دأب المفسرون على القول إن القرآن يفسر بعضه بعضا، وفي ذلك يقول الدكتور صبحي الصالح : " "القرآن يفسر بعضه بعضا" ،
يردد المفسرون هذه العبارة كلما وجدوا أنفسهم أمام آية قرآنية تزداد دلالتها وضوحا بمقارنتها بآية أخرى، وإن لهم أن ينهجوا في تأويل القرآن هذا المنهج لأن دلالة القرآن تمتاز بالدقة والإحاطة والشمول ، فقلما نجد فيه عاما أو مطلقا أو مجملا ، ينبغي أن يخصص أو يقيد أو يفصل ، إلا تم له في موضع آخر ما ينبغي له من تخصيص أو تقييد أو تفصيل ولقد كانت هذه الدلالة الشاملة جديرة أن توحي إلى العلماء وضع مصطلحات خاصة يرمز كل منها إلى السمة البارزة في كل فكرة يدعو إليها القرآن ، وفي كل مشهد يصوره ، ومن هنا نشأ في الدراسات الإسلامية ما يسمى بمنطوق القرآن ومفهومه ، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، ومجمله ومفصله."

فإذا كانت هذه هي طبيعة الذكر الحكيم ، فإنه يتعين على مفسره جمع الآيات التي أشكل عليه فهمها ، ثم يعرضها على الآيات الأخرى ليزيل إشكالها ويرفع غموضها، وبذلك يخرج بتفسير قرآني للقرآن الكريم. ومن ذلك أن يحمل المجمل على المبين ليفسره، ومثاله قوله تعالى :{فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} ، فسرتها الآية الثالثة والعشرون من سورة الأعراف : {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}، كما أنه يحمل العام على الخاص، وقد غالى بعض العلماء في ذلك وهو القاضي جلال الدين البلقيني لدرجة لا يتصور معها بقاء العام على عمومه دون تخصيص ، ومثاله -أي العام الباقي على عمومه- عزيز، إذ ما من عام وإلا يتخيل فيه التخصيص . فقوله تعالى :{يا أيها الناس اتقوا ربكم} قد يخص منه غير الكافر. و {حرمت عليكم الميتة } خص منه حالة الاضطرار، وخص منه السمك والجراد. و{حرم الربا} وخصص منه العرايا" .

ويؤكد ذلك الدكتور صبحي الصالح فيقول :"ومن المحقق أن العالم غالبا تصحبه قرينة تمنع بقاءه على عمومه نحو {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله}. فلا يراد من أهل المدينة والأعراب إلا القادرون على الجهاد ، أما العجزة فلا يشملهم التعبير لأن العقل يقضي بخروجهم ".

وقد يحمل المطلق على المقيد كلفظ مسفوح في قوله تعالى : {قل لا أجد في ما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير}، فلفظ مسفوحا "قيد لفظ الدم المطلق في قوله جد وعلا :{حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخزير} .

ومنه كذلك الجمع بين ما يتوهم أنه مختلف كالآيات التي تتحدث عن خلق آدم ، ومنه كذلك حمل بعض القراءات على بعضها ، مثال ذلك قراءة ابن مسعود -رضي الله عنه- : (أو يكون لك بيت من ذهب) المفسرة للفظ الزخرف في القراءة المشهورة : {أو يكون لك بيت من زخرف }. ومن القراءات ما يختلف زيادة ونقصانا ، فتكون الزيادة في إحداها مفسرة ومبينة للقراءة الأخرى .

وهناك من العلماء من يرى أنها من أوجه القرآن. والبعض يرى أنها ليست قرآنا ، بل هي من قبيل التفسير، إلا أنهم لا يختلفون في كونها مرجعا مهما من مراجع تفسير القرآن بالقرآن، وفي ذلك يقول الدكتور محمد حسين الذهبي : "ومما يؤيد أن القراءات مرجع مهم من مراجع تفسير القرآن بالقرآن ما روى عن مجاهد أنه قال : "لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود قبل أن أسأل ابن عباس ما احتجت أن أسأله عن كثير مما سألته عنه".

وهكذا يتضح لنا أن القرآن هو المصدر الأول للتفسير ، وهو عمل يتميز بصفتين : بالأهمية والصعوبة . وتتمثل أهميته في أننا إذا توصلنا إلى استخراج تفسير قرآني للقرآن الكريم ، فإن ذلك سيخلصنا من كثير من التناقضات التي نجدها في بعض التفاسير، كما أنه سيوقفنا على المعنى الحق للذكر الحكيم .

أما صعوبته فتكمن في تفرق الآيات التي يفسر بعضها بعضا مما يتطلب عملا دؤوبا من أجل جمعها ثم تصنيفها حسب الموضوعات ثم النظر فيها من حيث منطوق القرآن ومفهومه، ومجمله ومفصله ، ومطلقه ومقيده، وعامه وخاصه.

ثانيـــا : الســـنة النبويـــة الشريــفــة :
يعتبر المصطفى -عليه الصلاة والسلام- أعلم البشر بكتاب الله تعالى جملة وتفصيلا، فقد وقف على معرفة مطلقة ومقيده ، وعامه وخاصه، ومفهومه ومنطوقه ، وحلاله وحرامه، ونهيه وأمره، وكان كلما أشكل عليه شيء من الذكر الحكيم راجع جبريل - عليه السلام- الذي يبلغه عن ربه ما يرفع الإشكال، ويوضح الغرض ويتم الحجة . ومن ثم يحق لنا أن نعتبر الرسول- عليه الصلاة والسلام - أول مفسر للذكر الحكيم ، وقد فهم الصحابة -رضوان الله عليهم- ذلك فكانوا يراجعونه -عليه الصلاة والسلام- في كل ما أشكل عليهم فهمه من القرآن الكريم، حتى إننا لنجد في كتب الحديث المعتبرة بابا خاصا بالتفسير ، وهو متضمن للكثير من التفسير المأثور عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-مثال ذلك ما رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (الصلاة الوسطى صلاة العصر)" .

وبذلك أصبحت السنة -من أقواله وأفعاله وتقريراته -عليه الصلاة والسلام- مصدرا أساسيا من مصادر التفسير ، فإذا "لم يستطع القارئ أن يفهم القرآن من القرآن ، فإنه يتجه إلى السنة كما أسلفنا تحقيقا لقوله تعالى :{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} . وقد قال -صلى الله عليه وسلم- : (ألا إني أوتيت علم الكتاب ، وأوتيت مثله معه )".
والأخذ بالسنة في التفسير يحتاج إلى شيء من التفقه في علوم الحديث وذلك حتى يميز صحيحها من ضعيفها وموضوعها، وقد حذر العلماء من النقل عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بغير علم، لأن ذلك قد يوقعهم في الكذب عليه من غير أن يشعروا ، ومثال تحذيراتهم ما أثبته الزركشي في البرهان حيث يقول :"وهذا هو الطراز الأول، لكن يجب الحذر من الضعيف فيه والموضوع ، فإنه كثير، وإن سواد الأوراق سواد في القلب، قال الميموني : سمعت أحمد بن حنبل يقول : ثلاث كتب ليس لها أصول : المغازي والملاحم والتفسير. قال المحققون من أصحابه : ومراده أن الغالب أنها ليس لها أسانيد صحاح متصلة ، ولا فقد صح من ذلك كثير".

أوجــــه بيــــان السنـــة للقــــرآن
يمكننا النظر إلى بيان السنة للقرآن الكريم من وجهين :
الأول :
هو ما يتعلق ببيان السنة النبوية الشريفة لمجمل القرآن الكريم نحو بيانه -صلى الله عليه وسلم - لمواقيق الصلاة ، وعدد ركعاتها وكيفيتها ، وفي ذلك يقول -عليه الصلاة والسلام - :(صلوا كما رأيتموني أصلي ) .

كما أنها توضح مشكله ، ومن ذلك تفسيره لقوله تعالى : {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجرثم أتموا الصيام إلى الليل}.

فقد عمل عدى ابن حاتم بحرفية النص ، وقال : يا رسول الله إني أجعل تحت وسادتي عقالين ، عقالا أبيض وعقالا أسود أعرف الليل من النهار. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : ( إن وسادتك لعريض، إنما هو سواد الليل وبياض النهار) .
وقد كان بعض الصحابة يراجع الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما أشكل عليه من القرآن ، مثلما حدث من عمر بن الخطاب الذي لم يتبين له معنى الكلالة فراجع الرسول الكريم .

كما أن السنة تخصص عا القرآن الكريم وتقيد مطلقه. ومثال ذلك تخصيصه -صلى الله عليه وسلم - لكلمة "الظلم " في قوله تعالى : {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} بالشرك، وكذلك تقييده "اليد" في قوله تعالى : {فاقطعوا أيديهما} باليد اليمنى . كما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم - قد يبين معنى لفظة مبهمة أو غامضة ، كبيان المغضوب عليهم باليهود ، والضالين بالنصارى . وذلك في قوله تعالى : {غير المغضوب عليهم ولا الضالين }.
وقد يكون بيانه -عليه الصلاة والسلام - للقرآن الكريم عبارة عن تأكيد لما جاء فيه نحو قوله : (إنه لا يحل مال امرىء إلى بطيب منه) ، فإنه يوافق قوله تعالى : {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} .
الثــــانــــي :
من حيث الموضوعات الكبرى التي تعرض لها الذكر الحكيم وهي ثلاث :
1- الأحكام الفقهية المتعلقة بالحلال والحرام ، وبالعبادات والمعاملات : ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم - : (لا وصية لوارث) فهذا بيان منه أن آية الوصية للوالدين والأقربين منسوخ حكمها وإن بقيت تلاوتها.
وقد بين كذلك أحكاما زائدة على ما جاء في القرآن الكريم، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع، والقضاء باليمين مع الشاهد. وقد يكون بيانه -صلى الله عليه وسلم- لما ورد من أحكام فقهية في القرآن الكريم إما "بالقول وحده أو بالفعل وحده ، أو بهما معا، كما صلى وقال :(صلوا كما رأيتموني أصلي) وحج وقال : (خذوا مناسككم )".
2- ما يتعلق بالعقيدة وضرب الأمثال لها : من ذلك ما ورد في السنة من وصف الجنة وما بها من نعيم مقيم، والنار وما بها من جحيم وعذاب أليم ، فعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :(يأكل أهل الجنة فيها ويشربون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتبولون، ولكن طعامهم ذلك جشاء كرشح المسك ، يلهمون التسبيح والتكبير كما يلهمون النفس).
3- والقسم الثالث من بيان السنة للقرآن الكريم هو ما يتعلق بالقصص القرآني : وقد ورد شيء قليل منه في كتب السنة المعتبرة ، ومن ذلك ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه فقال : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار، قال أخبرني سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس -رضي الله عنهما- إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو صاحب بني إسرائيل، إنما هو موسى آخر، فقال : كذب عدو الله . حدثنا أبي بن كعب ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل ، فسئل أي الناس أعلم ؟ فقال : أنا . فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه . فقال له : بلى لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك ... إلى آخر الحديث ) .

ومما ورد في كتب السنة الصحيحة من تفسيره -صلى الله عليه وسلم - لبعض آي القرآن الكريم يتبين لنا أنه قد أوتي جوامع الكلم، وأن من القرآن ما لا يتوصل إلى تفسيره إلا عن طريقه . من ذلك "تفصيل وجوه أمره ونهيه ، ومقادير ما فرضه الله من أحكام . وهذا البيان هو المقصود بقوله -صلى الله عليه وسلم - :(ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)" .
وبذلك تكون السنة هي المصدر الوحيد لتفصيل أحكام الحلال والحرام، والعبادات والمعاملات ، ومن تجاوز تفسير السنة لتلكم الأمور المجملة فقد افترى على القرآن ، وتجنى على صحب الرسالة ذلك "أن الإتجاه إلى تفسير القرآن من غير اعتماد على السنة، والإستعانة بها في هذا الباب خروج على الشريعة . فقد قال تعالى : {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم } .

والذين يتركون السنة زاعمين أنهم يأخذون بالقرآن يهجرون القرآن والسنة معا ويحاربون تبليغ النبي -صلى الله عليه وسلم - لرسالته".

ومما سبق يمكننا القول إن القرآن خير مفسر لكتاب الله تعالى ، لأنه سبحانه وتعالى ، أعلم بما جاء في كتابه، ويأتي بعده في الأهمية والأفضلية السنة النبوية المطهرة ، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يتصف بالعصمة ، ومعرفته مستمدة من علم الله سبحانه وتعالى ، كما أن وظيفتــه الأساسيــة هي التبليــغ والشـرح والبيـان، ومن ثم فتفسيـره - صلى الله عليه وسلم- للقرآن أمر توقيفي لا مجال للإجتهاد فيه.

هل فسر الرسول -صلى الله عليه وسلم - القرآن الكريم ؟
اختلف أهل السنة في الكمية التي فسرها الرسول -صلى الله عليه وسلم- من القرآن الكريم. وقد نشأ هذا الخلاف بين العلماء بعد أن تناقل الناس الحديث الذي روته السيدة عائشة -رضي الله عنها- والذي مفاده أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- ما كان يفسر من كتاب الله إلا آيا يعلمه إياهن جبريل. ومن ثم انقسموا إلى فريقين :
1- الفريق الأول يقول إن الرسول قد فسر القرآن كله، وقد قال به جمع من السلف، وحكى ذلك عنهم القرطبي في تفسيره حيث قال :"وروى الأوزاعي عن حسان ابن عطية قال كان الوحي ينزل على رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك(2) ، وروى سعيد بن منصور : حدثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن مكحول قال : القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن ، وبه عن الأوزاعي قال : قال يحيى بن أبي كثير : السنة قاضية على الكتاب وليس الكتاب بقاض على السنة . قال الفضل بن زياد : سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - وسئل عن هذا الحديث الذي روى أن السنة قاضية على الكتاب ، فقال : ما أجسر على هذا أن أقوله ، ولكن أقول : إن السنة تفسر الكتاب وتبينه " .

وهذه الأقوال كلها وإن كانت لم تصرح بأن السنة قد فسرت القرآن كله، إلا أننا إذا أمعنا فيها النظر وجدناها تفيد ذلك .

ولعل الإمام الطبري (224هـ/310هـ) هو أول مفسر بين أن السنة مفسرة لكل القرآن الكريم، وإن كان لم يصرح بذلك، وإنما يفهم من خلال مناقشته لحديث السيدة عائشة السابق الذكر. وهذا نص كلامه: "أما الخبر الذي روى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يكن يفسر من القرآن شيئا إلى آيا بعدد ، فإن ذلك مصحح ما قلنا من القول في الباب الماضي قبل وهو : إن من تأويل القرآن ما لا يدرك علمه إلا ببيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذلك تفصيل جمل ما في آيه من أمر الله ونهيه ، وحلاله وحرامه ، وحدوده وفرائضه ، وسائر معاني شرائع دينه الذي هو مجمل في ظاهر التنزيل ، وبالعباد إلى تفسيره الحاجة ، لا يدرك علم تأويله إلا ببيان من عند الله على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- وما أشبه ذلك مما تحويه آي القرآن من سائر حكمه الذي جعل الله بيانه لخلقه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يعلم أحد من خلق الله تأويل ذلك إلا ببيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا يعلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بتعليم الله إياه ذلك بوحيه إليه ، إما مع جبريل أو مع من شاء من رسله إليه ، فذلك هو الآي التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفسرها لأصحابه بتعليم جبريل إياه ، وهن لا شك آي ذوات عدد ...

ولو كان تأويل الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان لا يفسر من القرآن شيئا إلا آيا بعدد، هو ما يسبق إليه أوهام أهل الغباء، من أنه لم يكن يفسر من القرآن إلا القليل من آيه واليسير من حروفه ، كان إنما أنزل إليه -صلى الله عليه وسلم - الذكر ليترك للناس بيان ما أنزل إليهم، لا ليبين ما أنزل إليهم ... ".

وهو نفس ما يستخلص من مناقشة الإمام عبد الحق بن عطية(481هـ/542هـ) لدلالة الحديث الذي روته السيدة عائشة، من أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يفسر شيئا من القرآن برأيه إلا آيا بعدد علمه إياهن جبريل.

ولعل أول من صرح بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم -قد فسر القرآن كله هو الإمام ابن تيمية ، وذلك في تابه "مقدمة في أصول التفسير" حيث يقول : "يحب أن يعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه ، فقوله تعالى : {لتبين للناس ما نزل إليهم}( يتناول هذا وهذا ".

وإذا كان الرسول قد بين المعاني والألفاظ القرآنية ، فإن ذلك يعني أنه قد فسر لصحابته كل القرآن الكريم : أمره ونهيه ، حلاله وحرامه، محكمه ومتشابهه ناسخه ومنسوخه ، عمومه وخصوصه .

ولا يفهم من هذا أن ابن تيمية يعتبر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد فسر القرآن كله آية آية تفسيرا قوليا ، وإنما قصده أنه قد فسره كله بالمعنى الشامل للسنة، أي بالقول والفعل والإقرار. وفي ذلك يقول الدكتور صبري متولي : "إن التفسير النبوي للقرآن ليس معناه الحجم المقروء الذي وصل إلينا ، بل إن أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وتقريراته تعد تفسيرا للقرآن . وقد قالت عائشة -رضي الله عنها- :(كان خلقه القرآن)" .
ويفهم هذا كله من قول ابن تيمية -رحمه الله- : "كل ما حكم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن : قال الله تعالى : {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} . وقال تعالى : {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون }. وقال تعالى : { وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}. ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (ألا إني أوتيت القرىن ومثله معه) يعني السنة ، والسنة أيضا تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن لأنها تتلى كما يتلى ".

وجدير بالذكر أن ما بين أيدينا من تفسيرات الرسول -صلى الله عليه وسلم- للذكر الحكيم ليست هي كل ما قاله في ذلك، بل هو ما وصلنا عن طريق الرواة ، وهناك احتمال كبير في أن قسما كبيرا من تفسيراته -صلى الله عليه وسلم - للقرآن الكريم قد ضاعت مع موت الصحابة أو استشهادهم في حروب الردة التي استشهد فيها جمع كبير من علماء الصحابة ، وقراء القرآن الكريم ، وحفظة السنة النبوية.

2- وأما الفريق الثاني فيرى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسر جزءا من القرآن الكريم ، وقد قال بذلك الإمام السيوطي ، وصاحب مقدمة كتاب المباني، وهو كتاب مجهول اعتنى آرثر جفري بنشر مقدمته في التفسير، وقد جاء فيها ما نصه : " إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يفسر إلا آيا معدودة من قبله . إن الذين شاهدوا نزول القرآن نجما نجما ، وعاينوا الحوادث التي نزل فيها ، وعرفوا المتقدم فيه والمتأخر، لم يحتاجوا في بيان أحكامه في باب الخصوص والعموم ، والناسخ والمنسوخ إلى ما يحتاج إليه من بعدهم ممن لم يشاهد تلك الأحوال ، لا سيما وهم أرباب اللغة العربية التي نزل بها القرآن ، قد نشأوا عليها حتى كانت لهم طبعا وسجية لم ينكت فيها مراس لغة أخرى بفساد ، فما الذي كان يحوجهم إلى تفسير ما يتلى عليهم مما هم بحقيقته عارفون إلا آيا معدودة قد أجملت فيها أحكام الشريعة بحيث لا يوقف عليه إلا بيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما الذي يغنينا عن طلب ما عرفوه لمشاهدة أحوال النزول ، ولسلامة طباعهم في اللغة العربية بما أمكننا من شدة الجهد لعلنا نقف من ذلك بعد الجهد على بعض ما كانوا يقفون عليه عفوا".

وقد قال بذلك أيضا جماعة من العلماء المحدثين ، ومنهم الدكتور عبد شحاته الذي يرى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يمكنه أن يفسر كل القرآن لأن منه ما استأثر الله سبحانه بعلمه. وفي ذلك يقول :
"والحق أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين الكثير من معاني القرآن لأصحابه كما تشهد بذلك كتب الصحاح، ولم يبين كل معاني القرآن ، لأن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها ، ومنه ما لا يعذر أحد في جهله ، قال ابن عباس (التفسير على أربعة أوجه : وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله)".

وللشيخ متولي شعراوي رأي قويم في هذه المسالة ، فهو ينظر إليها بناء على التفريق بين آيات الأحكام والآيات الكونية ، فإذا جاز لنا أن نقول إن الرسول فسر القرآن كله فإن ذلك سيضعنا أمام مفارقة غريبة ، إذ كيف سيفسير الآيات الكونية ، أيفسرها على حقيقتها التي هي عليها في الواقع، أم يفسرها بما تطيقه عقلية معاصريه ؟، وفي ذلك يقول: "لم يفسر لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن ، لأنه لو فسره لكان يجب أن يفسره بما تطيقه عقول معاصريه، ولو فسره بالأشياء التي توجد في القرن العشرين أو الثلاثين أو الأربعين لتعجب معاصروه أيما تعجب، ولاستعظموه أيما استعظام ، لأنه للآن مازال أناس ينكرون أن الأرض تدور، ولو أنه -صلى الله عليه وسلم - فسره على قدر عقل معاصريه ومعلوماتهم الكونية لحجر علينا ولجمد القرآن ، لأن من يتصدر لتفسير القرآن بعد ذلك سيواجه بأن الرسول فسره هكذا، وعليك ألا تزيدعن ذلك، ولذلك فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترك تفسير القرآن حتى تأخذ كل مرحلة فكرية من لمحات القرآن بقدر ما تستطيع ، وذلك في أمور الكونيات ، أما المطلوب من الأحكام فقد بينها صلوات الله عليه وأوضحها للناس" .

ويستخلص من ذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يفسر القرآن كله،لأنه لو فسره كله لكان أحد أمرين :
1- ستصبح تفاسير القرآن الكريم عبارة عن تحصيل حاصل، لا تضيف شيئا.
2- سينتج عن ذلك جمود القرآن جمودا يجعله متجاوزا بمضي الزمن، فضلا عن أنه يشكل مصادرة خطيرة للعقل البشري.

ويـرى الدكتـور محمـد بلتـاجي أنه ليـس في قولنا بعـدم تفسيره -صلى الله عليه وسلم- لكل القرآن تعارض مع وظيفة الرسول كمبين للذكر الحكيم، وهذا نص كلامه :"ولايعارض هذا كله قوله تعالى : {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} ، لأن البيان المطلوب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هنا هو أن يبين للصحابة وللمسلمين من بعدهم ما يفسر لهم ما ورد في القرآن من أصول العقيدة وأصول الدين، وما ورد فيه من الأحكام التشريعية العملية التي احتاج إليها المسلمون في عصره. وحديث معاذ بن جبل صريح في أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرر لمعاذ أنه سيقابل قضايا لا يجد نص حكمها مفصلا في آيات القرآن ، ولا فيما فسره من السنة ، ومن ثم أقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم - على بذل جهده فيها بقياس الشبيه ، وبغير ذلك من أوجه الاعتبار التي علمها لهم ، فالبيان الذي أمر به الله رسوله ، وقام به الرسول هو ما يفسره القرطبي بقوله: "وأنزلنا إليك الذكر : يعني القرآن ، لتبين للناس ما نزل إليهم في هذا الكتاب من الأحكام ، والوعد والوعيد ، بقولك وفعلك ، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- مبين عن الله عز وجل مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والصيام ، وغير ذلك مما لم يفصله" .

والراجح أنه ليس هناك تعارض بين الرأيين خاصة إذا أخذنا في الإعتبار أن ابن تيمية - وهو من أشد من يصرون على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد فسر القرآن كله لأصحابه- لم يجعل تفسير الرسول قاصرا على السنة القولية وحدها ، بل أخذ بعموم مفهوم مصطلح السنة من قول وفعل وإقرار ، هذا من جهة . ومن جهة أخرى فإن ما كان يحثه على الإصرار على موقفه السابق هو خشيته أن يظن الناس أن في القرآن ما لا يدرك علمه إلى الله، وأن الخطاب القرآني بالنسبة للمخاطبين به من قبيل الكلام الأعجمي، حيث اتخذ ذلك تكأة لكل التأويلات المنحرفة والضالة ، خاصة ما يتعلق منها بالصفات، حيث اعتبروها من المتشابه الذي لا يعلم معناه . وفي ذلك يقول ابن تيمية : "ويبين ذلك أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله ، ولا قال هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أهل العلم والإيمان جميعهم وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس. وهذا لا ريب فيه.
وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك " .

فابن تيمية قد ناقش هذه القضية بشكل مفصل ، وبين أن القرآن قد جاء ليتعبد به ، وليتدبر ، فيكون هداية وعبرة للعالمين، ومن ثم يستحيل أن نكون مأمورين بتدبره والتفكر فيه ثم يعجم علينا بعضه أو جله . وقد دفعه ذلك إلى التفريق بين فهم معنى الآية وإدراك تأويلها على ما سنبينه عند الحديث عن الفرق بين التفسير والتأويل عند أهل السنة .
كما أن الذين قالوا إن الرسول لم يفسر إلى بعض القرآن قد يكونون على حق وصواب، ذلك أن ما وصلنا من السنة القولية في تفسير القرآن الكريم لا يشمله كله ولا حتى جله ، بل لا يتجاوز بعض الآيات التي أشكل فهمها على بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- ومن ثم فإن هذا الفريق لم يعبر أفعال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتقريراته من قبيل التفسير المباشر لكلام الله تعالى وفضلا عن ذلك فإن
أكثر ما وصلنا من تفسيراته -عليه الصلاة والسلام- قد تزيده علي القصاص والوضاع، وغيرهم من أهل الضلالة والهوى، حتى إن ذلك ليخدش في قيمته العلمية .

