تساءل الدكتور الفاضل-وفقه الله-
هل هناك علاقة بين البلاغة العربية والموسيقى ؟
وهل من الممكن القول بأن فن البلاغة فن موسيقي يعتمد على التآلف والانسجام بين المقال والمقام على جميع المستويات في اللفظ والجملة والتركيب والنص ؟
في تراثنا ما يشعر بتقارب العلمين من ذلك ذكر كلمة "فصاحة" مجاورة لكلمة "بلاغة" على المعنى الصحيح للفصاحة وهو استمراء السمع لجرس الكلمة وخلوها من النشوز الصوتي.ومن ذلك أيضا الجمع التربوي في تدريس البلاغة مع العروض.
لكن النظر الى المسالة من منظور "فقه العلم" يكشف عن فروق واسعة جدا بين العلمين بحيث يصعب القول بتجاورهما, فضلا عن اتحادهما الذي يشعر به تعبير فن البلاغة فن موسيقي. " التآلف والانسجام" –الذي علل به التقارب بين العلمين-هو من التوسع في التعبير وحملا للمفهومين على أوسع حمل ذلك لأن الانسجام شديد العمومية يمكن أن يوصف به أي شيئين ولا يصلح لافتراض متاخمة علمين.
وهذه بعض الفروق الاجمالية بين العلمين:
1-الموسيقى من مقولة" الصوت", والبلاغة من مقولة" الفكر والمعنى" فكيف يلتقيان؟.قد يقال الموسيقى والبلاغة يساهمان معا فى اضفاء المتعة الجمالية على النص وهذا يكفي لتجاورهما كرافدين من روافد الفن.لكنا نقول إن الالتقاء فى الغاية لا عبرة به هنا وإنما التعويل على المكونات البنيوية والطبيعية لكل منهما...ولو كان المقصد الجمالي هو المعتبر فلماذا تخصيص الموسيقى دون غيرها من الفنون.
وينبني على هذا الفرق أن الموسيقى يمكن أن تكون مادة لعلم طبيعي حقيقي مثل فزياء الأصوات مثلا...فيجوز أن يحلل البيت الشعري في مختبر للصوتيات اعتمادا على آليات وأجهزة وقد يكون الباحث لا يعرف العربية وذلك لا يمنعه من الوصول الى نتائج صحيحة...وهذا ليس جديدا فالعروضيون من علمائنا كانوا يختزلون البيت الشعري إلى متتاليات صوتية فقط –تسمى التفاعيل-.وإدراك إيقاع تتالي الحركات والسكونات في متناول كل سامع بل حتى غير العاقل من الأجهزة.
أما البلاغة فقد نشأت فنا حدسيا وستبقى كذلك ...والفرق بين الموسيقى والبلاغة من هذه الجهة كالفرق بين المادة والروح....
2-نافذة التلقي للموسيقى هو "الأذن" والأصل فيها موجات وذبذبات....أما تلقي البلاغة فمناط ب"جهاز"غيبي لا نملك للإشارة إليه إلا بمصطلحات: العقل ,الروح,العاطفة, الحدس , الذوق الخ....
3-فن الموسيقى فن في الزمان بالمعنى الفلكي....أما البلاغة فلا علاقة لها بذلك وإن كان لابد من ربطها بالزمن فليكن الزمن النفسي الداخلي لا الخارجي وهو ما يسميه برجسون" الديمومة ".
توضيح ذلك من فن العروض الموسيقي:
البيت الشعري مدة زمنية فلكية(أي مجموعة من الثواني التي يستغرقها الشاعر في الإنشاد من الصوت الأول إلى حرف الروي الذي يختم الوحدة الزمنية)ولكي يضفي الشاعر العربي على بيته إيقاعا عمد إلى تقسيم المادة الزمنية تقسيمات متعادلة وهذا التعادل لا بد منه في كل فن موسيقي...وهكذا قسم الشاعر البيت إلى وحدتين متساويتين زمنيا:الصدر والعجز.ثم ضمنهما معا عددا متساويا من التفاعيل(أي متتاليات زمنية صغرى) .وبعد ذلك ينهي البيت بضربة قوية هي حرف الروي.ويأتي البيت الثاني على منوال الأول وتتابع الضربات القوية (حرف الروي) وبينهما مدة زمنية واحدة بحيث قد يصاحب السامع الشاعر بالهمهمة ويلتقيان معا على "مي" مثلا أو "ري" أو غيرهما من حروف الروي......
فتصرف الموسيقى والعروضي إذن هو في الكلمة باعتبار مدتهاالزمنية وفي ميزان العروضي :فرح=قرح/ملك=حجر/ إيران=نيران/.....أما البلاغي فمقصوده الشحنة الدلالية للكلمة بحيث تصبح معادلة العروضي( فرح=قرح )تجديفا عاطفيا وعقليا عنده.واهتمامه بانسجام القول مع المقام....لا يؤاخى مع انسجام الأصوات عند الموسيقى.....لأن البلاغي يعني بالانسجام تطابق الكلام مع ما يستلزمه المقام.....فيفصل القول على قياس المناسبة...وهو كما نرى انسجام معنوي يدركه عقل أو حدس السامع..بخلاف انسجام الموسيقى الذي يدرك بعلم الفزياء.
والله أعلم.