وجاء في كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق ؛
لشهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس المشهور بالقرافي (684هـ-1285م) :
( أما النسيان الذي هو الترك مع الغفلة الذي هو مشتهر في العرف لا يجوز طلب العفو فيه لأن طلب العفو فيه وعنه قد علم بالنص والإجماع ) .
قلت لقائل أن يقول النسيان العرفي الذي ذكره هنا لا يخلو أن يكون مما لا تسبب فيه أو مما له فيه تسبب , فإن كان من الأول فهو مفتقر إلى دليل على أنه ممنوع طلب العفو عنه ; لأن ذلك قلة أدب , وإن كان من الثاني فلا شك [ ص: 276 ] أن طلب العفو إنما هو طلب العفو عن التسبب وطلب العفو عن ذلك طلب للعفو عما لم يعلم العفو عنه والله تعالى أعلم . قال ( وكذلك إذا أراد بقوله ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به أيا من البلايا والرزايا والمكروهات جاز ; لأنه لم تدل النصوص على نفي ذلك ) قلت ما قاله هنا صحيح . قال ( بخلاف التكاليف الشرعية فإنها مرفوعة بقوله تعالى { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فيقتضي طلب رفع ذلك , فإن أطلق العموم من غير تخصيص لا بالنية ولا بالعادة عصى لاشتمال العموم على ما لا يجوز فيكون ذلك حراما ; لأن فيه طلب تحصيل الحاصل , فإن قلت فقد قال تعالى حكاية عن قوم في سياق المدح { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد } ووعد الله سبحانه لا بد من وقوعه فقد طلبوا تحصيل الحاصل وهو عين ما نحن فيه , وقد مدحهم الله تعالى فدل على جواز ذلك وأنت تمنعه قال قلت إنما جاز لهم سؤال ما وعدهم الله به ; لأن حصوله لهم مشروط بالوفاة على الإيمان , وهذا شرط مشكوك فيه والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط فما طلبوا إلا مشكوكا في حصوله لا معلوم الحصول . وأما ما نحن فيه فليس فيه شرط مجهول بل علم من الشريعة بالضرورة ترك المؤاخذة الخطأ والنسيان مطلقا , فإن قلت فإذا جوزت [ ص: 277 ] ذلك بناء على الجهالة بالشرط فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخبر بذلك مطلقا , وإنما أخبر بالرفع عن أمته , وكون الداعي يموت وهو من أمته مجهول فما طلب إلا مجهول بناء على التقرير المتقدم . قلت كونه من الأمة ليس شرطا في هذا الرفع ودلالة الخبر على ذلك إنما هي من جهة المفهوم ونحن نمنع كون المفهوم حجة لاختلاف العلماء فيه سلمنا أنه حجة لكنه متروك هاهنا إجماعا وتقريره أن نقول الكفار إما أن نقول إنهم مخاطبون بفروع الشريعة أو ما هم مخاطبون بها , فإن قلنا إنهم ليسوا مخاطبين بها فالرفع حاصل لهم في جميع الفروع : النسيان وغيره , فبطل المفهوم واستوت الخلائق في الرفع حينئذ , وإن قلنا إنهم مخاطبون بها فلا يكون قد شرع في حقهم ما ليس سببا في حقنا بل كل ما هو سبب الوجوب في حقنا هو سبب الوجوب في حقهم , وما هو سبب التحريم في حقنا هو سبب التحريم في حقهم , وكذلك سبب الترخص والإباحة فعلى هذا التقدير لا يكون خصوص الأمة شرطا في الرفع ولم يقل أحد إن الكفار في الفروع أشد حالا من الأمة فظهر أن هذا المفهوم باطل اتفاقا فليس هناك في النسيان والخطإ شرط مجهول فيكون الشارع [ ص: 278 ] قد أخبر بالرفع في هذه الأمور مطلقا فيحرم الدعاء به ) .
قلت ليس ما قاله شهاب الدين في هذا الجواب وأطال فيه بصحيح ; لأن مساق الحديث مشعر بالمدح لهذه الأمة فيتعين لذلك اختصاصها بذلك الرفع ويلزم القول بهذا المفهوم لقرينة المدح ويكون هنا في هذا المقام شرط مجهول كما قاله السائل ويبطل جوابه والله تعالى أعلم ...) .
وللفائدة :
كتاب أنوار البروق في أنواع الفروق ، اشتهر بالفروق وهو في القواعد الفقهية والفروق بين المسائل والمواضيع المتشابهة مع بيان أحكامها على المذهب المالكي والمقارنة أحيانا مع بقية المذاهب ويشتمل على 274 فرقا فيها (540) قاعدة وضح فيها القواعد الفقهية وما يناسبها من الفروع وقدم له بمقدمة عن علم أصول الفقه وفائدة القواعد ومعنى الفروق لغة واصطلاحا وبدأه بقاعدة الفرق بين الشهادة والرواية وختمه بالفرق بين قاعدة ما هو مكروه والدعاء وقاعدة ما ليس بمكروه وجاء الشيخ قاسم بن عبد الله المعروف بابن الشاط (723هـ) وعلق على كتاب الفروق لتصحيح بعض الأحكام وتنقيح بعض المسائل في كتاب سماه " إدرار الشروق على أنوار الفروق " وقام الشيخ محمد بن علي بن حسين مفتى المالكية بمكة المكرمة (1367هـ) فاختصر الفروق ولخصه وهذبه ووضح بعض معانيه في كتابه :
" تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية ".