كيفية القراءة في تفسير الطبري؟

إنضم
28/04/2006
المشاركات
30
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
هل من كتاب أو منهجية معينة تعين على تمام الاستفادة من هذا التفسير مع الفهم وذاك سوى الكتب العامة التي تكلمت عن مناهج المفسرين أو أصول التفسير ؟
 
أخي العزيز أبا صالح التميمي وفقه الله
تفسير (جامع البيان) للطبري من أدق وأوثق وأشمل كتب تفسير القرآن الكريم ، ولا يزال مع كثرة المصنفات في تفسير القرآن بعده مهيمناً على كتب التفسير لرسوخ مؤلفه ، ولمنهجه الدقيق المؤصل الذي انتهجه مؤلفه في تصنيفه ، مع الأخذ في الاعتبار أن الطبري قد كتبه أو أملاه على وجه الاختصار كما في قصته المشهورة مع تلاميذه عندما سألهم : هل تنشطون لكتابة التفسير .
غير أن القارئ لهذا التفسير يحتاج إلى صبر وأناة وطول زمان واكتمال للآلة العلمية بقدر الاستطاعة ، ومعرفة بمصطلحات الطبري التي يستخدمها في النحو والقراءات والفقه وأصوله ، فإنه إن قرأه قارئ له نصيب من هذه الصفات فسوف يلمس الفائدة الكبرى من قراءته لهذا التفسير ، وفي رأيي أن قراءة واحدة لهذا التفسير لا تكفي لمعرفة قيمته العلمية على وجهها ، وإنما يجب على طالب العلم الحريص على إجادة علم التفسير ، واكتساب الملكة في فهم القرآن أن يقرأه على أقل تقدير ثلاث مرات ، وإن زاد فالنفع متحقق بإذن الله . وهو وإن كان طويلاً إلا أنه يستحق العناء والصبر والمثابرة ، وأرجو إن أنت صبرت على قراءته وتدبره عدداً من المرات أن تحوز مغانم كثيرة .
وقد سعى كثير من العلماء قديماً وحديثاً لاختصار تفسير الطبري لطوله وكثرة آثاره ورواياته ، ولكن كل المختصرات لا تغني عن التفسير الأصلي الذي حرره الإمام الطبري بنفسه . ومن آخر المختصرات لهذا التفسير كتاب (تفسير الإمام الطبري من جامع البيان) الذي صنعه الدكتور بشار عواد وعصام حرستاني ، وغايتهما من اختصاره إفراد كلام الطبري فقط دون الروايات والآثار ، ليتصل كلامه أمام القارئ ، ولا يتفرق بكثرة الروايات والآثار . وهو كتاب جيد انتفعت بقراءته ، ولكنه مساعد مع الكتاب الأصلي وليس بديلاً له .
كما إنه قد كتبت كتب ورسائل كثيرة في منهج الإمام الطبري في تفسيره ، والذي اطلعتُ عليه منها لم يشف غليلي في معرفة منهج هذا المفسر الإمام ، وهناك رسائل كتبت في اختياراته وترجيحاته في التفسير ليتها تطبع لينتفع بها .
وعلى كل حال فإن مثل هذه الأسفار الطوال من أسفار العلوم تحتاج إلى صبر وجلد لدراستها ومعرفة قدرها ، والقراءة العاجلة لا تنقع الغلة ، ولا تبل الصدى .
وفقكم الله للعلم النافع ورزقكم الصبر والجلد للعكوف على هذه الكنوز والجواهر التي تخيرها نقادها وصيارفتها من أفذاذ الأئمة كالطبري وغيره وأودعوها لنا في بطون هذه الكتب الثمينة .
 
أحسنت الإجابة أخي أبا عبد الله
وأحب أن أدلي بشيء يتعلق بهذا التفسير على عجالة .
أولاً : لم يختلف اثنان من العلماء على جودة هذا التفسير وتميزه ، حتى عُدَّ صاحبه ( شيخ المفسرين ) ـ عليه من الله الرحمة والرضوان ـ وهو بحقٍ شيخهم .
ثانيًا : لقد بقي جزء كبيرٌ من منهج هذا التفسير مجهولاً لدى الدارسين ، حتى إنك لا تكاد تجد من ينقل منه سوى توثيق الآثار ، حتى إنني في تقدُّمي لدراسة الدكتواره كان في مقابلتي أحد أساتذتي الكبار ، فسألني عن مراجعي التي أُعِدُّ منها الدرس للطلاب ، فلما ذكرت له تفسير الطبري ، قال لي : لم لا ترجع إلى تفسير ابن كثير ، فهو أحسن منه ، فتفسير الطبري آثار .
فعجبت من هذا القول ، واستحييت أن أسأله : هل هو يختبرني في هذه المعلومة ، أو هو مقتنع بها ؟
ثالثًا : لقد تميز تفسير الطبري بعدد من العلوم ، ففيه الأسانيد ، وتفاسير السلف ، والتفسير الإجمالي ، والغريب ، والنحو ، والقراءات ، وتوجيهها ، والأحكام الفقهية ، والقواعد العلمية والترجيحية ، وحجج الترجيح والرد على الأقوال ، والتعليق على أقوال المفسرين واللغويين ، إلى غير ذلك من منثورات الفوائد .
ويحسن بقارئ هذا التفسير أن يتنبَّه لهذه العلوم ، وكيفية معالجة الطبري لها ؛ ليستفيد من هذه المنهجية الطبرية .
ولو ركَّز القارئ لهذا الكتاب على جملة من هذه الموضوعات ؛ خصوصًا ( القواعد العلمية ، وحجج الترجيح أو الرد على الأقوال ، وكذا حجج قبول القراءة أو ردها ) = لخرج بفائدة عظيمة ، وتدريبات عملية على كيفية التعامل مع أقوال المفسرين .
والموضوع في ذلك يطول ، ولعل فيما ذكرته موجزًا غُنية ، والحمد لله رب العالمين .
 
رعاك الله يا أبا عبدالملك .
وأحب الإشارة إلى أن للدكتور مساعد الطيار درساً أسبوعياً قديماً في تفسير الطبري هذا ، وهو به خبير وفقه الله وزاده علماً وفقهاً في كتابه ، وكم لأبي عبدالملك عندي وعند غيري من يدٍ بيضاء لا نجازيه عليها إلا بالدعاء جزاه الله خيراً.
إن التعرف على منهج الطبري يحتاج إلى طول صحبة لهذا التفسير ، وليتكم يا أبا عبدالملك تساهمون في بيان منهج الطبري ، ولا سيما دقائق المنهج التي لم أجد من حررها فيمن كتب في منهجه بحسب اطلاعي القاصر . وقد كنت أتمنى أن يكون كتاب الشيخ محمود محمد شاكر الذي أشار إلى أنه يكتبه قد خرج للناس ، فإن العلامة محمود شاكر من القلائل الذين يحسنون قراءة كتب السلف ويتوغلون في مطاوي مسالك مناهج المؤلفين كالطبري . فإنه قد ذكر في مقدمة تحقيقه لتفسير الطبري عظمة هذا التفسير ، وتخوفه من تحقيقه والتعليق عليه ، فقال :(وكان من قصة أول ما قطعني عن المضي في إصدار هذا الجزء في ميعاده سنة 1380 من الهجرة ، أني كنت حين بدأت نشر تفسير أبي جعفر الطبري ، على مثل حد السيف من التخوف لهذا الكتاب الجليل ، فأمسكت نفسي عن التعليق على بعض مسائله ، مخافة أن يزل القلم ، أو يزيغ بي الرأي) .
وإنك لتجد في كلام محمود شاكر في مقدمة تحقيقه ما يشير إلى مدى أنسه منذ كان صغيراً بتفسير الطبري ، وتعال معي أخي الحبيب لقول محمود شاكر في مقدمة تحقيقه لتفسير الطبري :
(اللّهُم اغفر لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، وتغمّده برحمتك، واجعله من السابقين المقرَّبين في جنّات النعيم، فقد كان - ما عَلِمْنا- من الذين بَيَّنوا كتابَك للناس ولم يكتموه، ولم يشتَرُوا به ثَمَنًا قليلا من مَتاع هذه الحياةِ الدنيا؛ ومن الذين أدَّوْا ما لزمهم من حقِّك، وذادُوا عن سنة نبِّيك؛ ومن الذين ورَّثوا الخلَفَ من بعدهم علم ما عَلموا، وحَمَّلوهم أمانةَ ما حَمَلوا، وخلعُوا لك الأندادَ، وكفَروا بالطاغوتِ، ونَضَحوا عن دينك، وذبُّوا عن شريعتك، وأفضَوْا إليك ربَّنا وهمْ بميثاقك آخذون، وعلى عهدك محافظون، يرجون رَحْمتَك ويخافُون عذابَك. فاعفُ اللهمّ عنا وعنهم، واغفر لنَا ولهم، وارحمنا وارحمهم، أنت مولانَا فانصرنَا على القومِ الكافرين.
كان أبو جعفر رضي الله عنه يقول: "إِنّي لأعجبُ مَمنْ قرأ القرآن ولم يعلَم تأويلَه، كيف يلتذُّ بقراءته؟". ومنذ هداني الله إلى الاشتغال بطلب العلم، وأنا أصاحب أبا جعفر في كتابيه: كتاب التفسير، وكتاب التاريخ. فقرأتُ تفسيره صغيرًا وكبيرًا، وما قرأتُه مرَّةً إلا وأنا أسمعُ صوته يتخطّى إليّ القرون: إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله، كيف يلتذُّ بقراءته؟ فكنتُ أجدُ في تفسيره مصداقَ قوله رضي الله عنه )

