زاد الطبيب المسلم

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
68
الإقامة
الدوحة - قطر


هذه رسالة كتبتها منذ ما يقرب من ثمان سنين ، وطبعتها إدارة الدعوة بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة قطر .

بين يدي الرسالة

الطب مهنة إنسانية عرفها الإنسان منذ القديم ، وهي من المهن الضرورية في حياة الناس ، فهي ملازمة للحياة ؛ وقد عرفها الناس منذ عرفت بأنها مهنة إنسانية ، لها أخلاقيات تتفق وحالات المرضى ، بل وتواتر عبر التاريخ أن الأطباء كانوا لا يعلمون أحدًا حتى يأخذون عليه عهدًا بأن يقوم بأخلاقيات المهنة ؛ واستمر ذلك حتى بعد أن أنشئت كليات تُعنى بتدريس الطب .

وإذا كان الطبيب غير المسلم لا يكلف نفسه إلا أن يتعلم علوم الطب وقوانينه ؛ فإن المسلم الطبيب ، والمسلمة الطبيبة لابد وأن يتزودا مع ذلك بالأحكام الشرعية التي تتعلق بمهنة الطب ؛ ذلك لأنهما مسلمان قبل أن يكونا طبيبين ؛ فهما يتعبدان الله تعالى بممارسة مهنتهما ، ويرجوان من الله الأجر والفضل ؛ لأن حياة المسلم كلها عبادة لله تعالى ؛ قال الله  :  قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ  [ الأنعام : 163 ] ؛ وهناك أحكام تتعلق بالطب والمرض ، والطبيب والمريض ؛ يلزم من تعاطى هذه المهنة من المسلمين أن يكونوا على إلمام بها وتطبيق لها ، وإلا فهم محاسبون أمام الله تعالى ؛  يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ  [ الشعراء : 88 ، 89 ] .

وفي الإسلام أخلاقيات وآداب عامة ألزم الإسلام أهله بها ؛ وأولى الناس بها من لهم علاقة بأسباب حياة الناس ، ومنهم الأطباء .

ولأن الأطباء يشكلون شريحة مهمة من شرائح المجتمع ، أردت إخراج هذه الرسالة ، تذكيرا لهم وإعذارًا إلى الله تعالى .

وقد جعلتها في جزئين :

الأول : زاد الطبيب المسلم .

الثاني : الطب أخلاقيات ومعاملات .



 
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن وتقبل
مقدمة :
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فقد خلق الله تعالى الإنسان وأسكنه الأرض ، وسخر له ما في الأرض جميعًا منه ؛ وأخبره على ألسنة رسله أنه خلق الموت والحياة اختبارًا وابتلاء لخلقه ؛ قال تعالى : { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الملك : 2 ] ؛ ومن أنواع الابتلاء التي بثها الله جل جلاله في خلقه : المرض ، فهو سبحانه خالق المرض وخالق الدواء ، وقد أنزل لكل داء دواءه ، علمه من علمه وجهله من جهله ؛ فمَنْ علم الأداوء وأدويتها وقام بوصف ذلك لمن طلبه من المرضى ، فهو الطبيب الذي يلجأ إليه المرضى لعلاج ما أصابهم من مرض .
ولا يخفى على أحد مكانة مهنة الطب في المجتمع ؛ فهي تأتي في مقدمة الأعمال الإنسانية عندما تخلص النية لله عز وجل ، وتوضع مصلحة المسلمين ومداواة مرضاهم والتخفيف من آلامهم في المقام الأول ؛ ولا يخفى - أيضًا - ما آلت إليه هذه المهنة عند كثير ممن امتهنوها .
ومما يشرح الصدور ويبهج النفوس أننا نرى من الأطباء المسلمين من يَعُون رسالتهم كمسلمين ، ويفهمون رسالتهم كأطباء ، فيقومون بأداء الرسالتين على وجه يتقربون به إلى الله تعالى ، ويكون من عاجل بشراهم في الدنيا ، حسن الصيت وجمال الثناء ، ويأتيهم من الدنيا ما يحسدهم عليه كثير من أترابهم ؛ فهنيئًا لنا بهم ، ولتسعد بل ولتفخر بهم الأمة ، فهم على ثغر عظيم ، ولزامًا علينا أن نشاركهم في آمالهم وآلامهم .
إن المسلم الطبيب والمسلمة الطبيبة يدركان حاجتهما من العلم الشرعي الذي يتعلق بمهنتهما ، كما يدركان أهمية أن يكونا على اتصال دائم بأبحاث المهنة والجديد فيها ؛ إن الأول مهم لدينهما وآخرتهما ، والثاني مهم كذلك لدينهما وآخرتهما إذا أحسنا النية واحتسبا الأجر ؛ إذ أنه مهم لتفوقهما وتميزهما في الطب مما يعود على الأمة بالخير ، ويعود عليهما بالثواب والأجر .
فالمسلم والمسلمة باشتغالهما بمهنة الطب أصبح من فروض الأعيان عليهما أن يتعلما ما يجعلهما يقوما بها على أكمل وجوهها على الدوام ، ولا يكون ذلك إلا باتصالهما بجديد الأبحاث الطبية ، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ؛ ومتى كان الطبيب جاهلا أو خائنا يضع الدواء في غير موضعه .
إن الطبيب المسلم عليه أن يعي تمامًا أنه ليس طبيبًا فقط ، بل هو طبيب مسلم ؛ والأصح هو مسلم طبيب ، فما يتعلق بأحكام الطب الشرعية هو واجب عليه وجوبًا شرعيًّا ، يأثم إن لم يحصله ويعمل به ؛ فيلزمه أن يتعلم كل ما يتعلق بمهنة الطب من الناحية الشرعية ، وأن يسأل العلماء فيما يستجد له ، ليقوم بعمله على الوجه الذي يريده الله منه .
وحري بالطبيب وطالب الطب أن يسعى جادًّا لتطوير ذاته ، وبنائها بناءً متكاملاً ، لا يتعلّم الطب فقط ؛ بل أخلاقيات الطب وآداب الطبيب ، وما يحتاج إليه من علمٍ شرعي كفردٍ مسْلِم ؛ فليس الطبيب المسلم هو من لبس المعطف الأبيض وعلق السماعة في رقبته ينفصل عن كل ما ليس له علاقة بالطب في نظره ، بل عليه أن يكون بردائه الأبيض الطبيب والمربِّي والداعية والمصْلِح الآمر بالمعروف والنّاهي عن المنكر ، فالطب والدَّعوة قرينان ؛ وأقرب الناس للأخذ بأيدي المريض إلى الله تعالى هو الطبيب ، وكم من عاصٍ هداه الله تعالى على يد طبيبه المعالج ، لأنه مع إتقانه لمهنة الطب ، كان محسنًا في دعوته إلى الله تعالى الذي بيده الشفاء ، لا شافي إلا هو سبحانه .
فليتذكر كل طبيب أن الله خلقه لعبادته ، وأن ما يقوم به كطبيب هو جزء من عبادته لله تعالى ؛ وأن الحياة ليست معطفًا أبيض وسماعة فحسب ؛ بل هي جهاد واحتساب حتى يأتي الله بأمره ، وأن الأمة تنتظر منه أن يحمل همَّ الدين - في مجاله على الأقل - في عصر اجتمعت فيه أمم الكفر على حرب الإسلام عن قوس واحدة .
 
تعريف الطب
الطب لغةً : علاج الجسم والنفس ؛ وتستعمل كلمة ( طِب ) في اللغة بمعنى ( سِحر ) ؛ يقال : رجُل مَطْبوبٌ ، أَي : مَسْحور ؛ كَنَوْا بالطِّبِّ عن السِّحْر تَفاؤُلاً بالبُرءِ ، كما كَنَوْا عن اللَّديغ فقالوا : سليمٌ ؛ وعن الصحراء المترامية الأطراف - وهي مَهْلكة - فقالوا : مَفازة ، تَفاؤُلاً بالفَوز والسَّلامة ؛ وقيل : الطب ( بالفتح ) : السحر ، ( وبالكسر ) : العلاج ؛ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : الطِّبُّ مِنْ الْأَضْدَاد ، يُقَال لِعِلَاجِ الدَّاءِ طِبٌّ ، وَلِلسِّحْرِ طِبٌّ ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَم الْأَدْوَاء .ا.هـ . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : إِنَّمَا قِيلَ لِلسِّحْرِ : طِبٌّ ، لِأَنَّ أَصْلَ الطِّبِّ الْحِذْقُ بِالشَّيْءِ وَالتَّفَطُّنُ لَهُ ، فَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْ عِلَاج الْمَرَضِ وَالسِّحْرِ إِنَّمَا يَتَأَتَّى عَنْ فِطْنَةٍ وَحِذْق أُطْلِقَ عَلَى كُلّ مِنْهُمَا هَذَا الِاسْم[SUP] [1] [/SUP] .
والطبيب : مَنْ حِرْفَتُه الطب ، وهو الذي يعالج المرضى ؛ وَالطَّبيبُ في الأَصل الحاذقُ بالأُمور العارف بها ؛ فكلُّ حاذقٍ طبيبٌ عند العرب ، وَخُصَّ بِهِ الْمُعَالِج عُرْفًا ، فسمي العالم بقوانين علم الطب ، الذي يُعالج المَرْضى : طبيبًا ؛ فَالطَّبِيب هُوَ الْحَاذِق بِالطِّبِّ ؛ والمُتَطَبِّبُ الذي يُعاني الطِّبَّ ولا يعرفه معرفة جيدة[SUP] [2] [/SUP].
وَأما في الاصطلاح فالطب : عِلْمٌ يُعْرَف بِهِ أَحْوَال بَدَن الْإِنْسَان مِنْ الصِّحَّة وَالْمَرَض .
وقيل : هو علم يُتَعرف منه أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصح ويزول عن الصحة ؛ ليحفظ الصحة حاصلة ، ويستردها زائلة[SUP] [3] [/SUP].
فالمقصود - كما يقول د. الشنقيطي : بيان الغاية من النظر في بدن الإنسان ، وهي : المحافظة على صحة الإنسان حال وجودها ، والسعي في ردها حال فقدها ؛ وكل ذلك بتعاطي الأسباب المؤثرة والموجبة لذلك بإذن الله تعالى ، وهذه غاية الطب وهدفه[SUP] [4] [/SUP].
فَالطَّبِيبَ يَنْظُرُ فِي بَدَنِ الْحَيَوَانِ [5] وَأَخْلَاطِهِ وَأَعْضَائِهِ لِيَحْفَظَ صِحَّتَهُ إنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً ، وَيُعِيدُهَا إلَيْهِ إنْ كَانَتْ مَفْقُودَةً[SUP] [6] [/SUP].


[1] - انظر لسان العرب باب الباء فصل الطاء ، وشرح مسلم للنووي : 14 / 177 ، ومقدمة فتح الباري ص 157 ، وفتح الباري : 10 / 134 .

[2] - انظر لسان العرب باب الباء فصل الطاء .