وقد نص ابن تيمية وغيره من علماء أهل السنة على ضرورة دراسة ما ينسب إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا المجال دراسة علمية نقدية تتناول السند والمتن ، وذلك لتمحيص صحيحها من زائفها . وقد تناولنا ذلك بشيء من التفصيل عند حديثنا عن موقف أهل السنة من الحديث النبوي الشريف.

ويستخلص مما سبق أن من قالوا إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسر القرآن كله قد أخذوا بمفهوم التفسير العملي ، وهو الذي كان شائعا في صدر الإسلام. وأما من قالوا إنه - عليه الصلاة والسلام- لم يفسر إلا بعض القرآن الكريم فإنهم أخذوا بمفهوم التفسير النظري وهو الذي ظهر بعد أن بدأت مرحلة تدوين العلوم ، ومن ثم يجوز لنا القول إن كلا الرايين صحيح باعتبار صحة المبدأ الذي صد عنه .

ثالثـــــا : الصحـــابـــة :
اشتهر كثير من الصحابة رضوان الله عليهم بالتفسير ، منهم الخلفاء الأربعة. وأكـثـر من روى عـنه منهـم الإمـام علـي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أما الثلاثة الباقون فلم يرو عنهم إلا النزر القليل ، ومنهم عبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وأبي بن كعب ، وأبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن الزبير .

واختلف العلماء في حكم التفسير المأثور عنهم ، ويمكننا أن نصنف آراءهم إلى ثلاثة أقسام :
1- من يقول بالأخذ بقول الصحابي في التفسير مطلقا ، وممن قال بذلك الحاكم في تفسيره ، حيث اعتبره بمنزل الحديث المرفوع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذهب إلى ذلك ابن تيمية -رحمه الله- حيث قال في "مقدمة في أصول التفسير" : "إذا لم نجد التفسير في القرآن، ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة ، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها ، ولما لهم من الفهم التام ، والعلم الصحيح ، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين منهم عبد الله بن مسعود".

بل إننا نجده يتهم كل من يتأول القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف على غير ما أثر عن الصحابة، وذلك حيث يقول : "إن من فسر القرآن أو الحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين ، فهو مفتر على الله، ملحد في آيات الله ، محرف للكلم عن مواضعه ، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالإضطرار من دين الإسلام" .

وفي هذا ما يثبت إيمان ابن تيمية بأهمية قول الصحابي وضرورة الإحتجاج به مطلقا .
2- من يرده مطلقا ولا يعتبره حجة نحو ما ذهب إليه الإمام الغزالي الذي انتصر لعدم الإحتجاج بقول الصحابي . قد رجح الشيخ محمد الخضري قوله على أقوال غيره محتجا بأن "الصحابي ليس محجورا عليه أن يستنبط أو يقيس فلعله قال ما قال عن استنباط أو اجتهاد. وتعيين الأشياء التي لا مجال للرأي فيها عسر ضبطه ، ولنضرب لذلك مثلا أقل الحيض وأكثره ، فقد قال الحنفية : إن أقله ثلاثة أيام وأكثره عشرة ، لا ينقص عن ذلك لحظة ولا يزيد عملا بفتوى بعض الصحابة. وقالوا إن هذا لا مجال للرأي فيه مع أنه من الأمور التي يمكن للفقيه أن يفتي فيها بالمشاهدات وسؤال ذوات الشأن".
3- وذهب الأحناف إلى التفصيل فقالوا : إذا كان قول الصحابي في بيان أسباب النزول ونحوه مما لا مجال للرأي فيه فله حكم المرفوع، لانه لا يعقل -عندهم- أن يقول فيه برأيه . ومن ثم اتفقوا على الأخذ به ، كما أنهم اتفقوا على الأخذ بقوله في الأمور التي فيها مجال للرأي شريطة أن تكون مما تعم به البلوى ولم يعرف له مخالف من الصحابة ، وقد اعتبروه إجماعا سكوتيا .

أما إذا كان قوله فيما يكون مظنة للإجتهاد والإستنباط فقد اختلفوا فيه ، فمنهم من اعتبره موقوفا مادام لم يسنده إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي هذه الحالة لا يعتبرونه ولا يأخذون به ، لأنه لما لم يرفعه علم أنه اجتهد فيه، والمجتهد قد يصيب ويخطئ . ومنهم من جعله حجة لظن سماعه من الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحتى إن فسروه برأيهم فإصابتهم للحق أقرب لأنهم أدرى الناس بكتاب الله لما شاهدوه وعاينوه من الأحوال حال نزوله ، ولما تلقوه من تفسيره عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

ونستنتج من مجموع هذه الأقوال ما يلي :
1- تفسير الصحابي له حكم المرفوع مالم يكن للرأي فيه مجال، وهو موقوف إن كان كذلك مادام لم يسنده إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
2- إذا كان قول الصحابي من قبيل المرفوع فلا يجوز رده ، بل يتعين على المفسر الأخذ به ، ولا يعدل عنه إلى غيره .
3- اختلف العلماء في وجوب الأخذ بقول الصحابي المحكوم عليه بالوقف ، وقد يرجح الاخذ به لما يمتاز به الصحابة من جملة صفات وخصائص لا تتوفر في من أتى بعدهم ، والواقع أن المأثور عن الصحابة هو أحد أمرين :
أ- ما يروونه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويكون حكمه عندئذ سنة نبوية يتعين الأخذ بها مطلقا.
ب- ما هو من قبيل الرأي والإجتهاد منهم ، ونقل عنهم الإختلاف فيه، كما وقع بينهم في بعض الأحكام الفقهية التي لم يرد فيها نص من الكتاب أو السنة فهذا يستـأنس به في تأويل النص . أما إذا أجمع الصحابة على رأي فقهي معين فإن قولهم يكون حجة ، فيؤخذ به ، ولا يتجاوز إلى غيره .

وخلاصة الأمر أن قول الصحابي حجة خاصة فيما لا سبيل فيه للرأي ، أسنده أم لم يسنده إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- لاحتمال روايته عن الرسول من جهة ، إذ لا يعقل أن يقول برأيه في قضايا لا مجال للإجتهاد فيها.

أما ما يصدر فيه عن رأيه واجتهاده فيؤخذ به مالم يكن فيه مصادرة عقلية ، أو مخالف صريحة لنص مأثور، أو تناقض مع معطيات العلم الحديث .


رابعــا : التابعــون :
عمل التابعون على تفسير القرآن الكريم ، وقد اشتهر منهم في ذلك أعلام منهم : الحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والضحاك .

وقد كانوا يعتمدون في فهمهم للقرآن الكريم على ما جاء في القرآن نفسه ، ثم على صحيح ما روى عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم على ما سمعوه من الصحابة من أقوال وآراء ، وعلى ما أخذوه عن أهل الكتاب ، ثم على رأيهم واجتهادهم .

أما حكم تفسير التابعي للقرآن الكريم ، فقد اختلف فيه العلماء ، ويمكننا أن نصنفهم إلى طوائف ثلاث :
الأولى : وهي التي قالت بعدم حجية قول التابعي وقد قال بذلك ابن عقيل، وشعبة بن الحجاج ، وهو أحد روايتي الإمام أحمد ، وهو رأي الإمام أبي حنيفة النعمان الذي كان يقول : إذا آل الأمر إلى الحسن وإبراهيم فهم رجال ونحن رجال.
الثانية : وهي تتشكل من المفسرين الذين يأخذون بأقوال التابعين في التفسير مطلقا، وأحد روايتي أحمد بن حنبل وبعض المالكية .
الثالثة : وأما الطائفة الثالثة فقد ذهبت إلى التفصيل ، فقالوا إذا فسر التابعي القرآن الكريم برأيه فرأيه ليس حجة على من خالفه ، وأما إذا أجمعوا على رأي ما فيكون قولهم حجة وهو ما ذهب إليه ابن تيمية -رحمه الله - "وقال شعبة بن الحجاج وغيره، (أقوال التابعين في الفروع ليست حجة ، فكيف تكون حجة في التفسير) يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم ، وهذا صحيح . أما إذا اجتمعوا على الشيء فلا يرتاب من كونه حجة على غيرهم ممن خالفهم ، وهذا صحيح . أما إذا اجتمعوا على الشيء فلا يرتاب من كونه حجة ، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك".

وتفسير التابعي رغم اعتماده أساسا على الرواية والنقل ، يمكن أن يتطرق إليه النقد من جهات ثلاث :
1- لم يعاصر التابعون الرسول -صلى الله عليه وسلم- مما يرجح أن ما وصلنا عنهم هو من قبيل آرائهم واجتهاداتهم الشخصية ، مما يجعله لا يرقى إلى قوة ومرتبة المسند إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- .
2- يندر فيه الإسناد الصحيح مما يقوي الشك فيه ، كما أن الصحيح فيه قد اختلط بغير الصحيح بسبب حذف الإسناد .
3- اشتماله على الإسرائيليات التي تسربت إليهم عن طريق أهل الكتاب أو زنادقة الشعوب الداخلية ، مما يشوه -في عمـومـه- صـفاء العقــيدة ،
وواقعية المنهاج الإسلامي في الحياة . ولعل ذلك هو ما جعل ابن تيمية -رحمه الله - رغم ميله الشديد إلى الأخذ بالمأثور والإبتعاد ما أمكن عن الرأي - لا يأخذ بقول التابعي مطلقا ، بل وجدناه يميل إلى التفصيل كما سبق أن بينا.
4- ما لفقه أصحاب المذاهب المتطرفة لإعطاء وجودهم شرعية .

ولا يفهم مما سبق أنه يمكننا أن نتجاوز كل ما قاله التابعون إلى الإجتهاد والرأي بل لا بد من الإستئناس بأقوالهم ، خاصة ونحن نعلم أنهم أدرى وأعلم منا في شتى المجالات التي تعتبر أساسا في فهم النص القرآني ، كاللغة وعلومها وعلوم القرآن ، ثم ما يمتازون به من صفات نفسية عالية ، وما يتمتعون به من أخلاق ربانية تتمثل في الصفاء والزهد ، والورع ، والتقوى والإخلاص، مما يجعلهم عاملين بما علموا. وقد وعد الله سبحانه من كان ذلك شأنه بأن يعلمه مالم يعلم.

خــامســـا : اللغـــة وعلــومهـــا :
من البديهي أن تكون اللغة العربية وعلومها من المصادر الأساسية في تفسير الخطاب القرآني ، ذلك أن القرآن الكريم قد أنزل إلى العرب خاصة، وإلى الناس عامة، ومن ثم فهو يخاطبهم بلغتهم ويتحداهم بأن يأتوا بمثله، فكان ذلك تأكيدا لإعجاز بيانه، وسمو بلاغته .

وقد اشترط العلماء بالتفسير الإحاطة باللغة العربية وعلومها في كل من يريد اقتحام باب التفسير ، وقد نص على ذلك الشيخ أبو زهرة في كتابه "المعجزة الكبرى" ، حيث يقول :"ولا شك أن اللغة هي الأساس الأول لكل هذه المصادر. ولا نقصد باللغة ما تومىء إليه المعاجم فقط ، فإن تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أن يكون مخالفا للعربية ومعانيها ، لأنه العربي الذي ينطق بجوامع الكلم، وليس في الكلام العربي ما يكون أصدق مصدر للإستعمال العربي الصحيح من أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم- ".

وهذا المنهج قد سلكه الصحابة رضوان الله عليهم في تفسير القرآن الكريم ، فكانوا كلما أشكل عليهم معنى آية كريمة راجعوا أهل الفصاحة والبلاغة من العرب الخلص فكانوا يحلون إشكالها بتفسيرها لغويا والإستشهاد على ذلك بما جاء في شعرهم "فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يسأل أصحابه عن معنى قوله تعالى في الآية 47 من سورة النحل { أو يأخذهم على تخوف} فيقول له شيخ من هذيل : هذه لغتنا . التخوف : التنقص . فيقول له عمر : هل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ فيقول له نعم ، ويروي قول الشاعر :
تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السفن

فيقول عمر رضي الله عنه لأصحابه : عليكم بديوانكم لا تضلوا. قالوا : وما ديواننا ؟ قال : شعر الجاهلية ، فإن فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم " .
وقد اشتهر ابن عباس بالرجوع إلى الشعر القديم عند تفسيره للذكر الحكيم مما يدل على معرفته الواسعة بلغة العرب وإلمامه الكبير بغريبها . ومن ذلك ما يروى عنه في تفسير قوله تعالى : {وابتغوا إليه الوسيلة}(1) ، فقال الوسيلة الحاجة ، واستدل على ذلك ببيت من شعر عنترة :
إن الرجال لهم إليك وسيلة إن يأخذوك تكحلي وتخضبي

كما أننا نجد علماء المسلمين ينصون على أن من معايير الحكم على تفاسير المفسرين موافقتها لما تعارفت عليه العرب في لغاتها ، فمن تجاوز دلالتها ومعانيها فهو مجحف ، وتفسيره مغرض . وقد نقل صاحب الإتقان عن الزركشي أن من أهم شروط المفسر إحاطته باللغة وعلومها، كما عرض آراء العلماء في هذا المصدر فوجدناهم يقررونه كأساس لأي تفسير سليم ، باستثناء الإمام أحمد في إحدى الروايات المأثورة عنه فإنه يكره الإستشهاد على معنى من القرآن الكريم ببيت من الشعر: "إن القرآن نزل بلسان عربي ، وهذا قد ذكره جماعة ، ونص عليه أحمد في مواضع ، لكن نقل الفضل بن زياد عنه أنه سئل عن القرآن يمثل له بيت من الشعر. فقال : ما يعجبني ، فقيل ظاهره المنع، ولهذا قال بعضهم في جواز تفسير القرآن بمقتضى اللغة روايتان عن أحمد. وقيل الكراهة تحمل على صرف الآية عن ظاهرها إلى معان خارجة محتملة يدل عليها القليل من كلام العرب ولا يوجد غالبا إلا في الشعر ونحوه، ويكون المتبادر خلافها ، وروى البيهقي في الشعب عن مالك قال : لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلى جعلته نكالا " .

بل إن العلماء بالتفسير وعلومه لا يجوزون تفسير القرآن إلا لمن كان محيطا إحاطة شافية كافية باللغة وعلومها ، وقد نص على ذلك كثير من العلماء ، من ذلك ما أورده السيوطي في كتابه "الإتقان في علوم القرآن ": "ومنهم من قال يجوز تفسيره لمن كان جامعا للعلوم التي يحتاج المفسر إليها وهي خمسة عشر علما :
أحدهما : اللغة ، لأن بها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع، قال مجاهد : لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب " وتقدم قول الإمام مالك في ذلك ، ولا يكفي في حقه معرفة اليسير منها ، فقد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين والمراد الآخر .

الثاني : النحو ، لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب فلا بد من اعتباره ، أخرج أبو عبيد عن الحسن أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها النطق ويقيم بها قراءته ، فقال حسن فتعلمها ، فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها .

الثالث : التصريف ، لأن به تعرف الأبنية والصيع . قال ابن فارس : ومن فاته علمه فاته المعظم ، لأن "وجد " مثلا كلمة مبهمة فإذا صرفناها اتضحت بمصادرها ...

الرابع : الإشتقاق ، لأن الإسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف باختلافهما كالمسيح هل هو من السياحة أو المسح .

الخامس والسادس والسابع : المعاني والبيان والبديع ، لأنه يعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى ، وبالثاني خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها ، وبالثالث وجوه تحسين الكلام ، وهذه العلوم الثلاثة هي علوم البلاغة وهي من أعظم أركان المفسر" .

مما سبق يتضح لنا أن اللغة وعلومها مصدر أساسي في تفسير القرآن وأي تجاهل له يفضي -لا محالة - إلى التفسيرات الباطلة التي صنفها العلماء بالتفسير ضمن التفسير بالتأويل المذموم . أو التفسير على المذهب .


وفي ختام حديثنا عن مصادر التفسير عند أهل السنة نشير إلى أن المنهج التفسيري الذي وضعوه لا يكفي فيه أن تكون هذه المصادرة الخمسة هي عمدته ، بل لا بد من احترام التسلسل الذي وضعوه بحيث لا نتجاوز المصدر الأول إلى المصدر الذي يليه إلى بعد التأكد بأنه لا يوجد له تفسير فيه . وفي ذلك يقول ابن تيمية : "فإن قال قائل : فما أحسن طرق التفسير ؟ فالجواب : أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن ، فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر ، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر .

فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له ... وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في النسة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن ، والأحوال التي اختصوا بها ، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح ، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين ، ومنهم عبد الله بن مسعود " .

ويقول في موضح آخر : "وإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين". وجاراه في ذلك ابن كثير (ت 774هـ) في تفسيره .
وهو نفس رأي الإمام الزركشي (ت 794هـ) في كتابه "البرهان في علوم القرآن"، وإن كان لم ينص على قول التابعي بل تجاوزه إلى ذكر النظر والإستنباط - أي الرأي القائم على أسس علمية رصينة - كمرجع من مراجع التفسير.

ويتضح لنا مما سبق أنه لا يكون متبعا لمنهج اهل السنة في التفسير من فسر القرآن بغير هذه المصادر أو من تجاوز مرحلة من مراحل التفسير إلى المرحلة التي تليها ، كأن يكون للآية المزمع تفسيرها تفسير قرآني ولكنه يتجاوزه إلى تفسير الصحابي أو التابعي .

هذا ما اتضح لنا من خلال تتبعنا لنظرية أهل السنة في التفسير ، وإن كنا نميل إلى أن اتباع منهج أهل السنة في التفسير لا يعني بالضرورة التمسك الحرفي بالخطوات المنهجية التي اتبعوها في تفسيرهم للخطاب القرآني ، بقدر ما يعني عدم التعارض مع المبادئ الأساسية التي سطروها في نظريتهم التفسيرية ، ومع النتائج التي توصلوا إليها في تطبيقاتهم.

كما أننا نلاحظ أن هذه المصادر التفسيرية تنقسم إلى قسمين :
1- مصادر أساسية في التفسير وهي :
أ- القرآن الكريم .
ب- السنة المطهرة .
ح- أقوال التابعين ، ويحتج بإجماعهم على أمر ما ، أما إذا اختلفوا فيستحسن أن يختار أحد أقوالهم .
2- مصادر فرعية ، وهي :
أ- الفقه وأصول الفقه .
ب- علوم البلاغة
ح - علوم العربية .

وهذه تشكل مجموعة العلوم الضرورية التي يتعين على المفسر الإستعانة بها عند مباشرته تفسير القرآن الكريم، ويسمونها العدة الكسبية . وقد وضعوا على رأس هذه المصادر ، شرطا أساسيا ينبغي توفره في المفسر حتى تتحقق أهليته للقيام بهذه الوظيفة الشريفة ، وهو ما تعارفوا على تسميته بالعدة الوهبية ، أو علم الموهبة ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء} .

موقف مفسري أهل السنة من الحديث
لما كان أهل السنة يعتمدون في تفسيرهم للقرآن الكريم على النقل والرواية أكثر من اعتمادهم على الرأي والدراية ، فإننا نجدهم قد وضعوا نظرية نقدية متكاملة الجوانب، وذلك لنقد الأحاديث والأخبار، احترازا من تسرب الموضوعات إلى تفاسيرهم، مما يكون له الأثر السيء على كيان الأمة الإسلامية .

وهذه النظرية النقدية في الحديث تنقسم إلى قسمين :
القســـم الأول :
ينظر إلى المتن خاصة وبالأساس ، وهذا عمل جليل قام به رواد أهل السنة خاصة منهم ابن تيمية الذي بين في "مقدمة في أصول التفسير" بعض الأحاديث المردودة بسبب متنها لا إسنادها . من ذلك قوله : "وكما أن على الحديث أدلة يعلم بها أنها صدق ، وقد يقطع بذلك، فعليه أدلة يعلم بها أنها كذب ويقطع بذلك ، مثل ما يقطع بكذب ما يرويه الوضاعون من أهل البدع والغلو في الفضائل ، مثل حديث عاشوراء وأمثاله مما فيه : أن من صلى ركعتين كان له كأجر كذا وكذا نبى ، وفي التفسير من هذه الموضواعات قطعة كبيرة، مثل الحديث الذي يرويه الثعلبي والواحدي والزمخشري في فضائل سور القرآن سورة سورة، فإنه موضوع باتفاق أهل العلم".
وهذا المنهج ليس حادثا في الأمة بل هو ما جرى عليه الصحابة الذين لم يكن لهم سبيل إلى نقد الحديث النبوي الشريف إلا من حيث المتن ، حيث لا توجد بين الصحابي والرسول -صلى الله عليه وسلم- سلسلة إسناد، فكان أن نما بينهم هذا النوع من النقد الداخلي للنصوص ، وعلى أساسه ردوا كثيرا من الأحاديث التي تأكد لهم مخالفتها لهدى الرسول -صلى الله عليه وسلم - ولم يكونوا يتهمون الصحابي ناقل الحديث بالكذب، بل كانوا يحملون ذلك على السهو والنسيان، "وإنما يقع له الوهم غالبا لأحد الأسباب التالية :
1- أن يحدث بما سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يدري أنه منسوخ.
2- أن يقع له انقلاب بين شيئين أو لفظين ، فيجعل كل واحد منهما مكان الآخر وهذا هو "المقلوب".
3- أن يقول مع رواية الحديث قولا من عند نفسه متصلا بنص الحديث، فيظنه السامعون أنه مرفوع وهذا هو "المدرج".
4- أن يروي الحديث في مورد يجعله يتحمل من المعنى أكثر مما يحتمل .
5- أن لا يضبط لفظ الحديث بحيث يختلف المعنى .
6- أن يروي الحديث على غير وجهه لغفلته عن سبب الورود .
7- أن يقع له غلط فيروي واهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لم يسمعه منه " .
وقد اشتهرت السيدة عائشة -رضي الله عنها- بنقد متن الأحاديث ، وذلك لما علمته من أحوال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولما امتازت به من فكر متوقد وما حباها الله به من فهم وتبصر. وقد كثر نقدها لروايات أبي هريرة ، وعمر ، وابن عمر ، وجابر ، كما نقدت تفسير كعب الأحبار لآية الرؤية .

ويعترف أهل السنة بأن نقد المتن ليس لكل من هب ودب، بل هو لصفوة مختارة علمت السنة الصحيحة علما وعملا ، وطالت خبرتها بعلم الحديث والسيرة النبوية العطرة ، وبما كانت عليه أحواله -صلى الله عليه وسلم - في الغضب والرضى، وفي الشدة والرخاء ، وفي السلم والحرب . يقول ابن قيم الجوزية في كتابه "المنار المنيف في الصحيح والضعيف ": "وسئلت هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن ينظر في سنده ؟ فهذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعلم ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة واختلطت بلحمه ودمه ، وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار ومعرفة سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وهديه فيما يأمر به وينهى عنه . ويخبر عنه ويدعو إليه ، ويحبه ويكرهه ويشرعه للأمة بحيث كأنه مخالط للرسول - صلى الله عليه وسلم - كواحد من أصحابه فمثل هذا يعرف من أحوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهديه وكلامه، وما يجوز أن يخبر به وما لا يجوز : ما لا يعرفه غيره
وهذا شأن كل متبع مع متبوعه، فإن للأخص به ، الحريص على تتبع أقواله وأفعاله مع العلم بها ، والتمييز ما يصح أن ينسب إليه وما لا يصح، ما ليس لمن لا يكون كذلك، وهذا شأن المقلدين مع أئمتهم يعرفون أقوالهم ونصوصهم ومذاهبهم ، والله أعلم".

ونقد المتن ليس عملية ذاتية ، ذوقية أو مزاجية ، بل هي عملية علمية معيارية، مبنية على أصول ومقاييس وضوابط جمعها ابن القيم في اثنى عشر معيارا وهي :
1- "فمنها اشتماله على أمثال هذه المجازفات التي لا يقول مثلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
2- ومنها تكذيب الحسن له .
3- ومنها سماجة الحديث وكونه مما يسخر منه .
4- ومنها مناقضة الحديث لما جاءت به السنة الصريحة .
5- ومنها أن يدعى على النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه فعل امرا ظاهرا بمحضر من الصحابة كلهم ، وأنهم اتفقوا على كتمانه ولم ينقلوه.
6- ومنها أن يكون الحديث باطلا في نفسه ، فيدل بطلانه على أنه ليس من كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- .
7- ومنها أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء ، فضلا عن كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي هو وحي يوحى .
8- ومنها أن يكون في الحديث تاريخ كذا وكذا .
9- ومنها أن يكون الحديث بوصف الأطباء والطرقية أشبه وأليق .
10- ومنها أن يكون الحديث مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه.
11- ومنها مخالفة الحديث صريح القرآن .
12- ومنها ما يقترن بالحديث من القرائن التي يعلم بها أنه باطل".