ولعمري إن هذا كلام واقم محب لهذا الإمام ولهذا التفسير وما أجدره بهذا الحب وهذه العناية .
ثم قال محمود شاكر مشيراً إلى ما في منهج الطبري من الغموض أحياناً ، وأنه عزم على صنع كتاب في منهجه في التفسير :
(وكنتُ أحبُّ أن أبيّن ما انفردَ به الطبريّ من القول في تأويل بعض الآياتِ، وأشرح ما أَغْفَله المفسّرون غيرُه، ولكني خفتُ أن يكونَ ذلك سببًا في زيادة الكتاب طولا على طوله؛ مع أني أَرَى أن هذا أمرٌ يكشف عن كتاب الطبري، ويزيدنا معرفة بالطبري المفسّر، وبمنهجه الذي اشتقّه في التفسير، ولم اختلف المفسّرون من بعده، فأغفلوا ما حرصَ هو على بيانه؟
وكنتُ أحبُّ أيضًا أن أُسَهِّل على قارئ كتابه، فأجعل في آخرِ الآياتِ المتتابعة التي انتهى من تفسيرها، مُلَخَّصًا يجمَعُ ما تفرَّق في عشراتٍ من الصفحاتِ. وذلك أني رأيتُ نفسي قديمًا، ورأيت المفسِّرين الذين نقلوا عَنْهُ، كانوا يقرأون القطعة من التفسير مفصولةً عمَّا قبلها، أو كانوا يقرأونه متفرِّقًا. وهذه القراءةُ، كما تبيِّن لي، كانتْ سببًا في كثيرٍ من الخَلْط في معرفة مُرَادِ الطبري، وفي نسبة أقوالٍ إليه لم يقلْها. لأنَّه لما خاف التكرار لطول الكتابِ، اقتصَر في بعض المواضِع على ما لاَ بُدَّ منه، ثقَةً منه بأنّه قد أبان فيما مضى من كتابه عن نهجه في تفسير الآيات المتصلة المعاني. والقارئ الملتمِس لمعنى آيةٍ من الآياتِ، ربَّما غَفَل عن هذا الترابُط بين الآية التي يقرؤها، والآيات التي سبقَ للطبري فيها بيانٌ يتّصل كل الاتصال ببيانه عن هذه الآية. ولكني حين بدأت أفعل ذلك، وجدت الأمر شاقًا عسيرًا، وأنه يحتاجُ إِلى تكرار بعضِ ما مضى، وإلى إِطالةٍ في البيانِ. وهذا شيءٌ يزيدُ التفسيرَ طولا وضخامة.
ولمَّا رأيتُ أن كثيرًا من العلماء كان يعيبُ على الطبري أنه حشَدَ في كتابِهِ كثيرًا من الرواية عن السالفين، الذين قرأوا الكُتُب، وذكروا في معاني القرآنِ ما ذكروا من الرواية عن أهل الكتابَيْن السالِفَيْن: التَّوراة والإنجيل - أحببتُ أن أكشف عن طريقة الطبري في الاستدلال بهذه الرواياتِ روايةً روايةً، وأبيّن كيف أخطأ الناسُ في فهم مقصده، وأنّه لم يَجْعل هذه الروايات قطُّ مهيمنةً على كتاب الله الذي لاَ يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه. وأحببتُ أن أبيّن عند كُلِّ روايةٍ مقالة الطبريّ في إِسنادِها، وأنه إسنادٌ لاَ تقوم به حُجَّةٌ في دين الله، ولا في تفسير كتابه،وأن استدلاله بها كان يقوم مقام الاستدلالِ بالشِّعر القديم، على فهم معنى كلمة، أو للدلالة على سياقِ جملة. وقد علقتُ في هذا الجزء 1: 454 ، 458 وغيرهما من المواضع تعليقًا يبينُ عن نهج للطبري في الاستدلال بهذه الآثار، وتركتُ التعليقَ في أماكنَ كثيرة جدًّا، اعتمادًا على هذا التعليق. ورأيتُ أن أدَعَ ذلك حتى أكتب كتابًا عن "الطبري المفسِّر" بعد الفراغ من طبع هذا التفسير. لأني رأيتُ هناكَ أشياء كثيرةً، ينبغي بيانُها، عن نهج الطبري في تفسيره. ورأيتني يجدّ لي كُلَّ يوم جديدٌ في معرفة نهجه، كلَّما زدتُ معرفةً بكتابه، وإلفًا لطريقته. فاسأل الله أن يعنيني أن أفردَ له كتابًا في الكلام عن أسلوبه في التفسير، مع بيان الحجّة في موضع موضعٍ، على ما تبيّن لي من أسلوبه فيه. ورحمَ الله أبا جعفر، فإنه، كما قال، كان حدَّث نفسه بهذا التفسيرِ وهو صبيٌّ، واستخار الله في عمله، وسأله العونَ على ما نواه، ثلاثَ سنين قبل أن يعمله، فأعانه الله سبحانه. ثم لما أراد أن يملي تفسيره قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدرُه؟ فقال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا ممّا تفنَى فيه الأعمارُ قبل تمامه! فاختصره لهم في ثلاثة آلاف ورقةٍ. فكان هذا الاختصار سببًا في تركه البيانَ عمّا نجتهد نحنُ في بيانه عند كل آية. وهذا الاختصارُ بيّنٌ جدًّا لمن يتتبّع هذا التفسيرَ من أولِه إِلى آخره)

رحم الله الإمام الطبري ، ورحم الله الأستاذ محمود شاكر ، ورحم الله تلك الأعظم التي حملت العلم وبلغته بأمانة وصدق إلى الأمة ، وجزاهم الله خيراً يجدونه عنده يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
 
أخي الكريم أبا عبد الله
لقد أحدثت في قلبي الشجن ، ويبدو أنك ستخرجني إلى ما لا أحبُّ ، فأقول ـ طالبًا من الله الإخلاص والقبول ـ :
كم أتمنى أن أتفرغ لذكر منهج هذا الإمام العظيم في كتابه هذا ، ولقد جرَّبت شيئًا من ذلك ، فوجدت أنِّي أحتاج إلى نقول طويلة لأبين فكرة صغيرة في منهج هذا الإمام ، فانظر كم ستحتاج لإنشاء كتاب يبين عن منهجه الدقيق العميق .
وإن مما يؤسف عليه أن بعض الدراسات التي كتبت في منهجه لا تعدو أن تكون وصفًا قاصرًا ينقصها الاستقراء والتحليل .
ولعلي ـ إن تيسر لي المقام ـ أن أعلق على بعض المواطن المشكلة في ترجيحات الطبري ، ليتبين فيها كيف سار الطبري على منهجيته ولم يخالفه ، ولأبين كيف وقع الغلط ممن قرأ كلامه من المفسرين إن وُجِد .
و لا زلت أعتني بجمع هذه المواطن المشكلة لأقوم بمدارستها مع بعض الأصحاب ، وأسأل الله أن يوفقني لذلك .
وإني مذ عرفت هذا الكتاب ، وتدرَّجت في القراءة فيه ، أحسست بأني أتأسس في علم التفسير ما لم يؤسسني فيه أستاذ ولا كتاب قبله ، فلقد استفدت من هذا الكتاب كثيرًا ـ ولله الحمد ـ وإن لتعروني لذكرى الطبري هزَّة لا أجدها لغيره .
ولقد وفقني الله بخلٍّ وفيٍّ أتدارس معه هذا الكتاب ، ونقرأه قراءة بحث وفكِّ ، حتى أنسنا به ، وانفكت لنا منه مغاليق ، ولعل الأخ الكريم يتفرغ لطباعة شيء من التعاليق التي نشترك فيها أثناء القراءة ، ففيها فوائد جمة من منقولاتٍ عمن علق على الطبري ، أو نصوص تفيد في فهم كلامه وتعيين مبهماته التي يرمي بها إلى ذكر علَمٍ معيَّن ، أو طائفة معينة .
وإني لأنصح طلاب علم التفسير أن يعتنوا بهذا السفر العظيم ، وأن يولوه اهتمامًا كبيرًا ، ففيه من الدرر ما الله به عليم .
 
بسم الله الرحمن الرحيم
و الصلاة و السلام على سيدنا محمد
المبعوث رحمة للعالمين

 سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ 
(البقرة:32)

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .

أما بعد، فإنه يسعدني أن أشارك في هذا الموضوع الهام، ذلك أنني لاحظت أن كثيرا من طلبة العلم عند قراءتهم في كتب التفسير يكون همهم الوحيد ألا وهو الوصول إلى المعنى الذي انتهى إليه المفسر، دون أن يلقوا بالا للطريقة التي تبلغ بها إلى هذا المعنى. ومن ثم فإنهم لا تكون لهم القدرة الكافية على فهم التفسير ، وتكون بالتالي استنتاجهم مبتسرة وليدة لحظة عجلى، وقراءة انتقائية تزري بالمقروء ولا تبلغ القارئ المقصود . ومن ثم فإنني أحببت أن أعرض عليكم طريقة اتبعتها مع طلبتي بجامعة شعيب الدكالي ـ الجديدة ـ المغرب، حيث كنت أدرس لهم مادة التفسير، واخترنا تفسير سورة الفاتحة من خلال تفسيرين : ابن كثير و القرطبي ، وقد كنا في الغالب الأعم لا نتجاوز تفسير ابن كثير ، بل في بعض الأحيان لا نكمل تفسيره لسورة الفاتحة، وذلك لدقة الطريقة، و تركيزها على تجميع الجزئيات باعتبار القراءة بناء لا يمكن أن يستقيم ما لم تجمع كل المعطيات المتاحة والضرورية دون إصدار أحكام مسبقة بأهميتها أم لا .
إننا في قراءتنا للتفاسير يتعين أن يكون همنا هو إدراك الطريقة التي يتبعها المفسر للوصول إلى تحديد مراد الله تعالى من الخطاب القرآني الكريم، لا أن يكون هم طالب العلم الأوحد هو معرفة المراد الذي انتهى إليه المفسر، لأنه إن فعل فإنه لن يتمكن من معرفة الكيفية التي تتم بها عملية التفسير، وبالتالي يظل عالة على المراد الذي انتهى إليه المفسر، ولا تكون له القدرة على البرهنة عليه علميا، كما أنه لا يتمكن من اكتساب ملكة التفسير، والمتمثلة في القدرة على الفهم و التحليل والمقارنة والاستنباط .
إن الطريقة التي نتبعها في قراءة التفاسير تعتمد المستويات التالية :
1-المستوى الوصفي .
2- المستوى التحليلي .
3- المستوى المقارن .
المستوى الأول : الدراسة الوصفية : هو المستوى الأول الذي يتعين على القارئ الباحث العناية به أيما عناية باعتباره المقدمة التي تبنى عليها المستويات الأخرى، فأي تقصير أو خطأ فإنه ينعكس بطريقة تلقائية على المستويات الأخرى .
الدراسة الوصفية دراسة موضوعية حيث يكون الباحث فيها محايدا لأنه يصف ما هو قائم، فلا يتدخل إلا في الاكتشاف والتنظيم والترتيب بما يعطي صورة حقيقية عن الخطاب التفسيري الموصوف .
ويبدأ هذا المستوى بالقراءات المتعددة للتفسير، والتعامل مع الخطاب التفسيري باعتباره كائنا حيا، فهو عصارة تجربة إنسان، وهو معاناة الإنسان، فالخطاب التفسيري وليد هذه التجربة والمعاناة، و من ثم ما لم نستحضر ذلك لا يمكننا سبر أغواره ، لأنه بكل بساطة سيظل مغلقا في وجوهنا ، ولن يرفع عنا حجبه، و يكشف أستاره، ويبوح بأسراره . ومن ثم يتعين عن طريق القراءات المتعددة والمتأنية والبصيرة حيث إن القارئ يكون حاضر البديهة، منتبه لكل صغيرة وكبيرة، حاملا لقلم الرصاص ويؤِشر على ما يراه مهما، مع تدوين ملاحظاته في بطاقات جانبية معدة لذلك .
بعد أن يحس القارئ بأن النص قد أصبح مفتوحا في وجهه، وأن علاقة حميمية أصبحت تربط بينهما، فإنه يجدر به ساعتها أن ينتقل إلى الخطوات التالية والمتمثلة في :
1- اكتشاف مكونات الخطاب التفسيري، والتي يمكن إجمالها في مصادر التفسير: تفسير القرآن بالقرآن و تفسير القرآن بالسنة ، و تفسير القرآن بأقوال الصحابة، وتفسير القرآن بأقوال التابعين، وتفسير القرآن بأقوال أتباع التابعين، تفسير القرآن بمطلق اللغة. مع رصد المصادر التي اعتمدها المفسر سواء تعلق الأمر بأقوال المفسرين أو كتب التفسير، والقراءات القرآنية، والحديث والسيرة والفقه وأصوله، وأصول الدين، وكل ما رجع إليه المفسر وبنى عليه تفسيره . والمصطلحات، والأعلام .مع الانتباه لضرورة تسجيل ملاحظات عن تدخل المفسر في كل جزئية تفسيرية: التعليقات، والملاحظات، والاستنتاجات، والتعقيبات، والانتقادات، والمواقف، والآراء.
ويتعين على الطالب أن يدرس كل مكون على حدة، وذلك عن طريق تخصيص جذاذات خاصة يدون فيه المعلومات الضرورية، وذلك يسهل عليه في مرحلة لاحقة توزيع المادة العلمية .
2- ترتيب المكونات : أي رصد الطريقة التي رتب بها المفسر هذه المكونات، وهذا هو المدخل الأساس لمعرفة منهجه في التفسير، ذلك أننا نكون في هذ المرحلة بصدد اكتشاف الطريقة العامة في التفسير .
3- العلاقات التي تقوم بين المكونات : إن الخطاب التفسير نظام ومن ثم فإن هذه المكونات ليست مبعثرة، كما أنه لا يمكن أن نتصورها كجزر لا تقوم بينها أية علاقة، بل هذه المكونات مرتبة ترتيبا خاصا اختارها المفسر، كما أنها تقوم بينها علاقات ووشائج، فالخطاب التفسيري منظومة متكاملة . وهذا هو المدخل لفهم التفسير المقروء .
المستوى الثاني : الدراسة التحليلية: وفي هذا المستوى من الدراسة يتطـلب ـ عكس المرحلة الأولى ـ تدخل القارئ، بحيث يتفاعل مع الخطاب التفسيري و يعمل على مساءلته : لماذا ؟ و كيف ؟ و متى ؟ وغيرها من الأسئلة المناسبة للموقف، والإجابة المحصل عليها مجموعها يكون الدراسة التحليلية .
المستوى الثالث : الدراسة المقارنة : وفيه يقوم القارئ بمقارنة التفسير الأول بتفاسير مناظرة بغية اكتشاف الإضافة العلمية، وعناصر التشابه و التميز .
بعد تجميع هذه المعطيات يشرع الطالب / الباحث في تحرير بحثه .
وهذا موضوع آخر آمل أن تتاح الفرصة لعرض تقنيات البحث، وكيفية إعداد الرسائل العلمية . في أقرب الآجال إن شاء الله تعالى .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
 
مشاركة لطيفة

مشاركة لطيفة

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد .

جزى الله المشايخ خير الجزاء على التنكيت والفائدة .
وليت الشيخ مساعد ينشط للكتابه في بيان المنهج ؛ فيؤصّل ويأسس لهذا الكتاب المبارك .

ومن ألطف المختصرات لهذا الكتاب ؛ ما أخرجه شيخنا المكثر العلامة الدكتور صلاح الخالدي حفظه الله ؛ فقد اعتنى به أيَّما اعتناء ، وكنت قد قرأته _ ولا زلت _ فراق لي نفس العالم بالتفسير المبدع فيه ، العارف بأصول الاختصار وفنِّه .

وإني أنصح به .

وللتنويه : فقد خرَّج أحاديث المختصر الشيخ إبراهيم العلي رحمة الله عليه .

ودمتم على الخير أعوانا
 
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد .

جزى الله المشايخ خير الجزاء على التنكيت والفائدة .
وليت الشيخ مساعد ينشط للكتابه في بيان المنهج ؛ فيؤصّل ويأسس لهذا الكتاب المبارك .

ومن ألطف المختصرات لهذا الكتاب ؛ ما أخرجه شيخنا المكثر العلامة الدكتور صلاح الخالدي حفظه الله ؛ فقد اعتنى به أيَّما اعتناء ، وكنت قد قرأته _ ولا زلت _ فراق لي نفس العالم بالتفسير المبدع فيه ، العارف بأصول الاختصار وفنِّه .

وإني أنصح به .

وللتنويه : فقد خرَّج أحاديث المختصر الشيخ إبراهيم العلي رحمة الله عليه .

ودمتم على الخير أعوانا

الحقيقة أن كتاب الدكتور صلاح الخالدي لا يعد اختصاراً لتفسير ابن جرير، وإنما هو تهذيب لما في تفسير الطبري، واختيار للأقوال منه، صاغها المهذب بعبارته، وبينه وبين الأصل بون شاسع.
 