[3] - نقلا عن ( أحكام الجراحة الطبية ) - د. الشنقيطي ص 22 ، وعزاه لابن سينا في كتابه ( القانون في الطب ) : 1 / 3 .

[4] - انظر ( أحكام الجراحة الطبية ) د. الشنقيطي ص 25 .

[5] - تطلق لفظة ( حيوان ) على كل حيٍّ ؛ ولما كان التعريف عام ، ذكر الشيخ رحمه الله هذه اللفظة .

[6] - انظر ( مجموع الفتاوى ) لابن تيمية : 2 / ص 87 .
 
معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " اللَّهُ الطَّبِيبُ " :
روى أحمد وأبو داود واللفظ له عَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ : انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي نَحْوَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ... قَالَ : فَقَالَ لَهُ أَبِي : أَرِنِي هَذَا الَّذِي بِظَهْرِكَ ، فَإِنِّي رَجُلٌ طَبِيبٌ ؛ قَالَ صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُ الطَّبِيبُ ، بَلْ أَنْتَ رَجُلٌ رَفِيقٌ ، طَبِيبُهَا الَّذِي خَلَقَهَا " ؛ ولفظ أحمد : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي ، فَرَأَى الَّتِي بِظَهْرِهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أُعَالِجُهَا لَكَ فَإِنِّي طَبِيبٌ ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم : " أَنْتَ رَفِيقٌ ، وَاللَّهُ الطَّبِيبُ "[SUP] [1] [/SUP]؛ وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد قَالَ : اِنْطَلَقْت مَعَ أَبِي وَأَنَا غُلَام إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ؛ فَقَالَ لَهُ أَبِي : إِنِّي رَجُل طَبِيب ، فَأَرِنِي هَذِهِ السِّلْعَةَ الَّتِي بِظَهْرِك ، قَالَ صلى الله عليه وسلم : " وَمَا تَصْنَع بِهَا ؟ " قَالَ : أَقْطَعهَا ، قَالَ : " لَسْتَ بِطَبِيبٍ ، وَلَكِنَّك رَفِيق ، طَبِيبهَا الَّذِي وَضَعَهَا " [SUP][2] [/SUP]؛ وَفِي أخرى لَهُ : فَقُلْتُ لَهُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ طَبِيبٌ ، مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ أَطِبَّاءَ ، فَأَرِنِي ظَهْرَكَ ، فَإِنْ تَكُنْ سِلْعَةً أَبُطُّهَا ، وَإِنْ تَكُ غَيْرَ ذَلِكَ أَخْبَرْتُكَ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ إِنْسَانٍ أَعْلَمَ بِجُرْحٍ أَوْ خُرَاجٍ مِنِّي ، قَالَ : " طَبِيبُهَا اللَّه "[SUP] [3] [/SUP]؛ وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ : فَقُلْت يَا رَسُول اللَّه إِنِّي رَجُل طَبِيب ، وَإِنَّ أَبِي كَانَ طَبِيبًا ، وَإِنَّا أَهْل بَيْت طِبّ ، وَاَللَّه مَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْ الْجَسَد عِرْق وَلَا عَظْم ، فَأَرِنِي هَذِهِ الَّتِي عَلَى كَتِفك ، فَإِنْ كَانَتْ سِلْعَة قَطَعْتهَا ثُمَّ دَاوَيْتهَا ، قَالَ : " لَا ، طَبِيبهَا اللَّهُ "[SUP] [4] [/SUP].
وقوله : " هَذَا الَّذِي بِظَهْرِك " أي : خَاتَم النُّبُوَّة الَّذِي كَانَ بَيْن كَتِفَيْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مِثْل زِرِّ الْحَجَلَة ، وَلَمْ يَعْرِف أَبُو أَبِي رِمْثَة أَنَّهُ خَاتَم النُّبُوَّة ، وَلِذَا قَالَ مَا قَالَ ؛ وقوله : " بَلْ أَنْتَ رَجُل رَفِيق " أَيْ : أَنْتَ تُرْفِقُ بِالْمَرِيضِ وَتَتَلَطَّفهُ ، وَاَللَّه هُوَ يُبْرِئهُ وَيُعَافِيه [SUP][5] [/SUP]. وقيل : أنت ترفق بالناس في العلاج بلطافة الفعل ، فتحميه بحفظ مزاجه عما يخشى أن لا يحتمله بدنه من الأغذية الرديئة المردية ، وتطعمه ما ترى أنه أرفق به من الأغذية اللطيفة والأدوية .
ولله در القائل :
إنَّ الطَّـبِيب بِطِـبِّهِ وَدَوَائِهِ ... لَا يَسْتَطِيعُ دِفَاعَ مَكْرُوهٍ أَتَى
مَا لِلطَّبِيبِ يَمُوتُ بِالدَّاءِ الَّذِي ... قَدْ كَانَ يُبْرِئُ مِثْلَهُ فِيمَا مَضَى
هَلَكَ المُدَاوَى والمُدَاوِي والَّذِي ... جَلَبَ الدَّوَاءَ وَبَاعَهُ وَمَنْ اشْتَرَى
وقوله صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُ الطَّبِيبُ " أي : هو المداوي الحقيقي بالدواء الشافي من الداء ، أي : إنما الشافي المزيل للأدواء ، والعالم بحقيقة الأدوية هو الله عز وجل ؛ كما كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا عَادَ مَرِيضًا يَقُولُ : " أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ ، اشْفِهِ أَنْتَ الشَّافِي ، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا "[SUP][6] [/SUP]؛ وذلك لأن الطبيب هو العالم بحقيقة الداء والدواء ، والقادر على الصحة والشفاء ؛ وليس ذلك إلا الله عز وجل ؛ لكن تسمية الله جا جلاله بالطبيب إذا ذكره الإنسان في حالة الاستشفاء نحو : أنت الشافي ، أنت المداوي ، أنت الطبيب ؛ سائغ ، ولا يقال : يا طبيب ؛ كما يقال : يا حكيم ، يا حليم ، يا رحيم ؛ لأن إطلاقه عليه متوقف على توقيف ؛ أي : نص من الكتاب أو السنة ، إذ أسماء الله تعالى لا تثبت إلا بذلك .
فبيَّن أن الذي يرجون من الطبيب فالله فاعله ؛ وليس ( الطبيب ) بموجود في أسماء الله تعالى .
وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل : " يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ ، يَسُبُّ الدَّهْرَ ، وَأَنَا الدَّهْرُ ، بِيَدِي الْأَمْرُ ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ " متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه[SUP] [7][/SUP] ؛ أي : الذي ينسبونه إلى الدهر ؛ فإن الله فاعله لا الدهر ، فلا يوجب جواز تسمية الله تعالى ( الدهر ) ؛ وهاهنا لا يوجب جواز تسميته جل جلاله : طبيبًا .



[1] - البخاري ( 4826 ، 7491 ) ، ومسلم ( 2246 ) . ورواه أحمد : 2 / 238 ، 292 ، وأبو داود ( 5274 ) ، والنسائي في الكبرى ( 11487 ) وغيرهم .



[1] - أحمد 4 / 163 ، وأبو داود ( 4207 ) ، والطبراني في الكبير : 22 / 279 ( 715 ) ، وصححه الألباني في الصحيحة ( 1537 ) .

[2] - أحمد : 2 / 226 ، ورواه ابن أبي شيبة ( 23423 ) .

[3] - أحمد : 2 / 227 .

[4] - أحمد : 2 / 228 .

[5] - انظر عون المعبود : 11 / 175 .

[6] - أحمد : 6 / 44 ، 45 ، 109 ، 126، والبخاري ( 5675 ، 5743 ، 5744 ، 5750 ) ، ومسلم ( 2191 ) ، والنسائي في اليوم والليلة ( 1018 : 1022 ) ، وابن ماجة ( 3520 ) عن عائشة ؛ ورواه أحمد : 3 / 151 ، 267 ، والبخاري ( 5742 ) ، وأبو داود ( 3890 ) ، والترمذي ( 973 ) عن أنس .

[7] - البخاري ( 4826 ، 7491 ) ، ومسلم ( 2246 ) . ورواه أحمد : 2 / 238 ، 292 ، وأبو داود ( 5274 ) ، والنسائي في الكبرى ( 11487 ) وغيرهم .
 
أنواع الطب والأدوية
لما كان المرض نوعان : مرض قلوب ، ومرض أبدان ؛ كان الطب - أيضًا - نوعان : طب قلوب ، وطب أبدان ؛ والأول - كما قال ابن القيم - رحمه الله : مسلَّم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم ، فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها ، وبأسمائه وصفاته ، وأفعاله وأحكامه ، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ومحابه ، متجنبة لمناهيه ومساخطه ؛ ولا صحة لها ولا حياة البتة إلا بذلك ، ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل ، وما يظن من حصول صحة القلب بدون اتباعهم فغلط ممن يظن ذلك ، وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية وصحتها وقوتها ؛ وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل ، ومن لم يميز بين هذا وهذا فليبك على حياة قلبه فإنه من الأموات ، وعلى نوره فإنه منغمس في بحار الظلمات[SUP] [1] [/SUP].
وأما طب الأبدان - فكما قال ابن حجر - رحمه الله : مِنْهُ مَا جَاءَ فِي الْمَنْقُول عَنْهُ صلى اله عليه وسلم ، وَمِنْهُ مَا جَاءَ عَنْ غَيْره ، وَغَالِبه رَاجِع إِلَى التَّجْرِبَة ؛ ثُمَّ هُوَ نَوْعَانِ : نَوْعٌ لَا يَحْتَاج إِلَى فِكْر وَنَظَر ، بَلْ فَطَرَ اللَّه عَلَى مَعْرِفَته الْحَيَوَانَات ، مِثْل مَا يَدْفَع الْجُوع وَالْعَطَش ؛ وَنَوْع يَحْتَاج إِلَى الْفِكْر وَالنَّظَر ؛ كَدَفْعِ مَا يَحْدُث فِي الْبَدَن مِمَّا يُخْرِجهُ عَنْ الِاعْتِدَال ، وَهُوَ إِمَّا إِلَى حَرَارَة أَوْ بُرُودَة ، وَكُلّ مِنْهُمَا إِمَّا إِلَى رُطُوبَة ، أَوْ يُبُوسَة ، أَوْ إِلَى مَا يَتَرَكَّب مِنْهُمَا ؛ وَغَالِب مَا يُقَاوَم الْوَاحِد مِنْهُمَا بِضِدِّهِ ، وَالدَّفْع قَدْ يَقَع مِنْ خَارِج الْبَدَن وَقَدْ يَقَع مِنْ دَاخِله وَهُوَ أَعْسَرهمَا ؛ وَالطَّرِيق إِلَى مَعْرِفَته بِتَحَقُّقِ السَّبَب وَالْعَلَامَة ، فَالطَّبِيب الْحَاذِق هُوَ الَّذِي يَسْعَى فِي تَفْرِيق مَا يَضُرّ بِالْبَدَنِ جَمْعه أَوْ عَكْسه ، وَفِي تَنْقِيص مَا يَضُرّ بِالْبَدَنِ زِيَادَته أَوْ عَكْسه ، وَمَدَار ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَة أَشْيَاء : حِفْظ الصِّحَّة ، وَالِاحْتِمَاء عَنْ الْمُؤْذِي ، وَاسْتِفْرَاغ الْمَادَّة الْفَاسِدَة ؛ وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى الثَّلَاثَة فِي الْقُرْآن : فَالْأَوَّل مِنْ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر } وَذَلِكَ أَنَّ السَّفَر مَظِنَّة النَّصَب ، وَهُوَ مِنْ مُغَيِّرَات الصِّحَّة ، فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ الصِّيَام اِزْدَادَ ، فَأُبِيحَ الْفِطْر إِبْقَاءً عَلَى الْجَسَد ؛ وَكَذَا الْقَوْل فِي الْنَوعِ الثَّانِي وَهُوَ الْحِمْيَة ؛ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } فَإِنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنْهُ جَوَاز التَّيَمُّم عِنْد خَوْف اِسْتِعْمَال الْمَاء الْبَارِد ؛ وَالثَّالِث مِنْ قَوْله تَعَالَى : { أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } فَإِنَّهُ أُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى جَوَاز حَلْق الرَّأْس الَّذِي مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِم لِاسْتِفْرَاغِ الْأَذَى الْحَاصِل مِنْ الْبُخَار الْمُحْتَقِن فِي الرَّأْس[SUP] [2][/SUP] .

