محاضرات تفسير سورة البقرة

ام ايمن

New member
إنضم
5 أكتوبر 2010
المشاركات
40
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
الأردن /عمان
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إنني أدرس التفسير من عدة مصادر ثم ألخص ما أدرسه وبنفس الوقت أعطي الدروس للأخوات على بعض المنتديات من باب تزكية ما من الله علي به من علم لكني أحتاج من المشايخ الفضلاء وأهل العلم من يساعدني في تصحيح ما أكتب فهل أجد من مشايخ الملتقى الفضلاء من يكون عونا لي على طاعة الله في طلب أشرف العلوم المتعلقة بكتاب الله ألا وهو تفسير القرآن الكريم بأن أضع ملفات ملخصاتي هنا ويطلع عليها ويكتب لي التصويب كلما سمح له وقته وأسأل الله أن يجزي عني من يعينني في ذلك خير الجزاء ويرزقه الفردوس الأعلى ويجعل كل حرفا يعلمني في ميزان حسناته.
وقد نزلت مسبقا ملف تفسير سورة الفاتحة وهذا ملف تفسير سورة البقرة​


محاضرات تفسير القرآن الكريم​

تفسير مجمع من : تفسير الطبري – تفسير ابن كثير – تفسير القرطبي –


تفسير السعدي –البحر المحيط- في ظلال القرآن – الوسيط - تفسير ابن عثيمين .




جمع وإعداد


الفقيرة الى عفو ربها




مفيدة محمد زكي البكر​


-أم أيمن-


ضمن دروس تيسير التفسير التي ألقيها على بعض المنتديات


تفسير سورة البقرة


اعتمدت في شرح الآيات على بعض كتب التفسير الموثوقة والمذكورة نهاية الدروس

حرصت على عدم ذكر الإسرائيليات والأحاديث الضعيفة
وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبب



اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا






إهداء


* إلى من لست إلا حصاد غرسها ..


إلى من روتني بعطفها وحنانها ودعائها .. أمي الغالية


* إلى من فـــارقنـــــا ونحن صغــــارا ..


وافتقدناه في صغرنا وحين صرنا كبارا .. أبي الغالي


* إلى من كان عوني- بعد الله - في دراساتي..


إلى شريكي في حياتي وأهدافي وطموحاتي .. زوجي الحبيب


* إلى فلذات كبدي وقرة عيني في حياتي ..


إلى من رجوت أن يكونوا ذخري غدا بعد مماتي .. ابني وابنتاي


الى من منحني كثيرا من علمه وأدبه وخلقه وفضله .


الى من حبب الى قلبي كتاب الله وحرص على إفادتي فما بخل علي ومافتيء يتعاهدني بين الحين والحين يرشدني تارة ويقومني تارة


شيخي و أستاذي وموجهي


الشيخ الفاضل أبو البراءأسامة الأحمدي​




أسأل الله أن ينفع بهذا العمل المتواضع وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم






المحاضرة الأولى



إنْ الحمدَ للهِ نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ , ونَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيئَاتِ أَعْمالِنَا, مَنْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ وَمَنْ يُضْلل فَلا هادي لهُ ،وأشْهَدُ أَنْ لا إله إِلا الله وَحَدهُ لا شَرِيكَ له , وأشْهَدُ أنَّ مُحَمداًعَبدُه وَرَسُولهُ , اللهم صلِّ وسَلِمْ وبَارِكْ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ , ومَنْ تَبِعَهمْ بإحسان إلى يومِ الدينِ .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوااتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) آل عمران 102

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوارَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّه الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) النساء 1

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوااتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71 ) ) الأحزاب

أما بعدُ , فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله , وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله ُعليه وآله وسلم , وشرَّ الأمورمحدثاتهُا , وكلَّ محدثة بدعة , وكلَّ بدعة ضلالة , وكلَّ ضلالة فى النار .
حيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً وطاب لقاؤكم وتبوأتم من الجنة منزلاً . واسأل الله الذي جمعنا في هذه الدنيا الفانية على هذه الشبكة الصغيرة أن يجمعنا في الآخرة في جنة عالية قطوفها دانية إخوانا على سرر متقابلين .
إنتهينا بفضل الله عزَّ وجلَّ من تفسير فاتحة الكتاب , نبدأ بعون الله تبارك وتعالي في تفسير سورة البقرة.
التناسب بين سورة الفاتحة وسورة البقرة

آخر سورة الفاتحة قوله تعالى {غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) وجاءت سورة البقرة بعدها تتحدث عن المغضوب عليهم {بني إسرائيل) وكيف عصوا ربهم ورسولهم وجاءت سورة آل عمران لتتحدث عن الضآلين (النصارى)


وآخر كلمات سورة الفاتحة الدعاء جاءت مرتبطة ببداية سورة البقرة {هدى للمتقين) فكأن {اهدنا الصراط المستقيم) في الفاتحة هو الهدى الذي ورد في سورة البقرة .

عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "البقرة سنام القرآن وذروتهنزل مع كل آية منها ثمانون ملكا واستخرجت "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" من تحتالعرش فوصلت بها أو فوصلت بسورة البقرة, ويس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له واقرءوها على موتاكم" انفرد به أحمد
الرواية الثانية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لكل شيءسنام وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي" وفي مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبيهريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تجعلوا بيوتكم قبورافإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان"
وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن البقرة وإن من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخله شيطان ثلاثة أيام" رواه أبو القاسم الطبراني وأبو حاتم وابن حبان في صحيحه
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد فاستقرأهم فاستقرأ كل واحد منهم ما معه من القرآن فأتى على رجل من أحدثهم سنا فقال: ما معك يا فلان؟ فقال: معي كذا وكذا وسورة البقرة. فقال: أمعك سورة البقرة ؟قال نعم قال: اذهب فأنت أميرهم" فقال رجل من أشرافهم والله ما منعني أن أتعلم سورةالبقرة إلا أني خشيت أن لا أقوم بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تعلموا القرآن واقرءوه فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشو مسكايفوح ريحه في كل مكان ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكي على مسك" هذالفظ رواية الترمذي
تسميتها :
سُمَّيت بهذا الاسم , لاشتمالها علي قصة البقرة , القصة العجيبة كما سيأتي بيانها إن شاء الله في موضعها .
هذه السورة من أوائل ما نزل من السور على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ في المدينةِ بعدَ الهجرةِ ومع بداية تأسيس الامة الاسلامية (السور المدنية تعنى بجانب التشريع) وهي أطول سور القرآن على الإطلاق وأول سورة في الترتيب بعد الفاتحة والمرجح أن آياتها لم تنزل متوالية كلها .
تتابعتْ الآياتُ في النزولِ علي مدارِ العشرِ سنينَ التي عاشَها النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في المدينةِ حتى كانَ منَ الآياتِ التي أنزلتْ في سورةِ البقرةِ آخرُ آيةٍ نزلتْفي القرآنِ الكريمِ كلِّه وهي قولُه تعالى{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) البقرة 281
هذه السورةُ الكريمةُ , سورةُالبقرةِ ,آياتُها: مائتانِ وستٌ وثمانون آية .
وكلماتُها: ستةُ آلافٍ ومائتانِ وإحدى وعشرينَ كلمة .
وحروفُها: خمسةٌ وعشرون ألفا وخمسُ مائة .
فمنْ قرأَ سورةَ البقرةِ مرة واحدة سيُعطى منَ الحسناتِ مائتين وخمساً وخمسين ألف حسنة.
قالَ العلماءُ : اشتملتْ هذه السورةُ الكريمةُ علي ألفِ أمرٍ وألفِ نهيٍ وألفِ خبرٍ , وألفِ حُكْمٍ , وخمسةَ عشرَ مثلا .
هدف السورة: الإستخلاف في الأرض ولذا جاء ترتيبها الاول في المصحف. فالأرض ملك لله عز وجل وهو خلقها وهو يريد ان تسير وفق إرادته فلا بد أن يكون في الأرض من هو مسؤول عنها فالبشر هم المسؤولون عن الأرض وقد استخلف الله تعالى قبل آدم الكثير من الأمم وبعد آدم أيضاً فمنهم من فشل في مهمة الاستخلاف ومنهم من نجح. لذا عندما نقرأ السورة يجب علينا أن نستشعر مسؤولية في خلافة الارض.وكأنّ القرآن يخاطبنا قائلاً اعلموا أنّ الأرض هذه ملك لله، والله هو مالك الكونخلقكم وملَّككم الأرض لكي تُديروها وفقاً لمنهج الله...
مجمل سورة البقرة يدور حولمحورين
المحور الأول هو موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية
والمحور الثاني هوموقف الجماعة المسلمة الناشئة و إعدادها لحمل أمانة الدعوة والخلافة فيالأرض.

استُفتِحتْ السورةُ الكريمةُ بالمقدمة: وفيها وصف أصناف الناس وهي تقع في الربع الأول من السورة من الآية (1 – 29)

أصنافِ الناسِ الثلاثةِ :
وصف المؤمنينَ ظاهراً وباطناً من الآية 1 حتى الآية 5
وصف الكافرينَ ظاهراً وباطناً , الآية 7 و8
والمنافقينَ المؤمنينَ في الظاهرِ دونَ الباطنِ
صفة النفاق لم تكن موجودة بمكة فالإسلام في مكة لم تكن له دولة ولم تكن له قوة ولكن بدأت تظهر هذه الصفة في المدينة عندما أصبح للإسلام قوة يحسب حسابها .
ثم توجَّهتْ بالخطابِ إلي الناسِ أجمعينَ بأصنافِهم الثلاثةِ , أن يكونوا من المؤمنين الصادقين بأمرِهم بعبادةِ اللهِ عزَّ وجلَّ ؛ لأنه لا يستحقُ العبادةَ أحدٌ سواهُ سبحانَه وتعالي .
ثم تحدي المرتابين فيه بأن يأتوا بسورة منمثله وتهديد الكافرين بالناروتبشير المؤمنين بالجنة من الأية21 حتى الآية 29

ثم تحدثتْ السورةُ الكريمةُ عن قصةِ خلقِ آدمَ عليه السلامُ ووصف المعركة الخالدة بين أدم والشيطان واستخلاف آدم في الأرض {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (الآية 30) واللطيف أنه سبحانه أتبع هذه الآية بـ (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (آية 31)

وهذه الآية محورية تعني أنه إذا أراد العبد أن يكون مسؤولا عن الأرض يجب أن يكون عنده علم لذا علّم الله تعالى الاسماء كلها وعلّمه الحياة وكيف تسير وعلّمه تكنولوجيا الحياة وعلّمه أدوات الاستخلاف في الأرض {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)(آية 22). وهذا إرشاد لأمة الاسلام إن أرادوا ان يكونوا مسؤولين عن الأرض فلا بد لهم من العلم مع العبادة , فكأن تجربة سيدنا آدم هي تجربة تعليمية للبشرية بمعنى كيفية المسؤولية عن الأرض. ثم جاءت الآية {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ( آية 36 ترشدنا أن النعمة تزول بمعصية الله تعالى. وتختم قصة آدم بآية مهمة جداً {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) آية 38 وهي تؤكد ما ورد في أول سورة البقرة (هدى للمتقين) ومرتبطة بسورة الفاتحة {إهدنا الصراط المستقيم).
ثم تحدثتْ عن بنيإسرائيلَ فيما يقربُ من ثلثِ السورةِ : بني اسرائيل الذين استخلفوا في الأرض فأفسدوا (لآية 40) {يا بني اسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين).وكيف كان تذكير الله لبني إسرائيل بنعمته عليهم خلال تاريخهم الطويل ,بداية من نجاتهم من فرعون وتظليل الغمام عليهم وتنزيل المنوالسلوى عليهم وتفجير الصخر بالماء . وتذكيرهم بما كان منهم من انحرافات عدة وكيف أن الله يعفوعنهم في كل مرة , ودعوتهم للوفاء بعهدهم والتنديد ببعض أفعالهم من الآية 40 حتى الآية 48.
ومن هذه الانحرافات نقضهم للعهد والمواثيق مع ربهم وأنبيائهم ,قتلهم للأنبياء بغير حق ,كفرهم بآيات ربهم ,عبادتهم للعجل ورفضهم الإيمان بما جاءبه نبيهم حتى يروا الله جهرة,مخالفتهم وصية الله لهم و هي أن يدخلوا القرية بكيفية معينة ,اعتدائهم في السبت ,نسيانهم ميثاق الطور وتماطلهم وتجادلهم في ذبح البقرةا لتي أمر الله بذبحها لحكمة خاصة.من الآية 49 حتى الآية 74.
و تبصير الجماعة المسلمة بمواقف بني إسرائيل التي يتجلى فيها العصيان والانحراف والنكول عن العهود والمواثيق.
وأول كلمة في قصة بني اسرائيل {واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) وأول كلمة في الفاتحة {الحمد لله رب العالمين) والحمد يكون على النعم. فذكر نعم الله تعالى واستشعارها هي التي افتتح بها القرآن الكريم والتي افتتحت بها قصة بني اسرائيل.
وأول كلمة في قصة بني اسرائيل {أني فضلتكم على العالمين) اي أنهم مسؤولون عن الأرض، وأول كلمة في قصة آدم {إني جاعل في الأرض خليفة) أي مسؤول عن الارض، .ثمعرض أخطاء بني اسرائيل (بهدف اصلاح الامة الاسلامية) الآيات 55 – 61
وفي عرض أخطاء بني اسرائيل التي وقعوا فيها توجيه لأمة محمد واصلاحها ومن هذه الأخطاء: أن بني اسرائيل لم يرضوا تنفيذ شرع الله تعالى واتصفوا بالمادية – الجدل الشديد – عدم طاعة رسل الله – التحايل على شرع الله – عدم الإيمان بالغيب.
وقصة البقرة باختصار أن رجلا من بني اسرائيل قتل ولم يعرف قاتله فسألوا سيدنا موسى فأوحى الله تعالى اليه أن يأمرهم بذبح بقرة لها صفات معينة ويضربوا الميت بجزء من البقرة المذبوحة فيحيا باذن الله تعالى ويدل على قاتله (الآيات 69 – 71) وهذا برهان مادي لبني اسرائيل وغيرهم على قدرة الله جلّ وعلا في احياء الخلق بعد الموت. وذلك أن بنو اسرائيل كانوا ماديين جداً ويحتاجون الى دليل مادي ليصدقوا ويؤمنوا. وهذه السورة تقول لأمة محمد أنهم مسؤولون عن الأرض وهذه أخطاء الامم السابقة قلا يقعوا فيها حتى لا ينزل عليهم غضب الله تعالى ويستبدلهم بأمم أخرى. وتسمية السورة بهذا الاسم (البقرة) إحياء لهذه المعجزة الباهرة وحتى تبقى قصة بني اسرائيل ومخالفتهم لأمر الله وجدالهم لرسولهم وعدم إيمانهم بالغيب وماديتهم وما أصابهم جرّاء ذلك تبقى حاضرة في أذهاننا فلا نقع فيما وقعوا فيه من أخطاء أدت الى غضب الله تعالى عليهم. وهذه القصة تأكيد على عدم ايمان بني اسرائيل بالغيب وهو مناسب ومرتبط بأول السورة {الذين يؤمنون بالغيب) وهي من صفات المتقين. وفي قصة البقرة أخطاء كثيرة لأنها نموذج من الذين أخطأوا وهي امتحان من الله تعالى لمدى ايماننا بالغيب.
وتتابع أخطاء بني اسرائيل الى الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(104) وكان العرب يفهمون هذه الكلمة (راعنا) على أنها عادية ولكنها تعني السباب عند بني اسرائيل فأراد الله تعالى ان يتميز المسلمون عن اليهود حتى بالمصطلحات اللفظية وأمرهم أن يقولوا (انظرنا).
ثم تحدثتْ عن قصة الخليلِ إبراهيم عليه السلامُ , وبنائِه البيتَ الحرامَ , الذي جعلَه اللهُ مثابةً للناسِ وأمنَاومناسبتها لفض الخلاف بين أهل الكتاب الذين يرجعون أصولهم إلى إبراهيم عليه السلام عن طريق اسحق عليه السلامويعتزون بنسبتهم إليه وبوعد الله له ولذريته بالنمو والبركة ,وقريش الذين يرجعون أصولهم إلى إبراهيم عليه السلام عن طريق إسماعيل عليه السلام وتعتز بنسبتها إليه وتستمد منها القوامة على البيت وعمارة المسجد الحرام.

و (قصة سيدنا ابراهيم ) وهي آخر تجربة ورد ذكرها في السورة.


اولا ابتلى الله سبحانه آدم في أول الخلق ثم بني اسرائيل ثم ابتلى ابراهيم { وإذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) وفي هذه الآية اثبات أن الاستخلاف في الارض ليس فيه محاباة فالذي يسير على منهج الله وطاعته يبقى مسؤولا عن الأرض والذي يتخلى عن هذا المنهج لا ينال عهد الله {لا ينال عهدي الظالمين). امتحن الله تعالى سيدنا ابراهيم بكلمات فلما أتمهن قال تعالى {اني جاعلك للناس اماما) ثم دعا ابراهيم ربه أن يبعث في هذه الأمة رسولا منهم {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) آية 136.


وفي نهاية قصة سيدنا ابراهيم الآية {قولوا آمنا بما أنزل الينا وما أنزل الى ابراهيم ) جاء ذكر الانبياء كلهم وهذا مرتبط بآية سورة الفاتحة {صراط الذين أنعمت عليهم) فكأنما كل هؤلاء المذكورين في آية سورة البقرة هم من الذين أنعم الله تعالى عليهم والذين يجب أن نتبع هداهم والصراط الذي اتبعوه.

كانت القصص الثلاث : قصة آدم {إني جاعل في الارض خليفة) وقصة بني اسرائيل {واني فضلتكم على العالمين) وقصة سيدنا ابراهيم {إني جاعلك للناس اماما) هذه القصص الثلاث بدايتها واحدة وهي الاستخلاف في الارض . وفيها ايضا اختبار نماذج مختلفة من الناس في طاعة الله تعالى فاختبار سيدنا آدم كان في طاعة الله (ولاتقربا هذه الشجرة) واختبار بني اسرائيل في طاعتهم لأوامر الله من خلال رسوله, واختبار سيدنا ابراهيم بذبح ابنه اسماعيل ايضا اختبار طاعة لله تعالى {واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات). والخلاصة أن الآمة مسؤولة عن الارض والفرد أيضا مسؤول وللقيام بهذه المسؤولية فهو محتاج للعبادة وللأخذ بالعلم والتكنولوجيا.

كما تحدثتْ السورة عن تحويلِ القبلةِ من المسجدِ الأقصى إلي المسجدِ الحرامِ , وموقفِ السفهاءِ من هذا التحويلِ .والدسائس والأقاويل التي أطلقها اليهود حول ذلك ومعالجة أثار هذه الأقاويل في نفوس بعض المسلمين.


المسلمون أمة أرادها الله تعالى ان تكون متميزة وقوله تعالى {وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) فبما انكم ستكونون شهداء على الناس لا بد من ان تكونوا متميزين فلا استخلاف بدون تميز لذا كان لا بد من أن تتميزالأمة المسلمة:


1- بقبلتها (بدون تقليد أعمى لغيرها من الامم السابقة) آية 144


2- بمصطلحاتها (انظرنا بدل راعنا) آية 104


3- بالمنهج (اهدنا الصراط المستقيم) سورة الفاتحة .

ولما نزلت آيات تغيير القبلة ليتميزالمسلمون عن الكفار اعتبرالصحابة ا ان الصفا والمروة من شعائر الكفار وعليهم ان يدعوه ايضا حتى يكونوا متميزين لكن جاءت الآية من الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) آية 158 للتوازن في التميز أن ليس على المسلمين أن يتميزوا عن كل ما كان يفعله الكفار فلا جناح عليهم أن يطوفوا بالصفا والمروة لأنها من شعائر الله وليس فيه تقليد للأمم السابقة. إذن علينا أن نبتعد عن التقليد الأعمى لمن سبقنا لكن مع الإبقاء على التوازن أي أننا أمة متميزة لكن متوازنة.
كما إن السورةَ الكريمةَ تحدثتْ عن أركانِ الإسلامِ بالتفصيلِ,الشهادتين , والصلاةِ والصيامِ , والزكاةِ , والحجِّ .وأجملتْ أركانَ الإيمانِ في آيةٍ واحدةٍ , فاشتملتْ علي ا لعقيدةِ والعبادةِكما اشتملتْ على كثيرٍ من المعاملاتِ
{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) .فبعد أن اطاعوا وتميزوا مع الحفاظ على التوازن كان لا بد لهم من منهج اصلاحي شامل (الايمان بالله، بالغيب، ايتاء المال، اقامة الصلاة، ايتاء الزكاة، الوفاء بالعهود، الصابرين ، الصادقين، المتقين) وكأنما الربعين الاول والثاني كانوا بمثابة تمهيد للأمة طاعة وتميز بتوازن واصلاح شامل وتبدأ من هنا الآيات بالاوامر والنواهي المطلوبة.
أوامر ونواهي شاملة لنواحي الاصلاح:
التشريع الجنائي: آية 179{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
التركات والوصيات آية 180{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)
التشريع التعبدي آية 183 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) التعبد واحكام الصيام.
الجهاد والانفاق فيها دفاع عن المنهج ولا دفاع بدون مال وانفاق. { وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) آية 195
كما تحدثتْ السورةُ الكريمةُ عن الجهادِ والقصاصِ , ونحوذلكَ منَ الحدودِ والأحكامِ .

الجهاد والانفاق{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ(190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ .

الحج وأحكامه (196 - 200) لماذا جاء آيات أحكام الحج بعد الجهاد؟ لأن الحج هو أعلى تدريب على القتال واعلى مجاهدة النفس. وأيات الحج بالتفصيل وردت في سورة البقرة استجابة لدعوة سيدنا ابراهيم في الربع الثامن من القسم الاول {وأرنا مناسكنا) آية 128 ونلاحظ أن سورة البقرة اشتملت على أركان الاسلام الخمسة : الشهادة والصلاة والزكاة والصوم والحج ولم تفصّل هذه الاركان في القرآن كما فصّلت في سورة البقرة.
الاسلام منهج متكامل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) آية 208 والسلم هو الإسلام وهو توجيه للمسلمين أن لا يكونوا كبني إسرائيل الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) آية 85 وأن يأخذوا الدين كاملا غير متجزأ فكأنما يوجهنا الله تعالى في سياق السورة الى الطاعة والتميز ثم يعطينا بعض عناصر المنهج ثم يأمرنا أن نأخذ الاسلام كافة و لا نفعل كما فعل بنو اسرائيل ثم يكمل لنا باقي المنهج. وهذ الآية {ادخلوا في السلم كافة) كان لا بد من وجودها في مكانها بعد الطاعة والتميز واتباع الاوامر والنواهي والجهاد والانفاق للحفاظ على المنهج ثم الاخذ بالدين كافة ثم التقوى التي تجعل المسلمين ينفذون.
ثم أحكام الاسرة حيث أخذتْالأسرةُ حظًّا وفيرًا منْ هذه السورةِ الكريمةِ , فتحدثتْ السورةُ الكريمةُ عن الأسرةِ , والحقوقِ الزوجيةِ , وعن الطلاقِ والخُلعِ , والرضاعِ والنفقاتِ الواجبةِ , إلي غيرِ ذلك مما يتعلقُ بالأحوالِ الشخصيةِ .
وسياق كل ذلك التقوى ونلاحظ نهاية الآيات بكلمة تقوى او مشتقاتها. وقد تأخرت آيات احكام الاسرة عن احكام الصيام لأن الله تعالى بعدما أعد المسلمين بالتقوى وبطاعته جاءت أحكام الاسرة التي لا ينفذها إلا من اتقى وأطاع ربه فالمنهج الاخلاقي والعملي متداخلين في الاسلام. لا ينفع أن يبدأ باحكام الاسرة ما لم يكن هنالك تقوى في النفوس البشرية.
ثم عرضت تجربتين من تجارب الأمم.
تجربة القوم الذين خرجوا من ديارهم خوفا من الموت و تقرير بأن الفزع من الموت لا يجدي والفزع والهلع لا يزيدان حياة ولا يردان قضاء فالله هو واهب الحياة وهوأخذها.
تجربة القوم من بني إسرائيل من بعد موسى (قصة طالوت وجالوت(آية 246 – 251)
وهي قصة أناس تخاذلوا عن نصرة الدين وجاء ذكرها في موضعها لأن المنهج يجب أن يحافظ عليه ولا يتم ذلك إلا بوجود أناس يحافظون عليه.

ثم تحدثت عن اختلاف أتباع الرسل (اختلاف كفر وإيمان )مما أدى إلى الاقتتال لتقرير حقيقة العقيدة الصحيحة .ثم دعوة للإنفاق عقب ذكر الاختلاف والاقتتال فالإنفاق هو عصب الجهاد.


ثم آية الكرسي وما جاء فيها من صفات الله سبحانه وتقرير لمعنى الوحدانية. {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (آية 255) موضعها في السورة مهم جدا وتدلنا الى أنه اذا اردنا تطبيق المنهج يجب ان نستشعر قدرة الله وعظمته وجلاله (الله لا إله الا هو الحي القيوم) فالمنهج ثقيل ويتطلب الكثير من الجهد لكنه يستحق التطبيق لأنه منهج الله تعالى {الله لا اله إلا هو) .


ثم تأتي بعدها آية غاية في كرم الله وعدله {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أمر من الله بان لا نكره أحدا على الدين لماذا ؟ لأن الدين واضح معناه بعد قوله (الله لا اله الا هو) فالذي لا يعرف معنى {الله لا اله إلا هو) ولا يستشعر عظمة هذا المعنى لا مجال لإكراهه على الدين. فالرشد بيٌن والغي بيٌن.

بيان لطريق المؤمنين وطريق الكافرين وانه لا إكراه في الدين.من الآية 253 إلى الآية257 .

ثم تحدثت السورة عن حقيقة الحياة والموت قدرة الله تعالى في الكون (دلائل احياء الموتى):من الآية (258 – 261) جاءت في ثلاث قصص: تتجلى في ثلاث قصص اثنين منهم مع سيدنا إبراهيم والثالثة مع الشخص الذي مر على القرية الخاوية. من الآية 258 إلى الآية 260 .

قصة ابراهيم مع النمرود آية 258 {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)


قصة عزير والقرية الخاوية آية 259 {َوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)


قصة ابراهيم والطير آية 261 {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)

وفي القصص الثلاث تأكيد على قدرة الله تعالى وأنه (لا إله إلا هو) فكيف لا نقبل بتنفيذ المنهج أو نكون مسؤولين عن الأرض بعدما أرانا الله تعالى قدرته في الكون؟
ثمَّ في نهايةِ السورةِ تحدثتْ عن الإنفاقِ في سبيلِ الله إيماناً واحتساباً
آداب الإنفاق –تصوير للإنفاق المشوب بالمن والأذى –تصوير للإنفاق ابتغاء مرضات الله-تمثيل لنهاية المن والأذى-بيان لنوع الصدقة –بيان لأحد مصارف الصدقة- طرق الإنفاق وأوقاتها.. وقرن ذلك بالقرضِ ألربويِّ , وأعلنتْ الحربَ على المرابينَ , وآذنتْهُم بحربِ اللهِ ورسولِه إنْ لم يتوبوا عن الرِّبَا .{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ )آية 278
وهو آخر جزء من المنهج وفيه حملة شديدة على جريمة الربا التي تهدد كيان المحتمع وتقوض بنيانه وحملت على المرابين بإعلان الحرب من الله تعالى ورسوله على كل من يتعامل بالربا أو يقدم عليه. وعرض للمنهج البديل فالإسلام لا ينهى عن أمر بدون أن يقدم البديل الحلال. وقد جاءت آيات الربا بين آيات الإنفاق لتؤكد معنى وجود المنهج البديل للمال والرزق الحلال .من الآية261 إلى الآية 274
ثم تحدثت عن الأحكام الخاصة بالدين والتجارة والرهن.من الآية282 إلى الآية 284 .
ثم خُتمتْ السورةُ الكريمةُ بآيتينِ , قالَ فيهما الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ :
"مَنْ قَرَأ الآيتين مِنْ خواتيمِ سورةِ البقرةِ في ليلةٍكفَتَاهُ"

وهذه أروع آيات السورة {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) آية 285 فالتكاليف كثيرة والتعاليم والمنهج شاق وثقيل فكان لا بد من ان تأتي آية الدعاء لله تعالى حتى يعيننا على أداء وتنفيذ هذا المنهج {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَطَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)آية286

اي أعنا يا ربنا على تنفيذ المنهج لأنه سيوجد أعداء يمنعوننا من ذلك ولن نقدر على تطبيق المنهج بغير معونة الله. واشتملت الخاتمة بتوجيه المؤمنين الى التوبة والإنابة والتضرع إلى الله عزّ وجلّ برفع الأغلال والآصار وطلب النصرة على الكفار والدعاء لما فيه سعادة الدارين {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) وقد ختمت السورة بدعاء المؤمنين كما بدأت بأوصاف المؤمنين وبهذا يلتئم شمل السورة أفضل التئام فسبحان الله العلي العظيم.
الخلاصة: نحن مسؤولون عن الارض والمنهج كامل وعلينا ان ندخل في السلم كافة والمنهج له إطار: طاعة الله وتميز وتقوى. اما عناصر المنهج فهي: تشريع جنائي، مواريث، إنفاق، جهاد، حج، أحكام صيام، تكاليف وتعاليم كثيرة فلا بد أن نستعين بالله تعالى على أدائها لنكون أهلا للاستخلاف في الارض ولا نقع في أخطاء الامم السابقة.
فضل السورة
وفضلُ هذهالسورةِ عظيمٌ : فقد قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلمَ فيها :
" ااقرؤا البقرةَ فإنَّ أخْذَهَا بَرَكةٌ و تَركَها حَسُرةٌ و لا تسْتطيعُهَا البَطَلةُ"(أي : السحرةُ)
وقالَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلمَ :"لا تَجْعلُوا بيوتَكم مقابِرَ. إنَّ الشيطانَ يَنْفِرُمِنَ البيتِ الذي تُقْرأُ فيه سورةُ البقرةِ
رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في سورة البقرة يقول «البيت الذي تقرأ فيهسورة البقرة لا يدخله الشيطان». وفي رواية «..لا يدخله الشيطان ثلاثة أيام». وبالتالي فإنَّ الكثير من الناس يحرصون على قراءة سورة البقرة في البيت لمنع الشيطان من دخوله
".وقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ :"اقرؤا الزَّهراوين: سورةَ البقرةِ، وسورةَ آلِ عمران،فإنَّهما يأتيانِ يومَ القيامةِ يحاجَّان عن صاحِبِهِما"تأملن أيتها الأخوات كيفأنّ سورتي البقرة وآل عمران تحاجان - أي تدافعان - عن صاحبهما (الذي حفظهما وعملبهما وكان يقرأهما كثيراً)
وفي رواية« يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو ظلّتان»...إنّ حرَّ يوم القيامة شديد،تدنو فيه الشمس من رؤوس الخلائق، فتأتي سورة البقرة على من حفظها أو عمل بها أو كان كثير القراءة لها لتظلل عليه... فتأملن أخواتي فضل سورة البقرة!..
ومِنْ فضلِ هذه السورةِ الكريمةِأنَّها اشتملتْ علي أعظمِ آيةٍ في القرآن , وهي آيةُ الكرسيِّ . كما اشتملتْ على هاتين الآيتين الخواتيمِ التي ذكرنَا فيهما قولَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم : مَن قَرَأهُما في ليلةٍ كَفَتَاه .
وهذا مايمكنُ قولُه بين يدي هذه السورةِ الكريمةِ , سورةِ البقرةِ , ونسألُ اللهَ سبحانَه وتعالى بأسمائِه الحُسنى , وصفاتهِ العُليا , أن يرزقَنَا حُسْنَ البيانِ , وحسنَ الفهمِ , وأنْ يجعلَ القرآنَ العظيمَ ربيعَ قلوبِنَا , ونورَ صدورِنَا , وجلاءَأحزانِنا , وذهابَ همومِنا وغمومِنا .
وإلى هنا نكتفي بهذا القدر , فما كان من توفيق فمن الله وحده وما كان من خطأ أو زلل أو نسيان فمنى ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه .
نسأل الله العظيم ,رب العرش العظيم , أنيجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا, ونور صدورنا, وجلاء أحزاننا , وذهاب همومنا وغمومنا . اللهم ذكِّرنا منه ما نُسِّينا , وعلِّمنا منه ما جهلنا, وشفِّعه فينا, واجعله حجة لنا لا علينا, وارزقنا تلاوته آناء الليل , وأطراف النهار لعلك ترضى عنا .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين ,وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لاإاله الا أنت نستغفرك ونتوب اليك
 
المحاضرة الثانية


إنْ الحمدَ للهِ نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ , ونَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيئَاتِ أَعْمالِنَا, مَنْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ وَمَنْ يُضْلل فَلا هادي لهُ ،وأشْهَدُ أَنْ لا إله إِلا الله وَحَدهُ لا شَرِيكَ له , وأشْهَدُ أنَّ مُحَمداً عَبدُه وَرَسُولهُ , اللهم صلِّ وسَلِمْ وبَارِكْ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ , ومَنْ تَبِعَهمْ بإحسان إلى يومِ الدينِ .


{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}ص (4)
{لَوْأَنْزَلْنَا هَـٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون }الحشر (21)
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ذَ‌ٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }الزمر



شرحنا الدرس الماضي التناسب بين سورة الفاتحة وسورة البقرة ثم العناصر التي تضمنتها سورة البقرة وكذلك ذكرنا تسميتها وفضلها , واليوم نبدأ على بركة الله بشرح آيات السورة الكريمة.



أعوذ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ



{الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًىلِلْمُتَّقِينَ (2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِهُمْ يُوقِنُونَ (4)أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7


الم , استفتحت ستة 6سور من القرآن الكريم بهذه الحروف المقطعة
البقرة الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًىلِلْمُتَّقِينَ .

آل عمران - 1، 2 { الم ، اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ).


العنكبوت - 1، 2 { الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ).


الروم - 1، 2 { الم ، غُلِبَتْ الرُّومُ).


لقمان - 1، 2 { الم ، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ).


السجدة - 1، 2 { الم ، تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ).


ذهب مقاتل بن حيان فى تفسير قوله تعالى { وأخر متشابهات ). أنها هى هذه الحروف المقطعة الواقعة فى أوائل السور فهي أيضا من المتشابه لفظا و معنى. و زاد فى الأعراف صادا { المص)، و فى الرعد راء {المر).


(ألف) ( لام) ( ميم ) : هذه ثلاثةُ أحرفٍ منْ حروفِ الهجاء , استفتحَ اللهُ تباركَ وتعالى بها هذه السورةَ , كما استفتحَ بمثلِها غيرَها .
وحروفُ الهجاءِ ثمانيةٌ وعشرونحرفاً , وحروفُ الهجاءِ المذكورةِ فيأوائلِ السورِ بحذف المكرر منها ( 14 ) أربعة عشر حرفا وهي - ال مص ر ك ه ي ع ط س ح ق ن نصفُ حروفِ الهجاءِ يجمعها قولهم : نص حكيم قاطع له سر .



افتتح الله عز وجل ( 29 ) سورة بالحروف المقطعة . وأكثرُ السورِ التي افتتحتْ بحروفِ الهجاءِ مكيةٌ , إلا البقرةَ وآلَ عمران .
وقد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور فمنهم من قال هي مما استأثرالله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسرها ,ومنهم منْقالَ هي من المتشابهِ الذي يجبُ السكوتُ عن الخوضِ فيه[من غيرمستند شرعي] ويُردُّ علمُه إلى اللهِ تبارَكَ و تعالى مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة لا نعلمها - ومنَ العلماءِ منْ قالَ لا يجوزُ أنْ يخاطبَنا اللهُ تبارَكَ وتعالى بشيءٍ لا نعرفُ تأويلَهُ. ولا سيَّما أنه تباركَ وتعالى قالَ{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ "يوسف(2) وأمرَنا بتدبرِه وفهمِه فقالَ{ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ص (29)فما دامَ قرآنًا عربيًّا وأُمِرنَا بفهمِه وتدبُّرِه فلا بدَّ من الخوضِ في هذه الحروفِ وفي سرِّ وجودِها في أوائلِ بعضِ السورِ .
ومنهم من فسرها فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم إنما هيأسماء السور وقيل فواتح افتتح الله بها القرآن وقيل هي اسم من أسماء الله تعالى وقال شعبة عن السدي بلغني أن ابن عباس قال ( الم ) اسم من أسماء الله الأعظم. وعن ابن عباس هو قسم أقسم الله به وهو من أسماء الله تعالى وعن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال أما{الم فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى وقيل ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله وعلى صفة من صفاته وغير ذلك كما ذكره الربيع بن أنس عن أبي العالية لأن الكلمة الواحدة تطلق على معاني كثيرة كلفظة الأمة فإنها تطلق ويراد به الدين كقوله تعالى {إنا وجدنا آباءنا على أمة" وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله كقوله تعالى {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين" وتطلق ويراد بها الجماعة كقوله تعالى {وجد عليه أمة من الناس يسقون" وقوله تعالى {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا" وتطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله تعالى "وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة" أي بعد حين .



.قال الزمخشري وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة ومن الرخوة والشديدة ومن المطبقة والمفتوحة ومن المستعلية والمنخفضة ومنحروف القلقلة. وقد سردها مفصلة ثم قال: فسبحان الذي دقت في كل شيءحكمته.


وقال آخرون إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور بيانا لإعجازالقرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها .


. وقيل أن الراجحُ في سببِ وجودِ هذهالحروفِ المقطَّعةِ في أوائلِ السورِ أن اللهَ أرادَ بها إبطالَ قولِ المشركينَ إن محمدا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم افترى هذا القرآنَ من عندِه فقال :كذبتم إن هذا القرآنَ مؤلفٌ من هذه الحروفِ التي يتألف منها كلامُكم ومحمدٌ واحدٌ منكم , لسانُه لسانُكم ولغتُه لغتُكم فإذا عجزتم عن الإتيانِ بشيء من مثلِ ما جاءَ به فهو أعجزُ عنه فدلَّ عجزُكم كلكم على أنه كلامُ اللهِ ربِّ العالمين وليس كلامُ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .وأنهم (المشركينَ ) لمَّا سمعُوا القرآنَ قالوا : إنْ هذا إلَّا إفكٌ افترَاهُ وأعانَه عليه قومٌ آخرون وقالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا كما في قوله تعالى {وإذاتُتْلَي علَيهِم آيَاتُنا قالُوا قدْ سمِعْنَا لو نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذاإنْ هذا إلَّا أساطيرُ الأولينَ}الأنفال (31)
قالوا نستطيع ُ نحنُ أن نتكلمَ بكلامٍ مثل هذا,هذا كلامٌ افتراهُ محمدٌ هذا أساطيرُ الأولين اكتتبها فهي تُملَى عليه بكرةً وأصيلًا فقالَ اللهُ تباركَ وتعالي {أم يقولونَ تَقوَّلَه بلْ لا يُؤمِنُونَ (32) فَلْيَأْتُوا بِحَديثٍ مِثلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ(33) )الطور.ألَيسُوا يَقولونَ : نستطيعُ أن نقولَ مثلَه " لو نشاءُ لقلْنَا مثلَ هذا إذن {فليأتُوا بحديثٍ مثلِه إنْ كانُوا صادِقين (الطور) , حيث كان التحدي أولاً بالإتيان بمثله ففي سورة الإسراء ( 88) : { قُل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } فلما عجزوا استُنزلوا إلى الإتيان بعشْرِ سور مثله في سورة هود، ثم استنزلوا إلى الإتيان بسورة من مثله في سورة يونس13)ثمَّ نَزلَ في التحدي وتكررَ هذا التحدي في مكةَ للمشركينَ العربِ الأميينَ ولمَّا هاجرَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلمَ إلى المدينةِ و بها اليهودُ أهلُ كتابٍ تكررَ التحدي بأقلِ مما سبقَ في مكة حتى لايقال إن محمداً كان يتحدي قوماً أميين لاعِلمَ لهم لا يقرؤون ولا يكتبون ولوتحدَّانا نحنُ أهل كتابٍ لجئنا بمثلِ ما جاءَ به .
فقالَ تعالي :(( {وَإِن كُنتُمْ فِيرَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّنمِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (( البقرة الآية 23فإنْ لم تفعلوا الآن ولنْ تفعلوا إلي يوم القيامةِ فاتَّقوا النارَ التي وقودُها الناسُ والحجارةُ بالإيمانِ بأنَّ القرآنَ كتابُ اللهِ ربِّ العالمين نزلَ به الروحُ الأمينُ على قلبِ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلم ليكونَ من المنذرين بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ .
فقالَ اللهُ لهم : إنَّ هذاالقرآنَ الذي تزعمونَ أنَّ محمدًا افتراهُ مؤلفٌ منْ هذه الحروفِ التي يتألفُ منها كلامكم : الألِفُ , واللامُ , والميمُ , والصادُ , والحاءُ , إلي غيره .فآمِنوا به ولا تقولوا أساطيرُالأولين.
قال العلماءُ : ويدلُّك على رُجحانِ هذا القولِ أننا لا نرى سورةً استُفتحتْ بهذه الحروفِ المقطَّعةِ إلارأينا اللهَ تعالي في مَطلعِها يشيدُ بكتابِه و يُشيرُ إلي علو منزلتِه ومكانتِه وأنه تنزيلُ ربِّ العالمين . نقرأ مثلا هذه السورة :" {الـم ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًىلِّلْمُتَّقِينَ "



ثم نقرأ آلَ عمران {الــم {1}اللَّهُ لاَإِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ {2} نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ {3} مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ {4} }


"المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه"


"الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم"


"الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين"


ثم ( الحواميم ) يقول تعالى :{حم (1)تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم (2)) غافر .
{حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2)) فصلت .
( حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم(3)) الجاثية .