حديث رآاااااااااائع ماتع وإنه كما قيل يحدث في القلب الشجن
وليتنا نرى في هذا الملتقى نافذة صوتية لمدارسة هذا الكتاب مع الشيخ الدكتور مساعد الطيار -حفظه الله-

رحم الله الإمام الطبري ، ورحم الله الأستاذ محمود شاكر ، ورحم الله تلك الأعظم التي حملت العلم وبلغته بأمانة وصدق إلى الأمة ، وجزاهم الله خيراً يجدونه عنده يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ورحم الله كل من علمنا وأعاننا على العلم ومدارسته
 
"""وليتنا نرى في هذا الملتقى نافذة صوتية لمدارسة هذا الكتاب مع الشيخ الدكتور مساعد الطيار -حفظه الله- """


نسأل الله أن ييسره عاجلا غير آجل ....
 
الحمد لله ، وبعد ..

قريباً بحول الله تعالى في بداية مطلع العام الجديد .....

فاللهم نسألك التوفيق
 
نتمنى من الدكتور مساعد وفقه الله مادام ملازماً للطبري خبيراً به أن يعقد له مشاركة دائمة في هذا الملتقى يضمنها خلاصة مايتذوقه من هذا الكتاب العظيم من فوائد وفرائد ، وما يقف عليه من مشكلات ومسائل تحتاج إلى نقاش وتداول .
 
ومن ألطف المختصرات لهذا الكتاب ؛ ما أخرجه شيخنا المكثر العلامة الدكتور صلاح الخالدي حفظه الله

كنت قد استشرت الشيخ مساعد الطيار وفقه الله في أيِّ مختصَرَيْ بشار عواد والخالدي أفضل؟
فأشار علي باختصارِ الشيخ بشار ..


وفق الله الجميع لمرضاته..
 
جزاكم الله خيرا.



قال الطبري رحمه في مقدمة تفسيره :"ونحن -في شرح تأويله، وبيان ما فيه من معانيه- منشئون إن شاء الله ذلك، كتابًا مستوعِبًا لكل ما بالناس إليه الحاجة من علمه، جامعًا، ومن سائر الكتب غيره في ذلك كافيًا. ومخبرون في كل ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحجة فيما اتفقت عليه منه ، واختلافها فيما اختلفت فيه منهُ. ومُبيِّنو عِلَل كل مذهب من مذاهبهم، ومُوَضِّحو الصحيح لدينا من ذلك، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه"
 
الغريب أن ينسب تفسير ابن جرير الطبري الى التفسير بالمأثور فقط .مع أن ابن جرير رحمه الله تعالى اعتنى بالتفسير بطريقة جعلت أغلب المفسرين يرجعون له أكثر من غيره من التفاسير .
وهو يفسر القران بالقران وبالسنة ويستشهد بأقوال المفسرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم ويذكر قول اهل العلم في الفقه ويعرج على القراءات ويذكر كلام العرب في التفسير .
واسلوبه في التفسير أن يعرض جميع ما دخل من خلاف في تفسير الاية ويذكر علة كل قول ويرجح بعد ذلك القول الذي يراه أصوب .

فمن تفسيره القران بالقران قوله :
تفسير قوله تعالى : "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ" [البقرة/3]فعرض

"وَمَعْنَى الْإِيمَان عِنْد الْعَرَب : التَّصْدِيق , فَيَدَّعِي الْمُصَدِّق بِالشَّيْءِ قَوْلًا مُؤْمِنًا بِهِ , وَيَدَّعِي الْمُصَدِّق قَوْله بِفِعْلِهِ مُؤْمِنًا . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } 12 17 يَعْنِي : وَمَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا فِي قَوْلنَا . وَقَدْ تَدْخُل الْخَشْيَة لِلَّهِ فِي مَعْنَى الْإِيمَان الَّذِي هُوَ تَصْدِيق الْقَوْل بِالْعَمَلِ . وَالْإِيمَان كَلِمَة جَامِعَة لِلْإِقْرَارِ بِاَللَّهِ وَكُتُبه وَرُسُله , وَتَصْدِيق الْإِقْرَار بِالْفِعْلِ . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَاَلَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَة وَأَشْبَهَ بِصِفَّةِ الْقَوْم : أَنْ يَكُونُوا مَوْصُوفِينَ بِالتَّصْدِيقِ بِالْغَيْبِ , قَوْلًا , وَاعْتِقَادًا , وَعَمَلًا , إذْ كَانَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَحْصُرهُمْ مِنْ مَعْنَى الْإِيمَان عَلَى مَعْنًى دُون مَعْنًى , بَلْ أَجْمَلَ وَصْفَهُمْ بِهِ مِنْ غَيْر خُصُوص شَيْء مِنْ مَعَانِيه أَخَرَجَهُ مِنْ صِفَتهمْ بِخَبَرٍ وَلَا عَقْل ."
وواضح في قوله تطرقه الى الإيمان أنه تصديق وقول وعمل .ويدخل ذلك في باب الايمان (الاعتقاد)


ومن كلامه عن القراءات قوله :
في تفسير "كَأَنَّهُ جِمَالَات صُفْر ":" وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ , أَنَّ لِقَارِئِ ذَلِكَ اِخْتِيَار أَيّ الْقِرَاءَتَيْنِ شَاءَ مِنْ كَسْر الْجِيم وَقِرَاءَتهَا بِالتَّاءِ وَكَسْر الْجِيم , وَقِرَاءَتهَا بِالْهَاءِ الَّتِي تَصِير فِي الْوَصْل تَاء لِأَنَّهُمَا الْقِرَاءَتَانِ الْمَعْرُوفَتَانِ فِي قُرَّاء الْأَمْصَار ; فَأَمَّا ضَمّ الْجِيم فَلَا أَسْتَجِيزه لِإِجْمَاعِ الْحُجَّة مِنْ الْقُرَّاء عَلَى خِلَافه ."

ومن ترجيحه بالسنة :قوله في آية الوضوء:"فَإِنْ قَالَ قَائِل : وَمَا الدَّلِيل عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْمَسْحِ فِي الرِّجْلَيْنِ الْعُمُوم دُون أَنْ يَكُون خُصُوصًا نَظِير قَوْلك فِي الْمَسْح بِالرَّأْسِ ؟ قِيلَ : الدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ تَظَاهُر الْأَخْبَار عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " وَيْل لِلْأَعْقَابِ وَبُطُون الْأَقْدَام مِنْ النَّار " , وَلَوْ كَانَ مَسْح بَعْض الْقَدَم مُجْزِيًا عَنْ عُمُومهَا بِذَلِكَ لَمَا كَانَ لَهَا الْوَيْل بِتَرْكِ مَا تَرَكَ مَسْحه مِنْهَا بِالْمَاءِ بَعْد أَنْ يَمْسَح بَعْضهَا ; لِأَنَّ مَنْ أَدَّى فَرْض اللَّه عَلَيْهِ فِيمَا لَزِمَهُ غَسْله مِنْهَا لَمْ يَسْتَحِقّ الْوَيْل , بَلْ يَجِب أَنْ يَكُون لَهُ الثَّوَاب الْجَزِيل , فَوُجُوب الْوَيْل لِعَقِبِ تَارِك غَسْل عَقِبه فِي وُضُوئِهِ , أَوْضَح الدَّلِيل عَلَى وُجُوب فَرْض الْعُمُوم بِمَسْحِ جَمِيع الْقَدَم بِالْمَاءِ , وَصِحَّة مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ وَفَسَاد مَا خَالَفَهُ . ذِكْر بَعْض الْأَخْبَار الْمَرْوِيَّة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا ذَكَرْنَا "ثم ذكر الاحاديث



ومن القول بلسان العرب وكلامهم :




والترجيح بين أهل اللغة قوله في تفسير ( فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنهمْ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) . "وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ عِنْدِي مَا قَالَهُ الرَّبِيع بْن أَنَس , وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنِيّ بِالْإِغْرَاءِ بَيْنهمْ : النَّصَارَى فِي هَذِهِ الْآيَة خَاصَّة , وَأَنَّ الْهَاء وَالْمِيم عَائِدَتَانِ عَلَى النَّصَارَى دُون الْيَهُود , لِأَنَّ ذِكْر الْإِغْرَاء فِي خَبَر اللَّه عَنْ النَّصَارَى بَعْد تَقَضِّي خَبَره عَنْ الْيَهُود , وَبَعْد اِبْتِدَائِهِ خَبَره عَنْ النَّصَارَى , فَأَنْ لَا يَكُون ذَلِكَ مَعْنِيًّا بِهِ إِلَّا النَّصَارَى خَاصَّة أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُون مَعْنِيًّا بِهِ الْحِزْبَانِ جَمِيعًا لِمَا ذَكَرْنَا . فَإِنْ قَالَ قَائِل : وَمَا الْعَدَاوَة الَّتِي بَيْن النَّصَارَى , فَتَكُون مَخْصُوصَة بِمَعْنَى ذَلِكَ ؟ قِيلَ : ذَلِكَ عَدَاوَة النَّسْطُورِيَّة وَالْيَعْقُوبِيَّة وَالْمَلَكِيَّة النَّسْطُورِيَّة وَالْيَعْقُوبِيَّة , وَلَيْسَ الَّذِي قَالَهُ مَنْ قَالَ مَعْنِيٌّ بِذَلِكَ : إِغْرَاء اللَّه بَيْن الْيَهُود وَالنَّصَارَى بِبَعِيدٍ , غَيْر أَنَّ هَذَا أَقْرَب عِنْدِي وَأَشْبَه بِتَأْوِيلِ الْآيَة لِمَا ذَكَرْنَا ."