[1] - انظر ( زاد المعاد ) : 4 / 9 .

[2] - فتح الباري : 10 / 134 ، وقد اختصره عن زاد المعاد : 4 / 5 : 8 .
 
حقائق تتعلق بالدواء
روى أحمد ومسلم وغيرهما عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِصلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : " لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عز وجل "[SUP] [1] [/SUP]؛ وروى عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً ، فَتَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ "[SUP][2] [/SUP]؛ وروى أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ "[3] .
في هذه الأحاديث فوائد أهمها :
أولا : أن الدواء سبب ، وإنما الشافي هو الله سبحانه الذي أنزل الدواء ؛ " فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عز وجل " ، وهذا يقتضي من الطبيب الحاذق أن يعلق مريضه برب الأسباب لا بالأسباب ؛ وهذا أول طريق العلاج لأمراض القلب والبدن .... وللحديث بقية .

[1] - أحمد : 2 / ، ومسلم ( 2204 ) .

[2] - وأبو داود ( 3874 ) .

[3] - أحمد : 1/ 377 ، 413 ، 443 ، 446 ، 453، وابن ماجة ( 3438 ) ، وهو حديث حسن .
 
ثانيا : ما قاله النووي - رحمه الله : فِي هَذَا الْحَدِيث إِشَارَة إِلَى اِسْتِحْبَاب الدَّوَاء ، وَهُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا ، وَجُمْهُور السَّلَف ، وَعَامَّة الْخَلْف ؛ وقَوْله صلى الله عليه وسلم : " لِكُلِّ دَاء دَوَاء فَإِذَا أُصِيب دَوَاء الدَّاء بَرِئَ بِإِذْنِ اللَّه " فَهَذَا فِيهِ بَيَان وَاضِح ، لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْأَطِبَّاء يَقُولُونَ : الْمَرَض هُوَ خُرُوج الْجِسْم عَنْ الْمَجْرَى الطَّبِيعِيِّ ، وَالْمُدَاوَاة رَدّه إِلَيْهِ ، وَحِفْظ الصِّحَّة بَقَاؤُهُ عَلَيْهِ ، فَحِفْظهَا يَكُون بِإِصْلَاحِ الْأَغْذِيَة وَغَيْرهَا ، وَرَدّه يَكُون بِالْمُوَافِقِ مِنْ الْأَدْوِيَة الْمُضَادَّة لِلْمَرَضِ ؛ وَبُقْرَاط يَقُول : الْأَشْيَاء تُدَاوَى بِأَضْدَادِهَا ، وَلَكِنْ قَدْ يَدِقّ وَيَغْمُض حَقِيقَة الْمَرَض ، وَحَقِيقَة طَبْع الدَّوَاء ، فَيَقِلُّ الثِّقَة بِالْمُضَادَّةِ ، وَمِنْ هَاهُنَا يَقَع الْخَطَأ مِنْ الطَّبِيب فَقَطْ ، فَقَدْ يَظُنُّ الْعِلَّة عَنْ مَادَّة حَارَّة فَيَكُون عَنْ غَيْر مَادَّة ، أَوْ عَنْ مَادَّة بَارِدَة ، أَوْ عَنْ مَادَّة حَارَّة دُون الْحَرَارَة الَّتِي ظَنَّهَا ، فَلَا يَحْصُل الشِّفَاء ، فَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَبَّهَ بِآخِرِ كَلَامه عَلَى مَا قَدْ يُعَارَض بِهِ أَوَّله ، فَيُقَال : قُلْت : لِكُلِّ دَاء دَوَاء ، وَنَحْنُ نَجِد كَثِيرِينَ مِنْ الْمَرْضَى يُدَاوُونَ فَلَا يَبْرَءُونَ ، فَقَالَ : إِنَّمَا ذَلِكَ لِفَقْدِ الْعِلْم بِحَقِيقَةِ الْمُدَاوَاة ، لَا لِفَقْدِ الدَّوَاء ، وَهَذَا وَاضِح ؛ وَاللَّهُ أَعْلَم[SUP] [1] [/SUP].
وهذا - أيضًا - مما يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم : " وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ " ؛ قال ابن حجر - رحمه الله : وَمِمَّا يَدْخُل فِي قَوْله " وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ " مَا يَقَع لِبَعْضِ الْمَرْضَى أَنَّهُ يَتَدَاوَى مِنْ دَاء بِدَوَاءٍ فَيَبْرَأ ، ثُمَّ يَعْتَرِيه ذَلِكَ الدَّاء بِعَيْنِهِ فَيَتَدَاوَى بِذَلِكَ الدَّوَاء بِعَيْنِهِ ، فَلَا يَنْجَع ، وَالسَّبَب فِي ذَلِكَ الْجَهْل بِصِفَةٍ مِنْ صِفَات الدَّوَاء ، فَرُبَّ مَرَضَيْنِ تَشَابَهَا وَيَكُون أَحَدهمَا مُرَكَّبًا لَا يَنْجَع فِيهِ مَا يَنْجَع فِي الَّذِي لَيْسَ مُرَكَّبًا ، فَيَقَع الْخَطَأ مِنْ هُنَا ؛ وَقَدْ يَكُون مُتَّحِدًا لَكِنْ يُرِيد اللَّه أَنْ لَا يَنْجَع ، فَلَا يَنْجَع ؛ وَمِنْ هُنَا تَخْضَع رِقَابُ الْأَطِبَّاء ، وَقَدْ أَخْرَجَ اِبْن مَاجَهْ مِنْ طَرِيق أَبِي خُزَامَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُول اللَّه أَرَأَيْت رُقًى نَسْتَرْقِيهَا وَدَوَاء نَتَدَاوَى بِهِ ، هَلْ يَرُدّ مِنْ قَدَر اللَّه شَيْئًا ؟ قَالَ : " هِيَ مِنْ قَدَر اللَّه تَعَالَى " وَالْحَاصِل أَنَّ حُصُول الشِّفَاء بِالدَّوَاءِ إِنَّمَا هُوَ كَدَفْعِ الْجُوع بِالْأَكْلِ وَالْعَطَش بِالشُّرْبِ ؛ وَهُوَ يَنْجَع فِي ذَلِكَ فِي الْغَالِب ؛ وَقَدْ يَتَخَلَّف لِمَانِعٍ ، وَاَللَّه أَعْلَم[SUP] ( [2][/SUP] ) .

[1] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 14 / 192 .

[2] - انظر فتح الباري : 10 / 135 .
 
ثالثا : في قوله صلى الله عليه وسلم : " عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ " دليل على التخصص الطبي ؛ فليس كل من يعمل في مهنة الطب له إدراك بجميع الأمراض وأدويتها ؛ بل المعروف أن المتخصص في الباطنة - مثلا - ليس له إدراك تام بعلاج أمراض العيون ، وإن كان ملمًا ببعض ما يتعلق بها ؛ فقد يخفى عليه دقيق هذا التخصص ، وبالتالي يجهل دواءه .. وهكذا .
رابعًا : ما قاله ابن القيم - رحمه الله : وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ " تقوية لنفس المريض والطبيب ، وحث على طلب ذلك الدواء ، والتفتيش عليه ، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله تعلق قلبه بروح الرجاء ، وبردت عنده حرارة اليأس ، وانفتح له باب الرجاء ؛ ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية ، وكان ذلك سببها لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية ، ومتى قويت هذه الأرواح قويت القوى التي هي حاملة لها ، فقهرت المرض ودفعته .
وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء ، أمكنه طلبه والتفتيش عليه ، وأمراض الأبدان على وزان أمراض القلوب ، وما جعل الله للقلب مرضًا إلا جعل له شفاء بضده ، فإن علمه صاحب الداء واستعمله ، وصادف داء قلبه أبرأه بإذن الله تعالى ا.هـ [SUP][1][/SUP] .

[1] - انظر زاد المعاد : 4 / 12 .
 
خامسًا : قال ابن حجر - رحمه الله : وَيَدْخُل فِي عُمُومهَا - أَيْضًا - الدَّاء الْقَاتِل الَّذِي اعْتَرَفَ حُذَّاق الْأَطِبَّاء بِأَنْ لَا دَوَاء لَهُ ، وَأَقَرُّوا بِالْعَجْزِ عَنْ مُدَاوَاته ، وَلَعَلَّ الْإِشَارَة فِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود بِقَوْلِهِ " وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ " إِلَى ذَلِكَ ، فَتَكُون بَاقِيَة عَلَى عُمُومهَا ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون فِي الْخَبَر حَذْف تَقْدِيره : لَمْ يُنْزِل دَاء يَقْبَل الدَّوَاء إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاء ؛ وَالْأَوَّل أَوْلَى[SUP] [1][/SUP] .
سادسًا : قال المناوي في ( فيض القدير ) : قوله صلى الله عليه وسلم : " وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ " يعني أنه تعالى خلق لكل داء دواء حرامًا كان أو حلالا ، " وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ " أي : يحرم عليكم ذلك ؛ " إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا " ، فالتداوي بمحرم محرم[SUP] [2][/SUP] .
[1] انظر فتح الباري : 10 / 135 .

[2] فيض القدير : 2 / 273 .
 