وبالوقوف على نظرية أهل السنة في نقد المتن ، أو ما يسمى بالنقد الداخلي للنصوص، وعدم اقتصارهم على نقد السند وحده ، يتبين لنا تهافت ما وصموا به من أنهم "زوامل أسفار" لا شأن لهم بالنظر والدارية، وإنما همتهم النقل والرواية ، بل إننا نجد كثيرا من أهل السنة من ينص على أن العبرة بالدراية لا بالرواية . يقول القرطبي : "قال معاذ بن جبل : اعلموا ما شئتم أن تعلموا ، فلن يأجركم الله بعلمه حتى تعملوا . قال ابن عبد البر : وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل قول معاذ من رواية عباد بن عبد الصمد وفيه زيادة : إن العلماء همتهم الدراية وإن السفهاء همتهم الرواية ..." .
والواقع أن أهل السنة والجماعة لم تكن لديهم تفرقة حادة بين النقل والعقل، والرواية والدراية ، بل كان لديهم منهج قويم يستفيد من الإثنين ويجعلهما متأزرين متعاضدين، فالنقل الصحيح لا يتعارض عندهم أبدا مع العقل الصريح .
القســـم الثـــانـــي :
أما بالنسبة لنقد السند فقد وضع أهل السنة قواعد لمعرفة الموضوع من الأحاديث جمعها الدكتور مصطفى السباعي في أربع قواعد وهي :
1- أن يكون راوية كذابا معروفا بالكذب ، ولا يرويه ثقة غيره ، وقد عنوا بمعرفة الكذابين وتواريخهم وتتبعوا ما كذبوا فيه بحيث لم يفلت منهم أحد .
2- أن يعترف واضعه بالوضع، كما اعترف أبو عصمة نوح بن ابي مريم بوضعه أحاديث فضائل السور .
3- أن يروي الراوي عن شيخ لم يثبت لقياه له ، أو ولد بعد وفاته ، أو لم يدخل المكان الدي ادعى سماعه فيه ، كما ادعى مأمون بن أحمد الهروي أنه سمع من هشام بن عمار، فسأله الحافظ ابن حبان : متى دخلت الشام ؟ قال : سنة خمسين ومائتين . قال ابن حبان : فإن هشاما الذي تروى عنه مات سنة خمس وأربعين ومائتين ...
4- وقد يستفاد الوضع مع حال الراوي وبواعثه النفسية ، مثل ما أخرجه الحاكم عن سيف بن عمير التميمي أنه قال : كنا عند سعد بن طريف فجاء ابنه من الكتاب يبكي فقال : مالك ؟ قال ضربني المعلم . فقال سعد : لأخزينهم اليوم . حدثني عكرمة عن ابن عباس مرفوعا : (معلمو صبيانكم شراركم ، أقلهم رحمة لليتيم ، وأغلظهم على المسكين)".
والملاحظ أن العلماء اهتموا بنقد السند أكثر من اهتمامهم بنقد المتن ، وذلك لأنه يجوز أن تكون هناك أخبار تتمثل فيها كل مواصفات الحديث الصحيح ، ولكنها رغم ذلك قد تكون غير صحيحة النسبة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، ومن ثم فنقد السند هو العملية الأولى التي يتعين على دارس الحديث القيام بها وتأتي بعد ذلك عملية نقد المتن التي تزكي وتعضد العملية الأولى .

وأهل السنة وهم يضعون نظريتهم في التفسير -فضلا عما سبق- عنوا بمسألتين هامتين بالنسبة للتفسير ، وهما :
* خـــبر الآحــــاد .
* الحديث المرسل .
خبــــر الآحــــاد :
تعريفه لغة : " الآحاد جمع أحد بمعنى الواحد ، وخبر الواحد هو ما يرويه شخص واحد " .
تعريفه اصطلاحا : وأما تعريفه اصطلاحا فقد عرفه الحافظ ابن حجر بأنه الحديث الذي لم يجمع شروط المتواتر. ويوضح ابن حزم ذلك فيشير إلى أنه ما ينقله من الأخبار واحد عن واحد.
حـكــمــــه : يرى ابن حزم أن خبر الآحاد إذا اتصل برواية العدول إلى الرسول-صلى الله عليه وسلم- وجب العمل به ووجب العمل بصحته أيضا، وهو رأي الإمام مالك والحسين بن علي الكرابيسي والحارث المحاسبي ، وهو قول الإمام أحمد أيضا.

وأما الجمهور فيرون أنه حجة العمل به وإن أفاد الظن : "وقال الحنفيون والشافعيون وجمهور المالكيين وجميع المعتزلة والخوارج : إن خبر الواحد لا يوجب العلم . ومعنى هذا عند جميعهم أنه قد يمكن أن يكون كذبا أو موهوما فيه ... وقال سائر من ذكرنا : إنه يوجب العمل".

وأما ابن تيمية فيرى أن جمهور العلماء على اختلاف مذاهبهم يرون أن خبر الأحاد يوجب العلم إذا تلقته الأمة بالقبول . "ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقا له أو عملا به أنه يوجب العلم. وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه من أصحاب أبي حنيفة ، ومالك والشافعي وأحمد إلى فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل العلم أنكروا ذلك . ولكن كثير من أهل الكلام أو أكثرهم يوافقون الفقهاء وأهل الحديث والسلف على ذلك. وهو قول أكثر الأشعرية كأبي إسحاق وابن فورك" ثم يورد ابن تيمية أسماء علماء المذاهب الأربعة الذين قالوا إن خبر الآحاد يوجب العلم : "والأول هو الذي ذكر الشيخ أبو حامد ، وأبو الطيب ، وأبو إسحاق وأمثاله من أئمة الشافعيـــة ،
وهو الذي ذكره القاضي عبد الوهاب وأمثاله من المالكية ، وهو الذي ذكره شمس الدين السرخسي وأمثاله من الحنفية . وهو الذي ذكره أبو يعلى وابو الخطاب . وأبو الحسن بن الزاغوني وأمثالهم من الحنبلية ".
كما يذكر أسماء من أنكر ذلك من العلماء . "وأما الباقلاني فهوالذي أنكر ذلك وتبعه مثل أبي المعالي ، وأبي حامد، وابن عقيل، وابن الجوزي، وابن الخطيب، والآمدي، ونحو هؤلاء".
وقد بين ابن تيمية أنه لا قيمة لمخالفة هؤلاء لإجماع أهل العلم بالحديث لأن العبرة بأصحاب الإختصاص في الحديث الذين وقفوا حياتهم لخدمة هذا العلم الجليل :"وإذا كان الإجمـاع على تصـديـق الخـبر
موجبا للقطع به فالإعتبار في ذلك بإجماع أهل العلم بالحديث، كما أن الإعتبار في الإجماع على الأحكام بإجماع أهل العلم بالأمر والنهي والإباحة" .
ويرى ابن تيمية أن مما يوقع الغلط في الحديث الذين يقولون فيه أقوالا ويصدرون فيه أحكاما على غير هدى ، ولا بصيرة ولا علم ، فيصححون الضعيف ، وقد يضعفون الصحيح ، ويعتمدون ذلك في مقالاتهم ومناظراتهم .
والثاني : أدعياء علم الحديث الذين ينتسبون له وليسوا من أهله، بحيث لم تتكون لديهم خبرة واسعة به، ولم يملكوا بعد ملكة نقدية، ولا حسا حديثيا يمكنهم من دراسة الحديث من حيث السند والمتن ، فيكون قولهم فيه وحكمهم عليه قول العالم المدقق الذي يصدر في حكمه عن بينة وعلم "والناس في هذا الباب طرفان : طرف من أهل الكلام ونحوهم من هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله ، لا يميز بين الصحيح والضعيف، فيشكك في صحة أحاديث أو في القطع بها مع كونها معلومة مقطوعا بها عند أهل العلم به ، وطرف ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به ، كلما وجد لفظا في حديث رواه ثقة، أو رأى حديثا بإسناد ظاهره الصحة يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته ، حتى إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة، أو يجله دليلا له في مسائل العلم، مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون أن مثل هذا غلط" .
وكأن ابن تيمية -رحمه الله - يلمح للمفسرين أن لا يسارعوا في الحكم على الحديث ، ويبنوا عليه أحكاما ، أو يحملوا عليه معنى آية من آي الذكر الحكيم إلى بعد أن يستفتوا أهل العلم بالحديث، ويعملوا بفتواهم، فهذا هو المنهج القويم الذي يتعين على المفسر العمل به وصولا إلى الحقيقة ، وعملا بالعلم لا بالظن الباطل أو الزيغ والهوى . وقد بين ابن تيمية أن كثيرا من المفسرين قد جانبوا الحقيقة وبعدوا عن الصواب لما تنكبوا هذا الطريق.

الحــديـــث المـــرســـل :
عرفه ابن الصلاح بأنه : " حديث التابعي الكبير الذي أدرك جماعة من الصحابة وجالسهم ، كعبيد الله بن عدي بن الخيار، ثم سعيد بن المسيب وأمثالهما إذا قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وقد قيده ابن الصلاح برواية التابعي الكبير . وجمهور الفقهاء والأصوليين يعممون ذلك ، فيجعلونه الحديث الذي يرسله التابعون وغيرهم.
وأما حكمه فقد اختلفوا فيه ، ويمكننا أن نصنف آرائهم إلى ثلاثة أقسام :
1- الفريق الأول : قال بحجية الحديث المرسل . وقد قال بذلك الإمام مالك، وأبو حنيفة ، وهو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل. "قال : والإحتجاج به مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما في طائفة والله أعلم.
قلت : وهو محكي عن الإمام أحمد بن حنبل في رواية ".
2- وأما الفريق الثاني فلا يعتبر الحديث المرسل حجة في الدين ، وقد قال بذلك ابن حزم في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام" : "المرسل من الحديث هو الذي سقط بين أحد رواته وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- ناقل واحد فصاعدا ، وهو المنقطع أيضا، وهو غير مقبول ولا تقوم به حجة لأنه عن مجهول ، وقد قدمنا أن من جهلنا حاله ففرض علينا التوقف عن قبول خبره، وعن قبول شهادته حتى نعلم بحاله".
وذهب إلى ذلك كل من الإمام مسلم في مقدمة كتابه . ورواه ابن عبد البر في جماعة من أصحاب الحديث، وقال فيه ابن الصلاح : "وما ذكرناه من سقوط الإحتجاج بالمرسل والحكم بضعفه هو الذي استقر عليه آراء حفاظ الحديث، ونقاد الأثر وتداولوه في تصانيفهم"(3) . ويعلق على ذلك الشيخ أحمد شاكر بقوله : "لأنه حذف منه راو غير معروف ، وقد يكون غير ثقة ، والعبرة في الرواية بالثقة واليقين، ولا حجة في المجهول ".
3- الفريق الثالث : يعتبره حجة بشرط ، وهو قول الإمام الشافعي، وبعض العلماء . "وهذه الشروط أربعة : ثلاثة في الراوي المرسل، وواحد في الحديث المرسل . وإليك هذه الشروط :
أ- أن يكون المرسل من كبار التابعين .
ب- وإذا سمي من أرسل سمي ثقة .
ج- وإذا شاركه الحفاظ المأمونون لم يخالفوه .
د- وأن ينضم إلى هذه الشروط الثلاثة واحد مما يلي :
1) أن يروي الحديث من وجه آخر .
2) أو يروي من وجه آخر مرسلا أرسله من أخذ العلم عن غير رجال المرسل الأول .
3) أو يوافق قول الصحابي .
4) أو يفتي بمقتضاه أكثر أهل العلم".
وقد ذهب إلى قبول الحديث المرسل بشروط الإمام ابن تيمية ، ويمكن أن نجمعها في ثلاثة شروط :
1- أن تتعدد طرف الحديث المرسل .
2- أن يخلو عن المواطأة قصدا، أو الإتفاق بغير قصد. وفي هذين الشرطين يقول : "والمراسيل إذا تعددت طرقها ، وخلت عن المواطأة قصدا، أو الإتفاق بغير قصد كانت صحيحة قطعا ، فإن النقل إما يكون صدقا مطابقا للخبر، وإما أن يكون كذبا تعمد صاحبه الكذب ، أو أخطأ فيه، فمتى سلم من الكذب العمد والخطأ كان صادقا بلا ريب".
3- أن يكون الحديث طويلا يذكر فيه واقعة أو قصة بتفاصيل ما جاء فيها من أحداث وأقوال، وجاء آخر فحدث بمثل ما حدث به الأول من غير زيادة ولا نقصان إذ " المقصود أن الحديث الطويل إذا روي مثلا من وجهين مختلفين من غير مواطأة امتنع عليه أن يكون غلطا، كما امتنع عليه أن يكون كذبا، فإن الغلط لا يكون في قصة طويلة متنوعة وإنما يكون في بعضها . فإذا روى هذا قصة متنوعة ، ورواها الآخر مثلما رواها الأول من غير مواطأة امتنع الغلط في جميعها ، كما امتنع الكذب في جميعها من غير مواطأة".
ودفاع ابن تيمية عن الإحتجاج بالحديث المرسل هو بمثابة رد اعتبار للتفسير الأثري خاصة، وللتفسير عامة، ذلك أن أغلب ما يروى في التفسير من أحاديث يكون مرسلا مما يجعل البعض يطعن فيه. والمدقق في كتب تفسير القرآن الكريم يجد أن أغلب ما يحتاجه المفسر من أحاديث هو من نوع الأحاديث الطويلة التي تكلم عنها ابن تيمية ، ثم هو يوضح أن الشروط التي اشترطها في الحديث المرسل حتى يؤخذ به، ليس تهمة للصحابة ، ولا للتابعين - وهم من هم في التقوى والصلاح والفضل والعلم - وإنما احترازا من أن يكونوا قد غلطوا فيه ، "فإن من عرف الصحابة كابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وابن عمر ، وجابر وأبي سعيد ، وأبي هريرة ، وغيرهم علم يقينا أن الواحد من هؤلاء لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضلا عمن هو فوقهم ... وكذلك التابعون بالمدينة ومكة والشام والبصرة فإن من عرف مثل أبي صالح السمان، والأعرج، وسليمان بن يسار، وزيد بن أسلم،وأمثالهم ، علم قطعا أنهم لم يكونوا ممن يتعمد الكذب في الحديث، فضلا عمن فوقهم ... وإنما يخاف على الواحد من الغلط ، فإن الغلط والنسيان كثيرا ما يعرض للإنسان ".
وبذلك رد ابن تيمية الإعتبار إلى التفسير الأثري ، وبين أن اعتماده على المراسيل ليس قادحا فيه ، فالحديث المرسل حجة، وصحيح بل مقطوع بصحته . أما الشروط التي اشترطها فيه فإنما يقصد منها طمأنينة القلب والإحتراز مما قد يكون فيه من الغلط ، وإلا فالصحابة والتابعون منزهون عن تعمد الكذب.
 
تصنيف أهل السنة لمناهج التفسير:

تصنيف أهل السنة لمناهج التفسير:

من خلال تتبعنا لمواقف أهل السنة من التفاسير والمناهج المتبعة فيها، ومن خلال مناقشتهم للأفكار الواردة فيها ، يمكننا القول إن أهل السنة يرون أن مناهج التفسير يمكن حصرها في منهجين :
1- التفسير المأثور وهو الذي له أصل في الدين .
2- التفسير على المذهب وهو الذي لا أصل له في الدين ، وينقسم إلى قسمين :
أ- التفسير بالرأي أو المنهج العقلي في التفسير .
ب- التفسير الصوفي أو الإشاري .
ولعلنا نتساءل عن الاعتبارات التي تبنوها في تصنيفهم هذا، والواقع أن هذا التصنيف ليس اعتباطيا ، بل هو نتاج دراسة نقدية تحليلية لعدة تفاسير ، ولمفسرين من مختلف الإتجاهات والفرق التي عرفها تاريخ الفكر الإسلامي . وقد مكنتهم هذه الدراسة الموضوعية المتأنية - خاصة ما قام به ابن تيمية في "مقدمة في أصول التفسير "، وفي "فتاويه" - من الوقوف على الأسس العلمية ، والقواعد المنهجية التي يتعين علينا اعتمادها عند محاولة تصنيف مناهج التفسير. وهذا المجهود العلمي الجبار يدل على ما يتمتع به منهج أهل السنة في البحث من قواعد منهجية تجريبية، تعتمد الوصف والتحليل، والمقارنة والإستنباط . وهي التي مكنتهم من التوصيف العلمي لمناهج التفسير.
ويمكننا أن نحدد هذه الأسس والقواعد في مايلي :
1- الأدوات المعرفية الموظفة في التفسير ، وهذا يعطينا التصنيف التالي لمناهج التفسير.
أ- التفسير المأثور وهو الذي يعتمد النقل وحده. ولا جهد للمفسر فيه إلا جمع الروايات وتنظيمها، من غير بذل أي مجهود عقلي.
ب- التفسير العقلي وهو الذي يعتمد العقل ويركز عليه، ويجعله حجة يحسن ما حسنه ويقبح ما قبحه، ويقاس عليه ولا يقاس على غيره. وهذا نجده في تفاسير الفلاسفة وبعض الفرق الكلامية.
ح- التفسير الصوفي : وهو الذي يعتمد على الوجد والذوق كأداة رئيسية بل وحيدة في المعرفة الحقة والكاملة .
2- النظر إلى طبيعة التفاسير : وذلك بغض النظر عن الأدوات المعرفية الموظفة في التفسير ، أو الأصول التي يقوم عليها، أو الأهداف والمقاصد التي يرمي إليها ، بحيث يكون هم الباحث جمع التفاسير ذات المجال العلمي الواحد في خانة واحدة، ومن ثم يمكن تقسيم التفاسير إلى مدارس تفسيرية متميزة نحو :
أ- المدرسة البيانية .
ب- المدرسة الفقهية .
ح- المدرسة الكلامية .
د- المدرسة الفلسفية .
ه- المدرسة الصوفية.
ويعتبر كتاب "التفسير والمفسرون "النموذج الأمثل لتصنيف التفاسير حسب طبيعتها ، وحسب المجالات العلمية التي تنتمي إليها.
وهناك فئة من الباحثين قد نظروا إلى التفاسير نظرة تاريخية تطورية ، فكان تصنيفهم لمناهج التفسير على الشكل التالي :
1- مرحلة النشأة : وهي تتضمن أصول كل المناهج التفسيرية التي عرفت في ما بعد . ومنهم من يسميها بمرحلة التفسير العلمي ، وهي تشمل تفسير الرسول والصحابة والتابعين .
2- مرحلة النمو والتطور : وهي التي تبدأ بتدوين كتب التفسير ، وفصله عن الحديث النبوي الشريف، وتنتهي بظهور أمهات كتب التفسير، كتفسير ابن جرير الطبري (223هـ- 310هـ) المسمى "جامع البيان في تفسير القرآن" ، وتفسير جار الله الزمخشري ( 467هـ - 538هـ) : "الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل" ، وتفسير عبد الحق بن عطية (481هـ - 546هـ) : "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) ، وتفسير الرازي (544هـ- 606هـ) "مفاتيح الغيب " ، وتفسير أبي عبد الله القرطبي (ت 671هـ) : "الجامع لأحكام القرآن ". ومن الباحثين من يسمي هذه المرحلة بمرحلة التفسير النظري.
3- مرحلة الركود : وهي التي يقتصر دور المفسر فيها على الشرح والتعليق وشرح الشروح والتلخيـص ، ومـن ثم فـالـسمة البـارزة في هذه
المرحلة هي ترديد المعارف السابقة من غير أي إضافة علمية تذكر.
ونحن نرى في هذه الدراسات والبحوث تركيزا على جانب واحد من الجوانب التي يتعين على الباحث اعتبارها عند محاولة تصنيف مناهج التفسير ، مما يجعل السمة الغالبة عليها هي السطحية وعدم الشمولية.
ومما يؤكد أن أهل السنة في تصنيفهم لمناهج التفسير لم يقتصروا على الأدوات المعرفية ولا على النظرة إلى طبيعة التفاسير التي بين أيدي الناس ، بل تجاوزوها إلى اعتبار الأصول التي ينطلق منها المفسر ، والمقاصد والأهداف التي يرمـي إلـيهـا، ما نجـده عنـدهم -وبالاخص عند ابن تيمية- من اعتبار بعض الكتب من التفسير المأثور تجوزا . بل قد لا يتحرجون من جعلها من التفسير على المذهب ، لا لأنها تعتمد المعقول أساسا ، ولكن لاعتمادها على أصول وقواعد غير التي يعتمدها أهل السنة في مباحثهم العقدية والشرعية بصفة عامة. وسنقف على ذلك بتفصيل عند حديثنا عن التفسير المأثور كما تصوره أهل السنة .
التفسير المأثور
إن كتاب ابن تيمية "مقدمة في أصول التفسير " يبين أن أهل السنة كانوا يفرقون بين المنهج والإتجاه ، وإن لم يصرحوا بذلك . فهذا الكتاب ينقسم إلى قسمين : القسم الأول -وهو يشغل جل الكتاب- عبارة عن دراسة نظرية لأسباب الإختلاف في التفسير ، مبينا أيها يتمثل منهج أهل السنة في التفسير ولا يحيد عنه أو يخالف هذا المنهج ويعارضه، وأيها ينتسب إلى منهج أهل السنة وتتخلله في بعض الأحيان سمات التفسير على المذهب . ومن ثم يمكننا أن نطلق على القسم الاول مصطلح المنهج ، والقسم الثاني مصطلح الإتجاه .
فالمنهج هو تتبع الخطوات التي نصوا عليها في مصادرهم بحيث يبدأ بالكتاب ، ثم بالسنة ، ثم بأقوال الصحابة، فالتابعين. وهذه تعتبر بمثابة أصول يعتمدها المفسر الأثري في تفسيره ولا يتجاوزها إلى الرأي إلا بعد أن يستنفد الجهد في تفسير ما يروم تفسيره منها، فإن عجز جاز له عند ذلك الإجتهاد على القواعد التي بينوها وهي أن لا يعارض اجتهاده نصا صحيحا ، أو يستند إلى نص صحيح. ومعنى ذلك أن النقل هو الأساس ، والعقل إنما يوظف في التفسير "للتصديق والإذعان، وبيان تقريب المنقول من المعقول ، وعدم المنافرة بينهما ، فالعقل يكون شاهدا ولا يكون حاكما ، ويكون مقررا مؤيدا ، ولا يكون ناقضا رافضا ، ويكون موضحا لما اشتمل عليه القرآن من أدلة ".
وأما الإتجاه النقلي وهو الذي اصطلح عليه بالتفسير المأثور فهو لا يعد أصلا ولا حجة في مجمله ، بل هو التطور الطبيعي للمنهج النقلي. وتبدأ هذه المرحلة من تابعي التابعين ، أي بدايات عهد التدوين ، ودور المفسر الاثري - في هذه المرحلة - ليس قاصرا على ترديد أقوال السابقين ، بل هو يقوم على دعامتين : الأولى صحيح المنقول ، والثانية صريح المعقول .

