رحم الله الشيخ ابن عاشور وجزى سهاد قنبر خيرا
رحم الله الشيخ ابن عاشور وجزى سهاد قنبر خيرا
صيغة الفعل
دلالتها الصرفية والنحوية
عند اللغويين المعاصرين
إعداد / الدكتورعادل بن معتوق العيثان
الأستاذ المساعد بقسم اللغة العربية – كلية الآداب - جامعة الملك سعود
بسم الله الرحمن الرحيم
ملخص البحث:
يهدف هذا البحث إلى عرض ومناقشة الدلالة الصرفية والنحوية لصيغة الفعل في اللغة العربية عند اللغويين المعاصرين.
فما جاء من هذا البحث لغير المعاصرين والمحدَثين ورد من باب التمهيد أو التعضيد، ولم يكن مقصوداً بالدراسة نظراً لاتجاه البحث إلى ما انتهى إليه الآخرون، على أن الدرس الحديث ما زال يحوي العديد من المفاهيم القديمة التي لم يكن في غنى عنها والتي احتاج البحث إلى الإشارة إليها.
كما أن القارئ سيلاحظ تنوعاً لدى اللغويين الذين ستعرض آراؤهم بين متجه إلى المنهج العقلي في دراسته ، ومتجه إلى المنهج الوصفي الحديث ، وسيقوم هذا البحث بمزج المنهجين وبلورة تصور مشترك لدلالة صيغة الفعل صرفياً ونحوياً.
تمهيد:
الدلالة لغة تعني عدة معانٍ منها: الإرشاد والهداية ، يقال: دلّه دلالة: أرشده وهداه ، وهي في الاصطلاح " كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ، والأول هو الدال ، والثاني هو المدلول.
وبهذا يكون الدال هو المعرَف بحقيقة الشيء ، والدلالة فعل الدال نفسه ، إلا أنهما يضافان إلى الدليل على سبيل المجاز.
أما علم الدلالة فقد عرّفه بعض المحَدثين بأنه دراسة المعنى أو " ذلك الفرع الذي يدرس الشروط الواجب توافرها في الرمز ، حتى يكون قادراً على حمل المعنى. في حين قسمت النظرية الإشارية الحديثة الدلالة إلى ثلاثة عناصر : أولها الشيء الخارجي ، وثانيها الكلمة ، وثالثها المدلول.
وتعني النظرية الإشارية أن معنى الكلمة هو إشارتها إلى شيء غير نفسها ، وهنا يوجد رأيان : الأول يرى أن معنى الكلمة هو ما تشير إليه ، والثاني يرى أن معنى الكلمة هو العلاقة بين التعبير وما يشير إليه .
ويرى بعض أن دراسة المعنى على الرأي الأول تقتضي الاكتفاء بدراسة عنصرين من العناصر الثلاثة السابقة، وعلى الرأي الثاني يتطلب المعنى دراسة العناصر الثلاثة بكاملها. إلا أن الراجح أن دراسة المعنى وفق الرأي الأول تقتضي دراسة المدلول أو العلاقة بين الكلمة والشيء الخارجي ، ولذا كان من الأنسب تشريح الدلالة إلى تلك العناصر الثلاثة. أما النظرية التصورية فتعتبر اللغة وسيلة لإيصال الأفكار ، وهذه الأفكار يجب أن تكون حاضرة في ذهن المتكلم والسامع.
وقد قسم المناطقة الدلالة على أساس التلازم بين الدال والمدلول إلى :
1- الدلالة العقلية : وهي دلالة يجد العقل فيها بين الدال والمدلول علاقة ذاتية كاستلزام المعلول للعلة والنار للحرارة .
2- الدلالة الطبيعية: وهي دلالة يجد العقل فيها بين الدال والمدلول علاقة طبيعية كدلالة
(أ ح أ ح) على السعال ، لأن طبيعة الإنسان تتحرك لإحداث هذا الصوت عند عروض السعال.
3- الدلالة الوضعية : وتكون العلاقة فيها بين الدال والمدلول علاقة اصطلاحية (تواضعية) كدلالة إشارات المرور ودلالة الألفاظ على المعاني .
ودلالة الألفاظ على المعاني أو ما يسمى بالدلالة الوضعية اللفظية هي التي يعنى بها اللغويون على اختلاف مناهجهم.
تعريف الفعل:
أقدم تعريف للفعل وصل إلينا هو ما جاء في كتاب سيبويه بقوله: " وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء ، وبنيت لما مضى ، ولما يكون ولم يقع ، وما هو كائن لم ينقطع . فأما بناء ما مضى : فذهب وسمع ومكث وحمد . وأما بناء ما لم يقع فإنه قولك آمراً : اذهب واقتل واضرب ، ومخبراً : يقتل ويذهب ... وكذلك بناء ما لم ينقطع وهو كائن إذا أخبرت.
وفحوى قول سيبويه أن الفعل كلمة دالة بمادتها – أي جذرها اللغوي – على الحدث ، وبصيغتها الصرفية على زمان وقوعه ؛ ولذا كانت تعريفات النحويين بعد سيبويه تحوم حول هذه الدلالة المتضمنة للحدث والزمن. غير أن المتأخرين منهم كالجامي والصبّان أضافوا إلى التعريف مدلولاً ثالثاً هو النسبة – أي الإسناد – إلى الفاعل، ونخلص من هذا إلى أن متأخري النحاة متفقون على تعريف الفعل بالعناصر الثلاثة (الحدث والزمن والإسناد ). أما المعاصرون من اللغويين فقد أنكر بعضهم دلالة الفعل على الزمن ، واتجهوا في تعريفهم للفعل وجهة نسبة الحدث دون اقترانه بالزمن ؛ فقالوا بأنه " ما أنبأ عن حركة المسمى .
