المثل الذى سقته (سافرتُ وكنتُ مقيما) لا ينطبق لأنها أحوال نفس الشخص أو يجب أن تقول " سافرت وقد كنت مقيما " أو هو مثل فيه ركاكة لأن من سافر لا بد أنه كان مقيما قبل السافر فلا داعى للقول وكنت مقيما
أما إن أردت التمثيل فتقول - أقمت عندك وكان الحارس بالبيت - كان الحارس يحرس البيت مدة اقامتى عندك
- سافرت بالقطار وكان القمر بدرا - فهل تقول أنه كان بدرا قبل خروجى للسفر ولم يك كذلك أثناء السفر ؛ أقمت عندك وكان الجو باردا .. إلخ
الآية تتكلم عن السموات والأرض خلقتا فى ستة أيام والجملة الثانية تتكلم عن العرش وأين كان وقت خلق السموات والأرض
أما كون خبر كان يقع فى الماضى لا يمنع كونه مستمر فى الحاضر مع الحدث المستمر أو للحال الدائمة " وكان بالمؤمنين رحيما " ... " بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ.." فهم لازالوا شهداء وقت الخطاب ، "كان ذلك فى الكتاب مسطورا " فهو لايزال مسطورا
أخي الكريم مصطفى سعيد
أنا أستبشر بنقاشك الهادئ
المثال (سافرتُ وكنتُ مقيما) مصنوع صنعتُه بنفسي ! ودَعْ عنك أنه كلام يحتوي على نوع من التكرار المعنوي ، فإنما سقتُ هذا المثال من أجل توضيح هذا الأسلوب ، الذي أظن أن منه قوله تعالى ( وكان عرشه على الماء ) ، فهذا النظم ـ كما أفهمه ـ ينطلق من أن العرش هو الآن فوق السموات ، والآية تتحدث عن خلق السموات والأرض ، وتستأنف القول (وكان عرشه على الماء) أي : في بداية الخلق لم تكن سموات وأرض بل كان الماء هو أعلى مخلوق ولذا كان العرش على الماء .
وأما أسلوب (سافرتُ وقد كنتُ مقيما) فهو الأسلوب نفسُه ، ولكن فيه توكيدا . وإلا فإن أسلوب ( سافرتُ وكنتُ مقيما ) أسلوب قويم إلا أننا اعتدنا أسلوب (.. وقد ..) ولذا نشعر ببعض الركاكة في أسلوب ( سافرتُ وكنتُ مقيما ) ، وذلك لأننا ننتظر شيئا جديدا بعد (كنتُ) والحال أن جملة (كنتُ مقيما) توضيح وتأكيد للجملة السابقة لأنها تعني أن الإقامة مضت . ولا ركاكة ، لأن الجملة الثانية ( وكنتُ مقيما ) توضيح ضروري لبعض الحالات ، كأن يكون المتكلم مسافرا حين التكلم ، فإذا قال (سافرتُ) وجب عليه أن يوضح أنه كان مقيما قبل ذلك ولم يكن مسافرا كما هو الآن . وورد هذا الأسلوب في نصوص كثيرة ، منها الحديث الآتي:
(عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَجَلَسَتْ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأُمُّ هَانِئٍ عَنْ يَمِينِهِ قَالَتْ فَجَاءَتِ الْوَلِيدَةُ بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ فَنَاوَلَتْهُ فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ أُمَّ هَانِئٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أَفْطَرْتُ وَكُنْتُ صَائِمَةً. فَقَالَ لَهَا « أَكُنْتِ تَقْضِينَ شَيْئًا ». قَالَتْ لاَ. قَالَ « فَلاَ يَضُرُّكِ إِنْ كَانَ تَطَوُّعًا »).
لاحظ جملتـَي (أفطرتُ وكنتُ صائمة) ، فهما على الأسلوب نفسه وتشبه جملتـَي (سافرتُ وكنتُ مقيما ) تماما . فقالت (وكنتُ صائمة) لأنها كانت يُظَنُّ أنها مفطرة .
وأما أن جملتـَي ( سافرتُ وكنتُ مقيما ) تتحدثان مرتين عن أحوال الشخص نفسه ، فهذا ليس إشكالا ، فإنه كذلك في قوله تعالى (.. خلق السموات والأرض .. وكان عرشه على الماء ) وردت النسبة إلى نفس الذات مرتين ، فالنسبة الأولى أنه خلق السموات والأرض ، والنسبة الثانية أنه كان عرشه على الماء . فإنه لم يقل ( وكان العرش على الماء ) بل قال (عرشُه) .