المـنــهـــج النقــلــي :
وهناك نتساءل عن مفهوم النقل ، فهل النقل هو الإقتصار على ترديد ما قاله السابقون أي السلف الصالح ، أم النقل أوسع من ذلك بكثير؟
والواقع أن هذا يحتاج منا إلى تحديد مفهوم السلف ، وبتضح لنا مما كتبه ابن تيمية وغيره أن السلف لا يحدد مفهومهم باعتبار القدم أو الحداثة ، وإنما السلف هو التزام بمذهب وبمنهج واضح المعالم ، هذا المنهج هدفه الأسمى هو الوصول إلى الحقيقة ، من غير أن يكون للهوى أو المذهب، أو الرأي أدنى حذ فيها . ومن ثم نجد السلف هم الذين التزموا المنهج الذي وضعه القرآن الكريم في العقيدة والشريعة، والذي بينه الرسول إما بالسنة القولية أو الفعلية . ويتضح لنا ذلك من قول ابن تيمية : "فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا اتباعا لما جاء به الرسول، ولا يتقدم بين يديه ، بل ينظر ما قال، فيكون قوله تبعا لقوله ، وعلمه تبعا لأمره، فهكذا كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين ، فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله ، ولا يؤسس دينا غير ما جاء به الرسول . وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه نظر فيما قاله الله والرسول ، فمنه يتعلم ، وبه يتكلم ، وفيه ينظر ويتفكر ، وبه يستدل ، فهذا أصل أهل السنةّ".
ومن ثم فالسلفي هو من تمسك بالكتاب والسنة ، ولم يعارضهما لا بمعقوله ولا بوجوده وذوقه . وبذلك يكون النقل أوسع مما فهم ومما حدد ، وإلا فكيف سنفسر ما أثر عن الصحابة وعن التابعين - وهم خيار هذه الأمة بنص الحديث- فهل نعده تفسيرا أثريا ، أم نعده من التفسير المعقول ، أو باصطلاح ابن تيمية من التفسير على المذهب ؟

إن النقل إذن هو ما وصل إلينا من كتاب وسنة ، وأقوال الصحابة والتابعين ، لأن هؤلاء لم يكن قصدهم معارضة الكتاب والسنة ولا اتباع الهوى كما أنهم لا يناقشوا الأمور والقضايا التي حسم فيها الحق -سبحانه- ، أو بينها الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما أن منهجهــم في الإجـتهاد ، والإسـتدلال والإستنبـاط لا يتعـارض مع أهداف
ومقاصد القرآن أو الحديث . وفضلا عن ذلك فالأدوات المعرفية الموظفة في اجتهادهم هي أدوات متصلة بالنقل أكثر من اتصالها بالعقل. فهم قد استعانوا في تجلية بعض القضايا التي أجملها القرآن ولم تبينها السنة - والتي ظهرت الحاجة إلى تفسيرها بعد أن قبض رســول اللــه -صلى الله عليه وسلم- ، فلم يكن أمامهم إلا أن يلبوا الحاجيات الوقتية -باللغة والشعر، وبأحوال العرب في الجاهلية ، وبما سمعوه من أهل الكتاب مما لا يخالف الشرع .
وهنا نجد أنفسنا ملزمين بمناقشة رأيين :
الــــــرأي الأول :
يدعى صاحبه أن التفسير بالمأثور لا يخرج عن دائرة أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصحيحة ، أو الأخبار التي هي بمثابة أحاديث مرفوعة كأسباب النزول مثلا، وهذا نص قوله : "ولكن التفسير بالمأثور يبقى محتفظا بميزاته وحدوده ليشمل فيما يشمل ما كان بيانا لمناسبة نزلت فيهــا آية ، أو توضـيحا لمعـنى مبهم بينه الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وغير هذا لا يعد من التفسير بالمأثور ، حتى ولو روى من أعظم الصحابة واعلمهم . وليس معنى هذا أننا نقلل نم شأنهم رضي الله عنهم ... والذي أريد أن أقوله : إن التفسير بالمأثور ما لا مجال فيه إلا للسماع الثابت ، إما في بيان مناسبة نزول ،أو في توضيح مبهم بينه الرسول الكريم . أما ما كان ناشئا من معرفة باللغة ، أو أخبار أهل الكتاب فلا ينبغي أن ندرجه ضمن التفسير بالمأثور ، ولو أن ذلك قد تعارف عليه كثير من الناس فيما بعد . وبهذا نتبين أن دائرة التفسير بالمأثور ليست من الإتساع بحيث تشمل هذه الكثرة من الأقوال ، المتفقة حينا والمتناقضة حينا آخر ".
وهذا رأي غريب ، ولا يمكن أن نقبله ، ذلك أنه يلغي أقوال كبار الصحابة بدعوى أن التفسير النقلي أو المأثور قد كثر فيه التناقض والإختلاف والتعارض بين الأقوال والآراء بسبب توسيع دائرة النقل ، والواقع أنه قد أخطأ الطريق من جهتين :
1- إن إلغاء أقوال الصحابة والتابعين من التفسير الأثري هو خسارة علمية جسيمة واختيار لأسهل الطرق وأبسطها ، فضلا عن كونها عملية غير علمية . أما العمل الحق الذي يستحق كل إعجاب وتقدير فهو أن نخضع هذه الأقوال والآراء للدراسة العلمية الجادة على طريقة أهل الحديث ، فنختار منها ما هو صحيح النسبة إلى الصحابة والتابعين ونترك ما عداها ، مثل ما فعل علماء الحديث عندما أرادوا تدوين الحديث. فلم يقولوا : نتركه ونأخذ بالقرآن وحده لأنه هو الصحيح الورود قطعا ، أما الحديث فقد اختلط فيه الصحيح بالضعيف والموضوع، وإنما كانت لهم همم أكبر من ذلك ، فما كان منهم إلا أن عكفوا على دراسة الحديث من حيث المتن والسند ، فاستخلصوا الأحاديث الصحيحة وأتبتوها ، وتركوا الاحاديث الضعيفة والموضوعة ، ونبهوا على مواطن العلة فيها.
2- إن اختلاف الصحابة والتابعين وعموم السلف لم يكن اختلاف تعارض ، بل كان اختلاف تنوع ، كما أوضح ذلك ابن تيمية في "مقدمة في أصول التفسير " ، وفي أكثر من موضع من فتاويه ، كما نبه إلى ذلك غيره من علماء وأئمة أهل السنة .
ومن ثم فإن الطريق الصحيح هو ما أثبته أهل السنة من ضرورة اعتبار الصحابة والتابعين من المصادر الأساسية في الفسير ، لأن قواعدهم المنهجية ، واجتهاداتهم لا تتعارض مع القرآن أو السنة . وفي ذلك يقول ابن تيمية : "ولهذا كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيرا وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله ، كالتفسير ، وأصول الدين ، وفروعه ، والزهد، والعبادة، والأخلاق ، والجهاد وغير ذلك . فإنهم أفضل ممن بعدهم كما دل عليه الكتاب والسنة ، فالإقتداء بهم خير من الإقتداء بمن بعدهم ، ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين، خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم . وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصوما، وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم. فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم ،ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه ، قال تعالى : {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويل}".
الــــــراي الثــانـــي :
لقد أدى عدم وضوح مفهوم المنهج النقلي ، واعتبار دلالته اللغوية لا الإصطلاحية لدى بعض الباحثين إلى القول إن التفسير بالرأي أو العقل قد وجد سندا له عند ابن عباس ، وقد قال بذلك السيد أحمد خليل : "وأغلب التفسير بالرأي أو أكثره ينتهي بسنده إلى ابن عباس ابن عم الرسول ... ".
وهذا قول غير صحيح ، لأن التفسير بالرأي -كما بين ابن تيمية وغيره من أهل السنة - تفسير لا أصل له في الدين وإنما منبعه الهوى والرأي والتعصب للمذهب . وقد ذهب إلى شيء من ذلك الدكتور عفت الشرقاوي ، حيث قسم التفسير بالمأثور على عهد الصحابة إلى قسمين ، وفي ذلك يقول : "يستطيع الباحث أن يفرق بين جيلين من المفسرين بالمأثور يمثلان اتجاهين مختلفين ، الجيل الأول وعلى رأسه الخلفاء الأربعة وعدد من الصحابة عدا ابن عباس .
والجيل الثاني ويمثل طلائعه ابن عباس ومجاهد وبعض التابعين. والفرق بين الجيلين أن أولهما كان يلتزم السكوت فيما لم يرد فيه شيء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان يكتفي ببيان أسباب النزول بوصفه شاهدا لها ومعاصرا لأحداثها ، أو راويا لها عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالإضافة إلى ما أثر عنه من بيان لبعض الآيات ، أو توضيح لبعض المجملات أو تمييز لناسخ ومنسوخ . ولقد اعتبر حديث الصحابي في حكم الحديث المرفوع إذا كان يتعلق بسبب النزول ، أو نحو ذلك ... وهناك اتجاه ثان في التفسير بالمأثور يلتزم المنقول عن الرسول -صلى الله عليه وسلم - والصحابة ، ولكنه قد يستعين بالشعر أو يجتهد فيما يغيب عنه . ويعد ابن عباس طليعة هذا الإتجاه ، فقد سمي (ترجمان القرآن ) لأنه كان زعيم حركة التفسير في هذا العصر ".
والواقع ان منهج الصحابة واحد وقواعدهم وأصولهم واحدة ، وليس هناك فريق سكت عن تفسير مالم يرد فيه شيء ، وفريق انطلق مجتهدا ، وإنما حقيقة الأمر أن الصحابة قد التزموا السكوت عما لا علم لهم به ، لا على ما لم يرد فيه شيء عن الرسول ، وهناك فرق بين الأمرين . فلئن وجدنا بعضهم قد روى عنه أكثر من غيره فما ذلك إلا لسببين -حسب رأينا- الأول لما حباه الله به من علم وموهبة فتح الله له بها كنوز كتابه العزيز ، والثاني لأنه عاش إلى عصر التابعين حيث ظهرت الحاجة ملحة إلى تفسير كل القرآن الكريم، وقد اجتمعت هاتان الصفتان في الصحابة الذين كثرت عنهم الرواية . فليس الامر إذن أمر تخلص وتحرر من القواعد المنهجية التي ألزموا بها أنفسهم ، وإنما هو العلم والحاجة التي كانت وراء كثرة الرواية عن بعض الصحابة .
ونؤكد هنا على ضرورة التفريق بين المعنى المعجمي للنقل ، والمعنى الإصطلاحي له ، فالأول يجعل دائرة النقل ضيقة جدا، إذ يحصرها في تفسير القرآن للقرآن ، وبيان السنة الصحيحة الثابتة لما أجمله القرآن الكريم ، أما المعنى الإصطلاحي فيجعل النقل أوسع من ذلك - وهو ما ذهب إليه أهل السنة - حيث يشمل الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين . وبذلك نستطيع أن نفهم كيف تضخم التفسير المعتمد بالأساس على النقل والذي يعرف بالتفسير المأثور ، ذلك أن المفسر الأثري لم يقتصر في تفسيره على "ذكر بالروايات فقط ، ولا تنتهي مهمته عند رصدها فحسب. وإنما تبدو فعاليته في اتجاهه إلى مرويات بعينها ويجمعها حول الىية الواحدة ، وفي الترجيح بين هذه المرويات وتفضيل واحدة منها، أو الحكم بضعفها جميعا ، والقول في الآية بما يراه في ضوء المسائل المعينة على فهم النص القرآني كأسباب النزول ، أو المألوف من كلام العرب، أو الرجوع إلى الدلالة اللغوية للألفاظ في عصر النبوة ، وغير ذلك مما يعين على القول في القرآن برأي".
وهذا يبرز -كما سبق أن قلنا - خطأ التصنيفات التي تجعل التفسير المأثور مرتبطا بالمعنى المعجمي للنقل ، حيث يلغي المفسر عقله ويستخدم حافظته ، ومن ثم وجدنا أهل السنة عندما ناقشوا قضية التأويل نصوا على أن الإجتهاد قسمان :
1- محمود : وهو المستند إلى نص أو لا يعارض نصا .
2- مذموم : وهو الذي يتبع الهوى وينتصر للمذهب ، فيلوي عنق النص وينحرف به عن حقيقته الصريحة الواضحة ، ويجنح به إلى الخيالات والأوهام . وفضلا عن ذلك فإن أهل السنة، خاصة منهم ابن تيمية، ينصون على أن صريح المعقول لا يتعارض مع صحيح المنقول. وبذلك يكون التفسير الأثري ليس هو الذي يعتمد النقل بالمعنى العجمي، بل الذي يستند إلى النقل بالمعنى الإصطلاحي ، وأما المفسر الأثري الحق فهو الذي يجعل القرآن أمامه ، والسنة سبيله إلى تكشف معاني الذكر الحكيم ، ويجعلهما أصلا وحجة يقاس عليهما ولا يقاسان على غيرهما من الآراء والمذاهب، ولا يعارض القرآن لا بعقل ولا بذوق أو وجد، ولا يخالف منهج الصحابة ، مما يجعل تفسيره يجمع بين النقل الذي هو الأساس الذي تقوم عليه عملية التفسير، ثم يعززه ويعضده بالعقل وذلك عن طريق دراسة الأقوال الماثورة من حيث السند والمتن ، وترجيح إحداها على الأخرى، وتفسير القرآن بناء على ما استجد في حياة الأمة من أوضاع وأحوال ، بحيث يمثل التفسير حالة الجيل الذي يعيش فيه المفسر . وهو في اجتهاداته واستنباطاته يوظف أدوات معرفية ألصق بالمأثور منها بالعقول، كمعرفة أحوال العرب وأهل الكتاب وقت تنزل القرآن الكريم، والمألوف من كلام العرب، وتحديد معاني الألفاظ على ما كانت عليه في عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- والإلمام بسيرة الرسول وأصحابه، والوقوف على منهج الدعوة ، ومعرفة أسباب النزول والأصول والقراءات المشهورة التي أجمعت الأمة على قبولها . وفي ذلك يقول صاحب "مقدمة كتاب المباني" مبينا هذه الإزدواجية بين النقل والعقل في التفسير المأثور : "وليس لمن بعدهم ممن لم يتحققوا تلك الأحوال إلا بأخبار تنقل إليهم على ألسنة الرواة مما لا ينقطع على مغيبه باليقين ، أن يتعاطوا مذاهبهم وأقوالهم في ذلك ، فيأخذوا بما أجعوا عليه أخذا لا معدل عنه ، وينظروا فيما اختلفوا فيه، فيتخيروا ما هو أهنأ وأهد، وأرفق بالأصول .وها هنا وجه آخر وهو أوسع -مما تقدم ذكره- مجالا وأيسره حالا، وهو حمل اللفظ على ما يحتمله من مقتضى لغة العرب واستقراء الوجوه الممكنة فيه ، وهذا هو التأويل المسوغ لأهل العلم في كل وقت وزمان".
ولا يستفاد من قولنا إن أهل السنة قد ركزوا في أبحاثهم النظرية والتطبيقية في التفسير على المفهوم الإصطلاحي للنقل ، أنهم قد تجاهلوا النقل بالمعنى المعجمي ، بل إن هذا الأخير يعدونه قاعدة أساسية في التفسير المأثور ، ومن ثم نجدهم يهتمون أيما اهتمام بمصطلح الحديث لأنه يمكنهم من مناقشة من مناقشة الطرق المختلفة التي تنقل عبرها الروايات المأثورة . كما نجدهم قد بينوا أن الخطأ في التفسير المأثور أو النقلي يرجح إلى سببين هما :
1- نقول صحيحة لا حجة للناقل فيها.
2- الإعتماد على أخبار موضوعة او مكذوبة أو على إسرائيليات.
ولذلك اجتنب أهل السنة - ومنهم ابن تيمية وابن كثير - الخبر الضعيف والموضوعات والإسرائيليات خاصة ما يخالف الشرع منها .
الإتجاه النقلي او التفسير المأثور :
إن التفريق بين المعنى المعجمي للنقل ، والمعنى الإصطلاحي يمكننا من فهم كيفية تضخم التفسير المأثور، فالبداية كانت من القرآن حيث ما أجمل في موضع قد فصل في آخر، حتى قال العلماء بالتفسير إن القرآن يفسر بعضه بعضا. ثم إن السنة قد فصلت وبينت بعض ما أشكل فهمه على بعض الصحابة ، ثم إن هؤلاء بعد أن قبض الرســول -صلى الله عليه وسلم- أصبحوا مفسرين ومبينين للقرآن الكريم، ومصادرهم في ذلك الكتاب والسنة والإجتهاد . ويكننا أن نجمل أدوات الإجتهاد عندهم فيما يلي :
1- معرفة أوضاع اللغة العربية .
2- معرفة عادات العرب قبل الإسلام .
3- معرفة أحوال اليهود والنصارى في الجزيرة العربية وقت نزول القرآن .
4- قوة الفهم وسعة الإدراك ، وعلم الموهبة .
وهناك مصدر رابع من مصادر الصحابة في التفسير وهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وخاصة من دخل منهم الإسلام كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ولكنهم لم يكونوا يأخذون عنهم إلا ما يرافق الشرع. وكان أن تفرق الصحابة في الأمصار بسبب الفتوحات المباركة، فكونوا في كل مصر حلوا به مدرسة تفسيرية واضحة المعالم، ومتميزة عن غيرها ، وأقطاب هذه المدارس هم الذين يعرفون بالتابعين . ويمكننا أن نقف عند ثلاث مدارس ، وهي :
1- مدرسة مكة وإمامها ابن عباس -رضي الله عنهما- ومن مشاهير تلامذتها :
أ- سعيد بن جبير (ت 95هـ) .
ب- مجاهد بن جبر المكي (21هـ/106هـ)
ح- عكرمة مولى ابن عباس (ت 105هـ) .
د- عطاء بن أبي رباح (ت 114هـ) .
2- والمدرسة التفسيرية الثانية هي مدرسة المدينة المنورة، وقد تزعمها صحابيان من جلة الصحابة وخيارهم وهما : علي بن أبي طالب(1) وأبي بن كعب ، ومن تلامذتها المبرزين :
أ- أبو العالية (ت 90هـ)
ب- محمد بن كعب القرظي ( ت118هـ) .
ح- زيد بن أسلم (ت136هـ) .
3- وأما المدرسة الثالثة فقد كانت بالعراق ، خاصة ببغداد والبصرة والكوفة، ويعد عبد الله بن مسعود رائد هذه المدرسة . وقد تأثر أهل العراق "بطريقته في الإجتهاد في الفقه ، والأحكام والتفسير ، وهي حرية الرأي في الإجتهاد وحسن التصرف في النصوص ، وعدم الجمود عليها " .
ومن أعلام هذه المدرسة :
أ- مسروق بن الأجدع (ت 63هـ) .
ب- الضحاك بن مزاحم(ت 105 هـ)
ح - الحسن البصري (ت110هـ) .
د- قتادة بن دعامة السدوسي (117هـ) .
وقد كان لهذه المدارس الثلاث شأن عظيم في التفسير عامة والتفسير المأثور خاصة، حتى إن ابن تيمية يعدها أهم المدارس التفسيرية إطلاقا، وفي ذلك يقول :"وأما التفسير فإن أعلم الناس به أهل مكة لأنهم أصحاب ابن عباس-كمجاهد ، وعطاء بن أبي رباح ، وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم من أصحاب ابن عبــاس كطــاوس، وأبي الشعتاء ، وسعيد بن جبير وأمثالهم ، وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود ومن لك ما تميزوا به على غيرهم ، وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه مالك التفسير ، وأخذه عنه أيضا ابنه عبد الرحمن ، وأخذه عن عبد الرحمن عبد الله بن وهب" .
ويمكننا أن نجمل مميزات التفسير على عهد الصحابة والتابعين في المميزات التالية :
1- الإعتصام بالقرآن ، وتجنب معارضته بالعقل ، أو الذوق ، أو الوجد مما يجعل من القرآن إماما يقتدى به ، وكل الآراء والمذاهب تقاس عليه، ولا يقاس على غيره. وقد أفاض القول في هذه الميزة التي تفرد بها تفسير الصحابة والتابعين ابن تيمية في فتاويه ، ومما قاله في ذلك :"وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة ، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، أنه لا يقبل من أحد قط، أن يعارض القرآن لا برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ، ولا قياسه ولا وجده ... فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدى به ، ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة ، ولا قال قط قد تعارض في هذا العقل والنقل، فضلا عن أن يقول : فيجب تقديم العقل، والنقل - يعني القرآن والحديث وأقوال الصحابة والتابعين - وإما أن يفوض وإما أن يؤول".
2- ليس في الصحابة أو التابعين من تعمد الكذب على الرسول -صلى الله عليه وسلم- مما جعل تفسيرهم يخلو من الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، ومن ثم يكتسب قيمته العلمية ، وعن هذه الميزة يقول ابن تيمية : "إن من عرف الصحابة كابن مسعود ، وابي بن كعب ، وابن عمر وجابر ، وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرهم ، علم يقينا أن الواحد من هؤلاء لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضلا عمن هو فوقهم ، كما يعلم الرجل من حال من جربه وخبره خبرة باطنة طويلة أنه ليس ممن يسرق أموال الناس ، يقطع الطريق، ويشهد بالزور ونحو ذلك . وكذلك التابعون بالمدينة ومكة والشام والبصرة ، فإن من عرف مثل أبي صالح السمان ، والأعرج وسليمان بن يسار، وزيد بن أسلم وأمثالهم ، علم قطعا أنهم لم يكونوا ممن يتعمد الكذب في الحديث فضلا عمن هو فوقهم مثل محمد بن سيرين، والقاسم بن محمد ، أوسعيد ابن المسيب ، أو عبيدة السلماني ، أو علقمة، أوالأسود، أو نحوهم".
3- قلة اختلافهم في فهم معاني القرآني ، وإن كان الخلاف في التابعين أكثر مما هو عليه عند الصحابة . يقول ابن تيمية : "ولهذا كان النزاع بني الصحابة في تفسير القرآن قليلا جدا ، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة، فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم ، وكلما كان العصر أشرف كان الإجتماع والإئتلاف، والعلم والبيان فيه أكثر".

وببداية عصر تابعي التابعين تبدأ مرحلة تدوين التفسير ، وقد قام بهذه العملية العلمية الجليلة في الأول رجال الحديث ، ويمكن أن نعتبر الإمام مالك (93هـ/179هـ) هو أول جامع للتفسير. وفي هذه المرحلة كان المحدثون يفردون في كتبهم بابا للتفسير يجمعون فيه ما أثر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين من تفسير للذكر الحكيم .
وأما المرحلة الثانية من مراحل تدوين التفسير المأثور فهي التي انفصل فيها التفسير عن الحديث ، وأفرد بتأليف خاص . وقد كانت مهمة المفسر الأثري في هذه المرحلة هي :"نقل الروايات بأسانيدها دون تعليق عليها ، ودون مزج لهذه الروايات بلون آخر من الدراسة ، كتفسير يزيد بن هارون السلمي المتوفى سنة 117هـ، ومقاتل بن سليمان . وتفسير عبد الرزاق الصنعاني" .
وأما المرحلة الثالثة من مراحل التفسير الأثري فهي التي ألفت فيها الموسوعات التي تعتمد التفسير المأثور ، ويأتي في مقدمتها تفاسير: ابن ماجة المتوفى سنة(273) ، وابن جرير الطبري المتوفى سنة (310هـ)،وأبي بكر بن المنذر النيسابوري(ت 318هـ). وفي هذه المرحلة نجد تدوين التفسير المأثور يتميز بميزتين ، إحداهما يشترك فيها مع المرحلة السابقة نجد تدوين المأثور يتميز بميزتين ،إحداهما يشترك فيها مع المرحلة السابقة حيث دون التفسير مسندا من غير أن يكون للمفسر دور كبير وواضح ومتميز في تفسيره. والميزة الثانية تتمثل في تفسير ابن جرير الطبري، حيث نجده لا يقتصر علىنقل الروايات والأقوال والآراء . وترجيح بعضها على بعض، والإهتمام بالقراءات . وبذلك يكون ابن جرير قد خطا بالتفسير خطوة جبارة بدأت تتضح معها معالم التفسير المأثور وتتسع دائرته ، وفي ذلك يقول د. محمد حسين الذهبي : "إن ما جمعه ابن جرير في تابه من أقوال المفسرين الذين تقدموا عليه، وما نقله لنا من مدرسة ابن عباس، ومدرسة ابن مسعود ، ومدرسة على بن ابي طالب، ومدرسة أبي بن كعب ، وما استفاده مما جمعه ابن جريج، والسدى ، وابن إسحق ، وغيرهم من التفاسير بالمأثور ، كما أن ما جاء في الكتاب من إعراب ، وتوجيهات لغوية ، واستنباطات في نواح متعددة ، وترجيح لبعض الأقوال على بعض كان نقطة التحول في التفسير ".
وأما المرحلة الرابعة من مراحل تطور التفسير المأثور فهي التي رويت فيها الأقوال والآراء غير مسندة ، وقد كان حذف الإسناد من الأسباب الجوهرية في ضعف التفسير بالمأثور. وجدير بالذك أن حذف الإسناد مع عدم تحري الصحة، فاختلط الصحيح بالضعيف والموضوع، واستمر الأمر على ذلك إلى أن حدفت الأسانيد فكان أن ساد الكذب على السف. وممن حذف أسانيد مروياته أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي ، الفقيه الحنفي المعروف بإمام الهدى المتوفى سنة 373هـ، وذلك في تفسيره "بحر العلوم" ، وكذلك فعل البغوي (510هـ) في تفسيره "معالم التنزيل " حيث كان ميالا إلى الرواية عن السلف من غير ذكر الإسناد وإن كان قد ذكر أسانيد في مقدمة كتابه، ولكن ذلك لا يفي بالمقصود .
وأما المرحلة الخامسة فهي التي توجهت فيها العناية إلى جمع آثار السلف مع الحفاظ على المضامين ، وعدم تجريدها من الأسانيد . وقد ظهرت هذه المحاولات بعد ان عظم خطب الإتجاهات الضالة والفرق المذهبية المنحرفة ، وانعكس ذلك على حياة الأمة ، حيث بدأ نوع من التفكك والإنـحـلال والـضعف يصيـبها نتـيجة البعـد عن الكــتاب والسنة ، ومخالفة منهج الصحابة والتابعين في مسائل العقيدة والشريعة ، كما دعت له ظروف المواجهة مع أعداء الإسلام: المغول والتتار القادمين من الشرق، والصليبيين القادمين من الغرب فكان أن بدت الحاجة ملحة إلى إرجاء الأمة إلى منهج السلف الصالح ، فهو السبيل إلى إقامة الأمة من عثرتها ، وتصحيح المسار، وإذكاء روح الجهاد في النفوس من جديد. وقد قام بهذه المحاولة الرائدة أربعة من أعلام أهل السنة ،وهم :
1- ابن عطية (481هـ/546هـ) في تفسيره " المحرز الوجيز في تفسير الكتاب العزيز".
2-عبد الرحمن بن علي بن الجوزي (ت597هـ) وذلك في تفسيره "زاد المسير في علم التفسير" .
3- عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمرو بن كثير (ت 774هـ) ويعتبر تفسيره محاولة موفقة لتطبيق نظرية أهل السنة في التفسير، وذلك كما سطرها ابن تيمية في رسالته "مقدمة في أصول التفسير".
4- الحافظ جلال الدين ابو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر محمد السيوطي (849هجرية /911هـ) في تفسيره "الدر المنثور في التفسير المأثور" وهو عبارة عن موسوعة للتفسير المأثور.
ويمكننا أن نصنف كتب التفسير المأثور إلى طبقات ، لا باعتبار الفارق الزمني بينها ، ولكن باعتبار قربها أو بعدها عن تمثل المنهج النقلي المعتمد على الكتاب والسنة في المرتبة الأولى، وأقوال الصحابة والتابعين في المرتبة الثانية ، ثم طرق الإستدلال والإستنباط العقلي، والبعد عن البدعة ، ونقل أقوال السلف من أصح الطرق، واجتناب الإسرائيليات والأحاديث الضعفية والموضوعة ، في المرتبة الأخيرة.