قال الزمخشري ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت قصص كثيرة وكرر التحدي الصريح في أماكن، وجاء منها على حرف واحد كقوله - ص ن ق وحرفين مثل "حم" وثلاثة مثل "الم" وأربعة مثل "المر" و "المص" وخمسة مثل "كهيعص- و- حمعسق" لأن أساليب كلامهم على هذا من الكلمات ما هو على حرفوعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك ولهذا كل سورةافتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته فدَلَّ عجز العرب عن الإتيان بمثله -مع أنهم أفصح الناس- على أن القرآن وحي منالله.


وقيل إن هذه الحروف إنما جاءت في أول السور ليفتح القرآن أسماع المشركين ويثير انتباههم ويجعلهم يستمعون إلى القرآن بعدما تواصوا بعدم الإنصات إليه على ما جاء في قوله تعالى على لسانهم: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) (فصلت: 26).‏.


{الـم (1)ذَلِكَالكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ( 2 ذا : اسمُ إشارة واللام للبعدوالكاف للخطاب وليست كلُّها اسمَ إشارةٍ ,فهذا اسم إشارة للبعيدِ . أي هذا الكتاب وذلك تستعمل بمعنى هذا كقوله تعالى ( ذلك عالم الغيب والشهادة ) أي هذا وقال بعض العلماء : استعمل ذلك لما تفيده الإشارة بلام البعد عن علو المنزلة وارتفاع القدر والشأن كما قالَ {وإنَّه في أمِّ الكتابِ لدينا لعليَّ حكيمٌ)الزخرف 4
{ذلك الكتابُ) يخبر تعالى أن هذا الكتاب وهو القرآن العظيم سمَّاه اللهُ تباركَ وتعالى بذلك دون غيره مما أنزلَ على رسلِِه فذكرَ التوراةَ باسمِها والإنجيل باسمه وذكرَ القرآنَ باسم الكتابِ الكتاب الجامع لكل العلومِ النافعةِ التي يحتاجُ الناسُ إليها في دينِهم ودنياهم وآخرتِهم .
ذلك الكتابُ وكأنـَّه لا يستحق شئ مجموعٌ من العلمِ أن يُسمَّى الكتابَ سوى القرآنِ الكريمِ



وقيل سمي القرآن بالكتاب لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ كما قال تعالى { إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون ) أي اللوح المحفوظ وهو مكتوب في الصحف التي بأيدي الملائكة قال تعالى { فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة ) وهو كتاب في الصحف التي بأيدينا فهو مكتوب بأيدينا ونقرؤه من هذه الكتب .


"{ذلك الكتاب لا ريب فيه " هنا عندما نفتح المصحفَ نجدُ من علاماتِ الوقفِ العلامةَ التي اسمها علامةُ التعانقِ وهي عبارة عن ثلاثةِ نقطٍ هذه العلامةَ موجودةً مرتين على الكلمةِ الأولى والكلمةِ التي بعدَها فيقولُ علماءُ الوقفِ : معنى هذه العلامةِ , علامة التعانق , أي أننا تقفُ على إحدى الكلمتين إذا وقفناَ على الأولى لا نقفُ علي الثانيةِوإذا لم نقفْ على الأولى نقفُ في الثانيةِ فهنا العلامة , ذلك الكتابُ (لا ريب ) عليها علامة , والعلامةُ الثانيةُ على (فيه)فتكون القراءةُ هكذا :(ذلك الكتاب لاريب /وقف/ فيه هدى للمتقين) والقراءةُ الثانيةُ :(ذلك الكتاب لا ريب فيه /وقف وبعدها تستأنف/ هدى للمتقين)
أيُّ القراءتين أبلغُ وأكملُ ؟ وأيُّ الوقفين أحسن؟
الوقف على الكلمة الثانية {ذلك الكتاب لا ريب فيه , هدى للمتقين) ذلك أن هذاالوقفَ يجعلُ الكتابَ كلَّه هدىً للمتقين ولكن عندما تقفُ على الوقفِ الأولِ:
(ذلك الكتاب لا ريب (وتستأنف) فيه هدى للمتقين) تكون قد جعلت الهدى فيه ولم تجعله هدىً كلَّه فأحسنُ الوقفِ الوقفُ على الكلمةِ الثانيةِ (ذلك الكتابلا ريب فيه , هدى للمتقين)



{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَرَيْبَ :. فِيهِ :. هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }(ذلك) أي هذا (الكتاب) الذي يقرؤه محمد أي هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم والحق المبين .. والرَّيب معناه : الشك، وقولُه تعالى { {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ؛أي : لا شكَّ ولا جدالَ في أنه من عند الله كلامُ اللهِ تباركَ وتعالى تنزيلٌ من الرحمنِ الرحيمِ , كما صرَّح بذلك ربُنا في أول سورةالسجدة {الـم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (2وجملة النفي خبر مبتدؤه ذلك والإشارة به للتعظيم {هدى) خبر ثان أي هاد {للمتقين)) الصائرين إلى التقوى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي لاتقائهم بذلك النار.


وكيف يكونُ في ذلك شكٌّ وريبٌ بعد أن عجزَ العربُ أجمعون عن الإتيانِ بشيءٍ من مِثلِه مع كثرةِ التَّحدي لهم !! .. فهذه آيةٌ واضحةٌ جدا وظاهرةُ الدلالةِ على أن هذا القرآنَ من عندِ الله.


قال الشيخ السعدي : لا ريب فيه : ونفي الريب عنه يستلزم ضده , إذ ضد الريب والشك اليقين , فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين , المزيل للشك والريب , وهذه قاعدة مفيدة : أن النفي المقصود به المدح ,لا بد أن يكون متضمناً لضده , وهو الكمال ، لأن النفي عدم ، والعدم المحض لا مدح فيه


فلا ينبغي للمسلم أن يرتاب في هذا الكتاب لأن كل ما فيه من منهج الله محفوظ منذ لحظة نزوله إلى قيام الساعـة .الهدى حقيقته , والهدى طبيعته , والهدى كيانه , والهدى ماهيته . ولكن لمن ؟ لمن يكون ذلك الكتاب هدى ونورا ودليلا ناصعا مبينا ؟ للمتقين، اللهُ تباركَ وتعالى خصَّ هدى القرآنِ بالــ .. ؟ بالمتقين . فالقرآن العظيم يُطلق هداه على الهدى العام , ويطلق هداه على الهدى الخاص , فالهدى العام معناه بيان الطريق وإيضاح المحجة البيضاء , وبيان الحق من الباطل , والنافع من الضار , ومنه قوله تعالى {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ) أي : بينا الحق على لسان نبينا صالح , ومنه قوله تعالى {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ) . وأما الهدى الخاص فمعناه توفيق الله لعبده حتى يهتدي إلى ما يرضي ربه ,ويكون سبب دخوله الجنة , ومنه قوله {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي .


فالتقوى في القلب هي التي تؤهله للانتفاع بهذا الكتاب . هي التي تفتح مغاليق القلب له فيدخل ويؤديدوره هناك . هي التي تهيء لهذا القلب أن يلتقط وأن يتلقى وأن يستجيب . لا بدلمن يريد أن يجد الهدى في القرآن أن يجيء إليه بقلب سليم بقلب خالص . ثم أن يجيءإليه بقلب يخشى ويتوقى , ويحذر أن يكون على ضلالة أو أن تستهويه ضلالة.


والقرآن هدى لجميع الخلق, فالأشقياء لم يقبلوا هدى الله, ولم ينتفعوا به لشقائهم, فقامت عليهم به الحجة, وأماالمتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر لحصول الهداية وهو التقوى التي حقيقتها اتخاذما يقي سخط الله وعذابه بامتثال أوامره واجتناب النواهي, فاهتدوا به وانتفعوا غاية الانتفاع. قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوااللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية, والآيات الكونية. ولأن الهداية أنواع منها : هداية البيان, وهداية التوفيق. فالمتقون حصلتلهم الهدايتان, وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق. وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها, ليست هداية حقيقية تامة.


قال ابن القيم : فكلما اتقى العبد ربه ارتقى إلى هداية أخرى , فهو في مزيد هداية ما دام في مزيد من التقوى , وكلما فوت حظاً من التقوى ,فاته حظ من الهداية بحسبه , فكلما اتقى زاد هداه , وكلما اهتدى زادت تقواه .


عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "هدى للمتقين" يعني نورا للمتقين وقال أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس قال هدى للمتقين قال هم المؤمنون الذين يتقون الشرك بي ويعملون بطاعتي .وعن ابن عباس "للمتقين" قال الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به, وقال سفيان الثوري عن الحسن البصري قوله تعالى للمتقين قال: اتقوا ما حرم الله عليهم وأدوا ما افترض عليهم. وقال قتادة للمتقين هم الذين نعتهم الله بقوله " الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة " الآية والتي بعدها.


وقد روى الترمذي وابن ماجه من رواية أبي عقيل عن عطية السعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليهوسلم " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس "


وقال طلق بن حبيب رحمه الله : التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.


قال بعض العلماء : درجات التقوى خمس :


1- أن يتقي العبد الكفر ، وذلك مقام الإسلام .


2- وأن يتقي المعاصي ، والحرمات ، وهو مقام التوبة .


3- وأن يتقي الشبهات ، وهو مقام الورع .


4- وأن يتقي المباحات وهو مقام الزهد .


5- وأن يتقي حضور غير الله على قلبه وهو مقام المشاهدة .


قال ابن القيم : مراتب التقوى : التقوى ثلاث مراتب :


إحداها : حميّة القلب والجوارح عن الآثام والمحرمات .


والثانية : حميّتها عن المكروهات .


والثالثة : الحمية عن الفضول وما لا يعني .


فالأولى تعطي العبد حياته ، والثانية تفيده صحته وقوته ، والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته .


وقد تكررَ مثل ذلك في قولِه تعالى{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } [ الإسراء82 ] ، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء } [ فصلت44 ]{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِوَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } يونس 57؛فالقرآنُ هدىً للمتقين ، هدىً للمؤمنين,وقال تعالى في هذه السورة{شَهْرُرَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ } البقرة من الآية 185 هُدًى لِّلنَّاسِ, فكيفَ الجمعُ بين جعلِه{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}في أولِ السورةِ , وبين جعْلِه (هُدًى لِّلنَّاسِ) في وسط السورة ؟


الجوابُ : أنناعرفَنا من سورةِ الفاتحةِ أن أهمَّ أنواعِ الهدايةِ نوعان :
1-هداية الإرشاد والتعليم والدلالة والبيان .
-2 وهداية التوفيقِ الذي هوخلْق قدرة الطاعة ... هذان أهم أنواعِ الهدايةِ .
وعرفنا أن هدايةَ الإرشادِ والدلالةِ والتعليم ِ. . وظيفةُ مَنْ ؟ .. الأنبياء وأتباعهم.
وهداية التوفيق بيدِ من ؟بيدِ اللهِ تباركَ وتعالى وحدَهُ .



ولذلك قالَ تعالى لنبيه عليه الصلاةُ والسلامُ{إِ ِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْأَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}القصص56مع أنه قال له {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم}الشورى52.


فقلنا : الهدايةُ المثبتةُ غيرُ الهدايةِ المنفيةِ ..
فالهدايةُ المثبتةُ : هدايةُ الدعوةِ والإرشادِ والبيانِ والدلالةِ فقوله{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}يساوي قوله { و إنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم}أما{لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}فهدى الله هوهدى التوفيق الذي هو خلق قدرة الطاعة، وفي النوعين يقول الله تبارك وتعالى{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}فصلت17 الهدى هنا هداية .. ماذا؟؟؟ هدى البيان والإرشاد والتعليم .



وأما قوله تعالى عن الأنبياء {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ }[ الأنعام 90 يكون الهدى هنا هدى .. ماذا؟؟ هدىالتوفيق , إذن عندما نقول في القرآن (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) .. يكون هدى .. ماذا ؟التوفيق, وعندما نقول هُدًىلِّلنَّاسِ .. يكون هدى .. ماذا ؟هدى البيان والإرشاد.


فلا شك أن القرآن هدى ً للناس كلهم، هدى الإرشاد والبيان والتعليم الذي به تقوم الحجة لله على خلقه,كما قال{رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}لماذا ؟{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء165.إذن ( هُدًى لِّلنَّاسِ ( المراد بهذا الهدى هو هدى البيان والتعليم والإرشاد والدلالة التي تقوم بهاالأنبياء وأتباعهمأما (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) فالمراد به .. ماذا ؟ المراد به هدى التوفيق الذي هوخلق قدرة الطاعة .


لماذا إذن خص المؤمنين والمتقين في الآيات بالذكر ؟
ذلك لأن المؤمنين والمتقين هم الذين انتفعوا بهـَدْي القرآن هم الذين انتفعوا بهـَدْي القرآن , و أما عامة الناس لم ينتفعوا فخص المتقين بالذكر, هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ,هدىًًعاماً لهم لكل ما يحتاجون إليه , فالقرآن ليس هدىً في بعض المصالح دون بعضها ولكنالقرآن هدىً للناس في جميع مصالحهم الدينية والدنيوية والأخروية، ولذلك قال {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }[ الإسراء9 .. يهدي للتي هي أقوم في كل أمر من الأمور و في كل شأن من الشؤون , يهدي للتي هي أقوم في العقائد ، يهدي للتي هي أقوم في العبادات , يهدي للتي هي أقوم في المعاملات ، يهديللتي هي أقوم في الحدود والأحكام , يهدي للتي هي أقوم في السلم ، يهدي للتي هي أقوم في الحرب , يهدي للتي هي أقوم في الإقتصاد . إلى آخر ما يحتاجه الناس .



(هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) . .( من هم المتقون ؟ المتقون الذين اهتدوا بهدي القرآن عرَّفهم الله تعالى في نفس السورة سورة البقرة في تلك الآية الجامعة وهي قوله سبحانه وتعالى{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْوُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} وهذه أركان الإيمان و أصول العقيدة , ثم عطف عليها صالح العمل فقال{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ }[ البقرة177ثمقال تعالى{أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}أي في قولهم ءامنا بالله وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أولئك الذين جمعوا بين صالح العقيدة وصالح العمل هؤلاء هم المتقون الذين يهتدون بهدي القرآن.هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ. وجماع التقوى:القيام بفعل الواجبات وترك المحرمات.وقد وردَعن السلف أقوال كثيرة في التقوى , منهم من قال اتقوا الشرك , ومنهم من قال اتقوا كذا ومنهم من قال اتقوا كذا .. قال شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله : والراجح أن الله تبارك وتعالى أطلق أوعمَّ ولم يخص, لم يخص شيئ من التقوى.
التقوى:هي القيام بالواجبات وترك المحرمات .. كل ما أوجب الله قاموا به , وكل ما نهى الله عنه تركوه فهذه هي ... ماذا ؟؟ هي التقوى ..



و أصل التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافُ ويحذرُ شيئاً يقيهِ إياه .وكأن التقي جعل امتثال أمر الله واجتناب نهيه وقاية له من عذاب الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُواأَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَمَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم6 ] , أمرنا اللهتبارك وتعالى أن نقيَ أنفسنا من النار ..كيف تكون هذه الوقاية ؟ بفعل الأوامر و اجتناب النواهي والزواجر ..ثُمَّ إن الله تبارك و تعالى جعل النّاس في مطْلَعِ سورة البقرة ثلاثة أقسام : المُؤْمِنين و الكافرين و المنافقين .
و المراد بالمؤمنين : المؤمنون ظاهِرا و باطنا
و المراد بالكافرين : الكافرون ظاهرا و باطنا .
و المراد بالمنافقين : المؤمنون ظاهرا , الكافرون باطنا .



و النِّفاق لم يظْهَر في مَكَّة قَط , بل كان في مكَّة العكس , فالنِّفاق أن يُظْهِر الرجل الإيمان و يُبْطِنَ الكُفر , و في مكة كان المستضعفون من المؤمنين ربَّمَا أظْهَرُوا الكُفْرَ وهم يُبْطِنُون الإيمان , فلم يظهر النِّفاقُ في مكة , كما لم يظهر في المدينة في أول الهِجْرة , و إنَّما ظهر النِّفاق في المدينة بعد غَزْوَة بدر , بعد أن مَكَّن الله تبارك و تعالى المسلمين من المُشرِكين , و نَصَرَهُم نصرا عزيزا ,هنالك قال قوم في قُلُوبِهِم مرض إِنَّ هذا الأمر قد تَوَجَّه , فدخلوا في الإسلام بظاهرهم لِيَحْقِنُوا بذلك دِماءَهُم وأموالهم {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون}ا لبقرة/9.


و هؤلاء المنافقون ضررهم عظيم وخطرهم جسيم فَهُم على المُؤْمِنِين أشدُّ خطرا من الكافرين , و لذلك تحدَّث الله تبارك و تعالى في مطلع السورة الكريمة عن المُؤمنين في أربع آيات , و تحدث على الكافرين في آيتين , و تحدث عن المنافقين في ثلاث عشرة آية , وذلك حتى يكشف أسرارهم , و يَهْتِكَ أسْتارهُم لِيَحْذَرهم المُؤمنون كما علَّمهم الله تعالى فيقوله : { {هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون} المنافقون/4



الدروس المستفادة مما شرح من الآيات:


1- بيان عظمة هذا القرآن وإعجازه وأنه من عند الله .


2- أن هذا القرآن مكون من هذه الحروف التي يعرفونها ومع ذلك أعجزهم الله أن يأتوا بمثله .


3- أن الله يتكلم بحرف وبصوت , لأن قوله ( ألم ) من كلام الله وهي حروف .


6- الثناء على هذا القرآن بأنه لا ريب فيه ولا شك , بل هو كامل يهدي لكل خير ويقين .


7- بيان علوّ القرآن لقوله تعالى: { ذلك } فالإشارة بالبعد تفيد علوّ مرتبته وإذاكان القرآن عالي المكانة والمنزلة, فلا بد أن يعود ذلك على المتمسك به بالعلوّ والرفعة لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {ليظهره على الدين كله} [التوبة: 33] ؛وكذلك ما وُصِف به القرآن من الكرم والمدح والعظمة فهو وصف أيضاً لمن تمسكبه..


6- فضل التقوى وأنها سبب لهداية القرآن وأنه كلما زادت تقوى الإنسان ازداد اهتداؤه بهذا القرآن لأن الحكم إذا علق على وصف ازداد بزيادته ونقص بنقصه . لأن الوصف عبارة عن علة وكلما قويت العلة قوي المعلول..



وإلى هنا نكتفي بهذا القدر فما كان من توفيق فمن الله وحده وما كان من خطأ أو زلل أو نسيان فمنى ومن الشيطان والله ورسوله منه براء وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه .


نسأل الله العظيم رب العرش العظيم , أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا, ونور صدورنا, وجلاء أحزاننا , وذهاب همومنا وغمومنا . اللهم ذكِّرنا منه ما نُسِّينا , وعلِّمنا منه ما جهلنا, وشفِّعه فينا, واجعله حجة لنا لا علينا, وارزقنا تلاوته آناء الليل , وأطراف النهار لعلك ترضى عنا .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين ,وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين



سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لاإاله الا أنت نستغفرك ونتوب اليك
 
المحاضرة الثالثة
إنْ الحمدَ للهِ نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ , ونَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيئَاتِ أَعْمالِنَا, مَنْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ وَمَنْ يُضْلل فَلا هادي لهُ ،وأشْهَدُ أَنْ لا إله إِلا الله وَحَدهُ لا شَرِيكَ له , وأشْهَدُ أنَّ مُحَمداًعَبدُه وَرَسُولهُ , اللهم صلِّ وسَلِمْ وبَارِكْ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ , ومَنْ تَبِعَهمْ بإحسان إلى يومِ الدينِ .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوااتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) آل عمران 102​

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوارَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) النساء 1

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوااتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71 ) ) الأحزاب​

أما بعدُ , فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله , وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله ُعليه وآله وسلم , وشرَّ الأمورمحدثاتهُا , وكلَّ محدثة بدعة , وكلَّ بدعة ضلالة , وكلَّ ضلالة فى النار .

حياكن الله أخواتي الفاضلات حيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً وطاب لقاؤكم وتبوأتم من الجنة منزلاً . واسأل الله الذي جمعنا في هذه الدنيا الفانية على هذه الشبكة الصغيرة أن يجمعنا في الآخرة في جنة عالية قطوفها دانية إخوانا على سرر متقابلين .​

{الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }​

من هم المُتَّقُون ؟​

بعد أن بين الله سبحانه وتعالى عظمة هذا القرآن وإعجازه وأثنى عليه بأنه لا ريب فيه ولا شك انتقل في السياق الى بيان صفة المتقين , وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة, والأعمال الظاهرة , وهي صفة السابقين من المؤمنين في المدينة كماأنها صفة الخلص من مؤمني هذه الأمة في كل حين الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ) يصدقون (بالغيب) بما غاب عنهم ومما أخبر به الله ورسله ، من البعث ، والجنة ، والصراط والحساب وغيرها الذي لا تدركه حواسُّهم ولا عقولهم وحدها, لأنه لا يُعْرف إلابوحي الله إلى رسله, مثل الإيمان بالملائكة, والجنة, والنار, وغير ذلك مما أخبرالله به أو أخبر به رسوله.
ومعنى الغيب : قيل : كل ما غاب عن العباد من الجنة والنار ، وقيل : القرآن ، وقيل : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه وبالبعث .
قال ابن كثير : كل هذه متقاربة في معنى واحد ، لأن جميع المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به .
والإيمان: كلمة جامعة للإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث والقدر خيره وشره، فهذا غيب كله . وتصديق الإقرار بالقول والعمل بالقلب واللسانوالجوارح.
الإيمان بالغيب من أعظم الفروق بين المؤمن التقي كامل الإيمان وبين المؤمن ناقص الإيمان ، لأن المحسوسات كل يؤمن بها ، بخلاف المغيبات.
قال الشيخ السعدي : وليس الشأن في الإيمان في الأشياء المشاهدة بالحس ، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر ، إنما الشأن في الإيمان بالغيب ، الذي لم نره ولم نشاهده ، وإنما نؤمن به لخبر الله وخبر رسوله ، فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر ، لأنه تصديق مجرد لله ورسله ، فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به ، أو أخبر به رسوله ، سواء شاهده أو لم يشاهده ، وسواء فهمه وعقله أو لم يهتد إليه عقله وفهمه .

وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي ومن صفات المتقين مع تصديقهم بالغيب يحافظون على أداء الصلاة في مواقيتها أداءً صحيحًا يأتون بها بحقوقها على وجه مستقيم بشروطها وأركانها ومستحباتها وَفْق ما شرع الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
لم يأمر الله بالصلاة إلا بلفظ الإقامة ، كقـوله تعالى ( وأقيمـوا الصلاة ) وقوله تعالى ( والمقيمين الصلاة ) . و لم يقل: يفعلون الصلاة, أو يأتون بالصلاة, لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة. فإقامة الصلاة, إقامتها ظاهرا, بإتمام أركانها, وواجباتها, وشروطها. وإقامتها باطنا بإقامة روحها, وهو حضور القلب فيها, وتدبر ما يقوله ويفعله منها،فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِوَالْمُنْكَرِ } وهي التي يترتب عليها الثواب. فلا ثواب للإنسان من صلاته, إلا ماعقل منها، فإن الله في هذه الآية علق حكم نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر بشرط إقامتها وليس فقط أداؤها ، ( والحكم المعلق بوصف يزيد بزيادته وينقص بنقصه ) فعلى قدر إقامة العبد لصلاته على قدر ما تؤثر فيه فتنهاه عن الفحشاء والمنكر.ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها.​

(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ) أي ومما أعطيناهم من المال يخرجون صدقة أموالهم الواجبة والمستحبة.
الإنفاق: الإنفاذ، أنفقت الشيء وأنفذته بمعنى واحد، (ينفقون) أي ينفقون بعض مالهم لا كله .في طاعة الله فهم يعترفون ابتداء بأن المال الذي في أيديهم هو من رزق الله لهم , لا من خلقأنفسهم ; ومن هذا الاعتراف بنعمة الرزق ينبثق البر بضعاف الخلق , والتضامن بين عيالالخالق , والشعور بالآصرة الإنسانية , وبالأخوة البشرية . . وقيمة هذا كله تتجلى في تطهير النفس من الشح , وتزكيتها بالبر يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة, والنفقة على الزوجات والأقارب, والمماليك والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير.
قال الشيخ السعدي : وأتى بـ [ من ] الدالة على التبعيض ، لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءاً يسيراً من أموالهم ، غير ضار لهم ولا مثقل ، بل ينتفعون هم بإنفاقه ، وينتفع به إخوانهم .
ولم يبين الله القدر الذي ينبغي إنفاقه ، وقد بين ذلك في قوله تعالى ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) والمراد بالعفو : الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها .​

اختلف في المراد بالنفقة هنا : فقيل : الزكاة المفروضة ، وقيل : صدقة التطوع ، والصحيح أنها عامة في كل أنواع الإنفاق ، ورجـح هذا القول ابن جرير الطبري رحمه الله ، ورجحه الشيخ السعدي وقال : يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة ، والنفقة على الزوجات والأقارب والمماليك والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير .

و للإنفاق في طاعة الله فضائل عديدة منها :
أولاً : أن الإنفاق استجابة لأمر ربنا تعالى .قال تعالى
( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ) .
ثانياً : مضاعفة الحسنات .قال تعالى
( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) .
ثالثاً : أن درجة البر تنال بالإنفاق .قال تعالى
( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) .
رابعاً : أنها من صفات المتقين .كما في هذه الآيــة . ومن علامات المتقين .كما قال تعالى
( إن المتقين في جنات وعيون . آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين . كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون . وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) .
وقال تعالى ( وسـارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين . الذين ينفقون في السراء والضراء .. ) .​

خامساً : الأمان من الخوف يوم الفزع الأكبر .قال تعالى
( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهـم ولا هم يحزنون ) .
سادساً : أن صاحب الإنفاق موعود بالخير الجزيل .قال تعالى
( وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) ، وقال تعالى ( فالذين آمنوا منكم وأنفقـوا لهم أجر كبير ) .
سابعاً : أن الله يخلف الصدقة .قال تعالى
( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفـه وهو خير الرازقين ) .
ثامناً : أن الإنفاق دليل على صحة الإيمان .
قال ( والصدقة برهان ) رواه مسلم ، فالصدقة برهان على صحـة الإيمــان .​

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ

والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، أي : ومن صفات هؤلاء المتقين أنهم يؤمنون بجميع الكتب المنزلة ، فيؤمنون بالكتاب الذي أنزل إليك وهو القرآن والسنة النبوية لأن السنَّة أيضا مُنَزَّلة من عند الله سبحانه و تعالى و إن لم تكُنْ بِلَفظِها من عند الله عز و جل إلاَّ أَنَّها وحْيٌيُوحى إلى رسول الله كما قال تعالى : { والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) و ما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى(4) }. [النجم/1-4] قال : {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ... [النساءمن الآية 113] و الحِكْمَة هي السُّنَّة .، ويؤمنون بما أُنْزِل من قبلك على رسل الله عليهم الصلاة و السلام . يؤمنون بكل ما أنزل الله من كتاب، كما أمرنا الله تبارك و تعالى بذلك مُفَصَّلا في قوله { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم....} [البقرة من الآية 136]
و قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ...,وقال أيضا آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ....} [البقرة من الآية 285]

يؤمنون بالكتب السابقة ، كالتوراة والإنجيل والزبور ، قال الشيخ ابن عثيمين : وبدأ بالقرآن مع أنه آخرها زمناً ، لأنه مهيمن على الكتب السابقة ناسخ لها .
اختلف العلماء في الموصوفين هنا ، هل هم الموصوفون بما تقدم من قوله تعالى ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما زرقناهم ينفقون ) على قولين :
فقيل : أن الموصوفين أولاً مؤمنوا العرب والموصوفون ثانياً بقوله ( والذين يؤمون بما أنزل إليك ... ) لمؤمني أهل الكتاب ، ورجح هذا القول ابن جرير الطبري رحمه الله .
وقيل : أن هؤلاء هم الموصوفون قبل هذه الآية ، وهم مؤمنوا العرب ومؤمنوا أهل الكتاب ، ورجح هذا ابن كثير .
ويدل لصحة هذا القول أن الله أمر بذلك فقال سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ) ، وقال تعالى ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ) .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : الإيمان بالكتب يتضمن أربعة أمور :
الأول : الإيمان بأن نزولها من عند الله حقاً .
الثاني : الإيمان بما علمنا اسمه منها باسمه : كالقرآن الذي نزل على محمد e ، والتوراة التي أنزلت على موسى ، والإنجيل الذي أنزل على عيسى ، والزبور الذي أوتيه داود عليه السلام ، وأما ما لم نعلم اسمه فنؤمن به إجمالاً .
الثالث : تصديق ما صح من أخبارها ، كأخبار القرآن ، وأخبار ما لم يبدل أو يحرف من الكتب السابقة .
الرابع : العمل بأحكام ما لم ينسخ منها ، والرضا والتسليم ، وجميع الكتب السابقة منسوخة بالقرآن العظيم قال الله تعالى ( وأنزلنا إليك الكتاب مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ) .
فالمتقون الذين اهتدوا بهدي القرآن , يؤمنون بالرسول صلى الله عليه و سلم ,وما أُنْزِل عليه من ربِّه ، يؤمنونبه إيمانا مُجْمَلا ، يؤمنون بجُملته ، لا يؤمنون ببعضه و يكفرون ببعضه , و إنمايؤمنون بكل ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه و سلم ، و لا يُحَرِّفون الكَلِم عن مواضعه , و لا يُغَيِّرون و لا يُبَدِّلُون شأن أهل المذاهب الردية الذين يحرفون النصوص القرآنية و النَّبَوِية حتى ينزلونها على ما يُوافقُ مذاهِبَهُم الباطلة.
و كما أمرنا الله سبحانه و تعالى بالإيمان بما أنزل على رسله من قبل ، كذلك أمر أهل الكتاب أن يُؤْمِنوا بما أنزل على رسوله محمدٍ صلى الله عليه و سلم ، فقال : { يا أيُّهَا الذينَ أوتُوا الكِتَابَ آمِنُوا بما نَزَّلنا مُصَدِّقَا لمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلى أَدْبَارِهَا أو نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولَا } [النساء/47] .

و قال : { قلْ يَا أهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلى شَيءٍ حَتَّى تُقِيْمُواالتَّورَاةَ وَالإنْجِيلَ ومَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مَن رَّبـِّكُمْ ...} المائدة من الآية 68
يعني القرآنَ الذي أَنْزَله على محمدٍ صلى الله عليه و سلم .
وورد فضل للكتابي الذي آمن بنبيه ثم آمن بمحمد e .
ففي الصحيحين قال e ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : .... ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي فآمن به ) .
و لذلك كانَ الإيمانُ أن نؤْمِنَباللهِ و ملائكتِه و كتبهِ و رُسُلِه لا نُفَرِّقُ بين أحدٍ من رسلِه ، فالتفريقُ بين الرُّسلِ ، و التفريقُ بين الكتبِ كُفْرٌ بالكُلِّ ، من آمن بكُلِّ الرسل إلاَّواحدا هو كافرٌ بالكُل ، و من آمن بكل الكُتُب إلاَّ واحدا فهو كافر بالْكُل ،{ إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا(150) أولئك هم الكافرون حقا و أعتدنا للكافرين عذابا مُهِينا(151 }. النساء
فنحن نؤمن بالقُرْآن الكريم ، ونؤمِنُ بالتوراة و الإنجيل و نؤمن بالزبور و نؤمن بصحُفِ إبراهيم و موسى على وجهالإجمال ، نُؤْمِنُ بأنَّ أصلها من عند الله سبحانه و تعالى ، لكننا نؤمن بأن أصحاب هذه الكتب قد حرَّفُوها و غيروها و زادوا فيها و نقصوا منها ، كما قال تعالى : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } [البقرة/75] .

{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
البقرة 4​

الآخرة : وصفٌ مُؤنث ، مُذَكَّرُهُ : الآخِر ، و المُرادُ بالآخرة : الدار الآخرة كما قال تعالى : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ...} القصص من الآية 83

فالآخرة وصفُ مُؤَنَّث للدار ،كما أن الدنيا : وصف مؤنث مُذّكَّرُه : الأدنى ،والدُّنْيا وصفٌ للحياة الأولى،وصف للحياة الدنيا، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور .. ، فالدنيا وصفٌ للدَّار الأولى ، و الآخرة وصفٌ للدار الآخرة ، و لمّا تكرر وصف الَّدارين بالدنيا والآخرة صار الوصفان كالعلمين علىالدارين ، فصارا يُذْكَران بلا موصوفهِما ، فإذا قيل الدنيا عُلِمَ أن المُرَادالحياة الدنيا ، و إذا قيل الآخرة عُلِمَ أنَّ المُراد الحياة الآخرة .

قال الشيخ السعدي : الآخرة اسم لما يكون بعد الموت ، وخصه بالذكر بعد العموم ، لأن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان ، ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل .
الآخرة أي اليوم الآخر ، وسمي بذلك لأنه لا يوم بعده ، ويتضمن البعث ، والثواب ، والعقاب ، والجنة ، والنار وغير ذلك مما يكون يوم القيامة .

وللإيمان باليوم الآخر ثمرات جليلة :
منها : الرغبة في فعل الطاعات والحرص عليها رجاء لثواب ذلك اليوم .
ومنها : الرهبة من فعل المعصية والرضى بها خوفاً من عقاب ذلك اليوم .
ومنها : تسلية المؤمن عما يفوته من الدنيا بما يرجوه من نعيم الآخرة وثوابها.
وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ،و اليَقِين هو العلم التام الذيليس فيه أدنى شَكٌّ و لا ريب،والموجب للعمل .
فالمُتقون بالآخرة يُوقِنُون ، يعني يعلمون عِلْمَ اليَقِين أن الله تبارك وتعالى باعثٌ خَلْقَهُ بعد موتهم و مُجْزِيهِم بأعمالهم في جنة عالية ، أو نارٍحامية
فهُم يُؤْمِنُون بالآخرة ،يُوقِنُون بها ، يُؤْمِنُون بكل ما يكون في الآخرة من البَعْثِ و تَطايُرِ الصُحُف و العَرْض و الحِساب و الجزاء و الصراط و الميزان و الجنة و النار يُوقِنون بذلك لايَشُكُّون فيه و لا يرتَابُون .
أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
أولئك المَوْصُوفون بما ذُكِر ، أولئك المُتَّقُون،المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق من الذي رزقهم الله والإيمان بما أنزل الله إلى الرسول ومن قبله من الرسل والإيقان بالدار الآخرة والاستعداد لها من الأعمال الصالحة وترك المحرمات ،. وهذه كانت صورة الجماعة المسلمة التي قامت في المدينة يوم ذاك , مؤلفة من السابقينالأولين من المهاجرين والأنصار . وكانت هذه الجماعة بهذه الصفات .
* أُولَئِكَ عَلَى هُدى من رَبِّهِمْ .. والإتيان بلفظ على بلفظ الإستعلاء أُرِيد به إفادة تَمَكُّنِهِم من الهُدى ليَدُلَّ على أنهم مُتَمَكِّنُون من الهُدى تَمْكِينا ،، لأن الإنسان إذا علا من شيء أوعلى شيء تَمَكَّن منه ، كما يحدث إذا تشاجر اثنان فطرح أحدهما الآخر أرضا و علاه , فإن الأعلى يكون قد تمكن من الذي تحته .ولله المثل الأعلى دائما وابدا ،كما في قوله: { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى, مرتفع به, وصاحب الضلال منغمس فيه محتقر.​

(على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) أي على نورمن ربهم وبيان وبصيرة وبرهان واستقامة وسداد بتسديده إياهم وتوفيقه وهدايته لهم,
على هدى عظيم ، لأن التنكير للتعظيم ، وأي هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والأعمال.
· و قولُه (من رَبِّهِم ) هذا وصف لصفة أو موصوفٍ محذوف تقديره ، أولئك على هدىً كائنٍ من ربهم , أي خالقهم المدبر لأمورهم و في إضافة الهدى إلى الله عز و جل ووصفه بوصف الرُّبوبية ، و إضافة ربوبيته إليهم من ربهم ما فيه من التشريف و التفضيل لهم ، والربوبية هنا خاصة متضمنة للتربية الخاصة التي فيها سعادة الدنيا والآخرة .
أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
لم يقل أولئك على هدى من ربهم و هُمُ المُفْلحون ، و إنما قال : أولئك على هدًى من ربهم ، و أولئك هم المفلحون, تكرار اسم الإشارة فيه زيادة عناية بالمُشارِ إليه ، عندما أقول لك انظري هذه ، هذه الأخت وأكرر اسم الإشارة ثم أصف الأخت أو أمدحها مثلا ، فتكرار اسم الإشارة فيه زيادة عناية بالمُشَارِ إليه ،
أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
و الفَلاَحُ معناه : النَّجَاة من المرهوب و الفوزُ بالمطلوب ، و ليس هناك مرهوب يَهْرب منه المُؤْمِن أَشَدَّ خَطَرًا من النار ، و ليس هُناك مطلوب يحرِصُ عليه المؤمن مثل الجنة ، فقوله : وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي المنجحون , فهم الفائزون بالجنة الناجون من النار وهم الذين أدركوا ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله من الفوز بالثواب والخلود في الجنات , ونَجَوا من شرِّ ما منه هربوا مما أعد الله لأعدائه من العقاب.
والفلاح في لغة العرب يطلق على إطلاقين مشهورين ، وكل منهما يدخل في الآية
الإطلاق الأول : أن العرب تقول ( أفلح فلان ) إذا فاز بمطلوبه الأكبر ، فكل إنسان كان يحاول مطلوباً أعظم ثم ظفر به وفاز بما كان يرجو فهذا قد أفلح .
الإطلاق الثاني : أن المراد بالفلاح : الدوام والبقاء السرمدي في النعيم ، فكل من كان له دوام وبقاء في النعيم تقول العرب ( نال الفلاح ) .
عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيأس ,قال "أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار" قالوا بلى يا رسول الله.قال الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين - إلى قوله تعالى - المفلحون هؤلاء أهل الجنة" قالوا إنا نرجو أن نكون هؤلاء ثم قال "إن الذين كفروا سواء عليهم - إلى قوله - عظيم" هؤلاء أهل النار" قالوا لسنا هم يا رسول الله.قال: "أجل".
هكذا تحدث الله تبارك و تعالى في مطلع هذه السورة في أربع آيات عن أفضل أصناف البشر و هُم المُتَّقُون ، كما قال تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية [البينة/7 . ثم تحدث عن شر البرية ، كما قال تعالى : { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية } [البينة/6] ، تحدث عنهم في آيتين ، فقال تعالى
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
هنا نجد التقابل تاما بين صورة المتقين وصورة الكافرين . . فإذا كان الكتاب بذاته هدى للمتقين , فإن الإنذار وعدم الإنذار سواء بالقياس إلى الكافرين .
يقول تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أي : غطوا الحق وستروه ، وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك ، سواء عليهم إنذارك وعدمه ، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به ، كما قال تعالى : ( إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) [ يونس ] وقال في حق المعاندين من أهل الكتاب : ( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك) الآية [ البقرة أي : إن من كتب الله عليه الشقاوة فلا مسعد له ، ومن أضله فلا هادي له ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، وبلغهم الرسالة ، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر ، ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يهمدنك ذلك ؛ ( فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) [ الرعد : إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ) [ هود
وعن ابن عباس ، في قوله تعالى : يإِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول .
وعن ابن عباس : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أي : بما أنزل إليك ، وإن قالوا : إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون أي : إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك ، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق ، فقد كفروا بما جاءك ، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك ، فكيف يسمعون منك إنذارا وتحذيرا ، وقد كفروا بما عندهم من علمك ؟ !
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قال : نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب ، وهم الذين قال الله فيهم : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها ) [ إبراهيم
وقوله : ( لا يؤمنون ) محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها : سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون أي مُسْتَوٍ عندهم ، يا نبينا إنذارك و عدم إنذارك سواءٌ عندهم ، يعني أنذرتهم كإنك ما أنذرتهم لأنهم لم ينتفعوا, جحدوا ما أُنزل إليك من ربك استكبارًا وطغيانًا, لن يقع منهم الإيمان, سواء أخوَّفتهم وحذرتهم من عذاب الله, أم تركت ذلك؛ لإصرارهم على باطلهم.
وكأن في هذا قطعا لطمع الرسول صلى الله عليه وسلم في إيمانهم, وأنك لا تأس عليهم, ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.. و من يُنذر ثم لا يخاف كإنُّ لم يُنذَر ، فالإنذار و عدمه سواء... أي هم كفار في كلا الحالين ؛ فلهذا أكد ذلك بقوله : ( لا يؤمنون ) ويحتمل أن يكون ( لا يؤمنون ) خبرا لأن تقديره : إن الذين كفروا لا يؤمنون ، ويكون قوله : ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ) جملة معترضة ، والله أعلم ] .
إن الذين كفروا كأبي جهل وأبي لهب ونحوهما (سواء عليهم أأنذرتهم) بتحقيق الهمزتين وإبدال الثانية ألفا وتسهيلها وإدخال ألف بين المُسَهَّلَة والأخرى وتركه (أم لم تنذرهم لا يؤمنون) لعلم الله منهم ذلك فلا تطمع في إيمانهم ، والإنذار هو الإعلام المصحوب بالتخويف إعلام مع تخويف.
والكُفْرُ معناه في اللغة : جُحْدُ النِّعْمَة , و لذلك ربنا سبحانه و تعالى لما عدَّد على عباده بعض نعمه في سورة إبراهيم : الله الذي خلق السموات و الأرض و أنزل من السماء ماءًا فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ، وسخَّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ، و سخر لكم الأنهار (32 ) و سخر لكم الشمس و القمر دائبين ، و سخر لكم الليل و النهار(33) و آتاكم من كل ما سألتموه ، و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها .... ثم قال : { إن الإنسان لظلوم كَفَّار (34 فالكُفْرُ معناه جُحْدُ النِّعْمَة ، و أصلهُ من الكَفْرِ بفتح الكاف ، أصل الكُفْرِ من الكَفْرِ بفتح الكاف ، و الكَفر بفتح الكاف معناه الستر و التغطية ، و لذلك سُمِّيَ اللَّيلُ كافِرا لأنه يستر الكون بظلامه ، و سُمِّي الفلاحُ كافرا لأنه يَحْفُرُ للبِذْرة ثُمَّ يُغطيها بالتراب ، كمثل غيث أعجب الكفار ... الحديد من الآية 20 يعني الزُّراع ...
فالكُفْر معناه جُحْدُ النِّعمة ، و معناه : الستر والتغطية ، و كأن الكافر لما كَفر قد غَطَّ ا الحق و ستره و كتمه .
و الكُفر في الشرع هو : إنكار ما بعث الله به رسله جُملةً أو إنكار جزءٍ منه .
والكُفْر أنواع : كُفر الإنكار ، و كُفر الجُحُود ، و كُفْر العِناد ، و كُفر النِّفاق.
*أما كفر الإنكار فهو ألاَّ يعرف الإنسان ربه أصلا ، أن يجحد الربَّ سبحانه و لا يعترف به ، و هذا كُفْرُ الإنكار .
* و كُفْرُ الجُحُود فهو أن يعرف ربه ثم لا يعترف به ، كإبليس عرف ربه قال : رب بما أغويتني ... عرف ربه و لم يُؤْمِن به ، و كاليهود عرفوا النبي صلى الله عليه و سلم و لم يؤمنوا به هذا كُفْر إنكار .
* و كُفْرُ العِناد أن يعرف ربه بقلبه و يُقِرَّ بلسانه ثم لا يؤْمِن به ، و ذلك ككُفر أبي طالب عَمِّ صلى الله عليه وسلم كما نُقِل عنه * و لقد علمت أن دين محمدٍ من خير أديان البَرِية دينًا * ولولا المَلاَمَة أو حذَاري مسبَّةٍ لوجدتني سمحا بذاك مبينا ، فهذا عرف بقلبه و أقرَّ بلسانه و لكن لم يُؤمن فهذا كُفر العناد .
* و الكُفر الرابع هو كُفر النِّفاق ، هو أن يعترف بقلبه ، و يُقِرَّ بلسانه و لا يؤمن بذلك ،,وهذا كفر النفاق كما سيأتي الحديث عن الصِنْف الثالث المُنافقين.
إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون لماذا لا يؤمنون و قد أنذرهم ؟ ما هي العلة المانعة لهم من الإيمان ؟
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ البقرة: ٧​

خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ طبع عليها بطابع لا يدخلها الإيمان, ولا ينفذ فيها، ولايدخلُ اليها خيرٌ , ولا يخرجُ منها شرٌ . وَعَلَى سَمْعِهِمْ وهنا وقفٌ تامٌ , واستئنافُ القراءة . وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ, وعلى أبصارِهم غشاوةٌ لأن الغشاوةَ غيرُ داخلةٍ في الختمِ ، الختمُ على القلبِ والسمع ِ.أما غشاوةُ البصرِ فهذه شيءٌ آخرَ لذلك فرَّق الله سبحانَه وتعالى بين الختمِ على القلبِ والسمعِ , وبين الغشاوةِ على البصرِ فقال: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً الجاثية: ٢٣ الغشاوةُ على البصرِ , والغشاوة هي الغطاء يكون على البصر فلا يبصرون الحق وغشي على أبصارهم جزاء وفاقا على استهتارهم بالإنذار , حتى تساوى لديهم الإنذار وعدم الإنذار .
(وعلى سمعهم) أي مواضعه فلا ينتفعون بما يسمعونه من الحق ولذلك قال وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } محمد: ١٦
فمنْ يهديهم مِنْ بعدِ الله ؟؟ كيفَ يؤمنونَ وقدْ ختمَ اللهُ على قلوبِهم ؛ والختمُ على القلبِ مثلُ الشمعِ الأحمرِ حينَ يُختمُ به على بابٍ ما , أو على ظَرفٍ ما , فالشمعُ الأحمرُ على الظرفِ أو على البابِ معناهُ : ألَّا يدخلَ إليه خارج , ولا يخرج إليه داخل .
وكذلكَ الختمُ على القلوبِ والعياذُ بالله .
قال القرطبي وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال "بل طبع الله عليها بكفرهم" وذكر حديث تقليب القلوب "ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا علي دينك" وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير علي قلبين على أبيض مثل الصفاء فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض والآخر أسود مرباد كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا" الحديث.
روى الترمذي وحسنه الألباني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة فإن هو نزع واستغفر صقلت فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكره الله تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
كان بعضُ السلفِ يُشبِّه القلبَ بالكفِّ المبسوطِ ، يقولُ : إذا أذنب ذنبا كان فيه نكتَةٌ سوداءُ ويضمُّ أصبع , وبعدها إذا أذنبَ ذنباً كان فيه نكتةٌ سوداءُ , ويضمُّ أصبع حتى يضم كل الأصابع ثم يختم عليه .
قالَ بعضُ السلفِ :كانَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلمَ حريصاً على أنْ يتَّبعَه قومُه , ويؤمنوا به , فقالَ اللهُ تعالى له : وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ يونس: ٩٩
وقال: وما أكْثَرُ النَّاسِ ولَو حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (يوسف 103
قال القرطبي : وصف الله قلوب الكفار بعشرة أوصاف : بالختم والطبع والضيق والمرض والريْن والموت والقساوة والانصراف والحميّة والإنكار .
فقال في الإنكار ( قلوبهم منكرة وهم مستكبرون ) ، وقال في الحمية ( إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية ) ، وقال في الانصراف ( ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ) ، وقال في القساوة ( فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ) وقال ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ) ، وقال في الموت ( أو من كان ميتاً فأحييناه ) ، وقال في الرين ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) ، وقال في المرض ( في قلوبهم مرض ) ، وقال في الضيق ( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً ) ، وقال في الطبع ( فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ) ، وقال في الختم ( ختم الله على قلوبهم ) .
(وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) قوي دائم فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون.
الفرق بين العظيم والكبير أن العظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير فكأن العظيم فوق الكبير كما أن الحقير دون الصغير ويستعملان في الجثث والأحداث جميعاً تقول رجل عظيم وكبير وتريد جثته أو خطره .​

لم يخص العذابَ لا بالدنيا ولا بالآخرةِ , لم يقل: لهم في الدنيا عذابٌ عظيمٌ... ولم يقلْ: ولهم في الآخرةِ عذابٌ عظيمٌ وقال: ولهم عذابٌ عظيمٌ ,إذن يُحملُ العذابُ على عذابِ الدُّنيا وعلى عذابِ الآخرةِ،عذاب الدنيا بالقتلِ والأسرِ حين يجاهدُهم المؤمنونَ , وعذابُ الآخرةِ في النارِحين يبعثون. وهي النهاية الطبيعية للكافر العنيد , الذي لا يستجيب للنذير ; والذي يستوي عنده الإنذار وعدم الإنذار​

ومن الناس من يقول لعلَّ هؤلاء معذورون إذ لم يؤمنوا لأن اللهَ ختمَ على قلوبِهم ومن ختمَ اللهُ على قلبِه فمن يهديه من بعد الله ؟؟ فلعلهم معذورون ؟؟ والجواب أنهم غير معذورين . لماذ؟؟
لأنَّ اللهَ لم يبادرْهم بالختمِ على قلوبِهم و سَمعِهم وإنما كما قال : وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ النحل: ٧٨
فاللهُ تعالى خلقَهم , وجعلَ لهم السمعَ والأبصارَ والأفئدة ، ولكنهم عطَّلُوها عما خُلِقتْ له , ولم يستغلُّوها في الوظيفةِ التي أرادَها اللهُ تعالى لها , فلما عطلوها وأهملوها , عاقبهم الله بالطَّبعِ عليها ؛ كما قال الله تعالى : ذَ‌ٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ المنافقون: 3
فالطَّبعُ لم يكن ابتداءا ، بل كان متأخرا عنهم جزاءً وفاقا ,كما قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ الصف: ٥
وقال: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ الأنعام: ١١٠
ولذلكَ قال: و قَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بلْ طَبَعَ اللُه عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلَاً مَا يُؤْمِنُونَ ) البقرة الآية 88 .الباءُ في بكفرهم سببيةٌ بسببِ كفِرهم، وفي هذا دليلٌ على صحَّةِ العقيدةِ التي يقولُها السَّلَفُ : إنَّ من جزاءِ السيئةِ السيئةَ بعدها ,كما أن من جزاءِ الحسنةِ الحسنةَ بعدها.
من جزاء السيئةِ السيئةُ بعدها , (فلما زاغوا أزاغَ اللهُ قلوبَه) .
و كذلك من جزاءِ الحسنةِ الحسنةُ بعدها, (والذين اهتَدَوا زادَهُم هدىً .
فمن جزاء الحسنةِ الحسنةُ بعدها , ومن جزاءِ السيئةِ السيئةُ بعدها .
فهؤلاء الكافرون آمنوا , ثم كفروا , فطُبِع على قلوبِهم . زاغوا وضلُّوا وانحرفوا عن صراطِ اللهِ المستقيمِ ، واستحبوا العمى على الهدى فختمَ اللهُ على قلوبِهم
خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }البقرة: ٧
الفوائد المستفادة من الايات
1-أن من أوصاف المتقين الإيمان بالغيب؛ لأن الإيمان بالمُشاهَد المحسوس ليس بإيمان؛ لأن المحسوس لا يمكن إنكاره..
2-قوله تعالى ( ويقيمون الصلاة ) فيه دليل على أهمية الصلاة وعظيم منزلتها وأنها من أعظم صفات المتقين ، ومما يدل على عظيم منزلتها :أنها فرضت في أعلى مكان ( في السماء ليلة الإسراء والمعراج ) وأول ما فرضت خمسين ثم خـففت إلى خمس في العدد ,خمس صلوات في اليوم والليلة ،، وهذا يدل على محبة الله لها ، وعنايته بها سبحانه . كما أن تاركها كافر يحشر مع فرعون وقارون وأبي بن خلف ،وهي أعظم العبادات بعد الشهادتين ، وهي عمود الدين .

3 - في قوله: { رَزَقْنَاهُمْ } إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم, ليست حاصلة بقوتكم وملككم, وإنما هي رزق الله الذي خولكم, وأنعم به عليكم، فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده, فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم, وواسوا إخوانكم المعدمين
وعليها أن صدقة الغاصب باطلة؛ لقوله تعالى: { ومما رزقناهم }؛ لأن الغاصب لا يملك المال الذي تصدق به، فلا تقبل صدقته​

4- أن الإنفاق غير الزكاة لا يتقدر بشيء معين؛ لإطلاق الآية، سواء قلنا: إن "مِن" للتبعيض؛ أو للبيان..​

وعلى هذا جواز إنفاق جميع المال في طرق الخير، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه حين تصدق بجميع ماله ؛ لكن هذا مشروط بما إذا لم يترتب عليه ترك واجب من الإنفاق على الأهل، ونحوهم؛ فإن ترتب عليه ذلك فالواجب مقدم على التطوع..​

5 - ذم البخل؛ وذلك أن الله مدح المنفقين؛ فإذا لم يكن إنفاق فلا مدح؛ والبخل خلق ذميم حذر الله سبحانه وتعالى منه في عدة آيات..​

6 - قوله تعالى (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) كثيراً ما يقرن الله تبارك وتعالى بين الصلاة والإنفاق [ الزكاة ] كقوله تعالى ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) .
قيل : إن الصلاة حق الله وعبادته وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه وتمجيده ، والإنفاق هو من الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم ، وسعادة العبد دائرة بين الأمرين : إخلاصه لمعبوده ، وسعيه في نفع الخلق .
وقيل : الصلاة رأس العبادات البدنية ، والزكاة رأس العبادات المالية .
وقيل : الصلاة طهارة للنفس والبدن ، والزكاة طهـارة للمال .
7 - أن الإنسان إذا كان لا يشعر بالخوف عند الموعظة، ولا بالإقبال على الله تعالى فإن فيه شبهاً من الكفار الذين لا يتعظون بالمواعظ، ولا يؤمنون عند الدعوة إلى الله..
8أن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن مهما كان المنذِر والداعي؛ لأنه لا يستفيد . قد ختم الله على قلبه .، كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97] ، وقال تعالى: {أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار} [الزمر: 19] يعني هؤلاء لهم النار؛ انتهى أمرهم، ولا يمكن أن تنقذهم..
10 - أن طرق الهدى إما بالسمع؛ وإما بالبصر: لأن الهدى قد يكون بالسمع، وقد يكون بالبصر؛ بالسمع فيما يقال؛ وبالبصر فيما يشاهد؛ وهكذا آيات الله عزّ وجلّ تكون مقروءة مسموعة؛ وتكون بيّنة مشهودة..
أن الهداية والتوفيق بيد الله تعالى ، فمن أراد الله هدايته فلن يستطيع أحد أن يضله ، ومن أراد الله إضلاله فلن يستطيع أحد أن يهديه . فينبغي على الإنسان أن يدعو الله بالتوفيق والهداية والثبات .
وإلى هنا نكتفي بهذا القدر , فما كان من توفيق فمن الله وحده وما كان من خطأ أو زلل أو نسيان فمنى ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه .
نسأل الله العظيم ,رب العرش العظيم , أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا, ونور صدورنا, وجلاء أحزاننا , وذهاب همومنا وغمومنا . اللهم ذكِّرنا منه ما نُسِّينا , وعلِّمنا منه ما جهلنا, وشفِّعه فينا, واجعله حجة لنا لا علينا, وارزقنا تلاوته آناء الليل , وأطراف النهار لعلك ترضى عنا .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين ,وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لاإاله الا أنت نستغفرك ونتوب اليك​
 
المحاضرة الرابعة
إنْ الحمدَ للهِ نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ , ونَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيئَاتِ أَعْمالِنَا, مَنْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ وَمَنْ يُضْلل فَلا هادي لهُ ، وأشْهَدُ أَنْ لا إله إِلا الله وَحَدهُ لا شَرِيكَ له , وأشْهَدُ أنَّ مُحَمداً عَبدُه وَرَسُولهُ , اللهم صلِّ وسَلِمْ وبَارِكْ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ , ومَنْ تَبِعَهمْ بإحسان إلى يومِ الدينِ .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) آل عمران 102

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) النساء 1

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71 ) ) الأحزاب

أما بعدُ , فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله , وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله ُعليه وآله وسلم , وشرَّ الأمور محدثاتهُا , وكلَّ محدثة بدعة , وكلَّ بدعة ضلالة , وكلَّ ضلالة فى النار .

مرحبا بكن أخواتي الفاضلات في هذا اللقاء الطيب المبارك في روضة من رياض الجنة على مائدة القرآ، الكريم ننهل من علمه ونستقي من نبعه . اسأل الله الذي جمعنا في هذه الدنيا الفانية على هذه الشبكة الصغيرة أن يجمعنا في الآخرة في جنة عالية قطوفها دانية إخوانا على سرر متقابلين .

ننتقل إلى الصورة الثالثة صورة المنافقين
ذكر الله تعالى في هذه الآيات صفات المنافقين ، فأول أربع آيات في سورة البقرة في المؤمنين ، وآيتين في الكفار ، وثلاثة عشرة آية في المنافقين .
لماذا كان التحذير من المنافقين أشد من الكفار ؟
نظراً لخطرهم العظيم ، ولالتباس أمرهم ، وتسميهم باسم الإسلام ، بخلاف الكافر فإنه معلوم كفره فيجتنب .
قال ابن كثير : نزلت صفات المنافقين في السور المدنية ، وذلك لأن مكة لم يكن بها نفاق ، بل كان الأمر في مكة على خلاف النفاق ، فكان كثير من أهل الإسلام بمكة يخفون إسلامهم ويسرون بإيمانهم خوف القتل من المشركين ، أما المدينة فلما كثر فيها المسلمون وقويت شوكتهم بدأ أهل الكفر يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر خوف السيف .

قال الله تعالىوَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِوَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ }البقرة
({ ومن الناس }: { من } للتبعيض؛ أي: وبعض الناس؛ ولم يصفهم الله تعالى بوصف . لابإيمان، ولا بكفر لأنهم فريق بين المؤمنين والكافرين, وهم المنافقون كما وصفهم الله تعالى في سورة النساء: {مذبذبين بين ذلكلا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} [النساء: 143] ؛ و{ الناس } أصلها الأناس؛ لكن لكثرةالاستعمال حذفت الهمزة تخفيفاً، كما قالوا في "خير"، و"شر": إن أصلهما: "أخير"،و"أشر"؛ لكن حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرة الاستعمال؛ وسُموا أناساً: من الأُنس؛ لأن بعضهم يأنس بعضاً، ويركن إليه.
يقول تعالى في وصف هؤلاء المنافقين الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر ، أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم , يقولون بألسنتهم: صدَّقْنَا بالله وباليوم الآخر, وهم في باطنهم كاذبون لم يؤمنوا هم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين . إنما هم منافقون لا يجرؤون على الإنكار والتصريح بحقيقة شعورهم في مواجهة المؤمنين . فأكذبهم الله تعالى بقوله : وما هم بمؤمنين ، لأن الإيمان الحقيقي ما تواطأ عليه القلب واللسان ، وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين .
النفاق : هو إظهار الخير وإسرار الشر ، وهو أنواع : اعتقادي ، وهو الذي يخلد صاحبه في النار ، وعملي وهو من أكبر الذنوب ، والمنافق يخالف قوله فعله ، وسره علانيته .
عن ابن عباس : (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)يعني : المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم .
اليوم الآخِر سمِّي باليوم الآخر لأنه لا يعقبُه ليلٌ، وكلُّ يومٍ يكونُ بعده ليلٌ , واليومُ الآخِر هو الذي لا يعقبُه ليل , لذلك قال تعالى:
{ يَوْمَ تَرْجُفُالرَّاجِفَةُ (6)تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ(8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّالَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)}النازعات: ٦ - ١٤
بالساهرة : أيبالأرض المبدَّلة ,سميت بالساهرة لأنه لا نومَ عليها , فبعد البعث ليس هناك نوم , لذلك سمي باليوم الآخر .
وماهم بمؤمنين لماذا؟؟
لأنهم قالوا بألسنتِهم ما ليس في قلوبِهم , والإيمانُ ليس مجردَ كلمات تُنطق , ولا حروفٍيترجمها اللسان ,ولكن الإيمان في الشرع قولٌ و عملٌ تصديق بالجنان ، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان.
قولُ اللسانِ وحدَه دونَاعتقادِ القلبِ , هذا هو الكفر. واعتقادُ القلبِ دون إقراراللسان , هذا هو كفرُ العنادِ.
فهؤلاء المنافقون يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فكذَّبَهم اللهُ تعالى كماكذَّبَهم في مطلعِ سورةِ المنافقين قال إِذَاجَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}المنافقون 1
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ في قولِهم نشهدُ إنك لرسولُ اللهِ ، لأنهم قالوها بألسِنتِهم ولم تصدِّق بها قلوبُهم. معناه إذا لم يجيؤوا إليك لا يقولو ن هذا القول ،فهم لا يقولون نشهد إنك لرسول الله إلا إذاجاؤوك.
يُخَـٰدِعُون ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
الخداع : الإخفاء ، فالذي يخادع يظهر شيئاً ويخفي شيئاً . ومنه قوله e( صلاة المرأة في مخدعها خير من صلاتها في بيتها ) ومن قول العرب : انخدع الضب في جحره.
والمخادعةُ هي أن يعاملَ الأنسان العدو بالظاهرِ بغيرِ ما ببطنُ له في الباطنِ
وهل أحدٌ يخدعُ اللهَ الذي لايخفى عليه شيءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ اللهَ الذي يعلمُ السرَّ وأخفى ؟؟
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا أي بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان خلاف ما أبطنوه وهو إسرارهم الكفر يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك وأن ذاك نافعهم عنده كما قال تعالى "يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيءألا إنهم هم الكاذبون .
فالله مطلع على أسرار العبد وعلانيته والخداع يعود ضرره على العبد نفسه لايضر الله شيئا والله يملي له كما قال النبيصلى الله عليه وسلم : (إن الله ليملي إلى الظالم حتى إذاأخذه لم يفلته)
وقالالله تعالى ) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ( إبراهيم: ٤٢:
"وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون" ولكنهم لا يشعرونَ أنهم يخدعون أنفسَهم وهم يظنون في أنفسهم الذكاء والدهاء والقدرة على خداع هؤلاء البسطاء ,ولكن القرآن يصف حقيقة فعلتهم يقول وما يغرون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون بذلك , إنهم من الغفلة بحيث لا يخدعون إلا أنفسهم في غير شعور وإن الله بخداعهم عليم كما قال تعالى "إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم" وبال خداعهم راجع إليهم فيفتضحون في الدنيا بإطلاع الله نبيه على ما أبطنوه ويعاقبون في الآخرة .
قال الشوكاني : الإشعار بأنهم لما خادعوا من لا يخدع كانوا مخادعين لأنفسهم ، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن ، وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه وما يشعر بذلك .
فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌۭ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًۭا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌۢ بِمَا كَانُوا۟ يَكْذِبُونَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مبتدأ وخبر
المرض هو اعتلال الجسم، ومرض القلب خروجه عن صحته واعتداله، فهؤلاء قلوبهم مريضة.
عن ابن عباس في قوله : في قلوبهم مرض قال : شك
وكذلك قال مجاهد ،والحسن البصري في قلوبهم مرض يعني : الرياء .
والمرض : الشك الذي دخلهم في الإسلام.
قال ابن القيم : ومرض القلب نوعان : مرض شبهة وشك ، ومرض شهوة وغي ، وكلاهما في القرآن .
قال تعالى في مرض الشبهة ( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ) ، وأما مرض الشهوات فقال تعالى ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ) فهذا مرض شهوة الزنا .
وقال عن مرض الشبهات : هو أصعبهما وأقتلهما للقلب .
. فالكفر والنفاق والشكوك والبدع, كلها من مرض الشبهات، والزنا, ومحبة الفواحش والمعاصي وفعلها, من مرض الشهوات .والمعافى من عوفي منهذين المرضين, فحصل له اليقين والإيمان, والصبر عن كل معصية, فرفل في أثواب العافية.
والمراد هنا في هذه الاية مرض الشبهات التى جعلتهم في ريبهم يترددون مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، مرض الشك، ومرض الريب ، ومرض النفاق. والمرض عبارة مستعارة للفساد الذي في عقائدهم . وذلك إما أن يكون شكا ونفاقا , وإما جحدا وتكذيبا,وقد ذكر الله هذا المرض عن المنافقين في عدة آيات :
فقال تعالى ( إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ) .
وقال تعالى ( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) .
وقال تعالى ( رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ) .
، وقد قال في وصف المنافقين ( مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين ، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة ) رواه مسلم [ العائرة : الحائرة ] .
وهذا المرض فى قلوبهم جعلهم يرون الحق باطل والباطل حق والضلالة هدى والهدى ضلالة والسفاهة رشاد والرشاد سفاهة والإصلاح إفساداً والإفساد إصلاحا وهكذا القلوب حين يفسدها الشيطان.
)وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِالرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ( الزخرف 36)
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ( الزخرف: 37
وهؤلاء أخسر الناس )قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ( 103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (الكهف بسكونهم إلى الدنيا وحبهم لها وغفلتهم عن الآخرة وإعراضهم عنها .
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلمأنه قال:"تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيقلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مرباداكالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا و لا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه، و قلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت السماوات و الأرض. " رواهمسلم و أحمد كالكوز مجَخِّيا. يعني : مثل الكوز المقلوب كالكاس المقلوب كيف نملأه وهو مقلوب هل يدخل شيء فيه ابدا فهذا قلب المفتون لا نسطيع ان ندخل في قلبه الايمان كما قال الله تعالى (ام على قلوب اقفالها ) ؟لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ماأشرب من هواه }
فهؤلاء المنافقين في قلوبهم شكٌّ وفساد فابْتُلوا بالمعاصي الموجبة لعقوبتهم, , فزادهم الله مرضا فزادهم الله شكًا: زادهم رجسا ، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم, زادتهم شرا إلى شرهم وضلالة إلى ضلالتهم .وهذا بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين, وأنه بسبب ذنوبهم السابقة, يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وقال تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } فعقوبة المعصية, المعصية بعدها, كما أن من ثواب الحسنة, الحسنة بعدها، قال تعالى: { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى }

قال تعالى : {فَزَادَهُمُ}، ولم يقل: فزادها، يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون على حذف مضاف، أي فزاد الله قلوبهم مرضاً، والثاني: أنه زاد ذواتهم مرضاً لأن مرض القلب مرض لسائر الجسد، فصح نسبه الزيادة إلى الذوات، ويكون ذلك تنبيهاً على أن في ذواتهم مرضاً، وإنما أضاف ذلك إلى قلوبهم لأنها محل الإدراك والعقل.

وقيل فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا : هو دعاء عليهم . ويكون معنى الكلام : زادهم الله شكا ونفاقا وضعفا عن الانتصار وعجزا عن القدرة جزاء على كفرهم .
وقيل وكلهم إلى أنفسهم , وجمع عليهم هموم الدنيا فلم يتفرغوا من ذلك إلى اهتمام بالدين .
ولهم عذاب أليم ولهم عذاب بالغ الإيلام الغاية العظمى ، موجع لأبدانهم عقوبة موجعة بسبب كذبهم ونفاقهم.
كما قال تعالى ( بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً ) ، وقال تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) .
{بما كانوا يكذبون } وفي قراءة( بما كانوا ( يُكذِّبُون )) بالتشديد والتخفيف. (بما كانوا ُيكذِّبُون) بالتشديد أي أي بتكذيبهم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالتخفيف بتكذيبهم وهو قولهم ( آمنا بالله وباليوم الآخر )
إذن فالإيمان والقرآن هما شفاءالقلوب، كلاهما بعيد عن قلوب هؤلاء المنافقين، فكأن المرض يزداد في قلوبهم معالزمن، والله سبحانه وتعالى ـ بنفاقهم وكفرهم ـ يزيدهم مرضا. وهذه هي الصفة الثالثة للمنافقين .. أنهم أصحاب قلوب مريضة سقيمة، لا يدخلها نور الإيمان، ولذلك فهي قلوب ضعيفة، ليس فيها القوة اللازمة لمعرفة الحق. وهي قلوب خائفة من كل ما حولها، مرتعبة في كل خطواتها، مضطربة بين ما في القلب وما على اللسان، والمريض لا يقوى على شيءوكذلك هذه القلوب لا تقوى على قول الحق، ولا تقوى على الصدق، ولا ترى ما حولها، تلك الرؤية التي تتناسب وتتفق مع فطرة الإيمان، التي وضعها الله تعالى في القلوب، ولذلكإذا دخل المنافقون في معركة في صفوف جيش المسلمين .. فأول ما يبحثون عنه هو الهرب من المعركة، يبحثون عن مخبأ يختفون فيه، أو مكان لا يراهم فيه أحد، والله سبحانه وتعالى يصفهم بقوله لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)(سورةالتوبة) لماذا ؟ لأنهم أصحاب قلوب مريضة، لا تقوى على شيء، ومرضها يجعلها تهرب من كل شيء، وتختفي. وينتظرهم في الآخرة عذاب أليم، غير العذاب الذي عانوه من قلوبهم المريضة فيالدنيا، وأشد من عذاب الكافرين، والله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً(145) بما كانوا يكذبون على الله وعلى رسوله .
وإذا قيل لهم لا تفسِدوا في الأرضِ قالوا إنما نحن مصلحون (11) البقرة: ١١
ثم يصف هؤلاء المنافقين بصفة أخرى من صفاتهم صفة العناد وتبرير مايأتون من الفساد وبخاصة الكبراء منهم الذين كان لهم في أول العهد بالهجرةمقام في قومهم ورياسة وسلطان كعبد الله بن أبي بن سلول .
لا يقفون عند حد الكذب والخداع , بل يضيفون اليهما السفه والادعاء (وإذا قيللهم لا تفسدوا في الأرض).وإذا قيل لهم ,يعني للمنافقين وقيل لليهود أي قال لهم المؤمنون,لا تفسدوا في الأرض ) بالكفر وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . وقيل معناه لا تكفروا والكفر أشد فسادا في الدين,قالوا إنما نحن مصلحون, فجمعوا في قولهم هذا بين أمرين كبيرين : العمل بالفساد في الأرض ، وإظهار أنه ليس بإفساد بل هو صــلاح ، قلباً للحقائق وجمعاً بين فعل الباطل واعتقاده حقاً . وهذا أعظم جناية ممن يعملبالمعصية. يقولون هذا القول كذبا كقولهم آمنا وهم كاذبون. لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد , بل تجاوزوهإلى التبجح والتبرير قالوا:إنما نحن مصلحون . فإذا نهي هؤلاء المنافقون عن الإفساد في الأرض, وهو العمل بالكفر والمعاصي, ومنهإظهار سرائر المؤمنين لعدوهم وموالاتهم للكافرين (قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُمُصْلِحُونَ } .
قال بعض العلماء : تصوروا الفساد بصورة الصلاح ، لما في قلوبهم من المرض فكانوا كما قال الله فيهم (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ) .
والفساد في الأرض هو الكفر والعمل بالمعصية معصية الله لأنه من عصى اللهفي الأرض أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الأرض لأن صلاح الأرض بالطاعة . لا تفسدوا في الأرض بالكفر ،ولا تفسدوا في الأرض بالنفاق،ولا تفسدوا في الأرضبالمعاصي،فالأرض لا تصلح إلا بالإيمانوالطاعة. وتفسد الأرض ومافيها وما عليها بالكفروالمعاصي والنفاق.
والبر والبحر يفسد بالكفر والمعاصي قال تعالى) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الروم: ٤١
وعن مجاهد "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض" قال إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم لاتفعلوا كذا وكذا قالوا إنما نحن على الهدى مصلحون.
وعن ابن عباس "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون" أي إنما نريدالإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب.
أَلَآ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ هـذا كلام مستأنف وجواب من الله تعالى رداً على هؤلاء المنافقين ,لما حصروا الصلاح والإصلاح فيهم بقولهم إنما نحم مصلحون، رد الله عليهم الفساد بنفس الاسلوبفقال: ألاـ وهي أدات تنبيه ـألا إنهم هم المفسدون ولكنلا يشعرون لا يحسون ويفطنون لانطماس نور الإيمان في قلوبهم ولجهلهم لايشعرون بكونه فسادا فإنه لا أعظم فسادا ممن كفر بآيات الله, وصد عن سبيل الله، وخادع الله وأولياءه, ووالى المحاربين لله ورسوله, وزعم مع ذلك أن هذا إصلاح, فهل بعد هذا الفساد فساد؟" ولكن لا يعلمون علما ينفعهم, ولأن الإصلاح في الأرض أن تعمر بطاعة الله والإيمان به, لهذا خلق الله الخلق, وأسكنهم في الأرض, وأدر لهم الأرزاق, ليستعينوا بها على طاعته وعبادته، فإذا عملفيها بضده, كان سعيا فيها بالفساد, وإخرابا لها عما خلقت له.
قال ابن القيم : تأمل كيف نفى عنهم الشعور في هذا الموضع ، وهذا أبلغ ما يكون من الذم والتجهيل أن يكون الرجل مفسداً ولا شعور له بفساده البتة، مع أن أثر فساده مشهور في الخارج، مرئي لعباد الله وهو لا يشعر به، وهذا يدل على استحكام الفساد في مداركه وطرق علمه .
قال العلّامـة ابن عثيمين -رحمه اللـه
أن من أعظم البلوى أن يُزَيَّن للإنسان الفساد حتى يَرىأنه مصلح؛ لقولهم: ( إنما نحن مصلحون ( وليس كل ما زينتهالنفس يكون حسناً، كما قال تعالى: {أفمن زُين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضلمن يشاء ويهدي من يشاء} [فاطر: 8 ..
وأن غير المؤمن نظره قاصر، حيثيرى الإصلاح في الأمر المعيشي فقط؛ بل الإصلاح حقيقة أن يسير على شريعة الله واضحاًصريحاً..
و ليس كل من ادعى شيئاً يصدق في دعواه؛ لأنهم قالوا: إنما نحن مصلحون فقال الله تعالى: ألا إنهم هم المفسدون وأكد إفسادهم بثلاثة مؤكدات؛ وهي { ألا } و"إن" ، و{ هم }؛ بل حصر الإفساد فيهم عن طريق ضمير الفصل.
( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواأَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لايَعْلَمُونَ) البقرة:13
وإذا قيل لهم آمنوا كما آمنا لناس , ما المراد بالناس؟ رسول الله والذين آمنوا معه الصحابة ا لمهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.
الدعوة التي كانت موجهة إليهم في المدينة هي أن يؤمنوا الإيمان الخالص المستقيم المتجرد من الأهواء . إيمان المخلصين الذين دخلوا في السلم كافة , وأسلموا وجوههم لله , وفتحوا صدورهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

وإذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس يعني آمنوا ظاهرا وباطنا آمِنُوا -مثل إيمان الصحابة، باللهوملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار وهو الإيمان بالقلب واللسانوالجوارح وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر. جادَلوا وقالوا: قالوا أنؤمنكما آمن السفهاء" أَنُصَدِّق مثل تصديق ضعاف العقل والرأي , فنكون نحن وهمفي السَّفَهِ سواء؟ " يعنون - لعنهم الله - أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضيالله عنهم , كانوا يأنفون من هذا الاستسلام للرسول صلى الله عليه وسلم ويرونه خاصا بفقراء الناس غير لائق بالعلية ذوي المقام ! فقالوا (أنؤمن كما آمن السفهاء ?). لاستحكام المرض في قلوبهم.

عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة يقولون أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهمسفهاء؟ ومن ثم جاءهم الرد الحاسم , والتقرير الجازم: ألا إنهم هم السفهاء , ولكن لا يعلمون فردَّ الله عليهم بأن السَّفَهَ مقصور عليهم, وأكد وحصر السفاهة فيهم كما حصر الفساد فيهم ولكن لا يعلمون أن ما هم فيه هو الضلالوالخسران من فساد ومرض قلوبهم و من تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل .
السفه: الخفة والطيش ونقيض السفه: الرشد، وقيل: الحكمة
والسفهاءجمع سفيه مثل الحكماء جمع حكيم والحلماء جمع حليم , وهو الجاهل بما يضره وبما ينفعه الذي لايعرف ما يضره وما ينفعه الضعيف الرأي القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار . ولهذا سمى الله النساءوالصبيان سفهاء في قوله تعالى "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما" قال علماء التفسير هم النساء والصبيان .
والسفيه هو الذي ترك الاسلام الذي ترك الايمان وترك الهدى الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم .
والله تباركوتعالى يقول) وَمَنْيَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِاصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَالصَّالِحِينَ(البقرة:
قال ابن القيم : لما دعا أهل الإيمان أهل النفاق إلى الإيمان ، أجاب أهل النفاق بقولهم ( أنؤمن كما آمن السفهاء ) فرد الله عليهم وأسجل عليهم بأربعة أنواع :
الأول : تسفيهم . الثاني : حصر السفه فيهم ، الثالث : نفي العلم عنهم ، الرابع : تكذيبهم فيما تضمنه جوابهم من الإخبار عن سفه أهل الإيمان ، الخامس : أيضاً وهو تكذيبهم فيما تضمنه جوابهم من دعواهم التنزيه من السفه .
قال العلّامـة ابن عثيمين -رحمه اللـه :أعداء الله في كل زمان، وفي كل مكان يصفون أولياءه بما يوجب التنفير عنهم , فالرسل وصفهم قومهم بالجنون، والسحر، والكهانة، والشعر تنفيراً عنهم، كما قال تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} [الذاريات: 52] ، وقال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين} [الفرقان: 31] وورثةالأنبياء مثلهم يجعل الله لهم أعداء من المجرمين، ولكن وكفى بربك هادياً ونصيراً الفرقان: 31 ؛ فمهما بلغوا من الأساليب فإن الله تعالى إذا أراد هداية أحد فلا يمنعه إضلال هؤلاء؛ لأن أعداء الأنبياء يسلكون في إبطال دعوة الأنبياء مَسْلكين: مسلك الإضلال، والدعاية الباطلة في كل زمان، ومكان؛ ثم مسلك السلاح . أي المجابهة المسلحة. ولهذا قال تعالى: {هادياً} [الفرقان: 31] في مقابل المسلك الأول الذي هو الإضلال . وهو الذي نسميه الآن بالأفكار المنحرفة، وتضليل الأمة،والتلبيس على عقول أبنائها, وقال تعالى: {ونصيراً} [الفرقان: 31] في مقابل المسلك الثاني . وهو المجابهة المسلحة..
( وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ ) يعني ومـن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهـم في الضلالة والجهل وذلك أردى لهم وأبلـغ في العمى والبعد عن الهدى .
في الاية السابقة قال ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون وهنا قال: هم السفهاء ولكن لا يعلمون.
ما الفرق بين قوله تعالى هنا: { ولكن لا يعلمون }، وقوله تعالى فيما سبق: { ولكن لايشعرون
هنا استعمل الشعور في الكلام على القضايا الظاهرة وعلى الأحاسيس الواضحة، هنا المخادعة عمل ظاهر، يخادعون، يقولون، يتصرفون، فالشيء الذي يكون بالأحاسيس، يتلمسه بحواسه ، بالكلام،بالحركة يناسبه الشعور الذي فيه معنى الإحساس (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ(12) استعمل (لا يشعرون) الشعور لأن الإفساد ظاهر في الأرض أمر حسي يدركه الإنسان بإحساسه،وشعوره. لكن لما تكلم على القضايا القلبية المعنوية (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ (13) استعمل (لا يعلمون) لأن العلم داخلي. والإيمان شيء قلبي فقال (لا يعلمون) ولم يقل لا يشعرون لأن الإيمان ليس شعوراً ظاهراً وإنما هو علم باطن. والسفه أمر معنوي يدرك بآثاره، ولا يُحَسُّ به نفسِه..
كذلك لو ننتبه أخواتي الفاضلات على سياق الآيات نلاحظ أن المؤمنون نهوا المنافقينعلى الفساد في الأرض بقولهم لا تفسدوا ثم أمروهم بالإيمان بالله ثانيا. نهوهم أولا عن المنكر ثمأمروهم بالمعروف.
لماذا لم يأمروابالمعروف أولا وبعدها ينهَوا عن المنكر؟؟

لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
ثم ينتقل السياق الى السمة الأخيرة التي تكشف عن مدى الارتباط بين المنافقين في المدينةواليهود الحانقين .
وَإِذَا لَقُوا۟ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ قَالُوٓا۟ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا۟ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ قَالُوٓا۟ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنايقول تعالى وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا: آمنا } نشهد أن لا اله إلاالله وأن محمد رسول الله وأظهروا لهم الإيمانوالموالاة والمصافاة غرورا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية وليشركوهم فيماأصابوا من خير ومغنم "وإذا خلوا إلى شياطينهم" يعني إذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلىشياطينهم وهم غالبا - اليهود الذين كانوا يجدون في هؤلاء المنافقين أداة لتمزيق الصفالإسلامي وتفتيته , كما أن هؤلاء كانوا يجدون في اليهود سندا وملاذا .

(وإذا لقوا) أصله لقيوا حذفت الضمة للاستثقال ثم الياء لالتقائها ساكنة مع الواو (الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا) منهم ورجعوا (إلى شياطينهم) سادتهم وكبراؤهم ورؤساؤهم من أحبار اليهود ورءوس المشركين والمنافقين (قالوا إنامعكم) في الدين (إنما نحن مستهزئون) بهم بإظهار الإيمان هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فهذه حالهم الباطنة والظاهرة, ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.