وأما المثالان (أقمت عندك وكان الحارس بالبيت ) و (سافرت بالقطار وكان القمر بدرا ) ، فالواو فيهما ليست عاطفة أو استئنافية ، بل الواو هنا حالية ، بمعنى : والحال أن الحارس كان بالبيت ، والحال أن القمر كان بدرا . فهما ليسا من قبيل مثالنا السابق . والأنسب أن تقول (أقمت عندك والحارس بالبيت ) و ( سافرت بالقطار والقمر بدر ) .
ثم تقول بأن الواو في قوله تعالى ( وكان عرشه على الماء ) حالية ، وهذا ما لم يقل به أحد ، وإذا كانت الواو حالية فالأنسب أن يقول (.. وعرشُه على الماء). بل اتفقت كتب التفسير وإعراب القرآن على أن الواو عاطفة عطفت جملة على جملة سابقة . ومنهم من قال إن الواو اعتراضية لأن جملة ( كان عرشه على الماء ) اعتراضية بين الفعل (خلق) ومتعلَّقه (ليبلوكم..) . ومنهم من وضع الاحتمالين (أن تكون عاطفة أو اعتراضية) .
وأما عن "كون خبر كان يقع فى الماضي لا يمنع كونه مستمرا فى الحاضر" ، فهذا أسلوب آخر وارد في نصوص كثيرة ، مثل قوله تعالى ( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) وقوله ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا )... وكذلك قوله ( وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ) وقوله ( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ).. والسياق والقرينة هما ما يدلّ على جريان الكلام على هذا الأسلوب ، فنحن نعلم أن الله عليم حكيم لم يزل ولا يزال ، وأن أمر الله مفعول دائما ، وأن الإنسان عجول دائما ، وأن المبذرين إخوان الشياطين أبدا وأن الشيطان كفور لربه أبدا . وأما في قوله تعالى (وكان عرشه على الماء) فالأمر ليس كذلك ، فنحن نعلم من النصوص (القرائن) الأخرى أن العرش الآن فوق السماء السابعة ..
" ثم " بعد الكتابة فى الذكر ... لكن لا دلالة على أن الكتابة تمت حال كون العرش على الماء
أولا ؛ يجب أن نعلم أن ما ورد في أكثر الروايات هو كما يلي : (وكان عرشه على الماء. ثم خلق السموات والأرض ، وكتب في الذكر كل شيء) . فجاءت جملة (كتب في الذكر كل شيء) بعد جملة (خلق السموات والأرض) . وهذا يُفيد أنه بعد أن كان العرش على الماء فقط تم خلق (السموات والأرض) ، وكُتِب في الذكر كلّ ما قدّر ، وبعض الروايات تعبر عن هذا بـ (خلق القلم) .
ويبدو أنك تعتمد على الروايات الأخرى التي جاءت بصورة (وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، ثم خلق السموات والأرض ) وهذه صياغة واردة في بعض طرق الحديث لكنها صياغة نادرة وشاذة . وهنا نجد أن جملة (كتب في الذكر كل شيء) معطوفة على جملة (كان عرشه على الماء) ، فالواو في قوله (وكتب في الذكر كل شيء) ليست حالية ، بل هي عاطفة ، والعطف يقتضي الجمع .. ولذا ترى أنه وقع نقاش بين العلماء حول أسبقية العرش والماء أو القلم ، والآثار والروايات الواردة تختلف في هذه النقطة. ولكن هذا لا يهمنا هنا ، فقوله (ثم خلق السموات والأرض) معطوف بأداة العطف (ثم) التي تفيد الترتيب ، وسواء كان (الماء والعرش عليه) هما الأول وجودا أو كان (القلم) و (كتابة كل شيء في الذكر) هما الأول حدوثا ؛ المهم أن (خلق السموات والأرض) كان بعد ذلك كله .
هذا يستتبع سؤالا هاما .. وأين ذهب الماء ؟ هل كان المادة الخام التى خلقت منها السموات والأرض ؟ إذن ظل العرش فوقه أو فوق آخر شيء منه حتى نهاية اليوم السادس ..حيث تكاثف كله إلى الكون ومادته
هذا ما أؤجل الحديث عنه إلى كتابة تفسيري المطروح للآية ولمجموعة الآيات المرتبطة .