أحمد النبوي
New member
- إنضم
- 19/12/2009
- المشاركات
- 73
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
مسئلةٌ
في أنَّ بعضَ الإعاداتِ تكونُ زيادةً في القرآنِ لا تجوزُ
وإنْ أشبهتِ الوقفَ الحسنَ، وضابطِ ذلك.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:
فقد كَثُرَ جِدًّا وشَاعَ سَهْلاً على ألسنة بعض القراء في هذه الأيام من الوقوف والابتداءات العجيبة ما شاع، ومن أعجبها وأغربها تلك الإعادات في صلب كلام الله ما أنزل الله بها من سلطان، فلا ورد بها عند أهل الأثر دليل، ولا قام عليها من العقل برهان، بل بِخِلافِ ذلك: دار النقل والعقل كلاهُما على مَجِّها ومنعها، وما تمسُّك بعض القراء بها إلا لطرافتها وإغرابها على السامعين وإن عَافَهَا الذَّوْقُ والعقلُ بَدَاهَةً!
وأحب قبل البدء في تفصيل المسئلة أن أشير إلى أن بعض قرائنا الكبار أتى شيئاً يسيراً مما نبهتُ عليه في هذه المسئلة، وهو منهم فعلٌ نتأولُ لهم فيه خطأ المجتهد إن شاء الله، وهو أمر لم يكن شائعاً عندهم ولا ظاهراً، لكن شيوعه اليوم وذُيوعه ألجأني إلى التفصيل في سرد أمثلته وحُكمه، والمقصودُ ألا يَحُجَّني أحدٌ بفعلِ هؤلاء الكبار، فإن الرجال يوزنون بالحق ولا يوزنُ الحقُ بالرجال، وكما قلتُ: لم يكن شائعاً عندهم فلا حجة فيه، والله أعلم.
أُعَرِّجُ الآن على طائفة من الأمثلة قبل البدء في تخريج قاعدة هذه المسئلة وبيان وجهها الصحيح إن شاء الله، فمن ذلك أن يقرأ القارئ هكذا:
o "وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا/ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا" (القصص 9) فهذا الوقفُ مما لا يصح أصلاً دون تكرار "لا"، فاحترز بعضُ القراء من مذمة الابتداء بـ"تَقْتُلُوهُ" بتكرار حرف النفي فانقلب زيادة، فقد راموا الخروج من لحنٍ فوقعوا في آخر!
o "وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ" (هود 45 - 46)
o وقوله تعالى "وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ/ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ" (القصص 42)
o وقوله "وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا/ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ" (النساء 157_158)
وضابط هذه المسئلةِ: أن يكون هناك زيادة في المعنى المفهوم؛ تتولدُ من تِكرارِ المبنى واللفظِ المنطوق، بأن تُعملَ العبارةُ أو اللفظةُ مرتين وقد وردت في نص القرآن الكريم مرة واحدة.
وعلى عكسِ ذلك قد تتكررُ اللفظة في نصِّ القرآن الكريم فيوقفُ اختياراً من أجل اجتناب تكريرها تكريراً من غير فصلٍ[1]، كما فى قوله تعالى "لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ/ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ" (التوبة 108)، ومنه كذلك قوله تعالى "وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ/ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ" (الأنعام 124)، ومثل قوله تعالى "وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيراً* قَوَارِيراً مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا" (الإنسان 16 - 15) بالتنوين في الموضعين معاًً لنافعٍ وشعبة والكسائي وأبي جعفر. وجماعُ ما سبق أن التكرار يكونُ لغرضٍ يريده الله، فمن كرر لفظةً لغير ضرورةٍ فقد حَمَّلَ نصَّ القرآن ما ليس منه!
ومن أغراض التكرار اللفظي في القرآن الكريم التوكيد كما في قوله تعالى "هيهات هيهات لما توعدون"، قال القرطبي والبغوي: نزل القرآن بلسان العرب، ومن مذاهبهم التكرار إرادة التأكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والايجاز[2].