وقال في قوله تعالى:"كَأَنَّهُ جِمَالَات صُفْر ":
وَأَوْلَى الْأَقْوَال عِنْدِي بِالصَّوَابِ قَوْل مَنْ قَالَ : عُنِيَ بِالْجِمَالَاتِ الصُّفْر : الْإِبِل السُّود , لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوف مِنْ كَلَام الْعَرَب , وَأَنَّ الْجِمَالَات جَمْع جِمَال , نَظِير رِجَال وَرِجَالَات , وَبُيُوت وَبُيُوتَات . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْقُرَّاء فِي قِرَاءَة ذَلِكَ , فَقَرَأَتْهُ عَامَّة قُرَّاء الْمَدِينَة وَالْبَصْرَة وَبَعْض الْكُوفِيِّينَ : " جِمَالَات " بِكَسْرِ الْجِيم وَالتَّاء عَلَى أَنَّهَا جَمْع جِمَال وَقَدْ يَجُوز أَنْ يَكُون أُرِيدَ بِهَا جَمْع جِمَالَة , وَالْجِمَالَة جَمْع جَمَل كَمَا الْحِجَارَة جَمْع حَجَر , وَالذِّكَارَة جَمْع ذَكَر .

وقد تطرق الى علل الحديث : ففي آية الوضوء قال :اعلاله حديثا بالشذوذ كما قال :

"وَأَمَّا حَدِيث حُذَيْفَة , فَإِنَّ الثِّقَات الْحُفَّاظ مِنْ أَصْحَاب الْأَعْمَش , حَدَّثُوا بِهِ عَنْ الْأَعْمَش , عَنْ أَبِي وَائِل , عَنْ حُذَيْفَة , أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى سُبَاطَة قَوْم , فَبَالَ قَائِمًا , ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ . * - حَدَّثَنَا بِذَلِكَ أَحْمَد بْن عَبْدَة الضَّبِّيّ , قَالَ : ثنا أَبُو عَوَانَة , عَنْ الْأَعْمَش , عَنْ أَبِي وَائِل , عَنْ حُذَيْفَة ( ح ) , وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا اِبْن أَبِي عَدِيّ , عَنْ شُعْبَة , عَنْ سُلَيْمَان , عَنْ أَبِي وَائِل , عَنْ حُذَيْفَة ( ح ) , وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب وَأَبُو السَّائِب , قَالَا : ثنا اِبْن إِدْرِيس , عَنْ الْأَعْمَش , عَنْ أَبِي وَائِل , عَنْ حُذَيْفَة ( ح ) , وَحَدَّثَنِي أَبُو السَّائِب , قَالَ : ثنا أَبُو مُعَاوِيَة , عَنْ الْأَعْمَش , عَنْ شَقِيق , عَنْ حُذَيْفَة ( ح ) , وَحَدَّثَنِي عِيسَى بْن عُثْمَان بْن عِيسَى الرَّمْلِيّ , قَالَ : ثنا عَمْرو بْن يَحْيَى بْن سَعِيد , عَنْ الْأَعْمَش , عَنْ شَقِيق , عَنْ حُذَيْفَة ( ح ) , وَحَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا جَرِير , عَنْ الْأَعْمَش , عَنْ أَبِي وَائِل , عَنْ حُذَيْفَة . وَكُلّ هَؤُلَاءِ يُحَدِّث ذَلِكَ عَنْ الْأَعْمَش , بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ حُذَيْفَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ , وَهُمْ أَصْحَاب الْأَعْمَش . وَلَمْ يَنْقُل هَذَا الْحَدِيث عَنْ الْأَعْمَش , غَيْر جَرِير بْن حَازِم , وَلَوْ لَمْ يُخَالِفهُ فِي ذَلِكَ مُخَالِف لَوَجَبَ التَّثَبُّت فِيهِ لِشُذُوذِهِ , فَكَيْفَ وَالثِّقَات مِنْ أَصْحَاب الْأَعْمَش يُخَالِفُونَهُ فِي رِوَايَته مَا رَوَى مِنْ ذَلِكَ "

ومن كلامه في الفقه والترجيح :
فِي قَوْله تعالى ( وَلَا يُبْدِينَ زِينَتهنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا).قال: وَأَوْلَى الْأَقْوَال فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ : قَوْل مَنْ قَالَ : عُنِيَ بِذَلِكَ الْوَجْه وَالْكَفَّانِ , يَدْخُل فِي ذَلِكَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ الْكُحْل , وَالْخَاتَم , وَالسِّوَار , وَالْخِضَاب . وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى الْأَقْوَال فِي ذَلِكَ بِالتَّأْوِيلِ ; لِإِجْمَاعِ الْجَمِيع عَلَى أَنَّ عَلَى كُلّ مُصَلٍّ أَنْ يَسْتُر عَوْرَته فِي صَلَاته , وَأَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَكْشِف وَجْههَا وَكَفَّيْهَا فِي صَلَاتهَا , وَأَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتُر مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ بَدَنهَا إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَبَاحَ لَهَا أَنْ تُبْدِيه مِنْ ذِرَاعهَا إِلَى قَدْر النِّصْف . فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعهمْ إِجْمَاعًا , كَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ لَهَا أَنْ تُبْدِي مِنْ بَدَنهَا مَا لَمْ يَكُنْ عَوْرَة كَمَا ذَلِكَ لِلرِّجَالِ ; لِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ عَوْرَة فَغَيْر حَرَام إِظْهَاره . وَإِذَا كَانَ لَهَا إِظْهَار ذَلِكَ , كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ مِمَّا اسْتَثْنَاهُ اللَّه تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } لِأَنَّ كُلّ ذَلِكَ ظَاهِر مِنْهَا.


وهذه أمثلة ولا يخلوا تفسيره من أوله الى آخره من ذكر تلك الأوجه .فلا يمكن أن يوصف تفسير ابن جرير بانه تفسيرا بالمأثور كتفسير ابن ابي حاتم او الدر المنثور .
بل إن الممتبع لتفسير الطبري سيجد الآتي :

أنه يذكر الآية أو جزء منها ثم يذكر تفسيرها,إن كان لم يصله خلاف في ذلك , فإن كان عنده نقل عن الصحابة أاو التابعين فإنه يقول وبنحو ذلك قال أهل التأويل ويستدل بسنده إالى من وصله خبرهم في ذلك . أم إن كان خلافا قد وقع في بعض ما يتعلق بالتفسير فإنه يشير الى الخلاف . كالخلاف في المعنى اللغوي أو الاختلاف بكيفية ذلك الامر .
ومثال التفسير بما لا يستشهد عليه بقول :

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيهِمْ اللَّه مِنْ فَضْله } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ } مَا يَنْكِحُونَ بِهِ النِّسَاء عَنْ إِتْيَان مَا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَوَاحِش , { حَتَّى يُغْنِيهِمُ اللَّه مِنْ } سَعَة { فَضْله } وَيُوَسِّع عَلَيْهِمْ مِنْ رِزْقه .


وبما استشهد عليه بأقوال الصحابة أو التابعين ولم ينقل خلافا في التفسير :
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { نِسَاؤُكُمْ حَرْث لَكُمْ } يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِذَلِكَ : نِسَاؤُكُمْ مُزْدَرَع أَوْلَادكُمْ , فَأْتُوا مُزْدَرَعكُمْ كَيْفَ شِئْتُمْ , وَأَيْنَ شِئْتُمْ . وَإِنَّمَا عَنَى بِالْحَرْثِ الْمُزْدَرَع , وَالْحَرْث هُوَ الزَّرْع , وَلَكِنَّهُنَّ لَمَّا كُنَّ مِنْ أَسِبَاب الْحَرْث جُعِلْنَ حَرْثًا , إذْ كَانَ مَفْهُومًا مَعْنَى الْكَلَام . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 3446 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عُبَيْد الْمُحَارِبِيَّ , قَالَ : ثنا ابْن الْمُبَارَك , عَنْ يُونُس , عَنْ عِكْرِمَة , عَنْ ابْن عَبَّاس : { فَأْتُوا حَرْثكُمْ } قَالَ : مَنْبَت الْوَلَد . 3447 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { نِسَاؤُكُمْ حَرْث لَكُمْ } أَمَّا الْحَرْث فَهِيَ مَزْرَعَة يَحْرُث فِيهَا .






وبما ذكر الاختلاف في التفسير :

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء } يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره . وَالْمُطَلَّقَات اللَّوَاتِي طُلِّقْنَ بَعْد ابْتِنَاء أَزْوَاجهنَّ بِهِنَّ , وَإِفْضَائِهِمْ إلَيْهِنَّ إذَا كُنَّ ذَوَات حَيْض وَطُهْر , يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ عَنْ نِكَاح الْأَزْوَاج ثَلَاثَة قُرُوء . وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل الْقُرْء الَّذِي عَنَاهُ اللَّه بِقَوْلِهِ : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء } فَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ الْحَيْض . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 3699 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه : { وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء } قَالَ : حِيَض . 3700 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { ثَلَاثَة قُرُوء } أَيْ ثَلَاث حِيَض . يَقُول : تَعْتَدّ ثَلَاث حِيَض
ثم انه أكثر من ذكر الأخبار عن الصحابة والتابعين وبعد ذلك عرض القول الثاني :

وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ الْقُرْء الَّذِي أَمَرَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره الْمُطَلَّقَات أَنْ يَعْتَدِدْنَ بِهِ : الطُّهْر . ذَكَرَهُ مَنْ قَالَ ذَلِك : 3723 - حَدَّثَنَا عَبْد الْحَمِيد بْن بَيَان , قَالَ : أَخْبَرَنَا سُفْيَان , عَنْ الزُّهْرِيّ , عَنْ عَمْرَة , عَنْ عَائِشَة . قَالَتْ : الْأَقْرَاء : الْأَطْهَار . * - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرْنَا ابْن وَهْب , قَالَ : ثني عَبْد اللَّه بْن عُمَر , عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم , عَنْ أَبِيهِ . عَنْ عَائِشَة زَوْج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُول : الْأَقْرَاء : الْأَطْهَار .
وذكر ما وصله عن الصحابة والتابعين في ذلك .

وكعادته بعد ذكر الخلاف يرجح القول الذي يراه أصوب ذاكرا سبب عدم قوله بالقول المتروك عنده , والمتتبع لقول ابن جرير رحمه الله يرى أنه تكلم باللغة من كلام العرب واستدل بالحديث النبوي وذكر من الفقه ما يتعلق بالاية في موضوع آخر وهو عدم تطليق المرأة الا في طهر لم يجامعها فيه

قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالْقُرْء فِي كَلَام الْعَرَب : جَمْعه قُرُوء , وَقَدْ تَجْمَعهُ الْعَرَب أَقْرَاء , يُقَال فِي أَفْعَل مِنْهُ : أَقَرَأَتْ الْمَرْأَة : إذَا صَارَتْ ذَات حَيْض وَطُهْر , فَهِيَ تُقْرِئ إقْرَاء . وَأَصْل الْقُرْء فِي كَلَام الْعَرَب : الْوَقْت لِمَجِيءِ الشَّيْء الْمُعْتَاد مَجِيئُهُ لِوَقْتٍ مَعْلُوم , وَلِإِدْبَارِ الشَّيْء الْمُعْتَاد إدْبَاره لِوَقْتٍ مَعْلُوم , وَلِذَلِكَ قَالَتْ الْعَرَب : أَقَرَأَتْ حَاجَة فُلَان عِنْدِي , بِمَعْنَى دَنَا قَضَاؤُهَا , وَجَاءَ وَقْت قَضَائِهَا ; وَأَقْرَأَ النَّجْم : إذَا جَاءَ وَقْت أُفُوله , وَأَقْرَأَ : إذَا جَاءَ وَقْت طُلُوعه , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : إذَا مَا الثُّرَيَّا وَقَدْ أَقَرَأَتْ أَحَسَّ السِّمَاكَانِ مِنْهَا أُفُولًا وَقِيلَ : أَقَرَأَتْ الرِّيح : إذَا هَبَّتْ لِوَقْتِهَا , كَمَا قَالَ الْهُذَلِيّ : شَنِئْت الْعَقْر عَقْر بَنِي شَلِيل إذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاح بِمَعْنَى هَبَّتْ لِوَقْتِهَا وَحِين هُبُوبهَا . وَلِذَلِكَ سَمَّى بَعْض الْعَرَب وَقْت مَجِيء الْحَيْض قُرْءًا , إذَا كَانَ دَمًا يُعْتَاد ظُهُوره مِنْ فَرْج الْمَرْأَة فِي وَقْت , وَكُمُونه فِي آخَر , فَسُمِّيَ وَقْت مَجِيئِهِ قُرْءًا , كَمَا سَعَى الَّذِينَ سَمَّوْا وَقْت مَجِيء الرِّيح لِوَقْتِهَا قُرْءًا , وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَة بِنْت أَبِي حُبَيْش : " دَعِي الصَّلَاة أَيَّام أَقْرَائِك " بِمَعْنَى : دَعِي الصَّلَاة أَيَّام إقْبَال حَيْضك . وَسَمَّى آخَرُونَ مِنْ الْعَرَب وَقْت مَجِيء الطُّهْر قُرْءًا , إذْ كَانَ وَقْت مَجِيئِهِ وَقْتًا لِإِدْبَارِ الدَّم دَم الْحَيْض , وَإِقْبَال الطُّهْر الْمُعْتَاد مَجِيئُهُ لِوَقْتٍ مَعْلُوم , فَقَالَ فِي ذَلِكَ الْأَعْشَى مَيْمُون بْن قَيْس : وَفِي كُلّ عَام أَنْت جَاشِم غَزْوَة تَشُدّ لِأَقْصَاهَا عَزِيم عَزَائِكَا مُورِثَة مَالًا وَفِي الذِّكْر رِفْعَة لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوء نِسَائِكَا فَجَعَلَ الْقُرْء : وَقْت الطُّهْر . وَلِمَا وَصَفْنَا مِنْ مَعْنَى الْقُرْء أَشْكَلَ تَأْوِيل قَوْل اللَّه : { وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء } عَلَى أَهْل التَّأْوِيل , فَرَأَى بَعْضهمْ أَنَّ الَّذِي أُمِرَتْ بِهِ الْمَرْأَة الْمُطَلَّقَة ذَات الْأَقْرَاء مِنْ الْأَقْرَاء أَقْرَاء الْحَيْض , وَذَلِكَ وَقْت مَجِيئِهِ لِعَادَتِهِ الَّتِي تَجِيء فِيهِ , فَأَوْجَبَ عَلَيْهَا تَرَبُّص ثَلَاث حِيَض بِنَفْسِهَا عَنْ خِطْبَة الْأَزْوَاج . وَرَأَى آخَرُونَ أَنَّ الَّذِي أُمِرَتْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ أَقْرَاء الطُّهْر , وَذَلِكَ وَقْت مَجِيئِهِ لِعَادَتِهِ الَّتِي تَجِيء فِيهِ , فَأَوْجَبَ عَلَيْهَا تَرَبُّص ثَلَاث أَطْهَار . فَإِذْ كَانَ مَعْنَى الْقُرْء مَا وَصَفْنَا لِمَا بَيَّنَّا , وَكَانَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره قَدْ أَمَرَ الْمُرِيد بِطَلَاقِ امْرَأَته أَنْ لَا يُطَلِّقهَا إلَّا طَاهِرًا غَيْر مُجَامَعَة , وَحَرَّمَ عَلَيْهِ طَلَاقهَا حَائِضًا , كَانَ اللَّازِم لِلْمُطَلَّقَةِ الْمَدْخُول بِهَا إذَا كَانَتْ ذَات أَقْرَاء تَرَبُّص أَوْقَات مَحْدُودَة الْمَبْلَغ بِنَفْسِهَا عَقِيب طَلَاق زَوْجهَا إيَّاهَا أَنْ تَنْظُر إلَى ثَلَاثَة قُرُوء بَيْن طُهْرَيْ كُلّ قُرْء مِنْهُنَّ قُرْء , هُوَ خِلَاف مَا احْتَسَبَتْهُ لِنَفْسِهَا مُرُوءًا تَتَرَبَّصهُنَّ . فَإِذَا انْقَضَيْنَ , فَقَدْ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ , وَانْقَضَتْ عِدَّتهَا ; وَذَلِكَ أَنَّهَا إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ , فَقَدْ دَخَلَتْ فِي عِدَاد مَنْ تَرَبَّصَ مِنْ الْمُطَلَّقَات بِنَفْسِهَا ثَلَاثَة قُرُوء بَيْن طُهْرَيْ كُلّ قُرْء مِنْهُنَّ قُرْء لَهُ مُخَالِف , وَإِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ كَانَتْ مُؤَدِّيَة مَا أَلْزَمَهَا رَبّهَا تَعَالَى ذِكْره بِظَاهِرِ تَنْزِيله . فَقَدْ تَبَيَّنَ إذًا إذْ كَانَ الْأَمْر عَلَى مَا وَصَفْنَا أَنَّ الْقُرْء الثَّالِث مِنْ أَقْرَائِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا الطُّهْر الثَّالِث , وَأَنَّ بِانْقِضَائِهِ وَمَجِيء قُرْء الْحَيْض الَّذِي يَتْلُوهُ انْقِضَاء عِدَّتهَا . فَإِنْ ظَنَّ ذُو غَبَاوَة إذْ كُنَّا قَدْ نُسَمِّي وَقْت مَجِيء الطُّهْر قُرْءًا , وَوَقْت مَجِيء الْحَيْض قُرْءًا أَنَّهُ يَلْزَمنَا أَنْ نَجْعَل عِدَّة الْمَرْأَة مُنْقَضِيَة بِانْقِضَاءِ الطُّهْر الثَّانِي , إذْ كَانَ الطُّهْر الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ , وَالْحَيْضَة الَّتِي بَعْده , وَالطُّهْر الَّذِي يَتْلُوهَا أَقْرَاء كُلّهَا ; فَقَدْ ظَنَّ جَهْلًا , وَذَلِكَ أَنَّ الْحُكْم عِنْدنَا فِي كُلّ مَا أَنَزَلَهُ اللَّه فِي كِتَابه عَلَى مَا احْتَمَلَهُ ظَاهِر التَّنْزِيل مَا لَمْ يُبَيِّن اللَّه تَعَالَى ذِكْره لِعِبَادِهِ , أَنَّ مُرَاده مِنْهُ الْخُصُوص , إمَّا بِتَنْزِيلٍ فِي كِتَابه , أَوْ عَلَى لِسَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِذَا خَصَّ مِنْهُ الْبَعْض , كَانَ الَّذِي خَصَّ مِنْ ذَلِكَ غَيْر دَاخِل فِي الْجُمْلَة الَّتِي أَوْجَبَ الْحُكْم بِهَا , وَكَانَ سَائِرهَا عَلَى عُمُومهَا , كَمَا قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابنَا : " كِتَاب لَطِيف الْقَوْل مِنْ الْبَيَان عَنْ أُصُول الْأَحْكَام " وَغَيْره مِنْ كُتُبنَا . فَالْأَقْرَاء الَّتِي هِيَ أَقْرَاء الْحَيْض بَيْن طُهْرَيْ أَقْرَاء الطُّهْر غَيْر مُحْتَسَبَة مِنْ أَقْرَاء الْمُتَرَبِّصَة بِنَفْسِهَا بَعْد الطَّلَاق لِإِجْمَاعِ الْجَمِيع مِنْ أَهْل الْإِسْلَام أَنَّ الْأَقْرَاء الَّتِي أَوْجَبَ اللَّه عَلَيْهَا تَرَبُّصهنَّ ثَلَاثَة قُرُوء , بَيْن كُلّ قُرْء مِنْهُنَّ أَوْقَات مُخَالِفَات الْمَعْنَى لِأَقْرَائِهَا الَّتِي تَرَبَّصَهُنَّ , وَإِذْ كُنَّ مُسْتَحَقَّات عِنْدنَا اسْم أَقْرَاء , فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ إجْمَاع الْجَمِيع لَمْ يَجُزْ لَهَا التَّرَبُّص إلَّا عَلَى مَا وَصَفْنَا قَبْل . وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل وَاضِح عَلَى خَطَأ قَوْل مَنْ قَالَ : إنَّ امْرَأَة الْمُولِي الَّتِي آلَى مِنْهَا تَحِلّ لِلْأَزْوَاجِ بِانْقِضَاءِ الْأَشْهُر الْأَرْبَعَة إذَا كَانَتْ قَدْ حَاضَتْ ثَلَاث حِيَض فِي الْأَشْهُر الْأَرْبَعَة ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى ذِكْره إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّة بَعْد عَزْم الْمُولِي عَلَى طَلَاقهَا , وَإِيقَاع الطَّلَاق بِهَا بِقَوْلِهِ : { وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاق فَإِنَّ اللَّه سَمِيع عَلِيم وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء } فَأَوْجَبَ تَعَالَى ذِكْره عَلَى الْمَرْأَة إذَا صَارَتْ مُطَلَّقَة تَرَبُّص ثَلَاثَة قُرُوء فَمَعْلُوم أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُطَلَّقَة يَوْم آلَى مِنْهَا زَوْجهَا لِإِجْمَاعِ الْجَمِيع عَلَى أَنَّ الْإِيلَاء لَيْسَ بِطَلَاقٍ مُوجِب عَلَى الْمَوْلَى مِنْهَا الْعِدَّة . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَالْعِدَّة إنَّمَا تَلْزَمهَا بَعْد لِلطَّلَاقِ , وَالطَّلَاق إنَّمَا يَلْحَقهَا بِمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ قَبْل . وَأَمَّا مَعْنَى قَوْله : { وَالْمُطَلَّقَات } فَإِنَّهُ : وَالْمُخْلَيَات السَّبِيل غَيْر مَمْنُوعَات بِأَزْوَاجٍ وَلَا مَخْطُوبَات , وَقَوْل الْقَائِل : فُلَانَة مُطَلَّقَة , إنَّمَا هُوَ مُفَعَّلَة مِنْ قَوْل الْقَائِل : طَلَّقَ الرَّجُل زَوْجَته فَهِيَ مُطَلَّقَة ; وَأَمَّا قَوْلهمْ : هِيَ طَالِق , فَمِنْ قَوْلهمْ : طَلَّقَهَا زَوْجهَا فَطَلُقَتْ هِيَ , وَهِيَ تَطْلِق طَلَاقًا , وَهِيَ طَالِق . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْض أَحْيَاء الْعَرَب أَنَّهَا تَقُول : طَلُقَتْ الْمَرْأَة وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ لَهَا إذَا خَلَاهَا زَوْجهَا , كَمَا يُقَال لِلنَّعْجَةِ الْمُهْمَلَة بِغَيْرِ رَاعٍ وَلَا كَالِئ إذَا خَرَجَتْ وَحْدهَا مِنْ أَهْلهَا لِلرَّعْيِ مِخْلَاة سَبِيلهَا . هِيَ طَالِق فَمَثُلَتْ الْمَرْأَة الْمِخْلَاة سَبِيلهَا بِهَا , وَسُمِّيَتْ بِمَا سُمِّيَتْ بِهِ النَّعْجَة الَّتِي وَصَفْنَا أَمْرهَا . وَأَمَّا قَوْلهمْ : طَلُقَتْ الْمَرْأَة , فَمَعْنَى غَيْر هَذَا إنَّمَا يُقَال فِي هَذَا إذَا نَفِسَتْ , هَذَا مِنْ الطَّلْق , وَالْأَوَّل مِنْ الطَّلَاق . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّرَبُّص إنَّمَا هُوَ التَّوَقُّف عَنْ النِّكَاح , وَحَبْس النَّفْس عَنْهُ فِي غَيْر هَذَا الْمَوْضِع.



وبما نقل الاختلاف في التطبيق :

"فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا }. وَاخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِي وَجْه مُكَاتَبَة الرَّجُل عَبْده الَّذِي قَدْ عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا , وَهَلْ قَوْله : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } عَلَى وَجْه الْفَرْض أَمْ هُوَ عَلَى وَجْه النَّدْب ؟ فَقَالَ بَعْضهمْ : فَرْض عَلَى الرَّجُل أَنْ يُكَاتِب عَبْده الَّذِي قَدْ عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا إِذَا سَأَلَهُ الْعَبْد ذَلِكَ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ"ثم ذكر الآثار عما ورده .ثم رجح كما هي طريقته :
". وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَال فِي مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي قَوْل مَنْ قَالَ : مَعْنَاهُ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ قُوَّة عَلَى الِاحْتِرَاف وَالِاكْتِسَاب وَوَفَاء بِمَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسه وَأَلْزَمَهَا وَصَدَقَ لَهْجَة . وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِي هِيَ الْأَسْبَاب الَّتِي بِمَوْلَى الْعَبْد الْحَاجَة إِلَيْهَا إِذَا كَاتَبَ عَبْده مِمَّا يَكُون فِي الْعَبْد ; فَأَمَّا الْمَال وَإِنْ كَانَ مِنَ الْخَيْر , فَإِنَّهُ لَا يَكُون فِي الْعَبْد وَإِنَّمَا يَكُون عِنْده أَوْ لَهُ لَا فِيهِ , وَاللَّه إِنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْنَا مُكَاتَبَة الْعَبْد إِذَا عَلِمْنَا فِيهِ خَيْرًا لَا إِذَا عَلِمْنَا عِنْده أَوْ لَهُ , فَلِذَلِكَ لَمْ نَقُلْ : إِنَّ الْخَيْر فِي هَذَا الْمَوْضِع مَعْنِيّ بِهِ الْمَال ."

