وأنقل هنا أنموذجا من تحليل الجموع في الرسالة
1- الآف : ألوف
كلا اللفظين لمفرد واحد وهو (ألف) وقد جاء الجمع الأول على أحد أوزان القلة (أفعال) وجاء الجمع الثاني (ألوف)على احد أوزان الكثرة (فعول) وما يهمنا هو الوقوف على دلالة كل من الجمعين في سياقه وملائمته له
قال الراغب :" والألف : العدد المخصوص وسمي بذلك لكون الأعداد فيه مؤتلفة , فان الأعداد أربعة آحاد وعشرات ومئون وألوف فإذا بلغت الألف فقد ائتلفت وما بعده يكون مكررا "
وقال سيبويه :" وأعلم انه قد تجيء في (فعل) أفعال , مكان أفعل وليس ذلك بالباب في كلام العرب "
وأما فعول قال سيبويه :"وكان فََعلا ... فإذا جاوزت العدد هذا فان البناء يجيء على (فعال) وعلى (فعول)... وأما الفعول :فنسور وبطون , وربما كانت فيه اللغتان فقالوا :فعول وفعال وذلك قولهم : فروخ وفراخ , وكعوب وكعاب , وفحول وفحال "
وقال الرضي :" وفي كثرته (فعول) في غير باب ثوب , فانه على ثياب ,
وفعال في غير باب (سيل) فإنه على سيول "
قال تعالى: ﭽإذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين (أل عمران:124)
وقال تعالىﮙ ألم تر إلى اللذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت البقرة: ٢٤٣
مرات الورود
ورد الجمع الأول (ألاف) مرة واحدة في القران الكريم في الآية السابقة
وورد الجمع الثاني (ألوف) مرتين في القران الكريم الآية السابقة وقوله تعالى
:( ويمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة ) (أل عمران :125)
ويرى أحمد مختار عمر :"بان القران استخدم عند إرادة الكثرة لفظ (ألوف) الذي جاء على وزن من أوزان جموع الكثرة , واستخدم عند رادة القلة لفظ(آلاف) الذي جاء على وزن من أوزان جموع القلة , ومن المعروف عند النحاة أن القاعدة في تمييز العدد من الثلاثة إلى العشرة أن يأتي جمع قلة"
وقد ذهب إلى ذلك أيضا فاضل السامرائي في معاني الأبنية
قال الألوسي:" ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة ألاف من الملائكة منزلين:الكفاية سد الحاجة وفوقها الغنى بناء على انه الزيادة على نفي الحاجة ,والإمداد في الأصل إعطاء الشيء حالا بعد حال ,وفيه إشعار بأنهم كانوا حينئذ كالا يسين من النصر لقلة عددهم وعدتهم ,وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الاظافة إلى ضمير المخاطبين مالا يخفى من اللطف وتقوية الإنكار ومن الملائكة بيان أوصفة لآلاف أولما أضيف إليه ومنزلين صفة لثلاثة آلاف وقيل: حال من الملائكة , وفي وصفهم بذلك إشارة إلى أنهم من اشرف الملائكة وقرئ (منزلين ) بالتشديد للتكثير أوللتدرج وقرئ مبنيا للفاعل من الصيغتين عل معنى منزلين الرعب في قلوب أعدائكم أو النصر لكم "
وقال الرازي : وعد الرسول بذلك المؤمنين الذين بواهم مقاعد للقتال وأمرهم بالسكون والثبات في تلك المقاعد ,فهذا يدل على انه صلى الله عليه وسلم إنما وعدهم بهذا الوعد بشرط أن يثبتوا في تلك المقاعد فلما أهملوا هذا الشرط لاجرم لم يحصل المشروط , كذلك الحال في إنزال خمسة ألاف كان مشروطا بشرط أن يصبروا ويتقوا في المغانم , ثم إنهم لم يصبروا ولم يتقوا في المغانم , بل خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط "
وقال الزمخشري :"إذ تقول:ظرف لنصركم على أن يقول لهم ذلك يوم يدر , أو بدل ثان من (وإذا غدوت) على أن يقول لهم يوم احد . فان قلت كيف يصح أن يقول لهم يوم احد ولم ينزل فيه ملائكة , قلت : قال لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم فلم يصبروا عن الغنائم ولم يتقوا , حيث خالفوا أمر رسول الله فلذلك لم تنزل الملائكة ولو تمو على ما شرط عليهم لنزلت , وإنما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر الله "
