عزام عز الدين
New member
- إنضم
- 22/02/2006
- المشاركات
- 65
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
نزلت اول اشارة الى الايجابية في القرآن الكريم مبكرا جدا في سورة القلم-ثاني ما انزل من القرآن الكريم(فأصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم . لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم) القلم 49.
صاحب الحوت ؟ اصبر لحكم ربك ؟ .
القصة معروفة اليوم طبعاً – ولا شيء قط يمنع أن تكون معروفة حتى في مكة الجاهلية ، وسط بيئة تجارية مزدحمة بديانات مختلفة وتشكل محطاً للقوافل الغادية والرائحة .
وعلينا ان نتذكر هنا ان ورقة ابن نوفل – ابن عم خديجة – الذي رأى في (اقرأ) .. الناموس كله ، والذي اخبر الرسول أن قومه سيخرجونه – كما في حديث السيدة عائشة الذي رواه البخاري – كان على الأغلب لا يزال على قيد الحياة في هذه المرحلة المكية المبكرة مما يعني انه لا يزال على الساحة ، كما فعل مع أول نزول الوحي بـ أقرأ، - فأذا كان الرسول قد أشكل عليه أمر (صاحب الحوت) – الذي يأمره الوحي إن لا يكون مثله في جزئية معينة – فأن ورقة الذي كان يقرأ من التوراة بالعبرانية – كما يشير البخاري بالذات كان ولا بد سيسعف محمداً بتفاصيل قصة صاحب الحوت : يونس ..
وبغض النظر عن التفاصيل المسهبة في القراءة التوراتية لقصة يونس – او يونان – فان عقل محمد وقلبه كان له ولا شك فهم خاص لمغزى القصة : فهم شخصي وحميم – فهم ينطلق من واقع تجربته النبوية التي يمر بها ، ومن تفصيل دقيق فيها ، ذاك الذي يجعل الوحي الإلهي يتنزل فيقول : ولا تكن كصاحب الحوت ..
فمحمد – كان في هذه المرحلة بالذات ، ولا بد يعاني مما عاناه صاحب الحوت ، يونس فنزلت عليه الآيات : اصبر … لا تكن كصاحب الحوت …
من هذا التفصيل المحوري الدقيق كان ولا بد فهم محمد لقصة يونس .
ومن هذه النقطة يبدء فهمنا لها .
* * *
الخروج من بطن الحوت
لا يقدم الخطاب القرآني صاحب الحوت، يونس، الا في اللحظات الأزمة، بعد خروجه من نينوى، - ولا يرد أي ذكر لما قبل الخروج في المواضع الثلاث التي تطرق لها الخطاب القرآني إلى قصة يونس وهي: الأنبياء ( 87 – 88) – الصافات ( 139 – 148)، والقلم ( 48 – 50) – وكل السور بالمناسبة مكية مثل كل الأمثلة القرآنية السابقة.
والتركيز على يونس بعد خروجه من نينوى له دلالات تتكشف بالتدريج عبر الغوص في القصة – والسياق العام الوارد عبر الخطاب القرآني لا يعارض شيئا من التفاصيل التوراتية لما قبل الخروج..
وتركيز الخطاب القرآني ابتداء على الطرح ( الشخصي ) لمسالة صاحب الحوت يجعل من قصة يونس بأكملها ذات طابع مختلف ومرتبط بالشخصية النبوية مباشرة – بل ان هذا الارتباط الشخصي سيجعلها مهيمنة على نواحي كثيرة من فهمنا للخطاب القرآني – فقد مر الرسول بها – بقصة يونس وتجربته المماثلة ليونس، وبالأمر الإلهي الهائل ( لا تكن كصاحب الحوت) – وهضم كل ذلك وتمثله – ثم انطلق بعد ان أضافت له هذه التجربة وهذا الفهم في تلقي الخطاب القرآني ولكن بروحية جديدة – روحية مختلفة عن روحية صاحب الحوت.
يقدم لنا الخطاب القرآني يونس – او يونان بن متي كما تسميه التوراة – في لحظة مواجهة صعبة مع الواقع والمجتمع ومفرداتهما – لكنها لحظة مواجهة تنتهي بالفرار من المواجهة. فقد أمر الله يونس بان يدعو قومه، وكانت تلك الدعوة هي تغيير المجتمع الوثني الذي عاش فيه يونس. وكان يونس وحيداً. وكان مجتمعه في نينوى عريق الجذور في حضارة ذات طبيعة مادية هي الحضارة الآشورية – وكانت نينوى وقراها نموذجا لكل مظالم الوثنية والجاهلية ومباذلها – كانت نموذجا للحضارة الطاغية التي ينسحق الإنسان تحت قواعدها دون رحمة او شفقة..