وبناء على هذا التعريف فإن الفعل (سَكَنَ) منبئ عن حركة المسمى، والمقصود بهذه الحركة هو حركة السكون من كونه غير مرتبط بالذات إلى كونه مرتبطاً بها ، كما أن ذلك التعريف يفيد بأن مدلول الفعل (قام) هو حركة الفعل اللغوي (القيام) من عدم التعلق بالفاعل إلى التعلق به.
ويبدو من تعريفهم هذا أن الدلالة المذكورة تستند إلى صيغة الفعل لا مادته ، لأن أي فعل من الأفعال يتشكل بصفته كلاماً من الأصوات التي تكوِن مادته الأصلية ، وهذه المادة الأصلية مثل (ك،ت،ب) تدل مجتمعة - قبل دخول الحركات- على مفهوم الحدث (الكتابة) وبعد دخول الحركات عليه في (كَتَبَ) تتشكل الصيغة الدالة على مصداقية الحدث (الكتابة) وصدوره عن فاعل (الكاتب) وعلى هذا يكون المقصود من حركة المسمى هو انبعاث الحدث وتحققه من الفاعل بعد أن لم يكن متحققاً ولا صادراً عنه. وذهب بعضهم إلى أن المسّمى هو الفاعل ، والفعل ينبئ عن حركة الفاعل ولا ينبئ عن تحرك الحدث لأن بعض الأفعال تدل – بحسب ظاهرها – على أن الحدث أثر من آثار الفاعل ، وليس له وجود خارجي كقولنا : امتنع واستحال ، فإن الامتناع والاستحالة لا وجود لهما في الخارج ؛ ليتصور أنها تحركت بواسطة صيغة الفعل من العدم إلى الوجود ، وأجيب عن هذا الإشكال بأن المقصود من العدم والوجود هو العدم والوجود الرابط بين الحدث والذات (أي ثبوت النسبة وعدم ثبوتها ) وليس المقصود بالوجود الوجود الأصيل الذي هو من عوارض الماهية (الموجود) فأفعال مثل (وجد ، حصل ، حدث ) . ومثل (عدم ، فقد ، استحال ) لا تقبل الوجود الأصيل لاستحالة عروض الشيء على نفسه أو على نقيضه ، ولكنها تقبل الوجود الرابط بمعنى ثبوت النسبة وعدم ثبوتها.
وفسًر لغويون آخرون حركة المسمى بأنها حركة مادة الفعل وخروجها بواسطة الصيغة من قابلية الاستقلال بالمفهومية إلى الاستقلال الفعلي بالمفهومية.
وتوضيح هذا أننا إذا عدنا إلى أقسام الكلمة نجد الأسماء مستقلة بمعانيها كما هي مستقلة بألفاظها كالرجل والمرأة والعلم والفهم .. إلخ كما نجد الحروف مستقلة بألفاظها لا بمعانيها مثل: من ، عن، ثم .. إلخ. أما الأفعال - (قال محمد الحسن بوصو: وكذا سائر المشتقات) - فلا استقلال لها إلا بواسطة إسنادها إلى الفاعل ؛ فهي من هذه الجهة أردأ من الحروف ؛ لأن الحرف مستقل لفظاً غير مستقل معنى ، أما الأفعال فغير مستقلة لا لفظاً ولا معنى؛ لأن الفعل يتكون من مادة وصيغة ، فالمادة ليس لها معنى بالفعل ، وإن كانت قابلة لأن يكون لها معنى فعلي عند عروض الصيغة عليها ، فمعناها إذن معنى بالقوة أي غير مستقل بالمفهومية ، أما الصيغة فليس لها معنى مستقل أيضاً ؛ لأنها لا تدل إلا على نسبة المادة للفاعل ، والنسبة معنى حرفي ، ومعاني الحروف غير مستقلة بالمفهومية ، وعلى هذا فكلا جزئي الفعل غير مستقل بالمفهومية ، ولكن مادة الفعل بواسطة عروض الصيغة عليها تخرج من كونها ذات معنى غير مستقل (معنى بالقوة) إلى كونها معنى بالفعل. والظاهر من هذا الرأي أن الحركة هي المقومة لحقيقة الفعل ، لأن مادته غير مستقلة بالمفهومية ، وصيغته غير مستقلة أيضاً ، وباجتماعهما تتكون حركة المادة من عدم الاستقلال إلى الاستقلال ، وعليه فإن حركة المادة هي الفعل وليست مدلوله ، ومقتضى هذا أن يكون تعريف الفعل هو : حركة المسمى ، لا الإنباء عن حركة المسمى.
ويلاحظ عليه أن الصيغة لا تستعمل بلا مادة ، والعكس صحيح في المادة، فاعتبارها غير مستقلة بالمفهومية من جهة واعتبارها مستقلة بالمفهومية – إذا عرضت للمادة – غلط أو مغالطة . أما دلالة الصيغة على النسبة فليست من قبيل المعاني الحرفية ؛ لأن الحرف لا يدل على النسبة إلا بوجوده في التركيب ، أما الصيغة فلا يمكن التفكيك بينها وبين النسبة.
وإن كانت النسبة ناقصة أي تحليلية، فإن قولك (ضَرَبَ) يتحلل إلى حدث منسوب إلى فاعل ، ولا يخفى أن الفعل باعتباره وحدة لفظية يأخذ وظائف معينة في الاستعمال اللغوي ، فيأخذ وظيفة دلالية تبرز في معناه المعجمي ، ويأخذ وظيفة صرفية تقوم بأدائها بنيته اللفظية ، كما يأخذ وظيفة نحوية تتمثل باستخدامه طرفاً في الإسناد، يضاف إلى هذا أنه قد يأخذ وظيفة بلاغية حين يظهر به الغرض البلاغي للمتكلم .