وقال ابن كثير :"اختلف المفسرون في هذا الوعد هل كان يوم بدر أو يوم احد على قولين احدهما : إن قوله :( إذ تقول للمؤمنين ) متعلق بقوله (ولقد نصركم الله ببدر)
القول الثاني : إن هذا الوعد متعلق بقوله :(وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال ) وذلك يوم احد ولكن قالوا لم يحصل الإمداد بالخمسة الآلاف لان المسلمين فروا يومئذ , زاد عكرمة ولا بالثلاثة الآلاف لقوله (بلى إن تصبروا وتتقوا ) فلم يصبروا بل فروا فلم يمدوا بمللك واحد "
قال ابن عطية في تفسير الآية الثانية(الم تر إلى اللذين خرجوا ) هذه رؤيا القلب بمعنى الم تعلم , والكلام عند سيبويه بمعنى تنتبه إلى أمر اللذين , ولا تحتاج هذه الرؤيا إلى مفعولين وقصة هؤلاء فيما قال الضحاك : هي أنهم قوم من بني إسرائيل أمروا بالجهاد فخافوا الموت بالقتل في الجهاد ,فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك فأماتهم الله ليعرفهم انه لا ينجيهم من الموت شيء , ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله :(وقاتلوا في سبيل الله )(البقرة :190-244)
وقال الزمخشري :"الم تر: تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأولين وتعجب من شانهم ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع , لان هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجيب , روي أن أهل (دار دان) قرية قبل واسط وقع فيها الطاعون , فخرجوا هاربين , فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا انه لا مفر من حكم الله وقضائه , قيل: هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذرا من الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم (وهم ألوف)فيه دليل على الألوف الكثيرة واختلف في ذلك فقيل:عشرة , وقيل: ثلاثون , وقيل: سبعون "
قال السيد قطب :"وقصص بني إسرائيل هو أكثر القصص ورودا في القرآن الكريم لأسباب عدة وذكر منها :
وهو أن الله سبحانه علم أن أجيالا من هذه الأمة المسلمة ستمر بادوار كالتي مرت فيها بنو إسرائيل , وتقف من دينها وعقيدتها مواقف شبيهة بمواقف بني إسرائيل فعرض عليها مزالق الطريق , مصورة في تاريخ بني إسرائيل لتكون لها عضة وعبرة ,ولترى صورتها في هذه المرآه المرفوعة لها بيد الله سبحانه قبل الوقوع في تلك المزالق أو اللجاج فيها على مدار الطريق "
وقال ابن عاشور :"وموقع الم تر : قبل قوله :(وقاتلوا في سبيل الله ) موقع ذكر الدليل قبل المقصود وهذا طريق من طرق الخطابة أن يقدم الدليل قبل المستدل عليه لمقاصد , والمقصود من مثل ذلك الاهتمام والعناية بالحجة قبل ذكر الدعوى تشويقا للدعوى , أو حملا على التعجيل بالامتثال "
وقال السيوطي وهو يتحدث عن الاستفهام :" أنها تدخل على الإثبات , وذكر منها التعجب من الأمر العظيم كقوله تعالى :(الم تر إلى اللذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت )وفي كلا الحالين – يقصد التعجب أم التذكير- والتنبيه التي تدخل الاستفهام على الإثبات لتفيد احد المعنيين نحو:( الم نهلك الأولين )
ويرى الباحث أن سبب التنوع بين ( الآف – وألوف ) راجع إلى دلالة كل منهما في سياقه , فقد جاء الجمع الآف يحمل دلالة التدرج في النزول في السياق ذاته , فهم لم ينزلوا دفعة واحدة يؤكد ذلك قوله (منزلين ) صفة لثلاثة الآف وفيه إشارة إلى إن المنزلين من اشرف الملائكة يؤكد ذلك استخدام من التبعيضية
فناسب خصوصية اللفظ خصوصية المنزلين لأنهم ملائكة ولأنهم من أشرفهم وليسوا ملائكة فحسب .