أمام معابد نينوى الشاهقة، وتماثيلها الهائلة الحجم، وثيرانها المجنحة، لا بد أن يونس وقف مذهولا حائرا مرتبكا، وسؤال واحد يتردد في باله:ماذا بوسعه ان يفعل امام كل ذلك؟ ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل ؟وإذا كان لا بد وإيصال الرسالة هل سيجدي الأمر شيئا؟
سال يونس هذه الأسئلة – وكان كغيره من البشر معرضا لليأس والإحباط ] ذلك إن الأنبياء أيضا بشر رغم إننا ننسى ذلك![ وخرج من نينوى فارا من الأجوبة على تساؤلاته اكثر مما كان هاربا من مواجهة الواقع. والجزء الذي ركز عليه الخطاب القرآني هو هذا الجزء بالذات: فالقران يصور يونس وهو في ذروة يأسه وإحباطه: ترك مجتمعه وهجره لا ليرسي قواعد مجتمع جديد كما سيفعل الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد – ولكن هجره ياسا، احباطا، هجره، وقد هجر معه قيم العمل والتغيير وحلم الأنبياء والدعاة عبر العصور – أي كما يهجر معظمنا معظم مجتمعاتهم..
وركب يونس البحر – وهو يتصور انه ترك مجتمعه إلى غير رجعة. لكنه اصطدم بنفس القيم الجاهلية والخرافية التي هرب منها حيث كان يجب ان يحاربها. فالمجتمع الجاهلي ليس مدينة وأصنام وحكام مستبدون فحسب – بل هو مجموعة القيم التي تساهم في ذلك أو ترافقه أو تنتج عنه..
وعندما هبت العاصفة في البحر – على السفينة التي تقل يونس كما تقل غيره – لجا الركاب إلى طريقتهم الخرافية الجاهلية في مواجهة العواصف وأزمات البحر – فقد كانت عقائد الخرافة والجهل التي تسيطر على عقولهم تصور لهم ان ( إلها ما) من عشرات الإلهة التي كانوا يعتقدون بوجودها قد غضب على البحر والسفينة، بسبب وجود شخص معين غير مرغوب به على ظهر السفينة. والحل؟ الحل ببساطة يكمن في رمي هذا الشخص إلى البحر – وبهذه السهولة- من اجل استرضاء اله ما واستعطافه على بقية الموجودين في السفينة.
اما كيف يتم تحديد هذا الشخص غير المرغوب فيه فبكيفية التحديد تتجسد في لقطة واحدة سريعة كل القيم الجاهلية السائدة: القرعة هي التي تحدد هذا الشخص العاثر الحظ الذي عليه ان يكون ضحية لقيم الخرافة والتواكل والجهل. وهكذا وبدون ذنب وبناء على احكام اعتباطية تعتمد على محض الصدفة يقدم شخص برئ كأضحية لاله مجهول الهوية ومجهول سبب الغضب..
وتكمن ذروة المفارقة في ان الاقتراع رسى على يونس باعتباره الشخص غير المرغوب به والذي سبب أزمة السفينة ] والحقيقة ان نتيجة القرعة كانت صائبة بطريقة ما، فلو كان لتلك الآلهة وجود لاعتبرت يونس غير مرغوب به باعتباره يمثل خطرا مباشرا عليها – لكن ذلك لا علاقة له على الاطلاق بأزمة السفينة [ المهم هنا ان يونس وجد نفسه محاصرا بكل المفاهيم والعادات والقيم المستندة على مجتمع الجهل والخرافة، محاصرا لا بالمعنى المجازي – بل بمعنى مباشر، بمعنى يتهدد حياته مباشرة هو الذي هرب من نينوى فرارا من مسؤولية المواجهة والتغيير فوجد نفسه في البحر – في المكان الذي تصوره آمنا من المسؤولية – محاصرا بالقيم التي هرب من مواجهتها – فأين المفر؟.
لا مفر هناك. انك ان لم تحارب، فانهم سيحاربونك في كل الأحوال.
وستكون مهزوما في كل الأحوال لانك لم تحارب أصلا. كانت هذه الرسالة الواضحة عبر الموقف لا لصاحب الحوت فحسب ولكن ربما لنبي اخر، مثل يونس، ربما مر بذلك الشعور الذي ساور يونس: الرغبة في الهروب - والخوف من المسؤولية – فنزل عليه الوحي: لا تكن كصاحب الحوت..
والرسالة مفتوحة أيضا لنا أيضا : الهروب ليس حلا، انه جزء من المشكلة التي تتكرر في كل زمان ومكان عبر العصور والازمان..
وواجه يونس المصير الذي سبق ان واجهه عشرات الضحايا، ضحايا الخرافة والجهل والاستبداد – فألتقمه الحوت كما جاء في نص الخطاب القرآني ( وان يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فألتقمه الحوت وهو مليم) الصافات 139-142.
وفي بطن الحوت كان يونس وحيدا. بطن الظلمة وأحشاء الحوت الساخنة الملتهبة تلتصق به تضيق عليه وتتقلص – وهو في ذلك الحيز الضيق – هل نستطيع ان نتخيل شعوره؟.
لقد كان يونس في أقاصي اليأس. أي أمل يمتلكه شخص التقمه الحوت – ولأي سبب من الأسباب لم يمت بعد؟ أي نور وهو في عمق الظلمة في قاعها في دركها الأسفل بين أمعاء الحوت وأنيابه – وفي صورة الأنياب المشرعة أمام يونس والأحشاء التي حبس بداخلها رأى أيضا نفس القيم التي هرب من مواجهتها وتغييرها: أي مكان آخر غير بطن الحوت يتجسد فيه قيم الغابة المتوحشة: الكبير يأكل الصغير. القوي يلتهم الضعيف أي مكان آخر غير بطن الحوت يتجسم فيه ذلك كله بطريقة مباشرة، بينما الحوت يلتهم سمكة متوسطة الحجم كانت قد فرغت للتو ربما من التهام سمكة اصغر منها. أي ظلم. وأي ظلم ان تكون هذه القيم وهذا المنطق سائدا على البشر أيضا، حيث يلتهم السمك الكبير السمك الصغير، ويلتهم القوي الضعيف.
