له فوائد جمة: ولعل أهمها تقسيم القرآن على أقسام متساوية لتحديد ما يحفظ وما يراجع وما يقرأ يوميا وأسبوعيا وشهريا، ومنها التسوية بين الطلاب في مقدار ما يقرؤونه على مشايخهم .
وأما أول من وضعه فراجع مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ج13 ففيه ما يشفي ، ومن المراجع المفيدة في ذلك جمال القراء لعلم الدين علي السخاوي.
وترجع بدايات وضعه إلى عصر الصحابة ،وأشهر من عرف بتقسيمه الحجاج بن يوسف، وهذه من حسناته رحمه الله.
وأما عن علاقته بالمعاني والتفسير فيظهر أنه لا علاقة له بذلك، حيث إن ذلك التقسيم مبني على عدد الحروف بقطع النظر عن معاني المقاطع القرآنية.
وفي ذلك تفصيلات لا يتسع المقام لذكرها.
والله أعلم.
أقول بل ظاهره أنه كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فعند الإمام أحمد في مسنده:
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عثمان بن عبد الله بن أوس الثقفي عن جده أوس بن حذيفة قال
كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلموا من ثقيف من بني مالك أنزلنا في قبة له فكان يختلف إلينا بين بيوته وبين المسجد فإذا صلى العشاء الآخرة انصرف إلينا فلا يبرح يحدثنا ويشتكي قريشا ويشتكي أهل مكة ثم يقول لا سواء كنا بمكة مستذلين أو مستضعفين فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب علينا ولنا فمكث عنا ليلة لم يأتنا حتى طال ذلك علينا بعد العشاء قال قلنا ما أمكثك عنا يا رسول الله قال طرأ علي حزب من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبحنا قال قلنا كيف تحزبون القرآن قالوا نحزبه ست سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة سورة وثلاث عشرة سورة وحزب المفصل من ق حتى تختم
وفي موضح أوهام الجمع والتفريق للخطيب البغدادي ج1/ص327
فأبطأ علينا ذات ليلة فلم يأتنا ثم أتانا فسألناه فقال إنه طرأ علي حزب من القرآن فكرهت أن أخرج حتى أقضيه
فلم نسأله كيف يحزب القرآن فلما أصبحنا سألنا أصحابه كيف يحزب القرآن قالوا ثلاث وخمس وسبع وتسع وأحد عشر وثلاثة عشر وحزب المفصل من قاف
قلت ورواه ابن ماجه وأبو داود والطيالسي والبخاري في التاريخ وابن سعد في الطبقات وابن شبة في التاريخ وغيرهم كلهم من طريق عثمان وعند الطبراني في الكبير لكن قال عن أبيه
قال السندي:
قوله ( كيف تحزبون )
من التحزب وهو تجزئته واتخاذ كل جزء حزبا له
( ثلاث )
أي الحزب ثلاث سور من البقرة وتالييها
والحزب الآخر خمس سور إلى براءة
والثالث سبع سور إلى النحل
والرابع تسع سور إلى الفرقان
والخامس إحدى عشرة من الشعراء إلى يس
والسادس ثلاث عشرة إلى الحجرات
وحزب المفصل من ق إلى آخر القرآن
قال الهيثمي:
رواه الطبراني في الكبير وقال: "هكذا رواه الوليد بن مسلم وخالفه وكيع وقال ابن تمام وغيرهما رووه عن عبد الله بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله بن أوس عن جده أوس بن حذيفة"
قال الهيثمي في المجمع 2/268 : وعثمان بن عمرو لم أجد من ترجمه.
هكذا قال والحديث في معجم الطبراني الكبير ج 1 ص 220 وج 17 ص 41
وعثمان صوابه أنه ابن عبد الله بن أوس
نبه على ذلك الحافظ في تهذيب التهذيب ج8/ص6
وهو من رجال التهذيب وذكره ابن حبان في الثقات ج7/ص198
وترجمه المزي
وقال الحافظ مقبول
واعترض بأن ابن حبان وثقه وروى له جمع فلذا قال الذهبي محله الصدق.