والشيطان في لغة العرب : هو كل عات ومتمرد ، سواء كان من الجن أو من الإنس أو من غيرهما ، وقد جاء في القرآن إطلاق الشياطين على العتاة المتمردين من الإنس والجن ، كما قال جل وعلا (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) وكما هذه الآية (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ) أي : رؤسائهم وعتاتهم المتمردين ، وشياطين كل شيء مردته ,وفي المسند عنأبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن" فقلت يا رسول الله أو للإنس شياطين؟ قال "نعم"
وقوله تعالى "قالوا إنا معكم" قالمحمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أي أناعلى مثل ما أنتم عليه "إنما نحن مستهزءون" أي إنما نحن نستهزىء بالقوم ونلعب بهم.
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِى طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ
وقوله تعالى جوابا لهم ومقابلة على صنيعهم "الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون"أي : يزيدهم في طغيانهم : أي فجورهم وكذبهم ، يعمهون : أي حائرون مترددون .
والمؤمنون أولياء اللهوالله يقول فيالحديث:" من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب"فلما استهزؤوا بالمؤمنين قال الله:اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَانتقاما لأوليائه، فالله يستهزئ بهم في الدنياوالآخرة.
أمااستهزاء الله بهم فيالدنيافهو أنهم قالوا آمنا بألسنتهم ليحقنوا دماءهم وأموالهم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله" فهمقالوها ليحقنوا دماءهم ويعصموا أموالهم، فلما قالوها بألسنتهم أمرالله رسوله والمؤمنين أنيقبلوها منهم وأن يعاملوهم معاملة المؤمنين.
فلما رأوا النفاق نفعهم في الدنيا اطمأنواوظنوا أن ذلك نافعهم في الآخرة كما نفعهم في الدنيا، وكان هذا مناستهزاء الله يهم.
ويمدهم في طغيانهم يعمهون
المد: التطويل مدّ الشيء : طوّله ، وأمدّ: زاد وقيل مدّ في الخير وأمدّ في الشر.
وأصل الطغيان مجاوزة الحد أو المقدار المعلوم ومنه قوله تعالى ( إنا لما طغى الماء ) أي ارتفع وعلا ، وقوله في فرعون ( إنه طغى ) أي أسرف في الدعوى ويقال طغت النار.
العمه: التردد والتحير، وهو شبيه بالعمى ، إلا أن العمى توصف به العين التي ذهبنورها، والرأي الذي غاب عنه الصواب.يقال: عمه، يعمه، عمهاً.
العمى فقد البصر وذهاب نور العين أما العَمَه فهو الخطأ في الرأي والمنافقون لم يفقدوا بصرهم وإنما فقدوا المنطق السليم فهم في طغيانهم يعمهون
العمهللبصيرة كالعمى للبصرعافانا الله وإياكم من العمى والعمه
فالله يجازيهم باستهزائهم بالمؤمنين (ويمدهم) يمهلهم (في طغيانهم) بتجاوزهم الحدفي الكفر ليزدادوا ضلالا وحَيْرة وترددًا, يمدهم بالمال والبنين فكلما مدهم بالمال والبنين يقولون : ربنا راضٍ عناويقوموا يطمئنوا و هذا من استهزاء الله بهم.
{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍوَبَنِينَ ( 55)نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ۚ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56 ) المؤمنون
{قُلْ مَنْ كَانَ فِيالضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ مَدًّا ۚ حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَايُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّمَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا}مريم: ٧٥
عن ابن عباس في طغيانهم يعمهون في كفرهم يترددون
ومن استهزاءالله بهم في الآخرةأن الله سبحانه وتعالى يوم القيامة يقول لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فكل أمة كانت تعبد إله يتصورلها معبودها فتتتبعه، تتصور النار لعابديها والشمس لعابديها والقمر لعابديه والعزير لعابديه والمسيح لعابديه فيتبعونهم فيقذفونهم في نار جهنم وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها يقول الله لهم: لما لم تنصرفوا إلى ما كنت تعبدون ؟؟ يقولون نعوذ بالله ماكنا نعبد إلا الله ويظنون أن ما نفعهم في الدنيا ينفعهم في الآخرة، فمن استهزاء الله تعالىبهم أن يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا ثم يقول لهم جميعاجوزوا الصراط فيتقدم المؤمنون الصادقون فيمرون فيتبعهم المنافقون الكل ماشٍ فينوره فإذا مشيالمؤمنون بنورهم فجأة طفئ نور المنافقين أطفئت أنوارهم وهم في وسط جهنم وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين فما أعظم اليأس بعد الطمع .
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواانْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ۖقَالُوا بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14 )فَالْيَوْمَ لَايُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ مَأْوَاكُمُ النَّارُۖ هِيَ مَوْلَاكُمْ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }الحديد
فالخطاب لمن ؟ للمنافقين. فاليوم لا يؤخذ منكم أيها المنافقين فدية ولا يؤخذ من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير، هذا من استهزاء الله بهم في الآخرة .هكذا يتولى الله - سبحانه - المعركة التي يراد بها المؤمنون وبعد هذا التولي طمأنينة كاملة لأولياءالله ومصير رعيب بشع لأعداء الله الغافلين المتركين في عماهم يتخبطون المخدوعين بمد الله لهم في طغيانهم وإمهالهم بعض الوقت في عدوانهم , والمصيرالرعيب ينتظرهم هنالك , وهم غافلون يعمهون !
فعلينا أن لانغتر بنعم اللهعزّ وجلّ فهذه النعم قد تكون استدراجاً من الله فالله سبحانه وتعالى يملي كماقال تعالى: { ويمدهم في طغيانهم يعمهون } ولو شاء لأخذهم ولكنه سبحانه وتعالىيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} » (رواه البخاري ومسلم).
فكيف نعرف الفرق بين النعم التي يجازى بها العبد والنعم التي يستدرج بهاالعبد ؟

فالجواب: أن الإنسان إذا كان مستقيماً على شرع الله فالنعم من بابالجزاء وإذا كان مقيماً على معصية الله مع توالي النعم فهي استدراج.
من فوائد الآيتين:

1-ومن فوائد الآيتين: أن صاحب الطغيان يعميه هواه وطغيانه عنمعرفة الحق وقبوله ولهذا قال تعالى: { ويمدهم في طغيانهم يعمهون } .

2-ذلّ المنافق فالمنافق ذليل لأنه خائن فهم { إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } خوفاً من المؤمنين و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكمخوفاً منهم فهم أذلاء عند هؤلاء وهؤلاء لأن كون الإنسان يتخذ من دينه تَقيَّةفهذا دليل على ذله وهذا نوع من النفاق لأنه تستر بما يُظَن أنه خير وهوشر.
3- أن الجزاء من جنس العمل فمن استهزأ بالله استهزأ الله به وهذه قاعدة معروفة بالشرع أن الجزاء من جنس العمل فالله يستهزئ بمن يستهزئ به أو برسله أو بشرعه جزاءًوفاقاً.
قال تعالى ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) وقال تعالى ( والذين اهتدوا زادهم هدى ) وقال تعالى ( ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ) ، وقال e ( من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة ) رواه مسلم ، وقال e ( الراحمون يرحمهم الله ) رواه أبو داود وقال e ( من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ) رواه مسلم ، وقال e ( من أخـذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ) رواه البخاري ، وقال e ( من وصل صفاً وصله الله ) رواه أبو داود .
والاستهزاء هنا في الآية على حقيقته لأن استهزاء الله بهؤلاء المستهزئين دال على كماله وقوته وعدم عجزه عن مقابلتهم فهو صفة كمال هنافي مقابل المستهزئين مثل قوله تعالى: {إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً} [الطارق أي أعظمَ منه كيداً فالاستهزاء من الله تعالى حق على حقيقته وليس كاستهزائنا بل أعظم من استهزائنا وأكبر ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) (البقرة:16)
تمثيل جميل لأولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى جعل الله الضلالة سلعة وجعل الهدى ثمنا فهم دفعوا الهدى ليأخذوا الضلالة
الاشتراء والشراء بمعنى : الاستبدال بالشيء إلا أن الاشتراء يستعمل في الابتياع والبيع.
اشترى يشتري اشتراء أي ابتاع أخذ الشيء بثمن يقول تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ويقول تعالى: إِنَّ الَّذِيْنَ اشْتَرَوُا الكُفْرَ بالِإيمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْثاً​

شرى يشري شِرىً وشراء أيباع.
يقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ
ويقول تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ
هما إذاً فعلان المعنى فيهما متباين ومتعاكس
وكيف شراء الضلالة بالهدي ؟
لأنهم فضلوا موالاة الكافرين ومجالستهم واتباع أقوالهم على موالاة رسول الله e ومجالسة أهل الإيمان .

وهناك وجه آخر : أنهم بعد أن حصل لهم الإيمان بالله ارتدوا على أدبارهم ورغبوا في الكفر كما قال تعالى : ( فاستحبوا العمى على الهدى ) .

وفي كيفية استبدالهم الضلالة بالهدى ثلاثة أقوال
1- أنهم آمنوا ثم كفروا.
2- أناليهود آمنوا بالنبي قبل مبعثه فلما بعث كفروا به.
3- أن الكفار لما بلغهم ما جاء به النبي من الهدى فردوه واختاروا الضلال كانوا كمن أبدل شيئا بشئ.
اشتروا الضلالة بالهدى" أي الكفر بالإيمان أي استبدلوها به بذلوا الهدى ثمنا للضلالة وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر كما قال تعالى فيهم "ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم" أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى .

عن ابن عباس وعن ابن مسعود "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى" قال أخذوا الضلالة وتركوا الهدى وقال مجاهد آمنوا ثم كفروا وقال قتادة: استحبوا الضلالة على الهدى وهذا يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود "فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى"


فأي خساره هذه ؟؟؟ أعطى الهدى وأخذ الضلالة ؟؟ فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين أي ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة وما كانوا مهتدين أي راشدين في صنيعهم ذلك أي ما ربحوا فيها بل خسروا لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم لأنهم رغبوا في لضلالة رغبةالمشتري بالسلعة التي من رغبته فيها يبذل فيها الأثمان النفيسة.
قال الشيخ السعدي : وهذا من أحسن الأمثلة ، فإنه جعل الضلالة التي هي غاية الشر كالسلعة وجعل الهدى الذي هو غاية الصلاح بمنزلة الثمن فبذلوا الهدى رغبة عنه في الضلالة هذه تجارتهم فبئس التجارة وبئس الصفقة صفقتهم وإذا كان من بذل دينارا في مقابلة درهم خاسرا فكيف من بذل الهدى في مقابلة الضلالة واختارالشقاء على السعادة فما ربحت تجارته بل خسرفيها أعظم خسارة قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }.
وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } تحقيق لضلالهم وما كانوا مهتدين فيما فعلوا وأنهم لم يحصل لهم من الهدايةشيء خرجوا من الهدى إلى الضلالة ومن الجماعة إلى الفرقة ومن الأمن إلى الخوف ومن السنة إلى البدعة باعوا أنفسهم في صفقة خاسرة فأخذوا الكفر وتركوا الإيمان فما كسبوا شيئًا بل خَسِروا الهداية وهذا هو الخسران المبين. فهذه أوصافهم القبيحة.
الفوائد:
- 1 من فوائد الآية: بيان سفه هؤلاء المنافقين، حيث اشتروا الضلالة بالهدى..
2- ذم وقبح المنافقين وشغفهم بالضلال لأنه تبارك وتعالى عبر عن سلوكهم الضلال بأنهم اشتروه والمشتري مشغوف بالسلعة محب لها.. وأنهم اختاورا الفاني العاجل على الباقي الآجل.
-3 أن الإنسان قد يظن أنه أحسنَ عملاً وهو قد أساء لأن هؤلاء اشتروا الضلالة بالهدى ظناً منهم أنهم على صواب وأنهم رابحون فقال اللهتعالى: { فما ربحت تجارتهم }..
- 4 ومنها خسران المنافقين فيما يطمعون فيهبالربح لقوله تعالى: ( فما ربحت تجارتهم )..
-5 أن كل تجارة لاتكون لله وبالله فهي خاسرة باطلة فمدار الربح والخسران على اتباع الهدى فمن اتبعه فهو الرابح ومن خالفه فهو الخاسر ويدل لذلكقوله تعالى: {والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر: 1 . 3] ، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [الصف: 10، 11] : نقف على {خير لكم} لأن {إن كنتم تعلمون} إذا وصلناها بما قبلها صار الخير معلقاً بكوننا نعلم . وهو خير علمنا أم لم نعلم..
-6 ومن فوائد الآية: أن هؤلاء لن يهتدوا لقوله تعالى: { وما كانوا مهتدين } لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ولذلك لا يرجعون وهكذا كل فاسق أو مبتدع يظن أنه على حق فإنه لن يرجع يظن أنه على صواب . وليس على صواب.

الدروس المستفادة من الآيات

1- بلاغة القرآن وفصاحتة في التقسيم لأن الله سبحانه وتعالىابتدأ هذه السورة بالمؤمنين الخلَّص ثم الكفار الخلَّص ثم المنافقين فالتقسيم يزيد الإنسان معرفة وفهماً..

2- أن القولباللسان لا ينفع الإنسان لقوله تعالى: ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)

3- أن المنافقين ليسوا بمؤمنينوإن قالوا إنهم مؤمنون لقوله تعالى: { وما هم بمؤمنين } ولكن هل هم مسلمون؟ إنأريد بالإسلام الاستسلام الظاهر فهم مسلمون وإن أريد بالإسلام إسلام القلب والبدنفليسوا بمسلمين..

5- أن الإيمان لا بد أن يتطابق عليه القلبواللسان ووجه الدلالة أن هؤلاء قالوا: "آمنا" بأفواههم ولم تؤمنقلوبهم فصح نفي الإيمان عنهم لأن الإيمان باللسان ليسبشيء..
6- مكر المنافقين وأنهم أهل مكر وخديعة لقوله تعالى: { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم } ولهذا قال الله تعالى في سورةالمنافقين: {هم العدو فاحذرهم} [المنافقون: 4] ؛ فحصر العداوة فيهم لأنهم مخادعون.


7- أن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله كما قال تعالى (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) .فهم يخادعونالله، ويظنون أنهم قد نجحوا أو غلبوا ولكن في الحقيقة أن الخداع عائد عليهملقوله تعالى: { وما يخدعون إلا أنفسهم } فالحصر هنا يدل على أن خداعهم هذا لا يضرالله تعالى شيئاً ولا رسوله ولا المؤمنين.

8- أن العمل السيئ قديُعمي البصيرة فلا يشعر الإنسان بالأمور الظاهرة لقوله تعالى: { وما يشعرون } أيما يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم و "الشعور" أخص من العلم فهو العلم بأمور دقيقةخفية ولهذا قيل إنه مأخوذ من الشَّعر والشعر دقيق فهؤلاء الذين يخادعون اللهوالرسول e والمؤمنين لو أنهم تأملوا حق التأمل لعرفوا أنهم يخدعون أنفسهم لكن لاشعور عندهم في ذلك لأن الله تعالى قد أعمى بصائرهم والعياذ بالله فلا يشعرونبهذا الأمر.
10- أن الإنسان إذا لم يكن له إقبالعلى الحق وكان قلبه مريضاً فإنه يعاقب بزيادة المرض لقوله تعالى: { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً } وهذا المرض الذي في قلوب المنافقين شبهات وشهوات فمنهم منعلم الحق ومنهم من اشتبه عليه وقد قال الله تعالى في سورة النساء: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلًا} وقال تعالى في سورة المنافقين: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} .

11- أن القلوب تمرض كما تمرض الأبدان وأن مرض القلوب أعظم وأخطر من مرض الأبدان قال ابن القيم : والرجل هو الذي يخاف موت قلبه لا موت بدنه إذ أكثر هؤلاء الخلق يخافون موت أبدانهم ولا يبالون بموت قلوبهم ولا يعرفون من الحياة إلا الحياة الطبيعة وذلك موت القلب والروح.

لذا يجب الاهتمام بالقلب والحذر من مرضه والحرص على حياته وأن يدعو الله دائماً وأبداً بتثبيته على الحق فقد كان e يدعو ويقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك .

وأن يدعو الله أن يكون سليماً فقد كان e يقول ( اللهم إني أسألك قلباً سليماً .. ) .


12- أن أسباب إضلال اللَّهِ العبدَ من العبد نفسه لقوله تعالى: { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً } ومثل ذلك قوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] وقوله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} [الأنعام: 110] وقوله تعالى: {فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم} [المائدة: 49.

13- أن المعاصي والفسوق تزيد وتنقص كماأن الإيمان يزيد وينقص لقوله تعالى: { فزادهم الله مرضاً } والزيادة لا تُعقل إلافي مقابلة النقص فكما أن الإيمان يزيد وينقص كذلك الفسق يزيد وينقص والمرضيزيد وينقص.
14 - الوعيد الشديد للمنافقين لقوله تعالى: ( ولهم عذاب أليم )
15- أن العقوبات لا تكون إلا بأسباب أي أن الله لا يعذب أحداً إلا بذنب لقولهتعالى: بما كانوا يكذبون. كما قال تعالى في قوم نوح ( مما خطيئتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً ) . وقال تعالى ( فكلاً أخذنا بذنبـه ) .
وقال تعالى ( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم ) .
16- التحذير من الكذب وأنه من صفات المنافقين وقد جاء في الحديث عن النبي e أنه قال ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان ) متفق عليه ، والكذب مذموم شرعاً ومذموم عادة ومذموم فطرة وهؤلاء المنافقين جمعوا بينالكذب والتكذيب وهذا شر الأحوال.

17- أن النفاق الذي هو إظهار الإسلام وإبطان الكفر من الفساد فيالأرض لقوله تعالى: { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } والنفاق من أعظم الفسادفي الأرض.
18 أن المنافق لا تنفعه الدعوة إلى الخير لقوله تعالى: { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء } فهم لا ينتفعون إذا دعوا إلى الحقبل يقولون: { أنؤمن كما آمن السفهاء)
19- شدة طغيان المنافقين وإعجابهم بأنفسهملأنهمأنكروا على الذين عرضوا عليهم الإيمان لقولهم: ( أنؤمن كما آمن السفهاء ) وهذا غاية ما يكون منالطغيان ولهذا قال الله تعالى في آخر الآية: {في طغيانهم يعمهون} .
20- تحقيق ما وعد الله به من الدفاع عن المؤمنين كما قالتعالى: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} [الحج: 38] فإذا ذموا بالقول دافع اللهعنهم بالقول فهؤلاء قالوا: { أنؤمن كما آمن السفهاء } والله عزّ وجلّ هو الذيجادل عن المؤمنين فقال: { ألا إنهم هم السفهاء } يعني هم السفهاء لا أنتم فهذا منتحقيق دفاع الله تعالى عن المؤمنين أما دفاعه عن المؤمنين إذا اعتُدي عليهم بالفعلفلنقرأ قول الله تعالى: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} [الأنفال: 12] : هذه مدافعة فعلية حيث تنْزل جنود الله تعالى من السماء لتقتلأعداء المؤمنين فهذا تحقيق لقول الله تعالى: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} [الحج: 38] ولكن الحقيقة أن هذا الوعد العظيم من القادر جل وعلا الصادق في وعدهيحتاج إلى إيمان حتى نؤمن بالله عزّ وجلّ ولا نخشى أحداً سواه فإذا ضعف الإيمانأصبحنا نخشى الناس كخشية الله أو أشد خشية.
21- الدلالة على جهلالمنافقين لأن الله عزّ وجلّ نفى العلم عنهم لقوله تعالى: { ولكن لا يعلمون }فالحقيقة أنهم من أجهل الناس لأنهم لم يعلموا حقيقة أنفسهم وأنهم هم السفهاء.
22 - بيانسفه هؤلاء المنافقين حيث اشتروا الضلالة بالهدى وأنهم قد شغفوا بالضلال لأنهم اشتروه والمشتري مشغوفبالسلعة محب لها.

23- قد يظن الإنسان أنه أحسنَ عملاً وهو قد أساءلأن هؤلاء اشتروا الضلالة بالهدى ظناً منهم أنهم على صواب وأنهم رابحون فقال اللهتعالى: { فما ربحت تجارتهم }..

أن كل تجارة لاتكون لله وبالله فهي خاسرة باطلة فهؤلاء المنافقين خسروا فيما يطمعون فيهبالربح لقوله تعالى: ( فما ربحت تجارتهم )..,والربح والخسارة على اتباع الهدى فمن اتبعه فهو الرابح ومن خالفه فهو الخاسر ويدل لذلكقوله تعالى: {والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [الصف: 10، 11]..
24- أن الله قد يملي للإنسان ويطيل عمره استدراجاً كما قال تعالى ( إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ) ، وقال تعالى ( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنسدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي إن كيدي متين ) ، وقال e (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم تلا : " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) رواه أحمد . وقال e ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) متفق عليه​

ومن التجارة الناجحة قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم

اللهم لك الحمد بما أنعمت علينا به وأوليت

اللهم ما كان من توفيق فلك الحمد عليه أنت وحدك
وما كان من خطأ فأسأله العفو

فالحمد لله

اللهم ألهمنا رشدنا ووفقنا لما تحب وترضى

سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لااله الا أنت نستفغرك ونتوب اليك
 

المحاضرة الخامسة
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ , ونَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيئَاتِ أَعْمالِنَا ، مَنْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ , وَمَنْ يُضْلل فَلا هادي لهُ . وأشْهَدُ أَنْ لا إله إِلا الله وَحَدهُ لا شَرِيكَ له , وأشْهَدُ أنَّ مُحَمداً عَبدُه وَرَسُولهُ ,اللهم صلِّ وسَلِّمْ وبَارِكْ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ ومَنْ تَبِعَهمْ بإحسان إلى يومِ الدِّينِ .​
أما بعد... فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله وخيرَ , الهديِّ هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم , وشَرَّ الأمورِ مُحْدَثاتُهَا, وكُلَّ مُحدثةٍ بِدْعَة , وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَة , وكُلَّ ضلالةٍ فِي النِّار .
{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }ص29
{ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }الحشر21
{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }الزمر23

تحدَّثَ الله تبارك وتعالى في مطلعِ هذه السُّورةِ الكريمةِ( سورة البقرة) عنْ أصنافِ الناسِ
تحدَّ ثَ أولا عنْ أفضلِهم وأشرفِهم وخيرِهم ,وهم المؤمنونَ المتَّقونَ الذين آمنوا ظاهرا وباطنًا. في أربعِ آياتٍ وضح فيها صورة النفس الصافية المستقيمة في اتجاهها .
ثم تحدث عن الكافرينَ شرِّ البريةِ الذين كفروا ظاهرا وباطنا. في آيتين وضح فيها صورة النفس المعتمة السادرة في اتجاهها .
ثم تحدَّث عن المنافقينَ وهم الذينَ أظهروا الإسلامَ وأبطَنوا الكفرَ في ثلاثَ عشرةَ آية وضح فيها صورة النفس الملتوية المريضة المعقدة المقلقلة . ذلك أنَّ خطرَ المنافقينَ على المؤمنينَ أشدُّ من خطرِ الكافرينَ الذينَ أظهروا كفرَهم؛ لأنَّ المنافقين ظاهرُهم مع المسلمينَ وباطنُهم مع الكافرينَ, وهذه هي العداوةُ الحقيقيةُ. ولذلك قال الله تعالى في السورةِ التي سمَّاهَا باسمِهم سورة (المنافقون): {هُمْ العَدوُّ فاحْذَرْهُمْ} من الآية 4وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين فعن عمران بن حصين قال : قال رسول الله e ( إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي : منافق عليم اللسان ) رواه البيهقي في الشعب
والمنافقون كثيرون منتشرون في بقاع الأرض
قال الحسن البصري : لولا المنافقون لاستوحشتم في الطرقات .
وقال ابن القيم : كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم ، لكثرتهم على ظهر الأرض ، وفي أجواف القبور ، فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات وتتعطل بهم أسباب المعايش ، وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات ، سمع حذيفة رجلاً يقول : اللهم أهلك المنافقين ، فقال : يا ابن أخي ، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك) مدارج السالكين، 1/358.
ولَمَّا ختمَ اللهُ تباركَ وتعالى الحديثَ عن المنافقينَ بقولِه عزَّ وجلَّ: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ) سورة البقرة 16
ضربَ لهم مثلاً في هذا الاستبدالِ حيث استبدلُوا الضلالةَ بالهدى وآثروا الكفرَ على الإيمانِ، فقالَ تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ فهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) البقرة17
هذا المثلُ ضربَه اللهُ تعالى للمنافقينَ الخُلْصِ, فقبلَهم مؤمنونَ خُلْصٌ وكافرونَ خُلْصٌ.
والمنافقونَ قسمانِ:
منافقونَ خُلْصٌ، ومنافقونَ مترددونَ.
فضربَ اللهُ مثلا للمنافقينَ الخلْصِ وهم الذين آمنوا ثم كفروا, كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) سورة المنافقون 3
فضرب لهم مثلاً في هذا الاستبدالِ, استبدالِ الضلالةَ بالهدى، واستبدالِ الكفرَ بالإيمانِ، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَارًۭا فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَـٰتٍۢ لَّا يُبْصِرُونَ
إنهم لم يعرضوا عن الهدى ابتداء , ولم يصموا آذانهم عن السماع , وعيونهم عن الرؤية وقلوبهم عن الإدراك , كما صنع الذين كفروا . ولكنهم استحبوا العمى على الهدى بعد ما استوضحوا الأمر وتبينوه .
لقد استوقدوا النار , فلما أضاء لهم نورها لم ينتفعوا بها وهم طلبوها . عندئذ (ذهب الله بنورهم)الذي طلبوه ثم تركوه: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) جزاء إعراضهم عن النور !
شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى قالَ مثَلُهم في ذلكَ كمثلِ الذي استوقدَ ناراً، ومعنى استوقدَ: أي طلبَ النارَ من غيرِه. ليسَ عندَه نارٌ؛ فاستوقدَها من غيرِه ليستضئَ بها في الظلماتِ، وليستدفئَ بها من البردِ،وليبصرَ بها ما يضرُّه فيجتنبُه, وما ينفعُه فيأتيه (مثلهم) صفتهم في نفاقهم (كمثل الذي استوقد) أوقد (ناراً) في ظلمة فلما أضاءت ما حوله), فلمَّا أضاءَت هذه النارُ له الطريقَ وبصَّرتْهُ بما حولَه فأبصر بها ما عن يمينه وشماله واستدفأ وانتفع بها واستأنس وأمن ممن يخافه فرأى ما يحذرُه فاتَّقاهُ فبينا هو كذلك إذا بهذه النارِ قد أُطفِئَتْ (ذهب الله بنورهم) أطفأه وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة, فذهب ما فيها من الإشراق, وبقي ما فيها من الإحراق، فبقي في ظلمات متعددة: ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمة المطر, والظلمة الحاصلة بعد النور, وهو مع هذا أصم لا يسمع أبكم لا ينطق أعمى لو كان ضياء لما أبصر فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك فكيف يكون حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلاء المنافقون الذين آمنوا -ظاهرًا لا باطنًا- برسالة محمد صلى الله عليه وسلم, ثم كفروا, فصاروا في استبدالهم الضلالة عوضا عن الهدى واستحبابهم الغي على الرشد يتخبطون في ظلماتِ ضلالهم وهم لا يشعرون, ولا أمل لهم في الخروج منها ، ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور وأبقى لهم ما يضرهم وهو الإحراق والدخان "وتركهم في الظلمات" وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق "لا يبصرون" لا يهتدون إلى سبيل خير ولا يعرفونها.
تُشْبه حالَ جماعة في ليلة مظلمة, وأوقد أحدهم نارًا عظيمة للدفء والإضاءة, فلما سطعت النار وأنارت ما حوله, انطفأت وأعتمت, فصار أصحابها في ظلمات لا يرون شيئًا, ولا يهتدون إلى طريق ولا مخرج .هكذا هؤلاء المنافقون, استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين, ولم تكن صفة لهم, فانتفعوا بها وحقنت بذلك دماؤهم, وسلمت أموالهم, وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا،فهم انتفعوا بنورِ الإيمان لمَاَّآمنوا، بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك ،لمَّا كفروا ذهبَ الله بنورِهم؛ أي بنورِ الإيمانِ. أطفأَ اللهُ نورَ الإيمانِ في قلوبِهمْ وتركَهم في ظلماتِ الشكِّ والرَّيبِ والنِّفاقِ, يترددونَ حيارى ولا يهتدونَ سبيلاً؛ لايتقدمونَ ولا يتأخرونَ فبينما هم على ذلك إذ هجم عليهم الموت, فسلبهم الانتفاع بذلك النور, وحصل لهم كل هم وغم وعذاب, وحصل لهم ظلمة القبر, وظلمة الكفر, وظلمة النفاق, وظلم المعاصي على اختلاف أنواعها, وبعد ذلك ظلمة النار [وبئس القرار].
هذا مثل المنافق يبصر أحيانا ويعرف أحيانا ثم يدركه عمى القلب عن ابن عباس في قوله تعالى "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" قال هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه.
والتشبيه هاهنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.
وقوله تعالى (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ) جمعها لتضمنها ظلمات عديدة : أولها : ظلمة الليل ، لأن استيقاد النار للإضاءة لا يكون إلا في الليل ، والثانية : ظلمة الجو إذا كان غائماً ، والثالثة : الظلمة التي تحدث بعد فقد النور ، فإنها تكون أشد من الظلمة الدائمة .
صُمٌّۢ بُكْمٌ عُمْىٌۭ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ
الأصم : هو الذي لا يسمع ، والصممُ: انسدادُ الآذانِ بحيثُ لا يصلُ إليها الهواءُ الذي يُترجِمُ عن الصَّوتِ. والأبكم : هو الذي لا ينطق ، والأعمى : هو الذي لا يبصر .
والمراد بالآية : صم عن استماع الحق ، وبكم عن النطق بالخير والإيمان فهم لا يتكلمون به ، وعمي لا بصائر لهم يميزون بها بين الحق والباطل ، فلما كانوا غير منتفعين بسمعهم وأبصارهم وألسنتهم وأفئدتهم وصفوا بأنهم صم بكم عمي ، وهذا كما قال تعالى ( وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون ) ، وكما قال تعالى ( لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ) .
ولم يكونوا صمًّا حقيقة, ولا بكماً حقيقة, ولا عمياً حقيقة...كانوا يسمعون، وكانوا يتكلمون، وكانوا يعقلون، ولكنهم لما عطَّلوا هذه الحواس ولم ينتفعوا بها؛ سمعوا الحق ولم ينتفعوا به، كما قال تعالى: (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا) سورة محمد 16
فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ.. ولذلكَ فهمْ لا يَرجِعونَ إلى ما تَرَكوا. أي لا يرجعونَ إلى الحقِّ الذي تركوه ولا يرجعونَ إلى الإيمانِ الذي خرجوا منه واستبدلوه بالكفرِ . وهم مع ذلك "صم" لا يسمعون خيرا لا يسمعونَ الحقَّ "بكم" لا ينطقونَ بالحقِّ. لا يتكلمون بما ينفعهم "عمي" لا يرونَ آياتِ الحقِّ, ودلائلَ الحقِّ, وأماراتِ الحقِّ. في ضلالة وعماية البصيرة كما قال تعالى "فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور" فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.فهم حائرون, لا يَرجعون إلى ما تركوا من الحق لا يرجعون" إلى الهدى والى الإسلام. وقال قتادة فهم لا يرجعون أي لا يتوبون ولا هم يذكرون. فلا رجعة لهم إلى الحق , ولا أوبة لهم إلى الهدى . ولا هداية لهم إلى النور ! لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه, فلا يرجعون إليه، بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال, فإنه لا يعقل, وهو أقرب رجوعا منهم.
قال بعض العلماء : لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزلوا بمنزلة من لا سمع له ولا بصر ولا عقل .وكما قال تعالى البقرة – 171 ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ).
في الآية الأولى ذهب الله بنور المنافقين فهم يتخبطون في الظلمات فكيف يرجعون ؟ فختم الآية بقوله ( فهم لا يرجعون). و الآية الثانية شبهت الكفاربما هم فيه من الغي والضلال والجهل كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها بل إذا نعق بها راعيها أى دعاها إلى ما يرشدها لا تفقه ما يقول ولا تفهمه و إنما تسمع صوته فقط ( فهم لا يعقلون).
قال السعدي : لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه ، فلا يرجعون ، بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال ، فإنه لا يعقل ، وهو أقرب رجوعاً منهم .
فلمَّا سمِعوا ولم ينتفعوا فكأنهم لا يسمعونَ.
فاللهُ تباركَ وتعالى فعلَ بالمنافقينَ ما فعلَه بالكافرينَ.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) لماذا؟
ما العلةُ المانعتُهم من الإيمانِ مع الإنذارِ؟
(خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
كذلكَ المنافقونَ أيضاً لم يكونوا صمًّا بكماً عمياً,كانتْ لهم آذانٌ يسمعون بها، وأعينٌ يبصرونَ بها، وقلوبٌ يفقهونَ بها, ولكنَّهم لما عطَّلوها عن وظيفتِها التي خلقَها اللهُ لها, كانوا كالكافرينَ, ختمَ اللهُ على قلوبِهم كما قالَ تعالى (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ).
عن ابن عباس في هذه الآية قال أما النور فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك.
قال العلماء: وهذا يدلُّ على أنَّ من آثرَ الضلالةَ على الهدى بعدَ إذ جاءهُ فقد استحكمتْ الضلالةُ في قلبِه, فهو لا يَرجعُ إلى الهدى أبداً. بخلافِ الجاهلِ الذي يقعُ في الضلالةِ, فهذا أمرُه سهلٌ, قد يرى الحقَّ فيتَّبِعُه, ويجيئُه الهدى فيقبلُه.
أما الذي اشترى الضلالةَ بالهدى فهو لا يمكنُ أن يرجعَ إلى الهدى مرةً ثانيةً.
من فوائد الاية
1- ضرب الأمثال ، وفائدته تقريب المعنى .
2- أن هؤلاء المنافقين – بسبب نفاقهم – فاتهم النور وهو الإيمان .
3- أن النفاق ظلمة ووحشة في القلب .
4- أن المعاصي لها تأثير على الإنسان ، فالله أصم آذان هؤلاء المنافقين ، فلا يسمعون الحق ، ولو سمعوا ما انتفعوا .
قال ابن القيم مبيناً أن من أراد طلب العلم فعليه بالابتعاد عن المعصية وغض بصره وخطر إرساله : إنه – يعني غض البصر – يفتح له طريق العلم وأبوابه ، ويسهل عليه أسبابه ، وذلك بسبب نور القلب ، فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات ، ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه وأظلم وانسد عليه باب العلم وطرقه .
ولايفهم أن المقصود من غض البصر هو عدم النظر للنساء أو العكس ولكن المقصود أكبر من ذلك فمنه غض البصر عن متاع الحياة الدنيا ومنها غض البصر عن عيوب الناس ومنها غض البصر عن طريق المسلمين فكل ذلك يجعل قلب المتعلم في خيركبير.
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ), هذا المثلُ ضربَه الله للمنافقينَ الخُلْصِ الذين آمنوا ثم كفروا.
هناك منافقون َقالَ اللهُ تباركَ وتعالى فيهم: مذبذبينَ بين ذلك؛ يعني مترددينَ... الحقُّ أحياناً يتضح لهم فيمشون معه في طريقِه، وأحياناً تغشاهم الغَشاوةُ فيتركونَ الحقَّ. فقال:
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ......(20))
ذهبَ بعضُ المفسرينَ إلى أنَّ ( أو ) هنا للتخييرِ, والمرادُ: مَثِّل إنْ شئتَ المنافقينَ بهذا المثلِ, أومثِّلهم بهذا المثلِ... اضربْ للمنافقينَ مثلاً المثلَ الأول, أو اضربْ لهم المثلَ الثاني, فهذا مثلُهم؛ مثَلُهم كذا أوكذا.
فالمعنى على هذا أن للمنافقين مثلين ، مثل الذي استوقد ناراً ، ومثل أصحاب الصيب
ورجَّح ابنُ كثيرٍ وغيرُه أنَّ المثلَ الأولَ خاصٌ بالمنافقينَ الخُلْصِ الذين آمنوا ثمَّ كفروا، والمثلَ الثاني خاصٌ بالمنافقينَ المذبذبينَ المترددينَ.
الصيِّبُ, المرادُ به المطرُ, وكلُّ ما نزلَ من أعلى إلى أسفل فهو صيِّبٌ.
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ)؛ ظلمةُ الليلِ, وظلمةُ المطر, وظلمةُ السحابِ.
ضرب الله في هذه الآية مثلاً لما جاء به محمد e من الهدى والعلم بالمطر ، لأن بالعلم والهدى حياة الأرواح ، كما أن بالمطر حياة الأجسام ، وقد قال e ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً .... ) متفق عليه .
قال السعدي : فهكذا حال المنافقين ، إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ، ووعده ووعيده ، جعلوا أصابعهم في آذانهم ، وأعرضوا عن أمره ونهيـه ، ووعده ووعيده ، فيروعهم وعيده ، وتزعجهم وعوده ، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم ، ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد ، فيجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت ، فهذا ربما حصلت له السلامة ، وأما المنافقون فأنى لهم السلامة ، وهو تعالى محيط بهم ، قدرة وعلماً .
(فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ)
سُئلَ النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ عن الرَّعدِ فقال:(مَلَكٌ يسوقُ السحابَ). فقيل: مابالُ الصوتِ الذي نسمعُه هذا؟ قال: (بيدِ المَلَكِ مخاريقُ من نارٍ يُزجي بها السحابَ فإذا ساقَه سُمِعَ له هذا الصوتُ).
فالرَّعدُ مَلََكٌ من الملائكةِ موكَّلٌ بالسحابِ. موكَّلٌ بالمطرِ. معه مخاريقُ من نارٍ يسوقُ بها السحابَ, فإذا ساقَه وانضمَّ بعضُه إلى بعضٍ, سُمِعَ له ذلك الصوتُ وخرجَ منه البرقُ؛ هذه النارُ التي تُرى عندَ الصواعقِ أو عندَ الرعدِ.
يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي ءاذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ)
الصواعقُ: جمعُ صاعقةٍ, والصاعقةُ هي الصيحةُ الشديدةُ القويَّةُ, الزائدةُ في شدَّتِها وقوتِها.
ولذلك قومُ ثمودَ أُهلِكوا بماذا؟ بالصاعقةِ. وفي آيةٍ ثانيةٍ بالصيحةِ, بالصاعقةِ والصيحةِ. فهي صيحةٌ شديدةٌ صُعِقَ منها القومُ... ومن عادةِ الإنسانِ عندما يسمعُ صوتاً قوياً أن يقومَ بسدِّ أذنيه مخافةَ أن يؤثِّرَ هذا الصوتُ القويُّ في أذنِه.
هذا مثل آخر لهؤلاء المنافقين ، وصورة منطبقة على حالهم ، هي مطر غزير في ظلمات مصحوب برعد قاصف وبرق خاطف وهم في وسطه مذعورون خائفون يسدون آذانهم بأنامل أصابعهم حتى لا يسمعوا صوت الصواعق حذراً أن تنخلع قلوبهم فيموتوا ، ولم يجدوا مفراً ولا مهرباً ، لأن الله تعالى محيط بهم ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإن البرق لشدته وسرعته يكاد يخطف أبصارهم فيعمون ، فإذا أضاء لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه ، وإذا انقطع ضوء البرق وقفوا حيارى خائفين ، هذه حال أولئك المنافقين فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع كما قال تعالى "يحسبون كل صيحة عليهم" وقال "ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون" " والبرق" هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان ولهذا قال "يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت .
وصوت الرعد قوي، أقوى من طاقة الأذن. ولذلك عندما يسمعه الإنسان يفزع، ويحاول أن يمنع استقبال الأذن له، بأن يضع أنامله في أذنيه.
وهؤلاء المنافقون لم يضعوا الأنامل. ولكن كما قال الله سبحانه وتعالى: "يجعلون أصابعهم في آذانهم" أي أطراف أصابعهم وهي الأنامل، وهذا من باب تسمية الكل والمراد به البعض. ولم يقل أناملهم. وذلك مبالغة في تصوير تأثير الرعد عليهم فكأنهم من خوفهم وذعرهم يحاول كل واحد منهم أن يدخل كل إصبعه في أذنه. ليحميه من هذا الصوت المخيف. فكأنهم يبالغون في خوفهم من الرعد.
ونلاحظ هنا أن الحديث ليس عن فرد واحد، ولكن عن كثيرين .. لأنه سبحانه وتعالى يقول "أصابعهم" أي أن الأمر لجماعة يعني أمراً لكل فرد فيها، فإذا قال المدرس للتلاميذ أخرجوا أقلامكم، فمعنى ذلك أن كل تلميذ يخرج قلمه.. لذلك فإن معنى "يجعلون أصابعهم في آذانهم" أن كل واحد منهم يضع إصبعيه في أذنيه..
لماذا يفعلون ذلك؟! أنهم يفعلون خوفا من الموت. لأن الرعد والبرق يصاحبهما الصواعق أحيانا، ولذلك فإنهم من مبالغتهم في الخوف يحس كل واحد منهم أن صاعقة ستقتله
والمعنى كلما تليت عليهم آيات الكتاب العزيز جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن فيؤمنوا به وبمحمد e ، وهذا كما فعل قوم نوح إذ حكى نوح عليه السلام فعلهم معه فقال (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً).
ولا يُنجِيهم هذا، فلا يُغني حذرٌ من قدرٍ؛ ولذلك قال تعالى: والله محيط بالكافرين" تهديد للكافرين ، فالله جل وعلا محيط بالكافرين وبأعمالهم ، فهو محيط بهم كإحاطة السور بمن في داخله ، فلا يتمكنوا أن يفروا من الله ومن عذابه وسطوته وهذا مثل لعدم خلاص المنافق من عذاب الله وإن الموت من ورائهم. أي ولا يجدى عنهم حذرهم شيئا لأن الله محيط بقدرته وهم تحت مشيئته وإرادته لا يفوتونه ولا يعجزونه. كما قال "هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط" بهم فخوفهم من زوال متع الدنيا ونفوذها لن يفعل لهم شيئا. لأن الله محيط بالكافرين .. والإحاطة معناها السيطرة التامة على الشيء بحيث لا يكون أمامه وسيلة للإفلات، وقدرة الله سبحانه وتعالى محيطة بالكافرين وغير الكافرين .. إذن عدم التفاتهم للنفع الحقيقي، وهو منهج الله، لا يعطيهم قدرة الإفلات من قدرة الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة.
والقرآن ينزل بذكر الكفر وهو ظلمات ، وبذكر الوعيد وهو كالصواعق والرعد ، وبالحجج والبينات وهي كالبرق في قـوة الإضــاءة وهم خائفون أن ينزل القرآن بكشفهم .
قالَ بعضُ العلماءِ: المرادُ بالإحاطةِ هنا: إحاطةُ العلمِ والقدرةِ، كما قالَ اللهُ تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا). الطلاق 12

وقالَ بعضُ المفسرينَ: الإحاطةُ هنا: هي إحاطةُ العلمِ؛ يعني اللهُ محيطٌ بهم علما,ً فمهما أَخفَوا من الكفرِ فاللهُ عليمٌ بهم، ومهما أسرُّوا في أنفسِهم فاللهُ به عليمٌ.
وقالَ بعضُ المفسرينَ: المرادُ بالإحاطةِ هنا إحاطةُ الهلاكِ. لأنَّ العدوَّ إذا أحاطَ بعدوِّه أهلكَهُ.
ولذلكَ لما طلبَ إخوةُ يوسُفَ من أبيهم أن يُرسِلَ معهم أخاهم الثاني بعدَ يوسُف حتى يكتالوا، ويزدادوا كيلَ بعيرٍ، قال: (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ)يوسف من الآية 66
اذهبوا جميعاً ولا تعودوا, ولكن لا تأخذوا الولد وتتركوه كما تركتم أخاه من قبل.
أعطوني موثقاً وعهداً أنكم تعودونَ كلكم ، أو تهلكونَ كلكم.
فقالوا: المرادُ بالإحاطةِ: إحاطةُ الهلاكِ يعني: إنَّ اللهَ مهلكُ الكافرينَ.
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ)
فعل( يكادُ) وما تصرَّفَ منه من أفعالِ المقاربةِ، والتي تدلُّ على قُربِ الفعلِ. قالوا: إذا أُثبِتَ انتفى الفعلُ, وإذا نُفي وقعَ الفعلُ؛ فعل (يكاد) إذا أُثبت يكونُ الفعلُ منفياً، وإذا نُفيَ (يكادُ) يكون الفعل ثابتاً. كما قال تعالى:
(يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ), فيكادُ هنا مثبتٌ إذاً الخطفُ هنا لم يحدثْ البرقُ لم يخطفْ أبصارَهم، بل يكاد....
وفي قوله تعالى (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ) من الآية 71, يكادُ هنا منفي، إذاً الفعلُ مثبتٌ, فقد ذبحوها، ولكنهم كادوا ألا يذبحوها.
ففعلُ كاد من الأفعالِ التي تدلُّ على المقاربة؛ يكادُ يفعل كذا.
يكاد البرق يخطف أبصارهم" ومعنى يخطف يستلب وأصل الاختطاف الاستلاب
أي يسلب أبصارهم يأخذها بسرعة -من شدة لمعانه- وقوته في نفسه وضعف بصائرهم وعدم ثباتها للإيمان .
عن ابن عباس "يكاد البرق يخطف أبصارهم" أي لشدة ضوء الحق كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه وتارة تعرض لهم الشكوك أظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين .
وعنه ايضا يقول كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه وإذا أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله تعالى "ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به" أي يعرفون الحق ويتكلمون به فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا أي متحيرين .
كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ), يمشونَ في الليلِ... ظلامٌ، مطرٌ، رعدٌ، برقٌ... كلَّما أضاءَ لهم البرقُ قليلا مشوا مهتدين بإضاءتِه، وعندما ينتهي البرقُ تظلمُ فيقفونَ.
وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطي الناس النور بحسب إيمانهم فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ وأكثر من ذلك وأقل من ذلك ومنهم من يطفأ نوره تارة ويضيء أخرى ومنهم من يمشي على الصراط تارة ويقف أخرى ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخلص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم " يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا" وقال في حق المؤمنين "يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار" الآية وقال تعالى " يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير" عن عبدالله بن مسعود قال يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا على إبهامه يطفأ مرة ويتقد مرة وهكذا فاالناس أقساما مؤمنون خلص وهم الموصوفون بالآيات الأربع في أول البقرة وكفار خلص وهم الموصوفون بالآيتين بعدها ومنافقون وهم قسمان خلص وهم المضروب لهم المثل الناري ومنافقون يترددون تارة يظهر لهم لمع الإيمان وتارة يخبو وهم أصحاب المثل المائي وهم أخف حالا من الذين قبلهم. وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور من ضرب مثل المؤمن وما جعل الله في قلبه من الهدى والنور بالمصباح في الزجاجة التي كأنها كوكب دري وهي قلب المؤمن المفطور على الإيمان واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية الواصلة إليه من غير كدر ولا تخليط .
ثم ضرب مثل الكفار الذين يعتقدون أنهم على شيء وليسوا على شيء وهم أصحاب الجهل المركب في قوله تعالى "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا" الآية ثم ضرب مثل الكفار الجهال الجهل البسيط وهم الذين قال تعالى فيهم "أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور" فقسم الكفار هاهنا إلى قسمين داعية ومقلد كما ذكرهما في أول سورة الحج "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد" وقال "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير" وقد قسم الله المؤمنين في أول الواقعة وفي آخرها وفي سورة الإنسان إلى قسمين سابقون وهم المقربون وأصحاب يمين وهم الأبرار.