وأي ظلم – ربما اكبر من هذا كله – أن يستسلم السردين البشري لحيتان الظلم والطغيان والخرافة والاستبداد دون ان يحاولوا تغيير هذا الواقع.. دون أن يقفوا بوجه الحوت ليصرخوا ليحتجوا. وأي ظلم بعد ذلك كله ان يهرب من المواجهة من هو أهل لها. أي ظلم هو اليأس أي ظلم هو الهروب.
وفي لحظات كهذه تراءى ليونس الظلم الحقيقي لهذا الوضع كله. ليس الجلاد ظالما فحسب. الضحية ظالمة أيضاً. ظالمة باستسلامها للجلاد ظالمة لنفسها ولقوافل الضحايا السابقين واللاحقين. ليست القرعة وأسلوبها ظالمين. الظلم أيضا في استسلام المقترعين لواقع الخرافة والصدفة المتحكمة. ليست قيم الجاهلية ظالمة وحدها: الظلم هو في استمرارها دون تغيير. دون تمرد. دون ثورة. الظلم هو اليأس الإحباط، الهروب. الظلم هو السلبية التي تشل الإرادة وتعطل الأعصاب .الظلم هو أسئلة كهذه: ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟.
.. وبزغ النور.
من بطن الحوت: ذروة الياس ودرك الواقع المظلم حالك السواد، بزغ النور.
وكان الدعاء ( لا اله إلا أنت سبحانك أني كنت من الظالمين) ] الأنبياء 87[ الظالمين؟. هو من الظالمين!. هو الذي القي في البحر بعد قرعة ظالمة؟ لكن – معنى الظلم تغير بعد ان استقر في بطن الحوت – وشاهد اوجها مختلفا للظلم..
( فلولا ان كان من المسبحين. للبث في بطنه إلى يوم تبعثون) (الصافات 143-144) ليس التسبيح هو مجرد قول باللسان كما تعودنا ان نتصور – بل هو رؤية كاملة تغيرت – فكرة جديدة نبتت.. وعي جديد لمعنى الظلم والمسؤولية تجاه ذلك. هذا الوعي والرؤية والفكرة هي التي أعطت ليونس فرصة جديدة ولولا ذلك للبث في بطن الحوت إلى يوم يبعثون، بطن الياس والظلمة والسواد الحالك..
لكن ذلك لم يكن يكفي: الوعي والرؤية النظرية المجردة لا يكفيان وحدهما. المهم هو الايمان الداخلي بإمكانية التغيير. الإيمان بجدوى العمل. المهم هو جذوة الأمل المشتعلة في الأعماق حتى ولو ببصيص شمعة في البداية..
وفي العراء: تجسم الامل في شجرة نبتت امام يونس. ( فنبذناه في العراء وهو سقيم وانبتنا عليه شجرة من يقطين ) الصافات (145-146) في العراء المتخوم جدبا وقحطا كنفس الانسان اليائس، تنبت شجرة أمام يونس فجأة لتعطيه درسا يمحو الياس من أعماقه ويزهر نبتة الأمل في نفسه التي كانت قبل ذلك صحراء عارية.
انه اليقطين المثمر الذي انتصر على حوت الظلمة واليأس في نفس يونس. انه اليقطين الذي اثمر في عراء نفسية يونس في صحرائه في جروده العارية وأعطاه الإشارة- الإيحاء بان التغيير ممكن.. وان باستطاعة رجل واحد ان يفعل الكثير فقط إذا سمح لشجرة اليقطين ان تنبت في أعماقه: بالعمل والجهد المخلص .تسلح يونس بشجرة اليقطين الأمل والأيمان بجدوى العمل – ( وأرسلناه إلى مائة ألف ويزيدون) الصافات 147 – حيث صار بإمكانية رجل واحد الكثير.. انه يونس نفسه الذي ترك نينوى فارا من تحمل المسؤولية – لكنه يونس مختلف الان انه صاحب الحوت الذي مر بالتجربة وتجاوزها – انه يونس الذي أثمر في عرائه نبتة الأمل وشجرة الأيمان بالقدرة على التغيير. انه يونس الذي تغيرت رؤيته للعالم بعد ان دخل في بطن الحوت، وخرج منه شخصا اخر متحملا لمسؤولية الدعوة والتغيير والتحدي..
ولولا ذلك للبث في بطنه إلى يوم يبعثون. بطن الياس والظلمة والنسيان.
* * *
وفي لحظة من اللحظات الصعبة في بداية الدعوة ونزول الوحي مر بمحمد (عليه افضل الصلاة والسلام) ما مر بيونس – كانت قريش ذات سطوة وتجبر تشكل هما جاثما أمام دعوة محمد وكان تحالف المصالح الاقتصادية – العشائرية الذي يشكله الملأ القريشي لا يمكن ان يترك مجالا لدعوة محمد ان تقضي – ضمن ما تقضي عليه – على كل راس مال قريش التجاري: أصنام العرب المتجمعة في الكعبة.. والتي يريد محمد ان يلغيها دفعة واحدة والى الأبد..
