عدنان الغامدي
Active member
- إنضم
- 10/05/2012
- المشاركات
- 1,360
- مستوى التفاعل
- 37
- النقاط
- 48
- الإقامة
- جدة
- الموقع الالكتروني
- tafaser.com
لَفْتَةٌ فيْ قَوْلِهِ تَعَالىَ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟
يقول تعالى : (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ)[ص:75]
(قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف:12]
قد يتوهم بعض من لا يفقه اللغة وجود تعارض بين الآيتين في قوله تعالى : مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ وأنها تعارض قوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ وقد اجتهد الكثير من العلماء في محاولة التوفيق بين الآيتين سأعرض أقوالهم بعد توضيح ما تبادر لفهمي ووجدته توجيهاً سديداً ينقض الحاجة لما سواه ، فأقول وبالله التوفيق:(قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف:12]
إن المنع في الآية الأولى غير المنع في الثانية ، فهناك منع بمعنى الحجب والصد والإيقاف والقطع ، وهناك منع بمعنى حماية وإلجاء فكانت المفردة القرآنية مختلفة المعنى في كلا الآيتين ، و لما كان المنع له وجهان أولهما القطع والحرمان وثانيهما الحماية والحفظ والإلجاء فنلحظ أن المنع أتى بوجهيه في آيتين متشابهتين فكانا على النحو التالي:
* مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ : ماذا حال بينك وبين السجود كما أمرت ، ماذا جعلك تنهى نفسك عن السجود ، ماذا دعاك للانقطاع عن السجود وترك الطاعة.
ومثال ذلك في القرآن الكريم من المواضع التي أتت فيها مفردة "منع" بمعنى القطع والحرمان في ما يلي:
(قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا)[طه:92]
أي ما الذي جعلك تمتنع عن نهيهم عن المنكر ودعوتهم لنبذ العجل ، أي ماذا صدك عن مقاومة لأفعالهم وردهم لطريق الحق بعد إذ ظلوا السبيل؟ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[البقرة:114]
منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه: والمنع هنا هو الصد عن المساجد وحرمان المؤمنين من الصلاة فيها. (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) [الماعون:7]
وهنا يأتي المنع بمعنى الحرمان والقطع ، يمنعون الماعون يحرمون سواهم من كل ما يعينهم.وهذا الوجه الأول ، أما الوجه الثاني وهو بمعنى الحماية فقد تحقق في الآية الأخرى :
* مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ : ما الذي كنت تتمنع وتدفع به قدرة الله عليك فآثرت عدم السجود ، ماذا ظننت أنه سيحميك ويمنعك من الله فعصيت أمره .
وبذلك فالله جل وعلا لم يكرر الآية في موضعين بل إن كلاً منهما مختلفتان عن بعضهما والمراد أن الله أتاح الفرصة لإبليس الرجيم أن يدافع عن نفسه ويتراجع وإلا فهو جل وعلا أعلم بحاله وأدرى بما سيقول فأقام عليه الحجة.
يقول تعالى :
(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)[الحشر:2]
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ: أي حسبوا أن حصونهم منيعة قوية تمنع وقوع العذاب عليهم من الله ومن المؤمنين وتحميهم من وصول أيدي المؤمنين إليهم وأنها ملجأ آمن من الخطر، فكان المنع هنا بمعنى الحماية والإلجاء.ويقول تعالى:
(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء:141]
أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: أي نصرفهم عنكم ونحميكم فتأمنون وتسلمون منهم وتتمنعون من أذاهم.(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) [الأنبياء:43]
آلهة تمنعهم من دوننا : أي تحميهم وتصرف الأذى عنهم ويلجئون إليها من الله فأتى المنع بمعنى الحماية والإلجاء.جاء في تفسير النابلسي: " المانع: هو الذي يمنعك من كلِّ ما يؤذيك، يمنعك من العطب في دينك ودنياك، الله عزَّ وجلَّ مانع للمؤمنين، يدافع عنهم ويحفظهم ويوفِّقهم، ويؤيِّدهم.