ملخص هذه الآيات الكريمات أن المؤمنين صنفان مقربون وأبرار وأن الكافرين صنفان دعاة ومقلدون وأن المنافقين أيضا صنفان منافق خالص ومنافق فيه شعبة من نفاق كما جاء في الصحيحين عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم "ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان"
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر وقلب أغلف مربوط على غلافه وقلب منكوس وقلب مصفح.

فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن فسراجه فيه نوره وأما القلب الأغلف فقلب الكافر وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه"
قال الشنقيطي : ضرب الله في هذه الآية المثل للمنافقين إذا كان القرآن موافقاً لهواهم ورغبتهم عملوا به ، كمناكحتهم للمسلمين وإرثهم لهم ، وعصمتهم به من القتل مع كفرهم بالباطن ، وإذا كان غير موافق لهواهم كبذل الأنفس والأموال في الجهاد في سبيل الله المأمور به فيه وقفوا وتأخروا ، وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون . وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين )
وقال بعض العلماء ( كلما أضاء لهم مشوا فيه ) أي إذا أنعم الله عليهم بالمال والعافية قالوا : هذا الدين حق ما أصابنا منذ تمسكنا به إلا الخير، ( وإذا أظلم عليهم قاموا ) أي: وإن أصابهم فقر أو مرض أو ولدت لهم البنات دون الذكور، قالوا : ما أصابنا هذا إلا بشؤم هذا الدين وارتدوا عنه ، فهذا مثلُ المنافقينَ المذبذبينَ، وفيهم قالَ اللهُ نعالى ( ومن الناس من يعبد الله على حرف ، فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ) . سورة الحج
فهؤلاءِ المنافقون: طالما كان الرزق وفيراً، والأمنُ مستتباً، وكلُّ شيء على ما يُرام, فدينُ محمدٍ عندهم هو أفضلُ دينٍ، أجملُ دين... فما دامتْ الدنيا مفتوحةً عليهم يكونُ الدينُ خيرَ دينٍ... وإذا قُدرتْ عليهم أرزاقُهم قالوا ما أصابَنا من سوءٍ إلا بسببِ هذا الدينِ.
(وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ). ننتبه هنا في الفرقٌ بين: (ختمَ اللهُ على قلوبِهم وعلى سمعِهم) وبين (وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ).
لو شاءَ اللهُ لذهبَ بسمعِهم وأبصارِهم الحسيةِ... هناك قلنا (صمٌّ بكمٌ عميٌ) : لم يكونوا صمًّا، ولم يكونوا بكماً، ولم يكونوا عمياً.
كانوا يسمعونَ، ويرونَ، ويتكلمونَ.
وهنا يقولُ اللهُ تعالى: أنهم لمّا عطَّلوا هذالحواسَّ,الله تبارك وتعالى خلقَ لهم هذه الحواسَّ لأنها وسائلُ الإدراكِ والمعارفِ: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا). وحتى تتعلموا: (وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).النحل78
إذاً اللهُ تعالى خلقَ لنا هذه الحواسَّ؛ السمعَ والبصرَ والفؤادَ حتى نتعرفَ بها على دلائلِ وحدانيةِ اللهِ, فنؤمن به, ونتعرَّف على دلائلِ نبوةِ الأنبياءِ فنتبعُّهم.
فهم لما عطَّلوا هذه الحواسَّ, ختمَ اللهُ عليها, فلم يعودوا ينتفعون بها. لكنها موجودةٌ, هم يرونَ ويسمعونَ ويعقلونَ. لكن يرونَ ما لا ينفعُهم, ويسمعونَ ما لا ينفعُهم, ويعقلون ما لاينفعُهم؛ فكأنّ هذه الحواسَّ غيرُ موجودةٍ.
فالله يهدّدُهم هنا بذهابِ هذه الحواسِّ على الحقيقةِ (وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ)؛ فلم يعودوا يسمعون أو يبصرون.
كما قال تعالى: ( قل أرأيتُم إنْ أخذَ اللهُ سمعَكم وأبْصَارَكُمْ وخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ مَنْ إلَهٌ غيُر اللهِ يأتيكُمْ بِهِ)الأنعام من الآية 46.
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } أي: الحسية, ففيه تحذير لهم وتخويف بالعقوبة الدنيوية, ليحذروا, فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم.
ولولا إمهال الله لهم لسلب سمعهم وأبصارهم, وهو قادر على ذلك في كل وقتٍ, إنه على كل شيء قدير. فلا يعجزه شيء، ومن قدرته أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ولا معارض. وفي هذه الآية وما أشبهها, رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة الله تعالى, لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله: { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لا يعجزُ ربُّنا عن شيءٍ، ولا يُعجِزُه شئٌ (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) سورة فاطر 44
(‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) النحل 40

(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس 82
( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ) دون أن تحدث الصواعق ، ودون أن يحدث البرق ، ولهذا قال :( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
وجرت العادة بذكر قدرته عند الأمور التي لا يستطيعها البشر ، كما ذكر ذلك عند نصره لعباده الضعفاء المتمسكين بدينه كقوله تعالى في الأحزاب (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) وقال (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً).
ومن قدرته أنه سبحانه يعز من يشاء ويذل من يشاء ويؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء كما قال تعالى (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : الآية عامة ، فهو قدير على كل شيء ، على ما شاءه وما لم يشأه ، وبهذا نعرف أن تقييد بعض الناس القدرة بالمشيئة خطأ ، لأن الله قادر على ما يشاء وعلى ما لا يشاء ، وأما قوله تعالى (وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ) فالمشيئة هنا ليست عائدة على القدرة ، ولكنها عائدة على الجمع ، يعني : إذا أراد جمعهم وشاء جمعهم فهو قدير عليه لا يعجزه شيء .
فنسألُ اللهَ سبحانه وتعالى بأسمائِه الحسنى, وصفاتِه العلا, أن يمتِّعَنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقوتِنا ما أحْيانَا.
فضربَ اللهُ في هذه الآياتِ هذينِ المثلينِ لصنفينِ من المنافقينَ:
المنافقون الخلْصُ، والمنافقونَ المذبذبونَ المتردِّدونَ.
فوائد من المثلين ذكرهما ابن القيم رحمه الله :
قال رحمه الله : وقد اشتمل هذان المثلان على حكم عظيمة :
1 أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره لا من قبل نفسه ، فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة ، وهكذا المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد ومحبة بقلبه ، وتصديق جازم ، كان ما معه من النور كالمستعار .
2- أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة تحمله ، فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح يقوم بها ويدوم بدوامها ، فإذا ذهبت مادة الإيمان طفىء ، كما تنطفىء النار بفراغ مادتها .
3- أن الظلمة نوعان : ظلمة مستمرة لم يتقدمها نور ، وظلمة حادثة بعد النور ، وهي أشد الظلمتين وأشقهما على من كانت حظه ، فظلمة المنافق ظلمة بعد إضاءة ، فمثلت حاله بحال المستوقد للنار الذي حصل في الظلمة بعد الضوء ، وأما الكافر فهو في الظلمات لم يخرج منها قط .
4- أن المثل الأول متضمن لحصول الظلمة التي هي الضلال ، والحيرة التي ضدها الهدى ، والمثل الثاني متضمن لحصول الخوف الذي ضده الأمن فلا هدى ولا أمن ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) .
ومن الفوائد التي ذكرها المفسرين
. 1- بلاغة القرآن أن الله تعالى يضرب الأمثال المحسوسة للمعاني المعقولة حتى يدركها الإنسان جيداً، كما قال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43] ..
1- ثبوت القياس، وأنه دليل يؤخذ به؛ لأن الله أراد منا أن نقيس حالهم على حال من يستوقد؛ وكل مثل في القرآن فهو دليل على ثبوت القياس..
2- أنالإيمان نور له تأثير حتى في قلب المنافق؛ لقوله تعالى: {فلما أضاءت ما حوله}: الإيمان أضاء بعض الشيء في قلوبهم؛ ولكن لما لم يكن على أسس لم يستقر؛ ولهذا قالتعالى في سورة المنافقين . وهي أوسع ما تحدَّث الله به عن المنافقين: {ذلك بأنهمآمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم} [المنافقون: 3] ..
3- أن الله تعالىجازاهم على حسب ما في قلوبهم: { ذهب الله بنورهم }، كأنه أخذه قهراً..
فإنقال قائل: أليس في هذا دليل على مذهب الجبرية؟
فالجواب: لا؛ لأن هذا الذيحصل من رب العباد عزّ وجلّ بسببهم؛ ونتذكَّر دائماً قول الله تعالى: {فلما زاغواأزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] . حتى يتبين لنا أن كل من وصفه الله بأنه أضله فإنماذلك بسبب منه.
5-ومن فوائد الآيتين: تخلي الله عن المنافقين؛ لقوله تعالى: (وتركهم) ومن تخلى الله عنه فهو هالك . ليس عنده نور، ولاهدًى، ولا صلاح؛ لقوله تعالى: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون).
- 6 ومن فوائدالآيتين: أن هؤلاء المنافقين أصم الله تعالى آذانهم، فلا يسمعون الحق؛ ولو سمعوا ماانتفعوا؛ ويجوز أن يُنفى الشيء لانتفاء الانتفاع به، كما في قوله تعالى: {ولاتكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} (الأنفال: 21)
- 7 ومنها: أن هؤلاءالمنافقين لا ينطقون بالحق كالأبكم وأنهم لا يبصرون الحق كالأعمى وأنهم لا يرجعون عن غيِّهم؛ لأنهم يعتقدون أنهم محسنون،وأنهم صاروا أصحاباً للمؤمنين، وأصحاباً للكافرين هم أصحاب للمؤمنين في الظاهروأصحاب للكافرين في الباطن ومن استحسن شيئاً فإنه لا يكاد أن يرجع عنه..
_ 8 تهديد الكفار بأن الله محيط بهم؛ لقوله تعالى: ( والله محيط بالكافرين).
9 -أن البرق الشديد يخطف البصر ولهذا يُنهى الإنسان أن ينظر إلىالبرق حال كون السماء تبرق؛ لئلا يُخطف بصره.
10 -ومنهاإثبات مشيئة الله لقوله تعالى: ( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم).
-11 ومنها أنه ينبغي للإنسان أن يلجأ إلى الله عزّ وجلّ أن يمتعه بسمعه، وبصره؛ لقوله تعالى: { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم }؛ وفي الدعاء المأثور: "متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا".
- 12 ومنها: عموم قدرة الله تعالى على كل شيء؛ فهو جلّوعلا قادر على إيجاد المعدوم، وإعدام الموجود، وعلى تغيير الصالح إلى فاسد، والفاسدإلى صالح، وغير ذلك..





أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم

اللهم لك الحمد بما أنعمت علينا به وأوليت

اللهم ما كان من توفيق فلك الحمد عليه أنت وحدك

وما كان من خطأ فأسأله العفو

فالحمد لله

اللهم ألهمنا رشدنا ووفقنا لما تحب وترضى



سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لااله الا أنت نستفغرك ونتوب اليك
 
المحاضرة السادسة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز: }وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ{. والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، القائل: ((خَيْرُكم مَن تَعلّم القرآنَ وعلَّمَه))، وعلى آله وصحْبه الذين تعاهدوا القرآن الكريم، وتَلَوْه حقّ تلاوته كما سمعوه مِن فِيه -صلى الله عليه وسلم-، وعملوا بما فيه، وساروا على هداه، فنالوا بذلك الأجر العظيم والنعيم المقيم.
أما بعد :فإنَّ أصدقَ الحديثِكتابُ الله , وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله ُعليه وآله وسلم , وشرَّ الأمورمحدثاتهُا , وكلَّ محدثة بدعة , وكلَّ بدعة ضلالة , وكلَّ ضلالة فى النار


(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21)
بعد أن حدثنا الله سبحانه وتعالى عن صفات المنافقين في ثلاث عشرة آية وأعطانا أوصافهم الظاهرةوأعطانا أمثله لما يحدث في قلوبهم كي يعرفهم المؤمنون ظاهرا وباطنا ويحذروهم ولا يأمنوا لهم , بين لنا كيف أن المنافقين لم يكفروا بالله كإله فقط ولكن كفروا به كرب. والرب عطاؤه مكفول لكل من خلق مؤمنهم وكافرهم، فهو سبحانه وتعالى الذي استدعاهم للوجود وخلقهم. ولذلك فإنه سبحانه يضمن لهم رزقهم وحياتهم.
فشرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة.فتوجَّهَ بالخطابِ إلى ألناسِ كافَّةً : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
إنه النداء إلى الناس كلهم ( يَا أيُّهَا النَّاسُ), نداء من الله للناس كافة وأمرا للبشرية جمعاء وهنا التفاتٌ من الغيبةِ إلى الخطابِ. كما في سورةِ الفاتحةِ )إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ( 5 خطابٌ بعد الغيبةِ ) الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{2} الرَّحْمـنِ الرَّحِيم{3} مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ{4 ).
هنا أيضاً حديثٌ بأسلوبِ الغيبةِ ثم التفاتٌ من الغيبةِ إلى الخطابِ حتى يثيرُ الهممَ ويُلفتُ الانتباهَ ويحركُ النفوسَ نحو الاستجابةِ والسمعِ والطاعةِ ) يا أيها الناس( . لم يقل )يا أيها الذين آمنوا (,يا أيها الناسُ بأصنافِهم الثلاثةِ, يا: حرف نداء , وقال البعض أنها اسم فعل معناها: أنادي, وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلابها, وهي أعم حروف النداء , إذ ينادي بها القريب والبعيد والمستغاث والمندوب .
نداء للناس كافة هذا أول أمر في القرآن الكريم وهو الأمر بعبادة الله تبارك وتعالى وأمرا للبشرية جمعاء , أن تختار الصورة الكريمة المستقيمة . الصورة النقية الخالصة . الصورة العاملة النافعة . الصورة المهتدية المفلحة . . صورة المتقين
لعبادة ربهم الذي خلقهم والذين من قبلهم . ربهم الذي تفرد بالخلق , فوجب أن يتفرد بالعبادة .
(اعبدوا ربَّكُم)... لما يتوجَّه الأمرُ للمؤمنينَ يكونُ المرادُ به ماذا؟ يكونُ المرادُ به الثباتَ والزيادةَ اثبتُوا على ما هداكم إليه الله واستزيدوا منه.
كما قلنا في سؤالِ المؤمنينَ: (اهدنا الصّراطَ المستقيمَ) أي: ثبِّتْنا على ما هديتَنا وزِدْنا هدى. (يا أيهاالذين امنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم) الحج من الآية 77 هذا أمرٌ خاصٌّ بالمؤمنينَ.
( اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) أي : اخضعوا وذلوا لله سبحانه وتعالى , وأصل العبادة في لغة العرب : الذل والخضوع , وقيل للعبد ( عبد ) لذله وخضوعه لسيده , فالعبادة : الذل والخضوع على وجه المحبة خاصة , فلا تكفي المحبة دون الذل والخضوع , ولا يكفي الذل والخضوع دون المحبة , لأن الإنسان إذا كان ذله متجرداً عن محبة الله يُبغض الذي هو يذل له , ومن أبغض ربه هلك , وإذا كانت محبةً خالصة لا خوف معها , فإن المُحب الذي لا يُداخله خوف يحمله على أن يسيء الأدب , ويرتكب أموراً لا تنبغي ، والله عز وجل لا يليق به شيء من ذلك ( قاله الشنقيطي ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب , فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له , ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له , ولو أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له , ولهذا لا يكفي أحـدهما في عبادة الله تعالى ، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء ، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء ، بل لا يستحق المحبة والخضوع التام إلا الله تعالى.
فالعبادة تطلق على معنيين : أحدهما : التعبد : يعني التذلل لله , كما سبق .
وتطلق على المتعبد به ( بالنسبة لأفعال العباد ).
وهي : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة القلبية والجوارحية .
وقيل المراد بالعبادة هاهنا قولان أحدهما التوحيد والثاني الطاعة .
وتوجه الخطاب للصنفَين الآخرَيْن, الكافرينَ والمنافقينَ يكونُ على ظاهرِه: (اعبدوا ربكم ) لأنَّ الكافرينَ لا يعبدونَ اللهَ والمنافقينَ لا يعبدونَ للهَ... فاللهُ تباركَ وتعالى أمرَهم بعبادتِه.
وقد تكلَّمْنا في سورةِ الفاتحةِ على معنى العبادةِ وعلى أركانِ العبادةِ وعلى أصولِ العبادةِ. قالَ ابنُ عبَّاسٍ في قولِه تعالى: ( اعْبُدُوا رَبَّكُمْ ) : كلُّ أمرٍ في القرآنِ بالعبادةِ فالمُرادُ بهِ توحيدُ الله.
ونحن نعلم أنَّ التوحيدَ ثلاثةُ أقسامٍ:
1- توحيدُ الربوبيةِ.
2- توحيدُ الألوهيةِ.
3- توحيدُ الأسماءِ والصفاتِ.
والكافرونَ من المشركينَ وغيرِهم كانوا مُقرِّين بتوحيدِ الربوبيةِ, فاللهُ تباركَ وتعالى يُلزمُهم بتوحيدِ الألوهيةِ, من إقرارِهِم بتوحيدِ الربوبيةِ.
( اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) ربَّكم مَنْ؟ الذي خلقَكم )... (اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)
فذكرَ اللهُ تباركََ وتعالى في هذه الآيةِ دلائلَ استحقاقِه للعبادةِ، وهي الآياتُ الإنسانيةُ, والآياتُ الكونيةُ, التي جمعَها في قولِه سبحانَه في سورة الذارياتِ: ( وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) 21) سورة الذاريات .
إذاً هي: آياتٌ إنسانيةٌ, وآياتٌ كونيةٌ.
الآياتُ الإنسانيةُ: (اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ) وخلقَ الذين من قبلِكم. خلقَكُم وخلقَ آباءَكُم وأجدادَكم وآباءَكم الأقدمينَ, أي أوجدكم من العدم , وأوجد من قبلكم من الأمم الماضية.
هذا الذي خلقَنا هو الذي يجبُ أن نعبدَهُ ) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ( 8) سورة الانفطار .
)قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ (22)كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ( 23( سورة عبس )
وسيأتي في السورةِ إن شاءَ الله قولُه تعالى: (كيفَ تكفرونَ بالله)! بصيغة التعجبِّ )كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( سورة البقرة 28
سيدُنا إبراهيمُ الخليلُ لما تبرَّأَ من أبيه وقومه وما يعبدونَ من دونِ اللهِ قَالَ( أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) 77 سورة الشعراء.
هذا النَّفيُ (إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ) هذا الاستثناءُ يدلُّ على أنه تبرَّأ من كلِّ ما يعبدونَ وأثبتَ الولايةَ للهِ تعالى وحدَه, قال: (إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ), أي أنه وليِّي, ولماذا يا إبراهيمُ تتولَّى اللهَ وحدَه؟ قال: ( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ )82 سورة الشعراء.
أإلهٌ مع اللهِ يملِك شيئاً من ذلك؟! لا إله إلا الله...
ولذلك قالَ اللهُ تباركَ وتعالى: ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( سورة الروم 40 فاللهُ يلزمُهم بتوحيدِ الألوهيةِ لـمَّا كانوا مُقرِّين بتوحيدِ الربوبيةِ (اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
وللعبادة هدف لعلهم ينتهون إليه ويحققوه (لعلكم تتقون). اعبدوه لعلَّكم بعبادتِه تتقونَ عذابَه, فلا يُتَّقَى عذابُ الله بمثل عبادتِه وحدَه سبحانَه وتعالى. لعلكم تصيرون إلى تلك الصورة المختارة من صور البشرية صورة العابدين لله المتقين لله الذين أدوا حق الربوبية الخالقة فعبدوا الخالق وحده رب الحاضرين والغابرين وخالق الناس أجمعين ورازقهم من الأرض والسماء بلا ند ولا شريك.
( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) قال السعدي : يحتمل أن المعنى إذا عبدتم الله وحده اتقيتم بذلك سخطه وعذابه لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك .
ويحتمل : أن يكون المعنى أنكم إذا عبدتم الله صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى وكلا المعنيين صحيح وهما متلازمان .
وقيل : المعنى خلقكم لتتقوه .اعبدوا الله راجين للتقوى ولأن تقوا أنفسكم بالعبادة عذاب ربكم وهذا قول سيبويه.
قال ابن عباس لعلكم تتقون الشرك وقال الضحاك لعلكم تتقون النار وقال مجاهد لعلكم تطيعون .
وأصلُ التَّقوى أن يجعلَ العبد بينَه وبينَ ما يخافُ ويحذرُ شيئاً يَقِيه, فمن يخاف عذاب اللهِ إذأً يتقي عذابَ اللهِ بعبادةِ اللهِ عزَّ وجلَّ) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)( سورة غافر 60
إذاً الإنسان يستطيعُ أن يتقيَ النَّارَ بتوحيدِ اللهِ توحيدَ الألوهيةِ أي يعبدَ اللهَ لا يشركُ به شيئاً فلا يُتَّقى عذابُ اللهِ بمثلِ توحيدِه في الألوهيةِ.
ولذلكَ قالَ الله تعالى في الحديثِ القدسيِّ) يا ابنَ آدمَ لو أتيتَني بقُرَابِ الأرضِ خَطَايا ثمَّ لقيتَني لا تُشرِكُ بي شيئاً لأتيتُك بقُرابِهَا مغفرَةً( .
اعبدوا ربَّكم. وماالدليلُ على استحقاقِ اللهِ للعبادةِ؟ استدل على وجوب عبادته وحده, بأنه ربكم الذي رباكم ,أنه خلقكم بعد العدم, خلقَكُم وخلقَ الذين من قبلِكُم. هذه دلائلُ إنسانيةٌ في أنفسنا, ننظرْ في أنفسِنا. من خلقَنا ؟ أم خُلِقُوا من غيرِ شيءٍ؟ مستحيلٌ! أم هم الخالقونَ؟ مستحيلٌ! إذاً لا بُدَّ لهم من خالقٍ؟ من هذا الخالقُ؟ هو اللهُ سبحانَه وتعالى.​

من فوائد الآية .....
1- العناية بالعبادة يستفاد هذا منوجهين
الوجه الأول: تصدير الأمر بها با لنداء.
و الوجه الثاني: تعميم النداء لجميعالناس مما يدل على أن العبادة أهم شيء.
- 2 الإقرار بتوحيد الربوبية مستلزم للإقرار بتوحيد الألوهية لقوله تعالى: اعبدواربكم.. فإن الرب عزّ وجلّ يستحق أن يُعبد وحده ولايعبد غيره والعجب أن هؤلاء المشركين الذين لم يمتثلوا هذا الأمر إذا أصابتهم ضراءوتقطعت بهم الأسباب يتوجهون إلى الله، كما قال تعالى: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعواالله مخلصين له الدين [لقمان: 32] ؛ لأن فطرهم تحملهم على ذلك .
3- وجوب عبادة الله عزّ وجلّ وحده وهي التي خُلق لهاالجن والإنس وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56)
و"العبادة" تطلق على معنيين:
أحدهما: التعبد وهو فعل العابد.
والثاني: المتعبَّد به وهي كل قول، أو فعل ظاهر، أو باطن يقرب إلى الله عزّوجلّ..
5- إثبات أن الله عزّ وجلّ هو الخالق وحده وأنه خالق الأولينوالآخرين لقوله تعالى: ( الذي خلقكم والذين من قبلكم.
6- ومنها أن منطريق القرآن أنه إذا ذَكر الحكم غالباً ذَكر العلة الحكم: { اعبدوا ربكم }والعلة: كونه رباً خالقاً لنا ولمن قبلنا..
7- التقوى مرتبةعالية لا ينالها كل أحد إلا من أخلص العبادة لله عزّ وجلّ لقوله تعالى: (لعلكمتتقون ).
8- الحث علىطلب العلم إذ لا تمكن العبادة إلا بالعلم ولهذا ترجم البخاري رحمه الله علىهذه المسألة بقوله: "باب: العلم قبل القول والعمل ..

وإلى هنا نكتفي بهذا القدر , فما كان من توفيق فمن الله وحده وما كان من خطأ أو زلل أو نسيان فمنى ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه .
نسأل الله العظيم ,رب العرش العظيم , أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا, ونور صدورنا, وجلاء أحزاننا , وذهاب همومنا وغمومنا . اللهم ذكِّرنا منه ما نُسِّينا , وعلِّمنا منه ما جهلنا, وشفِّعه فينا, واجعله حجة لنا لا علينا, وارزقنا تلاوته آناء الليل , وأطراف النهار لعلك ترضى عنا .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين ,وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لاإاله الا أنت نستغفرك ونتوب اليك


 
الحمدلله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز: ( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ). والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، القائل: (خَيْرُكم مَن تَعلّم القرآنَ وعلَّمَه) وعلى آله وصحْبه الذين تعاهدوا القرآن الكريم، وتَلَوْه حقّ تلاوته كما سمعوه مِن فِيه -صلى الله عليه وسلم-، وعملوا بما فيه, وساروا على هداه, فنالوا بذلك الأجر العظيم والنعيم المقيم.
أما بعد:توقفنا في الدرس الماضي عند قوله تعالى:

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:22)
ثم الدلائلُ الكونيةُ في الأرضِ وفي السماءِ: ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ).وسميت الأرض أرضا لسعتها من قولهم أرضت القرحة إذا اتسعت وقيل لانحطاطها عن السماء وكل ما سفل أرض وقيل لأن الناس يرضونها بأقدامهم.
وقد وصفها الله بأوصاف كلها تدل على أن الله جعلها مستقرة ثابتة ممهدة فراشاً ,وأعدها لهم لتكون لهم سكنا مريحا وملجأ واقيا كالفراش كما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ) .وقال تعالى (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا)وقال تعالى ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ) وقال تعالى (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ) وقال تعالى ( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً ) والمراد بالقرار : مستقراً بالدحو والتسوية , أنها لا تميد بساكنيها ، أي لا تضطرب كما قال تعالى (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً ).
( مددناها ) بسطناها ووسعناها ( مهداً ) كالفراش الذي يُوطّأُ للصبي .
وهذه من أعظم النعم أن جعل سبحانه الأرض فراشاً ومهاداً موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات تستقرون عليها, وتنتفعون بالأبنية, والزراعة, والحراثة, والسلوك من محل إلى محل, وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها. وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة.
قال ابن القيم : وإذا نظرت إلى هذه الأرض وكيف خلقت ؟ رأيتها من أعظم آيات فاطرها وبديعها ، خلقها سبحانه فراشاً ومهاداً وذللها لعباده .
وسميت السماء سماء لعلوها قال الزجاج وكل ما علا على الأرض فاسمه بناء وقال ابن عباس البناء هاهنا بمعنى السقف.
والسماء بناء وهو السقف أي جعلها بمنزلة البناء وبمنزلة السقف فيها متانة البناء وتنسيق البناء . والسماء ذات علاقة وثيقة بحياة الناس في الأرض , وبسهولة هذه الحياة . وهي بحرارتها وضوئها وجاذبية اجرامها وتناسقها وسائر النسب بين الأرض وبينها , تمهد لقيام الحياة على الأرض وتعين عليها كما قال تعالى "وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون"وقال تعالى (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) .
وقال تعالى ( وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ) .
وأنزل من السماء ماء" والمراد به السحاب هنا أو المطر في وقته عند احتياجهم إليه فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار رزقا لهم ولأنعامهم .
والماء النازل من السماء هو مادة الحياة الرئيسية للأحياء في الأرض جميعا . فمنه تنشأ الحياة بكل أشكالها ودرجاتها (وجعلنا من الماء كل شيء حي). . سواء أنبت الزرع مباشرة حين يختلط بالأرض , أو كون الأنهار والبحيرات العذبة , أو انساح في طبقات الأرض فتألفت منه المياه الجوفية , التي تتفجر عيونا أو تحفر آبارا , أو تجذب بالآلات إلى السطح مرة أخرى .
الأرضُ، وما عليها، وما يخرجُ منها... هذه دلائلُ من دلائلِ قدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
السماءُ، وارتفاعُها، وما فيها، وما ينزلُ منها دلائلُ مندلائلِ توحيدِ اللهِ سبحانه وتعالى.
كما قالَ ذلكم الأعرابيُّ: إنّ البعرَ يدلُّ على البعيرِ، وإنّ الأثرَ يدلُّ على المسيرِ، فأرضٌ ذات فجاجٍ، وسماءٌ ذات أمواجٍ،وليلٌ ونهارٌ يتعاقبانِ، وشمسٌ وقمرٌ؛ أفلا يدلُّ ذلك على وجودِ اللطيفِ الخبيرِ؟!
ولذلك كثُرَ في القرآنِ الكريمِ الأمرُ بالتأمُّلِ في خلقِ السّماواتِ والأرضِ:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِوَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ) سورة آل عمران 190

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِبِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَابِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) سورة البقرة 164
وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين" الله هو الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره ولهذا قال "فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون" وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" الحديث . أن تجعل لله نِدًّا في العبادةِ وقد خلقَكَ وحدَه.
وكذا حديث معاذ "أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" الحديث وفي الحديث الآخر "لا يقول أحدكم ما شاء الله وشاء فلان ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان"
اللهُ الذي يجبُ أن تعبدوه, هو الذي جعلَ لكم الأرضَ فراشاً، وجعلَ لكم السَّماءَ بناءً، وأنزلَ لكم من السماءِ ماءً فأخرجَ به من الثَّمراتِ رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً.
(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءلَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(11)) سورةالنحل 10-11
(أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُون(68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ(70)) سورة الواقعة 63-70
( فلا تجعلوا لله أنداداً ) أن من أنعم بهذه النعم يستحق الشكر لا أن يجعل معه شريك ونظير.
الأندادُ: جمعُ نِدٍّ، والندُّ هو: النظيرُ والشبيهُ الكفءوالمِثلُ؛فلا تجعلوا لله أنداداً يعني شركاء أمثالا يقال هذا ند هذا ونديده , فلا تجعلوا لله أشباهاً ونظراء من المخلوقين فتعبدونهم كما تعبدون الله ، وتحبونهم كما تحبونه ، وهم مثلكم مخلوقون مرزوقون مدبرون ، وأنتم تعلمون : أن الله ليس له شريك ولا نظير ، لا ندَّ لهُ في الخلقِ والرزق والتدبير ، ولا في الألوهية والكمال فكيفَ تجعلونَ له ندًّا في العبادةِ ؟ اتخاذ الأنداد من دون الله هو أعظم ذنب يفعله الإنسان من أكبرِ الكبائرِ.
وفيما أريد بالأنداد هاهنا قولان أحدهما الأصنام قاله ابن زيد .
والثاني رجال كانوا يطيعونهم في معصية الله قاله السدي
قوله تعالى ( اعبدوا ربكم ... فلا تجعلوا لله أنداداً ) جمعت هذه الآية بين الأمر بعبادة الله تعالى ، والنهي عن عبادة ما سواه ، ففيه أنه لا بد للتوحيد والكفر بكل ما عبد من دون الله ، وقد قال e ( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله فقد عصم دمه وماله وحسابه على الله ) رواه مسلم ، فعلق النبي في هذا الحديث عصمة الدم والمال بأمرين .
عن ابن عباس قال:" الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل .وهو أن يقول:والله وحياتك يا فلان وحياتي . ويقول:لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة , ولولا البط في الدار لأتى اللصوص . وقول الرجل لصاحبه:ما شاء الله وشئت ! وقول الرجل:لولا الله وفلان . . هذا كله به شرك " . . . وفي الحديث أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت . قال:" أجعلتني لله ندا ? " !
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيها الناس، اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل))، فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: ((قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفره لما لا نعلم))


هكذا كان سلف هذه الأمة ينظر إلى الشرك الخفي والأنداد مع الله . . فلننظر أين نحن من هذا الورع ؟ وأين نحن من حقيقة التوحيد الكبيرة !!!
(قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَفَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ(32)) سورة يونس 31-32
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ) سورة الملك 30
(فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ(32)) سورة عبس 24-32
فاللهُ سبحانَه وتعالى يُلزمُهم بتوحيدِ الألوهيةِ بإقرارِهم بتوحيدِ الربوبيةِ.
وقيل في قوله تعالى (وأنتم تعلمون ) ستة أقوال .
أحدهما وأنتم تعلمون أنه خلق السماء وأنزل الماء وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وقتادة و مقاتل .
الثاني وانتم تعلمون أنه ليس ذلك في كتابكم التوراة والانجيل .
والثالث وأنتم تعلمون انه لا ند له قاله مجاهد .
والرابع أن العلم هاهنا بمعنا العقل قاله ابن قتبية .
والخامس وأنتم تعلمون أنه لا يقدر على فعل ما ذكره أحد سواه ذكره شيخنا علي بن عبيد الله .
والسادس وأنتم تعلمون أنها حجارة .
تعلمون أنه خلقكم والذين من قبلكم وتعلمون أنه جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء . وأنه لم يكن له شريك يساعد , ولا ند يعارض . فالشرك به بعد هذا العلم تصرف لا يليق !
أنتم تُقرُّون بأنّه الخالقُ الرازقُ المحيي المميتُ المعطي المانعُ مالكُ الملكِ مُدبِّرُ الأمرِ، فكيف تعبدونَ معه من لا يملكُ شيئاً من ذلك؟!
من فوائد الآية:
1-بيان رحمة الله تعالى وحكمته في جعل الأرض فراشاً إذ لو جعلها خشنة صلبة لا يمكن أن يستقرالإنسان عليها وما هدأ لأحد بال لكن من رحمته ولطفه وإحسانه جعلها فراشاً..
2- جعْل السماء بناءً وبذلكنعلم قدرة الله عزّوجلّ لأن هذه السماء المحيطة بالأرض من كل الجوانب كبيرة جداً وواسعة، كما قال تعالى: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} (الذاريات: 47).
3- بيان قدرة الله عزّ وجلّ بإنزال المطر من السماءلقوله تعالى: { وأنزل من السماء ماء } لو اجتمعت الخلائق على أن يخلقوا نقطة منالماء ما استطاعوا والله تعالى ينزل هذا المطر العظيم بلحظة وقصة الرجل الذي دخلوالنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قال: ادع الله يغيثنا فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم أغثنا" وما نزل من المنبر إلا والمطر يتحادر منلحيته..
4- حكمة الله سبحانه وتعالى ورحمته بإنزال المطر من السماء فلوكان الماء الذي تحيى به الأرض يجري على الأرض لأضر الناس ولو كان يجري على الأرض لحُرِم منه أراضٍ كثيرة . الأراضي المرتفعة لا يأتيها شيء ولكن من نعمة الله أن ينزل من السماء كما أنه ينزل رذاذاً يعني قطرةً قطرةً ولو نزل كأفواه القرب لأضر بالناس..
5- إثبات الأسباب لقوله تعالى: ( فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وأن الأسباب لا تكون مؤثرة إلا بإرادة الله عزّ وجلّ لقوله تعالى: ( فأخرج به ).
.6- - بيان قدرة الله وفضله بإخراج هذه الثمرات من الماء فنجد الأرض شهباء جدباء ليس فيها ورقة خضراء فينزل المطر وفي مدة وجيزة يخرج هذا النبات من كل زوج بهيج بإذن الله عزّ وجلّ كما قال تعالى: {ألم تر أن اللهأنزل من السماء ماءاً فتصبح الأرض مخضرَّة} [الحج: 63]


7- أن الله عزّوجلّ منعم على الإنسان كافراً كان أو مؤمناً لقوله تعالى: { لكم } وهو يخاطب فيالأول الناس عموماً لكن فضل الله على المؤمن دائم متصل بفضل الآخرة وفضل الله علىا لكافرمنقطع بانقطاعه من الدنيا..
8- تحريم اتخاذ الأنداد لله لقوله تعالى: { فلا تجعلوا لله أنداداً } وهل الأنداد شرك أكبرأوشرك أصغر وهل هي شرك جلي أو شرك خفي هذا له تفصيل في علم التوحيد خلاصته: إن اتخذ الأنداد فيالعبادة أوجعلها شريكة لله في الخلق، والملك، والتدبير فهو شرك أكبر وإن كان دون ذلك فهو شرك أصغركقول الرجل لصاحبه: "ما شاء الله وشئت"..
9 -- ينبغي لمن خاطب أحداً أن يبين له ما تقوم به عليه الحجة لقوله تعالى : { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } ولقوله تعالى في صدرالآية الأولى: {اعبدواربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} [البقرة: 21] فيه إقامة الحجة على وجوب عبادته وحده لأنه الخالق وحده..


