بقي أن ننبه على أمرٍ مهم يغفل عنه كثيرٌ من الناس والأطباء ، وهو أن مستند الحس والمشاهدة والتجربة في علوم الطب ينطبق على قلةٍ قليلة من الأطباء والباحثين ، وهي القلة التي تقوم بهذه التجارب والأبحاث فعلاً وتباشرها بنفسها ، أما السواد الأعظم من الأطباء وأهل الفن فإنما يتلقون نتائج هذه المشاهدات والتجارب عن طريق النقل ، كما هو معهود من طريق المجلات والدوريات العلمية والمؤتمرات والندوات والمحاضرات ، وغيرها من الوسائل التي هي في حقيقتها وسائط نقل أخبار ، لا وسائط تجربة وحس ومشاهدة ؛ وإذا كان الأمر كذلك فإن التحقق من صحة هذه الأدلة العقلية في أصلها لا يتحقق إلا بأمر من اثنين أو باجتماعهما ؛
أحدهما هو التثبت من نفس الدليل العقلي عبر تكرار التجربة والاستشكاف والتوثق من نتائجها ؛
والثاني هو التحقق من صدق الناقل عبر تحرير صفات الأمانة والعدل التي تمنع الناقل من الكذب فيما يخبر عنه ، فإذا اجتمعت الوسيلتان كان أثبت وأضبط بلا ريب ؛ ولهذا وجب عليك أيها الطبيب أن تكون فطِنًا ، فلا يُغرر بك مقال في مجلة طبية مرموقة ، ولا نتائج بحث تصدره منظمة دولية ، ولا قرارات اجتماع طبي أساسها الرأي المحض ؛ بل اعلم أن كل ما يأتيك خبره من علوم طبية حديثة متجددة فهو خاضع للبحث والتثبت بإحدى الوسائل السابقة ، والحق أن هذا الأمر - أعني التثبت من الأخبار الطبية - يستلزم منا وضع منهج متكامل نعرض عليه ما يردنا من أخبار في هذا المجال لنحكم عليه بالصحة أو القبول المبدئي أو الرفض .
فعلى الطبيب المسلم أن يحرص على تحقيق الموازنة في تحصيل ما يحتاجه من العلوم الشرعية والعلوم الكونية في سياق مهنته الطبية ، فلا يؤدي الانشغال بعلوم الشريعة الخاصة إلى العزوف عن العلوم التجريبية الضرورية لصيانة صحة المريض ، كما لا يؤدي الإغراق في ما لا طائل منه والانكباب الكلي على العلوم الطبية التجريبية إلى الزهد في رصيد الهدي الشرعي العظيم في باب الطب ، بل يعطي كل علمٍ حقه ويضعه موضعه دون إفراط ولا تفريط ، ودون الخلط بين ما يصلح في مقام مع ما يصلح في مقامٍ آخر ، وليعلم أنه مؤاخذٌ شرعًا عندما يؤدي تفريطه في ضبط علوم المهنة الخاصة إلى إلحاق الضرر بالمريض أو ربما تفويت المصلحة الأكمل له ، فمنزلة الطبيب المسلم من صحة مريضه كمنزلة الوصي في مال اليتيم ؛ فلا يكفيه حسن النية في حفظه ، بل لا بد من أن يجتهد في تحصيل أسباب حماية المال وتنميته وحفظه من الضياع .
ولكن تبقى لمسألة العلاقة بين النقل والعقل أهميةٌ خاصة لمن عزم على هذه الانطلاقة - أعني الاستكشاف العقلي التجريبي - ألا وهي دور النقل في وضع ضوابط وحدود البحث والتطبيق العقليين ؛ فلا يجاوز حدود الحلال إلى الحرام ، ولا يأتي بمنهجٍ أو طريقٍ علاجي يعارض أوامر الشرع أو يقارف مناهيه ؛ تأمل معي ما ورد في صحيح مسلم أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ ، أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا ؛ فَقَالَ : إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ ؛ فَقَالَ : "
إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ "[SUP]
[1] [/SUP]، وذكر البخاري في صحيحه بتعليقٍ جازم أن ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ فِي السَّكَرِ : إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ [SUP]
[2] [/SUP]؛ وروى ابن أبي شيبة والطبراني عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ : اشْتَكَى رَجُلٌ مِنَّا فَنُعِتَ لَهُ السُّكْرُ ، فَأَتَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ ( يعني ابن مسعود ) فَسَأَلْنَاهُ ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ عز وجل لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ[SUP]
[3] [/SUP]؛ وَلِجَوَابِ اِبْن مَسْعُود شَاهِد آخَر أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان مِنْ حَدِيث أُمّ سَلَمَة قَالَتْ : اِشْتَكَتْ بِنْتٌ لِي فَنَبَذْتُ لَهَا فِي كُوزٍ ، فَدَخَلَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَغْلِي ، فَقَالَ : "
مَا هَذَا ؟ " فَأَخْبَرْته ، فَقَالَ : "
إِنَّ اللَّه لَمْ يَجْعَل شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ "[SUP]
[4] [/SUP].