فضلا عن ذلك كان القانون العشائري العام في جزيرة العرب لا يسمح لفرد - أي فرد - بالخروج عن التقاليد والأعراف العشائرية مهما كانت. فالفرد – لا وجود له في العشيرة اصلا – فمادام الفرد لا يستطيع العيش منفردا في الصحراء مهما كانت قوته – فيجب ان ينضم إلى كيان يحميه ويضمن وجوده وبقائه. هو كيان يطلب بالمقابل الطاعة المطلقة – بل الجبر ] على تعبير د. محمد عابد الجابري[ المطلق من الأفراد الذين لا يتحقق وجودهم الا بهذا الكيان العشائري.. وقد شهدت الجزيرة أفرادا خرجوا عن طاعة العشيرة لسبب او لاخر لكنهم بالمقابل خسروا مكانتهم الاجتماعية وبالتالي أدوارا أرادوا ان يلعبوها: مثل الصعاليك او الشعراء المتمردين الذن انتهوا إلى ان يكونوا ( في كل واد يهيمون)..
واكثر من ذلك لم يكن العرب أهل كتاب وتراث ديني نبوي يجعلهم مؤهلين لقبول فكرة النبوة والرسالة بصورة عامة كما عند اليهود او غيرهم – فالعرب لم تعرف في تاريخها القريب للدعوة أنبياء ممكن ان يمهدوا الطريق لمحمد ورسالته النبوية.. رغم ان جذورا للدعوة الإبراهيمية التوحيدية كانت ولا بد لها بقية باقية بشكل او بأخر..
كل ذلك كان أمام محمد والوحي يتنزل عليه. ان وجود أربعة أشخاص معه – واحد منهم صبي صغير والأخر شيخ كبير والثالث امرأة – لم يغير حقيقة انه وحده بطريقة او بأخرى. أمام المسؤولية الكبيرة الملقاة عليه كان يمكن ان يتردد عليه ذلك السؤال الذي ساور يونس قبله – وساور ربما كل الأنبياء والدعاة عبر العصور – ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟.
أمام قريش: ذلك التحالف العشائري المعقد القوي الممتزج بالمصالح الاقتصادية التجارية التي تشكل ( كل ) ما تستقتل قريش في الدفاع عنه – أمام ذلك كان يمكن ان يطرح السؤال: ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟..
وأمام الكعبة – وفيها 360 صنما يمثل كل منها رمزا عشائريا واقتصاديا يمتد بفروعه من شمال الجزيرة إلى جنوبها وبجذورها إلى عمق تاريخي بعيد وتمثل بمجموعها ارثا وثنيا ضخما هائل الحجم. وأمام تلك الأوثان كان يمكن لأشارة الاستفهام ان تبرز : ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟..
وأمام أعراف وتقاليد أهل مكة الظالمة: الربا الفاحش الذي ينتهي بان يتملك الدائن المدين ( حرفيا) – والوأد الظالم للبنات – وتلك البيوع الظالمة العشوائية التي انخرط فيها أهل مكة.. وقف محمد ليتأمل: ماذا بوسع رجل واحد… ؟.
ان محمدا – المكي العريق – كان اعرف من غيره بصعوبة مهمته – بل وباستحالتها لو نظرنا كما نظر الكثيرون وقتها – لذلك كان يمكن ان تساوره تلك التساؤلات – ويتمنى لو ان تلك المسؤولية لم تلق على كتفيه هو..
بل انه – على فرضية انه في تلك المرحلة المبكرة جدا كان يعرف ان رسالته ستكون موجهة للعالم اجمع لا للعرب بالخصوص – فانه ولابد كان سيمتلئ رعبا من تلك المسؤولية: الروم؟ وفارس؟ هو الذي لا يزال وحيدا ولا يعرف كيف يمكن له ان يهزم ويغير قريشا – فإذا بمسئوليته تتعدى ذلك إلى الروم وفارس والعالم اجمع من بعدهما؟..
.. كان ذلك قولا ثقيلا فعلا. ولابد انه كبشر – كان يمكن لليأس ان يتملكه من قدرته على تغيير العالم: شخص أمي رغم كونه كريم النسب، في الأربعين دونما عقب من أولاد ذكور، فقير تقريبا الا من ما تملكه زوجته – وكانت تلك مؤهلات اقل من عادية في مجتمع مثل مجتمع مكة – فإذا بصاحب تلك المؤهلات الأقل من العادية يجد نفسه أمام مهمة ضخمة: التغيير. لا مجتمعه فحسب – على صعوبة تلك المهمة وحدها بل العالم اجمع وكان ذلك كثيرا جدا ذلك ان محمدا كان قبل كل شئ وبعد كل شئ أنسانا – مثلما كان يونس، إنسان يمكن لليأس ان يغزوه – يشله، يوحي له بالفرار من المسؤولية كما فعل يونس.. كان يمكن لكل ذلك ان يحدث..