ولما ذكرَ سبحانَه وتعالى دلائلَ التوحيد أتبعَها بذِكرِ دلائلِ النبوَّةِ فقال: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّانَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْشُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) سورة البقرة 23
· شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو فقال مخاطبا للكافرين "ولقد كان اليهود يشككون في صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وكان المنافقون يرتابون فيها - كما ارتاب المشركون وشككوا في مكة وغيرها - فهنا يتحدى القرآن الجميع . إذ كان الخطاب إلى "الناس " جميعا . يتحداهم بتجربة واقعية تفصل في الأمر بلا مماحكة وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصحة ما جاء به.
(عَلَى عَبْدِنَا ) فيه عظيم منزلة العبودية ، حيث وصف الله تبارك وتعالى نبيه بهذا الوصف في مقام التحدي . كما في هذه الآية.
وقد وصف الله نبيه بالعبودية في أعلى المقامات :
وفي مقام الإسراء والمعراج : قال تعالى ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ) .
وفي مقام الإيحاء : قال تعالى ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) .
وفي مقام الدعوة : قال تعالى ( وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً ) .
وقد قال تعالى عن المسيح ابن مريم ( إن هو إلا عبد أنعمنا عليه ) ، وقال e ( لا تطـروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد الله ورسوله ) رواه البخاري .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : والعبد كلما كان أذل لله وأعظـم افتـقاراً إليه وخضوعاً له : كان أقرب إليه وأعز له ، وأعظم لقدره ، فأسعد الخلق : أعظمهم عبودية لله ، وأما المخلوق فكما قيل : احتج إلى من شئت تكن أسيره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره ، وأحسن إلى من شئت تكن أميره .
وإن كنتم – يا معشر المعاندين للرسول الرادين دعوته الزاعمين كذبه , في شك واشتباه مما نزلنا على عبدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هل هو حق أو غيره ؟ فههنا أمر فيه الفيصلة بينكم وبينه وهو أنه بشر مثلكم ، ليس من جنس آخر وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم لا يكتب ولا يقرأ فأتاكم بكتاب أخبركم أنه من عند الله وقلتم أنتم أنه تقوله وافتراه فإن كان الأمر كما تقولون :( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ ) يعني من مثل القرآن فأتوا بسورة من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله فعارضوه بمثل ما جاء به واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله فإنكم لا تستطيعون ذلك .
قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير فالضمير في قوله ( من مثله )عائد على القرآن . أي المنزل ومن للبيان أي هي مثله في البلاغة وحسن النظم والإخبار عن الغيب . (وادعوا شهداءكم) آلهتكم التي تعبدونها أعوانكم ونصراءكم (من دون الله) أي غيره لتعينكم (إن كنتم صادقين) في أن محمدا قاله من عند نفسه فافعلوا ذلك فإنكم عربيون فصحاءَ مثله.
قال ابن عباس شهداءكم أعوانكم وقال السدي عن أبي مالك شركاءكم أي قوما آخرين ساعدونكم على ذلك أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم وقال مجاهد وادعوا شهداءكم قال ناس يشهدون به يعني حكام الفصحاء وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القصص "قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين" وقال في سورة الإسراء "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" وقال في سورة هود "أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين" وقال في سورة يونس "وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة من مثله وادعو من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين" وكل هذه الآيات مكية . ثم تحداهم بذلك أيضا في المدينة . تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئا من العلوم وبدليل قوله تعالى "فأتوا بعشر سور مثله" وقوله لا يأتون بمثله.
هذا دليلُ نبوةِ النبيِّ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذا القرآنُالكريمُ هذا القرآنُ المجيدُ هذا القرآنُ الحكيمُ هو الدليلُ القاطعُ على نبوةِ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
إذاً القرآن هو المعجزةُ الكبرى التي تدلُّ على نبوةِ النبيِّ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
كيف يُستدلُّ بالقرآنِ على أنَّ محمّداً هو رسولُ اللهِ؟
الجواب: إنَّ محمَّداً رجلٌ أميٌّ لا يقرأُ ولا يكتبُ... لم يجلسْ بين يدي معلمٍ ولم يخرجْ من الجزيرةِ العربيةِ في طلبِ العلمِ قط... ومع أميِّتِه جاءَبهذا الكتابِ الذي عجزَ العربُ أجمعون عن الإتيانِ بشيءٍ من مثلِه على الرغمِ من تكرُّرِ تحديهم أكثرَ من مرةٍ:
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْقَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا..)سورةالأنفال 31
وقال تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ) سورة الطور 34
أنتم تقولونَ إنَّ محمّداً افترى هذا القرآنَ من عندِه, وليس هو من عندِ الله، وأنتم تقدرونَ على الإتيانِ بمثله, إذاً فأتونَا بمثلِه: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ.(
وقال سبحانه (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُوَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)سورةا لإسراء 88
ثمَّ نزلَ في التحدِّي: (أَمْ يَقُولُونَافْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ .....) سورة هود من الآية 13
لم تقدروا على الإتيانِ بمثلِ القرآنِ كاملاً؟ فأتوا بعشرِ سورٍ مثلِه فقط.
ثمَّ نزلَ في التحدِّي: (أَمْ يَقُولُونَافْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ.....) سورةيونس من الآية 38
وهنا التحدِّي الأخيرُ كان في المدينةِ وكان فيها اليهود حتى لايقولوا: "محمَّدٌ يتحدَّى العربَ الأميينَ بأنْ يأتوا بمثلِ ما جاء به لأنهم عربٌ أميِّونَ فلن يستطيعوا أنْ يأتوا بمثلِه ولو أنَّه تحدانا نحنُ لأتينَا بمثلِه لأننا نحنُ أهلُ الكتابِ وأهلُ العلمِ فحتى لا يقولوا ذلك تكرَّر التحدِّي فيالمدينةِ في هذه الآيةِ، وفي أقلّ ممَّا سبقَ، قال (وَإِنكُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّنمِّثْلِهِ.....)سورة البقرة منالآية 23
وكلمةُ سورةٍ تشملُ أيَّ سورةٍ ولو كانتْ أقصرَ سورةٍ في القرآنِ لميقلْ فأتوا بسورةٍ مثل سورةِ البقرةِ! بل قال فَأْتُواْبِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ أيّ سورةٍ حتى وإنْ كانتْ أقصرَ سورةٍ. يعني(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَالْأَبْتَرُ(3). هذه أقصرُ سورةٍ فيالقرآنِ "سورةُ الكوثر". والإعجازُ كائنٌ فيها كما أنَّه كائنٌ في سورةِ البقرةِ فهم لا يستطيعونَ أن يأتوا بسورةٍ من مثلِه قصيرةً كانت أم طويلةً.
وانظروا منتهى التحدِّي؛ يقولُ: (ولنْ تفعلوا). فمثل أنَّكم لم تستطيعواالآن الإتيانَ بمثلِه لن تستطيعوا الإتيانَ بمثلِه إلى يومِ القيامةِ لن تستطيعوامدى الحياةِ الإتيانَ بشيءٍ من مثلِه لا يستطيعُ الإنسُ والجنُّ أن يأتوا بمثلِ هذا القرآنِ. وكيفَ يأتونَ بمثلِه وهو كلامُ خالقِ البشرِ؟! فكيف يُشبِهُ كلامُالبشرِ كلامَ خالقِ البشرِ؟! وهو القائلُ سبحانَه: (ليسَ كمثِله شيءٌ).فلا يمكنُ لأحدٍ أبداً مهما أُوتيَ من الفصاحةِ والبلاغةِأ ن يأتيَ بشيءٍ من مثلِ هذا القرآنِ.
إن كنْتُم صادِقين في قولِكم إنَّ محمَّداً افتراه.
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ) سورة الفرقان 4
قوله تعالى وادعوا شهداءكم من دون الله فيه قولان :
أحدهما أن معناه اسعينوا من المعونة قاله السدي والفرء.
والثاني استغيثوا من الاستغانة
وفي شهدائهم ثلاثة أقوال
أحدهما أنهم آلهتم قاله ابن عباس والسدي و مقاتل والفراء قال ابن قتيبة وسموا شهداء لأنهم يشهدونهم ويحضرونهم وقال غيره لأنهم عبدوهم ليشهدوا لهم عند الله .
و الثاني أنهم أعوانهم روي عن ابن عباس أيضا
والثالث أن معناه قأتوا بناس يشهدون ما تأتون به مثل القرأن روي عن مجاهد
وقيل : آلهتكم ، وقيل : ائتوا بشهداء يشهدون لكم أن ما أتيتم به يعادل القرآن أو يقاربه .وهذا غاية التحدي لهم .
قال ابن كثير : ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنوناً ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى ، ... فكلٌ من لفظه ومعناه فصيح لا يحاذى ولا يدانى ، فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء ، وأمر بكل خير ، ونهى عن كل شر كما قال تعالى ( وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً ) أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام ، فكله حق وصدق وعدل وهدى ، ..... لا يخلق عن كثرة الرد ، ولا يمل منه العلماء .
فإن كنْتُم صادقِين في قولِكم إنَّ محمَّداً افتراهُ فأتوا بسورةٍ مِن مثلِه؛ فإنْ لم تفعلوا الآن، ولن تفعلوا إلى يومِ القيامة... إذاً يلزمكم أن تؤمنوابأنَّ القرآنَ كلامُ الله ربِّ العالمينَ، وليسَ كلامَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
قوله تعالى إن كنتم صادقين أي في قولكم إن هذا القرأن ليس من عند الله قاله ابن عباس .
(فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَنتَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُوَالْحِجَارَةُ .
ولما عجزوا عن ذلك قال تعالى (فإن لم تفعلوا) : فإن لم تقدروا على الإتيان بسورة بمثل سورة من سوره . لعجزكم (ولن تفعلوا) ولن تقدروا في المستقبل أيضاً على الإتيان بمثله و ( لن ) هنا لنفي التأبيد في المستقبل أي ولن تفعلوا ذلك أبدا لظهور إعجازه وفي هذا معجزة أخرى وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين وأني يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام الله خالق كل شيء وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين ,قال الله تعالى "الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير" فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف , وقال تعالى "وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا" أي صدقا في الإخبار وعدلا في الأحكام فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها كما قيل في الشعر إن أعذبه أكذبه.
ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما الذي كان أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" لفظ مسلم - وقوله صلى الله عليه وسلم "وإنما كان الذي أوتيته وحيا" أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه بخلاف غيره من الكتب الإلهية فإنها ليست معجزة عند كثير من العلماء والله أعلم وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ولله الحمد والمنة.
فالقرآن الكريم معجز بجميع وجوه الإعجاز لأنه كلام الله وفيه منوجوه الإعجاز ما لا يدرك فمن ذلك:
أولاً: قوة الأسلوب وجماله والبلاغة والفصاحة وعدم الملل في قراءته فالإنسان يقرأ القرآن صباحاً ومساءً وربما يختمه في اليومين والثلاثة ولا يمله إطلاقاً لكن لو كرر متناً من المتون كما يكرر القرآن ملّ..
ثانيا : إن الإنسان كلما قرأه بتدبر ظهر له بالقراءة الثانية ما لم يظهر له بالقراءة الأولى.
ثالثاً: صدق أخباره بحيث يشهد لها الواقع وكمال أحكامه التي تتضمن مصالح الدنيا والآخرة لقوله تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً } (الأنعام: 115)
رابعاً: تأثيره على القلوب والمناهج وآثاره حيث ملك به السلف الصالح مشارق الأرض ومغاربها..
وأماكيفية الإعجاز فهي تحدي الجن والإنس على أن يأتوا بمثله ولم يستطيعوا .
( فَاتَّقُوا النَّارَ ) أي فخافوا النار واتقوها واحذروها ، واجعلوا بينكم وبين عذابها وقاية ، والوقاية من النار تكون بالإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر .
وقد أمر الله باتقائها في آيات كثيرة :
فقال تعالى (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) .
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) .
اتَّقوا النارَ بماذا؟ بالإيمانِ باللهِ وبالقرآنِ وبالذي نزَّلَ عليه القرآنُ, وبما جاءَ به مِن عندِ الرحمنِ وأنه ليس من كلام البشر لأنَّكم بقولِكم إنَّ هذا القرآنَ كلامُالبشرِ مُعرَّضونَ للعذابِ. كما قال تعالى في حقِّ الذي: ( قالإِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌيُؤْثَرُ(24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ(25)) قال تعالى: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَاتُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ(30)) سورة المدثر 24-30
فأنتم بقولِكم افتراهُ محمَّدٌ استحققْتُم العذابَ، فإذا كنْتُم تريدونَ اتِّقاءَ العذابِ فاتَّقوه بالإيمانِ بمحمَّدٍ وبما أُنزِلَ عليه؛ كما وصفَ المؤمنينَ في أولِ السورةِ: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَاأُنزِلَ إِلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ).
(فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَاالنَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أي مادة النار التي تشعل بها وتضرم لإيقادها الناس والحجارة .لا كنار الدنيا تتقد بالحطب ونحوه (أعدت) هُيِّئت (للكافرين) يعذبون بها جملة مستأنفة أو حال لازمة.. ولنا أن نتصوَّرَ شدَّةَ هذه النارِ التي وقودُهاالناسُ والحجارةُ، لونْظرناْ إلى النارِ التي وقودُها الورقُ! إلى النارِ التي نوقدُها بقليلٍ من الحطبِ! لَكَمْ تكونُ شدَّتُها كبيرةً! ثم نتصوَّر النارَ التيوقودُها الحجارةُ! والناسُ فيها أيضاً وقودٌ لها, والـمُرادُ بالناسِ: الكفار،قالوا: وهذه الآيةُ كقوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَاتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) سورةالأنبياء 98
حصبُ جهنمَ؛ أي: حطبُ جهنمَ.
قوله تعالى فأتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين .
والوقود بفتح الواو الحطب وبضمها التوقد كالوضوء بالفتح الماء وبالضم المصدر وهو اسم حركات المتوضئ وقرأ الحسن و قتادة وقودها بضم الواو والاختيار الفتح .والناس أوقدوا فيها بطريق العذاب والحجارة لبيان قوتها وشدتها إذ هي محرقة للحجارة وفي هذه الحجارة قولان احدهما أنها أصنامهم التي عبدوها قاله الربيع بن أنس والثاني أنها حجارة الكبريت وهي أشد الأشياء حرا إذا أحميت يعذبون بها ومعنى اعدت هيئت وإنما خوفهم بالنار إذا لم يأتوا بمثل القرآن لأنهم إذا كذبوه وعجزوا عن الاتيان بمثله ثبتت عليهم الحجة وصار الخلاف عنادا وجزاء المعاندين النار.
(...فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) أُعدَّتْ بلفظِ الماضي تدلُّ على أنَّ النارَ مخلوقَةٌ وموجودةٌ الآنَ كما ورد في الطَّحاويةِ :
والجنَّةُ والنَّارُ مخلوقتَانِ الآنْ ***** لا تَفْنَيانِ أبداً ولا تبيدَانْ
( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) أي هيئت للكافرين ، ففيه دليل على أن أهل النار هم الكفار الذين ماتوا على الكفر كما قال تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ) .
وقال تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .
ومن أهل النار المنافقين كما قال تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) .
قوله تعالى ( أعدت للكافرين ) فيه دليل على أن النار موجودة الآن ، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار موجودتان الآن والأدلة على ذلك كثيرة :
وكذلك قال تعالى في الجنة ( أعدت للمتقين ) بلفظِ الماضي أيضاً للجنَّةِ.
فمِنْ عقيدةِ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ؛ أنَّ الجنةَ مخلوقَةٌ وموجودةٌ الآنَ وكذلكَ النارُ لأنَّ اللهَ عبَّر عن النارِ بـ(أُعدَّتْ)بلفظِ الماضي وعبَّرَ بنفسِ الفعلِ عن الجنةَ قالَ تعالى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)آل عمران133 فعبَّرعن النارِ والجنةِ ب(أُعِدَّتْ) بلفظِ الماضي فالجنةُ مخلوقةٌ والنارُ مخلوقةٌ. ولذلك النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ رآهما في ليلةِا لمعراجِ ورآهما في صلاةِ الكسوفِ.
بينما هو جالسٌ مع أصحابِه إذ سمِعَ صوتُ فرقعةٍ فقال: أتدرونَ ما هذا؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلمُ قال: هذا حجرٌ رُمِيَ به في النارِ منذ سبعينَ خريفاً فهو الآنَ انتهى إلى قعرِها.
إذاً قوله: (أُعِدَّتْ), دليلٌ لأهلِ السنَّةِ على أنَّ النارَ والجنةَ موجودتانِ الآنَ. خُلِقَتا وفُرِغَ منهما.
وفي قولِه تعالى: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)إشارةٌ إلى أنَّ عُصاةَ المؤمنينَ الذين يدخلُونَ النارَ بذنوبِهم ولم يشأ اللهُ أنْ يغفرَ لهم لايُخَلَّدونَ في النَّارِ خلودَ الكافرينَ لأنَّه إذا خُلِّد عُصاةُ المسلمينَ في النارِ خلودَ الكافرينَ ستكونُ النارُ قد أُعِدَّتْ للكافرينَ ولعُصاةِ المسلمينَ ولكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قالَ(أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)وبهذا يكونُ قد أفادَ بأنَّ عُصاةَ المسلمينَ وإنْ دخلوها لا يخلدونَ فيها أبداً, وإنما يُعذبُهم اللهُ فيها بعدلِه, ثم يخرجُهم منها برحمتِه, ثم بشفاعةِ الشافعينَ من أهلِ طاعتِه. ولذلكَ قالَ تعالى(رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ)سورة الحِجر 2
وهذا يومَ القيامةِ حينَ ينظرُ الكفَّارُ إلى عُصاةِ المسلمينَ معَهم في النَّارِ يقولونَ لهم: ما أغنى عنكُم إسلامُكُم؟! أنتُم كنْتُم مسلمينَ فبماذا إذاً نفعَكم الإسلامُ؟ فها أنتم معنا في النارِ. فلمَّا سمِعَ اللهُ تباركَ وتَعالى قولَ الكفَّارِ لعُصاةِ المسلمينَ منْ أهلِ النَّارِ أمرَ بإخراجِ عُصاةِ المسلمينَ من النارِ إلى الجنَّةِ فلمَّا أُخِرجوا تمنَّى الذين كفروا أن لو كانوا مسلمين.
مسألة: هل النار باقية أوتفنى ؟ ذكر بعض العلماء إجماع السلف على أنها تبقى ولا تفنى وذكر بعضهم خلافاً عن بعض السلف أنها تفنى والصواب أنها تبقى أبد الآبدين والدليل على هذا من كتاب الله عزّ وجلّ في ثلاث آيات من القرآن: في سورةالنساء, وسورة الأحزاب, وسورة الجن, فأما الآية التي في النساء فهي قوله تعالى: {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً} [النساء: 168، 169] والتي في سورة الأحزاب قوله تعالى: {إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً خالدين فيها أبداً} [الأحزاب: 64 65] ؛ والتي في سورة الجن قوله تعالى: { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً } [الجن: 23] وليس بعد كلام الله كلام أن النار باقية أبد الآبدين لأنه إذا كان يخلد فيها تخليداً أبدياً لزمأن تكون هي مؤبدة لأن ساكن الدارإذا كان سكونه أبدياً لابد أن تكون الدار أيضاًأ بدية..
من فوائد قوله تعالى وان كنتم في ريب
1- إثبات علوّ الله عزّ وجلّ لأنه إذا تقرر أن القرآن كلامه وأنه منزل منعنده لزم من ذلك علوّ المتكلم به وعلو الله عزّ وجلّ ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، والعقل، والفطرة؛ وتفاصيل هذه الأدلة في كتب العقائد .
2- دفاع الله سبحانه وتعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: { فأتوا بسورة من مثله } لأن الأمر هنا للتحدي فالله عزّ وجلّ يتحدى هؤلاء بأن يأتوا بمعارضِ لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم..
3- فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم لوصفه بالعبودية والعبودية لله عزّ وجلّ هي غاية الحرية لأن من لم يعبد الله فلا بد أن يعبد غيره فإذا لم يعبد الله عزّ وجلّ الذي هو مستحق للعبادة عَبَدَ الشيطان كما قال ابن القيم رحمه الله في النونية: هربوا من الرق الذي خلقوا له وبلوا برق النفس والشيطان.
4- أن القرآن كلام الله لقوله تعالى: { مما نزلنا } ووجه كونه كلام الله أن القرآن كلام والكلام صفة للمتكلم وليس شيئاً بائناً منه وبهذا نعرف بطلان قول من زعم أن القرآن مخلوق..
5- أن القرآن معجز حتى بسورة ولو كانت قصيرة لقوله تعالى: { فأتوا بسورة من مثله)..
6- تحدي هؤلاء العابدين للآلهة مع معبوديهم وهذا أشد ذلًّا مما لو تُحدوا وحدهم..




7- أن من عارض القرآن فإن مأواه النار لقوله تعالى: ( فاتقوا النار)



8- أن الناس وقود للنار كما توقد النار بالحطب فهي في نفس الوقت تحرقهم وهي أيضاً توقد بهم فيجتمع العذاب عليهم من وجهين..
9- إهانة هؤلاء الكفار بإذلال آلهتهم وطرحها في النار لأن من المعلوم أن الإنسان يغار على من كان يعبده ولا يريد أن يصيبه أذًى فإذا أحرق هؤلاء المعبودون أمام العابدين فإن ذلك من تمام إذلالهم وخزيهم..
10- أن النار موجودة الآن لقوله تعالى: { أعدت } ومعلوم أن الفعل هنا فعل ماض والماضي يدل على وجود الشيء وهذا أمر دلت عليه السنة أيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم عُرضت عليه الجنة والنار ورأى أهلها يعذبون فيها : رأى عمرو بن لحيّ الخزاعي يجر قصبه أي أمعاءه في النار ورأى المرأة التي حبست الهرة حتى ماتت جوعاً فلم تكن أطعمتها ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض ورأى فيها صاحب المحجن الذي كان يسرق الحُجَّاج بمحجنه يعذب وهو رجل معه محجن أي عصا محنية الرأس كان يسرق الحُجاج بهذا المحجن إذا مر به الحجاج جذب متاعهم فإن تفطن صاحب الرحل لذلك ادعى أن الذي جذبه المحجن وإن لم يتفطن أخذه فكان يعذب والعياذ بالله بمحجنه في نار جهنم(1) ..
11- أن النار دار للكافرين لقوله تعالى: { أعدت للكافرين } وأما من دخلها من عصاة المؤمنين فإنهم لا يخلدون فيها فهم فيها كالزوار لا بد أن يَخرجوا منها فلا تسمى النار داراً لهم بل هي دار للكافر فقط أما المؤمن العاصي إذا لم يعف الله عنه فإنه يعذب فيها ما شاء الله ثم يخرج منها إما بشفاعة أو بمنة من الله وفضل أو بانتهاء العقوبة..




وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين




والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين




سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لااله إلا أنت نستغفرك ونتوب اليك


 
المحاضرة الثامنة

الحمدلله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز: ( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ). والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، القائل: (خَيْرُكم مَن تَعلّم القرآنَ وعلَّمَه) وعلى آله وصحْبه الذين تعاهدوا القرآن الكريم، وتَلَوْه حقّ تلاوته كما سمعوه مِن فِيه -صلى الله عليه وسلم-، وعملوا بما فيه, وساروا على هداه, فنالوا بذلك الأجر العظيم والنعيم المقيم.
أما بعد : توقفنا في الدرس الماضي عند قوله تعالى :
(وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْوَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَاالأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْهَذَاا لَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَاأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) سورة البقرة 25

وعلى طريقةِ القرآنِ الكريمِ في الجمعِ ما بين الترهيبِ والترغيبِ, لماذكرَ اللهُ تعالى ما أعدَّ لأعدائه من الأشقياء أهل النار الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال, عطف بذكر حال أوليائه من السعداء الأبرارِ أهلِ الجنةِ المؤمنين به وبرسله الذين صدقواإ يمانهم بأعمالهم الصالحة وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح أقوال العلماء وهوأن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر أو عكسه أو حال السعداء ثم الأشقياء أو عكسه وحاصله ذكر الشيء ومقابله فأمرَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يُبشِّرَهم بماأ عدَّ لهم فيها؛قال: (وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْوَعَمِلُواْالصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَاالأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَاا لَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَاأَ زْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) سورة البقرة 25
هذه الآيةُ تضمَّنتْ:
1. الـمُبَشِّرَ: وهو النبيُّصلَّى الله عليه وسلَّم. (اسم فاعل).
2. الـمُبَشَّرَ: الذين آمنوا وعملوا الصَّالحاتِ. (اسم مفعول).
3. الـمُبَشَّرَ بهِ: لهم جَنَّاتٌ َتجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَار.
4. الوسيلةَ إلى حُصولِ( نَيْلِ) البِشارة: هي الإيمانُ والعملُ الصالحُ. فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة إلا بهما, وهذه أعظم بشارة حاصلة, على يد أفضل الخلق, بأفضل الأسباب. وفي الآية استحباب بشارة المؤمنين, وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها [وثمراتها], فإنهابذلك تخف وتسهل, وأعظم بشرى حاصلة للإنسان, توفيقه للإيمان والعمل الصالح, فذلك أول البشارة وأصلها, ومن بعدها البشرى عند الموت, ومن بعد ذلك الوصول إلى هذا النعيم المقيم, نسأل الله أن يجعلنا منهم.
البشارة أول خبر يرد على الإنسان وسمي بشارة لأنه يؤثر في بشرته فان كان خيرا أثره المسرة والإنبساط وإن شرا أثر الانجماع والغم والأغلب في عرف الاستعمال أن تكون البشارة بالخير.
التبشير الإخبار بما يسر وقد تستعمل في الشر ومنه قوله تعالى بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما النساء 138 . وفي قوله تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا ) استحباب تبشير المسلم بما يسره لأن البشارة مما تسر المسلم وتفرحه وقد قال تعالى ( فبشرناه بغلام حليم ) وقال تعالى ( وبشروه بغلام عليم ).( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا ) الذين آمنوا بقلوبهم .
هذا أمر من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بإبلاغ بشارته خلقهال ذين آمنوا به وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من عند ربه وصدقوا إيمانهم ذلك وإقرارهم بأعمالهم الصالحة , أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار .
أي: بَشِّرْ يا نبيَّنَا الذينَ صدقوا بالله وآمنوا بقلوبِهم وعملواالصَّالحاتِ من الفروض والنوافل بجوارِحِهم.
وقد اتَّفقَ أهلُ السُّنَّةِ على أنَّ الإيمانَ قولٌ وعملٌ, يزيدُبالطاعةِ وينقصُ بالمعصيةِ, قالوا: وإذا أُطلِقَ لفظُ الإيمانِ بلاعملٍ دخلَ فيهِ العملُ, وإذا عُطِفَ العملُ على الإيمانِ فأفادَ أنَّ الإيمانَ هوالباطنُ, والعملَ هو الظاهرُ.
قوله تعالى وعملوا الصالحات يشمل كل عمل صالح من واجبات ومستحبات , والعمل الصالح لا يكون صالحاً إلا بشرطين :
الشرط الأول : أن يكون خالصاً لله ، قال صلى الله عليه وسلم ( إنماالأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى ) متفق عليه .
الشرط الثاني : أن يكون متابعاً للنبي صلى الله عليه وسلم , لقوله ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) رواه مسلم .
وقد روي عن عثمان بن عفان أنه قال أخلصوا الأعمال وعن على رضي الله عنه أنه قال أقاموا الصلوات المفروضات.
( أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ) الجنات جمعجنة وسميت الجنة جنة لاستتار أرضها بأشجارها وسمي الجن جنا لاستتارهم والجنين من ذلك والدرع جنة وجن الليل إذا ستر وذكر أن الجنة كل بستان فيه نخل وقال الزجاج كل نبت كثف وكثر وستر بعضه بعضا فهو جنة .
والجنة في لغة العرب : البستان ، لأن أشجارها الملتفة تجن الداخل فيه , وجاء إطلاق الجنة على البستان في القرآن في قوله ( إنَّابَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ) أي البستان , وفي قوله ( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) .
وأما في الاصطلاح : فهي الدار التي أعدها الله لأوليائه فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
نستدل من هذه الآية أن الإيمان والعمل الصالح سبب لدخول الجنة وقد وردهذا في آيات كثيرة .قال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ) .
جنات تجري من تحتِها الأنهارُ! بساتين جامعة من الأشجار العجيبة, والثمار الأنيقة, والظل المديد, حدائق ذات شجر ومساكن تجري من تحتِ أشجارِها وغرفها تجري الأنهارُ أنهارٌ من ماءٍ غيرِ آسِنٍ، وأنهارٌ من لبنٍ لم يتغيرْ طعمُه وأنهارٌ منْ خمرٍلذَّةٍ للشاربينَ, وأنهارٌ من عسلٍ مصفَّى. وقد جاءفي الحديث أن أنهارها تجري في غير أخدود وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف ولا منافاة بينهما فطينها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر نسأل الله من فضله إنه هو البر الرحيم.
وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم "أنهار الجنة تفجر من تحت تلال - أو من تحت جبال - المسك"
فالجنة أعظم بشرى وأعظم أمنية كما قال تعالى ( إن الذين قالوا ربنا اللهثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) وقال تعالى ( وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً )
قوله تعالى ( جنات ) دليل على أن الجنات أنواع كما قال تعالى ( ولمن خافمقام ربه جنتان ) ثم قال تعالى : ( ومن دونهما جنتان ) وقال صلى الله عليه وسلم ( جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ).
وهناك جنات الفردوس, وجنات عدن, وجنات نعيم .. وهناك دار الخلد, ودارالسلام, وجنة المأوى .. وهناك عليون الذي هو أعلى وأفضل الجنات .. وأعلى ما فيها التمتع برؤية الحق تبارك وتعالى .. وهو نعيم يعلو كثيرا عن أي نعيم في الطعام والشراب في الدنيا .. والطعام والشراب بالنسبة لأهل الجنة لا يكون عن جوع أو ظمأ .. وإنما عن مجرد الرغبة والتمتع. والله جل جلاله في هذه الآية يعد بأمر غيبي .. ولذلك فإنه لكي يقرب المعنى إلي ذهن البشر .. لابد من استخدام ألفاظ مشهودة وموجودة .. أي عن واقع نشهده. قال عليه الصلاة والسلام: { قال الله عز وجل: أعددت لعبادي ما لاعين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فاقرءوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] } [رواه البخاري ومسلم وغيرهما].
قال ابن القيم : وهذا يدل على أمور :
أحدها : وجود الأنهار فيها .
الثاني : أنها جارية لا واقفة .
الثالثة : أنها تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم كما هو المعهود في أنهارالدنيا .
وهذه الأنهار جاء تسميتها في قوله تعالى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً ) .
قال ابن القيم : فذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة ونفى عن كل واحد منها الآفة التي تعرض له في الدنيا . فآفة الماء أن يأسن ويأجن من طول مكثه , وآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة وأن يصير قارصاً , وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي للذة شربها , وآفة العسل عدم تصفيته , وهذا من آيات الرب سبحانه وتعالى أن تجري أنهار من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائهاويجريها في غير أخدود وينفي عنها الآفات التي تمنع كمال اللذة بها كما ينفي عن خمرالجنة جميع آفات خمر الدنيا من الصداع والغول واللغو.
ولنا أن نتصوَّرْ شجرةً تشربُ من اللبنِ! وتشربُ عسلا كيفَ سيكونُ شكلُ ثمرتِها؟! تُسقى باللبنِ وبالعسلِ!
هناك آيات أخرى تقول: "تجري تحتها الأنهار" ما الفرق بين الاثنين .. تجري تحتها الأنهار .. أي أن نبع الماء من مكان بعيد وهو يمر من تحتها .. أما قوله تعالى: "من تحتها الأنهار" فكأن الأنهار تنبع تحتها .. حتى لا يخاف إنسان من أن الماء الذي يأتي من بعيد يقطع عنه أو يجف .. وهذه زيادة لاطمئنان المؤمنين أن نعيم الجنة باق وخالد..
(لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَاا لأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا ا لَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ) هذا الذي جئتمونا به من قبل؟ قالوا: لا ليسَ هو. الشكلُ واحدٌ ولكنَّ اللونَ مختلفٌ .
قوله تعالى هذا الذي رزقنا من قبل أي كلما أعطوا عطاء ورزقوا رزقاً من ثمار الجنة قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ، وقد اختلف العلماء في قوله تعالى ( من قبل ) فيه ثلاثة أقوال :
أحدها ان معناه هذا الذي طعمنا من قبل فرزق الغداة كرزق العشيء روي عن ابن عباس والضحاك و مقاتل .
والثاني هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا قاله مجاهد وابن زيد ورجحه ابنجرير .
ودليل هذا القول قوله تعالى ( إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ) .
والثالث أن ثمر الجنة إذا جني خلفه مثله فاذا رأوا ماخلف الجنى اشتبه عليهم فقالوا هذا الذي رزقنا من قيل قاله يحيى بن أبي كثير وأبوعبيدة.
(وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا ) قوله تعالى وأتوا به متشابها فيه ثلاثة أقوال :
أحدها أنه متشابه في المنظر واللون مختلف فيالطعم قاله مجاهد وابو العالية والضحاك والسدي و مقاتل .
والثاني انه متشابه في جودته لا ردئ فيه قاله الحسن وابن جريج .
والثالث أنه يشبه ثمار الدنيا في الخلقة والاسم غير أنه أحسن في المنظروالطعم قاله قتادة وابن زيد .
وقيل يؤتى أحدهم بالصحفة من الشيء فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيقول هذا الذي أوتينا به من قبل فتقول الملائكة كلا فاللون واحد والطعم مختلف.
وقيل عشب الجنة الزعفران وكثبانها المسك ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها ثم يؤتون بمثلها فيقول لهم أهل الجنة هذا الذي أتيتمونا آنفا به فتقول لهم الولدان كلوا فاللون واحد والطعم مختلف وهو قول الله تعالى "وأتوا به متشابها"
(وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ الأزواج جمع زوج ، وهو شامل للأزواج من الحور العين ومن نساء الدنيا .
( مُطَهَّرَةٌ ) يشمل طهارة الظاهر وطهارةا لباطن فهي مطهرة من الأذى ومن القذر لا بول ولا غائط ولا حيض ولا نفاس ، مطهرة منكل شيء حسي مطهرة أيضاً من الأقذار الباطنة كالغل والحسد والكراهية والبغضاء وغيرذلك .
وقيل في الخلق فانهن لا يحضن ولا يبلن ولا يأتين الخلاء وفي الخلق فانهن لا يحسدن و لايغرن ولا ينظرن الى غير أزواجهن
قال ابن عباس نقية عن القذى والأذى .
وقال مجاهد من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد وقال قتادة مطهرة من الأذى والمأثم.
مُطهرةٌ: قالَ العلماءُ: لفظُ مُطهَّرةٍ أبلغُ منطاهرةٍ. لأنه للتكثير والخلود البقاء الدائم الذي لا انقطاع له .ولم يقلْ مُطهَّرة من ماذا فهي مُطهَّرةٌ في خَلْقِها،ومُطهَّرةٌ في خُلُقِها. من ناحيةِ الخَلْقِ في أجملِ صورةٍ كأمثالِ اللؤلؤِ المكنونِ ومن ناحيةِ الخُلُقِ في أحسنِ خُلُقٍ.
قال العلماءُ: ألذُّ اللذائذِ: المسكنُ والمطعمُ والمنكحُ.
ذكرَ اللهُ هذه اللذائذَ الثلاثَ: سكنٌ يأوي إليه (في الجنةِ)، والمطعمُ والمشربُ (أنهارٌ وثمارٌ) المنكحُ (أزواجٌ مطهَّرةٌ).
(وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)... وبهذا الخلودِ يتمُّ النعيمُ.
الإنسانُ في الدنيا مرفَّهٌومنعَّمٌ جدا وعنده خيرٌ كثيرٌ ولكنَّه ليس مرتاحاً لماذا؟! لأنَّه كلَّما نظرَ لملكِه وسعةِ الملكِ وكثرةِ المالِ يقولُ: أنا سوفَ أموتُ وأتركُ كلَّ هذا الخيرِ؟! إذاً هو متنعِّمٌ ولكنه غيرُ مرتاحٍ لأنه لا خلودَ في هذا النعيمِ في الدنيا سيموتُ ويتركُه.لأجلِ ذلك عندما يدخلُ أهلُ الجنةِ الجنةَ يُنادَو ن خلودٌ بلا موتٍ وأهلُ النارِ خلودٌ بلا موتٍ.حتى يتمتعون ويعرفون أنَّ هذا النعيمَ لن يزولَ أبداً . لأن الإنسان عندما يضمن ألَّايزول مُلكُه فهذا أكبرُ النعيمِ. و من أعظم تمام النعيم , أن أهل الجنة خالدون فيها أبد الآبدين .لأن أكبر ما ينكد اللذائذ وينغص اللذات أن يعلم صاحبها أنه زائل عنها وأنها زائلة عنه فكل نعيم بعده موت فليس بنعيم والنعيم إذا تيقن صاحبه الانتقال عنه صار غماً فالفكرة بالزوال تكدر اللذات الحاضرة ولذاكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم أن يكثروا من ذكر الموت ويقال للموت : هادم اللذات لأن من تذكره ضاعت عليه لذته التي هو فيها لأنه يقطعها ولهذا قال ( خالدين فيها ) لا يزول عنهم ذلك النعيم فتتكدر غبطتهم.
ولذلكَ حكى اللهُ عزَّ وجلَّ عن أهلِ الجنةِ: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَقَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53)قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِيسَوَاء الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)) سورة الصافات 50-57
ثمَّ عندما رأى ما هو فيه من النَّعيمِ وما صاحِبُه فيهِ من الجحيمِ رغب في الاطمئنانِ على نعيمهِ أنه نعيمُ دائمٌ فالتفتَ لإخوانِه متسائلاً: (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)) يا إخوان! ألن نموتَ ثانيةً في الجنةِ؟! ولن نُعذَّبَ؟! قالوا: نعم قال: (إِنَّ هَذَا لَهُوَا لْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)).الصًّافات هذا هو تمام السعادة فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع فلا آخر له ولا انقضاء بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام والله نسأل أن يحشرنا في زمرتهم إنه جواد كريم بر رحيم.
قال ابن القيم : جمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البدن بالجنات ومافيها من الأنهار والثمار ونعيم النفس بالأزواج المطهرة ونعيم القلب وقرة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد وعدم انقطاعه .
نسألُ اللهَ رضوانَه والجنة ونعوذُ بهِ من سخطِه والنار
من فوائدالآية:
1- مشروعية تبشير الإنسان بما يسر لقوله تعالى: {وبشر الذين آمنواوعملواالصالحات} ولقول الله تبارك وتعالى: {وبشرناه بإسحاق نبيًّا من الصالحين} [الصافات: 112] ، وقوله تعالى: {وبشروه بغلام عليم} [الذاريات: 28] وقوله تعالى: {فبشرناه بغلام حليم} [الصافات: 101] ؛ فالبشارة بما يسر الإنسان من سنن المرسلين عليهم الصلاة والسلام ومن ذلك أن يبشر الإنسان بمواسم العبادة كما لو أدرك رمضان,فقلنا: هنّاك الله بهذا الشهر وكذلك لو أتم الصوم فقلنا هنّأك الله بهذا العيد وتقبل منك عبادتك وقد كان هذا من عادةالسلف..
2- أن الجنات لا تكون إلا لمن جمع هذين: الإيمان والعمل الصالح..
3- أن جزاء المؤمنين العاملين للصالحات أكبر بكثير مما عملوا وأعظم لأنهم مهما آمنوا وعملوا فالعمر محدود وينتهي لكن الجزاء لا ينتهي أبداً هم مخلدون فيه أبد الآباد, كذلك أيضاً الأعمال التي يقدمونها قد يشوبها كسل قد يشوبها تعب قد يشوبها أشياء تنقصها لكن إذا منّ الله عليه فدخل الجنة فالنعيم كامل..
4- أن الجنات أنواع لقوله تعالى: { جنات }؛ وقد دل على ذلك القرآن والسنة فقال الله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46] ثم قال تعالى: {ومن دونهما جنتان} [الرحمن: 62] وقال النبي صلى الله عليه وسلم "جنتان من فضة آنيتهما ومافيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما.
5- تمام قدرة الله عزّ وجلّ بخلق هذه الأنهار بغير سبب معلوم بخلاف أنهار الدنيا لأن أنهارالماء في الدنيا معروفة أسبابها وليس في الدنيا أنهار من لبن ولا من عسل ولا من خمروقد جاء في الأثر أنها أنهار تجري من غير أخدود . يعني لم يحفر لها حفر ولا يقاملها أعضاد تمنعها بل النهر يجري ويتصرف فيه الإنسان بما شاء يوجهه حيث شاء قال ابن القيم رحمه الله في النونية:
أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان.
6-أن من تمام نعيم أهل الجنة أنهم يؤتون بالرزق متشابهاً وكلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا: هذا الذي رُزقنامن قبل وهذا من تمام النعيم والتلذذ بما يأكلون..
7 - إثبات الأزواج في الآخرة وأنه من كمال النعيم وعلى هذا يكون جماع ولكن بدون الأذى الذي يحصل بجماع نساء الدنيا ولهذا ليس في الجنة مَنِيّ ولا مَنِيَّة والمنيّ الذي خلق في الدنيا إنما خُلق لبقاء ا لنسل لأن هذا المنيّ مشتمل على المادة التي يتكون منها الجنين فيخرج بإذن الله تعالى ولداً لكن في الآخرة لا يحتاجون إلى ذلك لأنه لا حاجة لبقاء النسل إذ أن الموجودين سوف يبقون أبد الآبدين لا يفنى منهم أحد ثم هم ليسوا بحاجة إلى أحد يعينهم ويخدمهم الوِلدان تطوف عليهم بأكواب وأباريق وكأس من معين ثمهم لايحتاجون إلى أحد يصعد الشجرة ليجني ثمارها بل الأمر فيها كما قال الله تعالى: (وجنى الجنتين دان) [الرحمن: 54] ، وقال تعالى: {قطوفها دانية} [الحاقة: 23] ؛ حتى ذكر العلماء أن الرجل ينظر إلى الثمرة في الشجرة فيحسّ أنه يشتهيها فيدنو منه الغصن حتى يأخذها .


أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم


اللهم لك الحمد بما أنعمت علينا به وأوليت


اللهم ما كان من توفيق فلك الحمد عليه أنت وحدك


وماكان من خطأ فأسأله العفو فالحمد لله


اللهم ألهمنا رشدنا ووفقنا لما تحب وترضى


سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لااله الا أنت نستفغرك ونتوب اليك
 
المحاضرة التاسعة
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز: }وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ{. والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، القائل: ((خَيْرُكم مَن تَعلّم القرآنَ وعلَّمَه))، وعلى آله وصحْبه الذين تعاهدوا القرآن الكريم، وتَلَوْه حقّ تلاوته كما سمعوه مِن فِيه -صلى الله عليه وسلم-، وعملوا بما فيه، وساروا على هداه، فنالوا بذلك الأجر العظيم والنعيم المقيم.
أما بعد وصلنا في الدرس الماضي الى قوله تعالى :

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَاللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .ت
تحدث هذه الايات عن حكمةِ ضربِ الأمثالِ في القرآنِ .
بعد أن تحدث الحق تبارك وتعالى عن الجنة .. وأعطانا مثلا يقرب لنا صور النعيم الهائلة التي سينعم بها الإنسان في الجنة .. أراد أن يوضح لنا المنهج الإيماني الذي يجب أن يسلكه كل مؤمن .. ذلك أن الله سبحانه وتعالى لا يكلف كافرا بعبادته .. وأن الإنسان الذي ارتضى دخول الإيمان بالله جل جلاله قد دخل في عقد إيماني مع الله تبارك وتعالى .. ومادام قد دخل العقد الإيماني فأنه يتلقى عن الله منهجه في افعل ولا تفعل .. وهذا المنهج عليه أن يطبقه دون أن يتساءل عن الحكمة في كل شيء ..وذلك أن الإيمان هو إيمان بالغيب .. فإذا كان الشيء نفسه غائبا عنا فكيف نريد أن نعرف حكمته ..وهذه هي حقيقة ومقتضى العبودية لله جلا وعلا.
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً نزلت في المنافقين ,لما ضرب الله تعالى المثل بالمستوقد والصيب انطلقتْ ألسنتُهم في الطَّعنِ في القرآنِ الكريمِ والزَّعمِ بأنَّهُ ليس منْ عندِاللهِ عزَّ و جلَّ فقالوا لو كانَ منْ عندِ اللهِ ماكانتْ فيهِ هذه الأمثالُ والله أعلى وأعظم أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء فرد الله عليهم بهذه الآية . وقيل نزلت في المشركين إذ اشتملت على نقض العهد وهو من صفة اليهود لأن الخطاب بوفاء العهد إنما هو لبني إسرائيل وعلى الكافرين وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ .
فهذه الآيات تشير بأن المنافقين - اليهود والمشركون - قد وجدوا في هذه المناسبة منفذا للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن بحجة أن ضرب الأمثال هكذا بما فيها من تصغير لهم وسخرية منهم لا تصدر عن الله ,وأن الله لا يذكر هذه الأشياء الصغيرة كالذباب والعنكبوت في كلامه .ولما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فأنزل الله "إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها"بيانا لحكمة الله في ضرب الأمثال , وتحذيرا لغير المؤمنين من عاقبة الاستدراج بها , وتطمين ا للمؤمنين أن ستزيدهم إيمانا .
وعندما ضرب الله مثلا بالبعوضة .. استقبله الكفار بالمعنى الدنيوي دون أن يفطنوا للمعنى الحقيقي .. قالوا كيف يضرب الله مثلا بالبعوضة ذلك المخلوق الضعيف .. الذي يكفي أن نضربه بأي شيء أوحتى بالكف فيموت؟. لماذا لم يضرب الله تبارك وتعالى مثلا بالفيل الذي هو ضخم الجثة شديدة القوة .. أو بالأسد الذي هو أقوى من الإنسان وضرب لنا مثلا بالبعوضة فقالوا: "ماذا أراد الله بهذا مثلا" .. ولم يفطنوا إلي أن هذه البعوضة دقيقة الحجم خلقها معجزة .. لأن في هذا الحجم الدقيق وضع الله سبحانه وتعالى كل الأجهزة اللازمة لها في حياتها .. فلها عينان ولها خرطوم دقيق جدا يستطيع أن يخرق جلد الإنسان .. ويخرج الأوعية الدموية التي تحت الجلد ليمتص دم الإنسان.. ولها أرجل ولها أجنحة ولها دورة تناسلية ولها كل ما يلزم لحياتها .. كل هذا في هذا الحجم الدقيق .. كلما دق الشيء احتاج إلي دقة خلق اكبر.
قال ابن القيم : فإن الأمثال تشبيه شيء بشيء في حكمه ، وتقريب المعقول من المحسوس , أو أحد المحسوسين من الآخر , واعتبار أحدهما بالآخر .
وقد ضرب الله الأمثال في كتابه بعدة أشياء منها:
الذباب : قال تعالى ( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ) .
العنكبوت : قال تعالى ( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ) .
الشجرة الطيبة والخبيثة : قال تعالى ( ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون . ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ) .
وقال "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" وفي القرآن أمثال كثيرة.
كانَ بعضُ السلفِ إذاقرأَ مثلًا في القرآنِ ولم يفهمْهُ بكى, فَيُسألُ ما يُبكيك ؟ يقولُ: قال الله تعالىَ:{ ومَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ, وأنا لا أعقلُها فلستُ من العالمينَ , فيبكي على كونِه ليس من العالمينَ الذين يعقلونَ الأمثالَ التي يضربُهَا اللهُ للناسِ في القرآنِ.
والأمثال تشتمل على الحكمة, وإيضاح الحق, والله لا يستحيي من الحق وكأن في هذا, جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة, واعترض على الله في ذلك. فليس في ذلك محل اعتراض. بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم. فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر. ومعني الآية أن الله تعالى أخبر أنه لا يستحي أي لا يستنكف وقيل لا يخشي أن يضرب مثلا ما أي مثل كان بأي شيء كان صغيرا أوكبيرا وما هاهنا للتقليل وتكون بعوضة منصوبة على البدل .
الحياء : تغير وإنكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم,ومحله الوجه, ومنبعه من القلب,واشتقاقه من الحياة , وضده القحة ، والحياء والاستحياء والانخزال والانقماع, والانقلاع, متقاربة المعنى , فتنوب كل واحدة منها مناب الأخرى.
والحياءُ صفةٌ من صفاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ, والحييُّ: اسمٌ من أسمائهِ الحسنى , يقولُ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ( إنَّ اللهَ حييٌ سِتِّيرٌ يَسْتَحْيي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ ِإلَيْهِأَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرَاً خَائِبَتَيْنِ َأوْ لَيْسَ فِيهِمَا شَيْءٌ.
) ولكنَّ الحياء لايمنعُه سبحانه أن يقولَ الحقَّ, ولا يمنعُه الحياءُ أن يضربَ المثل بأي شيءٍ ما, مادامَ في ضربِ المثلِ فائدةٌ للناسِ , فهذا معنى قولِه تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا .......
وقولُنا في الحياءِ, كقولِنا في الضحكِ, والرضا, والغضبِ, والصخبِ, والعلوّ,ِ والنزولِ, والمجيءِ, وسائرِ الأفعال والصفاتِ, التي عرفنَا أنَّ مذهبَ أهلِ السنةِ والجماعةِ فيها أن نثبت لله تباركَ وتعالى ما أثبتَه الله لنفسِه في مُحكمِ كتابِه, أو فيما صحَّ على لسانِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم, من غيرِتكييفٍ, ولا تحريفِ, ولا تمثيلٍ, ولا تعطيلٍ, وقوفًا عند قولِه سبحانَه: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى من الآية11]
"فما فوقها" فيه قولان يُستعملُ هذا اللفظ في الشيءِ وضدِّه, فيستخدمُ فوقَ بمعنى أعلى, ويستخدمُ فوقَ بمعنى أسفل وأقل , فما دونها في الصغر والحقارة.وفي الحديث "لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى كافرا منها شربة ماء" .
والثاني فما فوقها لما هو أكبر منها لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة , و يؤيده ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة.
فأخبر أنه لا يستصغر شيئا يضرب به مثلا ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة كما لا يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت . والعبرة في المثل ليست في الحجم والشكل , إنما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير .
قال ابن القيم : هذا جواب اعتراض ، اعترض به الكفار على القرآن وقالوا : إن الرب أعظم من أن يذكر الذباب والعنكبوت ونحوها من الحيوانات الخسيسة ، فلو كان ما جاء به محمد e ، كلام الله ، لم يذكر فيه الحيوانات الخسيسة ، فأجابهم الله تعالى بأن قال ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها ) ، فإن ضرب الأمثال بالبعوضة فما فوقها ، إذا تضمن تحقيق الحق وإيضاحه وإبطال الباطل وإدحاضه ، كان من أحسن الأشياء ، والحسن لا يستحيا منه ، فهذا جواب الاعتراض .
وليس في ضرب الأمثال ما يعاب وما من شأنه الاستحياء من ذكره . والله - جلت حكمته - يريد بها اختبار القلوب , وامتحان النفوس. فإنه تبارك وتعالى أراد أن يلفتنا إلي دقة الخلق. فكلما لطف الشيء وصغر حجمه احتاج إلي دقة الخلق. ولكن الكفار لم يأخذوا المعنى على هذا النحو وإنما أخذوه بالمعنى الدنيوي البسيط الذي لا يمثل الحقيقة. فالله سبحانه وتعالى حينما ضرب هذا المثل. استقبله المؤمنون بأنه كلام الله. واستقبلوه بمنطق الإيمان بالله فصدقوا به سواء فهموه أم لم يفهموه. لأن من مقتضى العبودية أن يصدق العبد كل ما يجئ من عند الله سواء عرف الحكمة أو لم يعلمها.
لهذا قال: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } فأما المؤمنون الذين آمنوا باللهِ ورسولِه واتَّبعوا النُّورَ الذي أُنزِلَ معه فإنهم يُعمِلون فكرَهم في هذهالأمثال, يتفكرون فيها كما طلبَ الله عزَّ وجلَّ ويحاولونَ أن يعقلُوا معناها , يعقلوا عن الله تباركَ وتعالى مرادَهُ منها. فيعلمون حكمة الله في التمثيل بالصغير والكبير من خلقه, فيتفهمونها، فإن ظفروا بما أرادوا وعلموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل حَمِدوا الله تعالى وشكروه وازداد بذلك علمهم وإيمانهم, وإن خفيتْ عليهم العلَّةُ والحكمةُ في هذا المثلِ, قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا. فيعلمون أن الله حق ، لا يقول غير الحق ، وأن المثل من عند الله ، فيزدادون إيماناً على إيمانهم لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا, بل لحكمة بالغة ونعمة سابغة . { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا }وأما الكفار فيتعجبون وَيَسْخرون ويقولون: ما مراد الله مِن ضَرْب المثل بهذه الحشرات الحقيرة؟ ويجيبهم الله بأن المراد هو الاختبار وتمييز المؤمن من الكافر, لذلك يصرف الله بهذا المثل ناسًا كثيرين عن الحق لسخريتهم منه ويوفق به غيرهم إلى مزيد من الإيمان والهداية. والله تعالى لا يظلم أحدًا لأنه لا يَصْرِف عن الحق إلا الخارجين عن طاعته، فيعترضون ويتحيرون فيزدادون كفرا إلى كفرهم كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ولهذا قال: { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا }يضلُّ اللهُ تباركَ وتعالى بالمثلِ الذي ضربَفي القرآنِ كثيراً من خلقِه ويهدي به أيضا كثيراً من خلقِه , فسبحانَ من جعلَ الشيءَ الواحدَ صالحاً لزيادةِ الإيمانِ و لعدم الإيمانِ ؛القرآنُ هو القرآنُوالمثلُ هو المثلُ, ومع ذلك يُضِلُّ به كثيراً ويهدي به كثيراً فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية قال تعالى: { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ }(125) }[ التوبة]. فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة [وضلالة] وزيادة شر إلى شرهم,ولقوم منحة [ورحمة] وزيادة خير إلى خيرهم, فسبحان من فاوت بين عباده وانفرد بالهداية والإضلال.
والله - سبحانه - يطلق الابتلاءات والامتحانات تمضي في طريقها ويتلقاها عباده كل وفق طبيعته واستعداده وكل حسب طريقه ومنهجه الذي اتخذه لنفسه . والابتلاء واحد ، ولكن آثاره في النفوس تختلف بحسب اختلاف المنهج والطريق ، الشدة تسلط على شتى النفوس , فأما المؤمن الواثق بالله وحكمته ورحمته فتزيده الشدة التجاء إلى الله وتضرعا وخشية ، وأما الفاسق أو المنافق فتزلزله وتزيده من الله بعدا , وتخرجه من الصف إخراجا ، والرخاء يسلط على شتى النفوس , فأما المؤمن التقي فيزيد الرخاء يقظة وحساسية وشكرا ، وأما الفاسق أو المنافق فتبطره النعمة ويتلفه الرخاء ويضله الابتلاء . وهكذا المثل الذي يضربه الله للناس (يضل به كثيرا). ممن لا يحسنون استقبال ما يجيئهم من الله , (ويهدي به كثيرا)ممن يدركون حكمة الله .
كما قالَ تعالى في المدثرِ { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَاجَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَايَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } وهم المنافقون {وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء }[المدثر من الآية31]
عن ابن عباس و عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة يضل به كثيرا يعني به المنافقين ويهدي به كثيرا يعني به المؤمنين فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم لتكذيبهم بما قد علموه حقا ويقينا من المثل الذي ضربه الله بما ضرب لهم وأنه لما ضرب له موافق فذلك إضلال الله إياهم به ويهدي به يعني المثل كثيرا من أهل الإيمان والتصديق فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانا إلى إيمانهم لتصديقهم بما قد علموه حقا يقينا أنه موافق لما ضربه الله له مثلا وإقرارهم به وذلك هداية من الله لهم به .
{ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ }.لفظ الضلال في القرآن يطلق على ثلاثة إطلاقات :
الأول : إطلاق الضلال على الضلال عن طريق الهدى إلى طريق الزيغ ، وعن طريق الجنة إلى طريق النار .
كما قال تعالى (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) .ومنه قوله تعالى (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) .
ومنه قوله تعالى (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ) ، وهذا أغلب استعمال الضلال .
والثاني : هو إطلاق الضلال على الغَيْبَة والاضمحلال .ومنه قوله تعالى (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) أي : غاب واضمحل ولم يبق له أثر .
ومنه قوله تعالى (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) فمعنى (ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ ) أي : اضمحلت عظامهم ولحومهم وجلودهم فيها فأكلتها واختلطت بها .
والثالث : إطلاق الضلال على الذهاب عن علم الشيء ، فكل مالم يهتد إلى علم شيء تقول العرب : ضل .
ومنه قول أولاد يعقوب (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي : ذهاب عن علم الحقيقة حيث يفضّل يوسف علينا .
وقوله (قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) أي : ذهابك عن حقيقة العلم بالشيء ، لأنك تظن يوسف حياً ، ولا يريدون الضلال ، لأنهم لو أرادوا الضلال في الدين لكانوا كفرة لتضليلهم نبياً من الأنبياء .
ومنه قوله تعالى (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) أي : لا يذهب عنه علم شيء ولا ينسى شيئاً .
{ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ }. الذين فسقت قلوبهم من قبل وخرجت عن الهدى والحق ،الخارجين عن طاعة الله بكفرهم المعاندين لرسل الله, بدليل وصفهم بعد ذلك بقوله ( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ .. ) الذين صار الفسق وصفهم فلا يبغون به بدلا, فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى, فجزاؤهم زيادتهم مما هم فيه ، كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة.
والفسوقُ في اللغة معناه: الخروجُ عن الشيءِ ؛ يُقَالُفسقتْ الرُّطَبَةُ: فسقت الرطبةُ عن قشرتِها إذا خرجتْ منها . والفسوقُ في الشرعِ معناه: الخروجُ من طاعةِ الله إلىمعصيتِه. ومنه سميت الفأرة فويسقة لخروجها للإفساد.
والفسق نوعان: هناك فسقٌ هو كفرٌ فسقٌ أكبرُ مخرج من الدين, وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان فقد يخرجُ الإنسانُ عن الإيمانِ إلى الكفرِ؛ وهذا فسقٌ أكبر (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ) وكالمذكور أيضا في هذه الآية .
و فسقأصغرُ ذنبٌ و معصيةٌ دون الكفر غير مخرج من الإيمان يخرجُ من الطاعةِ إلى المعصيةِ التي هي دونَ الكفرِ فيكونُ فسقاً أصغرَ, لايخرج بهعن الإيمان كلِّه, ولا عن الدينِ كلِّهكما في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } [الآية].وقوله تعالى ( بِئْسَالِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ...}[الحجرات من الآية 11]
من فوائد الآية:
1- إثبات الحياء لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما ).ووجه الدلالة: قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: أن نفي الاستحياء عن الله في هذه الحال دليل على ثبوته فيما يقابلها؛ وقد جاء ذلك صريحاً في السنة، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم حييّ كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صِفراً" ؛ والحياء الثابت لله ليس كحياء المخلوق؛ لأن حياء المخلوق انكسار لما يَدْهَمُ الإنسان ويعجز عن مقاومته؛ فتجده ينكسر، ولا يتكلم، أو لا يفعل الشيء الذي يُستحيا منه؛ وهو صفة ضعف ونقص إذا حصل في غير محله.. وحياؤه سبحانه وتعالى وصف يليق به ، ونثبته له ، إثباتاً من غير تمثيل له بخلقه .
2- أنه لا ينبغي أن يكون الحياء مانعاً من قول الحق أو طلب العلم .
3- وقد قالت عائشة ( نعم نساء الأنصار ، لم يمنعهن الحياء من التفقه في الدين ) متفق عليه .
4-
5- أن الله تعالى يضرب الأمثال رحمة بعباده لأن الأمثال أمور محسوسة يستدل بها على الأمورالمعقولة؛ كقوله تعالى: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثلالعنكبوت اتخذت بيتاً} [العنكبوت: 41] ؛ وهذا البيت لا يقيها من حَرّ، ولا برد، ولامطر، ولا رياح {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت} [العنكبوت: 41] ؛ وقال تعالى: {والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاهوما هو ببالغه} [الرعد: 14] : إنسان بسط كفيه إلى غدير مثلاً، أو نهر يريد أن يصلالماء إلى فمه! هذا لا يمكن؛ هؤلاء الذين يمدون أيديهم إلى الأصنام كالذي يمد يديهإلى النهر ليبلغ فاه؛ فالأمثال لا شك أنها تقرب المعاني إلى الإنسان إما لفهمالمعنى؛ وإما لحكمتها.
3- التحذير من الاعتراض على أوامر الله لأن الاعتراض على أمر الله من أعمال الكفار ، فيزدادون كفراً على كفرهم .
4 _ أنالبعوضة مع كونها من أحقر المخلوقات؛ لقوله تعالى: { بعوضة فما فوقها } لكنها لو سُلطت على الإنسان لأهلكته .
5-أن القياس حجة؛ لأن كل مثل ضربه الله في القرآن، فهو دليل على ثبوتالقياس..

6- فضيلة الإيمان وأن المؤمن لا يمكن أن يعارض ما أنزلالله عزّ وجلّ بعقله؛ لقوله تعالى: {فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم. ولا يقولون: لِم؟، ولا: كيف؟؛ يقولون: سمعنا، وأطعنا، وصدقنا؛ لأنهميؤمنون بأن الله عزّ وجلّ له الحكمة البالغة فيما شرع، وفيما قدر..
7 _ إثبات الربوبية الخاصة؛ لقوله تعالى: { من ربهم } وأن ربوبية اللهتعالى تنقسم إلى قسمين: عامة وخاصة فالعامة هي الشاملة لجميع الخلق وتقتضيالتصرف المطلق في العباد؛ والخاصة هي التي تختص بمن أضيفت له وتقتضي عناية خاصةوقد اجتمعتا في قوله تعالى: {قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون} [الأعراف : فالأولى ربوبية عامة؛ والثانية خاصة بموسى وهارون؛ كما أن مقابل ذلك "العبودية" تنقسم إلى عبودية عامة، كما في قوله تبارك وتعالى: {إن كل من في السمواتوالأرض إلا آتي الرحمن عبداً} [مريم: 93] ؛ وخاصة كما في قوله تعالى: {تبارك الذينزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1] ؛ والفرق بينهما أن العامة هي الخضوع للأمرالكوني؛ والخاصة هي الخضوع للأمر الشرعي؛ وعلى هذا فالكافر عبد لله بالعبوديةالعامة؛ والمؤمن عبد لله بالعبودية العامة، والخاصة..

8- أنديدن الكافرين الاعتراض على حكم الله، وعلى حكمة الله؛ لقوله تعالى: { وأما الذينكفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلًا }؛ وكل من اعترض ولو على جزء من الشريعةففيه شبه بالكفار.
8- الإعتراض على حكم الله عزّ وجلّ دليل على نقصالإيمان؛ لأن لازم الإيمان التام التسليم التام لحكم الله عزّ وجلّ . إلا أن يقولذلك على سبيل الاسترشاد والاطلاع على الحكمة؛ فهذا لا بأس به..

1-أن إضلال من ضل ليس لمجرد المشيئة بل لوجود العلةالتي كانت سبباً في إضلال الله العبد؛ لقوله تعالى: { وما يضل به إلا الفاسقين }؛وهذا كقوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين} (الصف: 5) ..
10_ الرد على القدرية الذين قالوا: إن العبد مستقلبعمله لا علاقة لإرادة الله تعالى به لقوله تعالى: ( وما يضل به إلا الفاسقين )..

أقولقولي هذا واستغفر الله لي ولكم

اللهملك الحمد بما أنعمت علينا به وأوليت
اللهمما كان من توفيق فلك الحمد عليه أنتوحدك
وماكان من خطأ فأسأله العفوفالحمد لله
اللهمألهمنا رشدنا ووفقنا لما تحب وترضى
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لااله الا أنت نستفغرك ونتوب اليك
 
المحاضرة العاشرة​


الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز: }وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ{. والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، القائل: ((خَيْرُكم مَن تَعلّم القرآنَ وعلَّمَه))، وعلى آله وصحْبه الذين تعاهدوا القرآن الكريم، وتَلَوْه حقّ تلاوته كما سمعوه مِن فِيه -صلى الله عليه وسلم-، وعملوا بما فيه، وساروا على هداه، فنالوا بذلك الأجر العظيم والنعيم المقيم.
أما بعد وصلنا في الدرس الماضي الى قوله تعالى :
(الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون "27")
أراد الحق تبارك وتعالى أن يبين لنا صفات الفاسقين. فحددها في ثلاث صفات ..
أولا: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقهأي من بعدِتوكيدِه. أول صفات الفاسقين أنهم لا عهد لهم. ليس بينهم وبين الناس فقط. ولكن لا عهد لهم مع الله أيضا. وكلما عاهدوا الله عهدا نقضوه(وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين الأعراف) "102"
ما هو العهد الموثق الذي أخذه الله على عباده فنقضوه ؟
قال العلماء: المرادُبعهدِ اللهِ تباركَ وتعالى: ما وصَّاهم اللهُ به من القيامِ بطاعتِه, واجتنابِمعصيتِه.
وهذا العهدُنوعانِ: فطريٌّ وشرعيٌّ .
العهدُ الفطريُّ :فهو ما فطرَ اللهُ الناسَ عليه منالدينِ الحقِّ, فالله تباركَ وتعالى فطرَنَا على حبِّ طاعتِه, وبُغضِ معصيتِهكماقالَ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِحَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ }[الروم/30.يأي أأ أي الإيمان الأول، الإيمان الفطري الموجود في كل منا فالله سبحانه وتعالى أخذ من البشر جميعا عهدا، فوف به بعضهم ونقضه بعضهم. والنبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ يقولُ: ( كلُّ مولودٍ يولدُعلى الفطرةِ ).
والله سبحانه وتعالى ذكر لنا في القرآن الكريم. أن هناك عهد موثقا بينه وبين ذرية آدم. فقال جل جلاله:
{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين "172" } (سورة الأعراف)
وهكذا أخذ الله عهدا على ذرية آدم بأن يؤمنوا به وأشهدهم أنه ربهم. وجاءت الغفلة إلي القلوب بمرور الوقت. فنقضوا العهد واتخذوا آلهة من دون الله.
والعهدُالشرعيُّ :هو ما عهِدَهُ الله إلينا في كتبِه وعلى ألسنةِ رسلِه , فاللهُ تباركَ وتعالى أرسلَ الرُّسلَ وأنزلَ عليهم الكتبَ يدعوننا إلى طاعتِه, ويحذرونَنَا من معصيتِه .
قالالعلماءُ: فالمشركونَ نقضوا العهدَ الأولَ وهو العهدُ الفطريُّ , والمنافقون واليهودُ نقضوا العهدينِ الفطريَّ والشرعي الديني؛ لأن اليهود أهل كتاب , والمشركون لم يكونوا أهل كتاب .
إذاً المشركون نقضوا العهد الفطري, واليهودُ نقضوا العهدين الفطريَّ والشرعيَّ .
واللهُ سبحانَه وتعالى قد أمرَ كثيرا في كتابِه بالوفاءِ بالعهودِ :{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَبَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ... }[النحل منالآية 91]
(وَبِعَهْدِ اللَّهِأَوْفُوا...) [الأنعام من الآية152]
{ ... وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِإِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}[الإسراء من الآية 34]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُواأَوْفُوا بِالْعُقُودِ ...}[المائدة من الآية1]

ونهى اللهُ تباركَ وتعالى رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَعن نقضِ عهدِه مع الكافرين فقال: وَإِمَّا تَخَافَنَّمِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْخَائِنِينَ }[الأنفال/58] .
يعني؛ إذا كان بينَك وبين أحدٍ من الكفارِ, مشركاً كان أو كتابياً, إذاكان بينَك وبينَه عهدٌ, فلا تنقضْ هذا العهدَ حتى تُعلِمَ الطرفَ الآخر بأنَّكنقضتَ العهدَ { ..ِإنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } [الأنفال],ولو كانت الخيانةُ فيحقِّ الكافرين, فدينُنَا يأمرُبالوفاءِ وينهى عن نقضِ العهدِ, وعن الغدرِ والخيانةِ.
وقد اختلف في المراد بهذا العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه :
فقيل : أنه العهد الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من صلبه .
كما قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) .
وقيل : هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسن رسله .
وقيل : أنه العهد الذي أخذ عليهم على لسان أنبيائهم عليهم السلام أنهم يؤمنون بمحمد e إذا بعث فيهم .
كما قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) .
إ إذن أول صفات الفاسقين أنهم نقضوا عهد الله لاعهد لهم مع خالقهم ولا عهد لهم مع الناس. ولذلك لا نأمن لهم أبدا.. والذي ينقض عهدا مع بشر، فسلوكه هذا لا يقبله الحق سبحانه وتعالى حتى مع الكفار وغير المؤمنين. قال تعالى:
{إلا الذين عهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلي مدتهم إن الله يحب المتقين "4" } (سورة التوبة)
} ثانيا: الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل.
الصفةُ الثانيةُ منصفاتِهم ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل"
وقد اختلف العلماء ما هو الشيء الذي أمر الله بوصله :
فقيل : المراد به صلة الأرحام ، ورجحه ابن جرير .
وقيل : أمر أن يوصل القول بالعمل.
وقيل اللفظٌ عامٌّيشملُ ما أمرَ اللهُ به أنْ يوصلَ من الأرحامِ ومن غيرها.
فقد أمرنا الله تباركَ وتعالى أننصلَ ما بينَنا وبينَه بالإيمانِ به وطاعتِه , وأن نصلَ ما بيننَا وبينكتابِه بالإيمانِ به واتِّباعِه , وأمرَنا أن نصلَ ما بيننَا وبينَ رسولِهبالإيمانِ به وتصديقِه وتعزيرِه وتوقيرِه واتِّباعِه . وأمرنَابأن نصل أرحامنا. يصلَ بعضُنا بعضً فنحن كلنا أولاد آدم. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع "كلكم لآدم وآدم من تراب".فالله أمر بأن نصل الرحم. وجاء هؤلاء وخالفوا وعصوا ما أمر الله به. وقطعوا هذه الصلة. إذن فالمسألة فيها مخالفة لمنهج، وعصيان لأمر من أوامر الله سبحانه وتعالىفصلة الرحم توجد نوعا من التكافل الاجتماعي بين البشر. فإذا حدث لشخص مصيبة. أسرع أقاربه يقفون معه في محنته. ويحاول كل منهم أن يخفف عنه. هذا التلاحم بين الأسرة يجعلها قوية في مواجهة الأحداث. ولا يحس واحد منها بالضياع في هذا الكون، لأنه متماسك مع أسرته، متماسك مع حيه أو قريته. هكذا يختفي الحقد من المجتمع. ويختفي التفكك الأسري. لكنَّ الفاسقين يقطعونَ كلَّ ما أمرَ اللهُ به أنيوصلَ, بفسقِهم قطعوا ما بينهم وبين اللهِ, وقطعوا ما بينهم وبين كتابِ الله, وقطعوا ما بينهم وبين رسولِ الله, وقطعوا ما بينهم وبين عامةِ الناسِ. ولعلنا إذا نظرنا إلي المجتمعات الغربية التي يعتريها تفكك الأسرة. نجد أن كل واحد منهم قد ضل طريقه وانحرف لأنه أحس بالضياع. فانحرف إلي المخدرات أو إلي الخمر أو إلي الزنا وغير ذلك من الرذائل التي نراها. جيل ضائع. من الذي أضاعه؟ عدم صلة الرحم.
وقد جاءت نصوص كثيرة تحث على صلة الرحم وتحذر من قطيعة الرحم :
قال e ( من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه ) متفق عليه .
وقال e ( الرحم معلقة بالعرش ، تقول : من وصلني وصله الله ، ومن قطعني قطعه الله ) متفق عليه .
وقال e ( لا يدخل الجنة قاطع ) متفق عليه .
ثالثا: الذين يفسدون في الأرض.
ونأتي بعد ذلك إلي الصفة الثالثة من صفات الفاسقين بقوله تعالى: "ويفسدون في الأرض". أي ومن صفات هؤلاء الكفار الإفساد في الأرض ، كل ما في الكون مخلوق على نظام: "قدر فهدى" أي كل شيء له هدى لابد أن يتبعه. ولكن الإنسان جاء في مجال الاختيار وأفسد قضية الصلاح في الكون.
ومن رحمة الله أنه جعل في كونه خلقا يعمل مقهورا ليضبط حركة الكون فالشمس والنجوم والأرض وكل الكون ما عدا الإنس والجان. يسير وفق نظام دقيق. لماذا؟ لأنه يسير بلا اختيار له. والله أعطانا الاختيار حتى نأتيه عن حب. وليس عن قهر. وهذا الاختيار يثبت محبوبية الله سبحانه وتعالى في قلوبنا .إذن فالاختيار لم يعط لنا لنفسد في الأرض. ولكنه أعطى لنا لنأتي الله سبحانه وتعالى طائعين ولسنا مقهورين. ولذلك فكل منا مختار في أن يؤمن أولا يؤمن.
والإفساد في الأرض يكون بارتكاب المعاصي فيها من الشرك بالله ، والقتل ، والربا ، وغيرها ، كما قال تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) . والأرضُ لاتصلحُ إلا بالتوحيدِ . والفساد يكون بتحكيم عقولنا واتباع أهواءنا وغياب منهج الله سبحانه وتعالى فكل منا يتبع هواه فيغير منهج الله في افعل ولاتفعل فماقال الله فيه للإنسان افعل لايفعل وبالعكس فينقلب ميزان الحياة الى شر وشقاء بدل الأمن والسعادة .
ثم حدد لنا الحق تبارك وتعالى حكمهم فقال: أولئك هم الخاسرون. والخسران في الدنيا والآخرة ، فحصر الخسارة فيهم ، لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم ، ليس لهم نوع من الربح ، لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان ، فمن لا إيمان له لا عمل له .فالذي وصلوا إليه من الخسران هو من عملهم. لأنهم تركوا المنهج وبدأوا يشرعون لأنفسهم بهوى النفس. ولذلك يقول الحق جل جلاله عنهم:
{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين "16" } سورة البقرة، فخسروا دنياهم وآخرتهم وخسروا أنفسهم. لأن الإنسان له حياتان. حياة قصيرة في الدنيا مليئة بالمتاعب. وحياة طويلة خالدة في الآخرة. والذي يبيع الحياة الأبدية ونعيمها وخلودها بحياة الدنيا التي لا يضمن فيها شيئا، يكون من الخاسرين ،خسران أبدي، والندم سيكون شديدا. كما في قوله تبارك وتعالى: {إنا أنذرناكم عذاباً قريباً يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا "40" } (سورة النبأ)
يتمنى الكافر أن يكون ترابا ، لماذا؟ لهول العذاب الذي يراه أمامه. وهول الخسران الذي تعرض له. وهذا دليل على شدة الندم. يوم لاينفع الندم. على أنه سبحانه وتعالى تحدث في هذه الآية عن الخاسرين. ولكنه جل جلاله. تحدث في آية أخرى عن الأخسرين. فقال تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً "103" الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً "104" أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً "105" } (سورة الكهف)

إذن فهناك خاسر. وهناك من أخسر منه. والأخسر هو الذي كفر بالله جل جلاله. وبيوم القيامة. واعتقد أن حياته في الدنيا فقط. ولم يكن الله في باله ولم يعمل أي عمل، بل كانت الدنيا هي التي تشغله. ثم فوجئ بالحق سبحانه وتعالى يوم القيامة. ولم يحتسب له أية حسنة، لأنه كان يقصد بحسناته الحياة الدنيا. فلا يوجد له رصيد في الآخرة. فهؤلاء الذين اعترضوا علىالله فيما ضرب من الأمثال، ونقضوا عهده، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا فيالأرض هم الخاسرون . وإن ظنوا أنهم يحسنون صنعاً.
وقد وصفَاللهُ المؤمنينَ بضدِّ هذه الصفاتِ؛قال تعالى { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَأَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ }[الرعد /19]
من هم ؟


{
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِوَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِأَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَوَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَبِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُعَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْوَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) }[الرعد] .}
من فوائد الآية:
1- وجوب الوفاء بجميع العهود .كما قال تعالى ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً ) ، وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) .وأن نقض عهد الله من الفسق؛ لقوله تعالى: { الذين ينقضون عهد اللهمن بعد ميثاقه } .
2- تحريم قطيعة الرحم ، وقطع الأرحام منكبائر الذنوب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة قاطع" يعني قاطعرحم..
3- تحريم الإفساد في الأرض .وأن الإفساد في الأرض من صفات الكفار .
4- وجوب الإصلاح في الأرض . 5- معرفة صفات الكفار ليتجنبها الإنسان .
6- المعاصي والفسوق سبب للفساد في الأرض، كما قال تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهميرجعون} [الروم: 41] ؛ ولهذا إذا قحط المطر، وأجدبت الأرض، ورجع الناس إلى ربهم،وأقاموا صلاة الاستسقاء، وتضرعوا إليه سبحانه وتعالى، وتابوا إليه، أغاثهم الله عزّوجلّ؛ وقد قال نوح عليه السلام لقومه: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسلالسماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لهم أنهاراً} [نوح: 10 . 12]
(كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون "28")
كيف في اللغة للسؤال عن الحال. والحق سبحانه وتعالى أوردها في هذه الآية الكريمة ليس بغرض الاستفهام، ولكن للتعجب مع التقريع والتوبيخ. لعدم وجود مقتض لكفر ، للتعجب من كفرهم مع قيام البرهان بعد كل ما رواه الحق سبحانه وتعالى في آيات سابقة كونيةٌ ومن أدلة دامغة عن خلق السماوات والأرض وخلق الناس ،الإنسانُ نفسُه دليلٌ على وحدانيةِ ربِّه, والكونُ كلُّهعُلويُّه وسفليُّه, دليلٌ على وحدنيةِ اللهِ،أدلة لايستطيع أحد أن ينكرها أو يخطئها .. فكيف بعد هذه الأدلة الواضحة تكفرون بالله؟ يا أهل مكة كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره. كفركم لا حجة لكم فيه ولا منطق . والسؤال يكون مرة للتوبيخ ,ومرة للتعجب ، فواعجبًا كيفَ يُعصى الإلهُ أم كيفيجحدُه الجاحدُوفي كلِّ شئٍ له آيةٌ تدلُّ على أنهواحد، وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌلِّلْمُوقِنِينَ ،وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ }الذاريات20 -21 .
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً...
وهكذا ينتقل الكلام إلي أصل الحياة والموت. فبعد أن بين الحق سبحانه وتعالى - ماذا يفعل الكافرون الفاسقون والمنافقون من إفساد في الأرض. وقطع لما أمر الله سبحانه وتعالى به أن يوصل. صعد الجدل إلي حديث عن الحياة والموت. فقال تعالى وكنتم أمواتاً...