وفي ضوء هذا التحليل يمكن أن تتعدد تعريفات الفعل تبعاً للوظيفة التي يؤديها،لأن التعريف بالحدث أو حركة المسمى لا يمنع من دخول المصادر الدالة على حدث ما ، كما أن التعريف بالزمن لا يمنع من دخول بعض المشتقات كاسم الفاعل الذي يصاحبه الزمن قهراً . ومن ثم كان على أولئك اللغويين أن يأخذوا في تعريفاتهم للفعل تلك الوظائف في الحسبان بصورة تجعل التعريف جامعاً لمواصفات الفعل- لا سيما صيغه الاستعمالية – مانعاً لغيره من الدخول في مضمون التعريف.
دلالة الفعل على الحدث:
لا خلاف بين اللغويين – مهما اختلفت تعريفاتهم للفعل – في دلالته على الحدث عدا فعل الأمر ، فيبدو أنه لا يدل عندهم على وقوع الحدث : لكونه طلباً لإيقاع الفعل، والطلب شيء ، ووقوع الحدث – كما هو الحال في الماضي والمضارع – شيء آخر يحتاج إلى دليل في فعل الأمر، نعم يدل الأمر بالالتزام على الحدث، لكن الوقوع شيء والدلالة على مطلق الحدث شيء آخر لا يخلو من فعل الأمر.
وقد يشتبه بخلو الفعل من الدلالة على الحدث إذا استعمل مسوقاً لبعض الأساليب العربية كأسلوب التعجب في نحو (ما أحْسَنَ زيداً) وأساليب المدح والذم في نحو (نعم المرءُ محمد ) و(بئس المرء زيد) . إلا أن المعنى في التعجب مرادف لقولك (أتعجب من حسن زيد ) وفي أساليب المدح والذم يكون المعنى مرادفاً لقولك (أمدح المرء محمداً) أو (أذم المرء زيداً ) فيكون وقوع الحدث حاصل لا محالة ، سواء أقدر المعنى بالمصدر أم بفعل آخر ؛ لأنه – حينئذ – يكون متمماً للمعنى المراد من تلك الأساليب.
وذهب بعض الباحثين إلى أن (كان) الناقصة وأخواتها مفرغة من معنى الحدث، إلا أن هذا مجانب للصواب ؛ لأنها تدل بصيغتها ومادتها على وقوع الحدث، فإذا ما قلت (كان محمد نشيطاً) دلت على وقوع النشاط في الزمن الماضي ، ومثله في وقوع الخبر (صار العنب زبيباً ) و(ظل الطفل باكياً) و(بات المسافر ماشياً) . فدلالتها على الحدث مستفادة من وقوع الخبر بالوصف الذي يفيده كل فعل منها.
وقد يقال بأن الحدث هو النشاط وهو ليس مدلولاً لـ (كان)، إلا أن هذا مردود بأنها تدل على حدث الكينونة والوجود ، فلا تكون خالية من الدلالة عليه سواء أكانت تامة أم كانت ناقصة.
دلالة الفعل على الزمن:
ذهب بعض اللغويين المعاصرين إلى أن الأفعال لا تدل على الزمان بالمطابقة ، بل تدل عليه بالالتزام إذا كان الفاعل زمانياً، كما في (يقوم زيد ) أما إذا كان الفاعل غير زماني كما في (يعلم الله ) فلا دلالة فيه على الزمن ، والأمر كذلك في فعل الأمر؛ لأنه أسلوب إنشائي، فلا يدل على الزمن. وبتعبير آخر إن الدلالة على الزمن في الفعل دلالة نحوية تؤخذ من سياق الجملة وقرائنها، وليست دلالة صرفية لصيغة الفعل .
ويلاحظ عليهم أن الدلالة السياقية لا تتم إلا بدخول الفعل في التركيب ، في حين إن الفعل بصيغته الصرفية يدل على الزمن قبل دخوله في التركيب ، ومن ثَم كانت دلالته على الزمن بالمطابقة لا بالالتزام عدا فعل الأمر الذي تكون دلالته على الزمن دلالة التزامية بالنظر إلى أنه طلب إيقاع الفعل ، وبما أن الإيقاع حدث يلزمه الزمن، فلا مناص من كون زمن إيقاعه في الحاضر أو المستقبل تبعاً للقرائن التي تعين ذلك الإيقاع. واضطرب بعضهم حين قرر أن الأساليب الإنشائية لا تقترن بالزمان ، ثم استدرك على عدم الاقتران بأنها تقترن بالزمن في حدود ما يقترن به كل شيء لا ينفك بطبيعته عن المكان والزمان.