وقد قام بهذه العملية النقدية لكتب التفسير المأثور الإمام تقي الدين أحمد بن تيمية (661هـ/728هـ) وذلك في رسالته "مقدمة في أصول التفسير" حيث يتبين لنا أنه يعتبر جملة من التفاسير في طبقة واحدة، وإن لم يصرح بذلك ، ولا أورد الكلام عنها في موضع واحد، ويمكننا أن نجزم أنه يعتبر الطبقة الأولى مكونة من :
1- تفسير وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي الكوفي (ت 196هـ)
2- تفسير سفيان بن عيينة الأعور الكوفي (107هـ / 198هـ) .
3- تفسير عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري الصنعاني (126هـ/211هـ).
4- تفسيير سنيد بن داود المصيصي المحتسب (ت220هـ)
5- تفسير إسحاق بن رواهوية (161هـ- 238هـ) .
6- تفسير الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (164هـ/241هـ)
7- تفسير عبد الرحمن إبراهيم دحيم (170هـ/245هـ)
8- تفسير عبد بن حميد بن نصر (ت 249هـ)
9- تفسير أبي سعيد الأشج عبد الله بن سعيد بن حصين الكندي الكوفي،المتوفى سنة 257هـ.
10- تفسير محمد بن يزيد بن عبد الله بن ماجة القزويني صاحب السنن( 209هـ/273هـ) .
11- تفسير بن مخلد بن يزيد القرطبي حافظ الأندلس في القرن الثالث(231هـ/276هـ) .
12- تفسير أبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر شيـخ الحـرم بـمـكة (ت 309هـ) .
13- تفسير أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (224هـ/310هـ).
14- تفسير ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي (240هـ/327هـ).
15- تفسير أحمد بن موسى بن مردويه الأصفهاني (323هـ/401هـ)(1).
16- تفسير أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الماوردي ، المتوفى سنة 450هـ.
17- تفسير عبد الرحمن بن علي بن الجوزي (ت597هـ) .
وهذا الإختيار تم كما قلنا بناء على مقاييس علمية ومنهجية حددها ابن تيمية في رسالته السالفة الذكر، وبتتبعنا لها فيها قد لا نجدها تخرج عما يلي :
1- القرآن إمام وقائد يتبع ولا يتبع غيره ، وأصل يقاس عليه ولا يقاس على غيره.
2- لا يقتصر هؤلاء في تفسييرهم للذكر الحكيم على ظاهرة اللغة ، لأنه ليس خطابا عاديا، ومن ثم فهم يراعون فيه أنه كلام الله سبحانه وتعالى الخالد المحكم المفصل . والذي جاء نورا وهدى وشفاء لما في القلوب ، وأنه نزل على الرسول الصادق الامين -صلى الله عليه وسلم- وأن المخاطبين به هم العرب أولا ثم الناس أجمعون. فعملية التفسير عند رجال الطبقة الأولى تشمل كل أبعاد الخطاب القرآني وتتمثل عملية الوحي، وهي غير عملية الخطاب العادي أو الكلام اليومي، وقد دفعهم ذلك إلى الإهتمام بدراسة الظروف والملابسات المصاحبة لنزول القرآن الكريم، وهو ما يعرف باسباب النزول.
3- نقل أقوال السلف من أصح الطرق والبعد عن البدعة ، وقد تحدث ابن تيمية عن هاتين الميزتين عند تقويمه لتفسير ابن الطبري حيث قال : "أما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها (تفسير محمد بن جرير الطبري )فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة ، وليس فيه بدعة ، ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير والكلبي.".
وأما الطبقة الثانية فيمكن أن نعد من ضمنها :
1- تفسير عبد الحق بن عطية (481هـ/546هـ).
2- تفسير أبي عبد الله القرطبي (ت671هـ).
3- تفسير أبي محمد الحسين البغوي (ن 510أو 516هـ)(1).
وابن تيمية يضع تفسير ابن عطية في أول هذه الطبقة لحرصه على النقل عن السلف، وفي ذلك يقول :"(تفسير ابن عطية) خير من تفسير الزمخشري، وأصح نقلا وبحثا وأبعد عن البدع وإن اشتمل على بعضها، بل هو خير منه بكثير ، بل لعله أرجح هذه التفاسير" وأما البدع التي تضمنها تفسير ابن عطية فقد بين ابن تيمية أنها ترجع إلى تركه في بعض الأحيان الاخذ أقوال السلف،وميله إلى الأخذ عمن يسميهم بالمحققين ،وهم طوائف المتكلمين الذين يعتمدون أقوال مشايخهم ويجعلونها هي الأصل الذي يقاس عليه. ومن ثم فإنه كاد أن يعده من التفسير على المذهب. "وتفسير ابن عطية وأمثاله اتبع للسنة والجماعة ، واسلم من البدعة من تفسير المخشري ، ولو ذكر كلام السلف الموجود في التفاسير المأثورة عنهم على وجهه، لكان أحسن وأجمل، فإنه كثيرا ما ينقل من تفسير محمد بن جرير الطبري، وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدرا ، ثم إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السلف لا يحكيه بحال، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين ، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم، وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة . لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه ، ويعرف أن هذا من جملة التفسير على المذهب ، فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في تفسير الآية قول وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه، وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان، صاروا مشاركين للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا ".
وأما الإعتبارات التي جعلته يجمع هذه التفاسير الثلاث في طبقة واحدة، فنجملها في النقط التالية :
1- سلامتها من البدعة والأحاديث الضعيفة في الأعم الأغلب.
2- تمثلها للكتاب والسنة في التفسير، وجعلهما الأصل الذي يقاس عليه كل ما سواهما.
3- النقل عن السلف بالأساس ، وإن كانوا في بعض الأحيان يتركون أقوالهم إلى أقوال بعض الفرق الكلامية التي أسست مذاهبها على أصول ابتدعها مشايخهم،وإن كانت قريبة لما عليه أهل السنة والجماعة.
* وفي الطبقة الثالثة نجد تفسير أبي إسحق أحمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري (ت 427هـ) المسمى ب "الكشف والبيان عن تفسير القرآن"، وقد جعله ابن تيمية في هذه الطبقة لأنه كان رجلا صالحا في نفسه إلا أن تفسيره يؤخذ عليه حشد الأقوال من غير دراسة وتمحيص، فاختلط فيه الصحيح بالضعيف والموضوع .وفي ذلك يقول :"والثعلبي هو نفسه كان فيه خير ودين ، وكان حاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع".
* وأما الطبقة الرابعة والأخيرة من طبقات التفسير المأثور فقد وضع فيها ابن تيمية تفسير الواحدي أبي الحسن علي بن أحمد (ت 468هـ) ، الذي شهد له بطول الباع في علوم العربية إلا أنه كان بعيدا عن طريق أهل السنة والجماعة.
وأما تفسير الزمخشري فلا موضع له ضمن كتب التفسير الماثور ، لأنه من التفسير على المذهب الذي يتبنى أصولا وقواعد مخالفة لتلك التي يتبناها أهل السنة والجماعة ، ومن ثم فضل عليه التفاسير السابقة على ما به من علم.
 
التفسير على المذهب :

التفسير على المذهب :