كنتم عدما نطفا في الأصلاب فأحياكم في الأرحام بنفخ الروح وأخرجكم إلى الوجود الدنيا كما قال تعالى "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون" وقال تعالى "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا" لم نكن شيئاً مذكورا؛ كناأمواتا فأحيانا هذه الحياة الأولى وأنعم علينا بأصناف النعم ،ثم يميتكم بعد انقضاء آجالكم التي حددها لكم, فلكلِ إنسان أَجَلٌ, ( إذاجَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتََئخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) يونس منالآية 49. فإن أحدا لا يشك في أنه سيموت . الموت مقدر على الناس جميعا ، والخلق من العدم واقع بالدليل ، والموت واقع بالحس والمشاهدة .
إن قضية الموت هي سبيلنا لمواجهة أي ملحد . ثم يعيدكم أحياء يوم البعث, نحنُ الآنَ أحياءٌ؛ هذه هي الحياةُ الأولى, سبقت هذهالحياهَ الموتةُ الأولى, فإذا انتهت الآجالُ مِتنا, ويومَ القيامةِ يردُّنا اللهسبحانَه وتعالى إليه ويبعثُنا من الموتِ؛ إذا هذه هي الحياةُالثانيةُ. الموتةَ الأولى قبلَ الوجودِ, والموتةَ الثانيةَبعد الوجودِ, والبعثَ بعد الموتِ.الذيهو الحياةُ الثانيةُ.
الله سبحانه وتعالى ذكر لنا غيب الخلق في القرآن الكريم فقال جل جلاله أنه خلق الإنسان من تراب ومن طين ومن حمأ مسنون ثم نفخ فيه من روحه.. إن كنتم في ريبٍ من البعث فإنا خلقناكم من تراب (من الآية 5 سورة الحج) وقوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالةٍ من طين "12" (سورة المؤمنون) وقوله تعالى: {إنا خلقناهم من طينٍ لازب } (من الآية 11 سورة الصافات) وقوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من صلصالٍ من حمأٍ مسنونٍ "26" } (سورة الحجر) وقوله تعالى: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين "72" } (سورة ص.
والله تبارك وتعالى أخبرنا بأطوارالحياة ، ولكنها غيب لم نشهده ، أخبرنا سبحانه وتعالى أنه خلق الإنسان من تراب ، من طين، من حمأ مسنون. من صلصال كالفخار ، فالماء وضع على تراب فأصبح طينا ، والطين ترك، تغير لونه وأصبح صلصالا ، الصلصال ، جف فأصبح حمأ مسنونا، ثم نحته في صورة إنسان ونفخ الحق سبحانه وتعالى فيه الروح فأصبح بشرا ،ثم يأتي الموت وهو نقض للحياة ، ونقض كل شيء يأتي على عكس بنائه،أول شيء يخرج من الجسد هو الروح وهو آخر ما دخل فيه ، ثم بعد ذلك يتصلب الجسد ويصبح كالحمأ المسنون ، ثم يتعفن فيصبح كالصلصال ، ثم يتبخر الماء الذي فيه فيعود ترابا ، وهكذا يكون الموت نقض صورة الحياة ،متفقا مع المراحل التي بينها لنا الحق سبحانه وتعالى .
"ثم إليه ترجعون" .. ،ثم إليه ترجعون للحساب والجزاء فيجازيكم بأعمالكم الجزاء الأوفى ،أي أن الله تبارك وتعالى يبعثكم ليحاسبكم ،فكيف تنكرون -أيُّها المشركون- وحدانية الله تعالى, وتشركون به غيره في العبادة ، عن ابن عباس : كنتم أمواتا فأحياكم )أمواتا في أصلاب آبائكم ، لم تكونوا شيئا حتى خلقكم ، ثم يميتكم موتة الحق ، ثم يحييكم حين يبعثكم . قال : وهي مثل قوله :ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين . وهكذا يقولُ أهلُ النارِ يومَ القيامةِ في تَوسُّلِهمإلى اللهِ عزَّ وجلَّ ليخرجَهم من النارِ"أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين": غافر 11.
قال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى "ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين" قال كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة ثم يميتكم فترجعون إلى القبور.
لقد حاول الكفار والملحدون أن ينكروا قضية البعث ،كما كان يقوله أصحاب الجاهلية الأولى:
{وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر } (من الآية 24 سورة الجاثية)
وأمنية الكافر والمسرف على نفسه ، ألا يكون هناك بعث أو حساب ، ألا يعلم هؤلاء أن الله سبحانه وتعالى الذي أوجدهم من عدم يستطيع أن يعيدهم ، يقول جل جلاله: {وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم "27" } (سورة الروم) فإيجاد ما كان موجودا أسهل من الإيجاد من عدم،والله سبحانه وتعالى يرد على الكفار فيقول سبحانه: وضرب لنا مثلاً ونسى خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم "78" قل يحييها الذي أنشأها أول مرةٍ وهو بكل خلقٍ عليم "79"} (سورة يس)
قال ابن القيم : فهذا استدلال قاطع على أن الإيمان بالله أمر مستقر في الفطر والعقول وأنه لا عذر لأحد في الكفر به البتة ، فذكر تعالى أربعة أمور ، ثلاثة منها مشهودة في هذا العالم ، والرابع منتظر موعود به وعد الحق :
الأول : كونهم كانوا أمواتاً لا أرواح فيهم بل نطفاً وعلقاً ومضغة مواتاً لا حياة فيها .
الثاني : أنه تعالى أحياهم بعد هذه الإماتـة .
الثالث : أنه تعالى يميتهم بعد هذه الحياة .
الرابع : أنه يحييهم بعد هذه الإماتة فيرجعون إليه ، فما بال العاقل يشهد الثلاثة الأطوار الأول ، ويكذب بالرابع ، وهل الرابع إلا طور من أطوار التخليق .
وهكذا فإن البعث أهون على الله من بداية الخلق ،وكل شيء مكتوب عند الله سبحانه وتعالى في كتاب مبين ، وما أخذته الأرض من جسد الإنسان ترده يوم القيامة ، ليعود من جديد. وخلق السماوات والأرض اكبر من خلق الإنسان .. قال تعالى: {لخلق السماوات والأرض اكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون "57" (سورة غافر)
ومادمنا إليه نرجع ومنه بدأنا ، فالحياة بدايتها من الله ونهايتها إلي الله ، فلنجعلها هي نفسها لله.
ولذلك يجب أن يسارع كل منا في الخيرات ، حتى لا يفاجئه الموت ، فيموت وهو عاص، ثم بعد ذلك لا يجد شيئا إلا الحساب والنار ، قال تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب "39 (سورة النور)
وأما المؤمنين التزامهم بالمنهج يطمئنهم إلي لقاء ربهم ويطمئنهم إلي جزائه ويقودهم إلي طريق الجنة ويطمئنهم على أولادهم بعد أن يرحل الآباء من الدنيا، فعمل الرجل الصالح ينعكس على أولاده من بعده. قال سبحانه وتعالى: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً "9"(سورة النساء)
من فوائد الآية:
1- إثبات الموت لقوله ( ثم يمييتكم ) .كما قال تعالى ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) . وقال تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ ) وقال تعالى (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) .
2- إثبات البعث لقوله تعالى: { ثميحييكم ثم إليه ترجعون }؛أن المرجع إلى الله تعالى ، كما قال تعالى ( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ) وقال تعالى (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) .وقال تعالى (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ) وقال تعالى ( اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .والبعث أنكره من أنكره من الناس، واستبعده، وقال: {منيحيي العظام وهي رميم} [يس: 78] فأقام الله تبارك وتعالى . على إمكان ذلكثمانية أدلة في آخر سورة "يس"
الدليل الأول: قوله تعالى: {قل يحييها الذيأنشأها أول مرة} [يس: 79] : هذا دليل على أنه يمكن أن يحيي العظام وهي رميم، وقولهتعالى: {أنشأها أول مرة} دليل قاطع، وبرهان جليّ على إمكان إعادته كما قال اللهتعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27] ..
الدليلالثاني: قوله تعالى: {وهو بكل خلق عليم} [يس: 79] يعني: كيف يعجز عن إعادتها وهوسبحانه وتعالى بكل خلق عليم، يعلم كيف يخلق الأشياء، وكيف يكونها؛ فلا يعجز عنإعادة الخلق.
الدليل الثالث: قوله تعالى: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضرناراً فإذا أنتم منه توقدون } [يس: 80] : الشجر الأخضر فيه البرودة، وفيه الرطوبة؛والنار فيها الحرارة، واليبوسة؛ هذه النار الحارة اليابسة تخرج من شجر بارد رطب؛وكان الناس فيما سبق يضربون أغصاناً من أشجار معينة بالزند؛ فإذا ضربوها انقدحتالنار، ويكون عندهم شيء قابل للاشتعال بسرعة؛ ولهذا قال تعالى: {فإذا أنتم منهتوقدون} [يس: 80] .
ووجه الدلالة: أن القادر على إخراج النارالحارة اليابسة من الشجر الأخضر مع ما بينهما من تضاد قادر على إحياء العظام وهيرميم.
الدليل الرابع: قوله تعالى: {أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادرعلى أن يخلق مثلهم بلى} (يس: 81)
ووجه الدلالة: أن خلْق السموات والأرضأكبر من خلق الناس؛ والقادر على الأكبر قادر على ما دونه.
الدليل الخامس:قوله تعالى: {وهو الخلَّاق العليم} [يس: 81] ؛ فـ {الخلاق } صفته، ووصفه الدائم؛وإذا كان خلَّاقاً، ووصفه الدائم هو الخلق فلن يعجز عن إحياء العظام وهيرميم.
الدليل السادس: قوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كنفيكون} [يس: 82] : إذا أراد شيئاً مهما كان، و {شيئاً} : نكرة في سياق الشرط، فتكونللعموم؛ {أمره} أي شأنه في ذلك أن يقول له كن فيكون، أو {أمره} الذي هو واحد "أوامر"، ويكون المعنى: إنما أمره أن يقول: "كن"، فيعيده مرة أخرى.
ووجهالدلالة: أن الله سبحانه وتعالى لا يستعصي عليه شيء أراده.
الدليل السابع: قوله تعالى: {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء} : كل شيء فهو مملوك لله عزّ وجلّ،الموجود يعدمه، والمعدوم يوجده، لأنه رب كل شيء.
ووجه الدلالة: أن اللهسبحانه وتعالى نزه نفسه؛ وهذا يشمل تنزيهه عن العجز عن إحياء العظام وهيرميم .
الدليل الثامن: قوله تعالى: ( وإليه ترجعون .
ووجه الدلالة: أنه ليس من الحكمة أن يخلق الله هذه الخليقة، ويأمرها، وينهاها، ويرسل إليها الرسل،ويحصل ما يحصل من القتال بين المؤمن والكافر، ثم يكون الأمر هكذا يذهب سدًى؛ بللابد من الرجوع؛ وهذا دليل عقلي.
فهذه ثمانية أدلة على قدرة الله على إحياءالعظام وهي رميم جمعها الله عزّ وجلّ في موضع واحد؛ وهناك أدلة أخرى في مواضع كثيرةفي القرآن؛ وكذلك في السنة..
3- إثبات الجزاء والحساب .
4- فيه الاستعداد ليوم الحساب بالإكثار من الأعمال الصالحة التي تنجيه من كرب يوم القيامة .
5 - الموت يطلق على ما لا روح فيه . وإن لم تسبقه حياة .؛يعني: لا يشترط للوصف بالموت تقدم الحياة؛ لقوله تعالى: { كنتم أمواتاً فأحياكم }؛أما ظن بعض الناس أنه لا يقال: "ميت" إلا لمن سبقت حياته؛ فهذا ليس بصحيح؛ بل إنالله تعالى أطلق وصف الموت على الجمادات؛ قال تعالى في الأصنام: {أموات غير أحياء} [النحل: 21] ..
6- أن الجنين لو خرج قبل أن تنفخ فيه الروح فإنه لا يثبت له حكم الحي؛ ولهذا لايُغَسَّل، ولا يكفن، ولا يصلي عليه، ولا يرث، ولا يورث؛ لأنه ميت جماد لا يستحقشيئاً مما يستحقه الأحياء؛ وإنما يدفن في أيّ مكان في المقبرة، أو غيرها.
7- تمام قدرة الله عزّ وجلّ؛ فإن هذا الجسدالميت ينفخ الله فيه الروح، فيحيى، ويكون إنساناً يتحرك، ويتكلم، ويقوم، ويقعد،ويفعل ما أراد الله عزّ وجلّ..


أقولقولي هذا واستغفر الله لي ولكم
اللهملك الحمد بما أنعمت علينا به وأوليت
اللهمما كان من توفيق فلك الحمد عليه أنتوحدك
وماكان من خطأ فأسأله العفوفالحمد لله
اللهمألهمنا رشدنا ووفقنا لما تحب وترضى
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لااله الا أنت نستفغرك ونتوب اليك




 
المحاضرة الحادية عشر
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز: }وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ{. والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، القائل: ((خَيْرُكم مَن تَعلّم القرآنَ وعلَّمَه))، وعلى آله وصحْبه الذين تعاهدوا القرآن الكريم، وتَلَوْه حقّ تلاوته كما سمعوه مِن فِيه -صلى الله عليه وسلم-، وعملوا بما فيه، وساروا على هداه، فنالوا بذلك الأجر العظيم والنعيم المقيم.
أما بعد وصلنا في الدرس الماضي الى قوله تعالى :هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلي السماء فسواهن سبع سماواتٍ وهو بكل شيء عليم " 29")
جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى: "فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون" ليذكرنا الله سبحانه وتعالى أن ما في الأرض كله ملك لله جل جلاله، وأننا لا نملك شيئا إلا ملكية مؤقتة. وأن ما لنا في الدنيا سيصير لغيرنا.وأنه هو الذي خلق ما في الأرض جميعا. اللهُ وحده الذي خَلَق لأجلكم كل ما في الأرض من النِّعم التي تنتفعون بها . خلق لكم, برا بكم ورحمة, جميع ما على الأرض, للانتفاع والاستمتاع والاعتبار . والحق سبحانه وتعالى حين خلق الحياة وقال "كنتم أمواتا فأحياكم" كأن الحياة تحتاج إلي إمداد من الخالق للمخلوق حتى يمكن أن تستمر. فلابد لكي تستمر الحياة أن يستمر الإمداد بالنعم. ولكن النعم تظل طوال فترة الحياة، وعند الموت تنتهي علاقة الإنسان بنعم الدنيا. ولذلك لابد أن يتنبه الإنسان إلي أن الأشياء مسخرة له في الدنيا لتخدمه. وأن هذا التسخير ليس بقدرات أحد. ولكن بقدرة الله سبحانه وتعالى. والإنسان لا يدري كيف تم الخلق. ولا ما هي مراحله إلا أن يخبرنا الله سبحانه وتعالى بها. فهو جل جلاله يقول: {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً "51"} (سورة الكهف)
وماداموا لم يشهدوا خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم. فلابد أن نأخذ ذلك عن الله ما ينبئنا به الله عن خلق السماوات والأرض وعن خلقنا هو الحقيقة وما يأتينا عن غير الله سبحانه وتعالى فهو ضلال وزيف.

وقال مجاهد في قوله تعالى "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا" قال خلق الله الأرض قبل السماء فلما خلق الأرض ثار منها دخان فذلك حين يقول "ثم استوى إلى السماء" وهي دخان "فسواهن سبع سموات" قال بعضهم فوق بعض وسبع أرضين يعني بعضها تحت بعض وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء كما قال في آية السجدة "قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظ ذلك تقدير العزيز العليم" فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء . يقولُ العلماءُ: هذه الآيه تدل على أنَّ الأصلُ في الأشياءِ الطهارةُ والإباحةُ؛ لأن اللهَ خلقَ لنا ما في الأرضِ جميعًا, وامتنَّ علينا وجعل ذلك من نِعَمِه فقال: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الجاثية13
فالأصل في الأشياءِ الإباحةُ والطهارةُ لأنَّ اللهَ خلقَها لنا. فلو لم تكن مباحةً لا ننتفعُ بها. ولو لم تكن طاهرةً لاننتفع بها. إذاً ما دام قد خلقَها لنا فهي طاهرةٌ مباحةٌ.
الأعيانُ النَّجِسةُ, هي ما قام الدليلُ على نجاستِها, والمحرَّمُ, هو ما قام الدليل على حرمته.
وما دام ليس هناك دليلٌ على النجاسةِ, ولا على الحرمةِ, إذاً الأصلُ في الأشياءِ الطهارة و الإباحةُ.
إن كلمة(لكم) هنا ذات مدلول وذات إيحاء عميق . إنها قاطعة في أن الله خلق هذا الإنسان لأمر عظيم . خلقه ليكون مستخلفا في الأرض , مالكا لما فيها , فاعلا مؤثرا فيها ودوره في الأرض وفي أحداثها وتطوراتها هو الدور الأول .
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات" أي قصد إلى السماء والاستواء هاهنا مضمن معنى القصد والإقبال لأنه عدي ب(إلى) استوى الى السماء؛ فعل (استوى) يرِدُ في القرآن الكريم لازماً ومتعدياً. ورد على ثلاثة معاني: فتارة لا تعدى بالحرف، فيكون المعنى, الكمال والتمام, كما في قوله عن موسى: { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } فالمراد بالاستواءِ هنا: الكمالُ والتمامُ وتارة تكون بمعنى " علا " و " ارتفع " وذلك إذا عديت بـ " على " كما في قوله تعالى: { ثم استوى على العرش } وقولِه تعالى: (الرَّحْمَنُ على العرْشِ استوى) طه 5,وقوله { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } إذاً استوى هنا بمعنى: علا وارتفعَ؛ كما قالَ لنوحٍ: ( فإذا استويْتَ أنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الفُلْكِ)المؤمنون من الآية 28 وتارة تكون بمعنى " قصد " كما إذا عديت بـ " إلى " كما في هذه الآية، أي: لما خلق تعالى الأرض, قصد إلى خلق السماوات { فسواهن سبع سماوات } فسواهن الضمير يرجع إلى السماء أي فخلق السماء سبعا صيرها كما في آية أخرى {فقضاهن}
أتمَّ خلقَهنَّ, وأحسنَ خلقَهنَّ, وجعلَهنَّ سبعَ سماواتٍ.
وهذا يدل على كمال خلق السموات :
كما قال تعالى (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً ) وقال تعالى (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) .
وقال تعالى ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) .
وقال تعالى (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) .
وقال تعالى ( وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ) .
وقد صرَّحَ اللهُ تباركَ وتعالى بعددِ السماءِ ولم يصرِّح بعددِ الأرضِ, ولكنَّه قالَ في آيةٍ أخرى { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ...} الطلاق12, فاختلفوا في المثليةِ هنا, هل هي مثليةٌ في العددِ أم في الخلقِ والإتقانِ؟ والراجحُ أنها في العددِ؛ لقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: (من ظَلمَ قيدَ شبرٍ من الأرضِ طُوِّقه يومَ القيامةِ من سبعِ أراضينَ. إذاً الأرضُ سبعةٌ, والسماءُ سبعةٌ.
عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم" قال إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين فخلق الأرض على حوت والحوت هو الذي ذكره في القرآن "ن والقلم" والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة في الريح وهي الصخرة التي ذكرها لقمان ليست في السماء ولا في الأرض فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض فأُرسي عليها الجبال فقرت فالجبال تفخر على الأرض فذلك قوله تعالى "وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم" وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء والأربعاء وذلك حين يقول "قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها" يقول أنبت شجرها "وقدر فيها أقواتها لأهلها في أربعة أيام سواء للسائلين" يقول من سأل فهكذا الأمر " .وقيل فتقهـا فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض "وأوحى في كل سماء أمرها" قال خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد ومما لا يعلم ثم زين السماء الدنيا بالكواكب فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش فذلك حين يقول "خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش" ويقول" كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي" وتفصيل ذلك في سورة حم السجدة وهو قوله تعالى "قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم" ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولا ثم خلق السماوات سبعا وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك .
{فقوله تعلى ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ},هذه الآيةُ مع قولِه تعالى في سورةِ فصلت:
{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ (10)ثم استوى إلى السماء......(11)} فصلت
هاتان الآيتان آية (فصلت), مع آيةِ (البقرة) تدلُّ على أنَّ خلقَ السماءِ كان بعدَ خلقِ الأرضِ.
لكنَّ سورةَ النازعاتِ فيها إشارةٌ الى أن خلقَ الأرضِ كان بعدَ خلقِ السماءِ: أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا{27} رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا{28} وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا{29} وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا{30}}النازعات
فآيةُ (النازعات) تدلُّ على أن الأرضَ خُلقتْ بعدَ السماءِ, وآيةُ( البقرة وفصلت) تدلان على أنَّ السماءَ خُلِقتْ بعدَ الأرضِ.
قالَ العلماءُ: لا تعارضَ بين الثلاثِ الأياتِ, والقولُ هوما صرَّح به ربُّنا في( البقرةِ, و(حم السجدة) أنه خلقَ الأرضَ ثم استوى إلى السماءِ فسوَّاهُنَّ سبعَ سماواتٍ.
أمَّا قولُه: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا{30} فَدَحْوُّ الأرضِ ليس خلقها, ولكنْ يفسرُه ما بعدَه وهو: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالجِبَالَ أَرْسَاهَا ) .فالدحوُّ كانَ بعدَ خلقِ السماءِ, لكنَّ خلقَ الأرضِ كانَ أولاً وخلقَ السماءِ ثانيا,ً ودحوَ الأرضِ كانَ بعدَ خلقِ السماءِ.
وهو بكل شيء عليم" أي وعلمه محيط بجميع ما خلق فـ { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها } و { يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } يعلم السر وأخفى. وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية, وكما في قوله تعالى: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } لأن خلقه للمخلوقات, أدل دليل على علمه, وحكمته, وقدرته. كما قال "ألا يعلم من خلق" .
والله ربُّنَا دائما يذكرُ معَ الخلقِ صفةَ العلمِ؛ كما في هذه الآيةِ, وكما في قوله تعالى : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بينهنَّ لتعلَمُوا أَنَّ اللَه عَلَى كُلِّ شَئٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَد أَحَاطَ بِكُلِّ شَئٍ عِلْمَا} الطلاق12 ، يعني: ما دامَ خلقَ السماواتِ والأرضَ, وخلقَ الإنسانَ, إذاً هوَ سبحانَهُ وتعالى عليمٌ بخلْقِه: ( أَلَا يَعْلَمُ منْ خَلَقَ وَهُوَ الَّلطَيفُ الخَبِيرُ) الملك 14. فهوَ سبحانَه بكلِّ شئٍ عليمٌ:
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ..}الحديد4
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }الأنعام 59
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }هود6
وقالوا: علم الله تعالى يتميز على علم عباده بكونه واحداً يعلم به جميع المعلومات، وبأنه لايتغير بتغيرها، وبأنه غير مستفاد من حاسة ولا فكر، وبأنه ضروري لثبوت امتناع زواله، وبأنه تعالى لا يشغله علم عن علم، وبأن معلوماته تعالى غير متناهية . وفي قولهم لا يشغله علم عن علم، يريدون، معلوم عن معلوم، لأنه قد تقدم أن علم الله واحد ولا يشغله تعلق علم شيء عن تعلقه بشيء آخر. علم الله لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان قال تعالى ( ... قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ) .
وقال تعالى ( وما كان ربك نسياً ) .
أما علم ابن آدم فمسبوق بجهل ويلحقه نسيان كما قال تعالى ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً ) .و يستوي في علم الله السر والعلانية ، والصغير والكبير والغيب والشهادة .
وفي تعميم قوله تعالى : {بكل شيء عليم رد على من زعم أن علم الله تعالى متعلق بالكليات لا بالجزئيات،تعالى الله عن ذلك.
من فوائد الآية:
1- إثبات أن الخالق هو الله تعالى .وتأكيد هذا العموم بقوله تعالى: { جميعاً } مع أن { ما } موصولة تفيد العموم .
2- في هذا دلالة على أنه سبحانه وتعالى ابتدأ بخلق الأرض أولاً ثم خلق السموات سبعاً ، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك .
3- فيه دليل على أن الأصل في الأشياء الحل حتى يقـوم دليل على التحريم لقوله سبحانه ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) فكل ما على الأرض من الأشجار والنباتات والمياه الأصل فيه الحل . وهذه الآية هي نص الدليل القطعي على القاعدة المعروفة عند الفقهاء ( أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة ) ، والمراد إباحة الانتفاع بها أكلاً وشرباً ولباساً وتداوياً وركوباً وزينة .
4- فيه دليل على أن السموات سبع ، والآيات في هذا كثيرة :
كقوله تعالى ( قل من رب السموات السبع ) .وقال تعالى ( تسبح له السماوات السبع ) . وقال تعالى ( فقضاهن سبع سموات ) .وقال تعالى ( الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن ) .
وأما الأرض فلم يأت في القرآن التصريح بأنها سبع ولكن جاء التلميح كما في الآية السابقة ( الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن ) . مثلهن : أي في العدد .
وجاءت السنة تبين أن الأرضين سبع : كقوله e ( من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين ) متفق عليه .
5- إثبات عموم علم الله تبارك وتعالى . وهو بكل شيء عليم

6- إثبات الأفعال لله عزّ وجلّ . أي أنه يفعل ما يشاء؛ لقوله تعالى: { ثم استوى إلى السماء }: و{ استوى } فعل؛ فهو جلّ وعلا يفعل ما يشاء، ويقوم به من الأفعال ما لا يحصيه إلا الله، كما أنه يقوم به من الأقوال ما لا يحصيه إلا الله..

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم
اللهم لك الحمد بما أنعمت علينا به وأوليت
اللهم ما كان من توفيق فلك الحمد عليه أنت وحدك
وما كان من خطأ فأسأله العفو فالحمد لله
اللهم ألهمنا رشدنا ووفقنا لما تحب وترضى
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لااله الا أنت نستفغرك ونتوب اليك
 
المحاضررة الثانية عشر
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز:{ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}. والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، القائل: ((خَيْرُكم مَن تَعلّم القرآنَ وعلَّمَه))، وعلى آله وصحْبه الذين تعاهدوا القرآن الكريم، وتَلَوْه حقّ تلاوته كما سمعوه مِن فِيه -صلى الله عليه وسلم-، وعملوا بما فيه، وساروا على هداه، فنالوا بذلك الأجر العظيم والنعيم المقيم.
أما بعد وصلنا في الدرس الماضي الى قوله تعالى :
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون "30")
بعد أن أخبرنا الحق سبحانه وتعالى أنه خلق جميع ما في الكون. أراد أن يخبرنا عمن خلفه لعمارة هذا الكون. فبدأ بقصة آدم أول الخلق ، وذُكِرَ في هذه القصةِ العوالمَ الثلاثَ: الملائكةَ والجنَّ والإنسَ.
الملائكةُ عالمٌ, والجنُّ عالمٌ, والإنسُ عالمٌ. والنبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ قد فرَّقَ بين هذهِ العوالمِ الثلاثةِ في مادةِ الخلَق, عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم صحيح الإمام مسلم
جاءت هذه القصة لتدلنا على صدق البلاغ عن الله سبحان وتعالى .قال تعالى (نحن نقص عليك نبأهم بالحق (من الآية 13 سورة الكهف .فكلمة الحق هنا تدلنا على أن هناك قصصا. ولكن بغير حق. والله سبحانه وتعالى أراد أن يخرج قصصه عن دائرة القصص التي يتداولها الناس أو قصص التاريخ لإمكان مخالفتها الواقع وتأتي بغير حق. والقرآن كتاب دعوة , ودستور نظام , ومنهج حياة , لا كتاب رواية ولا تسلية ولا تاريخ . وكلمة قصة. مأخوذة من قص الأثر. بمعنى أن يتبع الإنسان قصاص الأثر في الصحراء ، الآثار التي يشاهدها على الرمال حتى يصل إلي مراده. عندما يصل إلي نهاية الأثر. ولكل قصة في القرآن عبرة. أو شيء مهم يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إليه. تكون القصة أحيانا لتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت المؤمنين: كما في قوله تعالى: {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } (من الآية 120 سورة هود تثبت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في المواقف التي تزلزلهم فيها الأحداث. والعبرة في قصص القرآن الكريم أنها تنقل لنا أحداثا في التاريخ. تتكرر على مر الزمن. ففرعون مثلا هو كل حاكم يريد أن يعبد في الأرض. وأهل الكهف مثلا هي قصة كل فئة مؤمنة هربت من طغيان الكفر وانعزلت لتعبد الله. وقصة يوسف عليه السلام هي قصة كل أخوة نزغ الشيطان بينهم فجعلهم يحقدون على بعضهم. وقصة ذي القرنين هي قصة كل حاكم مصلح أعطاه الله سبحانه الأسباب في الدنيا ومكنه في الأرض. فعمل بمنهج الله وبما يرضي الله. وقصة صالح هي قصة كل قوم طلبوا معجزة من الله. فحققها لهم فكفروا بها. وقصة شعيب عليه السلام .. هي قصة كل قوم سرقوا في الميزان والمكيال. وهكذا كل قصص القرآن. قصص تتكرر في كل زمان. حتى في الوقت الذي نعيش فيه تجد فيه أكثر من فرعون. وأكثر من أهل كهف يفرون بدينهم. وأكثر من قارون يعبد المال والذهب. ويحسب أنه استغنى عن الله. ولذلك جاءت شخصيات قصص القرآن مجهلة إلا قصة واحدة هي قصة عيسى بن مريم ومريم ابنة عمران. لأنها معجزة لن تتكرر. ولذلك عرفها الله لنا فقال "مريم ابنة عمران" وقال "عيسى بن مريم" حتى لا يلتبس الأمر. وتدعي أي امرأة أنها حملت بدون رجل. مثل مريم. فمعجزة مريم لن تتكرر. ولذلك حددها الله تعالى بالاسم. فقال: عيسى بن مريم. ومريم ابنة عمران .. أما باقي قصص القرآن الكريم فقد جاءت مجهلة. فلم يقل لنا الله تعالى من هو فرعون موسى. ولا من هم أهل الكهف ولا من هو ذو القرنين ولا من هو صاحب الجنتين. إلي آخر ما جاء في القرآن الكريم. لأنه ليس المقصود بهذه القصص شخصا بعينه.فالله سبحانه وتعالى روى لنا القصة دون توضيح للأشخاص. لنعرف أنه ليس المقصود شخصا بعينه. ولكن المقصود هو الحكمة من القصة.
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة
(وإذ قالَ ربُّكَ، إذ: في موضعِ نصبٍ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: واذكرْ يا نبِينا إذْ قالَ ربُّك للملائكةِ إنِّي جاعلٌ في الأرضِ خليفهً. يخلفني في تنفيذ أحكامي فيها وهو آدم .{ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلاْرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ النور، 55 }. وقيل: الخليفة اسم لكل من انتقل إليه تدبير أهل الأرض والنظر في مصالحهم .
نلاحظ أن الله سبحان وتعالى ما قال بشر ولا قال آدم قال: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة ً ) وفي هذا إِشارة إلى أننّا نحنُ الجنسُ البشري قد استخلفنا الله تعالى في هذه الأرض لعمارتها بطاعته وعبوديته، فهذه الآيات في إعداد أمّة الإسلام للخِلافة والإِمامة وحمل أمانة الدّين وتكليفُها بالشَّريعة وأمُرها بالتبليغ وتُركِّز على إكرام الله عزّوجل لآدم بالخلافة .
هذه الأياتُ تثبتُ للهِ صفة الكَلامِ، فالكلامُ صفةٌ من صفاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ. لم يزلْ اللهُ متكلماً بما شاءَ كيفَ شاءَ متى شاءَ،ويُسمِعُ كلامَه منْ يشاءُ, سبحانَهُ وتعالى. (ليسَ كمِثْلِهِ شئٌ وهوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) الشورى 11.
ذكرَ كثيرٌ من المفسرينَ قالوا: الإنسانُ خليفةُ اللهِ في الأرضِ قالَ ابنُ القيِّمِ "وهذهِ منَ الألفاظِ الخاطئةِ ". من الألفاظِ الخاطئةِ أنْ يُقالَ: الإنسانُ خليفةُ اللهِ, لماذا؟ لأنَّ الخليفةَ مَنْ يَخْلُفُ غيرَهُ بعدَ موتٍ, أو غيابٍ؛ سافرَ فلانٌ فخلَفَهُ فلانٌ؛ إذاً خلفَه بعدَ غيابٍ.
ماتَ فلانٌ فخلفَه فلانٌ؛ خلفَه بعدَ موتٍ.
فالخليفةُ يكونُ بعد غيابِ المستخلفِ أو موتِه, واللهُ تباركَ وتعالى حيٌّ لا يموتُ, حاضرٌ لا يغيبُ, فلا يجوزُ أن يكونَ له خليفهٌ.
بل إنَّ اللهَ تعالى خليفةُ كلَّ مسلمٍ,كما في دعاءِ السفرِ؛كان عليه الصلاةُ والسلامُ يقولُ: ( اللهُمَّ أنتَ الصَّاحبُ في السفرِ والخليفةُ في المالِ والأهلِ والولدِ).
إذاً لفظ: (الإنسانُ خليفةُ اللهِ) هذا من الألفاظِ الخاطئةِ التي لا يجوزُ أنْ تُقالَ.
إذاً ما معنى إني جاعلٌ في الأرض خليفةً ؟ أي: إنَّ اللهَ تعالى جاعلٌ في الأرضِ ناساً يخلفُ بعضُهم بعضا, كما قال: ( ويَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرضِ) النمل من الآية 62 , وقال: ( هوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ في الأَرْضِ) فاطر من الآية 39 ،يَروحُ جيلٌ ويخلُفُه جيلٌ. ويَروحُ قرنٌ ويخلُفُهُ قرنٌ, النَّاسُ خلفاءُ بعضِهم بعضًا.
هذا معنى: إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةً أي : قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل ، واختلف العلماء في المراد بالخليفة هنا :
فقيل : المراد آدم عليه السلام لأنه خليفة الله في تنفيذ أوامره .
وقيل : أي قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل ، ورجح هذا القول ابن كثير .كما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ) الأنعام 165 وقال (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ) النمل 62 .ويدل على أنه ليس المراد آدم قول الملائكة ( أتجعل من يفسد فيها ويسفك الدماء ) فإنه من المعلوم أن آدم ليس مما يفسد في الأرض ويسفك الدماء .( انتهى كلام ابن كثير )
ماذا قالت الملائكة: "قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، قول الملائكة ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم ولايجوزُ أنْ يُظَنَّ أنَّ هذا سؤالُ اعتراضٍ من الملائكةِ على اللهِ. كيفَ واللهُ تعالى وصفَهم بقولِه: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ }الأنبياء 27 و قال : {... لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } التحريم6 وإنما هو سؤالٌ لاستعلامِ الحكمةِ, ولمعرفةِ الحكمةِ ، يقولون يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ،ولا يصدر منا شيء من ذلك، فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك أي نصلي لك فغرضُهم شدّة التّعجب مع التّعريض بأنفسهم أنّهم أولى بذلك لأنَّهُم يُسبِّحون الله ـ عزّ وجل ـ ويُقَدِّسونه وهم سالمون من الآثام،. خفيت عليهم حكمة المشيئة العليا , في بناء هذه الأرض وعمارتها , وفي تنمية الحياة وتنويعها ،وفي تحقيق إرادة الخالق في تطويرها وترقيتها وتعديلها , على يد خليفة الله في أرضه . هذا الذي قد يفسد أحيانا , وقد يسفك الدماء أحيانا , ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر خير أكبر وأشمل . خير النمو الدائم , والرقي الدائم . خير الحركة الهادمة البانية . وخَفيت عليهم حكمةُ الله العُظمى في شأن هذا الخَلق وما سيكون فيه من مصالح عظيمة وبأنّ وراء خلقه مصالح أخرى لا تعلمُهاالملائكة من إقامة أمر الله سبحانه وتعالى وإظهار حِكَمِه وآثار أسمائه وصفاته، لولم يكن هذا المخلوق, كيف يظهر اسم الله الغفور؟! وكيف يظهر اسم الله القدير؟ قديرعلى الكافرين، وغفورٌ للمؤمنين التّائبين، فلا تظهر أسماء الله وآثارها إلا بهذاالمخلوق وأعماله، فيحصُل من وراء ذلك المخلوق، حِكَمٌ عظيمة عَلِمَها الله ـ عزّوجلـ وخَفيت عن الملائكة ،وأن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصديقين, والشهداء والصالحين, ولتظهر آياته للخلق, ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة, كالجهاد وغيره, وليظهر ما كمن في غرائز بني آدم من الخير والشر بالامتحان, وليتبين عدوه من وليه, وليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه, واتصف به, فهذه حكم عظيمة.
(قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها) والفسادُ في الأرضِ يكونُ بالكفرِ والمعاصي (ويسفك الدماء) يريقها بالقتل كما فعل بنو الجان وكانوا فيها فلما أفسدوا أرسل الله عليهم الملائكة فطردوهم إلى شعف الجبال وبطون الأودية وجزائر البحور . وقتْلُ النَّفسِ البريئةِ بغيرِ حقٍّ شرُّ فسادٍ في الأرضِ فذكروا العمومَ, وذكروا منه الخاصَّ .فقولهم (وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) تخصيص بعد تعميم ، فإن سفك الدماء من الفساد ، لكن خصص لعظيم مفسدته ، فإن القتل من أكبر الكبائر .
كيف عرف الملائكة ذلك ؟ عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة أن الله أعلم الملائكة بما تفعله ذرية آدم فقالت الملائكة ذلك وروى الضحاك عن ابن عباس أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم فقالت الملائكة ذلك فقاسوا هؤلاء بأولئك.
عن ابن عبّاس وابن مسعود وأناس من أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلّم أنّ الله عزّوجل قال للملائكة: ( إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة) قالواربُّنا وما يكونُ ذلك الخليفة ؟! قال يكونُ له ذُرِّية يُفسدون في الأرض ويتحاسدونويقتُل بعضهم بعضاً، فقالوا: (أتجعل فيها من يُفسِدُ فيها ويسفكالدِّماء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ).
إذاً هذا الذي قالوه مما تعلَّموه من اللهِ, مما أَذِنَ اللهُ لهم في علمِه. إذاً هذا شئٌ أطلَعَهم اللهُ عليه.
فهو إذاً إمَّا أن يكونَ قد أطلعَهم الله عليه, وإمَّا أن يكونوا فهموا أنَّ الطبيعةّ البشريَّةَ غيرُ الطبيعةِ الملائكيةِ؛ إمَّا أن تكونَ الملائكةُ قد اجتهدتْ في الفهمِ وظنَّتْ هذا, وظنَّتْ كما ظنَّ إبليس ببعضِ بني آدمَ قالَ: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }الأعراف من الآية 17 ، وقد صدقَ ظنُّه فيهم؛ {ولَقَد صَدَّقَ عَلِيهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ } سبأ من الآية 20 ،إذاً يمكنُ أن يكونَ هذا من الملائكةِ على سبيلِ الظنِّ؛ ظنُّوا أنَّ الطبيعةَ البشريةَ غيرُ الطبيعةِ الملائكيةِ؛ فالطبيعةُ الملائكيةُ معصومةٌ, والطبيعةُ الأدميةُ ليست معصومة. إذاً سيكونُ منها فسادٌ في الأرضِ وسفكٌ للدماءِ . وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ والتسبيح هو التنزيه عما لا يليق بذات المنزه ، تنزيه الله عن العيوب والنقائص. والتقديس هو التطهير ،مأخوذ من القدس وهو الدلو الذي كانوا يتطهرون به ( وَنُقَدِّسُ لَكَ ) أي : نطهرك من كل عيب . ولذلك نحن نقول سبوح قدوس. سبوح أي منزه عن كل ما لا يليق بجلاله. وقدوس. أي مطهر ،(بحمدك ): أي تسبيحاً مصحوباً بحمدك ، فتكون الجملة متضمنة لتنزيـه الله عن النقص ، وإثبات الكمال لله بالحمد . أي أننا نُنَزِّهُك ونحمدك يارب .نذكرُكَ, ونُثني عليكَ, ونمجدُك, ونطهِّرُ ذكركَ من كلِّ ما لايليقُ. والتسبيح والتنزيه لا يكونان إلا للكمال المطلق الذي لا تشوبه أية شائبة .والكمال المطلق هو لله سبحانه وتعالى وحده لذلك صرف الله ألسنة خلقه عن أن يقولوا كلمة سبحانك لغير الله تعالى. فلا نسمع في حياتنا أن إنسانا قال لبشر سبحانك. وهكذا صرفت السنة الخلق عن أن تسبح لغير الله سبحانه وتعالى .
واختلف في تسبيح الملائكة :فقيل : تسبيحهم صلاتهم ، وقيل : تسبيحهم رفع الصوت بالذكر ، وقيل : تسبيحهم سبحان الله على عُرفه في اللغة وهذا هو الصحيح .
ثم أراد الله بحكمته أن يرد على الملائكة فقال: "إني أعلم ما لا تعلمون" . لأنه يعلم ما يسرون وما يعلنون. وأنه يعلم السر وأخفى. فما هو السر. وما هو الأخفى من السر؟ السر هو ما أسره الإنسان إلي غيره. فما أسر به إلي غيري. فهو السر. وما أخفيه في صدري ولا يطلع عليه أحد. هو أخفى من السر. فلا يقال أسررت إلا إذا بحت به لغيري. أما ما أخفيه في صدري. فلا يعلمه أحد إلا الله. فهذا هو ما أخفى من السر. وعندما يقول الحق سبحانه وتعالى: "إني أعلم ما لا تعلمون" أنتم عرفتم شيئاً وغابتْ عنكم أشياءُ, وأنا عالم بالظواهر والسرائر, وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة, أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر ، وأعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم ، فإني سأجعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار .وهذا فيه دليل على أن الملائكة لا تعلم الغيب ، فالغيب لا يعلمه إلا الله كما قال تعالى (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) النمل 65.فعلم المخلوق مناسب لمخلوقيته. أما علم الله سبحانه وتعالى .. فهو أزلي لا نهائي. وقد علِم اللهُ تباركَ وتعالى أنَّّ من الذين سيستخلفُهم في الأرضِ سيكونُ الأنبياء, والمرسلونُ, والعلماءُ, والشهداءُ, والأولياءُ الصالحونَ, والمجاهدونَ, والآمرونَ بالمعروفِ, والناهونَ عن المنكرِ, والراكعون الساجدون.
فوجودُ هذا الخيرِ مصلحةٌ كبيرةٌ جداً لا يجوز منْعُها من أجل المضرَّةِ البسيطة التي ستحصل معها؛ فوجودُ الناسِ في الأرضِ سيترتبُ عليه خيرٌ كثيرٌ معه شرٌ,ولكنَّ الشرَّ يذوبُ في الخيرِ الذي سيتحقَّقُ على أيديهم.
فوائد الآية وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ....
1- إثبات القول لله تعالى لقوله تعالى ( وإذ قال ربك .. ) .
2- إثبات الملائكة ،والملائكة عالم غيبي خلقهم الله من نور ، كما قال e ( خلقت الملائكة من نور ) رواه مسلم ، وظيفتهم عبادة الله تعالى يعبدون الله لا يملون .
كما قال تعالى ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) الأنبياء 20. ومعنى لا يفترون : لا يضعفون .
وقال تعالى (فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) سورة فصلت) .38
،فالإيمان بهم من أركان الإيمان قال e في بيان أركان الإيمان ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ) متفق عليه .
عددهم كثير لا يعلم عددهم إلا الله .كما قال تعالى (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) .المدثر 31
وقال e في البيت المعمور في السماء السابعة ( فإذا هو يدخـله في كل يوم سبـعون ألف ملك ، لا يعودون إليه آخر ما عليهم ) رواه مسلم .
ونعرف أسماء بعضهم . إسرافيل ( الذي ينفخ في الصور ) وجبريل ( هو الذي يأتي بالوحي ) وميكائيل ( هو الذي موكل بالقطر ) .
وهؤلاء كان النبي e يتوسل بربوبية الله لهم في دعاء الاستفتاح في صلاة الليل فيقول ( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون . اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) رواه مسلم .
ومالك ( خازن النار ) . قال تعالى ( ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون ) .الزخرف 77
رضوان . قال ابن كثير : وخازن الجنة ملك يقال له رضوان ، جاء مصرحاً به في بعض الأحاديث .
3- خلق الملائكة سابق على خلق آدم أبي البشر .
4- الملائكة لا تعلم الغيب ، فالغيب لا يعلمه إلا الله كما قال تعالى ((قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) النمل 65.5- تحريم الإفساد في الأرض بأنواع المعاصي .
6- أن القتل من أكبر الكبائر .
7- عظم عبادة الملائكة لربها ، وقد قال e ( أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع شبر إلا ملك ساجد أو راكـع ....) .رواه الترمذي وقال : حديث حسن
8- فضل تسبيح الله وحمده . قال e ( أفضل الكلام ما اصطفى الله لملائكته : سبحان الله وبحمده ) رواه مسلم .
وقال e ( كلمتان خفيفتان على اللسان ، حبيبتان إلى الرحمن ، ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم ) متفق عليه .
وقال e ( من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة ) رواه الترمذي .وقال e ( وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض ) رواه مسلم .
وقال e ( من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد ) رواه مسلم .
وقال e ( لأن أقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس ) رواه مسلم .
9- فيه عموم علم الله ، وأنه سبحانه يعلم المستقبل كيف يكون .

المصادر
اعتمدت في شرح الآيات على بعض كتب التفسير الموثوقة منها :
تفسير ابن كثير
التفسير الميسر
في ظلال القرآن
تفسير الشعراوي
الجلالين
تفسير القرطبي
تفسير الطبري
تفسير السعدي
الوسيط
تفسير الشيخ العلامة محمد بن صالح بن العثيمين
معلومات فقهية عن سورة الفاتحة من شرح الشيخ خالد الصقعبي.
من اللمسات البيانية للدكتور حسام النعيمى فى سورة الفاتحة
برنامج(ورتل القرآن ترتيلاً
مدارج السالكين
إن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان وإن أصبت فمن فضل الله وحده
والحمد لله الذي هدانا لهذا وماكنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
اللهم اجعل عملي خالصا لوجهك الكريم
ولاتجعل لأحد شيئا منه سواك
اللهم إني أعوذ بك من عمل فيه رضاك والتمس فيه أحد سواك
 
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

جزاكِ الله خيرا و بارك الله فيكِ شيختنا
 
عودة
أعلى