سابعًا : العلاج بالرقية : وهي من أنفع الأدوية إن صدق صاحبها في اللجوء إلى الله تعالى ؛ وأشير هنا – إلى إخوتي وأخواتي الأطباء – ألا ينسوا هذا العلاج الناجع عند تطبيبهم لمرضاهم ؛ فإن كثيرا مما ليس في الطب له علاج ظاهر ، عوفي المريض فيه بالرقية والدعاء ؛ ولهذا ، فلا تندهش إذا قرأت أن الكسيس كارل الطبيب الفرنسي ذكر في كتاب له اسمه ( الدعاء ) أن كثيرا من المرضى لم يستطع الطب أن يصف لهم دواء ، وإذا بهم يلجئون إلى الله بالدعاء فيشفون ، ثم يقول : متى ضعف الدعاء في قوم وأهملت سننه ، كانت العلامة على انحطاط القوم وعجزهم . فالمجتمع متى انصرف عن التعبد والدعاء أعد في نفسه مناخًا لجراثيم الانحطاط والاضمحلال والضعف والعجز . ا.هـ[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وقد وردت الأدلة بجواز الرقية من قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وإقراره :
أما الأول : فأخرج أحمد والشيخان وابن ماجة عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُهَا أَنْ تَسْتَرْقِيَ مِنَ الْعَيْنِ [SUP]( [2] ) [/SUP]؛ وأخرج الشيخان عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِجَارِيَةٍ فِي بَيْتِها رَأَى بِوَجْهِهَا سَفْعَةً : " بِهَا نَظْرَةٌ فَاسْتَرْقُوا لَهَا " يَعْنِي : بِوَجْهِهَا صُفْرَةً[SUP] ( [3] ) [/SUP]. وروى أحمد ومسلم عن جَابِر رضي الله عنه قَالَ : رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِآلِ حَزْمٍ فِي رُقْيَةِ الْحَيَّةِ ؛ وَقَالَ لِأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رضي الله عنها : " مَا لِي أَرَى أَجْسَامَ بَنِي أَخِي ضَارِعَةً ! تُصِيبُهُمُ الْحَاجَةُ ؟ " قَالَتْ : لَا وَلَكِنِ الْعَيْنُ تُسْرِعُ إِلَيْهِمْ ؛ قَـالَ : " ارْقِيهِمْ " قَـالَتْ : فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " ارْقِيهِمْ " [SUP]( [4] ) [/SUP]؛ وروى أحمد ومسلم عن جَابِر رضي الله عنه قَالَ : لَدَغَتْ رَجُلًا مِنَّا عَقْرَبٌ وَنَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ أَرْقِي ( أَرْقِيهِ ) قَالَ : " مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ "[SUP] ( [/SUP][5][SUP] ) [/SUP].

وأما الثاني : فأخرج أحمد والشيخان والنسائي في ( اليوم والليلة ) وابن ماجة عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا عَادَ مَرِيضًا يَقُولُ : " أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ ، اشْفِهِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا " ؛ وفي رواية قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ : فذكرت الحديث . وفي رواية : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقي بهذه الرقية .. فذكرتها . وعند أحمد والبخاري وأبي داود والترمذي نحوه عن أنس رضي الله عنه[SUP] ( [6] ) [/SUP]؛ وفي الباب أحاديث كثيرة .
وأما الثالث : فأخرج أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي في ( اليوم والليلة ) وابن ماجة عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا فِي سَفَرٍ فَمَرُّوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَلَمْ يُضِيفُوهُمْ ، فَقَالُوا لَهُمْ : هَلْ فِيكُمْ رَاقٍ ؟ فَإِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ لَدِيغٌ أَوْ مُصَابٌ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ : نَعَمْ ؛ فَأَتَاهُ فَرَقَاهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَبَرَأَ الرَّجُلُ ، فَأُعْطِيَ قَطِيعًا مِنْ غَنَمٍ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا ، وَقَالَ حَتَّى أَذْكُرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ وَاللهِ مَا رَقَيْتُ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ! فَتَبَسَّمَ وَقَالَ : " وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ ؟ " ثُمَّ قَالَ : " خُذُوا مِنْهُمْ ، وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ "[SUP] ( [7] ) [/SUP].
وأما ما ورد من النهي عن الرقية في بعض الأحاديث ، كما في حديث جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّقَى ، فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ ، وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى ، قَالَ : فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " مَا أَرَى بَأْسًا مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ " رواه أحمد ومسلم وابن ماجة [SUP]( [8][/SUP] ) . فهذا لا يعارض ما ذكرنا ، وإنما نهى صلى الله عليه وسلم عن الرقى التي تتضمن الشرك وتعظيم غير الله تعالى ، كغالب رقى أهل الشرك . بدليل ما جاء في آخر الحديث ؛ وروى مسلم وأبو داود عَنْ عَوْفِ ابْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ رضي الله عنه قَالَ : كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : " اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ ؛ لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ "[SUP] ( [9][/SUP] ) . قال الخطابي - رحمه الله : المنهي عنه ما كان منها بغير لسان العرب فلا يدرى ما هو ؟ ولعله يدخله سحر أو كفر ؛ فأما إذا كان مفهوم المعنى ، وكان فيه ذكر الله تعالى فإنه مستحب متبرك به . والله أعلم . ا.هـ[SUP] ( [10] ) [/SUP].

[1] - انظر كتاب ( الدعاء ) لعلي شريعتي : ص10 ؛ ومقدمة ( فقه الدعاء ) لمحمد عطية .

[2] - أحمد : 6 / 63 ، 138 ، والبخاري ( 5783 ) ، ومسلم ( 2195 ) ، وابن ماجة ( 3512 ) .

[3] - البخاري ( 5739 ) ، ومسلم ( 2197 ) .

[4] - أحمد 3 / 333 ، ومسلم ( 2198 ) . ورواه ابن أبي شيبة ( 23591 ، 23593 ) ، وأحمد : 6 / 438 ، وابن ماجة ( 3510 ) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار : 4 / 327 عن أسماء بنت عميس .

[5] - أحمد : 3 / 382 ، ومسلم ( 2199 ) .

[6] - أحمد : 6 / 44 ، 45 ، 109 ، 126، والبخاري ( 5675 ، 5743 ، 5744 ، 5750 ) ، ومسلم ( 2191 ) ، والنسائي في اليوم والليلة ( 1018 : 1022 ) ، وابن ماجة ( 3520 ) . ورواه أحمد : 3 / 151 ، 267 ، والبخاري ( 5742 ) ، وأبو داود ( 3890 ) ، والترمذي ( 973 ) عن أنس .

[7] - أحمد : 3 / 2 ، 10 ، والبخاري ( 2276 ، 5736 ) ، ومسلم ( 2201 ) ، وأبو داود ( 3418 ) ، والترمذي ( 2063 ، 2064 ) ، والنسائي في اليوم والليلة ( 1035 : 1037 ) ، وابن ماجة ( 2156 ) .

[8] - أحمد : 3 / 302 ، 315 ، ومسلم ( 2199 ) ، وابن ماجة ( 3515 ) .

[9] - مسلم ( 2200 ) ، وأبو داود ( 3886 ) ، والبيهقي في السنن الكبرى ( 20148 ) دار الفكر .

[10] - معالم السنن : 5 / 362 ( هامش المختصر ) ؛ وفي تفصيل ذلك يرجع إلى كتابي ( فقه الدعاء ) فصل ( فقه الرقى والتعوذات ) .
 
صفات المسلم الطبيب
المسلم الطبيب المتمسك بدينه قولاً وعملاً يتميز عن غيره مـن الأطباء بصفات يتقرب بها إلى الله تعالى أولا ؛ فهي بين واجب ومندوب ، ثمَّ هي تثقل ميزانه يوم القيامة ؛ فهو يمارسها في حياته كما يعايشها في ممارساته اليومية لمهنته عبادة لله تعالى ؛ وهذه الصفات يجمعها التقوى وحسن الخلق ؛ روى أحمد والترمذي عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ "[SUP] [1] [/SUP].
وسأذكر هنا أكثر الأمور التصاقا بمهنة الطب تذكيرًا لإخواننا وأخواتنا الأطباء .
أيها الطبيب أنت لله عبد
الطبيب .. هذا اللقب الذي يطمح في أن يسبق اسمه أو يلحقه كثير من الناس ، فيقال : الطبيب فلان ؛ أو : فلان الطبيب .. على حامله أن يعلم أنه عبد لله فيقوم بحق العبودية فيما كلف به من مهام هذه المهنة ؛ فأول رداءٍ يجب أن يتدثر به الطبيب - كما يقول د. وسيم - هو رداء العبودية ، ولن يتحقق ذلك حتى يخلع كل رداءٍ سواه من جاهٍ ومنصبٍ ودنيا ، فيدخل في هذه المهنة تعلُّمًا وممارسةً وهو يراعي تحقيق شروط التعبد من جهة ، ويحرص على نقاء العمل من شوائب الحبوط من جهة أخرى ؛ وبعبارة أخرى : إنه لابد من استحضار صفة العبودية لله في مجال الطب بتحرير كلٍ من النية والمتابعة ؛ فتكون النية خالصةً لله تعالى كما أمر : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ } [ البينة : 5 ] ؛ وتكون المتابعة مجردةً للنبيصلى الله عليه وسلم كما أمر : " مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " [SUP]( [2][/SUP] [SUP]) [/SUP].
فإذا سألت عن مكان النية في مجال الطب فاعلم أنها طلب علمه والعمل بمقتضاه طلبًا لرضى المولى عز وجل فحسب ، بحيث يكون كل عمل متفرعٍ عن هذا المجال خالصًا لله تعالى .
فليكن طلبك للعلم في باب الطب منصرفًا إلى تحصيل ما فيه نفع العباد طلبًا لمرضاة رب العباد ، ولسوف ترى كيف ينقاد لك هذا العلم ويُسلم لك زمامه ، كما قال بعض السلف : طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله[SUP] [3] [/SUP].
أما إذا سألت عن مكان متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في باب الطب ، فأحيلك على مجموع السنة النبوية المطهرة بما فيها من هديٍ نبويٍ كريمٍ يضبط أصول التطبيب ، وأصول درء المفسدة عن العباد ، وجلب المنفعة لهم ، وحسبك من هذا كله - في مقام التجريد هذا - تلك القاعدة النبوية العظيمة : " مَنْ تَطَبَّبَ وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ "[SUP] [4][/SUP] ، فهذا أصلٌ عظيمٌ في عدم جواز العبث بأبدان الناس وصحتهم ، ومسؤولية الطبيب مسؤولية كاملة عما يقترفه في حق المريض إذا ما وقع منه تقصير ، ومن أخطر أنواع التقصير في الطب ما كان ناجمًا عن مداواة الناس بالجهل .
وإنما أردت بتقرير هذه القاعدة هاهنا التنبيه على جنس ما تشتمل عليه السنة النبوية من أصول وقواعد تضبط مهنة الطب ؛ لا أقول ضبطًا مهنيًّا فحسب ، بل ضبطًا شرعيًّا مُلزمًا للمكلف ؛ فمن لم يلتزم متابعة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في أصول مداواة الناس يكون قد خرق شرط قبول العمل ، وإذا لم يقبل عمل العامل فلا يكون له نصيب من الأجر المترتب عليه ؛ فتنبه لهذا الأمر ، واعلم أن من خرق أحد هذين الشرطين أو كليهما فليس له حظ من طبِّه وتطبيبه سوى وظيفة دنيوية ، أو مكانة علمية موهومة ، أو مهنة يتكسب بها لا أكثر ، ناهيك عن خطر الوقوع في الإثم في بعض الحالات ؛ وإن من يدرك الكم الهائل من الأوقات والأعمار التي تفنى في سبيل تحصيل مراتب هذه المهنة ، ليشفق على نفسه وعلى غيره ألا يكون له منها حظٌ إلا حظ الدنيا ، وأن يكون مِن جنس مَن قال فيهم عز وجل : { فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } [ البقرة : 200 ] .
فاحرص أيها الطبيب المسلم على تحقيق وتحرير هذين الركنين ، وكن شديد الحرص على تعهدهما بالرعاية والسقاية ، حتى لا تذبل غرسة الإخلاص في القلب ، ولا يخبو نور المتابعة في الجوارح ... وللحديث صلة .