المانع بشكل مطلق.. هو الذي يجعل الحيلولة بين شيئين، إنسان هجم على إنسان لينال منه فاحتمى بإنسان قوي، فهذا القوي منع الأول من أن يعتدي على الثاني فهو مانع أي جعله في منعة وحماية، وهذا غير معنى المانع ضدُّ الإعطاء، المانع هو الحافظ. انتهى كلامه.
فقوله (ما منعك ألا تسجد) لأي شيء لجأت وتمنعت، وبماذا احتميت من الله فأمنته ومن ضمن لك المنعة والحماية فرفضت السجود بينما قوله تعالى (ما منعك أن تسجد)ماهو سبب الحيلولة دون سجودك فأمرك بعدم السجود سواء من ذاتك أو بسبب خارجي.
والمانع من أسماء الله، فهو يمنع المؤمنين ويحميهم وهو يقطع المبتغى إن شاء تعالى، فكان بذلك كلا المعنيين متحققين على أي وجه حُمِلا.
بعض ما قال العلماء في تفسير هذه الآية:
قال ابن جرير رحمه الله رحمه الله في هذا الموضع : "القول في تأويل قوله: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) } قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيله لإبليس، إذ عصاه فلم يسجد لآدم إذ أمره بالسجود له. يقول: قال الله لإبليس: = (ما منعك) ، أيّ شيء منعك = (ألا تسجد) ، أن تدع السجود لآدم = (إذ أمرتك) ، أن تسجد ="قال أنا خير منه"، يقول: قال إبليس: أنا خير من آدم ="خلقتني من نار وخلقته من طين".
فإن قال قائل: أخبرنا عن إبليس، ألحقته الملامة على السجود، أم على ترك السجود؟ فإن تكن لحقته الملامة على ترك السجود، فكيف قيل له: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) ؟ وإن كان النكير على السجود، فذلك خلافُ ما جاء به التنزيل في سائر القرآن، وخلاف ما يعرفه المسلمون! قيل: إن الملامة لم تلحق إبليس إلا على معصيته ربه بتركه السجود لآدم إذ أمره بالسجود له.
غير أن في تأويل قوله: (ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك) ، بين أهل المعرفة بكلام العرب اختلافًا، أبدأ بذكر ما قالوا، ثم أذكر الذي هو أولى ذلك بالصواب ، فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ما منعك أن تسجد = و"لا" ها هنا زائدة، كما قال الشاعر:
أبَى جُودُهُ لا البُخْلَ، وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ ... نَعَمْ، مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُوعَ قَاتِلهْ
وقال: فسرته العرب:"أبى جوده البخل"، وجعلوا"لا" زائدةً حشوًا ها هنا، وصلوا بها الكلام. قال: وزعم يونس أن أبا عمرو كان يجر"البخل"، ويجعل"لا" مضافة إليه، أراد: أبى جوده"لا" التي هي للبخل، ويجعل"لا" مضافة، لأن"لا" قد تكون للجود والبخل، لأنه لو قال له:"امنع الحق ولا تعط المسكين" فقال:"لا" كان هذا جودًا منه.