إن الاستعمال اللغوي العربي يقتضي دلالة الفعل على الأزمنة الآتية:
أ- الدلالة على الماضي: ويقع بإيراد الفعل الماضي على صيغته الصرفية المعروفة،حيث يحتفظ الفعل بزمنه الصرفي ولو دخل في الكلام ما يشتبه بأنه صارف له من المضي إلى الحال أو الاستقبال وذلك في نحو الأمثلة الآتية:
1- إذا اقترن ببعض أدوات الشرط نحو ( أيُّ رجل أتاني بالمطلوب فله مكافأة ) إلا أن المتكلم قد يكون قاصداً الإتيان بالمطلوب في الماضي والحاضر والمستقبل ، وقد لا يكون قاصداً جميع الأزمنة ، فتبقى صيغة الماضي على حالها في الدلالة على الماضي . ومن هذا يظهر أن بعض الباحثين لم يكن على صواب حينما حدد زمن الأسلوب الشرطي بالحاضر أو المستقبل في جميع الحالات التي تختلف فيها القرائن ، وتحتفظ الصيغة الصرفية في بعضها بدلالتها الأولية على الزمن ونحو ذلك المثال (أينما زرتني زرتك) و(حيثما أتيتني أتيتك) و (أنّى أكرمتني أكرمتك) ولعل هذا يعود إلى أن اسم الشرط يحمل معنى آخر غير الشرط يساعد على توجه المتلقي إلى الزمن الماضي عند نطقه بالفعل في سياق الشرط، هذا إلى أن دلالة الصيغة على الزمن ليست خارجة عن الزمن الوجودي ، خلافاً لما ذهب إليه بعضهم في الأسلوب الشرطي من الفرق بين الزمن الوجودي والزمن اللغوي، في حين إن الزمن اللغوي يبرز الزمن الوجودي ويدل عليه.
2- الفعل في (قد قامت الصلاة يبقى كسابقة محتفظاً بدلالته الأولية على المضي، والغرض منه الدلالة على المفروغية من حلول وقت الصلاة.
3- وفي (قد كان شمَّر للصلاة ثيابه) لا مناص من دلالة الفعلين كليهما على الماضي ، وتوكيد الفعل الناقص هنا ب(قد) لا يصرفه إلى الماضي البعيد، ولا سيما أن (قد) لا تأتي دائماً للتوكيد بل لتقريب الماضي من الحال.
4- وفي (أقر اللص أن يكون سرق أثاث الدار) يبقى الفعلان (أقر) و(سرق) دالين على المضي ، ولا يؤثر المصدر المؤول في صرفهما إلى الاستقبال.
5- وفي قوله عز وجل : (( ونادى أصحاب الجنة ))، وقوله أيضاً :
(( وسيق الذين كفروا إلى جهنم )) يحتفظ الفعلان بدلالتهما على المضي ، ويكون الغرض هو الدلالة على حتمية الوقوع خلافاً لما ذهب إليه بعض الباحثين من دلالتهما على الاستقبال لأن معنى الاستقبال يفرغهما من الدلالة على حتمية الوقوع ؛ المعنى المقصود من وراء استعمال الصيغة في الماضي . لكن الدلالة فيهما على المضي دلالة أولية صرفية مسوقة للغرض المذكور ، وليست مسوقة لبيان الزمن النحوي سواء أكان ماضياً أم مستقبلاً.
6- والأمر كذلك فيما إذا استعمل الماضي –حسب قول بعضهم- للوعد في نحو قوله عز وجل : ((إنا أعطيناك الكوثر )). علماً بأن ظاهر الآية يفيد تحقق الإعطاء فعلاً ، وهو ما يؤكد الزمن الماضي للفعل.
7- وذهب بعضهم إلى أن الماضي يدل على الحال والاستقبال في التحضيض (هلاّ فعلت) وفي التمني (تمنيت أن لو قد حدث كذا ) والأمر كذلك في الترجي (لعلك عالجت المريض ) لكن الراجح أن هذه الأساليب تحتمل قصد جميع الأزمنة (الماضي والحاضر والمستقبل) وقد تحتمل زمناً واحداً منها ، إلا أنها إذا بقيت دون قرينة تعين واحداً من تلك الأزمنة أو تجمعها كلها في سياق واحد ؛ فالراجح فيها الدلالة على المضي ؛ لأن الصيغة الصرفية للماضي تبقى مشحونة في التركيب ، وليس فيه ما يفرغها أو يصرفها إلى غير المضي، فهي من قبيل كلمة (أسد) التي تدل على الحيوان المعروف ، إذا استعملت في التركيب النحوي دون قرينة تصرفها إلى معنى آخر .
وقد حاول بعض اللغويين المحدَثين أن يستظهر معاني أخرى ويضيفها إلى دلالة الصيغة الصرفية على المضي على النحو الآتي:
[ (كان فعل ) الماضي البعيد المنقطع
[ (كان قد فعل) الماضي القريب المنقطع
[ (كان يفعل) الماضي المتجدد.
[ (قد فعل ) الماضي المنتهي بالحاضر.
[ (مازال يفعل) الماضي المتصل بالحاضر
[ (ظل يفعل) الماضي المستمر .
[ (كاد يفعل ) الماضي المقارب.
[ (طفق يفعل) الماضي الشروعي.
ويلاحظ عليه أن المعاني المضافة إلى المضي في العبارات الأربع الأولى لم تستند إلى عنصر لغوي آخر يدل عليها ، اللهم إلا أن يقال بأن دخول (قد) وعدم دخولها يؤثر في الدلالة ، غير أن معنى (قد) معنى سياقي يحتمل التوكيد كما يحتمل تقريب الماضي من الحاضر ، ولا يفيد ما استظهره من معانٍ أخرى، فتبقى تلك المعاني المضافة مشكوك فيها ، وتكون منفية على أساس أن المشكوك في ظهوره بحكم عدم الظاهر ، كما أن استظهار معنى التجدد من الفعل في العبارة الثالثة لا أساس له ، اللهم إلا أن يقال إن الفعل المضارع فيها يدل على ذلك ، لكن المضارع وحده لا يكفي لأداء تلك الدلالة ، فتبقى حينئذٍِ دلالة فيها الشك لأن التجدد ليس بالضرورة أن يكون ملازماً لصيغة المضارع في كل سياق . أما استظهاره للمعاني في العبارات الأربع الأخيرة فهو وجيه إلا أن معنى الماضي المتصل بالحاضر في العبارة الخامسة قد يقال بعدم ظهوره ، لأنه دعوى بأن هذه العبارة مساوية لقولك (ما زال يفعل حتى الآن) وهي تختلف – كما ترى – عن هذا القول ، لكن دلالة (مازال) على الاستمرار حال النطق بها يفيد اتصال الماضي بالحاضر فتكون العبارة الخامسة مرادفة للمثال الآنف الذكر.