[1] - أحمد : 5 / 153 ، 158 ، والترمذي ( 1987 ) وصححه .

[2]- رواه مسلم ( 1718 ) عن عائشة رضي الله عنها .

[3] مقولة نسبت لبعض السلف ؛ وقال عبد الرزاق ( 20475 ) : أخبرنا معمر قال : كان يقال : إن الرجل ليطلب العلم لغير الله فيأبى عليه العلم حتى يكون لله .ا.هـ. أي : لا ينقاد له العلم ولم يسلم زمامه إلا عندما يخلص النية لله ويجردها من كل شائبة .

[4] رواه أبو داود ( 4586 ) ، والنسائي ( 4830 ) وابن ماجة ( 3466 ) ، والحاكم ( 7484 ) وصححه ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني في الصحيحة ( 635 ) .
 
وننبه في هذا المقام إلى أمرٍ آخر يغفل عنه كثير من الأطباء ، وهو مقام عبودية التوكل ؛ حيث يميل كثير من الأطباء - بسبب كثرة ما اطلعوا عليه من أسباب - إلى الركون إلى ما كشفه الله تعالى لهم من علوم ؛ وينسى البعض أو يتناسى فضل الله تعالى عليه فيما يسَّره من أسباب التشخيص والعلاج والشفاء ، بل ينسى أنه رفيق لا طبيب على الحقيقة - كما تقدم بيانه ؛ فليس هو إلا سببًا من جملة الأسباب ، لا حول له ولا قوة ، ولا يملك في نفسه شفاءً ولا نفعًا ولا ضرًا ؛ وإنما يسَّر الله تعالى الشفاء على يديه لحكمة يريدها به وبمريضه ؛ فليعلم المريض والطبيب - تمام العلم - أن المرض والشفاء بيد الله عز وجل كما جاء على لسان خليل الرحمن : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] .
فالواجب على العبد المسلم الطبيب أن يحترز عن مشاهدة الأسباب مشاهدةً تفضي به إلى الاتكال عليها ، وأن يجتهد في أن يكون مقام مشاهدة الأسباب هو مقام العبد الذي يحصِّل ما أمره به سيدُه من أسباب ومقدمات ، ثم يرتمي على عتبة سيده ومولاه راجيًا حصول آثار هذه المقدمات ، فهو دائمًا بين طاعةٍ في تحصيل المقدمات ، ورجاءٍ في طلب آثارها ، فلا يركن إلى براعة المشرط في يده ، ولا إلى قوة الدواء في جعبته .
هكذا أيها الطبيب المسلم تتزين بعبادة التوكل على الله جل جلاله ، فتنتظم حياتك الطبية عبادة لله تعالى ، وتؤجر في كل ما تقوم به من عمل ، وتوفق في كل ما يكون من تشخيص ووصف للدواء بإذن الله تعالى [SUP]( [1][/SUP] ) .

[1] - هذه الفقرة مقتبسة من كلام د. طبيب وسيم فتح الله في كتابه ( حلية الطبيب المسلم ) مع اختصار وتصرف وإضافات اقتضاها مقام البيان .
 
رابعًا : ما قاله ابن القيم - رحمه الله : وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ " تقوية لنفس المريض والطبيب ، وحث على طلب ذلك الدواء ، والتفتيش عليه ، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله تعلق قلبه بروح الرجاء ، وبردت عنده حرارة اليأس ، وانفتح له باب الرجاء ؛ ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية ، وكان ذلك سببها لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية ، ومتى قويت هذه الأرواح قويت القوى التي هي حاملة لها ، فقهرت المرض ودفعته .
فقه كبير ، من ابن القيم رحمه الله ، فتراه يربط بين الروح والمرض ،فيعقوب عليه السلام أذهب الحزن بصره ، ورد بصره بقميص يوسف عليه السلام ، الذي كان بمثابة الدواء، فالدواء لايشترط ان يكون علقما أو حبوبا ، بل التعرف على ما أثر في الروح أول مرة ومن ثم تجريب العلاج المتنوع .

ليتك أخي محمد لو وضعت البحث في ملف واحد ، حتى نحتفظ به ونرسله لم نعرفه من الاطباء .

وجزاك الله خيرا

والله اعلم
 
تقوى الله تعالى
التقوى : مصدر على وزن فعلى ، من وقيته أقيه ، أي : منعته ؛ وأصلُها : أنْ يجعل العبدُ بينَه وبينَ ما يخافُه ويحذره وقايةً تقيه منه ؛ فتقوى العبد لربه أنْ يجعل بينه وبينَ ما يخشاه من غضب ربه وسخطه وعقابه وقايةً تقيه من ذلك ، وهو فعلُ طاعته واجتنابُ معاصيه ؛ فالتقوى هي الخوف والحذر ؛ وجماعها : اتقاء الشرك ، ثم المعاصي ، ثم الشبهات ، ثم ترك الفضلات .
قال عُمَر بن عبد العزيز : ليس تقوى الله بصيام النهار ، ولا بقيام الليل ، والتخليطِ فيما بَيْنَ ذلك ؛ ولكن تقوى اللهِ تركُ ما حرَّم الله ، وأداءُ ما افترضَ الله ، فمَنْ رُزِقَ بعد ذلك خيرًا ، فهو خيرٌ إلى خير[SUP] [1][/SUP] .
وحقيقة التقوى : التحرز بطاعة الله تعالى من مخالفته ؛ فقد قال رجل لأبي هريرة رضي الله عنه : ما التقوى ؟ قال : أخذت طريقا ذا شوك ؟ قال : نعم ؛ قال : كيف صنعت ؟ قال : إذا رأيت الشوك عدلت عنه ، أو جاوزته ، أو قصرت عنه ؛ قال : ذاك التقوى[SUP][2] [/SUP]؛ وقد أشار إلى هذا المعنى ابن المعتز - رحمه الله - فقال :
خـلِّ الذُّنوبَ صَغِيرَها ... وكَـبِيرَها ذَاكَ التُّـقَى
واصْنَعْ كماشٍ فَوْقَ أَرْ ... ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ ما يَرَى
لا تَحْقِـرَنَّ صـغيرةً ... إنَّ الجـِبَالَ مِـنَ الحَصَى
هذه التقوى مهمة جدًا في حياة المسلم والمسلمة ؛ وهي أكثر أهمية في الحياة العملية للطبيب المسلم والطبيبة المسلمة ... وللحديث صلة .

[1] رواه البيهقي في ( الزهد الكبير ) رقم ( 964 ) ، وابن عساكر في ( تاريخ دمشق ) : 45 / 230 .

[2] رواه البيهقي في ( الزهد الكبير ) رقم ( 963 ) .
 
إن تقوى الله تعالى هي الدافعة للأطباء إلى ممارسة طب يعلمونه وعدم ممارسة طب لا يتقنونه ؛ خوفًا من محاسبة الله تعالى لهما ، ومن التحذير الضمني لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ تَطَبَّبَ وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ " .
هذه التقوى تدفعهما إلى معاملة المرضى جميعًا معاملة واحدة ، لا تمييز فيها بين لون ولون أو نسب وآخر ، أو غير ذلك من ألوان التمييز بين البشر ؛ إذ كلهم مرضى ويحتاجون إلى النظر في حالهم ، وربما تقديم أحدهم على الآخر يؤدي إلى تأخير شفاء هذا الذي أُخر لأن حالته كانت تستدعي سرعة النظر في حاله ؛ بل قد يؤدي إلى ما هو أعظم من ذلك وأخطر ؛ وفي الممارسات الفعلية كثير من الأدلة على ذلك .
هذه التقوى هي التي تجعلهما يخلصان في وصف الدواء المناسب لحالة المريض ؛ دون النظر في مراعاة جنسه أو جنسيته .
هذه التقوى هي التي تجعل الطبيب يحيل المريضة إلى طبيبة لعلاجها ، مراعيًّا القواعد الشرعية في العلاج ؛ فالمرأة المسلمة تعرض على الطبيبة المسلمة أولاً ، فإن لم توجد فالطبيبة الكتابية إن كانت حاذقة ثقة ؛ فإن عدمتا فالطبيب المسلم .
فإن كانت الحالة مما لا طبيبة لها ، ودعت الضرورة لعلاجها ، فهو لا يقوم بالنظر في حالة امرأة إلا بحضرة زوجها أو محرم منها ، فإن تعذر ذلك فبوجود طبيبة أو ممرضة معه حال المعالجة حتى لا تكون الخلوة المحرمة شرعًا ؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لَا يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بِامْرَأَةٍ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا "[SUP] [1] [/SUP]. ثم هو لا ينظر إلا إلى محل الضرورة منها ، مع تقدير هذه الضرورة بقدرها ، فلا يتجاوز النظر إلى غير محل الضرورة ؛ وإلا كان آثما ؛ فهو يغض بصره عن غير ذلك ؛ لقول الله تعالى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [ النور : 30 ] .
إن الطبيب المسلم من صفاته الغيرة على حرمات المسلمين ، فهو يعتبر المسلمة من حرماته ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ : دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ "[SUP] [2] [/SUP].
فلابد من ضبط هذه الأمور الشرعية في الممارسات الطبية ؛ فقد وجدنا في عالم الانحرافات الفكرية عورات كثيرة تتجاوز الحدود الشرعية بحجة الضرورة ، فيتوسعون في الضرورة ولا يقدرونها حق قدرها ، ولا يسعون إلى إزالتها ؛ ولا يسألون أهل العلم في هذه الأمور ، فيكون الهوى هو الحاكم ، فتقع المخالفات المترتب عليها الإثم والعقوبة ، إلا أن يتوب صاحبها ويستغفر الله تعالى ، ويبكي على خطيئته ؛ قال الله تعالى : { وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } [ الفرقان : 71 ] .
هذه التقوى هي التي تجعل الطبيب والطبيبة يحفظان سر المريض والمريضة ؛ ولا يفضحانه لا في مجالسهم الخاصة ، ولا في مجالس عامة ؛ وإنما قد يرى - من يتقي الله - حكاية قصة مريض فيها عظة وعبرة ، أو فائدة طبية يمكن أن يستفاد منها ، فيتحرى في ذلك عدم ذكر اسم المريض أو وصفه بما يعرف به ، وإنما على سبيل الحكاية العامة المبهمة الأشخاص ؛ والله أعلم بخفايا عباده ... وللحديث صلة .