قال أبو الفضل العراقي في :
المغني عن حمل الأسفار ج1:ص225
إسناده حسن
الحِزْب ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة أو صلاة كالوِرْد ، ومنه حديث أوس بن حذيفة : سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف تُحَزِّبُون القرآن([1]) .
فمعنى تحزيب القرآن أن يجعل المسلم لنفسه نصيباً يومياً يقرؤه ويتعاهد نفسه عليه بحيث يختم القرآن في كل شهر ، أو عشرين أو خمسة عشر ، أو عشر ، أو سبع ، أو غير ذلك([2]) .
وتحزيب القرآن يعتبر في هذا الزمان من السنن المهجورة ، بل المجهولة عند كثير من طلبة العلم فضلاً عن عامة الناس ، في حين كان الأمر متواتراً ، ومعلوماً عند السلف ، فقلما تقرأ في ترجمة أحدهم إلاَّ وتجد أنه كان يختم القرآن في كذا وكذا([3]) .
وقد ذكر ابن عبد البر في النقل السابق عنه بعض الأحاديث والآثار المتعلقة بتحزيب القرآن ، وبيّن أنها تدل على أن التمهل في القراءة والتدبر فيها أولى وأفضل من الهذّ والإسراع في القراءة بدون تدبر وتفهم .
وفيما يأتي أذكر مسائل مهمة تحتاج إلى إيضاح وبيان ولها تعلق بتحزيب القرآن :
المسألة الأولى : في كم يقرأ القرآن ؟ :
في كتاب فضائل القرآن من صحيح البخاري باب : في كم يقرأ القرآن ، وقول الله تعالى : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } [ المزمل : 20 ] ، ذكر البخاري - رحمه الله - حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { اقرإ القرآن في شهر } قلتُ : إني أجد قوة ، حتى قال : { فاقراه في سبع ، ولاتزد على ذلك }([4]) .
وفي رواية في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم : { فاقرأه في كل سبع ولاتزد على ذلك ، فإن لزوجك عليك حقاً ، ولزَوْرِكَ عليك حقاً ، ولجسدك عليك حقاً }([5]) .
فهذا الحديث ظاهره يقتضي المنع من قراءة القرآن في أقل من سبع ، كما ذكر ذلك ابن كثير في فضائل القرآن([6]) .
وجاء في أحاديث أخرى ما يدل على إقرار من قرأ في ثلاث ، ومنها ما ذكره ابن كثير في فضائل القرآن ، وعزاه للإمام أحمد في المسند عن سعد بن المنذر الأنصاري أنه قال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أقرأُ القرآنَ في ثلاث ؟ قال : { نعم } قال : فكان يقرؤه حتى توفي([7]) .
ومنها حديث عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لاتفقه في قراءة في أقل من ثلاث }([8]) .
قال ابن كثير : ( وقد ترخّص جماعات من السلف في تلاوة القرآن في أقلّ من ذلك ، منهم أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه )([9]) .
وذكر آثاراً تدل على أنه كان يقرأ القرآن كله في ركعة من الليل .
وكذلك تميم الداري - رضي الله عنه - وسعيد بن جبير - رحمه الله - ثبت عنهما بأسانيد صحيحة أنهم كانوا يختمون القرآن في ركعة([10]) .
وقد ذكر النووي في التبيان أحوال السلف في ختم القرآن ، وعاداتهم في قدر ما يختمون فيه ، ثُمَّ قال : ( والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص ، فمن كان يظهرُ له بدقيق الفكر لطائفُ ومعارف فليقتصر على قدرٍ يحصل له به كمالُ فهم ما يقرؤه ، وكذا من كان مشغولاً بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة ، فليقتصر على قدرٍ لايحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرمة([11]) )([12]) ا هـ .