ويأتي المضارع دالاً على المضي إذا اقترن ب (لم) أو (لمّا) الجازمتين في نحو (لم أذهب إلى السوق ) و(لمّا أذهب إلى الجامعة ) حيث يكون كلا التعبيرين مرادفاً لقولك ( ما ذهبت ..) وقد يفهم استمرار النفي ب (لما) حتى زمن التكلم ، ولكن هذا الفهم لا يظهر بالضرورة لدى عامة العرب ، ومن ثم يبقى ظهوراً مشكوكاً فيه، ولو قيل بأن (لمّا) موضوعة لذلك المعنى ، لأن الوضع شيء والدلالة الاستعمالية قد تكون شيئاً آخر في بعض الحالات .
وقد يقال بأن دلالة صيغة الماضي على الزمن دلالة سياقية ، فتدل على الحاضر إذا اقترن بها ما يدل على الحاضر في نحو الآيات الآتية:
- {الآن خفف الله عنكم} - {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم}
إلا أن الدلالة على الحاضر في هاتين الآيتين مستندة إلى دلالة الظرفين (الآن) و(اليوم) وليست مستندة إلى دلالة الفعلين الماضيين (خفف) و(يئس) ، لأنهما باقيان على الماضي للدلالة على كمال الوقوع أو للدلالة على التصاق الحدثين الماضيين بالزمن الحاضر ، وفي كلتا الحالتين تبقى الدلالة على الزمن الماضي ظاهرة في الآيتين كلتيهما.
ب- الدلالة على الزمن الحاضر : وأوضح صيغة له هي صيغة المضارع المقترن بما يعينه للحال في نحو ( محمد يصلي الآن) وكذلك صيغة الأمر المقترن بما يصرفها للحال نحو ( صل الآن يا محمد ) . أما ما ذهب إليه الزجاجي من أن الفعل إما ماضٍ وإما مستقبل ، والحال في حقيقته متكون في الوقت الماضي وأول الوقت المستقبل فلا وجه له ، لأن العرف الاستعمالي للغة يوجب تخصيص زمن للحال ، وما ذكره من وصف للحال بأن جزءاً منه يقع في الماضي وجزءاً منه يقع في أول المستقبل غلط أو مغالطة ؛ لأن الوصف العرفي للزمن الحاضر لا ينصرف في استعماله للماضي أو المستقبل اغتفاراً للفروق اليسيرة وتجنباً للدقة العقلية في هذا المجال ، فالماضي القريب الواقع في الحال وكذلك أول المستقبل يعدان عرفاً واقعين في الزمن الحاضر ، ومن ثم كان على الزجاجي أن يصف الواقع العرفي للاستعمال لا الواقع العقلي الدقيق الذي لا يتفاهم به غالب المتكلمين.
وفي العقود الإنشائية تكون قرائن الحال هي الدالة في نحو (بعتك) و(زوجتك) لأن الملاحظ في العقد إيقاعه بين المتعاقدين في اللحظة التي وقع فيها الاتفاق فيكون مجيء الفعل ماضياً في العقود من باب التأكيد على حتمية العقد ، وإن كانت حتمية العقد حتمية قانونية لا تكوينية، وهذا يعني أن صيغ ألفاظ العقود الواردة بتلك الصيغة ليست مفرغة من الزمن ، خلافاً لما ذهب إليه بعض الباحثين.
ج - الدلالة على الاستقبال : وأظهر صيغة له هي المضارع المقترن بما يعينه للمستقبل في نحو ( سيذاكر محمد ) وكذلك الأمر المقترن بما يصرفه لإيقاعه في المستقبل في نحو (ذاكر يا محمد غداً)
أما قول بعض الباحثين بأنه لا صيغة للمستقبل في اللغة العربية ، على أساس أن الفعل المضارع يدل على الزمن الحاضر إذا تجرد من القرائن، فجوابه أن سيبويه ومن تابعه من النحاة حين نقلوا استعمال المضارع والأمر للحاضر والمستقبل ، لم يكن هذا النقل كاشفاً عن تبادر خاص بالنحويين ، بل كان كاشفاً عن تبادر عام ؛ لأن احتمال وجود صيغة أخرى للدلالة على الزمن الحاضر والمستقبل احتمال ضعيف ، نظراً لأن الحاجة في الاستعمال تفرض وجود تلك الصيغة ، ومن ثم كان من الاحتمال الضعيف أن يجدها النحاة ولا يروونها أو أنهم يروون صيغة أخرى بخلافها . هذا إلى أن النحويين من أبناء اللغة أنفسهم ، فيكون تبادر الدلالة على الزمن الحاصر والمستقبل تبادراً ناشئاً من اختلاط النحويين ومشافهتهم للناطقين بالعربية في تلك العصور السالفة.
د- الدلالة على الاستمرار في الماضي والحاضر والمستقبل في نحو قولهم: (قبل الرماء تُملأ الكنائن )، و(أنت لا تجني من الشوك العنب) حيث يكون التخصيص بزمن معين في هذين المثالين غير مقصود للمتكلم ، ومثلهما قولك (تشرق الشمس) و(يضيء البدر) و(كل حي يموت) فإنها تفيد الحدث الثابت مما يعني استمرار الحدث وعدم تخصيصه بزمن معين.