وانظر إلى قوله جلَّ وعلا حين أراد التِّكرارَ في الجواب بعد السؤال، قال: "فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ" (الطارق 6)، ثم انظر إلى قارئٍ يُكرر من تلقاءِ نفسه، واعجب! فلو شاء تعالى لقال "مِن مَّاء دَافِقٍ"، كما في مواضع تنبو عن الحصر من كلام الله، كما في قوله تعالى "لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ* لِيَوْمِ الْفَصْلِ" (المرسلات 12- 13)، ولو شاء لقال: أجلت "لِيَوْمِ الْفَصْلِ".
o ومثله: "وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا/ اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا" (الأعراف 89) فهو ابتداء قبيح لهذه القاعدة وللركاكة المتولدة من التِّكرار أيضاً.
o ومنها: " لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْم/ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ" (غافر 16) فقوله "الْمُلْكُ الْيَوْم" عَمِلَ مرتين: مرة في السؤال، ومرة في جوابه، ولم يَرِدْ في كلامِ الله إلا مرةً واحدة!!
o وقوله "ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّين/ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا" (الانفطار 18_19) وهو مثل سابقه!
o وقوله تعالى "وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَة/ الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ" (الهمزة 5_6) وهو كسابِقَيْه.
o وقوله تعالى "وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ/ هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ" (القارعة 10-11)
o ومنها: "أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْم/ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ" (الأنعام 93) فقد عَمِلَ ظرف الزمان مرتين: مرةً مع "أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ"، ومرةً مع "تُجْزَوْنَ".
o وقوله: "قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْم/ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" (يوسف 92)، والخطأ فيها من وجهين: التِّكرار كسابقاتها، وتقييد الغفران بـ"اليوم"، والله جل وعلا لا مُكرِه له!
o وقوله "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا/ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ" (الأنبياء 47) فإن جملة "وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ" متعلقة بما بعدها، ولا تعلق لها البتة بما قبلها، فإما أن يوصل من أول الآية إلى "أتينا بها"، أو يوقف على "شيئاً" ويُستأنفُ "وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ"، ولا يُعتدُّ بالوقف الحسن هنا لإيهامه الزيادةَ، فسوف تعملُ جملةُ "وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ" مرتين حينئذ: مرة فيما قبلها، ومرةً فيما بعدها، وهذا الموضعُ مُحْتَمَلٌ فيه التكرارُ فالأولى فيه صيانةُ السامع عن الوهمِ في الفهم، وإلا فالعربية الفصيحة لا تدعم التكرار فيه بقوة كما في الأمثلة الأخرى، والله أعلم.
o "أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّه/ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ" (البقرة 221) على سبيل القسم في الأولى، وهو ممتنعٌ من أوجه: أولُها التِّكرار، ولإيهامه أنهم يدعون إلى الله مع دعوتهم للنار، ولأنه لو صحَّ قسماً لكان مجروراً.
وليس من الباب قوله تعالى "ألا إنهم من إفكهم ليقولون/ من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون" (الصافات 152)لأن المعنى واللفظ لم يتمَّا بعدُ، إذ لابدَّ لقوله "لَيقولون" من جملة مقول القول. وليس منها كذلك قوله تعالى "فويلٌ للمصلين* فويلٌ للمصلين الذين هم عن صلاهم ساهون" لأن المعنى لم يتم بعد، وإن تمَّ اللفظُ واستَكْفَى على رأسِ الأية وأعطى معنى سقيماً، فإن الجملة التي بعده هي التي تعلقت به لتقييدها له!
والنَّسْجُ على منوال ما سبق مما يسهل على مُستحضِرِ القرآنِ الكريمِ، واللبيبُ بالإشارةِ يفهمُ.
وصلى الله على الحبيب البشير النذير وسلم تسليماً.
والحمد لله رب العالمين بكرةً وأصيلاً.
[1] البرهان في علوم القرآن - الزركشي ج1- ص368
[2] انظر تفسير القرطبي - (ج 20- ص 226)، وتفسير البغوي - (ج 8- ص 564)