ولكن: نزل الوحي: ( فاصبر لحكم ربك. ولا تكن كصاحب الحوت)
منقول من كتاب البوصلة القرآنية للدكتور احمد خيري العمري الصادر عن دار الفكر دمشق
صاحب الحوت ؟ اصبر لحكم ربك ؟ .
القصة معروفة اليوم طبعاً – ولا شيء قط يمنع أن تكون معروفة حتى في مكة الجاهلية ، وسط بيئة تجارية مزدحمة بديانات مختلفة وتشكل محطاً للقوافل الغادية والرائحة .
وعلينا ان نتذكر هنا ان ورقة ابن نوفل – ابن عم خديجة – الذي رأى في (اقرأ) .. الناموس كله ، والذي اخبر الرسول أن قومه سيخرجونه – كما في حديث السيدة عائشة الذي رواه البخاري – كان على الأغلب لا يزال على قيد الحياة في هذه المرحلة المكية المبكرة مما يعني انه لا يزال على الساحة ، كما فعل مع أول نزول الوحي بـ أقرأ، - فأذا كان الرسول قد أشكل عليه أمر (صاحب الحوت) – الذي يأمره الوحي إن لا يكون مثله في جزئية معينة – فأن ورقة الذي كان يقرأ من التوراة بالعبرانية – كما يشير البخاري بالذات كان ولا بد سيسعف محمداً بتفاصيل قصة صاحب الحوت : يونس ..
وبغض النظر عن التفاصيل المسهبة في القراءة التوراتية لقصة يونس – او يونان – فان عقل محمد وقلبه كان له ولا شك فهم خاص لمغزى القصة : فهم شخصي وحميم – فهم ينطلق من واقع تجربته النبوية التي يمر بها ، ومن تفصيل دقيق فيها ، ذاك الذي يجعل الوحي الإلهي يتنزل فيقول : ولا تكن كصاحب الحوت ..
فمحمد – كان في هذه المرحلة بالذات ، ولا بد يعاني مما عاناه صاحب الحوت ، يونس فنزلت عليه الآيات : اصبر … لا تكن كصاحب الحوت …
من هذا التفصيل المحوري الدقيق كان ولا بد فهم محمد لقصة يونس .
ومن هذه النقطة يبدء فهمنا لها .
* * *
الخروج من بطن الحوت
لا يقدم الخطاب القرآني صاحب الحوت، يونس، الا في اللحظات الأزمة، بعد خروجه من نينوى، - ولا يرد أي ذكر لما قبل الخروج في المواضع الثلاث التي تطرق لها الخطاب القرآني إلى قصة يونس وهي: الأنبياء ( 87 – 88) – الصافات ( 139 – 148)، والقلم ( 48 – 50) – وكل السور بالمناسبة مكية مثل كل الأمثلة القرآنية السابقة.
والتركيز على يونس بعد خروجه من نينوى له دلالات تتكشف بالتدريج عبر الغوص في القصة – والسياق العام الوارد عبر الخطاب القرآني لا يعارض شيئا من التفاصيل التوراتية لما قبل الخروج..
وتركيز الخطاب القرآني ابتداء على الطرح ( الشخصي ) لمسالة صاحب الحوت يجعل من قصة يونس بأكملها ذات طابع مختلف ومرتبط بالشخصية النبوية مباشرة – بل ان هذا الارتباط الشخصي سيجعلها مهيمنة على نواحي كثيرة من فهمنا للخطاب القرآني – فقد مر الرسول بها – بقصة يونس وتجربته المماثلة ليونس، وبالأمر الإلهي الهائل ( لا تكن كصاحب الحوت) – وهضم كل ذلك وتمثله – ثم انطلق بعد ان أضافت له هذه التجربة وهذا الفهم في تلقي الخطاب القرآني ولكن بروحية جديدة – روحية مختلفة عن روحية صاحب الحوت.
يقدم لنا الخطاب القرآني يونس – او يونان بن متي كما تسميه التوراة – في لحظة مواجهة صعبة مع الواقع والمجتمع ومفرداتهما – لكنها لحظة مواجهة تنتهي بالفرار من المواجهة. فقد أمر الله يونس بان يدعو قومه، وكانت تلك الدعوة هي تغيير المجتمع الوثني الذي عاش فيه يونس. وكان يونس وحيداً. وكان مجتمعه في نينوى عريق الجذور في حضارة ذات طبيعة مادية هي الحضارة الآشورية – وكانت نينوى وقراها نموذجا لكل مظالم الوثنية والجاهلية ومباذلها – كانت نموذجا للحضارة الطاغية التي ينسحق الإنسان تحت قواعدها دون رحمة او شفقة..
أمام معابد نينوى الشاهقة، وتماثيلها الهائلة الحجم، وثيرانها المجنحة، لا بد أن يونس وقف مذهولا حائرا مرتبكا، وسؤال واحد يتردد في باله:ماذا بوسعه ان يفعل امام كل ذلك؟ ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل ؟وإذا كان لا بد وإيصال الرسالة هل سيجدي الأمر شيئا؟
سال يونس هذه الأسئلة – وكان كغيره من البشر معرضا لليأس والإحباط ] ذلك إن الأنبياء أيضا بشر رغم إننا ننسى ذلك![ وخرج من نينوى فارا من الأجوبة على تساؤلاته اكثر مما كان هاربا من مواجهة الواقع. والجزء الذي ركز عليه الخطاب القرآني هو هذا الجزء بالذات: فالقران يصور يونس وهو في ذروة يأسه وإحباطه: ترك مجتمعه وهجره لا ليرسي قواعد مجتمع جديد كما سيفعل الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد – ولكن هجره ياسا، احباطا، هجره، وقد هجر معه قيم العمل والتغيير وحلم الأنبياء والدعاة عبر العصور – أي كما يهجر معظمنا معظم مجتمعاتهم..