ومثل هذه الأمثلة الآيات التي تقرر حقائق إلهية أو كونية ثابتة من قبيل {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة}، و{أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة}
وفي أسلوب الدعاء يأتي الفعل في نحو (رضي الله عنه ) و (رحمه الله) غير خاص بزمن ؛ لأن المتكلم أراد نزول الرحمة بالميت والرضا عنه في جميع الأزمنة خلافاً لما ذهب إليه بعض الباحثين من أن صيغة الدعاء تدل على الاستقبال. فالدعاء وإن كان يدل على الإنشاء الجديد إلا أن الدلالة تابعة لقصد المتكلم ومقتضى كمال الدعوة عدم تخصيصها بزمن معين والمتلقي يعلم أنه لو خصصها بالاستقبال أو الحال لما كان ذلك مراداً للمتكلم الذي يكون مظنة لعدم البخل والشح في دعائه.
ويأتي الماضي مفرغاً من الدلالة على المضي إذا جاء بعد (ما) المصدرية الظرفية في نحو قوله عز وجل: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً} حيث تكون الوصية مرتبطة بالمدة التي يبقى فيها الموصَى حياً ، وهي تستوعب جميع الأزمنة الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل ). ومثله في استيعاب الأزمنة الثلاثة ما إذا جاء الماضي منفياً ب (إنْ) في نحو قوله عز وجل {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده}.
فإمساكه عز وجل للسموات والأرض ثابت منذ أن خلقهما في الماضي ، وهو مستمر وثابت في الحاضر والمستقبل ، فيلزم هذا أن نفي الإمساك لهما بالنسبة للمخلوق مستمر وثابت أيضاً في جميع الأزمنة، فالماضي بعد (إنْ) النافية لا يدل على المستقبل فقط خلافاً لما ذهب إليه بعض الباحثين.
أما الفعل الدال على الصفات الثابتة في نحو (كرُم) و(حسُن) و(ظرُف) و(صَفِر) و(عرِج) و(كحِل) فقد يستفاد منه الدلالة على ثبوت الصفة في جميع الأزمنة الثلاثة ، إلا أن الثبوت فيها يبقى معنى نسبياً ، لأنه يمكن أن تتغير تلك الصفات ، ولما كان التغير فيها وارداً ، فلا حرج من دلالة الصيغة على الماضي ، المعنى الذي وضعت له الصيغة، وإن كان فيها دلالة على الثبوت، فيكون خاصاً بالماضي لا غير ، ويبقى الزمن غير الماضي موضع شك بالنسبة لظهوره منها .
هـ- الدلالة على الزمن المبهم : وتأتي هذه الدلالة في صيغة المضارع المحتملة للحال والاستقبال في نحو (محمد يذاكر ) وكذلك صيغة الأمر في (ذاكر يا محمد ) .
وذهب بعضهم إلى أن الفعل مع (أنْ) المصدرية لا يدل على الزمن في نحو (أريد أن أتحدث ) والواقع الظاهر من العبارة أن المصدر المؤول ذو زمن مرتبط بالفعل الأول (أريد) فإذا ما تعين للحال أو الاستقبال تبعه في ذلك الفعل بعد (أنْ) المصدرية ، نعم لا يكون زمنه ماضياً إذا ارتبط بالماضي في نحو (أراد أن يتحدث ) بل يحتمل المعنى والحال والاستقبال فيبقى زمن مبهماً.
وكذلك إذا اقترن ببعض أدوات الشرط في نحو قولك (إن قلت الحق صدقتك) فقد ذهب بعضهم إلى دلالة الشرط على الاستقبال ولعله هو مذهب الجمهور في زمن الأساليب الشرطية، لكن صيغة فعل الشرط من الناحية الصرفية تبقى دالة على المضي ، وكذلك صيغة الجواب في نحو المثال السابق إلا أن استعمال مثل تلك الأداة الشرطية يؤسس شبهة للدلالة على الاستقبال في الأسلوب كله ، ومن هنا يأتي الإبهام في نوع زمنهما ، ومثل ذلك المثال السابق القول المأثور ((فإما أدركنَّ أحد منكم الدجال)) فمجيء الماضي في أسلوب الشرط مع نون التوكيد يثير شبهة الاستقبال في حين إن الصيغة الصرفية للفعل دالة على المضي . وكذلك إذا وقع الفعل الماضي منفياً بـ (لا) في نحو (والله لا فعلت) حيث يحتمل أن يكون مرادفاً لأكثر من أسلوب نحو (والله لم أفعل) و (والله ما فعلت) و (والله لا أفعل) و(والله لن أفعل) فيصعب حينئذ تشخيص زمنه لكونه مردداً بين الماضي والحاضر والمستقبل.
وقد يفهم المضي من دلالة المضارع إذا كان متعلقاً بفعل ماضٍ نحو المضارع الآتي بعد (ربما) في قوله عز وجل {رُبَما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} فودهم للإسلام واقع في الماضي ؛ لأنه مرتبط ب (كان) الناقصة الدالة على المضي ، يضاف إلى هذا أن دلالة الماضي على الزمن الماضي دلالة صريحة ، أما دلالة المضارع على الحاضر أو المستقبل ، فهي متعينة بالسياق ؛ فتكون غير صريحة حين تذكر وحدها، إذا ما قوبلت بدلالة الفعل الماضي على زمنه ، ولأن الدلالة في صيغة المضارع أضعف من دلالة صيغة الماضي ، يتأهل الماضي لصرف المضارع للوقوع في الزمن الماضي ، ولا يتأهل المضارع لصرف الماضي للوقوع في الحاضر أو المستقبل ، إذ إن الدلالة الصريحة أقوى من غير الصريحة والمرددة بين معنى ومعنى – أعأعنأ‘تأعنيأعني بيبت
أعني دلالة المضارع على زمنه – لكن صراحة الدلالة على المضي ليست بالضرورة موجهة لرفع الإبهام عن زمن الفعل المضارع (يود) فيبقى محتملاً للحال أو الاستقبال.