"والتفسير على المذهب " مصطلح استعمله ابن تيمية عند تصنيفه لمناهج التفسير ، حيث بين أن هذا التصنيف ينبغي أن لا يقوم على الأساس التاريخي، أو على أساس الكتاب والسنة وأقوال السلف من صحابة وتابعين .
وقد بينا سابقا أن المنهج النقلي هو الذي له أصل في الدين إذ يرتكز على هذه المبادئ الأربعة ، وقد يتجاوزها إلى الإستدلال والإستنباط ، ولكن مع استحضارها دائما في وعي المفسر بحيث تكون عملية الإجتهاد إما قائمة على نص، أو غير تعارضة معه، كما يراعي فيها عدم التعارض مع مقاصد الشريعة.
أما التفسير على المذهب فهو التفسير الذي لا أصل له في الدين حيث ينطلق من أصول ابتدعها مشايخ الطرق الصوفية، وأصحاب المذاهب الكلامية والفلسفية ويعتبرونها هي الأصل الذي ينبغي أن يقاس عليه . وفي ذلك يقول ابن تيمية :"إن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان ، فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والإختلاف صار أهل التقرف والإختلاف شيعا، صار هؤلاء عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان ،ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم ، عليها يعتمدونفي التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسول وغير ذلك ، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به ، وما خالفها تأولوه. فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر على غير ذلك ، والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن ، ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول بل أن يدفع منازعه عن الإحتجاج بها".
وهذا النص يوضح لنا أن الخلاف بين أهل السنة ومن عداهم من فلاسفة ، ومتكلمين ، وصوفية خلاف جوهري وليس خلافا جوهريا وليس خلافا عرضيا أو لفظيا كما يدعي البعض، إذ إن الأصول التي يعتمدها أهل السنة في التفسير ، وفي مباحثهم العقدية هي غير الأصول التي يعتمدها أهل البدع والضلالة ، كما ان المقصد من البحث يختلف تماما .
والامر لا يختلف عن هذا كثيرا في ما يتعلق بالموقف السلفي ، والموقف الصوفي من تفسير النص القرآني حيث نجد السلف -كما أسلفنا - ينطلق من القرآن ، ويعتبره هو مصدر المعرفة الوحيد ،ومعين الحقيقة الذي لا ينضب ، فمنه يغترف ،وإليه يلجأ. أما الصوفية فموقفهم مخالف تماما ، فهم يعتبرون الذوق والوجد هو مصدر المعرفة الحقة، ومعنى ذلك أن المعرفة ينبغي أن تنطلق من ذات الإنسان لا من شيء خارج عنه.وقد ترتب عن نظريتهم في المعرفـة أن صـاروا يـعبـدون
الله بالذوق والوجد، لا بالشرع والإتباع، ويفضلون الأولياء على الانبياء "وأما عرافهم الذين يعلمون حقيقة قولهم فيعلمون أنه ليس الأمر كذلك، ويقولون ما يقول ابن عربي ونحوه أن الأولياء أفضل من الأنبياء وأن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء . وأن جميع الأنبياء يستفيدون معرفة الله من مشكاة خاتم الأولياء ، وأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يأتي خاتم الأنبياء . فإنهم متجهمة متفلسفة ، يخرجون أقوال المتفلسفة والجهمية في قالب الكشف".
فالموقف الصوفي هو نفس الموقف الكلامي أو الفلسفي، وإن بدا الإختلاف في الظاهر في الأدوات المعرفية ، حيث يعتمد الأوائل على الذوق والوجد والمكاشفة، ويعتمد الآخروه على العقل وحكمة اليونان. والهدف والمقصد واحد وهو نسخ الشرائع والتحلل منها وإفشاء الزندقة والإلحاد في الأمة . ولعل ذلك هو ما خول لنا جمع تفسيرات المتكلمة والفلاسفة والصوفية تحت عنوان : التفسير على المذهب .
ويمكننا أن نحدد وجوه الإختلاف بين أهل السنة وغيرهم من المتكلمة والفلاسفة والصوفية في النقط التالية :
1- أهل السنة يعتمدون الأصول الأربعة ، وهي الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وإجماع التابعين ، وهي عندهم أصل وحجة يقيسون عليها كل ما سواها، ولا تقاس على غيرها ، مع مراعاة التدرج والترتيب المذكور أثناء مباشرة عملية تفسير الخطاب القرآني . أما المتكلمون، والفلاسفة ، والصوفية فكل واحد منهم يجعل العقل أو الذوق أو أقوال المشايخ وحكماء اليونان حجة وأصلا يقيس عليه كل ما خالفه من كتاب وسنة وأقوال الصحابة والتابعين .
2- أهل السنة ينظرون في القرآن وهم مسلمو القياد له ، ويعتبرونه أميرا يتبع، ويحاولون الوصول إلى الحقيقة من خلاله . وأما تعامل المتكلمين والفلاسفة والصوفية مع القرآن فينقسم إلى قسمين :
أ- ينظرون في القرآن قصد البرهنة على أصولهم الفاسدة ، فليس هناك تجرد للحقيقة ، كما أن الموضوعية العلمية تكون غائبة تماما مما يضطرهم إلى التعسف في تأويل النصوص، وهو ما عبر عنه أهل السنة بلَي عنق النص.
ب- أما النصوص التي ليس لهم فيها حجة بل تتعارض بينا مع مقرراتهم وأصولهم ، وتعذر عليهم تأويلها وفق ما يؤمنون به، فإنهم يحاولون أن يتناولوها لا لتوافق مذهبهم ، ولكن حتى لا يجد فيها معارضهم حجة يعارضهم بها.
وهذا كله يوضح ان عملية تفسير القرأن الكريم عند هؤلاء القوم لم تكن عملية نزيهة ولا موضوعية ولا علمية، بل كانت عملية مغرضة -في اغلب الأحيان- تستهدف حمل النص على مقرراتهم وأصولهم التي يؤمنون بها.
3- أهل السنة يعتبرون ما جاءت به الانبياء هو الحق الذي لا حق بعده، وكل ما دونه فهو باطل ووسوسة من الشيطان أما المتكلمة والفلاسفة فإنهم -خاصة الفلاسفة- يعتقدون بأن الأنبياء لم يأتوا بالحق ، ويجوزون عليهم الكذب من أجل المصلحة. وهم بصفة عامة يرفعون من شأن العقل ويدعون بأن الحسن ما حسنه العقل والقبيح ما قبحه العقل، مما يجعل حكم العقل مقدما على حكم الشرع. وفي ذلك -لا محالة - إهدار للنص مهما ادعوا من أن المقصد ليس هو المفاضلة بين النقل والعقل، ولكن الواقع ولسان الحال ينطقان بذلك.
4- أهل السنة وهم يفسرون القرآن الكريم لا يتجاوزون ظاهر اللغة إلى ما يسمى الآن بمعنى المعنى او المعنى الثاني ، أو الباطن، بتعبير الصوفية والروافض وسائر غلاة الشيعة والزنادقة والملاحدة. أما المتكلمة والفلاسفة فهم يتركون ظاهر النص الواضح الدلالة الذي تعززه نصوص أخرى من القرآن أو من السنة النبوية ، وهو الذي يوافق مقاصد الشريعة ، ويتجاوزونه إلى المعنى الثاني او المعنى الباطن، بحيث يصرفون اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح من غير ما ضرورة تحوجهم إلى ذلك إلا التعسف ورجاء فك التعارض الحاصل بين النص القرآني وبين مقرراتهم ومعتقداتهم.
وهذا هو نفس ما توصلت إليه الدكتورة فوقية حسين ، وهي بصدد بحثها المتعلق بالإمام الأشعري ، حيث عقدت مقارنة بين المنهج السلفي والمنهج الإعتزالي في التفسير ، وفي بحث القضايا العقدية بصفة عامة ، فتبين لها أن : "أسلوب أهل الإعتزال لا يمكن أن يشترك مع وقفة السلف الصالح بحيث يتيسر استخراج موقف وسط بينهم ، فكل منهما على طرف نقيض من الأخرى ، فبينما ينطلق المعتزلة من أصول ذهنية ، لا تلتزم بالمعاني الدينية ، نجد السلف يشرعون من دلالة النص المنزل ويحرصون على استجلاء المعاني من كلمات الله تبارك وتعالى".
وقد أكدت ذلك في نصوص سابقة حيث أوضحت أن التأويل الصحيح لنصوص الخطاب القرآني هو الذي تمثله عملية تفسير السلف الصالح للنصوص المتشابهة ، أي النصوص المشكلة التي اشكل معناها على الخواص، أو التي تحتمل أكثر من معنى -على ما سنبين مستقبلا- حيث واجهوا هذه النصوص كما هي من غير أن يفرضوا عليها أنساقا فكرية معينة، وعقائد ومللا ونيحلا قد تتعارض مع حقائق الدين الإسلامي التي اوضحتها الآيات المحكمات من الذكرالحكيم .
فهذا الموقف يبين لنا أن السلف الصالح كانوا يستقون معارفهم من القرآن والسنة ، ويجعلون هواهم تبعا لما جاء به الرسول-صلى الله عليه وسلم- وهو غير الموقف الإعتزالي ، أو الصوفي ،أو الفلسفي الذي يواجه النص القرآني بأنساق فكرية ، وأذواق ومواجيد ، ويحاول أن يجعل القرآن ناطقا بها ،ومعبرا عنها : "ولما كان التأويل الصحيح له أصول، فقد أبرزها رجال السلف الصالح وبينوها من خلال التطبيق ، أي من خلال تناولهم للنصوص لبيان معانيها . وينطلق جميعهم من الوقفة التالية وهي :
مواجهة النص المنزل بدون افكار مسبقة ، أي بدون أنسقة فكرية أو مذاهب في تفسير الوجود أو المعرفة ، تؤدي إلى إخراج النص عن حقيقته، وبعبارة أخرى إعطاء مكان الصدارة والأولوية للنص المنزل ليكشف عن مضمونه من واقع الفهم اللغوي للألفاظ ، وبالستعانة بالنصوص المنزلة الأخرى، وبمختلف اصول التفسير . وهذا ما كان من أحمد بن حنبل ، فقد أثبت النصوص المنزلة وفسرها على النحو الذي تؤدي إليه الألفاظ معطيا للنص الأولوية في الكشف عن مضمونه.
وهناك نصوص أخرى لابن تيمية توضح أن الخلاف بين أهل السنة والمتكلمين والفلاسفة والصوفية ، في ما يخص تفسير الخطاب القرآني ، خلاف جوهري . وهذا أحد تلك النصوص التي تؤكد ما قررناه سابقا : "فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الـديــن إلا تبعـا لما جاء به الرسول ، ولا يتقدم بين يديه ، بل ينظر ما قال ، فيكون قوله تبعا لقوله،وعلمه تبعا لأمره، فهكذا كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله ، ولا يؤسس دينا غير ما جاء به الرسول، وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه نظر فيما قاله الله والرسول، فمنه يتعلم وبه يتكلم ، وفيه ينظر ويتفكر ، وبه يستدل، فهذا أصل أهل السنة. وأهل البدع لا يجعلون اعتمادهم في الباطن ونفس الأمر على ما تلقوه عن الرسول، بل على ما رأوه أو ذاقوه ثم إن وجدوا السنة توافقه وإلا لهم يبالوا بذلك، فإذا وجدوها تخالفه أعرضوا عنها تفويضا أو حرفوها تأويلا".
فهذا النص يوضح أن أهل البدع -والمقصود المتكلمون والفلاسفة والصوفية - إذ ينظرون في القرآن الكريم لا يكون قصدهم من ذلك البحث عن الحقيقة بقدر ما هو تعزيز مقرراتهم ومعتقداتهم بدليل نقلي ، فإن عجزوا عن ذلك تأولوا النص أو فوضوا علمه لله تعالى.
ولما كان تحريف النص القرآني ناتجا عن سوء الفهم وحسن النية ، وسلامة المقصد مرة ، وأخرى عن معرفة ، وقصد وإصرارا على نصرة الباطل - كما هو الحال عند الجهمية والزنادقة وهم أسلاف المعتزلة وغيرهم م الفرق الكلامية - فإن حكم أهل السنة عليهم تنوع
حسب هذين الأمرين ، بحيث يؤثمونهم إذا أخطأوا الفهم ولم يتعمدوا التحريف ، بل إنهم يؤتمونهم حتى وإن أصابوا ، لأنهم لم يتبعوا في بحثهم طريق الرسول وهديه ، مما يجعل طريقهم غير مامون ومحفوفا بالأخطار، فلئن أصابوا هذه المرة فمن المؤكد أنهم سيخطئون في المرات القادمة . وفي ذلك يقول شارح العقيدة الطحاوية : "وكيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة ، وإنما يتلقاه من قول فلان ؟! وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله لا يتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول ، ولا ينظر فيها ، ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان، والمنقول إلينا عن الثقات النقلة الذين تخيرهم النقاد ، فإنهم لم ينقلوا نظم القرآن وحده، بل نقلوا نظمه ومعناه، ولا كانوا يتعلمون القرآن كما يتعلم .....، ....يتعلمونه بمعانيه . ومن يسلك سبيلهم فإنما يتكلم برأيه، ومن يتكلم برأيه والسنة فهو مأجور وإن أخطأ ، لكن إن أصاب يضاعف أجره ".
وأما إذا حرفوا النصوص عن علم وقصد فإنهم يخرجونهم من الملة : "إن من فسر القرآن أو الحديث وتاوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله، ملحد في آيات الله، محرف للكلم عن مواضعه . وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد ، وهو معلوم البطلان بالاضطراب من دين الإسلام ".
وهو نفس حكم ابن أبي العز (731هـ/792هـ) وإن كان تعبيره غير قوي ولا شديد اللهجة كما هو الشأن بالنسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية (661هـ/728هـ) وهذا نص قوله : "لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين وينقاد إليها ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه ".
ويمكننا أن نقسم التفسير على المذهب إلى قسمين رئيسيين هما :
1- التفسير بالرأي أو المنهج العقلي في التفسير .
2- التفسير الصوفي والإشاري أو المنهج الكشفي في التفسير .
التفسير بالرأي أو المنهج العقلي في التفسير :
وينبغي أن نوضح أن سلف هذه الأمة لم يعارضوا علم الكلام في ذاته ، ولا حاربوا الإستدلال العقلي-كما يزعم البعض- إذا كان القصد منه نصرة الدين والدفاع عن حقائقه بإقامة الأدلة العقلية والنقلية على صحتها ، بل ذموا ما خاض فيه علماء الكلام والفلاسفة من أمور غيبية صادموا فيها منطوق النصوص الصريحة . وفي ذلك يقول ابن تيمية : "والسلف لم يذموا الكلام، فإن كل آدمي يتكلم ، ولا ذموا الإستدلال والنظر والجدل الذي أمر الله به رسوله ، والإستدلال بما بينه الله ورسوله ، بل ولا ذموا كلاما هو حق . بل ذموا الكلام الباطل وهو المخالف للكتاب والسنــة ، وهــو المخـالـف للعـقــل أيضــا وهو الباطل .
فالكلام الذي ذمه السلف هو الكلام الباطل وهو المخالف للشرع والعقل.
وقد يظن البعض أن هذا القول مجاف للحقيقة ، إذ نقل عن جلة من علماء السلف تحريم الخوض في علم الكلام، ومنهم الإمام الشافعي والإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل ، والإمام سفيان الثوري، ولكن تحريمهم لذلك لا ينبغي أن يؤخذ على عمومه، بل لا بد من تفصيل وتخصيص . فهم لم يحرموا منه إلا الكلام الباطل وهو المخالف للعقل والنقل، أما ما كان هدفه الذب عن العقيدة ونصرة الدين بالأدلة العقلية وعلى هدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنهم لم يحرموه ولم يعارضوه بل حبذوه ، حتى إن الإمام أحمد ليعتبر من منة الله على الامة أن قيض لها علماء يدافعون عن عقيدتها وينصرون دينها بالدليل النقلي والعقلي من غير تحريف للنصوص أو تزييف للحقائق : "الحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الآذى يحيون بكتاب الله الموتى ، ويصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم".
وتعلق الدكتورة فوقية حسين على هذا النص بقولها :"فإذا كان قد رفض الكلام فإنه لا يرفض مواقف الدفاع عن العقائد التي حمد الله من أجل أنه سبحانه قد جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم يهدون الضال والتائه ، وإنه يرفض الكلام ويعني به مواقف المخالفين في العقائد . فابن حنبل يقر موقف الدفاع عن العقيدة كلما اقتضى الامر ذلك، وهو ما فعله إزاء موقف جهم عندما شرع في مواجهة النصوص المنزلة وفي رأسه فكرة مسبقة هي فكرة أن الله (روح- ، وهو مالم يذكره الله سبحانه وتعالى عن نفسه فبين له خطأ موقفه ، كما لجأ إلى الشرح والتبسيط بأمثلة لتقريب فكره" .
وقد ذهب إلى التفصيل في هذا الأمر الإمام الغزالي (ت505هـ) حيث بين في كتابه "إحياء علوم الدين " أن علم الكلام "فيه منفعة وفيه مضرة : فهو في وقت الإنتفاع حلال، أو مندوب ، أو واجب كما يقتضيه الحال ، وهو باعتبار مضرته وقت الإستضرار ومحله حرام".
وقد بين أهل السنة أن محاربة السلف الصالح لعلم الكلام ليس لأنه أمر حادث في الأمة ولم يكن فيها من قبل ، أي أنه بدعة ، ولا لأنه يدافع عن الدين والعقيدة عن طريق الإستدلال العقلي، ولكنهم ناصبوه العداء وشنوا عليه حربا شعواء لما فيه من تحريف وكذب ، وفي ذلك يقول ابن أبي العز الحنفي (731هـ/792هـ) :
"والسلف لم يكرهوه لمجرد كونه اصطلاحا جديدا على معان صحيحة ، كالإصطلاح على ألفاظ العلوم الصحيحة ، ولا كرهوا أيضا الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل، بل كرهوه لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق ، ومن ذلك : مخالفتها للكتاب والسنة وما فيه من علوم صحيحة ، فقد وعروا الطريق إلى تحصيلها وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها".
كما أنهم حاربوا علم الكلام لأن ضرره كان أعظم بكثير من نفعه فهو بما أثاره من شبهات قد فتح الباب أمام الزنادقة والملاحدة للطعن في الدين، حيث إنهم كانوا يثيرون الشبهة بأسلوب منطقي وعقلي قوي السبك، متين الإرتباط ، ويردون الشبهة ذاتها بأسلوب بارد، خال من أي حجة منطقية أو دليل عقلي يفندها ، وقد كان ذلك مدعاة لتقرير الشبهة ، وإثارة الشك والريبة في حقائق الدين ويقينياته . وقد نص على ذلك الإمام الغزالي (ت505هـ) في كتابه " الإحياء" فقال :"فأما مضرته فإثارة الشبهات ، وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم ، وذلك مما يحصل بالإبتداء ، ورجوعها بالدليل المشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاص ، فهذا ضرره في اعتقاد الحق، وله ضرر في تأكيد اعتقاد البدعة وتثبيتها في صدورهم".
والمتكلمون قد اعتمدوا -نتيجة الجدل الدائر بينهم وبين بعض زنادقة وملاحدة الشعوب الدخيلة - على نفس الأدوات والمناهج التي يعتمدونها قصد إقناعهم من خلال ما يؤمنون به، ولكن هذه العملية قد جنت على الفكر الإسلامي جناية عظيمة ، حيث ربطت أصوله ومبادئه بفلسفات الشعوب الدخيلة ، كما أنها وضعت حقائقه ويقينياته موضع تساؤل واستفسار، كما أنها سوت بينها وبين الخرافات والأساطير الوافدة من الشرق أو الغرب، كما ان المتكلمين أقحموا عقلهم في موضوعات ومباحث هو غير مؤهل للخوض فيها، مما جعلهم يقعون في شراك الحيرة والشك والجهل والتناقض. وفي ذلك يقول ابن تيمية (661هـ/728هـ) : "وأيضا فمن اعتبر ما عند الطوائف الذين لم يعتصموا بتعليم الأنبياء وإرشادهم وإخبارهم وجدهم كلهم حائرين ، ضالين، شاكين ، مرتابين، أو جاهلين جهلا مركبا" .
وابن تيمية -رحمه الله - يفرق بين فريقين من المتكلمين ، وإن كان جميعا مبدعة :
1- أما الفريق الأول من المتكلمين فهم الذين اعتبروا متشابه القرآن محكما، ومحكمه متشابها، وعلى رأس هؤلاء الخوارج . وفي ذلك يقول: " وهؤلاء أضل ممن تمسك بما تشابه عليه من آيات الكتاب ، وترك المحكم النصارى والخوارج وغيرهم، إذ كان هؤلاء أخذوا بالمتشابه من كلام الله وجعلوه محكما، وجعلوا المحكم متشابها".
2- أما الفريق الثاني من المتكلمين فهم الذين وضعوا أصولا غير الكتاب والسنة، بحيث جعلوا أقوال مشايخهم البدعية محكمة يجب اتباعها والإهتداء بها، واعتبروا من خالفهم أو عارضهم فيها إما كافرا أو جاهلا. وفي ذلك يقول ابن تيمية : "وعمدة الطائفتين في الباطن غير ما جاء به الرسول، يجعلون أقوالهم البدعية محكمة يجب اتباعها واعتقاد موجبها ، والمخالف إما كافر وإما جاهل لا يعرف هذا الباب ، وليس له علم بالمعقول ولا بالأصول، ويجعلون كلام الله ورسوله الذي يخالفها من المتشابه الذي لا يعرف معناه إلا الله ، او لا يعرف معناه إلا الراسخون في العلم . والراسخون عندهم من كان موافقا لهم على ذلك القول، وهؤلاء أضل ممن تمسك بما تشابه عليه من آيات الكتاب وترك المحكم ".
وقد دفع هذا الموقف أهل السنة إلى مناقشة المحكم والمتشابه مناقشة مستفيضة ، حتى إننا لنجد الإمام القرطبي (ت671هـ) يحاول في تفسيره جمع كل الأقوال على طريقة السلف في رواية الخلاف، ، ثم يثبت ما يراه صحيحا ، فينفي أن يكون المتشابه مما استأثر الله تعالى بعلمه ، وذلك لأنه ينطلق من القاعدة المنهجية التي ألزم أهل السنة أنفسهم بها. ومفادها أنه لا يوجد في القرآن الكريم ما لا يدرك علمه، ومما هو من قبيل الطلسمات التي لا يستطيع الإنسان فك أسرارها. وفي ذلك يقول : "وليس هذا من معنى الآية في شيء ، فإن قوله تعالى {كتاب أحكمت آياته}، أي في النظم والرصف وأنه حق من عند الله ، ومعنى {كتابا متشابها} أي يشبه بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا وليس المراد بقوله {آيات محكمات}{وأخر متشابهات} هذا المعنى ، وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الإحتمال والإشتباه من قوله {إن البقر تشابه علينا} أي التبس علينا، أي يحتمل أنواعا كثيرة من البقر ، والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا، وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجها وحدا وقيل: إن المتشابه ما يحتمل وجوها ثم إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما ، فالمحكم أبدا أصل ترد إليه الفروع، والمتشابه هو الفرع".
وابن تيمية له نفس الرأي وإن كان أكثر تفصيلا واستيعابا للموضوع، ولما لشعثه ، فهو يثبت أن المتشابه ليس هو ما لا يدرك علمه إلى الله ، لأن هذا هو مفهوم التفويض الذي يلجأ إليه أهل البدع كلما واجهتهم آية صريحة تعارض مذهبهم، وصعب أو امتنع عليهم تأويلها فيجعلونها من المتشابه الذي لا يعلمه إلى الله . وهذا نص قوله: "والمتفرقة من أهل الضلال تجعل لها دينا وأصول دين قد ابتدعوه برأيهم، ثم يعرضون على ذلك القرآن والحديث ، فإن وافقه احتجوا به اعتضادا لا اعتمادا، وإن خالفه فتارة يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويتأولونه على غير تأويله وهذا فعل أئمتهم ، وتارة يعرضون عنه ويقولون نفوض معناه إلى الله وهذا فعل عامتهم".
وفضلا عن ذلك فإن المتشابه أمر نسبي لا يشترك فيه كل الناس، ثم هناك آيات محكمات لا تشابه فيها على الإطلاق مما يتعين معه حمل المتشابه من آي الذكر الحكيم على محكمه : "إن التشابه أمر نسبي ، فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، ولكن ثم آيات محكمات لا تشابه فيها على أحد، وتلك المتشابهات إذا عرف معناها صارت غير متشابهة ، بل القول كله محكم" .
وقد يعترض أحد على هذا المسلك بأن بعض السلف الصالح -وهو ما حكاه عنهم القرطبي في الجزء الثاني من تفسيره- يقولون إن المتشابه هو ما لا يعلمه إلا الله . ولكن ابن تيمية يرد هذه الشبهة انطلاقا من القاعدة المنهجية التي تنص على التفريق بين تأويل الآية ومعرفة معناها ، فالتأويل الذي استأثر الله بعلمه هو إدراك الحقيقة الخارجية للقضايا الغيبية ، أي معرفتها على ما هي عليه في واقع أمرها، وليس هو معرفة معناها: "ومن قال من السلف إن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله فقد أصاب أيضا، ومراده بالتأويل ما استأثرالله بعلمه ، مثل وقت الساعة ، ومجيء أشراطها ، ومثل كيفية نفسه وما أعده في الجنة لأوليائه".
والواقع أن المعتزلة خاصة والفرق الكلامية والفلسفية عامة ليست أفكارهم إلا صدى للأصول التي اعتقدوها ، وحكموها في عملية تفسير النصوص الشرعية، وللقواعد المنهجية التي ابتكروها بغية الإنتصار للرأي أو للمذهب . ففي مسألة المحكم والمتشابه لم يقفوا عند المفهوم القرآني ، وإنما جعلوا كل ما تعارض مع مذهبهم أو قولهم أو رأيهم متشابها والمحكم هو ما اعتقدوه ، ومن ثم فإن ابن تيمية حاول أن يحصر جميع معاني المحكم والمتشابه فوجدها لا تخرج عن ثلاث وهي:
1- المحكم في مقابل المتشابه وفيه يقول :"وتارة يكون الإحكام في التأويل والمعنى، وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها حتى لا تشتبه بغيرها ، وفي مقابلة المحكمات الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا فتكون محتملة للمعنيين . قال احمد : المحكم الذي ليس فيه اختلاف، والمتشابه الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا ".
ثم بين أن هذا التفريق بين الآيات المحكمات والأخر المتشابهات لا يستفاد منه أن المحكم هو ما يعلم تفسيره ، والمتشابه هو ما استأثر الله بعلمه، إذ إن أهل السنة يفرقون بين فهم الآية وإدراك معناها ، وبين تأويلها. ومفاده الوقوف على الحقيقة العينية للقضايا الغيبية ، أي إدراكها على ما هي عليه في عالم الشهادة : "ولم يقل في المتشابه لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله، وإنما قال : {وما يعلم تأويله إلى الله} ، وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع، فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلى هو ، والوقف هنا على ما دل عليه أدلة كثيرة ، وعليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجمهور التابعين، وجماهير الأمة ولكن لم ينف علمهم بمعناه وتفسيره بل قال : {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته }، وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات ، وما لا يعقل له معنى لا يتدبر. وقال : {أفلا يتدبرون القرآن} ولم يستثن شيئا منه نهى عن تدبره ، والله ورسوله إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره الله وطلب فهمه ومعرفة معناه فلم يذمه الله، بل أمر بذلك ومدح عليه".
2- المحكم في مقابل نسخ ما ألقاه الشيطان : "إن الإحكام تارة يكون في التنزيل فيكون في مقابلته ما يلقيه الشيطان ، فالمحكم المنزل من عند الله أحكمه الله أي فصله من الإشتباه بغيره، وفصل منه ما ليس منه فإن الإحكام هو الفصل والتمييز، والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه. ولهذا دخل فيه معنى المنع كما دخل في الحد، فالمنع جزء معناه لا جميع معناه" .
3- المحكم في مقابل النسخ مطلقا: "وتارة يكون الإحكام في إبقاء التنزيل عند من قابله بالنسخ الذي هو رفع ما شرع وهو اصطلاحي، أو يقال- وهو أشبه بقول السلف- كانوا يسمون كل رفع نسخا سواء كان رفع حكم أو رفع دلالة ظاهرة . وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلغ، وقد يكون في سمع المبلغ وقد يكون في فهمه، كما قال: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها} ..الآية . ومعلوم أن من سمع النس الذي قد رفع حكمه أو دلالة له فإنه يلقي الشيطان في تلك التلاوة اتباع ذلك المنسوخ فيحكم الله آياته بالناسخ الذي به يحصل رفع الحكم وبيان المراد، وعلى هذا التقدير فيصح أن يقال : المتشابه المنسوخ بهذا الإعتبار".
ومن هذا المنطلق ناقش ابن تيمية وغيره من اهل السنة -كالإمام أحمد بن حنبل ، والإمام الطبري (224هـ/310هـ) والإمام أبي الحسن الاشعري(260هـ/324هـ) والإمام ابن قيم الجوزية (ت 751هـ) والإمام ابن العز الحنفي (731هـ/792هـ) - كثيرا مما ذهبت إليه بعض الفرق الكلامية والفلسفية من إنكار بعض الحقائق الغيبية لتشبثهم بالمتشابه من القرآن الكريم ، وعدم رده إلى محكمه باعتباره أصلا ولعل السبب في فتنتهم هو تشبثهم وإيمانهم بقاعدة منهجية خاطئة عقليا وعلميا وهي قياس الغائب على الشاهد، أي قياس الأمور الغيبية على ما هو معهود في حياة في البشر اليومية، وهو ما يعرف في اصطلاحات أهل الكلام بعالم الشهادة. وفي ذلك يقول ابن تيمية : "وفي هذا رد على اليهود ، والنصارى ، والصابئين من المتفلسفة وغيرهم فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح ، ويمنعون وجود ما اخبر به القرآن. ومن دخل في الإسلام ونافق المؤمنين تأول ذلك على أن هذه أمثال مضروبة لتفهيم النعيم الروحاني إن كان من المتفلسفة الصابئة المنكرة لحشر الأجساد ، وإن كان من منافقة الملتين المقرين بحشر الأجساد تأول ذلك على تفيهم النعيم الذي في الجنة من الروحاني والسماع الطيب والروائع العطرة . فكل ضال يحرف الكلم عن مواضعه إلى ما اعتقد ثبوته ، وكان في هذا أيضا متبعا للمتشابه ، إذ الأسماء تشبه الأسماء والمسميات تشبه المسميات ، ولكن تخالفها أكثر مما تشابهها . فهؤلاء يتبعون هذا المتشابه {ابتغاء الفتنة} بما يوردونه من الشبهات على أمتناع أن تكون في الجنة هذه الحقائق {وابتغاء تأويله} ليردوه إلى المعهود الذي يعلمونه في الدنيا ، قال الله تعالى {وما يعلم تأويله إلا الله}، فإن تلك الحقائق قال الله فيها {فلا تعلم نفس ما أخفى لهم نم قرة أعين}، لا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل " .
وقد أنكر أهل السنة عامة وابن تيمية خاصة على المتكلمين والفلاسفة أن تكون أسماء الله وصفاته من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله : " من قال : إن هذا من المتشابه ، وأنه لا يفهم معناه فنقول أما الدليل على بطلان ذلك فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ، ولا من الأئمة لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية ، ونفى أن يعلم أحد معناه".
وقد ناقش ابن تيمية المعتزلة في نفيهم للصفات بدعوى أنها من المتشابه الذي لا يعلمه إلى الله فبين أننا لا نفهم من جميع الصفات والأسماء معنى واحد ، بل إننا نفهم من العلم غير ما نفهمه من القدرة ، وما نفهمه من الإستواء هو غير ما نفهمه من النزول . ويمكن أن نطبق ذلك على جميع الصفات والاسماء، فليس هناك خلط بينها ، بل هناك الوضوح والتباين في معانيها جملة وتفصيلا: " فيقال لمن ادعى في هذا أنه متشابه لا يعلم معناه : أتقول هذا في جميع ما سمى الله ووصف به نفسه أم في البعض ؟ فإن قلت : هذا في الجميع ، كان هذا عناد ظاهرا وجحدا لما يعلم بالإضطرار من دين الإسلام بل كفر صريح ، فإنا نفهم من قوله : {إن الله بكل شيء عليم} معنى ، ونفهم من قوله : {إن الله على كل شيء قدير} معنى ليس هو الأول، ونفهم من قوله : {ورحمتي وسعت كل شيء } معنى ، ونفهم من قوله :{إن الله عزيز ذو انتقام } معنى ، وصبيان المسلمين بل وكل عاقل بفهم هذا".
ومن خلال هذه المناقشة يمكننا أن نتبين منهج أهل السنة في تفسير آيات الصفات، فهم يصفون الله بما وصف به نفسه من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل، وإنما يمرون الآيات كما جاءت ، وفي ذلك يقول الإمام ابن كثير (701هـ/774هـ) : "وأما قوله تعالى {ثم استوى على العرش} فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا ليس هذا موضع بسطها ، وإنما نسلك في هذا المقال مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد الشافعي، وأحمد وإسحاق بن راهويه، وغيرهم، من أئمة المسلمين قديما وحديثا ، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله ، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه وليس كمثله شيء {وهو السميع البصير} ، بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيـخ البخاري قــال : من شبـه الله بخلقه كفـر ، ومـن
حجد ما وصف الله به نفسه فقد كفر. وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله،ونفى عن الله تعالى النقائض فقد سلك سبيل الهدى".
وعلى ذلك درج أهل السنة في تفسير آيات الصفات، وهو خلاف المنهج الذي اتبعه المعتزلة وغيرهم من المتكلمين والفلاسفةالذين حاولوا تنزيه الخالق عز وجل عن المشابهة للحوادث فوقعوا في المحظور، بأن نفو الصفات أو عطلوها. بل إن ابن تيمية يوضح أن المعتزلة قد وقعوا في التناقض عندما أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات :"وإن كان ممن يثبت الأسماء وينفي الصفات كالمعتزلة قيل له في الصفات ما يقوله هو في الأسماء. فإذا كان يثبت حيا عالما قادرا ، وهو لا يعرف من هو متصف بذلك إلا جسما كان إثبات أن له علما وقدرة كما نطق به الكتاب والسنة".
ثم إن هذه المصطلحات التي استعملها المتكلمون والفلاسفة ليست مصطلحات إسلامية أصيلة، فيه لم تستعمل لا في القرآن ولا في السنة بالمعنى الذي نصوا عليه بل هي غير موجودة في اللغة بالمعنى الذي استعملوها به : "ومثل هذا لفظ المركب، والجسم ، والتحيز ، والجوهر، والجهة ، والحيز ، والعرض، ونحو ذلك ، فإن هذه الألفاظ لم تأت في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل الإصطلاح ، بل ولا في اللغة ، بل هم يخصون بالتعبير بها عن معان لم يعبر غيرهم عنها بها ، فتفسر تلك المعاني بعبارات أخر ، وينظر مادل عليه القرآن من الأدلة العقلية والسمعية، وإذا وقع الإستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل".
كما بين ابن تيمية أن القول بالتجسيم قول مبتدع،وإن كان يقصد به تنزيه الله -سبحانه وتعالى- عن المشابهة للحوادث من جهة ، والرد على ملاحدة الشعوب الوافدة الذين لازالت فيهم بقية من شوائب دياناتهم الوثنية . ذلك أن هذا التنزيه لم يأت على هدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يسمع مقالات اليهود التي يصفون فيها الله تعالى بصفات فيها نوع من التجسيم الصريح، ورغم ذلك لم يقل لهم إنكم مجسمون . ومن تم قام الدليل النقلي على فساد وبطلان هذا المنهج الذي اتبعه المتكلمون والفلاسفة وخاصة منهم المعتزلة :"ولهذا لم لما ذكروا المقالات الباطلة في الرب جعلوا يردونها بأن ذلك تجسيم ، كما فعل القاضي ابو بكر في هداية المسترشدين وغيره، فلم يقيموا حجة على أولئك المبطلين ، وردوا كثيرا مما يقول اليهود بأنهم تجسيم . وقد كان اليهود عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة ، وكانوا أحيانا يذكرون له بعض الصفات، كحديث الحبر ، وقد ذم الله اليهود على أشياء كقولهم :{إن الله فقير}وإن يده مغلولة وغير ذلك، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم - قط إنهم يجسمون ، ولا إن في التوراة تجسيما ولا عابهم بذلكن ولا رد هذه الأقوال الباطلة بأن هذا تجسيم كما فعل ذلك من فعله النفاة ".
وقد لاحظ أهل السنة أن هناك فرقا بين منهج المتكلمين ومنهج الفلاسفة في تفسير الذكر الحكيم، فالمتكلمون يقوم منهجهم على الأسس التالية:
1- لا يجوزون الكذب على الأنبياء والرسل .
2- يعظمون القرآن ويهتمون بتفسيره .
3- يقرون بأن القرآن يشتمل على الأدلة العقلية .
ولولا مشاركتهم للفلاسفة ، وأخذهم عنهم في الأمور العقلية ، ومخالفتهم لمنهج الأنبياء والرسل في الأمور الغيبية التي لا سبيل لمعرفتها وإدراكها إلا عن طريق الوحي، لكانوا أقرب ما يكون لأهل السنة .
وأما الفلاسفة فمنهجهم يقوم على الأسس التالية :
1- لا يستدلون بما جاء به الرسل من وحي.
2- الرسول لم يأت بعلم يستفيد منه الناس، وإنما خاطبهم خطابا جمهوريا واعظا ومذكرا.
3- جوزوا الكذب على الأنبياء والرسل من أجل المصلحة.
4- القرآن لا يشتمل على أدلة عقلية .
ومن ثم وجدنا الفلاسفة لا يعتنون بعلوم القرآن وتفسيره ، ولا بالحديث وعلومه وحتى إن فعلوا ذلك فمن أجل أن يتعلق الناس بهم ، لا لأنهم اقتقدوا صحته وضرورة الإهتداء بهديه، والإقتداء بنوره، وفي ذلك يقول ابن تيمية :
" إن أولئك القوم -الفلاسفة- من أبعد الناس عن الإستدلال بما جاء به الرسول، فإن الرسول بعث بالبينات والهدى ، يبين الأدلة العقلية، ويخبر الناس بالغيب الذي لا يمكنهم معرفته بعقولهم، وهؤلاء المتفلسفة يقولون : إنه لم يفد الناس علما بخبره ولا بدلالته ،وإنما خاطب الناس خطابا جمهوريا ليصلح به العامة فيعتقدوا في الرب والمعاد اعتقادا ينفعهم ، وإن كان كذبا وباطلا. وحقيقة كلامهم أن الأنبياء تكذب فيما أخبرت به ، لكن كذبا للمصلحة ، فامتنع أن يطلبوا من خبرهم علما. وإذا لم تكن أخبارهم مطابقة للمخبر فكيف يثبتون أدلة عقلية على ثبوت ما أخبروا به ... ولهذا لا يعتنون بالقرآن ولا بتفسيره ، ولا بالحديث وكلام السلف، وإن تعلموا من ذلك شيئا فلأجل تعلق الجمهور به ليعيشوا بينهم بذكره ، لا لاعتقادهم موجبه في الباطن ".
ورغم هذه الفروق المنهجية بين المتكلمين والفلاسفة فإنهم أخطأوا جميعا في تفسير القرآن الكريم، ذلك أن مقصدهم من التفسير لم يكن نزيها . فهم يعتقدون معتقدات مخالفة لما في القرآن ، ثم يحاولون حمل معاني القرآن عليها . وفي ذلك تقول الدكتورة فوقية حسين : "فإذا أردنا أن نتبين حقيقة موقف الزنادقة والجهمية وهم أسلاف المعتزلة ، نجد أنهم يصدرون عن بضعة أفكار مستقاة من آراء ومعتقدات غريبة عن الإسلام ، وهذا ما يتبين من واقع عرض ابن حنبل عندما يتحدث عن (السمنية) ولقائهم مع جهم ... ثم المعتزلة الذين ورد ذكرهم عند ابن حنبل ... فهؤلاء وإن لم يتعرض لذكر أصولهم كاملة إلا أنهم في وقته كانت أصولهم الخمسة تمثل النسق الفكري الذي يصدرون عنه عند مواجهتهم للعقائد ، الأمر الذي يجعل وقفتهم تختلف في أساسها عن وقفة السلف، لأنهم لا يعطون مكان الصدارة للنص المنزل قرآنا كان أم سنة، وإنما يضعون في المقدمة نسقهم الفكري الذي يجيء النص المنزلة بعد ذلك من أجل الإستدلال به على صحته ، الأمر الذي أخرجهم عن التفسير الصحيح، فجاء تأويلهم على غير تأويله".
وخطأهم لم يكن في الدليل وحده، أو المدلول وحده،بل أخطـأوا فيهما معا. وخطأهم في الدليل جاء نتيجة صرفهم الآيات عن معانيها ومدلولاتها الحقيقية وذلك عن طريق تأويل اللفظ تأويلا مجازيا، أو لغويا، أو نحويا بحيث يصير متطابقا مع ما ذهبوا إليه، ومجافيا للسياق القرآني ولأيات أخرى تضمنت نفس اللفظ وأما الخطأ في المدلول فهو نتيجة طبيعية لمصادرة النصوص القرآنية أو النصوص من الحديث النبوي الشريف ، بحيث يكون ما وصلوا إليه متعارضا تماما مع نصوص صريحة لا مجال لتأويلها.
وعدد ابن تيمية الفرق الكلامية التي أخطأت في الدليل والمدلول عند تفسيرها للقرآن الكريم فقال : "فالذين أخطأوا في الدليل والمدلول مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذهبا يخالف الحق الذي عليه الأمة الوسط الذين لا يجتمعون على ضلالة كسلف الأمة وأئمتها ، وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على آرائهم ، تارة يستدلون بآيات على مذهبهم ولا دلالة فيها، وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه .
ونم هؤلاء فرق الخوارج، والروافض، الجهمية ، والمعتزلة ، والقدرية، والمرجئة ، وغيرهم" .
ونمثل للخطأ في الدليل والمدلول في تفسير القرآن الكريم بتفسيرهم لآيات الصفات نحو تفسير المعتزلة لقوله تعالى : {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}. فقد فسروها بما يوافق مقرراتهم وهي نفي الصفات -لاعتقادهم أن ذلك هو التنزيه الشامل والكامل لله تعالى - وترتب عن ذلك قولهم بنفي الرؤية وذلك بأنهم تساءلوا عن الكيفية التي تتم بها الرؤية، فلكي تتم الرؤية لابد وأن يكون هناك رائي ومرئي، ومسافة بينهما ، وشعاع ينطلق من المرئي . إذن فالرؤية ستتم في مكان وزمان ، وذلك يسقطنا في التجسيم المجافي لمفهوم التوحيد الخالص. وقد دفعهم هذا الامر إلى تأويل آية الرؤية السابقة الذكر ، فقالوا إن، "ناظرة" معناها منتظرة نعم ربها ، وراجية فضله ونواله، وراغبة في عطائه وكرمه، ومن ذلك ما جاء في تفسير "الكشاف" لجار الله الزمخشري (ت 528هـ) : "الوجه عبارة عن الجملة ، والناضرة من نظرة النعيم (لى ربها ناظرة) تنظر إلى ربها خاصة لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول . ألا ترى إلى قوله : {إلى ربك يومئذ المستقر"، "إلى ربك يومئذ المساق"، "إلى الله تصير الأمور"، "وإلى الله المصير"، " وإليه ترجعون"، "عليه توكلت وإليه أنيب"، كيف دل فيها التقديم على معنى الإختصاص . معلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ، ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلائق كلهم، فإن المؤمنين نظارة ذلك اليوم، لأنهم الآمنون الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون فاختصاصه والذي يصح معه أن يكون من قول الناس أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي تريد معنى التوقع والرجاء. ومنه قول القائل :
وإذا نظرت إليك من ملك ** والبحر دونك زدتني نعما