وكذلك الحال بالنسبة للجمع ألوف الذي جاء يحمل الدلالات المناسبة لسياقه منها:
1- أنهم بشر سواء أكانوا من بني إسرائيل أوغيرهم وهو أكثر عمومية
2- فيه دليل على الألوف الكثيرة الذين يقصدهم السياق
3- فيه دلالة العناية بالموضوع أو التعجيل بالامتثال لأنه قدم ( وقاتلوا في سبيل الله) وأخر هذه الآية
4- دلالة العضة والعبرة من مخالفة أوامر الله أ, عدم الاستسلام لقضاء الله وقدره
5- دلالة التحذير للأجيال القادمة من الوقوع في تلك المزالق أو الدخول فيها على مدار الأزمان حتى لايصيبهم ما أصاب من قبلهم
فناسب عموم الجمع عموم الدلالات المقصودة في سياقه وهي المذكورة سابقا وناسب خصوصية اللفظ السابق خصوصية المعنيين السابقين والله اعلم
2- أنصاب : نصب
قال تعالى " ياأيها اللذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون "المائدة: ٩٠
وقال تعالى "يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون" المعارج: ٤٣
مرات الورود
ورد الجمع الأول (أنصاب) مرة واحدة في القران الكريم في الآية السابقة
ورد الجمع الثاني (نصب) مرتين في القران الكريم الآية السابقة وقوله تعالى
:( وما ذبح على النصب) (المائدة:3)
قال الراغب :"النصيب : الحجارة تنصب على الشيء , وجمعه نصائب ونصب ... وقد يقال في جمعه أنصاب "
وقال ابن منظور :"النّصب : كل ما عبد من دون الله تعالى , والجمع أنصاب , وقال الزجاج : النّصب : جمع واحدها نصاب قال : وجائز ان يكون واحدا وجمعه أنصاب "
قال الالوسي :"ألأنصاب: هي الأصنام المنصوبة للعبادة , وفرق بعضهم بين الأنصاب والأصنام بان النصاب حجارة لم تصور كانوا ينصبونها للعبادة
ويذبحون عندها , والأصنام ما صور وعبد من دون الله عز وجل "
قال الزمخشري :"فان قلت :لمَ جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولا ثم أفردهما آخر قلت: لان الخطاب مع المؤمنين , وإنما نهاهم عما كانوا يتعاطونه من شرب الخمر واللعب بالميسر وذكر الأنصاب والأزلام لتأكيد تحريم الخمر والميسر , واضهار أن ذلك جميعا من أعمال الجاهلية وأهل الشرك فوجب اجتنابه بأسره "
وقال الو احدي :" الخمر : التي تخمر حتى تشتد وتسكر , والميسر : القمار بجميع أنواعه , والأنصاب : الأوثان , رجس : قذر قبيح "
وقال ابن عطية :"الأنصاب : وهي حجارة يذكون عندها لفضل يعتقدون فيها , وقيل : هي الأصنام المعبودة كانوا يذبحون لها وعندها في الجاهلية , فان كانت المرادة في هذه الآية , الحجارة التي يذبح عندها فقط فذلك لأنه كان في نفس ضعفة المؤمنين شيء من تعظيم تلك الحجارة "
أما قوله:(كأنهم إلى نصب يوفضون )
قال الطبري :"كأنهم إلى علم قد نُصب لهم يستبقون , وأجمعت قراء الأمصار على فتح النون من قوله (نصب)غير الحسن البصري : فانه ذكر عنه انه كان يضمها مع الصاد , وكان من فتحها يوجه النصب إلى انه مصدر من قول القائل : نصبت الشيء أنصبه نصبا وكان تأويله عندهم : كأنهم إلى صنم منصوب يسرعون سعيا . وأما من ضمها مع الصاد فأنه يوجه إلى انه واحد الأنصاب , وهي ألهتهم التي كانوا يعبدونها "