والخلاصة أن النحاة ربطوا دلالة الفعل على الزمن بالصيغة الصرفية، أما اللغويون المعاصرون فقد ربطوها بالتركيب ؛ أعني تأليف الجملة وسياقها ودلالتها، مما يعني كون الدلالة على الزمن دلالة سياقية، علماً بأن الصيغة الصرفية للفعل الماضي تبقى ممتدة في عمق النظام النحوي ولا تتأثر في الغالب بالقرائن خلافاً لصيغتي المضارع والأمر اللتين تدلان على زمن مبهم مردد بين الحال والاستقبال ، حيث يبرز دور القرائن السياقية والحالية في توجيه دلالتهما على الزمن.
دلالة الفعل على النسبة (الإسناد) :
يعبر بعض النحاة عن المبتدأ والخبر وعن الفعل والفاعل بالمسند والمسند إليه، ولكنهم لم يبحثوا حقيقة الدال على النسبة (الإسناد) بين المسند والمسند إليه ، وإن أشار بعضهم إلى الضمير الرابط في الجمل الاسمية ؛ فهو مشابه لطريقة الحمل في القضايا المنطقية المؤلفة من موضوع ومحمول ورابطة
وقيل في (زيد هو العالم ) إن الضمير لرفع التباس الخبر بالصفة لا لربطه بالمبتدأ ، وقد يأتون به للتأكيد فقط ، ولذلك سمي هذا الضمير عند البصريين بضمير الفصل وعند الكوفيين بالعماد ، ولم يسمَ بضمير الربط. علماً بأن إحداثه للربط واقع قائم في الجملة ، وأما ما يقدره النحويون من ضمير في الخبر إذا كان مشتقاً كما في قولك (زيد عالم ) فهو على أساس ما التزموا به من إعمال المشتق عمل فعله ، بدليل أنهم يقدرون الضمير فاعلاً للمشتق، يضاف إلى ذلك أن الخبر يحتاج إلى ما يربطه بالمبتدأ ، والضمير المستتر في اسم الفاعل يقوم بهذه الوظيفة ، أما الجمل الفعلية فقد اكتفوا بالقول عنها إنها دالة على نسبة الحدث إلى فاعله ، ولم يعيروا اهتماماً للدال على هذه النسبة.
ويرى بعض اللغويين المعاصرين أن صيغة الفعل (ضَرَبَ) و(يضرب) تدل على حدوث الحدث وانتسابه إلى الفاعل بالمطابقة لا بالالتزام ، فالصيغة فيهما مطابقة للدلالة على الحدث وإسناده أو نسبته .
وقد يقال إن نسبة الحدث كما هي مدلول صيغة الفعل ، كذلك هي مدلول صيغ المشتقات الأخرى، كأسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهة ؛ فلا يبقى ما يميز الفعل عن هذه الأوصاف. ويجيب بعض اللغويين بالفرق بين النسبتين؛ فالنسبة الموجودة في صيغتي (فعل) و(يفعل) نسبة تامة يصح السكوت عليها ، وتستدعي تلك النسبة ملاحظة كل من الحدث الموجود في (ضرب زيد ) مثلاً والذات المنسوب إليها ملاحظة خاصة ، بحيث يمتاز كل منهما عن صاحبه ، وتكون النسبة التي ربطت بينهما ملحوظة للمتكلم والسامع بصورة مستقلة عن الطرفين ؛ فهي ليست جزءاً مقوماً للحدث ولا جزءاً مقوماً للذات ، وإن تقومت هي بهما ، أما النسبة الموجودة في صيغة (فاعل) وأخواتها فهي نسبة ناقصة لا يصح السكوت عليها ، وهي غير ملحوظة بنفسها من قبل المتكلم والسامع ؛ لأن مهمتها ربط الحدث بالذات على نحو الاتحاد بينها لا الامتياز ، حيث يصح انتزاع (ضارب) – مثلاً – من الذات المتلبسة بالضرب.
ودلالة صيغة الفعل على النسبة التامة هو الرأي السائد بين كثير من اللغويين عدا قليل منهم ذهب إلى أن الفعل يدل على النسبة الناقصة؛لأن كل نسبة موطنها الأصلي هو الواقع الخارجي، لا تكون في الذهن إلا تحليلية، وكل نسبة تحليلية فهي ناقصة ، أما النسبة التامة التي نحس بها في قولنا (ضَرَبَ زيد ) فهي مدلول وضع الجملة الفعلية كاملة ، لا مدلول هيئة الفعل بمفرده.
وهو رأي صحيح عند بعضهم لو التزمنا بأن كلمة (ضارب) ككلمة (ضَرَبَ) تدل مع النسبة على ذات مبهمة غير الفاعل ، وهو ما لم يلتزم به القائلون بالمقولة السابقة.
هذا إلى أن الضمير المقدر في (ضرب) نابع من الفعل نفسه ، أما الضمير المقدر في (ضارب) فهو – وإن كان نابعاً من اللفظ نفسه – لا يصح السكوت عليه إلا مع وجود قرينة تفيد إرادة المتكلم للإخبار أو حذف المبتدأ،وهذا غير موجود في الفعل (ضرب) أضف إلي ذلك أنه لا محذور من القول بأن النسبة في الفعل نسبة تحليلية يصح السكوت عليها ، إلا مخالفة القواعد التي ألزم اللغويين بها أنفسهم من كون النسبة التحليلية ناقصة لا يصح السكوت عليها ، وهذه القاعدة أسست على افتراض عقلي ولم تدرس من خلال النظام اللغوي بكامله.