وركب يونس البحر – وهو يتصور انه ترك مجتمعه إلى غير رجعة. لكنه اصطدم بنفس القيم الجاهلية والخرافية التي هرب منها حيث كان يجب ان يحاربها. فالمجتمع الجاهلي ليس مدينة وأصنام وحكام مستبدون فحسب – بل هو مجموعة القيم التي تساهم في ذلك أو ترافقه أو تنتج عنه..
وعندما هبت العاصفة في البحر – على السفينة التي تقل يونس كما تقل غيره – لجا الركاب إلى طريقتهم الخرافية الجاهلية في مواجهة العواصف وأزمات البحر – فقد كانت عقائد الخرافة والجهل التي تسيطر على عقولهم تصور لهم ان ( إلها ما) من عشرات الإلهة التي كانوا يعتقدون بوجودها قد غضب على البحر والسفينة، بسبب وجود شخص معين غير مرغوب به على ظهر السفينة. والحل؟ الحل ببساطة يكمن في رمي هذا الشخص إلى البحر – وبهذه السهولة- من اجل استرضاء اله ما واستعطافه على بقية الموجودين في السفينة.
اما كيف يتم تحديد هذا الشخص غير المرغوب فيه فبكيفية التحديد تتجسد في لقطة واحدة سريعة كل القيم الجاهلية السائدة: القرعة هي التي تحدد هذا الشخص العاثر الحظ الذي عليه ان يكون ضحية لقيم الخرافة والتواكل والجهل. وهكذا وبدون ذنب وبناء على احكام اعتباطية تعتمد على محض الصدفة يقدم شخص برئ كأضحية لاله مجهول الهوية ومجهول سبب الغضب..
وتكمن ذروة المفارقة في ان الاقتراع رسى على يونس باعتباره الشخص غير المرغوب به والذي سبب أزمة السفينة ] والحقيقة ان نتيجة القرعة كانت صائبة بطريقة ما، فلو كان لتلك الآلهة وجود لاعتبرت يونس غير مرغوب به باعتباره يمثل خطرا مباشرا عليها – لكن ذلك لا علاقة له على الاطلاق بأزمة السفينة [ المهم هنا ان يونس وجد نفسه محاصرا بكل المفاهيم والعادات والقيم المستندة على مجتمع الجهل والخرافة، محاصرا لا بالمعنى المجازي – بل بمعنى مباشر، بمعنى يتهدد حياته مباشرة هو الذي هرب من نينوى فرارا من مسؤولية المواجهة والتغيير فوجد نفسه في البحر – في المكان الذي تصوره آمنا من المسؤولية – محاصرا بالقيم التي هرب من مواجهتها – فأين المفر؟.
لا مفر هناك. انك ان لم تحارب، فانهم سيحاربونك في كل الأحوال.
وستكون مهزوما في كل الأحوال لانك لم تحارب أصلا. كانت هذه الرسالة الواضحة عبر الموقف لا لصاحب الحوت فحسب ولكن ربما لنبي اخر، مثل يونس، ربما مر بذلك الشعور الذي ساور يونس: الرغبة في الهروب - والخوف من المسؤولية – فنزل عليه الوحي: لا تكن كصاحب الحوت..
والرسالة مفتوحة أيضا لنا أيضا : الهروب ليس حلا، انه جزء من المشكلة التي تتكرر في كل زمان ومكان عبر العصور والازمان..
وواجه يونس المصير الذي سبق ان واجهه عشرات الضحايا، ضحايا الخرافة والجهل والاستبداد – فألتقمه الحوت كما جاء في نص الخطاب القرآني ( وان يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فألتقمه الحوت وهو مليم) الصافات 139-142.
وفي بطن الحوت كان يونس وحيدا. بطن الظلمة وأحشاء الحوت الساخنة الملتهبة تلتصق به تضيق عليه وتتقلص – وهو في ذلك الحيز الضيق – هل نستطيع ان نتخيل شعوره؟.
لقد كان يونس في أقاصي اليأس. أي أمل يمتلكه شخص التقمه الحوت – ولأي سبب من الأسباب لم يمت بعد؟ أي نور وهو في عمق الظلمة في قاعها في دركها الأسفل بين أمعاء الحوت وأنيابه – وفي صورة الأنياب المشرعة أمام يونس والأحشاء التي حبس بداخلها رأى أيضا نفس القيم التي هرب من مواجهتها وتغييرها: أي مكان آخر غير بطن الحوت يتجسد فيه قيم الغابة المتوحشة: الكبير يأكل الصغير. القوي يلتهم الضعيف أي مكان آخر غير بطن الحوت يتجسم فيه ذلك كله بطريقة مباشرة، بينما الحوت يلتهم سمكة متوسطة الحجم كانت قد فرغت للتو ربما من التهام سمكة اصغر منها. أي ظلم. وأي ظلم ان تكون هذه القيم وهذا المنطق سائدا على البشر أيضا، حيث يلتهم السمك الكبير السمك الصغير، ويلتهم القوي الضعيف.