قال ابن كثير :" إلى نصب : قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : إلى علم يسعون وقال أبو العالية ويحي بن أبي كثير: إلى غاية يسعون إليها "
قال ابن عاشور :" شبه إسراعهم يوم القيامة إلى الحشر بإسراعهم في الدنيا إلى الأصنام لزيارتها , لان لهذا الإسراع اختصاصا بهم , وفي هذا التشبيه إدماج لتفضيع حالهم في عبادة الأصنام وإيماء إلى أن إسراعهم يوم القيامة إسراع دع ,
ودفع جزاء على إسراعهم للأصنام , وقرأ الجمهور (نصب) بفتح النون وسكون الصاد , وقراه ابن عامر وحفص عن عاصم بضم النون والصاد 0"
وقال الرازي :" ومعنى الآية أنهم يوم يخرجون من الأجداث يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصارهم "
وقال الزمخشري :" ونَصَب :ونُصُب : وهو كل ما نصب وعبد من دون الله, يوفضون : يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصابهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "
قال الفيروز آبادي :" خروجهم من القبور سريعا إلى الصوت (كأنهم إلى نصب) أي راية وغاية وعلم (يوفضون) يمضون وينطلقون "
وقال الجصاص :" إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ) وذلك يقتضي التحريم والضرورة المذكورة في الآية متضمنة لسائر المحرمات , وذكره لها في الميتة وما عطف عليها غير مانع من اعتبار عموم الآية الأخرى في سائر المحرمات , ومن جهة أخرى انه إذا كان المعنى في إباحة الميتة إحياء نفسه بأكلها وخوف التلف في تركها وذلك موجود في سائر المحرمات , وجب أن يكون حكمها لوجود الضرورة والله اعلم "
وقال أيضا:" وأما قوله :(وما ذبح على النصب ) فانه روي عن مجاهد وقتادة وابن جريج : أن النصب : أحجار منصوبة كانوا يعبدونها ويقربون الذبائح لها فنهى الله عن أكل ما ذبح على النصب لأنه مما أهل به لغير الله ,والفرق بين الصنم والنصب , أن الصنم يصور وينقش وليس كذلك النصب , لان النصب : حجارة منصوبة , والوثن : كالنصب سواء "
ويرى الباحث أن سبب التنوع بين (أنصاب- ونصب ) عائد إلى دلالة كل منهما في سياقه
إذ جاء الجمع (أنصاب ) يحمل دلالة كل ما نصب وعبد من دون الله , يدخل في ذلك الأصنام المنقوشة والمصورة والحجارة التي لم تصور التي كانوا ينصبونها للعبادة ويذبحون عندها , يؤكد ذلك انه جاء في سياق ذكر الخمر والميسر والأزلام ليدلل على أن ذلك جميعا من أعمال الجاهلية وأهل الشرك والتحريم هنا مطلقا .
وجاء الجمع (نصب) يحمل دلالة تلك الأحجار المنصوبة التي كانوا يعبدونها ويقربون الذبائح لها , وليست منقوشة ولا مصورة , لان التحذير في الآية عن الذبح للنصب , أي للحجارة , لأنه أهل به لغير الله وهذا شرك .
فقد جاء الجمع الأول في السياق الذي شمل أكثر من محرم وهي الخمر والميسر والأزلام فهذه جميعا محرمة لأنها أعمال جاهلية تحريما مطلقا .
وجاء الجمع الثاني في سياق يدل على أن ما ذبح على النصب ليس لله فيه شيء لأنه قربة لهذه الأحجار , والنهي عن الأكل منها خاصة فهو أخص من السياق السابق والله اعلم 0