وقال في شرح صحيح مسلم : ( والمختار أنه يستكثر منه ما يُمكنه الدوام عليه ولايعتاد إلاَّ ما يغلب على ظنه الدوام عليه في حال نشاطه وغيره ، هذا إذا لم تكن له وظائف عامة أو خاصة يتعطل بإكثار القرآن عنها ، فإن كانت له وظيفة عامة كولاية وتعليم ونحو ذلك فليوظف لنفسه قراءة يُمكنه المحافظة عليها مع نشاطه وغيره من غير إخلال بشيء من كمال تلك الوظيفة ، وعلى هذا يحمل ما جاء عن السلف ، والله أعلم )([13]) ا هـ .
قال ابن كثير - رحمه الله - : ( وقد كره غيرُ واحد من السلف قراءة القرآن في أقل من ثلاث ، كما هو مذهب أبي عبيد وإسحاق بن راهويه ، وغيرهما من الخلف .
... عن معاذ بن جبل أنه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث([14]) .
وقال عبد الله بن مسعود : مَن قرأ القرآن في أقل من ثلاث فهو راجز([15]) .
وفي المسند عن عبدالرحمن بن شيل مرفوعاً : { اقرؤوا القرآن ، ولاتغلوا فيه ، ولاتجفوا عنه ، ولاتأكلوا به ، ولاتستكثروا به }([16]) .
فقوله : { لاتغلوا فيه } أي : لاتبالغوا في تلاوته بسرعة في أقصر مدة ، فإن ذلك ينافي التدبر غالباً ، ولهذا قابله بقوله : { ولاتجفوا عنه } أي : لاتتركوا تلاوته )([17]) ا هـ .
وبهذا نعلم أن ما جاء في الآثار عن كثير من السلف أنهم كانوا يختمون في أقل من ثلاث ليس مشروعاً ولا مستحباً ، بل هو خلاف المشروع ، ويُمكن أن يجاب عن فعلهم هذا بأجوبة :
منها : أنه لم يبلغهم النهي عن ذلك .
ومنها : أنهم كانوا يفهمون ويتفكرون فيما يقرؤونه مع هذه السرعة([18]) .
ومنها : أنهم لم يحملوا النهي على المنع .
ومنها : أنهم خصصوا النهي بمن ورد في حقه ، وقالوا : إن مقدار القراءة يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ، والله أعلم([19]) .
وعلى كُلٍّ ؛ فالذي لاينبغي الشك والامتراء فيه أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأنه هو القدوة والأسوة الحسنة لنا ، كما قال سبحانه : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [ الأحزاب : 21 ] .
فنحن متعبدون باتباع سنته وهديه ، وقد قالت عائشة رضي الله عنها فيما رواه مسلم : ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ، ولا صلى ليلة إلى الصبح ، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان([20]) .
المسألة الثانية : هل يكون التحزيب بالسور أو بالأجزاء ؟ :
جاء في حديث أوس بن حذيفة الثقفي - رضي الله عنه - قال : سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يُحزِّبُون القرآن ؟ قالوا : ثلاث ، وخمس ، وسبع ، وتسع ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصل وحده([21]) .
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - هذا الحديث واستدل به على أن الصحابة كانوا يحزبون القرآن سوراً تامة ، ولايحزبون السورة الواحدة .
وذكر - رحمه الله - أن التحزيب بالسور أفضل وأحسن لوجوه :
أحدها : أن هذه التحزيبات المحدثة تتضمن في كثير من المواضع الوقوف على بعض الكلام المتصل بما بعده ، حتى إن بعض المواضع يكون الوقف على المعطوف دون المعطوف عليه ، فيبدأ القارئ في اليوم الثاني بمعطوف كقوله تعالى في أول الجزء الخامس : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ } [ النساء : 24 ] .
