[align=justify]هذا نص ما جاء في رسالتي للدكتوراه في دراسة الخلاف في هذه المسألة:
( قال ابن القيم في سياق ذكره لأقسام القرآن : ( ومن ذلك قوله في قصة لوط عليه السلام ، ومراجعته قومه له : ﴿ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ . قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ ( الحجر :70-72) ، أكثر المفسرين من السلف والخلف- بل لا يعرف عن السلف فيه نزاع - أنّ هذا قسم من الله بحياة رسوله r . وهذا من أعظم فضائله أن يقسم الرب عز وجل بحياته . وهذه مزية لاتعرف لغيره.
ولم يوافق الزمخشري على ذلك ، فصرف القسم إلى أنه بحياة لوط ، وأنه من قول الملائكة ، فقال : هو على إرادة القول ، أي قالت الملائكة للوط عليه الصلاة والسلام : »لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون «. ([1])
وليس في اللفظ مايدل على واحد من الأمرين ، بل ظاهر اللفظ وسياقه إنما يدل على ما فهمه السلف ، لا أهل التعطيل والاعتزال .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : »لعمرك « ، أي : وحياتك ، قال : وما أقسم الله تعالى بحياة نبي غيره ([2]).
والعَمْر والعُمر واحد ، إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإثبات الأخف ؛ لكثرة دوران الحلف على ألسنتهم .
وأيضاً فإن العمر حياة مخصوصة ، فهو عمر شريف عظيم أهلٌ أن يقسم به لمزيته على كل عمر من أعمار بني آدم . ولا ريب أن عمره وحياته r من أعظم النعم والآيات ؛ فهو أهل أن يقسم به . والقسم به أولى من القسم بغيره من المخلوقات .)([3])
الدراسة :
في المخاطب بقول الله تعالى : ﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ قولان ذكرهما ابن القيم ، وهما :
القول الأول : أنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم ؛ حيث أقسم الله تعالى بحياته في هذه الآية .
والقول الثاني : أنه نبي الله لوط عليه السلام ، وهذا من قول الملائكة .
والقول الأول هو قول السلف ، وهو ما رجحه ابن القيم ، وذكر أنه لا نزاع فيه بين السلف . وقد ذكر إجماع السلف على هذا التفسير غير واحد – كما سيأتي - .
وقد انقسم المفسرين إلى قسمين في موقفهم من هذين القولين :
القسم الأول : اعتمد تفسير السلف للآية . ومن هؤلاء :
ابن جرير ؛ فقد اقتصر على هذا القول ، وذكر قول ابن عباس في ذلك .([4])
ووافقه ابن عطية ([5])، وابن كثير .([6])
وكذلك ابن عاشور ؛ فقد ذكر أن هذه الآية جاءت معترضة بين أجزاء قصة لوط للتنبيه على عدم انتفاع من كان في سكرة هواه . ثم ذكر أن المخاطب بها هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم من قِبَل الله . ثم قال : ( وقيل : هو من كلام الملائكة بتقدير قول .) ([7])
القسم الثاني : ذكر القولين . ومن هؤلاء من اكتفى بذكر القولين من غير ترجيح أو اختيار ، كالرازي([8]) ، وأبي حيان.([9])
ومنهم من ذكرهما ، ومال إلى القول الآخر ، كابن العربي ، والقرطبي .
قال ابن العربي : ( قال المفسرون بأجمعهم : أقسم الله هنا بحياة محمد صلى التشريفاً له , أن قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون ...
وهذا كلام صحيح , ولا أدري ما الذي أخرجهم عن ذكر لوط إلى ذكر محمد , وما الذي يمنع أن يقسم الله بحياة لوط , ويبلغ به من التشريف ما شاء ؛ فكل ما يعطي الله للوط من فضل ويؤتيه من شرف فلمحمد ضعفاه ; لأنه أكرم على الله منه ...