وفي نفس الاية:
وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ

وَقَوْله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَال اللَّه الَّذِي آتَاكُمْ } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : وَأَعْطُوهُمْ مِنْ مَال اللَّه الَّذِي أَعْطَاكُمْ . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الْمَأْمُور بِإِعْطَائِهِ مِنْ مَال اللَّه الَّذِي أَعْطَاهُ مَنْ هُوَ ؟ وَفِي الْمَال أَيّ الْأَمْوَال هُوَ ؟ فَقَالَ : بَعْضهمْ : الَّذِي أَمَرَ اللَّه بِإِعْطَاءِ الْمُكَاتَب مِنْ مَال اللَّه هُوَ مَوْلَى الْعَبْد الْمُكَاتَب , وَمَال اللَّه الَّذِي أَمَرَ بِإِعْطَائِهِ مِنْهُ هُوَ مَال الْكِتَابَة , وَالْقَدْر الَّذِي أَمَرَ أَنْ يُعْطِيه مِنْهُ الرُّبُع . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ مَا شَاءَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْلَى . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ


ويذكر ابن جرير رحمه الله القراءات ورأي ابن جرير بالقراءات كالآتي :
يقبل القراءة التي تواتر وصحة القراءة بها . ويخير القاريء بقراءة اي وجه من وجوه القراءة الصحيحة , إلا أنه دائما يجعل القراءة التي لا يشكل على السامع فهمها أولى بالقراءة من غيرها . فهو لا يردها أصلا بل يرى أن أولى القراءات يقرأ بها هي التي لا يشكل فهمها. وكذلك ما وافق رسم المصحف وخطه.
فمثال ذلك :
ما أورده من القراءات التي يصح القراءة بها ثم جعل القراءة ببعضها أولى خوفا من لبس في ذهن السامع :


الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } اخْتَلَفَ الْقُرَّاء فِي قِرَاءَة ذَلِكَ , فَقَرَأَهُ بَعْضهمْ : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } بِضَمِّ الْهَاء وَتَخْفِيفهَا , وَقَرَأَهُ آخَرُونَ بِتَشْدِيدِ الْهَاء وَفَتْحهَا . وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوهُ بِتَخْفِيفِ الْهَاء وَضَمّهَا فَإِنَّهُمْ وَجَّهُوا مَعْنَاهُ إلَى : وَلَا تَقْرَبُوا النِّسَاء فِي حَال حَيْضهنَّ حَتَّى يَنْقَطِع عَنْهُنَّ دَم الْحَيْض وَيَطْهُرْنَ . وَقَالَ بِهَذَا التَّأْوِيل جَمَاعَة مِنْ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 3417 - حَدَّثَنَا ابْن بَشَّار , قَالَ : ثنا ابْن مَهْدِيّ وَمُؤَمِّل , قَالَا : ثنا سُفْيَان , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْله : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } قَالَ : انْقِطَاع الدَّم . 3418 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , عَنْ سُفْيَان أَوْ عُثْمَان بْن الْأَسْوَد : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } حَتَّى يَنْقَطِع الدَّم عَنْهُنَّ . 3419 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا يَحْيَى بْن وَاضِح , قَالَ : ثنا عُبَيْد اللَّه الْعَتَكِيّ , عَنْ عِكْرِمَة فِي قَوْله : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } قَالَ : حَتَّى يَنْقَطِع الدَّم . وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ بِتَشْدِيدِ الْهَاء وَفَتْحهَا , فَإِنَّهُمْ عَنَوْا بِهِ : حَتَّى يَغْتَسِلْنَ بِالْمَاءِ وَشَدَّدُوا الطَّاء لِأَنَّهُمْ قَالُوا : مَعْنَى الْكَلِمَة : حَتَّى يَتَطَهَّرْنَ أُدْغِمَتْ التَّاء فِي الطَّاء لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا . وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ : " حَتَّى يَطَّهَّرْنَ " بِتَشْدِيدِهَا وَفَتْحهَا , بِمَعْنَى : حَتَّى يَغْتَسِلْنَ , لِإِجْمَاعِ الْجَمِيع عَلَى أَنَّ حَرَامًا عَلَى الرَّجُل أَنْ يَقْرَب امْرَأَته بَعْد انْقِطَاع دَم حَيْضهَا حَتَّى تَطْهُر . وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي التَّطَهُّر الَّذِي عَنَاهُ اللَّه تَعَالَى ذِكْره , فَأَحَلَّ لَهُ جِمَاعهَا , فَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ الِاغْتِسَال بِالْمَاءِ , وَلَا يَحِلّ لِزَوْجِهَا أَنْ يَقْرَبهَا حَتَّى تَغْسِل جَمِيع بَدَنهَا . وَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ الْوُضُوء لِلصَّلَاةِ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ هُوَ غَسْل الْفَرْج , فَإِذَا غَسَلَتْ فَرْجهَا فَذَلِكَ تَطَهُّرهَا الَّذِي يَحِلّ بِهِ لِزَوْجِهَا غِشْيَانهَا . فَإِذَا كَانَ إجْمَاع مِنْ الْجَمِيع أَنَّهَا لَا تَحِلّ لِزَوْجِهَا بِانْقِطَاعِ الدَّم حَتَّى تَطْهُر , كَانَ بَيِّنًا أَنَّ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ أَنْفَاهُمَا لِلَّبْسِ عَنْ فَهْم سَامِعهَا , وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي اخْتَرْنَا , إذْ كَانَ فِي قِرَاءَة قَارِئِهَا بِتَخْفِيفِ الْهَاء وَضَمّهَا مَا لَا يُؤْمَن مَعَهُ اللَّبْس عَلَى سَامِعهَا مِنْ الْخَطَأ فِي تَأْوِيلهَا , فَيَرَى أَنَّ لِلزَّوْجِ غِشْيَانهَا بَعْد انْقِطَاع دَم حَيْضهَا عَنْهَا وَقَبْل اغْتِسَالهَا وَتَطَهُّرهَا . فَتَأْوِيل الْآيَة إذًا : وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْمَحِيض , قُلْ هُوَ أَذًى , فَاعْتَزِلُوا جِمَاع نِسَائِكُمْ فِي وَقْت حَيْضهنَّ , وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَغْتَسِلْنَ فَيَتَطَهَّرْنَ مِنْ حَيْضهنَّ بَعْد انْقِطَاعه .
وقال فيما وافق خط المصحف .
. وَالطَّيْر جَمْع طَائِر . وَاخْتَلَفَتْ الْقُرَّاء فِي قِرَاءَة ذَلِكَ , فَقَرَأَهُ بَعْض أَهْل الْحِجَاز : " كَهَيْئَةِ الطَّائِر فَأَنْفُخ فِيهِ فَيَكُون طَائِرًا " , عَلَى التَّوْحِيد . وَقَرَأَهُ آخَرُونَ : { كَهَيْئَةِ الطَّيْر فَأَنْفُخ فِيهِ فَيَكُون طَيْرًا } عَلَى الْجِمَاع كِلَيْهِمَا . وَأَعْجَب الْقِرَاءَات إِلَيَّ فِي ذَلِكَ قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ : { كَهَيْئَةِ الطَّيْر فَأَنْفُخ فِيهِ فَيَكُون طَيْرًا } عَلَى الْجِمَاع فِيهِمَا جَمِيعًا , لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ صِفَة عِيسَى أَنَّهُ يَفْعَل ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّه , وَأَنَّهُ مُوَفَّق لِخَطِّ الْمُصْحَف , وَاتِّبَاع خَطّ الْمُصْحَف مَعَ صِحَّة الْمَعْنَى , وَاسْتِفَاضَة الْقِرَاءَة بِهِ أَعْجَب إِلَيَّ مِنْ خِلَاف الْمُصْحَف .
وهنا تنبيه مهم وهو ان ابن جرير لم يصله تواتر بعض القراءات . فلا يعول على انكاره بعضها , لانه لم يصله تواترها . وهو يرد ما لم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بها . وقد ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى عن امرأة العزيز قولها :"هيت لك"

وكما أنه من المعلوم أن ابن جرير أورد الآثار دون التزام بصحة الأخبار المنقولة . فنجده ينقل العديد من الاحاديث الضعيفة كحديث الغرانيق وحديث طلاق زيد لزينب في رؤية النبي لها وقد نبه ابن كثير رحمه الله في تفسيره على بعض ذلك .وما انطبق على الحديث ينطبق على الآثار عن الصحابة والتابعين في السند .

وكذلك فان تفسيره رحمه الله لا يخلوا من الاسرائيليات فبعضها في التفسير كما في تفسيره لقوله تعالى "وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ"فقد ذكر بعض الاسرائيليات التي تذكر الحية . ولم يثبت في ذلك شيء في السنة . وانما هي من كتب أهل الكتاب .نقلها من كان على دينهم ثم أسلم أو من حدث عنهم . وإذا لم تخالف هذه الاسرائيليات كتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا فإن العلم بها لا ضير فيه . كم صح عن النبي في قوله عن ذلك في الحديث المعروف .


هذا ما جمعته مما يحضرني في تفسير ابن جرير سائلا المولى عز وجل أن يتغمده برحمته ويجمعنا وإياه في جنات النعيم بفضله وكرمه مع نبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم .
 
عودة
أعلى