وبعضها يتضمن الوقوف على بعض القصة دون بعض حتى إن بعض المواضع يكون الوقف فيها على كلام أحد المتخاطبين ، ويكون الابتداء في اليوم التالي بكلام المجيب ، كما في قوله تعالى في سورة الكهف في أول الجزء السادس عشر : { قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا } [ الكهف : 75 ] .
ومثل هذه الوقوف لايسوغ في المجلس الواحد إذا طال الفصل بينهما بأجنبي .
الثاني : أن المنقول عن الصحابة هو التحزيب بالسور لا بالأجزاء ، كما في حديث حذيفة السابق .
الثالث : أن الأجزاء والأحزاب محدثة لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنَّما أحدثت بعد ذلك كما هو معلوم([22]) .
إلى غير ذلك من الوجوه التي ذكرها - رحمه الله - .
وبهذا نعلم أن التحزيب بالسور هو المشروع وهو الأفضل والأكمل ، سواء كان ذلك في القراءة أثناء الصلاة أو خارجها ، والله أعلم .
([1]) انظر : النهاية لابن الأثير 1/376 ، وسيأتي ذكر الحديث بتمامه - إن شاء الله - قريباً .
([2]) انظر : تحزيب القرآن وهدي السلف في ذلك لمحمد الدويش مقال في مجلة البيان ، العدد 41 ص 62 .
([3]) انظر : المرجع السابق ص 61 ، 62 .
([4]) صحيح البخاري رقم [5054] ص 1002 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
([5]) صحيح مسلم ، كتاب الصيام رقم [1159] ص 448 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
([6]) فضائل القرآن لابن كثير ص 249 .
([7]) هذا الحديث ساقط من المسند المطبوع مع أن ابن كثير ، والهيثمي في المجمع 2/268 ، عزوه إليه ، وأخرجه أيضاً أبو عبيد ص 88 في فضائل القرآن .
والحديث قال ابن كثير عن إسناده : وهذا إسناد جيّد قوي حسن . انظر : فضائل القرآن لابن كثير ص 252 .
([8]) سبق تخريجه قريباً بلفظ : { لايفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث } .
([9]) فضائل القرآن لابن كثير ص 256 .
([10]) المرجع السابق ص 257 ، 258 .
([11]) الهذرمة : - بالذال - السرعة في القراءة والكلام ، يقال : هذرم وِرْدَه أي هذّه . مختار الصحاح مادة ( هـ ذ ر م ) ص 611 .
([12]) التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص 62 . وانظر : كتاب الأذكار له أيضاً ص 138 ، 139 .
([13]) شرح صحيح مسلم للنووي 8/293 .
([14]) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 89 ، وذكر ابن كثير أنه أثر صحيح .
([15]) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 89 ، وذكر محقق فضائل القرآن لابن كثير بأن إسناده ضعيف . ص 308 .
([16]) أخرجه الإمام أحمد 3/444 وقال أبو إسحاق الحويني ، محقق فضائل القرآن لابن كثير : وسنده صحيح ص 256 .
([17]) فضائل القرآن لابن كثير باختصار وتصرف يسير ص 254 - 256 .
([18]) انظر : المرجع السابق ص 260 .
([19]) انظر : هدي السلف في تحزيب القرآن : لمحمد الدويش في مجلة البيان ، العدد 42 ص 51 .
([20]) جزء من حديث طويل أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب : جامع صلاة الليل رقم [746] ص 293 ، 294 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
([21]) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب : تحزيب القرآن رقم [1393] 2/114 - 116 ، وأحمد في المسند 4/9 ، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة ، باب : في كم يستحب ختم القرآن رقم [1345] . وانظر : ضعيف سنن ابن ماجه رقم [283] ، وقد احتج بهذا الحديث كل من شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 13/408 ، 409 ، وابن كثير في تفسيره 4/221 . وذكره ابن مفلح في الآداب الشرعية 2/280 ، وقال : وإسناده جيد .
([22]) انظر : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - 13/410 - 412 .