بسم1
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
1- ليس محل النزاع (أي موضوع الخلاف) عدم اتفاق حول ما قدمه الشيخ الشعراوي من فكر منير في التفسير العلمي، حتى أُعاتَب في عدم التعريج عليه. ولو كان هذا هو شاغلنا، لاستحق موضوعاً برأسه. وهذ هو ردي على العبارة:
الشيخ متولي الشعراوي هو علامة مضيئة في عالم التفسير كما تعلم والحقيقة كنت أتوقع منك عناية كبيرة بكلامه
2- وليس محل النزاع في صلاحية أو عدم صلاحيته هذا الباب للعوام من الناس، حتى أُنَبَّه عليه، رغم أن لهم نصيباً كبير في الجانب الدعوي منه، ولكن بعد نضوج هذا العلم، وليس قبله. وهذا هو ردي على العبارة:
هذا الباب لايصلح خطابا للبسطاء وعامة الناس إلا أن رب الناس لم ينس أحدا من عموم الناس وخاطب كل علي قدره ..
3- وليس محل النزاع في معنى التناقض، رغم وضوح معناه العقلي، وأنه إن وقع، فحتماً لمخالفة النظرية الطبيعية للحقيقة القرآنية، كما يُفهم من العبارة:
ومن أهل القرآن من يسارع لمقابلة الآية القرآنية بالآية الكونية بغية الانتصار للقرآن وقد يحدث التناقض
رغم أن سبب التناقض في كثير من هذه الحالات، أن يكون المتصدر لها غير محيط إما بمعنى الآية، أو بالموضوع العلمي، أو بجرأته على كليهما رغم قلة بضاعته أو انعدامها فيهما جميعاً! .. هذا في وقت يمكن أن ينتفي فيه ذلك التناقض إذا تأهل لها المتخصصون في طرفي المعادلة (معانى الآيات، والتفسير العلمي لها) وعالجوها بما تستحقه من حِرفيَّة.
4- وليس محل النزاع – حتى هذه اللحظة - هو العلاقة بين اليقين والظن (أي الحقيقة والنظرية) في "التفسير العلمي"، حتى يُقطع ببطلان الظن الراجح، والذي لو اعتمد ذلك - من يريد أن يعتمده - لقطع ببطلان كثير من محتوى التفاسير المعتمدة، وأغلب الأحكام الفقهية!! .. وهذا هو ردي على العبارة:
قال الشيخ الشعراوي رفعا للتناقض اياك أن تقابل النظرية العلمية بالقرآن بل قابل الحقيقة العلمية بالقرآن
5- وليس محل النزاع هو مناقشة التنافس على تفسير القرآن بين التطبيقيين والشرعيين من المنظرين والدخول في نوايا ودوافع ومزاعم كل طرف. فهذه مسألة تقتضي موضوعاً برأسه، ومؤلَّفاً يعالجها ليقضي بحقِّ بين حزبين متنافسين، وبينهما شجارٌ تحت الرماد. وهذا هو ردي على العبارة:
أصحاب العلوم التطبيقية يتسارعون فيها ليس خدمةً للقرآن ولا انتصارا لسيدنا محمد صلي الله عليه وسلم بل لبيان قدرتهم وهيمنتهم على الكون وأهل القرآن ينئون عنهم خشية الوقوع في التناقض مع القرآن.
6- نعم، لم يكن أي من النقاط السابقة محل نزاع حتى الآن، وإنما محل النزاع الراهن والقريب والذي أنا بصدده في هذه المسألة هو دفاعي عن: أن مبدأ رفع التناقض ليس من ضوابط التفسير العلمي،
من حيث هو تفسير علمي، وإنما هو من ضوابط الفكر الإنساني السابق للتخصص العلمي. ومن ثم لا ينبغي أن يُنص عليه في دائرة ضوابط التفسير العلمي (التي يطمح السائل الوصول إليها)، من حيث هو علم خاص. ومحل النزاع هذا يدخل في
محل نزاع أرحب، وقد صدَّرت به كلامي في أول مداخلة، ألا وهو
ضبابية سماء التفسير العلمي في مرحلته الراهنة، والتي لا يجوز معها وضع ضوابط إلا بعد دراسات مستفيضة، ثم استقراء نتائجها، فتكون منارات لأي ضوابط مقترحة لاحقاً.