والشاهد من هذه النصوص أن على الطبيب المسلم أن يلتزم في منهج البحث العلمي التجريبي أمرين؛
أحدهما الانطلاق من قواعد الشرع الثابتة فلا يتقحم الحرام ابتداءً ، و
ثانيهما أن ما قد يتوهمه البعض من وجود الشفاء في المحرمات ليس إلا وهمًا باطلاًَ ، لما تقدم من أن الله تعالى لم يجعل الاستشفاء المباح في ما منعته الشريعة من الحرام ؛ وإلا كان هذا تناقضًا من جهة الشارع ، وهو ممنوع قطعًا ؛ والنكتة في المسألة أن تعلم أن ما قد يُتصور من نفع طبي في مادةٍ محرمة قد تكون موجودة في الواقع وفي نفس الأمر ، ولكنها تُعتبر مصلحة أو منفعة ملغاة بحكم الشرع ؛ فلا يُلتفت إليها ، أي : إن وجودها وعدمها سواء ، ودليل هذا قوله تعالى في الخمر والميسر : ]
فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [ [ البقرة : 219 ] ، فالنص يثبت وجود منفعة يسيرة ولكنها ملغاة
[5]؛ ومعلوم أن حكم الشرع قد استقر على تحريمهما ، فلم تلتفت الشريعة إلى هذا النفع اليسير ، وأسقطته من الاعتبار .
هذه الضوابط كما تنطبق على وسائل الاستشفاء فإنها تنطبق – أيضًا – على النظريات الطبية ، فلا يمكن قبول نظرية طبية تصادم النصوص الثابتة ، ولا يمكن جعل هذه النظريات منطلقًا لأي منهج علاجي البتة .
ولعل من المناسب في هذا المقام أن نشير إلى بعض النماذج التطبيقية للخلل الناجم عن عدم الانضباط بضوابط الشرع في مجال الوقاية والعلاج والنظرية والبحث الطبي ؛ فأما
أنموذج الوقاية فمنه ما تروجه بعض الدوريات الطبية من نتائج أبحاث تشير إلى دورٍ وقائي للخمر من بعض الأمراض ؛ وأما
أنموذج العلاج فمنه إيهام الأطباء والناس عمومًا أن علاج مصيبة الأمراض المنتشرة جنسيًا يكون بتحسين وسائل الاتصال الجنسي المحرم ، ومعالجة آثاره بالعقاقير دون الالتفات إلى العلاج الجذري لهذه المصائب ؛ وأما في
مجال النظرية العلمية فحسبك فضائح الفرويدية ، وفضائح المؤصلين للشذوذ الجنسي باعتباره ( سلوكًا بشريًّا طبيعيًّا ) – خابوا وخسروا ؛ وأما في
مجال البحث الطبي فها نحن نسمع ونرى كل يوم ما تتفتق به عقول ومختبرات القوم ممن لا ينضبطون بحدٍ شرعي ، ولا يقفون عند حدٍ في أبحاثهم ، فمِن استنساخ جنينٍ بشري ، إلى التلاعب بمورثات الأجنة ، إلى استئجار الأرحام وهكذا .
ولا يخالنَّ أحد أن مقصودنا الحجر على البحث العلمي .. كلا ، بل المقصود الانطلاق من قواعد علمية سليمة - بما في ذلك القواعد العلمية الشرعية - والانضباط بحدود المباح والمشروع ، حتى لا نواجَه بنوازلَ فقهية وانحرافاتٍ تطبيقية ، ثم نتهافت على دور الفتوى بحثًا عن مخارج فقهية لنوازل غريبة عن عقيدتنا ومنهجنا وشريعتنا [SUP]
[6][/SUP] .ا.هـ .
[1] - مسلم ( 1984 ) ، ورواه أبو داود ( 3873 ) ، والترمذي ( 2046 ) ؛ وقال النووي في ( شرح مسلم ) : هَذَا دَلِيل لِتَحْرِيمِ اِتِّخَاذ الْخَمْر وَتَخْلِيلهَا ، وَفِيهِ التَّصْرِيح بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ فَيَحْرُم التَّدَاوِي بِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ ، فَكَأَنَّهُ يَتَنَاوَلهَا بِلَا سَبَب ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا أَنَّهُ يَحْرُم التَّدَاوِي بِهَا ، وَكَذَا يَحْرُم شُرْبهَا لِلْعَطَشِ ، وَأَمَّا إِذَا غَصَّ بِلُقْمَةٍ وَلَمْ يَجِد مَا يُسِيغهَا بِهِ إِلَّا خَمْرًا فَيَلْزَمهُ الْإِسَاغَة بِهَا ؛ لِأَنَّ حُصُول الشِّفَاء بِهَا حِينَئِذٍ مَقْطُوع بِهِ بِخِلَافِ التَّدَاوِي . وَاللَّهُ أَعْلَم .
[2] - صحيح البخاري – كتاب الأشربة ( باب شراب الحلواء والعسل ) .
[3] - رواه ابن أبي شيبة ( 23492 ) ، والطبراني في الكبير : 10 / 345 ( 9714 : 9716 ) ، والحاكم ( 7509 ) وصححه .
[4] - أبو يعلى ( 69666 ) ، وابن حبان ( 1391 ) ، ورواه الطبراني في الكبير : 23 / 326 ( 749 ) .
[5] - هذه المنفعة تتعلق بما كان يعود من ربح على من يتاجر فيها ؛ فأهدرت هذه المنفعة في مقابل المفاسد العظيمة المترتبة على تعاطي الخمر والمتاجرة فيها .
[6] - انظر ( حلية الطبيب المسلم ) بشيء من الاختصار والتصرف والتقديم والتأخير مع بعض الإضافات اقتضاها مقام البيان ؛ وقد أحسن د. وسيم في هذا الفصل ( حلية العلم ) فليرجع إليه ، فإنه مهم .