السموات السبع
هنا أصلان لا أجد مهرب من التسليم بهما:
1- أن السماء الثانية تعلو السماء الأولى وتتميز عنها، والثالثة تعلو الثانية وتتميز عنها .. وهكذا حتى السابعة.
2- أن هذا التصور حاصل في جميع الاتجاهات المتعامدة على محيط الأرض.
وينتج عن (1) و (2) أن السماء الأولى كروية الشكل أو ما يشبه الكرة، وأن السماء الثانية طبقة فوق الأولى وتنتهي أيضاً بشكل كروي أو ما يشبهه (ولنتصور صَفَار البيض كالسماء الأولى وزُلاله كالثانية)، ثم تاتي السماء الثالثة فوق الثانية .. وهكذا حتى السابعة. وهذا هو التصور التراثي.
ثم أننا نعلم يقيناً أن القمر ينير السماء الأولى (سماءنا) كما تنير شمعة صغير بقعة محدودة لا تزيد عن دائرة نصف قطرها كيلومتر، وذلك من مساحة هائلة كمساحة الجزيرة العربية أو تزيد. (وينسحب الحديث على كل جرم يمكن أن يحمل اسم قمر لانطباق علِّة التسمية عليه، وهذا هو ما أشار إليه أحد الأخوة أعلى من أن الآية تتكلم عن جنس القمر، وذلك لانتفاء الفرق بين قمرنا وغيره من الأقمار - كبعض
أقمار كوكب المشترى مثلاً، والذي تبين أنه يدور حوله 67 قمرا حتى الآن - وذلك من حيث التركيب المادي وقابلية الإنارة السطحية وتبعيته لنجم يستضيء به تبعية ثانية (وربما أولى .. وهو الأمر الذي يجعل القمر والكوكب متكافئآن)، وعندها سينتقل بنا الحديث ليشمل شمعات متناثرة، تضيء كل منها موقعها إلى مسافة قريبة على قدر شدة إنارتها).
الإشكال:
(سأكتفي بالحديث عن القمر دون الشمس لأن الإشكال معه أشد ظهوراً باعتبار أن القمر أضعف جداً من الشمس في درجة الإنارة - والتي هي مثار الإشكال).
تقول الآية الكريمة عن القمر في علاقته بالسموات السبع: "وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً".
موطن الإشكال الذي نود الإشارة إليه في فهم الآية أن إنارة القمر (الأقمار) ستصل من السماء الأولى إلى كل سماء من السماوات فوقها بدلالة النص "فِيهِنَّ نُوراً"- ولا يستدعي النص صراحةً وقوع جرم القمر ذاته (الأقمار ذاتها) في السموات جميعاً. ويظهر الإشكال بوضوح إذا علمنا أن إنارة القمر – والأقمار جميعاً – ليست إلا أقل من إنارة شمعات ضعيفة في بقعة هائلة من الفضاء، وتقع مصادر هذه الإنارات جميعاً في السماء الأولى، فكيف يصل ضوء القمر وأي قمر مثله إلى فضاء السموات العُلَى، والسحيقة في بعدها عنا، وبما يشمل أبعدها، أي: السماء السابعة؟!
ولتقريب حجم الإشكال، نستطرد في تمثيل الشمعات التي مثلنا بها، فنتصور فيه أن الأقمار كالشمعات التي تنير بقع مكانية محدودة من الجزيرة العربية مثلاً، وأنها ستنير أيضاً نطاق الدول العربية (السماء الثانية)، بل ونطاق الدول الإسلامية (السماء الثالثة) ونطاق وجه الأرض من إحدى جهتيها (السماء الرابعة)، ثم المجموعة الشمسية (السماء الخامسة)، ثم مجرة درب التبانة (السماء السادسة) ثم التجمع المجري (السماء السابعة).
فهل يمكن استساغة إنارة كل هذه النُطُقْ المتمايزة – في إطار هذا التمثيل - بعدد من الشمعات المتناثرة عبر مساحة أرضية كالجزيرة العربية؟! .. – من الواضح أنه لا يمكن.
هذا هو أصل الإشكال! .. بل ويزداد الإشكال تَأزُّماً بالإفادة الآتية:
إذا انتبهنا لقول الله تعالى عن السموات "
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ" وما ينبغي أن نفهمه، من أن (فوقهن) هو أعلاهن، أي أسقفهن أو أسطحهن، أو كما قال الزمخشري: "
من جهتهنّ الفوقانية" ، مثلما نقول مثلاً أن (الطائرة تكاد تنفجر من فوقها، أي من سقف بدنها العلوي). وهذه الأسقف متعددة بعدد السموات، وهي فواصل السموات التي تقع بين كل سماء والتي تليها، وأن هذه الأسقف تكاد تتمزق (
يَتَفَطَّرْنَ) أو تتشقق كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. ولو كان هذا التفطُّر فوق السماء السابعة فقط بحيث تعم فوقيته الجميع، لما عانى سقف كل سماء من الستة سموات الأسفل منها من التفطر أيضاً. وحيث أنه حاصل بدليل الآية، فالأسقف السبعة – كلٌ على انفراد- لا بد وأن يُعاني من الميل إلى هذا التفطُّر (التمزق أو التشقق).
فإذا كانت الأقمار في السماء الدنيا (الأولى) بذلك الضعف الضوئي الذي ذكرناه أعلى، فكيف ستخترق إنارتها تلك الأسقف المتهيجة الفاصلة بين كل سماءين متتاليتين، فَيَصل نورها تباعاً، عبر هذه الحواجز السقفية إلى السماء السابعة، ويسري نورها فيهن جميعاً كأقمار منيرة؟!
وحقيقةً .. أرى أن هذا إشكالٌ عويص، وربما يتطلب تفكيكه منا إعادة النظر في النموذج الكُرَوِي الطَّبقي - المشار إليه أعلى - دون الإخلال بعلوية السموات فوق بعضها، أي بما يستوعب قول الله تعالى "
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا".
ومع ذلك فسوف أطرح احتمالين لحل هذا الإشكال في مداخلة تالية إن شاء الله تعالى.
يُتْبَع .. ،،