7- ويبدو لي من هذا الاستعراض التحليلي ، وخاصة ما أماط عنه أخي المحاور اللثام في العبارة المقتبسة أعلى والتي أعيدها مرة أخرى هنا لأهميتها، وجاء فيها:
النكتة أن أصحاب العلوم التطبيقية يتسارعون فيها ليس خدمةً للقرآن ولا انتصارا لسيدنا محمد صلي الله عليه وسلم بل لبيان قدرتهم وهيمنتهم على الكون وأهل القرآن ينئون عنهم خشية الوقوع في التناقض مع القرآن
والتي يتضح منها أن الدافع الرئيسي لوضع (رفع التناقض بين الحقيقتين: القرآنية والعلمية) في صدر ضوابط التفسير العلمي، هو رد الشرعيين – بلسان من يتحدث عنهم بإسم أهل القرآن - لدعوى التفسير العلمي برمتها في وجه التطبيقيين، ومن ينجرف معهم من أهل القرآن، بوضع شرط شبه مستحيل في حقيقته. والمحك في ذلك هو:
أنه ما لم تكن المسألة العلمية ظاهرة لهم (بلا معاناة من دراسة ولا تخصص علمي ولا اجتهاد تطبيقي في العلوم الحديثة) فهي ليست مجزوم بها عندهم، أي: ليست بحقيقة علمية، أي: لا ترتقى للمقابلة مع الحقيقة القرآنية، .. أي ... مردودة. ... وبهذا يرتاح بال الشرعيين (الذين يفكرون بهذه الطريقة) .. وعلى أسس منهجية لا غبار عليها – في ظنهم – وهذه الأسس هي (ضوابط التفسير العلمي).
ولو صدق تحليلي هذا، وهو ما يمكن أن يصل إليه كل قارئ لما سطره أخي المحاور، فيستضح أن
الغرض من وضع ضوابط للتفسير العلمي – على النحو الجاري الدعوة إليه - ليس خالصاً، بل له غرض نزاعي بين التطبيقيين والشرعيين، حتى وإن كان بوازع حفظ معاني القرآن مع سلامة النية(وهما لا يكفيان إن تجردا من الدراسات المُعمّقة). ... وقد أوجزته العبارة المقتبسة أعلاه:
ويحضرني من كلام الشيخ بن باز رحمه في هذه المسألة – وإن كان لا يحضرني موضعه الآن - فهماً عميقاً عادلاً مُنصفا، معناه [ أن من ثبت عنده أن الحق في كذا فله أن يُصدِّق به، ومن لم يثبت عنده فلا حرج عليه في عدم التعويل عليه (ودون مناهضة للآخر).] ويتبع هذا المعنى القيم أن
(الحقيقة العلمية) نسبية عند المُنظِّرين، وترجع نسبيتها إلى التخصص والدراسة فقط؛ أي إلى الإحاطة العلمية. ومن يزعم أن الحقيقة العلمية يجب أن تكون مطلقة – مع تجاهل أو إهمال دواعي النظر في تحقيقها – فقد أنكر الغالبية العظمى من حقائق علمية يعلمها المتخصصون، وينكص عنها غيرهم. ... وهذه طامة كبرى، تنحو بطلاب العلم إلى إنكار حق – بحسب ما ينادي به أصحابه - والترويج لنكارته، والتأصيل لذلك في إطار العلم، وفقط لأن صاحب دعوى الإنكار لم يتأهل للإحاطة به! ... ولو بحثنا عن اسم لذلك، فسنجده: (كفران بحق غير مقطوع ببطلانه)، ولا أراه إلا أنه يدخل في معنى قول الله تعالى " بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ .."(يونس: 39) - دون المحكي عنهم في الآية.