وأي ظلم – ربما اكبر من هذا كله – أن يستسلم السردين البشري لحيتان الظلم والطغيان والخرافة والاستبداد دون ان يحاولوا تغيير هذا الواقع.. دون أن يقفوا بوجه الحوت ليصرخوا ليحتجوا. وأي ظلم بعد ذلك كله ان يهرب من المواجهة من هو أهل لها. أي ظلم هو اليأس أي ظلم هو الهروب.
وفي لحظات كهذه تراءى ليونس الظلم الحقيقي لهذا الوضع كله. ليس الجلاد ظالما فحسب. الضحية ظالمة أيضاً. ظالمة باستسلامها للجلاد ظالمة لنفسها ولقوافل الضحايا السابقين واللاحقين. ليست القرعة وأسلوبها ظالمين. الظلم أيضا في استسلام المقترعين لواقع الخرافة والصدفة المتحكمة. ليست قيم الجاهلية ظالمة وحدها: الظلم هو في استمرارها دون تغيير. دون تمرد. دون ثورة. الظلم هو اليأس الإحباط، الهروب. الظلم هو السلبية التي تشل الإرادة وتعطل الأعصاب .الظلم هو أسئلة كهذه: ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟.
.. وبزغ النور.
من بطن الحوت: ذروة الياس ودرك الواقع المظلم حالك السواد، بزغ النور.
وكان الدعاء ( لا اله إلا أنت سبحانك أني كنت من الظالمين) ] الأنبياء 87[ الظالمين؟. هو من الظالمين!. هو الذي القي في البحر بعد قرعة ظالمة؟ لكن – معنى الظلم تغير بعد ان استقر في بطن الحوت – وشاهد اوجها مختلفا للظلم..
( فلولا ان كان من المسبحين. للبث في بطنه إلى يوم تبعثون) (الصافات 143-144) ليس التسبيح هو مجرد قول باللسان كما تعودنا ان نتصور – بل هو رؤية كاملة تغيرت – فكرة جديدة نبتت.. وعي جديد لمعنى الظلم والمسؤولية تجاه ذلك. هذا الوعي والرؤية والفكرة هي التي أعطت ليونس فرصة جديدة ولولا ذلك للبث في بطن الحوت إلى يوم يبعثون، بطن الياس والظلمة والسواد الحالك..
لكن ذلك لم يكن يكفي: الوعي والرؤية النظرية المجردة لا يكفيان وحدهما. المهم هو الايمان الداخلي بإمكانية التغيير. الإيمان بجدوى العمل. المهم هو جذوة الأمل المشتعلة في الأعماق حتى ولو ببصيص شمعة في البداية..
وفي العراء: تجسم الامل في شجرة نبتت امام يونس. ( فنبذناه في العراء وهو سقيم وانبتنا عليه شجرة من يقطين ) الصافات (145-146) في العراء المتخوم جدبا وقحطا كنفس الانسان اليائس، تنبت شجرة أمام يونس فجأة لتعطيه درسا يمحو الياس من أعماقه ويزهر نبتة الأمل في نفسه التي كانت قبل ذلك صحراء عارية.
انه اليقطين المثمر الذي انتصر على حوت الظلمة واليأس في نفس يونس. انه اليقطين الذي اثمر في عراء نفسية يونس في صحرائه في جروده العارية وأعطاه الإشارة- الإيحاء بان التغيير ممكن.. وان باستطاعة رجل واحد ان يفعل الكثير فقط إذا سمح لشجرة اليقطين ان تنبت في أعماقه: بالعمل والجهد المخلص .تسلح يونس بشجرة اليقطين الأمل والأيمان بجدوى العمل – ( وأرسلناه إلى مائة ألف ويزيدون) الصافات 147 – حيث صار بإمكانية رجل واحد الكثير.. انه يونس نفسه الذي ترك نينوى فارا من تحمل المسؤولية – لكنه يونس مختلف الان انه صاحب الحوت الذي مر بالتجربة وتجاوزها – انه يونس الذي أثمر في عرائه نبتة الأمل وشجرة الأيمان بالقدرة على التغيير. انه يونس الذي تغيرت رؤيته للعالم بعد ان دخل في بطن الحوت، وخرج منه شخصا اخر متحملا لمسؤولية الدعوة والتغيير والتحدي..
ولولا ذلك للبث في بطنه إلى يوم يبعثون. بطن الياس والظلمة والنسيان.
* * *
وفي لحظة من اللحظات الصعبة في بداية الدعوة ونزول الوحي مر بمحمد (عليه افضل الصلاة والسلام) ما مر بيونس – كانت قريش ذات سطوة وتجبر تشكل هما جاثما أمام دعوة محمد وكان تحالف المصالح الاقتصادية – العشائرية الذي يشكله الملأ القريشي لا يمكن ان يترك مجالا لدعوة محمد ان تقضي – ضمن ما تقضي عليه – على كل راس مال قريش التجاري: أصنام العرب المتجمعة في الكعبة.. والتي يريد محمد ان يلغيها دفعة واحدة والى الأبد..