وذهب بعض الباحثين إلى أن ذلك الرأي في دلالة صيغة الفعل على النسبة يريحنا من تحمل تقدير الروابط كتقدير الضمير في (ضَرَبَ) ويجنبنا قسر الجملة العربية على مجاراة طبيعة القضية الحملية عن المناطقة، غير أن الأمر لا يعود إلى الترويح والتشهي بل يعود إلى الواقع الوصفي الذي يقود إلى دلالة الفعل على النسبة ، مما يلزم منه الدلالة على فاعل مبهم ، وهو ما يعبر عنه النحويون بالضمير المستتر في الفعل، ويتفق مع معطيات الدرس اللغوي الحديث الذي يذهب إلى أن صيغ الأفعال والمشتقات دلائل على النسبة.
دلالة الفعل على قيود الإسناد:
يتمثل هذا الباب فيما عقده بعضهم لدلالة الأمر على الفور أو التراخي ودلالته على المرة أو التكرار. على أن القدر المتيقن الذي يكون ذهن المتكلم والسامع مستوعباً له هو الفور لا التراخي والمرة الواحدة لا التكرار،نعم لو كانت هناك قرائن مصاحبة تدل على التراخي والتكرار كانت الدلالة للقرائن وليس لصيغة (افعل).
هذا إلى أن الدلالة على هذه الأمور ليست خاصة بفعل الأمر، بل تشمل أساليب الأمر كلها ، وبما أن فعل الأمر ليس فعلاً عند معظم المعاصرين، بل هو طلب وإنشاء، فهو خارج عن موضوع هذا البحث ، أضف إلى ذلك أنهم لم يتعرضوا لقيود الإسناد بصفة عامة في الفعلين الماضي والمضارع، علماً بأن الماضي والمضارع كليهما يتقيدان بالتعدي واللزوم والمكان كما يتقيدان بالزمان،فهي قيود للإسناد مسلطة على الحدث والزمن ، خلافاً لما ذكره بعض الباحثين من أنها ليست مسلطة على الحدث والزمن، ولهذا فإن الفعل يدل عليها بالالتزام ، بالنظر إلى كونها قيوداً لا ينفك عنها الفعل ولو كان على صيغة (افعل).
دلالة الفعل على أغراض الكلام:
اتجه بعض اللغويين في هذا الباب إلى عرض الأغراض المستفادة من أسلوب الأمر والطلب بواسطة القرائن، ولكن لما كان هذا المبحث خارجاً عن مفهوم الفعل عند معظمهم أعرضنا عن الحديث عنه للسبب السابق المتقدم في دلالة الفعل على قيود الإسناد . أما دلالة الماضي والمضارع على أغراض الكلام فلم يتناوله اللغويون وتناوله البلاغيون في أغراض الخبر، فهو مبحث من مباحث علم البلاغة. أضف إلى ذلك أنه ليس دلالة لصيغة الفعل أكثر مما هو دلالة للقرائن التي تلابس الصيغة، وموضوعنا هو في دلالة الصيغة لا دلالة القرائن.
الخاتمة :
يلاحظ من العرض السابق أن بعض اللغويين بنى تصوره لدلالة صيغة الفعل على أسس عقلية فلسفية وبعضهم بناها على أسس وصفية ، وبما أن اللغة تعبر عن الفكر وتحتاج في تحليلها إلى الوصف المنضبط بقواعد العقل والحجة، فإن ما سبق أن رجحناه في دلالة الفعل هو المتوفر على هذه الأسس التي تقود إلى رؤية متكاملة لدلالة الصيغة على المعاني المختلفة. وتتلخص في الآتي :
1- الفعل هو ما يدل على وقوع الحدث في الزمن غالباً ويكون مسنداً إلى فاعل فيخرج عن هذا المفهوم فعل الأمر.
2- وتكون صيغة الفعل دالة على وقوع الحدث في الزمن بهيئتها الصرفية، فتكون الدلالة الصرفية مطابقة للدلالة الوضعية التي قررها النحاة القدامى للماضي والمضارع.
3- ويحتفظ الفعلان بدلالتهما على الزمن الصرفي في بعض التراكيب النحوية.
4- وقد تتفوق القرائن على دلالة الصيغة الصرفية فتحول زمنه إلى الزمن النحوي الذي يتنوع في الدلالة على الماضي أو الحاضر أو المستقبل أو يكون ذا زمن نحوي مبهم تبعاً لتلك القرائن الملابسة للتركيب النحوي.
5- وقد تكون قرائن التركيب منافية لتخصيص صيغة الفعلين لزمن معين، فتستوعب الصيغة جميع الأزمنة حينما يتجه المتكلم إلى تقرير الحقائق الثابتة الواقعة في جميع الأزمان.
6- إذا كان الفاعل لا يقبل إسناد الفعل إليه في زمن من الأزمنة المعروفة كما في (يعلم الله) تنتفي دلالة الفعل على الزمن، ويكون ذا طبيعة أزلية بقرينة الفاعل، ولهذا تقدم في التعريف أن اشتراط مفهوم الزمن في الفعل يكون على نحو الأكثر والأغلب لا على نحو العموم والشمول.
7- يخضع الزمن الشرطي لدلالة القرائن ولا وجه لتخصيصه بالحاضر أو المستقبل في جميع التراكيب.
8- يندرج في مفهوم الفعل ما يتقيد به إسناده من التعدي أو اللزوم وكذلك المكان ، أما غرضه البلاغي فيظهر من قرائن الحال والمقال وليس من صيغة الفعل.وهذا هو رابط البحث:
http://www.almaktabah.net/vb/showthread.php?t=86670