فإذا أقسم الله بحياة لوط فحياة محمد أرفع , ولا يخرج من كلام إلى كلام آخر غيره لم يجر له ذكر لغير ضرورة .) ([10])
وقد نقل قوله القرطبي ، وقال : ( ما قاله حسن ؛ فإنه كان يكون قسمه سبحانه بحياة محمد r كلاماً معترضاً في قصة لوط .)([11])
ومن المفسرين الذين ذكروا القولين ، ورجحوا الأول : الثعالبي ؛ فقد قال - بعد أن نقل كلام ابن العربي السابق - : ( وما ذكَرَه الجمهورُ أحْسَنُ ؛ لأن الخطاب خطابُ مواجهةٍ ، ولأنه تفسير صحابيٍّ ، وهو مقدَّم على غيره. )([12])
والألوسي كذلك ؛ فقد قال بعد ذكره للقول الثاني : ( وهو مع مخالفته للمأثور محتاج لتقدير القول ، أي : قالت الملائكة للوط عليهم السلام : »لَعَمْرُكَ « الخ ، وهو خلاف الأصل ، وإن كان سياق القصة شاهداً له وقرينة عليه .)([13])
النتيجة :
من خلال النقول السابقة عن المفسرين يتبين رجحان القول الذي رجحه ابن القيم لاتفاق أهل التفسير المتقدمين عليه ([14])، ولأنه قول موافق لظاهر الآية ؛ فلا تحتاج معه إلى تقدير .
ومما يرجح هذا القول أيضاً : أن القسم فيه من الله تعالى، وله سبحانه أن يقسم بما شاء . وأما على القول الآخر ؛ فيكون القسم من الملائكة بغير الله ، وهذا من القسم الممنوع . ([15])
وإذا تقرر هذا ؛ فإنه لا يعتد بالقول المخالف للإجماع .([16])
تنبيهات وفوائد :
التنبيه الأول : نوع الخلاف وثمرته :
الخلاف السابق يرجع إلى قولين يحتملهما اللفظ ، وهما متغايران ، ولا يمكن حمل الآية عليهما معاً .
وثمرته : على القول المعتمد يكون في الآية تشريف عظيم للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ أقسم الله تعالى بحياته ، وخصه بذلك دون سائر الأنبياء عليهم السلام .
وعلى القول الآخر ، يكون القسم من الملائكة بحياة نبي الله لوط عليه السلام ، وفي هذا ما فيه .
التنبيه الثاني : سبب الخلاف :
سبب الخلاف في هذه المسألة سببه : اعتبار بعض المفسرين قرينة السياق ، وتقديمها على المأثور عن السلف في تفسير الآية .
ولعل من أسباب الخلاف هنا : الاختلاف العقدي ؛ فأول من رأيته ذكر القول الثاني : الزمخشري ، ثم تبعه على ذلك بعض المفسرين . ومعلوم أن هذا القول يناسب معتقد المعتزلة في صفة الكلام . وقد نبّه ابن القيم على هذا السبب في كلامه السابق .[/align]
التعليقات والحواشي السفلية : --------------------------------------------------------------------------------
([1] ) انظر تفسيره الكشاف 2/317-318 ، وقد ذكر قول السلف بعد ذكره لهذا القول .
([2] ) أخرجه بلفظ أطول من هذا ابن جرير 14/91-90 من طريقين . وقد حسن إسناده محققو تفسير ابن كثير 8/269 طبعة مكتبة أولاد الشيخ .
([3] ) التبيان في أقسام القرآن 428-429 ، وبدائع التفسير 3/27 .
([4] ) انظر جامع البيان 14/91-92 .
([5] ) انظر المحرر الوجيز 8/338 .
([6] ) انظر تفسير القرآن العظيم 4/1963 .
([7] ) انظر التحرير والتنوير 14/67-68 .
([8] ) انظر التفسير الكبير 19/161 .
([9] ) انظر البحر المحيط 6/489-490 .
([10] ) أحكام القرآن 3/105 باختصار .
([11] ) انظر الجامع لأحكام القرآن 10/39-40 .
([12] ) الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 3/404 .
([13] ) روح المعاني 14/72 .
([14] ) ممن ذكر الاتفاق إضافة إلى من سبق ذكره في الدراسة : القاضي عياض ، فقد قال : ( اتفق أهل التفسير في هذا أنَّهُ قَسَمٌ من الله جل جلاله بمدة حياة محمد r ..) كما في كتابه الشفا 1/41 .
([15] ) على أن في كون هذا اللفظ من صيغ القسم الشرعي خلافاً . وقد بسطه الشيخ حماد الأنصاري في بحث مستقل نشر في مجلة الجامعة الإسلامية – العدد الثاني – 1394 هـ ص 37-61 . ورجح أن القسم بهذه الصيغة ليس قسماً شرعياً ، وإنما قسم لغوي .
([16] ) انظر تفصيل ذلك في كتاب الإجماع في التفسير للدكتور محمد الخضيري ص329-332 .