... والمعنى أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه".
وقد بين أهل السنة خطأ المعتزلة -وغيرهم من المتكلمة - في تفسير هذه الآية المدلول ، وذلك من جانبين :
1- الجانب الأول هو ما تنبه إليه ابن المنير (ت683هـ) في كتابه "الإنتصاف" - الذي تعقب فيه ما في تفسير الزمخشري من اعتزال - حيث بين أن تقديم المفعول في آية الرؤية يفيد الحصر فعلا، ولكنه لا يقوم دليلا أو حجة على انتقاء الرؤية ، وهذا نص كلامه: "قوله تعالى : {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}قال : الوجوه كناية عن الجملة، زقدم {إلى ربها} ليفيد الحصر إلخ . قال أحمد ما أقصر لسانه عند هذه الآية ، فكم له يدندن ويطيل في جحد الرؤية ، ويشقق القباء ، ويكثر ويتعمقه . فلما فغرت هذه الآية فاه صنع في مصادمتها بالإستدلال على أنه لو كان المراد الرؤية لما انحصرت بتقديم المفعول لأنها حينئذ غير منحصرة على تقدير رؤية الله تعالى ، وما يعلم أن المتمتع برؤية جمال وجه الله تعالى لا يصرف عنه طرفه ولا يؤثر عليه غيره، ولا يعدل به عز وعلا منظورا سواه، وحقيق له أن يحصر رؤيته إلى من ليس كمثله شيء، ونحن نشاهد العاشق في الدنيا إذا أظفرته برؤية محبوبه لم يصرف عنه لحظة ولم يؤثر عليه، فكيف بالمحب لله عز وجل إذا أحظاه النظر إلى وجهه الكريم".
2- أما الجانب الثاني فقد تكفل به ابن أبي العز الحنفي (731هـ/792هـ) وذلك في رده على المعتزلة الذين تأولوا (ناظرة) في الآية السالفة الذكر، بمعنى منتظرة، حيث استقصى المعاني اللغوية السياقية لمادة "نظر" ليثبت أن "نظر" إذا جاءت بعدها "إلى" فهي تفيد الرؤية ، ولا معنى لها غير ذلك في هذا السياق : "إن النظر له عدة استعمالات بحسب صلاته وتعديه بنفسه فإن عدى بنفسه فمعناه : التوقف والإنتصار : {انظرونا نقتبس من نوركم} الحديد : 13 . وإن عدى ب "في" فمعناه : التفكر والإعتبار، كقوله {أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض} الأعراف: 184 . وإن عدى ب "إلى" فمعناه : المعاينة بالأبصار، كقوله تعالى : {انظروا إلى ثمره إذا أثمر } الأنعام : 99 فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر؟ ".
وقال في نص سابق مؤكذا هذه الحقيقة :"وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله ، في هذه الآية ،وتعديته بأداة "إلى" الصريحة في
نظر العين ، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلافه حقيقة موضوعة صريحة في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب جل جلاله".
أما الخطأ في المدلول فيتمثل في نفيهم للرؤية ، وهي ثابتة بنص القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، وفي ذلك يقول ابن كثير : "وقال آخرون من المعتزلة بمقتضى ما فهموه من الآيات أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة . فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك، مع ما ارتكبوه م الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله. أما الكتاب فقوله تعالى :{وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة }، وقال تعالى عن الكافرين :{كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}. قال الإمام الشافعي فدل هذا على أن المؤمنين لا يحجبون عنه تبارك وتعالى. وأما السنة فقد تواترت الأخبار عن أبي سعيد وأبي هريرة وأنس وجريج وصهيب وبلال ، وغير واحد من الصحابة عن النبي ، أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات ، وفي روضات الجنات ".
وقد بين ابن ابي العز أن أحاديث الرؤية قد رواها نحو ثلاثين صحابيا، وعمل ابن خزيمة (ت 311هـ) على روايتها في مصنفه "كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل "قد وزع هذه الآحاديث على خمسة أبواب أولها : (باب ذكر البيان أن الله عز وجل ينظر إليه جميع المؤمنين يوم القيامة، برهم وفاجرهم وإن رغمت أنوف الجهمية المعطلة المنكرة لصفات خالقنا جل ذلكره) . وأما الباب الخامس فقد خصصه للأحاديث التي تثبت رؤية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لله رب العالمين ، وعنونه ب (باب ذكر الأخبار الماثورة في إثبات رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم - خالقه). وكل هذه الأحاديث التي ذكرها ابن خزيمة (223هـ/311هـ) صريحة في أن المؤمنين سيرون الله تعالى يوم القيامة ، وقد صادرتها مقولة نفي الرؤية عند المعتزلة وأسلافهم من جهمية وزنادقة .
ولم يقتصر الأمر على ما تأوله المعتزلة وغيرهم من الفرق الكلامية التي تؤمن بما جاء في القرآن الكريـم، وبـما أخـبـر بـه الرسـول -صلى الله عليه وسلم- وإن كانت مبتدعة ، بل تطور الأمر تطورا خطيرا، بحيث أصبح تأويل القرآن يهدف إلى التحلل من الشعائر والشرائع ، وتأويلها تاويلا باطنيا على نحو فعل القرامطة وهم من غلاة الشيعة : "فإنهم يدعون أن للقرآن والإسلام باطنا يخالف الظاهر فيقولون: "الصلاة" المأمور بها ليست هذه الصلاة ، أو هذه الصلاة إنما يؤمر بها العامة. أما الخاصة فالصلاة في حقهم معرفة اسرارنا . و"الصيام" كتمان أسرارنا . و "الحج" السفر إلى زيارة شيوخنا المقدسين. ويقولون : إن "الجنة" للخاصة، هي التمتع في الدنيا باللذات ، و"النار" هي التزام الشرائع والدخول تحت أثقالها، ويقولون : إن "الدابة" التي يخرجها الله للناس هي العالم الناطق بالعلم في كل وقت، وإن "إسرافيل" الذي ينفخ في الصور هو العالم الذي ينفخ بعلمه في القلوب حتى تحيا، و "جبريل " هو العقل الفعال الذي تفيض عنه الموجودات ، و"القلم" هو العقل الأول الذي تزعم الفلاسفة أنه المبدع الأول".
كما أن تأويلاتهم الباطنة تهدف إلى النيل من صاحب الرسالة ، والإزراء به -عليه الصلاة والسلام- وبأصحابه وأزواجه -رضوان الله عليهم أجمعين : "ثم إنه لسبب تطرف هؤلاء ، وضلالهم دخلت الرافضة الإماءية ثم الفلاسفة ثم القرامطة وغيرهم في ما هو أبلغ نم ذلك، وتفاقم الأمر في الفلاسفة والقرامطة والرافضة ، فإنهم فسروا القرآن بأنواع لا يقضي العالم منها عجبه، فتفسير الرافضة كقولهم : {تبت يدا أبي لهب} وهما أبو بكر وعمر، و {لئن أشركت ليحبطن عملك} أي بين أبي بكر وعمر وعلي في الخلافة ، و{إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} هي عائشة . و {قاتلوا أئمة الكفر} طلحة والزبير، و {مرج البحرين} علي وفاطمة ، و {اللؤلؤ والمرجان} الحسن والحسين، {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} في علي بن أبي طالب ، و {عم يتساءلون عن النبأ العظيم} علي بن أبي طالب ، و{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}هو علي . ويذكرون الحديث الموضوع بإجماع أهل العلم، وهو تصدقه بخاتمه في الصلاة، وكذلك قوله : {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة} نزلت في علي لما أصيب بحمزة " .
كما عاب ابت تيمية على المفسرين التعسف في تفسير بعض آي الذكر الحكيم، وصرفها عن المعنى الظاهر المراد إلى معنى باطن مجاف للسياق القرآني : " ومما يقارب هذا- من بعض الوجوه- ما يذكره كثير من المفسرين في مثل قوله {الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار}، أن الصابرين رسول الله ، والصادقين أبو بكر ، والقانتين عمر ، والمنفقين عثمان ، والمستغفرين علي ، وفي مثل قوله {محمد رسول الله والذين معه} أبو بكر ، {أشداء على الكفار} عمر {رحماء بينهم} عثمان،{تراهم ركعا سجدا} علي . وأعجب من ذلك قول بعضهم {والتين}أبو بكر، {والزيتون } عمر، {وطور سينين} عثمان {وهذا البلد الأمين} علي ، وأمثال هذه الخرافات التي تتضمن تارة تفسير اللفظ بما لا يدل عليه بحال ، فإن هذه الألفاظ لا تدل على هؤلاء الأشخاص" .
 
التفسير الصوفي أو المنهج الرمزي والإشاري :

التفسير الصوفي أو المنهج الرمزي والإشاري :

فرق أهل السنة والجماعة بين نوعين من التصوف هما (1) :
1- التصوف العلمي
وهو الذي ترتبط أصوله بالكتاب والسنة ، وتعتبر حياة الرسول-صلى الله عليه وسلم- هي مصدره ومعينه الذي يغترف منه، وقوامه الزهد والتقشف والتفاني في طاعة الله تعالى ، أي أنه فكر وسلوك واتباع، لا فلسفة وابتداع. فهو إذن تصوف إسلامي خالص ، خال من كل بدعة ، نحو بدعة التفلسف والإتحاد والحلول، ووحدة الوجود، وفكرة المقامات اليونانية الأصل، والتفريق بين الحقيقة والشريعة، ومن ثم تلقته الأمة بالقبول . وفي ذلك يقول ابن تيمية -رحمه الله- : "وفيهم جماعات لهم عبادة وزهد وصدق فيما هم فيه، وهم يحسبون أنه حق. وعامتهم الذين يقرون ظاهرا وباطنا بأن محمدا رسول الله ، وأنه أفضل الخلق، أفضل من جميع الأنبياء والأولياء ، لا يفهمون حقيقة قولهم، بل يحسبون أنه تحقيق ما جاء به الرسول، وأنه من جنس كلام أهل المعرفة الذين يتكلمون في حقائق الإيمان والدين، وهم من خواص أولياء الله . فيحسبون هؤلاء من جنس أولئك، من جنس الفضيل بن عياض(1)، وإبراهيم بن أدهم(2)، وأبي سليمان الداراني(3)، والسري السقطي(4)، والجنيد بن محمد(5)، وسهل ابن عبد الله(6)، وأمثال هؤلاء"(7) .

فهؤلاء الأعلام لم يكونوا يفرقون بين الحقيقة والشريعة -كما هو الشأن بالنسبة لمتأخري الصوفية- بل كانت طريقتهم محكومة بالكتاب والسنة ، ولم يعبدوا الله بالوجد والذوق والمكاشفة ، بل بالإقتداء والإتباع. ومن يراجع أقوالهم وأحوالهم يجدهم متبعين وغير مبتدعين،وقد ورد شيء من ذلك في كتاب "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء " لأبي نعيم (ت 430هـ) . ونحن ننقل منه كمثال على ما قلناه ما أورده في ترجمته للعابد الزاهد الجنيد بن محمد الجنيد (ت297هـ) : "كان كلامه بالنصوص مربوطا، وبيانه بالأدلة مبسوطا ، فاق أشكاله بالبيان الشافي ، واعتناقه للمنهج الكافي، ولزومه للعمل الوافي... سمعنا أبا القاسم الجنيد بن محمد غير مرة يقول : علمنا مضبوط بالكتاب والسنة، ومن لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث ، ولم يتفقه ، لا يقتدي به. وكان في أول أمره يتفقه على مذهب أصحاب الحديث"(1).

2- التصوف النظري
وهو نقيض التصوف العملي، حيث يقوم على الدراسة والبحث، أي أنه معرفة أو بالأحرى نظرية في المعرفة، ذات أصول فكرية يونانية وهندية ومسيحية، وفارسية(2) . وقد تتبع ابن تيمية أقوال معتنقيه ، وبين حقيقة مذهبهم ، والمآخذ التي يمكن أن تؤخذ على هذا التصوف المجافي لروح الإسلام . ويمكننا أن نجملها في النقط التالية :
أ- عبادة الله بالذوق والوجد والرأي واتباع الهوى: "هؤلاء العباد الزهاد الذين عبدوا الله بآرائهم وذوقهم ووجدهم، لا بالأمر والنهي، منتهاهم اتباع أهوائهم {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله}(3) لا سيما
إذا كانت حقيقتهم هي قول "الجهمية المجبرة" . فرأوا أن جميع الكائنات اشتركت في المشيئة ولم يميزوا بعضها عن بعض، بأن الله يحب هذا ويرضاه، وهذا يبغضه ويسخطه. فإن الله يحب المعروف ويبغض المنطر، فإذا لم يفرقوا بين هذا وهذا نكت في قلوبهم نكت سود فسود قلوبهم، فيكون المعروف ما يهوونه ، ويجدونه ويذوقونه، ويكون المنكر ما يهوون بغضه وتنفر عنه قلوبهم، كالمشركين الذين كانوا {عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة}(1). ولهذا يوجد في هؤلاء(2) وأتباعهم من ينفرون عن القرآن والشرع، كما تنفر من الرماة ومن الأسد، ولهذا يوصفون بأنهم إذا قيل لهم قال المصطفى نفروا "(3).
ب- تفضيل الأولياء على الأنبياء والرسل(4) ، وجعل خاتم الأولياء خيرا من خاتم الأنبياء والرسل : "يقول ابن عربي(5) ونحوه : إن
الأولياء افضل من الانبياء ، وإن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، وإن جميع الأنبياء يستفيدون معرفة الله من مشكاة خاتم الأولياء ، وإنه ياخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يأتي خاتم الأنبياء "(1).
ج- اعتناق مذهب وحدة الوجود والحلول(2)، وإن كان ابن تيمية -رحمه الله - يرى أن القول بوحدة الوجود أشد افتراء وإلحاد ، وأعظم كفرا من القول بالحلول والإتحاد : "إن القائلين بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق هم أعظم افتراء ممن يقول إنه يحل فيه. وهؤلاء يجهلون من يقول بالحلول أو يقول بالإتحاد، وهو أن الخالق اتحد مع المخلوق، فإن هذا إنما يكون إذا كان شيئان متباينان، ثم اتحد أحدهما بالآخر، كما يقول النصارى من اتحاد اللاهوت مع الناسوت. وهذا إنما يقال في شيء معين، وهؤلاء هندهم ما ثم وجود لغيره حتى يتحد مع وجوده ، وهم من أعظـم النـاس تـنـاقضـا، فإنهــم يقـولـون مــا ثـم غيـر ولا ســوى، تقــول

السبعينية(1) ليس إلا الله بدل قول المسلمين لا إلا إلا الله ..."(2) .

وقد ناقش ابن تيمية -رحمه الله- الصوفية القائلين بوحدة الوجود، والآخرين المعتنقين نظرية الإتحاد والحلول، مناقشة عقلية صرفة(3)، بين فيها تناقضهم ، والتباس الأمر عليهم في ما يخص الواحد بالنوع، والواحد بالعين ، أي أنهم لم يفرقوا بين العالم والله حين جعلوهما شيئا واحدا، في حين هناك وجودان:
* "واجب الوجود : وهو ما كان وجوده لذاته : أزلي أبدي .
* ممكن الوجود : وهو ما وجد لسبب : محدث فان .
وهذا يعني (اثنينية الوجود) أي (الله والعالم) . فالله خالق والعالم مخلوق ، والله مدبر ، والعالم مدبر . وليس الله حالا في العالم وإنما هو خالقه ومدبره، والله بيده الخير والشر يثيب الناس ويعاقبهم جزاء لما كانوا يعملون . أما مذهب الحلول فيرى أن الله والعالم امتزجا ، وأن الله والقوى الداخلة الفاعلة في العالم مترادفان"(4) .

كما ناقشهم مناقشة نصية تستند إلى الكتاب والسنة(5)، فاقام
الحجة على فساد مذهبهم ، وعلى ضلالهم بالدليل العقلي والنقلي.
د- التحلل من الشعائر والشرائع ، وهي نتيجة طبيعية لقولهم بوحدة الوجود ذلك أن الله -عندهم- هو الوجود، والوجود هو الله، فليس هناك تفريق بين واجب الوجود وممكن الوجود، فمن سيكلف من ؟ الله سيكلف نفسه أم غيره (1) ؟ -تعالى ربنا على ذلك علوا كبيرا - وفي ذلك يقول ابن تيمية -رحمه الله- "وكثير من أهل النسك ، والعبادة ، والعلم، والنظر ممن سلك طريق بعض الصوفية والفقراء ، وبعض أهل الكلام والفلسفة ، يسلك مسلك الباطنية في بعض الأمور لا في جميعها، حتى يرى بعضهم سقوط الصلاة عن بعض الخواص، أو حل الخمر وغيرها من المحرمات لهم ، أو أن لبعضهم طريقا إلى الله عز وجل غير متابعة الرسول . وقد يحتج بعضهم بقصة موسى والخضر ، ويظنون أن الخضر خرج عن الشريعة ، فيجوز لغيره من الأولياء ما يجوز له من الخروج عن الشريعة . وهم في هذا ضالون.."(2) .
هـ- التفريق بين الحقيقة والشريعة : وأظن أن التفريق بين الحقيقة والشريعة مترتب عن نظريتهم في المعرفة ، القائمة على الذوق والوجد والمكاشفة، مما دفعهم إلى التفريق بين ظاهر القرآن وباطنه . وهو لعمري مرادف لتفريقهم بين الحقيقة والشريعة ، فالظاهر هو الشريعة ، وهو للمحجوبين ، أي للعوام وهم الذين لم يسلكوا طريقهم ، والباطن هو الحقيقة ، وهي للخواص أي الشيوخ أرباب الطرق، والمريدين ، ولا سبيل إلى الوصول إليها إلا عن طريق الذوق والوجد والمكاشفة، أي أنها معرفة ذاتية ليست فيها وساطة . ومن ثم فالصوفي يعتقد أنه يدرك حقائق الأمور لأنه اطلع عليها مكاشفة ، فتمت له المعرفة من المصدر والمعين مباشرة ، وبغير وسائط .أما غيرهم أو من يسمونهم بالمحجوبين، فهؤلاء ليس لهم إلا ظاهر النصوص، ولم يرقوا إلى مستوى التلقي المباشر ، بل هم عالة على الأنبياء والرسل. وفي ذلك يقول ابن تيمية -رحمه الله - وهؤلاء كلهم يدعون على الحقيقة، ويقولون : الحقيقة لون ، والشريعة لون آخر، ويجمعهم شيئان : أن لهم تصرفا وكشفا خارجا عما للعامة ، وأنهم معرضون عن وزن ذلك بالكتاب والسنة ، وتحكيم الرسول في ذلك. فهم بمنزلة الملوك الذين لهم ملك يسوسونه بغير أمر الله ورسوله، لكن الملوك لا يقول أحدهم إن الله أمرني بذلك ، ولا إني ولي الله ، ولا إن لي مادة من الله خارجة عن الرسول ، ولا إن الرسل لم تبعث إلى مثلي ..."(1) .

الفرق بين التفسير الصوفي النظري ، والتفسير الصوفي الإشاري

لما كان التصوف ينقسم إلى قسمين -كما أسلفنا- وهما :
1- التصوف العملي .
2- التصوف النظري .

فإن التفسير - هو الآخر - عند الصوفية قد انقسم إلى قسمين هما :
1- تفسير صوفي فيضي إشاري .
2- تفسير صوفي نظري(1) .

وقد يظن البعض أنهما شيء واحد ، خاصة أن بعض المفسرين قد كانت لهم محاولات تفسيرية تشمل الإتجاهين كما هو الشأن بالنسبة لابن عربي ، الذي اعتبره الدكتور محمد حسين الذهبي - رحمه الله - من روادهما(2) .

والواقع أن هناك فروقا دقيقة بينهما يمكن أن نجملها في النقط التالية :

1- التفسير الصوفي النظري والتفسير الصوفي الإشاري يعتمدان منهجين مختلفين، فالأول يعتمد المنهج الرمزي الذي لا يقف عند دلالة النص اللغوية ، ويحاول أن يفرض على الخطاب القرآني آراء وأفكارا مسبقة بحيث يجعله يرمز إليهما. أما الإتجاه الثاني فهو يعتمد المنهج الإشاري، أي ينطلق من إشارة النص، وهي ما يرادف إيحاءاته ، بحيث يكون النص بالنسبة للمفسر منطلقا إلى آفاق رحبة يومىء إليها. ومن ثم فإنه يظل مرتبطا بالنص وله شاهد فيه(3) .
2- التفسير الصوفي النظري مبني على مقدمات فلسفية ينزل عليها القرآن الكريم، في حين نجد التفسير الصوفي الإشاري يرتكز على رياضة روحية ، وعلى معرفة ذوقية، يتمكن بفضلها من تفجير معاني الخطاب القرآني(1) .
3- يعتقد الصوفي النظري ان تفسيره هو كل ما يحتمله الخطاب القرآني، أما المفسر الإشاري فهو يرى أن تفسيره ما هو إلا إمكانية من ضمن جملة إمكانيات معنوية وروحية يتيحها النص القرآني(2) .

1- التفسير الصوفي النظري أو المنهج الرمزي في الفسير
وهذا التفسير ينكره أهل السنة ، لأنهم ينكرون الأسس التي يقوم عليها وهي :
1- القرآن له ظاهر وباطن، وهذا الأخير هو الذي يتضمن حقائق الأمور، وأما الظاهر فما هو إلا رموز وأمثال لمعان باطنية لا سبيل إلى معرفتها إلا عن طريق المشايخ الذين كشفت لهم الحجب . فصاروا لا يحتاجون إلى وساطة الأنبياء والرسل للوصول إلى الحقيقة ، وإدراكها، وهو نفس قول الروافض(3) .


2- وحدة الوجود والإتحاد والحلول(1).
3- التفريق بين الحقيقة والشريعة(2) .
4- نظرية المقامات "وهي أن للنفس البشرية مقامات ترقى من واحدة منها إلى الاخرى حتى تتصل بالملأ الأعلى مصدر المعرفة ومعينها ، وهذه النظرية جديدة على الإسلام بهذا الترتيب الذي وضعه المتصوفة ودعوا الناس إليه "(3).

وهذه الأسس كلها لا صلة لها بالتصور الإسلامي الخالص، بل هي خلاصة غزو ثقافي متمثل في الفلسفة اليونانية ، والفـكـر المشرقي -الهندي والفارسي- والديانة المسيحية ، وذلك هو سبب رفض أهل السنة للتفسير الصوفي النظري . بل إن منهم من يرى بأن تفسيرات الصوفية المبنية على هذه الأسس لا ينبغي أن تعد من التفسير، بل يكفرون من يدعي ذلك. يقول الزركشي -رحمه الله-(794هـ) : "فأما كلام الصوفية في تفسير القرآن ، فقيل ليس تفسيرا ، وإنما هي معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة ، كقول بعضهم في : {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار}(4) : إن المراد النفس ، وأمرنا بقتال من يلينا لأنها أقرب شيء إلينا ، وأقرب شيء إلى الإنسانية نفسه .


قال ابن الصلاح في فتاويه : وقد وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي(ت 468هـ) أنه صنف أبو عبد الرحمن السلمي(1) "حقائق التفسير"، فإن كان اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر..

قال وأنا أقول : الظن بمن يوثق به منهم إذا قال من أمثال ذلك أنه لم يذكره تفسيرا ، ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة في القرآن العظيم ، فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية ، وإنما ذلك منهم ذكر لنظير ما ورد به القرآن : فإن النظير يذكر بالنظير "(2).

وبين ابن تيمية (661هـ/728هـ) أن طريقة أصحاب التفسير الصوفي النظري مشابهة لطريقة المفسرين على المذهب ، حيث يخطئون في الدليل والمدلول لأنهم ينطلقون من أفكار وآراء، وتصورات ومتعقدات خاطئة عقلا ونقلا ، ثم يعتبرونها مقدمات أو مسلمات يحملون القرآن عليها في تعسف شديد، ودون وجود أدنى ملابسة بين ما يعتقدونه وبين ما يستشهدون به على صحته وفي ذلك يقول : "وجماع القول في ذلك أن هذا الباب نوعان :

أحدهما أن يكون المعنى المذكور باطلا، لكونه مخالفا لما علم . فهذا هو في نفسه باطل ، فلا يكون الدليل عليه إلا باطلا لأن الباطل لا يكون عليه دليل يقتضي أنه حق"(1). وهذا النوع "يوجد كثيرا في كلام القرامطة ، والفلاسفة المخالفين للمسلمين في أصول دينهم ، فإن من علم أن السابقين الأولين قد رضي الله عنهم ورضوا عنه علم أن كل ما يذكرونه على خلاف ذلك فهو باطل ، ومن أقر بوجود الصلوات الخمس على كل أحد ما دام عقله حاضراعلم أن من تأول نصا على سقوط ذلك عن بعضهم فقد افترى . ومن علم أن الخمر والفواحش محرمة على كل أحد مادام عقله حاضرا علم أن من تأول نصا يقتضي تحليل ذلك لبعض الناس انه مفتر"(1).
وإذا علمنا أن ابن تيمية -رحمه الله- قبل تقرير هذه القاعدة مباشرة، كان يتحدث عن تفسير ابن عربي (560هـ/638هـ) ويبين بعض تفسيراته المنحرفة ، التي بناها على اعتقاده بوحدة الوجود والحلول والإتحاد ، ونظرية الولاية ، ونظرية المقامات الصوفية(2)، تأكد لدينا أن هذا النص هو في الصوفية الفلسفية وإن لم يذكرهم صراحة، وإنما ذكر القرامطة وهم من غلاة الشيعة، وذكر الفلاسفة. ونحن نعلم أن التصـوف الفلـسفـي أو النظـري قـد جمـع في طيـاتـه بيـن الفــكر الشيعي

الباطني الغالي(1) ، وبين الفكر الفلسفي اليوناني والهندي والفارسي(2). ومن ثم فإن طريقتهم في التفسير هي طريقة الباطنية والفلاسفة نفسها.