[1] - رواه أحمد : 1 / 4 ، 18 ، 26 ، والترمذي ( 2165 ) ، والنسائي في الكبرى ( 9219 : 9223 ) ، وابن حبان ( 5586 ، 6728 ) ، عن عمر رضي الله عنه .

[2] - رواه مسلم ( 2564 ) وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه .
 
وهاهنا أمر يتعلق بمجال العلاج النفسي ؛ فالطبيب المسلم تدفعه تقواه لله تعالى أن يرفض أن يكون في موضع خلوة ؛ كما تمنعه من الاسترسال في الحديث مع المريضات ، أو متابعة الاتصال بهن بطريقة تؤدي إلى تعلقهن به ، ووقوعهن في شيء من العلاقات المحرمة شرعًا ؛ كما هو معروف في عالم الطب النفسي .
هذه التقوى هي التي تجعل الطبيب والطبيبة يراقبان الله تعالى ، ويقاومان المتاجرة في المهنة والتعامل مع شركات الأدوية معاملة غير شرعية ، كأن يجربا الأدوية على مرضاهم مقابل عائد مادي أيًّا كان شكله ؛ فإن من لا يتقي الله تعالى قد يقبل ذلك ، دون مراعاة لحق المريض وما قد يؤدي ذلك من أضرار له قد تكون خطيرة ؛ فيقع في ظلم عظيم في حق هذا المتعاطي للدواء ؛ والظلم ظلمات يوم القيامة .

إن هذه الأمور الشرعية لا تغيب عن المسلم الطبيب ؛ فإن مما يعتقده أن الله تعالى يحاسبه على القول والفعل والدرهم ؛ أما القول : فقد قال الله تعالى : { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] ؛ وقال صلى الله عليه وسلم : " وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ "[SUP] [1] [/SUP]؛ والأحاديث في ذلك كثيرة .
وأما الفعل ، فقد قال الله تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ . كِرَاماً كَاتِبِينَ . يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [ الانفطار : 10 - 12 ] ؛ وقال جل جلاله : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] ، وقال عز وجل : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [ الكهف : 49 ] ؛ والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدًا .
وأما الدرهم ؛ فقد روى الترمذي وصححه عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ "[SUP] [2] [/SUP].
إن الخوف من الله تعالى يدفع صاحبه إلى تذكر هذه المعاني في كل قول وعمل وكسب ؛ قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } [ الأعراف : 201 ] ؛ وهذا الخوف هو من آثار تقوى الله تعالى ؛ فمن اتقى خاف ، ومن خاف اتقى ... وللحديث صلة .


[1] - رواه أحمد : 5 / 231 ، 236 ، والترمذي ( 2616 ) وصححه ، والنسائي في الكبرى ( 11294 ) وابن ماجة ( 3973 ) عن معاذ بن جبل t .

[2] - الترمذي ( 2417 ) وصححه ، ورواه الدارمي ( 537 ) .
 
ومن معاني التقوى ما نسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : التقوى هي الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والرضا بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل .
يقول د. طبيب وسيم فتح الله : قد تتساءل عن مكان هذه المعالم في رحلة الطب ومعالجة الخلق ، فأجيبك بأنك - أيها الطبيب - لا تستغني وأنت تتطلع على عورات الناس وأسرارهم عن مخافة الله ومراقبته ، إذ لا يردعك عن الانحراف فيما تتطلع عليه من عورات الناس ، ولا عن تجاوز حد الضرورة مما لا يحل في الأصل ، إلا أن تبذر تربة القلب ببذور التقوى لتثمر مخافة الله ، فتصونك هذه الثمرة من الانحراف والزلل والتلبس بالإثم من حيث كنت تبتغي الثواب .
ثم اعلم أن الله تعالى قد أنزل في جملة ما أنزل من الوحيين نصوصًا وضوابط تصون أجساد الناس وأرواحهم ، فلتكن معالجتك للناس عملاً بالتنزيل وصيانةً لأبدانهم وأرواحهم عن أسباب الهلاك المادي والمعنوي ، كما تضافرت عليه النصوص .
ثم اعلم أن ما رضيه الله تعالى لك من منزلة ومقام في سياق المهنة هو الأصلح لنفسك ، فلا تحاول أن تتسلق سلم المهنة رجاء منصب أو سمعة أو رياء ، بل كن راضيًا بمكانتك ولو كانت في أعين الناس قليلة ، فلربما أنك طبيبٌ مغمورٌ غير مشهور ولكنك من جنس الأشعث الأغبر التقي الخفي الذي لو أقسم على الله لأبرَّه ، فليكن هذا مقام الرضا بالقليل ، وهو إن كان قليلاً في أعين الناس إلا إنه ليس بذلك البتة عند الله عز وجل .
وآخر معالم التقوى في هذا المقام أن تستعد ليوم الرحيل ، فتعلم أن الله تعالى سائلك عن تلك العورة التي اطلعت عليها لغير ضرورة ، وعن ذلك الجسد الذي لمسته لغير ضرورة ، وعن ذلك السر الذي اطلعت عليه لحاجة ففضحته ولم تحفظه ، وعن تلك الرخصة التي أبحتها لمريض وتلك العبادة التي ضيعتها على آخر دون أن تراعي فيهم لله حقًا ولا للدين فيهم حرمة .
فإذا ما تلبست بلباس التقوى هذا ، فاعلم أنك حينذاك قد تزودت بخير زاد وظفرت بخير معية ، أما الزاد فقد قال تعالى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [ البقرة : 197 ] ، وأما المعية فقد قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] .ا.هـ[SUP] [1][/SUP] .

[1] - انظر ( حلية الطبيب المسلم ) للطبيب وسيم فتح الله .
 
الإخلاص
أشرت إلى الإخلاص في تحقيق عبودية الطبيب لله تعالى ، وهذه أمثلة للممارسات الطبية ، يحتاج الأطباء أن يراجعوا أنفسهم فيها مع الإخلاص ، ليعظم لهم الأجر عند الله تعالى مع ما اكتسبوا من حرث الدنيا .
اعلم - علمني الله وإياك الخير - أن كلَّ شيء يتصور أن يشوبه غيره ، فإذا صفا عن شوبه وخلص سُمي خالصًا ؛ ويسمى الفعل المصفى المخلَّص إخلاصًا ؛ والإخلاص يضاده الشرك ، فمن ليس مخلصًا فهو مشرك ، إلا أن الشرك درجات ؛ وقد جرى العرف على تخصيص اسم الإخلاص بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب ، فإذا امتزج قصد التقرب بباعث آخر من رياء أو غيره من حظوظ النفس خرج عن الإخلاص[1].
وعليه فالإخلاص نوعان :
الأول : إخلاص التوحيد ؛ وهو أن يُعبد الله وحده ، فلا يتوجه بشيء من العبادات إلا لله عز وجل ؛ وهذا الذي جاء به جميع الرسل : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ الأعراف : 59 ، 65 ، 73 ، 85 ] ؛ وقال جل جلاله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ . وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ . قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي . فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [ الزمر : 11 - 15 ] ؛ ويضاد هذا النوع من الإخلاص : الشرك الأكبر ؛ وهو صرف شيء من العبادة ، أو مما يختص به الله تعالى ، لغير الله تعالى .
الثاني : إخلاص العمل ؛ وهو تخليص النية عند القيام بالعمل من حظوظ النفس ، ليسلم من الرياء الذي هو الشرك الأصغر ، والذي هو أكبر الذنوب بعد الشرك الأكبر ، إذ هو محبط للعمل الذي قارنه ؛ وفي الصحيحين عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا ، أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ "[SUP] [2] [/SUP]؛ ففي قوله صلى الله عليه وسلم : " فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ " بيان لأثر الإخلاص في قبول العمل ؛ فالعمل إذا لم يكن لله تعالى ، فهو لما كان له حسب قصد فاعله ؛ وليس له عند الله تعالى من أجر ؛ وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ ؛ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ ؛ قَالَ : كَذَبْتَ ! وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ ، فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ؛ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ ؛ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ ، قَالَ : كَذَبْتَ ! وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ ، فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ؛ وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ ، قَالَ : كَذَبْتَ ! وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ ، فَقَدْ قِيلَ ؛ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ "[SUP] [3] [/SUP].
ولابد من تحقيق النوعين في العبادة [ إخلاص التوحيد ، وإخلاص العمل ] ؛ فالعبادة بدون الإخلاص صورة عبادة ، وليست عبادة على التحقيق ؛ رزقنا الله تعالى الإخلاص في النية والقول والعمل ، بمنِّه وكرمه ، إنه جواد كريم ... وللحديث صلة .

[1] انظر موعظة المؤمنين : 444 .

[2] البخاري ( 1 ) ، ومسلم ( 1907 ) .

[3] مسلم ( 1905 ) ؛ ورواه الترمذي ( 2382 ، والنسائي ( 3137 ) ، وغيرهم .
 
هذا الإخلاص هو الذي به يحصل الطبيب المسلم والطبيبة المسلمة على عظيم الأجر من الله تعالى ، مع ما أخذا من المال مقابل تطبيبهما ؛ إذ الإخلاص - كما تقدم - شرط في قبول العمل ، والذي بالتالي يترتب عليه الأجر ؛ فإذا فقد هذا الإخلاص ، فليس له إلا ما أخذ مقابل تطبيبه ؛ فحظه إذًا قليل زائل من مزاولة مهنة يرجى من مزاولتها أجر أعظم : جنات عرضها السماوات والأرض .
هذا الإخلاص إذا رزقه العبد الطبيب كان خيرًا له من الترقي والعلاوات والدرجات الأكاديمية أو الطبية ؛ مع أن الله تعالى سيجعل له من كل ذلك نصيبًا مباركًا فيه ؛ وأين هذه الأدبيات أو الماديات من نعيم لا ينفد ، وقرة عين لا تنقطع ؟
هذا الإخلاص هو الذي يجعل الطبيب المسلم والطبيبة المسلمة يحتسبان الأجر في زيارة المريض قبل أن يعالجاه وأثناء علاجه وبعد ذلك إن كان يحتاج إلى زيارة ؛ وإن كانا مرهقين أو متعبين جراء عمل دائم ، أو شغل فكري ، أو هم قلبي لا ينفك عنه إنسان في معترك الحياة ... إنه يعامل الله تعالى قبل أن يعامل البشر ، ويخاف الله تعالى قبل أن يخاف ملاحظة رئيسه أو ملامة مريضه ؛ وفوق ذلك فإن المسلم الطبيب يعلم ما في زيارة المريض من الأجر ؛ فإذا أحسن النية وجرد العمل لله تعالى ، فكم يؤجر مع أداء عمله وتكرار زياراته لمرضاه ؟ إنه أجر لا يعلمه إلا الله تعالى ؛ وهاك بعض ما ورد في فضل عيادة المريض :
1 – روى الترمذي وابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ نَادَاهُ مُنَادٍ : أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ ، وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا "[SUP][1] [/SUP].
2 - وروى مسلم عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ " قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا خُرْفَةُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : " جَنَاهَا "[SUP] [2][/SUP] ، أي : ما يجتنى منها ، بيان لما في ذلك من الأجر والفضل .
3 – وروى أبو داود والترمذي وابن ماجة عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا غُدْوَةً إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ ، وَإِنْ عَادَهُ عَشِيَّةً إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ "[SUP][3][/SUP].
فعندما يذهب الطبيب في جولته على أقسام المستشفى ، أو على القسم الذي يعالج فيه مرضاه ؛ يستحضر في قلبه نية عيادة المريض ومتابعته ابتغاء وجه الله تعالى ، فإذا دعا له ببعض ما ورد من الأدعية عن رسول الله في ذلك ؛ فله أجر آخر ، ولعله بذلك - أيضًا - يأخذ أجرًا ثالثًا بنية أخرى ، وهي اتباع سنة النبي في عيادة المريض بالدعاء له ، وأجرًا رابعًا إن نوى بذلك نشر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأجرًا أعظم من هذا وهو أجر الدعوة إلى الله تعالى وتذكير المريض بربه - إذا نوى ذلك – وإن لم يقم بشيء من وعظ .
إنها أجور متراكبة متضاعفة لمن يحسن التعامل مع ربه ، ويخلص له النية في عمله ، ويحتسب الأجر عنده تعالى .... لعلى أقرأ الآن في عقلك وقلبك : كم ضيعنا من أجور ؟
وإني لأقول – جازمًا – ما عمل أحد بهذه الروح وعظم ذلك عنده ؛ إلا هان عليه كل تعب يمكن أن يلاقيه في عمله .. إنها الجنة .. وإنها سلعة غالية .... وللحديث صلة .