فضلا عن ذلك كان القانون العشائري العام في جزيرة العرب لا يسمح لفرد - أي فرد - بالخروج عن التقاليد والأعراف العشائرية مهما كانت. فالفرد – لا وجود له في العشيرة اصلا – فمادام الفرد لا يستطيع العيش منفردا في الصحراء مهما كانت قوته – فيجب ان ينضم إلى كيان يحميه ويضمن وجوده وبقائه. هو كيان يطلب بالمقابل الطاعة المطلقة – بل الجبر ] على تعبير د. محمد عابد الجابري[ المطلق من الأفراد الذين لا يتحقق وجودهم الا بهذا الكيان العشائري.. وقد شهدت الجزيرة أفرادا خرجوا عن طاعة العشيرة لسبب او لاخر لكنهم بالمقابل خسروا مكانتهم الاجتماعية وبالتالي أدوارا أرادوا ان يلعبوها: مثل الصعاليك او الشعراء المتمردين الذن انتهوا إلى ان يكونوا ( في كل واد يهيمون)..
واكثر من ذلك لم يكن العرب أهل كتاب وتراث ديني نبوي يجعلهم مؤهلين لقبول فكرة النبوة والرسالة بصورة عامة كما عند اليهود او غيرهم – فالعرب لم تعرف في تاريخها القريب للدعوة أنبياء ممكن ان يمهدوا الطريق لمحمد ورسالته النبوية.. رغم ان جذورا للدعوة الإبراهيمية التوحيدية كانت ولا بد لها بقية باقية بشكل او بأخر..
كل ذلك كان أمام محمد والوحي يتنزل عليه. ان وجود أربعة أشخاص معه – واحد منهم صبي صغير والأخر شيخ كبير والثالث امرأة – لم يغير حقيقة انه وحده بطريقة او بأخرى. أمام المسؤولية الكبيرة الملقاة عليه كان يمكن ان يتردد عليه ذلك السؤال الذي ساور يونس قبله – وساور ربما كل الأنبياء والدعاة عبر العصور – ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟.
أمام قريش: ذلك التحالف العشائري المعقد القوي الممتزج بالمصالح الاقتصادية التجارية التي تشكل ( كل ) ما تستقتل قريش في الدفاع عنه – أمام ذلك كان يمكن ان يطرح السؤال: ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟..
وأمام الكعبة – وفيها 360 صنما يمثل كل منها رمزا عشائريا واقتصاديا يمتد بفروعه من شمال الجزيرة إلى جنوبها وبجذورها إلى عمق تاريخي بعيد وتمثل بمجموعها ارثا وثنيا ضخما هائل الحجم. وأمام تلك الأوثان كان يمكن لأشارة الاستفهام ان تبرز : ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟..
وأمام أعراف وتقاليد أهل مكة الظالمة: الربا الفاحش الذي ينتهي بان يتملك الدائن المدين ( حرفيا) – والوأد الظالم للبنات – وتلك البيوع الظالمة العشوائية التي انخرط فيها أهل مكة.. وقف محمد ليتأمل: ماذا بوسع رجل واحد… ؟.
ان محمدا – المكي العريق – كان اعرف من غيره بصعوبة مهمته – بل وباستحالتها لو نظرنا كما نظر الكثيرون وقتها – لذلك كان يمكن ان تساوره تلك التساؤلات – ويتمنى لو ان تلك المسؤولية لم تلق على كتفيه هو..
بل انه – على فرضية انه في تلك المرحلة المبكرة جدا كان يعرف ان رسالته ستكون موجهة للعالم اجمع لا للعرب بالخصوص – فانه ولابد كان سيمتلئ رعبا من تلك المسؤولية: الروم؟ وفارس؟ هو الذي لا يزال وحيدا ولا يعرف كيف يمكن له ان يهزم ويغير قريشا – فإذا بمسئوليته تتعدى ذلك إلى الروم وفارس والعالم اجمع من بعدهما؟..
.. كان ذلك قولا ثقيلا فعلا. ولابد انه كبشر – كان يمكن لليأس ان يتملكه من قدرته على تغيير العالم: شخص أمي رغم كونه كريم النسب، في الأربعين دونما عقب من أولاد ذكور، فقير تقريبا الا من ما تملكه زوجته – وكانت تلك مؤهلات اقل من عادية في مجتمع مثل مجتمع مكة – فإذا بصاحب تلك المؤهلات الأقل من العادية يجد نفسه أمام مهمة ضخمة: التغيير. لا مجتمعه فحسب – على صعوبة تلك المهمة وحدها بل العالم اجمع وكان ذلك كثيرا جدا ذلك ان محمدا كان قبل كل شئ وبعد كل شئ أنسانا – مثلما كان يونس، إنسان يمكن لليأس ان يغزوه – يشله، يوحي له بالفرار من المسؤولية كما فعل يونس.. كان يمكن لكل ذلك ان يحدث..
ولكن: نزل الوحي: ( فاصبر لحكم ربك. ولا تكن كصاحب الحوت)
منقول من كتاب البوصلة القرآنية للدكتور احمد خيري العمري الصادر عن دار الفكر دمشق