مما يؤكذ ما ذهبنا إليه أن ابن تيمية قد خصص النوع الثاني من القاعدة التي قررها ، للتفسير الصوفي الإشاري(3)، كما أنه بين أن هناك فارقا واحدا بين تفسيرات باطنية الشيعة والفلاسفة وبين الصوفية ، وهو أن الأوائل -خاصة الروافض من الشيعة- يفسقون بل يكفرون بعض الصحابة ، في حين أغلب الصوفية لا يفعلون ذلك : "وقد دخل في كثير من أقوال هؤلاء كثير من المتكلمين والمتصوفين لكن أولئك الفرامطة ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، وعامة الصوفية والمتكلمين ليسوا رافضة يفسقون الصحابة ولا يكفرونهم"(4). ثم يورد نماذج من تفسيرات باطنية الشيعة ، وباطنية الصوفية ، وباطنية الفلاسفة وهي تبين وحدة المنهج الذي اتبعوه في تفسير آي الذكر الحكيم ، حيث يحملون القرآن على معتقداتهم وآرائهم وأذواقهم ومواجيدهم من غير أية قرينة تسمح بذلك: "وهؤلاء الباطنية قد يفسرون : {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين}(1) أنه علي ، ويفسرون قوله تعالى :{ تبت يدا أبي لهب وتب}(2) بأنهما أبو بكر وعمر ، وقوله :{فقاتلوا أئمة الكفر}(3)، أنهم طلحة والزبير ، و{الشجرة الملعونة في القرآن }(4) بأنها بنو أمية.

وأما باطنية الصوفية فيقولون في قوله تعالى : {اذهب إلى فرعون }(5) إنه القلب، و{إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}(6) إنها النفس، ويقول أولئك (7) هي عائشة . ويفسرون هم والفلاسفة تكليم موسى بما يفيض عليه من العقل الفعال أو غيره ، ويجعلون {خلع النعلين} ترك الدنيا والآخرة ، ويفسرون {الشجرة} التي كلم منها موسى {الوادي المقدس} ونحو ذلك بأحوال تعرض للقلب عند حصول المعارف له ... وباطنية الفلاسفة يفسرون الملائكة والشياطين بقوى النفس، وما وعد الناس به في الآخرة بأمثال مضروبة لتفهيم ما يقوم بالنفس بعد الموت من اللذة والألم ، لا بإثبات حقائق منفصلة يتنعم بها ويتألم بها. وقد وقع في هذا الباب في كلام كثير من تأخري الصوفية لم يوجد مثله عن أئمتتهم ومتقدميهم "(8) .
وإذا كان التصوف الفلسفي قد وصل مع ابن عربي (560هـ/638هـ) إلى أرقى مداه في البعد عن تعاليم الدين الإسلامي، والإيغال في الفلسفة اليونانية والمشرقية ، فإنه بالتالي يمثل أحسن نموذج للتفسير الصوفي النظري. ومن ثم ركز ابن تيمية على تفسيراته المنحرفة للقرآن الكريم، والتي تستند إلى نظرته إلى الوجود، ومؤداه أن الله والعالم شيء واحد : "وهو(1) دائما يحرف القرآن عن مواضعه ، كما قال في هذه القصة : {مما خطيئاتهم}(2) فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وهي الحيرة . {فأدخلوا نارا}(3) في عين الماء في المحمديين، { وإذا البحار سجرت}(4) سجرت التنور أوقدته {فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا}(2). فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد وقوله : {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } ، فجعل معناه أنه قدر وشاء أن لا تعبدوا إلا إياه ، وما قدره فهو كائن . فجعل معناه كل معبود هو الله ، وأن أحدا ما عبد غير الله قط ، وهذا من أظهر الفرية على الله ، وعلى كتابه ، وعلى دينه ، وعلى أهل الأرض"(5).

وقد بين ابن تيمية -رحمه الله - أن ابن عربي قد دفعه القول بوحـدة الـوجـود إلـى تفضـيل قـوم نـوح الكـفرة علـى سـيدنا نـوح- عليه
السلام- : "ولهذا عاب ابن عربي نوحا أول رسول بعث إلى أهل الأرض ، وهو الذي جعل ذريته هم الباقين، وأنجاه ومن معه في السفينة، وأهلك سائر أهل الأرض لما كذبوه ، فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما. وعظم قومه الكفار الذين عبدوا الأصنام ، وأنهم ما عبدوا إلا الله ، وأن خطاياهم خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله. وهذا عادته ينتقص الأنبياء ويمدح الكفار، كما ذكر مثل ذلك في قصة نوح وإبراهيم وموسى وهارون وغيرهم"(1).

وأفضى به ذلك الأمر إلى "مدح عباد العجل، وتنقص هارون ، وافترى على موسى ، فقال : وكان موسى أعلم بالأمر من هارون ، لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبد إلا إياه، وما قضى الله بشيء إلاوقع فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه ، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء"(2) .

وجدير بالذكر أن أصحاب التصوف الفلسفي لم يخلفوا تفسيرا متكاملا للقرآن الكريم، بل كل ما لهم نصوص مبثوثة في التفسير المنسوب لابن عربي (560هـ/638هـ) وكتابيه : الفتوحات المكية ، وفصوص الحكم(3) .
2- التفسيــر الصـوفـي الإشـــاري

التفسير الصوفي الإشاري له تعريفات متعددة(1) لعل أشملها وأدقها ما عرفه به الشيخ الصابوني حيث قال : "التفسير الإشاري هو تأويل القرآن على خلاف ظاهره، لإشارات خفية تظهر لبعض أولي العلم، أو تظهر للعارفين بالله من أرباب السلوك والمجاهدة للنفس، ممن نور الله بصائرهم فأدركوا أسرار القرآن العظيم، أو انقدحت في أذهانهم بعض المعاني الدقيقة، بواسطة الإلهام الإلهي أو الفتح الرباني ، مع إمكان الجمع بينهما وبين الظاهر المراد من الآيات الكريمة"(2).

ومن هذا التعريف وغيره من التعريفات ، يتبين لنا أن المنهج الإشاري في التفسير يختلف عن المنهج الرمزي حيث يمكن في الأول الجمع بين ظاهر النص وبين الباطن الذي ينصون عليه ، أما في المنهج الثاني فإن المفسر يلغي دلالات النص اللغوية، بحيث يصبح التفسير عبارة عن تموجات فوق النص ، ومعاني متوهمة لا يربطها بالنص المفسر أدنى رابط، لا شرعي ، ولا لغوي، ولا منطقي .

وقد تتبع ابن تيمية المنهج الإشاري في التفسير، فأوضح أن مفهوم الإشارة عند المتصوفة هو كالتالي :"والثاني ما كان في نفسه حقا، لكن يستدلون عليه من القرآن والحديث بألفاظ لم يرد بها ذلك ، فهذا الذي يسمونه "إشارات" و"حقائق التفسير " لأبي عبد الرحمن فيه من هذا الباب شيء كثير"(1).

ثم بين أن الإشارات بهذا المفهوم تنقسم إلى قسمين :

" أحدهما : أن يقال : إن ذلك المعنى مراد باللفظ . فهذا افتراء على الله، فمن قال : المراد بقوله :{تذبحوا بقرة}(2) هي النفس، وبقوله {اذهب إلى فرعون}(3) هو القلب ، {والذين معه }(4) أبو بكر {أشداء على الكفار }(4) عمر {رحماء بينهم }(4) عثمان {تراهم ركعا سجدا}(4) ، علي ، فقد كذب على الله إما متعمدا وإما مخطئا "(5).

وأما القسم الثاني فهو الذي لا تحمل فيه المعاني على أنها مراد الله تعالى. فيكون ذلك من باب الإعتبار والقياس ، وهو شبيه بالقياس الأصولي . فكما ينقسم القياس إلى صـحيـح وبـاطـل ، فـإن الإشـارة هي
الآخرى تخضع لنفس التقسيم : "فالذي تسميه الفقهاء قياسا هو الذي تسميه الصوفية إشارة ، وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل، كانقسام القياس إلى ذلك . فمن سمع قول الله تعالى : {لا يمسه إلا المطهرون}(1) وقال: إنه اللوح المحفوظ أو المصحف ، فقال : كما أن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه حروف القرآن لا يمسه إلى بدن طاهر ، فمعاني القرآن لا يذوقها إلى القلوب الطاهرة ، وهي قلوب المتقين ، كان هذا معنى صحيحا واعتبارا صحيحا، ولهذا يروي هذا عن طائفة من السلف ... وكذلك من قال : ( لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا جنب)(2) فاعتبر بذلك أن القلب لا يدخله حقائق الإيمان إذا كان فيه ما ينجسه من الكبر، والحسد ، فقد أصاب . قال تعالى : {أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم}(3) {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا ، وإن يروا سبيل الغنى يتخذوه سبيلا}(4)، وأمثال ذلك "(5) .

وتشبيه ابن تيمية -رحمه الله- إشارات الصوفية بالقياس الأصولي يبين أن التفسير الصوفي الإشاري منه ما يدخل تحت إطار التأويل المنقاذ- أي المـحمود- وهو الذي يـوافـق نصـا أو لا يعــارضه،
ومنه ما يدخل تحت إطار التأويل المستكره -باصطلاح الراغب الاصفهاني- أو التفسير على المذهب -باصطلاح ابن تيمية - وهو التأويل المذموم الذي لا أصل له في الدين ، بحيث لا يستند إلى النص ، بل قد يتعارض مع كثير من النصوص المحكمة

ومن ثم اعتنى علماء أهل السنة بوضع الشروط التي إذ توفرت في التفسير الصوفي الإشاري أخرجته من دائرة التفسير على المذهب . وقد جمعها أبو عبد الله شمس الدين بن قيم الجوزية (751هـ) -رحمه الله - في أربعة شروط وهي :

1- أن لا يناقض معنى آية .
2- أن يكون معنى صحيحا في نفسه .
3- أن يكون في اللفظ إشعار به
4- أن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم (1) .
 
مقدمة الراغب الأصفهاني ( ت 502 هـ )

مقدمة الراغب الأصفهاني ( ت 502 هـ )

مقدمة التفسير للراغب الأصفهاني ( ت 502هـ )
إعذاد : أحمد بزوي الضاوي
أستاذ التعليم العالي مساعد
شعبة الدراسات الإسلامية
كلية الآداب و العلوم الإنسانية
جامعة شعيب الدكالي
الجديدة
المغرب
يعتبر هذا الكتب من أهم المماكتب في أصول التنفسير و قواعده .
وصف مفصل :
مقدمة التفسير للراغب الأصفهاني ( ت 502هـ )
تهتبر هذه المقدمة من أهم ما كتب في أصول التفسير و قواعده ، ومن ثم فهي في اعتقادي بالغة الأهمية بالبنبة للباحثين في أصول التفسير و قواعده ، و العالمين على صياغة نظرية متكاملة في التفسير.
محاور المقدمة :
1- الاشتباه في الكلام المفرد و المركب .
2- أوصاف اللفظ المشترك .
3- أسباب الاشتراك.
4- آفات التواصل .
5- أسباب الاختلاف .
6- كيفية بيان القرآن
7- الفرق بين التفسير و التأويل .
8- أوجه التعبير عن المعنى.
9- الحقيقة و المجاز.
10- العموم و الخصوص .
11- الأسباب اللغوية للخلافات العقدية .
12- مخالفة الظاهر .
13- العلم المطلق .
14- الدليل القرآني .
15- النسخ
16- الفرق بين النسخ و التخصيص .
17- هل في القرآن ما لا تعلمه الأمة ؟.
18- حكمة المتشابه .
19- شرف علم التفسير.
20- علوم الآلة التي يحتاجها المفسر .
21- المشترك اللفظي .
22- إعجاز القرآن .
 
الأستاذ الفاضل:أحمد بزوي الضاوي جزاك الله خيرا على هذه الفوائد .
لقد بحثت طويلا عن هذه المقدمة النافعة لأنها مهمة بالنسبة لأحد زملائي المقبلين على رسالة الدكتوراه
وأرجو من الأستاذ أن يذكر لنا الأراء الجديدة التي انفرد بها الأصبهاني في هذا الموضوع
 
مقدمة التفسير للراغب الأصفهاني ( ت 502 هـ ) هدية للأخوة رواد الموقع

مقدمة التفسير للراغب الأصفهاني ( ت 502 هـ ) هدية للأخوة رواد الموقع

بعد أن نشرت تعريفا بهذه المقدمة على هذا الموقع المتميز وبعد اطلاع الإخوة و الأخوات الباحثين و طلبهم الحصول على هذه المقدمة ، فإنني أذكر أنني حاولت مرارا نشرها على الموقع و لكن باءت كل المحاولات بالفشل ، وها أنا أعيد الكرة لعل الله تعالى يبلغنا المقصد فتعم الفائدة ، علما أن هذه النسخة عبارة عن طبعة قديمة توجد بدار الكتب المصرية ، و قد قمت بمسحها بالماسح الضوئي و من ثم فهي في شكل صورة و ليست نصا ، كما أذكر أنني أقوم بتحقيقها تحقيقا علميا مع القيام بدراسة مستفيضة. و حين الفراغ من ذلك فسيكون رواد هدا الموقع أول من يطلع عليها إذ الهدف نشر العلم باعتباره زكاة من جهة و صدقة جارية من جهة أخرى . نسأل الله تعالى التوفيق و السداد ، و أن يجعل الأعمال خالصة لوجهه الكريم ، و أن يتقبل منا أجمعين . فلا تنسونا من صالح الدعاء .
والسلام عليك و رحمة الله و بركاته .
ملحوظة : الرجاء من الإخوة المشرفين على الموقع إذا لم تظهر مقدمة الراغب كمرفقات لهذه المشاركة أن يبينوا لنا كيفية العمل على نشرها حتى تعم الفائدة.
 
شكر الله سعيكم

شكر الله سعيكم

كنت أبحث عن هذه المقدمة وأتشوق الى قراءتها والاطلاع عليها منذ فترة
جزاكم الله عنا خير الجزاء
 
الدكتور الفاضل :أحمدالضاوي حفظه الله :السلام عليكم ورحمة الله وبعد :
عندي كتاب بعنوان "مقدمة جامع التفاسير "مع تفسير سورة الفاتحة ومطلع البقرة " لأبي القاسم الراغب الأصفهاني ،حققه وقدم له وعلَق حواشيه :د/أحمد حسن فرحات - جامعة الكويت ،والطبعة الأولى سنة(1405) فهل هو الكتاب الذي حدثتنا عنه الآن ؟أم غيره ؟ وما الفرق بين الإثنين ؟علماً بأن المحقق ذكر أنه رجع إلى نسختين خطيتين وواحدة مطبوعة قديماً 0
ولكم جزيل الشكر والتقدير ،والسلام عليكم 0
 
بارك الله فيكم .
لوتكرمتم بإرساله على بريدي الذي يظهر في التوقيع لنشرته إن شاء الله في مكتبة الموقع .
 
الإخوة الأفاضل
حاولت إرسال الملف على بريدكم الإلكتروني، ولكنني لم أفلح في ذلك لسبب لا أعلمه ، علما أنني استنسخته بالماسح الضوئي وجمعته في ملف واحد مضغوط . و من ثم فإني سأعمل إن شاء الله على تحريره بتنسيق وورد.
أما إذا ماكانت المقدمة هي ما حقق بالكويت فالواقع أني لم أطلع عليه
والسلام .
 
جزاك الله خيراً د أحمد فنحن في شوق للمقدمة وحبذا لو راعيتم موافقة أرقام الصفحات للمطبوع عند التنسيق للوورد
 
أستاذي الكريم :
هذا موقع يمكنك من رفع ملف قد يصل حجمه الى 300 ميجابايت للملف الواحد
http://www.rapidupload.com/
قم برفع الملف المذكور أعلاه من خلال الطريقة المشروحة في الصورة المرفقة
طبعا يلزم إعداد الملف أولا ثم فتح الموقع من خلال هذا الرابط
و البقية ...أسهل ..
 
الأخ الفاضل الطيب وشنان حفظه الله
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته وبعد ، فإني أشكر لكم هذه الخدمة الجليلة ، و آمل في أن يتم التواصل بين الباحثين و الخبراء في مجال المعلوميات و تقنيات التواصل للنجاح في بلوغ الأهداف المتوخاة .
والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
ملحوظة : سأجرب هذا الموقع ، ثم أخبركم بالنتيجة ، إن شاء الله تعالى.
 
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
أخي الفاضل إنني حاولت بشتى الطرق و الوسائل تنزيلها على الموقع و لم أفلح ، و قد اتبعت نصيحة بعض الإخوة باعتماد موقع ييسر عملية التنزيل على المواقع و لكن التجربة باءت بالفشل . و الله المستعان .
أنا الآن بصدد تحقيقها و طبعها و بمجرد الفرا غ من نسخها أعدكم بأنكم ستجدونها على موقعنا .إن شاء الله تعالى .
وتفضلوا بقبول خالص التحيات و التقدير.
 
الأخ الفاضل الطيب وشنان ـ حفظه الله ـ
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته .
وبعد ، فقد اتبعت ما أشرتم به علي ، و لكن المحاولة باءت بالفشل . وبإمكانكم الاطلاع على ذلك من خلال الموقع .
فهل من تفصيل أكثر ؟
وتفضلوا بقبول خالص التحيات و التقدير .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
 
جزاك الله خيرا أستاذي الكريم ،و بارك فيك...
و الحمد لله الذي يسر رفع الملف الذي انتظره رواد الملتقى ...
ملحوظة :
لمن يرغب في تحميل الملف أنظر الصورة في المرفقات :
 
محاولتكم نجحت أستاذي الكريم ..
و الرابط الذي وضعتموه على هذه الصفحة صحيح و لا عيب فيه :
http://tafsir.org/vb/showthread.php?t=6385
جزاكم الله خيرا و بارك فيكم .
و الملف قمت بتحميله ووجدته كاملا و عليه خطكم الجميل .
و الصورة المرفقة تؤكد ذلك
 
التجربة نجحت أستاذي و لم تفشل

التجربة نجحت أستاذي و لم تفشل

جزاكم الله خيرا
الرابط الذي وضعتموه على هذه الصفحة :
http://tafsir.org/vb/showthread.php?t=6385
سليم و يعمل 100/100
و قد حملت الملف و هو سليم .
و هذه طريقة التحميل لمن شاء :
 
الأخ الفاضل : الطيب وشنان ـ حفظه الله ـ
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
وبعد ، فإني أحمد الله إليك أن يسر نشر هذه المقدمة على موقعنا الرائد . و جزاك الله خيرا .
وتفضلوا بقبول خالص التحيات و التقدير .
و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
 
كتاب : مذهب أهل السنة في التفسير (1) : أحمد بزوي الضاوي

كتاب : مذهب أهل السنة في التفسير (1) : أحمد بزوي الضاوي

بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين .
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
وبعد ، هذا الكتاب عبارة عن دراسة علمية للمذهبية السنية في تفسير الخطاب القرآني ، و هو محاولة تروم صياغة نظرية متكاملة في تفسير الخطاب القرآني ، من خلال دراسة أصول التفسير و قواعده كما سطرها أهل السنة و الجماعة . و هو هدية لرواد الموقع ، آمل أن يكون مفيدا ، فلا تنسونا من صالح الدعاء.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
 
الساد الأساتذة المشرفون على الموقع ـ حفظهم الله ـ
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
وبعد الرجاء حذف ما تكرر من مقدمة الراغب ،ذلك أنني قمت بمحاولات متعددة لتنزيله على موقعكم وكانت تبوء بالفشل إلى أن أرشدنا الأخ الفاضل : الطيب وشنان مشكورا إلى طريقة موفقة لتنزيل الملفات على المواقع .
وتفضلوا بقبول خالص التحيات و التقدير .
و السلام عليم و رحمة الله و بركاته .
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاكم الله خيراً وبارك في جهودكم
 
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
وبعد ، فإ ن تفسير القرآن الكريم مجهود بشري محدود في الزمان و المكان ، و هو خطاب لغوي مؤسس على خطاب قرآني متعال عن الزمان و المكان ، و من ثم فإنه يعرف بداهة مشروعية الاختلاف ، حتى تقرر عند العلماء بالتفسير أن القطع على الله تعالى بالمراد بدعة . و لكن ما أقصده هو الاختلاف في التفسير المبني على الجهل أو الأهواء ، مع التجرد من الإخلاص .
نسأل الله التوفيق و السداد . شاكر لكم تعليقكم العلمي المفيد ، مع متنياتي بدوام التواصل خدمة لهذا العلم الشريف .
والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
 
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
أما بعد ، فإني أشكر لفضيلتكم الإشارات و الإضافات القيمة و المفيدة ، و إلى مزيد من التواصل الفعال خدمة لهذا العلم الشريف .
و تفضلوا بقبول خالص التحيات و التقدير .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
 
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
وبعد ، فإني أحمد الله إليكم على كل حال . إن هو إلا جهد المقل .
مع الشكر و التقدير لفضيلتكم .
و نسأل الله التوفيق و السداد و حسن الخاتمة .
وتفضلوا بقبول خالص التحيات و التقدير .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
 
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
أما بعد ، فإني أشكر لكم تعليقكم اللطيف .
وتفضلوا بقبول خالص التحيات و التقدير
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
 
طريقة تعامل الصحابة مع القرآن و السنة

طريقة تعامل الصحابة مع القرآن و السنة

بسم الله الرحمن الرحيم

و الصلاة و السلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين

( قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) ـ البقرة:32 ـ

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .

أما بعد ، فإن القرآن الكريم هو رسالة الله تعالى للبشرية كافة ، و من ثم فلا يمكن تحقيق التواصل مع الله تعالى ما لم نفقه مضمون هذه الرسالة ، يقول الحق سبحانه :( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) .فالرسالة ما لم نعرف مضمونها لا يمكن الوفاء بالتزاماتها ، فما لم نفسر القرآن الكريم بأن نقف على معانيه و مراداته ، لا يمكننا أن نتمثل تعاليمه السمحة في حياتنا العملية. وعليه فإننا نرى أن تفسير القرآن الكريم ضرورة تلجئنا إليها معرفة حكم الله تعالى في الواقع المعيش على مستوى الفرد و الأسرة و الدولة والدول في حال السلم و الحرب. وكونه من الفروض الكفائية لا يعفينا من معرفة ما لا يمكن أن تستقيم به دنيا نا و لا بما تصلح به آخرتنا . ومعلوم أنه كلما صحت العزائم و خلصت النوايا ، واستمد العون على الفتح و الفهم من الفتاح العليم ، كلما نشطت النفوس لتحصيل هذا العلم الشريف ، و كلما طبقنا ما عرفنا منه في حياتنا العملية كلما فتح الله لنا آفاقا جديدة من الفهم و التفقه : ( من عمل بما علم و رثه الله ما لم يعلم ) ذلكم هو علم الموهبة ، يمنحه الله من يشاء من عباده الصالحين المخلصين، فهناك العلــم و نور العلم ، و ما يغير الله به الأحوال هو نور العلم . ولنستحضر دائما قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:282)
و مدخل المنهج الصحيح للتعامل مع القرآن الكريم هو طريقة الصحابة ـ رضوان الله عليـهم ـ والمتمثلة في النقط الثلاث التالية :
1- لا يعارض أحدهم القرآن و صحيح السنة بمعقوله ، و لا بذوقه ووجده و مكاشفته ، و إنما يجعلون القرآن أميرا يقتدى و يتبع على كل حال .
2- لا يؤسس أحدهم دينا غير ماجاء به الرسول ، فقد كانوا رضي الله عنهم و أرضاهم معتصمين بالقرآن و السنة ، ليست لهم آراء و مواقف مسبقة ، و لامذاهب يؤمنون بها ثم يأتون إلى القرآن ليستمدوا منه الشرعية لهذه الآراء و المذاهب و المواقف .فمنهجهم في التعامل مع القرآن الكريم كان منهجا علميا يعتمد المنهج الاستنباطي فهم يقرؤون القرآن و السنة و يحاولون فهمهما من الدخيل فلا يفرضون عليهما لا المنهج و لا التصور .و لا يعتمدون المنهج الإسقاطي بحيث يقرؤون أفكارهم و معتقداتهم و أذواقهم و مواجدهم في القرآن الكريم ، و هو المنهج المعروف في مناهج تحليل الخطاب بأنه منهج غير علمي . و سبحان الله المغرضون عندما يتعاملون مع القرآن الكريم يصبح المنهج الإسقاطي هو المنهج العلمي، و عندما يتعاملون مع باقي النصوص يتبنون المنهج الاستنباطي باعتباره هو المنهج العلمي ، ومن ثم تتضح ازدواجية المعايير، ومبدأ الكيل بمكيالين .
3- كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا أراد أحدهم معرفة شيء من الدين أو الكلام فيه نظر في ما قاله الله تعالى و رسوله الكريم ، فكانوا رضوان الله عليهم من القرآن و السنة يتعلمون ، و بهما يتكلمون، و بهما يستدلون ، وفيهما ينظرون و يتفكرون .

و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
 
عودة
أعلى