[1] الترمذي ( 2008 ) ، وابن ماجة ( 1443 ) .

[2] مسلم ( 2568 ) .

[3] أبو داود ( 3098 ) ، والترمذي ( 969 ) وحسنه ، وابن ماجة ( 1442 ) .
 
هذا الإخلاص يتجدد في قلب المسلم الطبيب والمسلمة الطبيبة ، ولا يمنعهما من تذكر هذا الأجر العظيم ، واستحضار النية دائما ، ومراقبة القلب وتصفيته ، تلك الممارسة اليومية والعمل الدؤوب .

بل لا تجد من كان هذا حاله متذمرًا من استقبال أية حالة طارئة والقيام بالواجب نحوها وإن كان في آخر دوامه العملي - كما نرى من بعض الأطباء - بل نجده مستعدًا أن يعمل حتى خارج حدود الدوام - ولو من غير مقابل - لا سيما في الحالات الطارئة أو في حالات الأزمات والكوارث مثلاً ... إنه يرجو الأجر والفضل من الله الكريم .

هذا ليس له علاقة بشرف المهنة وأخلاقياتها فقط - كما يردد البعض - بل هو مسلم يعبد الله تعالى بممارسة هذا المهنة ، ويرجو ما عند الله بعمله .

فلو أن امرأة مسلمة استشارية أو طبيبة نساء وولادة - مثلا - انتهت نوبتها ؛ وفوجئت بوصول حالة طارئة إلى المستشفى ؛ امرأة فاجأها المخاض وأوشكت أن تلد ، ولا يوجد إلا أطباء رجال ؛ فيجب عليها شرعًا أن تبقى وتقوم بتوليد هذه المرأة ، فالمسلمة الطبيبة هاهنا تحتسب الأجر - وإن كانت مجهدة وتريد أن تذهب إلى بيتها - فيدفعها إخلاصها لله تعالى أن تعمل خارج النوبة حتى لو كان دون مقابل ؛ وكم لها من الأجر على هذا العمل الجليل .

إنها أعمال تكتب في صحائف الأعمال يزينها الإخلاص وينيرها الاحتساب ، فعندما يلقى الله أصحابُها تثقل موازينهم ، ويأخذوا كتبهم بأيمانهم ، وينادي أحدهم أهل الموقف : { هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ . إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ . فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ . فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ . فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ . قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ . كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } [ الحاقة : 19- 24 ] .



 
العلم والفقه
إن مهمة الطبيب حفظ صحة الجسد ، أو محاولة إعادتها إن اعتل الجسد ؛ وهذا الحفظ إنما هو لخدمةِ القلب ؛ فما فائدة صلاح الجسد إذا فسد قلب صاحبه ، وأي نجاةٍ له في أُخراه إذا ما كان حرصه في دنياه على سلامة اللحم والجلد والعظم مع غفلةٍ عما جُعل الجسد وعاءً له ؟
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ... أتطلب الربح مما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها ... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
وإن كان القرآن العظيم قرر مرض البدن ونبَّه إلى مراعاته ، كما في قوله تعالى : ] وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [ [ المائدة : 6 ] ، وقوله : ] فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [ [ البقرة : 184 ] ، وقوله : ] فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [ [ البقرة : 196 ] ، لكن هذا القرآن العظيم لم يقف عند حد البدن ؛ بل نبَّه إلى أمراض أخطر هي أمراض القلوب ، والتي تنقسم - كما نبه ابن القيم رحمه الله - إلى مرض شُبهة كما في قوله تعالى : ] فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [ [ البقرة : 10 ] ، ومرض شهوة كما في قوله تعالى : ] فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [ [ الأحزاب : 32 ] .
فليس بطبٍ حقًا - كما يقول د. وسيم - ذاك الذي يتعهد الأبدان والأوزان والأحجام فحسب ؛ وليس بطبيب حقًا ذلك الذي يراعي القلب من حيث إنه عضلة ، والعين من حيث إنها آلة إبصار ، والأذن من حيث إنها آلة سمع ، ونحوه ؛ وإنما الطبيب حقًا الذي يحافظ على هذه الوسائل وقايةً لصاحبها من أن ينتهي به المطاف إلى مثل قوله تعالى : ] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [ [ الحج : 46 ] .ا.هـ .
هذا أول فهم الطبيب المسلم ؛ ولذا فيجب عليه نوعان من العلوم ؛ الأول ما يتعلق بالطب ، إذ أصبح في حقه من فروض الأعيان ؛ والثاني ما يتعلق بفقه الإسلام عقيدة وشريعة ، وخاصة المسائل الشرعية المتعلقة بممارسته للطب ، فقد أصبح ذلك في حقه - أيضا - من فروض الأعيان ؛ الذي يأثم بالتقصير في تحصيله .
 
حتى لا يضل العقل
إن المسلم الطبيب والمسلمة الطبيبة لابد أن يتحلَّيا - مع العلم الطبي - بالفقه والعلم الشرعي ؛ ليستقيم القلب ، ولا يضل العقل ؛ ولينتج هذا التزاوج طبًّا حقيقيًّا نافعًا للبشرية .
إن أهم ما يجب على الإنسان حفظه هي عقيدة التوحيد التي هي سبب نجاته في الدنيا والآخرة ؛ ثم حفظ مقتضى توحيده ، وهو القيام لله تعالى بالعبودية كما أمر ، لا يشغله عن ذلك شاغل .
وهاهنا كلام جميل للدكتور طبيب وسيم فتح الله قال : إن صيانة عقيدة التوحيد هي غاية حفظ الروح والبدن ، وما تعهُد البدن بالعلاج والطب إلا تعهدٌ للمحل الحافظ لتلك الروح الطيبة إن شاء الله ، ولهذا تجد الشريعة الإسلامية حريصةً على تطهير وتخلية قلب المكلَّف من الاعتقادات الفاسدة التي قد تتسرب إليه حين الابتلاء بالمرض ، تأمل كيف جاءت نصوص الشريعة لدفع توهُّم النفع والضر فيما عدا الله عز وجل ، ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لَا عَدْوَى ، وَلَا طِيَرَةَ ، وَلَا هَامَةَ ، وَلَا صَفَرَ "[SUP][1][/SUP]؛ ولئن كان الأمر في الأمس القريب يتعلق بنفي الطيرة والشؤم وتحريم الاستعانة بالجن والكَهَنة ؛ فإن الأمر اليوم ربما خرج عن تلك الطلاسم والطقوس المشبوهة إلى لبوسٍ جديد اسمه النظريات العلمية ، تلك النظريات التي تطعن في صُلب العقيدة ، وتتخذ من الطب والعلوم التجريبية مطيةً لترويج إفكها ، فإذا بقول الله تعالى : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ الزمر : 62 ] ، يعارضه أقوام بنظريات النشوء والارتقاء الفاسدة عقلاً ونقلاً ؛ وإذا بتوحيد الربوبية الذي لم يتجرأ الإنسان في القديم على جحوده أو إنكاره يصبح مثار فتنٍ وتدليس عند من يصر على استعمال لفظ ( الخلق ) في التدليل على كشفٍ أو سبقٍ علمي كالاستنساخ ونحوه ، ولعمر الحق إن الطبيب المسلم اليوم أحوج ما يكون إلى التسلح بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } [ الحج : 73 ] ، إي ورب الكعبة ، ضعف الطالب والمطلوب ، فكلاهما في مشهد الخلق حقير ، وأمرهما عند بارئهما يسير ، وفي الحديث عَنْ بُسْرِ بْنِ جَحَّاشٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَصَقَ يَوْمًا فِي كَفِّهِ ، فَوَضَعَ عَلَيْهَا أُصْبُعَهُ ؛ ثُمَّ قَالَ : " قَالَ اللَّهُ : ابْنَ آدَمَ أَنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ ؟ حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ قُلْتَ : أَتَصَدَّقُ ! وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ ؟ " [SUP] ( [2] ) [/SUP] ، ألا فليعلم الإنسان قدره ، وليعلم أنه مهما أوتي من علم ومن قدرة فإنما هو فيض فضل الله تعالى ورحمته .
واعلم أيها الطبيب المسلم أن التسلح بهذه النصوص والثوابت العقدية هو الكفيل بإذن الله تعالى بالتنبه إلى كل دسيسة وفتنة يروج لها أتباع إبليس ، سواءٌ أكانت التصريح أو التلميح إلى قِدم العالم [SUP]( [3][/SUP] ) ، أو إلى أن الإنسان يخلق كخلق الله ، تعالى الله عن ذلك ، أو أن النفع والضر بيد غير الله سبحانه وتعالى ، ألا فلتعلم مقام الأسباب من المسببات ، ولتعلم أن الكل من الله ، وأن ما من سبب وُجد مسببه إلا والله خالقهما ، قال تعالى : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 96 ] ، وإن واجب الطبيب المسلم اليوم أن يَقعد لهؤلاء كل مرصد ، ويترقب لهم كل سهم تصوبه قوس الإلحاد إلى عقيدة التوحيد في صدر الأمة ؛ وليس المقام مقام تفصيل وإنما هو مقام تنبيه على خطورة الغفلة عن هذه الأخطار وضرورة التصدي لها .ا.هـ[4].