وقال بعض نحويي الكوفة نحو القول الذي ذكرناه عن البصريين في معناه وتأويله، غير أنه زعم أن العلة في دخول"لا" في قوله: (أن لا تسجد) ، أن في أول الكلام جحدا = يعني بذلك قوله: (لم يكن من الساجدين) ، فإن العرب ربما أعادوا في الكلام الذي فيه جحد، الجحدَ، كالاستيثاق والتوكيد له .. الى أن يقول :
وقال بعضهم: معنى"المنع"، الحول بين المرء وما يريده. قال: والممنوع مضطّر به إلى خلاف ما منع منه، كالممنوع من القيام وهو يريده، فهو مضطر من الفعل إلى ما كان خلافًا للقيام، إذ كان المختار للفعل هو الذي له السبيل إليه وإلى خلافه، فيوثر أحدهما على الآخر فيفعله. قال: فلما كانت صفة"المنع" ذلك، فخوطب إبليس بالمنع فقيل له: (ما منعك ألا تسجد) ، كان معناه كأنه قيل له: أيّ شيء اضطرك إلى أن لا تسجد؟
قال أبو جعفر: والصواب عندي من القول في ذلك أن يقال: إن في الكلام محذوفًا قد كفى دليلُ الظاهر منه، وهو أن معناه: ما منعك من السجود "
وفي آخر عرضه للأقوال فقد رد على من ادعى أن إبليس اُمرَ بالامتناع عن السجود فقال رحمه الله:
"وبعدُ، فإن إبليس لم يأتمر لأمر الله تعالى ذكره بالسجود لآدم كبرًا، فكيف كان يأتمر لغيره في ترك أمر الله وطاعته بترك السجود لآدم، فيجوز أن يقال له: "أي شيء قال لك: لا تسجد لآدم إذ أمرتك بالسجود له؟ ولكن معناه إن شاء الله ما قلت: "ما منعك من السجود له فأحوجك، أو: فأخرجك، أو: فاضطرك إلى أن لا تسجد له"، على ما بيَّنت.
أقول تعليقاً على ذلك : وبذلك لا نجد أثراً لإيراد المنع بمعنى الحماية والإلجاء كأحد الوجوه المحتملة مما عرض الطبري رحمه الله.
وإذا استعرضنا قول الشعراوي رحمه الله في تفسيره نجده يقول :
" ونحن حين نحلل هذا النص، نجد قوله: {مَا مَنَعَكَ} أي ما حجزك، وقد أورد القرآن هذه المسألة بأسلوبين، فقال الحق مرة: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} . وقال مرة أخرى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} . وهذا يعني أن الأسلوب الأول جاء ب «لا» النافية، والأسلوب الثاني جاء على عدم وجود «لا» النافية. وقوله {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} كلام سليم واضح؛ يعني: ما حجزك عن السجود. لكن {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} هي التي تحتاج لوقفة. لذلك قال العلماء: إن «لا» هنا زائدة، ومَنْ أَحْسَن الأدب منهم قال: إن «لا» صلة. لكن كلا القولين لا ينفع ولا يناسب؛ لأن من قال ذلك لم يفطن إلى مادة «منع» ولأي أمر تأتي، وأنت تقول: «منعت فلاناً أن يفعل» ، كأنه كان يهم أن يفعل فمنعته.
إذن {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} كأنّه كان عنده تهيؤ للسجود، فجاءت قوة أقوى منه ومنعته وحجزته وحالت بينه وبين أن يسجد. لكن ذلك لم يحدث. وتأتي «منع» للامتناع بأن يمتنع هو عن الفعل وذلك بأن يقنعه غيره بترك السجود فيقتنع ويمتنع، وهناك فرق بين ممنوع، وممتنع؛ فممنوع هي في {مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ}، وممتنع تعني أنه امْتنع من نفسه ولم يمنعه أحد ولكنّه أقنعه. وإن كان المنع من الامتناع فالأسلوب قد جاء ليؤكد المعنى الفعلي وهو المنع عن السجود. وهذا هو السبب في وجود التكرار في القرآن. ولذلك قال الحق سبحانه: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]
فأقول : رجح رحمه اللهرحمه الله أن الفرق في كل الحالتين كما كان قول الطبري رحمه الله أنها امتناع ذاتي أو منع خارجي وهو مختلف عن قولنا بأن الأولى منع بمعنى القطع والحيلولة دون السجود سواء بقوة داخلية أو خارجية ، والمنع في قوله "ما منعك ألا تسجد" أي بما احتميت واستقويت فأبيت أن تسجد.
والله تعالى أعلم.