ولن يختلف معي عاقل في أن من ينكص عن دراسة ضرورية لتمييز حق من باطل، فعليه أن يتوقف عن الإقرار والنفي جميعاً، وأن يقول: لا أعلم، لا أن يسعى إلى إنكاره، والخوض في نوايا المخالفين، بل والزيادة على ذلك بمحاولة تعميم الإنكار عليه، متعمداً أن يصرف الناس عنه. فإن قال لا أعلم وصمت، فقد أفتى فتوى تامة عادلة. وإن سعى لصرف الناس عما لا يعلم حقه من باطله، فلا ريب في فجاجة خطئه.
8- وأخيراً: للإجابة عن السؤال المطروح من أخي المحاور:
ماذا قدمنا من ضوابط حتي نقابل حقيقة كروية الأرض بما لدينا من آيات دالة علي ذلك؟
أقول:
صياغة السؤال غير صحيحة، وصحتها هي:
[ماذا قدمنا من
دراسات حتي نقابل حقيقة كروية الأرض بما لدينا من آيات دالة علي ذلك
؟]
ويتجلى جلاءاً تاما الخطأ في استبدال (الضوابط) بـ (الدراسات) حيث يصبح العلم – في حصر التعامل معه بالضوابط - من قبيل الوجبات السريعة، أو مُخرجات ماكينات الصرف. وكل ما على الباحث (المنكر لما لا يعلم) أن يفعله هو أن يُخضِع كل مسألة ينكرها إلى ضابط محصور في أفقه المعرفي الحاصر للحقيقة العلمية كما يراها هو، وأن ما وراء أفقه ليس بحقيقة علمية، ومن ثم يجب لفظه .. وبماذا؟ .. (بضوابط! العلم) .. وهكذا يصبح لإنكار العلم – الجائز التحقق منها بالدراسات - مُسوّغ شرعي، وبلا سعي للتحقق منه، بل ينحصر السعي في نشر النكارة عليه بين الناس، وتحت أي مظلة؟! .. مظلة الضوابط العلمية. أي: ينقلب السعي إلى صد عن تدبر معاني كلام الله تعالى! .. وهو أمر لا أستطيع إلا أن أجابهه، وبكل ما أوتيت من قوة حجاجية.
9- والآن، يحق لي أن أسأل أيضاً وبما يكشف عن خلل خفي في فهم (الحقيقة القرآنية) المجزوم بها عند من يظن ذلك (وفي نفس موضوع السؤال عن كروية الأرض)، والسؤال هو:
ما هي (الحقيقة القرآنية) في قول الله تعالى " يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ "(الزمر: 5)؟
مع إنتظار الإجابة!
وأتوقع بالطبع – ومعي القراء الكرام جميعاً - أن تكون الحقيقة القرآنية هنا - لمن يستطيع الإجابة - مجزوم بها في إطار التفسير التقليدي، وقبل مقابلتها مع أي تفسير علمي حقيقي (مقبول) أو تنظير (غير مقبول). ولو لم يكن الأمر كذلك، فلا بد أن يكون هناك خلل منهجي في ضبط التفسير العلمي بضابط [
مقابلة الحقيقة العلمية مع الحقيقة القرآنية](والتي يلزم عن ظاهر اللفظ فيها أن الحقيقة القرآنية دائمة الحضور، وباستقلال تام) ..... وأن في الأمر تفصيل يجب الكشف عنه بمزيد من الدراسات.
هذا والله تعالى أعلم،
مع وافر احترامي وتقديري لمحاوريَّ الكرام، ودعائي لهم وللقراء ولنفسي بحسن الفهم والعمل.