[1] - البخاري ( 5757 ) ، ومسلم ( 2220 ) ؛ وقوله : ( لَا عَدْوَى ) الْمُرَاد بِهِ نَفْي مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَزْعُمهُ وَتَعْتَقِدهُ أَنَّ الْمَرَض وَالْعَاهَة تَعَدَّى بِطَبْعِهَا لَا بِفِعْلِ اللَّه تَعَالَى ؛ وَالطِيَرَةَ : التَّشَاؤُم ؛ وقوله : ( وَلَا هَامَة ) فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدهمَا أَنَّ الْعَرَب تَتَشَاءَم بِالْهَامَةِ ، وَهِيَ الطَّائِر الْمَعْرُوف مِنْ طَيْر اللَّيْل وَقِيلَ : هِيَ الْبُومَة ؛ قَالُوا : كَانَتْ إِذَا سَقَطَتْ عَلَى دَار أَحَدهمْ رَآهَا نَاعِيَة لَهُ نَفْسه ، أَوْ بَعْض أَهْله ، وَهَذَا تَفْسِير مَالِك بْن أَنَس ؛ وَالثَّانِي أَنَّ الْعَرَب كَانَتْ تَعْتَقِد أَنَّ عِظَام الْمَيِّت - وَقِيلَ : رُوحه - تَنْقَلِب هَامَة تَطِير ؛ وَهَذَا تَفْسِير أَكْثَر الْعُلَمَاء ، وَهُوَ الْمَشْهُور . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمُرَاد النَّوْعَيْنِ ، فَإِنَّهُمَا جَمِيعًا بَاطِلَانِ ، قاله النووي ؛ وأما الصفر ، فقيل : ديدان تَكُون فِي الْبَطْن تُصِيب الْمَاشِيَة وَالنَّاس ، وَهِيَ أَعْدَى مِنْ الْجَرَب عِنْد الْعَرَب ؛ فَعَلَى هَذَا فَالْمُرَاد بِنَفْيِ الصَّفَر مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ فِيهِ مِنْ الْعَدْوَى ؛ وقيل : الْمُرَاد بِهِ شَهْر صَفَر ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَب كَانَتْ تُحَرِّم صَفَر وَتَسْتَحِلّ الْحُرُم ؛ فَجَاءَ الْإِسْلَام بِرَدِّ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ ، ذكرهما ابن حجر في ( الفتح ) .

1 – أحمد : 4 / 212 ، وابن ماجة ( 2707 ) وإسناده صحيح . ورواه البخاري في الكبير : 2 / 123 ، وابن سعد في الطبقات : 7 / 427 ، والطبراني في الكبير : 2 / 32 ( 1193 ) ، والحاكم : 2 / 502 ، 4 / 323 وصححه ، ووافقه الذهبي . والبيهقي في الشعب ( 3473 ) . تنبيه : اختلف في اسم الصحابي فقيل بسر ، وقيل بشر .

[3] - قال د. وسيم : وهو ما يحاول البعض ترسيخه في قلوب الناس من خلال ذكر أحقاب زمنية خيالية ، فيقول لك : إنه قبل مائة مليون سنة ، أو مليون مليون سنة كانت البكتريا على نحو كذا ، ثم تطورت إلى كذا وكذا ، فإن استخدام هذه الأحقاب الزمنية طريق إلى ترسيخ قِدم العالم ، وبالتالي نفي خالقية الله تعالى لهذا الكون .ا.هـ . فتأمل .

[4] - انظر كتابه ( حلية الطبيب المسلم ) .
 
ولكي يقوم المسلم الطبيب والمسلمة الطبيبة بحفظ جناب التوحيد ؛ فعليهما :
أولا أن يكونا على يقين بأن عملهما ليس إلا مجرد سبب ، وأن الأمر بيد الله عز وجل ، فقد يلتمس الإنسان سببًا تامًا ولكن لا يحصل له الأثر المترتب عليه ، لأن الأمر - حقيقة - ليس في السبب ، إنما هو بمشيئة الله تعالى ، فإن شاء الله وصل السبب بنتيجته فوجد الأثر ، وإن شاء لم يصله ، فامتنع الأثر ، فقد يتخلف الأثر لوجود مانع ؛ فالطبيب وإن كان حاذقًا مخلصًا في تطبيبه ؛ فقد يتخلف أثر عمله عما يريده ، فليعلم أن الأمر بيد الله U ؛ ومثال ذلك أنه قد يأتيه مريضان أعراض مرضهما واحدة ، وقد شخَّص لهما المرض ووصف لهما الدواء ، فإذا بأحدهما قد عجل له الشفاء ، والآخر قد تأجل قليلا أو كثيرًا .. فالأمر لله وحده ، وله في ذلك الحكمة البالغة .
والأمر الثاني : يجب عليهما ألا يغترا بالنظريات العلمية التي تخرج بين الفينة والفينة - ولم تصل بعد إلى أن تكون حقيقة علمية - فيسارعوا بالأخذ بها ويردوا ما يمكن أن تخالفه من النصوص الشرعية التي هي وحي لا يحتمل التكذيب ؛ وليعلموا - يقينًا - أنه لا يمكن أن يخالف اكتشاف علمي حقيقي نصًّا شرعيًّا ؛ إذ خالق الكون وأسبابه هو الله تعالى الذي أوحى من شرعه ما أوحى ، فلا يمكن أن يكون هناك أبدًا تضاد بين نص شرعي صحيح وبين حقيقة علمية مكتشفة ؛ إذ الكون كونه والأمر أمره جل جلاله : { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 54 ] .
قال ابن القيم رحمه الله في ( مدارج السالكين ) : أفيظن المعرض عن كتاب ربه وسنة رسوله أن ينجو من ربه بآراء الرجال ، أو يتخلص من بأس الله بكثرة البحوث والجدال وضروب الأقيسة وتنوع الأشكال ، أو بالإشارات والشطحات وأنواع الخيال ؟!
هيهات واللهِ ؛ لقد ظن أكذب الظن ، ومَنَّتُهُ نفسه أبين المحال ، وإنما ضُمنت النجاة لمن حكَّم هدى الله على غيره ، وتزود التقوى ، وائتم بالدليل ، وسلك الصراط المستقيم ، واستمسك من الوحي بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ، والله سميع عليم [[1.
والأمر الثالث : يجب عليهما أن يعلما أن شرع الله المطهر ( الإسلام ) الذي ارتضاه الله دينًا لعباده - وإلى قيام الساعة - هو حاكم على كل أفعال العباد وأقوالهم ؛ فأي خبر إذا تعارض مع ما هو مقطوعٌ به شرعًا لم يُقبل ، كائنًا من كان قائله .
هذه قاعدة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل بأي زعم من المزاعم ؛ وعلى المسلم الطبيب والمسلمة الطبيبة أن يراعيا ذلك في حياتهما وفيما يمارسانه من مهنة الطب ؛ وعليهما الرجوع إلى أهل العلم فيما عنَّ لهم من مسائل شرعية تشكل عليهما ، لرفع الإشكال وإزالة اللبس .
فمن الثوابت الشرعية مثلا : تحريم اللواط ، وهذا التحريم تكليف ، والقاعدة في الأصول أن التكليف بما لا يطاق ممتنع ، استنادًا إلى قوله تعالى : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] ، فإذا جاء خبرٌ عن دراسة أو بحث أو كشف منسوبٍ للعلم يزعم أن اللواط أمر طبيعي ، ولا يمثل إلا مظهرًا من مظاهر التعبير الطبيعي عن الميول الجنسية الغريزية للإنسان [2] رُدَّ هذا القول جملةً وتفصيلاً ، وتأمل معي قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ . مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } [ هود : 82 ، 83 ] ؛ وهل يعذب الله تعالى بهذا العذاب البئيس أناسًا يعبِّرون عن ميولهم الجنسية تعبيراً طبيعيًّا ؟ كبُرت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا .ا.هـ[SUP][3][/SUP].

والأمر الرابع : عليهما أن ينهجا المنهج العلمي الصحيح في قبول ما يسمى بالنظريات العلمية أو الاكتشافات الطبية ؛ وهو - كما يقول د. وسيم - قائمٌ على عدم إغفال جهةٍ على حساب الأخرى ، فلا يؤدي إعمال دليل الحس والمشاهدة التجريبي إلى إغفال دليل النقل الشرعي ؛ كما لا يؤدي سوءُ فهم ما وصل بطريق النقل الشرعي إلى تعطيل ما سخره الله تعالى لنا بطريق الحس والمشاهدة العقلي ، بل يُنزل كلاً منهما منزلته ، بلا إفراط ولا تفريط ، ويجمع بين مقام : { سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } [ البقرة : 32 ] ، ومقام : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } [ البقرة : 29 ] ، وبهذا المنهج يدرك الطبيب المسلم الحدود التي يقف عندها العلم التجريبي ، فلا يُقحمه في الروحانيات والغيبيات ؛ كما يدرك قيمة ما أظهره الله تعالى لنا من غيبيات عن طريق الوحيين - الكتاب والسنة - فلا يؤدي جهله بها إلى استهتاره واستهزائه بها والعياذ بالله ؛ ويدرك - أيضًا - أن طريق التجربة - مهما كان - فإنه لا يرتقي إلى مصافِّ القطعيات الشرعية ، فيركن مطمئنًا إلى تلك القطعيات ، ويحذر من أن يؤتي من قِبل سوء الفهم ؛ وكلما بدا له تصادم أو تناقض الشرع مع العقل ، اتهم عقله ولم يتهم النص الشرعي البتة ؛ اللهم إلا من جهة سوء فهمه ، وإنما مَردُّ ذلك إلى عقله ، فكانت التهمة منصرفةً إلى العقل دومًا بلا ريب ؛ وانظر كيف قرر النبيصلى الله عليه وسلم هذا الأصل العظيم ؛ فقد روى الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ ؛ فَقَالَ : " اسْقِهِ عَسَلًا " ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ ، فَقَالَ : " اسْقِهِ عَسَلًا " ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ ، فَقَالَ : " اسْقِهِ عَسَلًا " ثُمَّ أَتَاهُ ، فَقَالَ : قَدْ فَعَلْتُ ، فَقَالَ : " صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ ؛ اسْقِهِ عَسَلًا " فَسَقَاهُ فَبَرَأَ ؛ وفي رواية : " إِنِّي سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا " [SUP]( [4] ) [/SUP]، فهذا موقفٌ تعارض فيه ظاهر الحس مع ظاهر الشرع ، فرده النبيُ صلى الله عليه وسلم إلى النص ، لأنه من الله عز وجل ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولقد نبه ابن قيم الجوزية - رحمه الله - على أن هذا الحديث يدل على ضرورة أن يكون المريض محلاً قابلاً لهذا الدواء الشرعي ، وأن يكون مُوقنًا به ، وإلا فإنه لن يجد فائدته .
والحاصل أن الشريعة وإن لم تكن موضوعة في الأصل لفن الطب ، إلا أنها لما كانت موجهةً لطب القلوب ومعافاتها كان للبدن الحاوي لتلك القلوب نصيبٌ من العناية ، وكان حريًّا بالطبيب المسلم أن يكون ملمًّا بما جاءت به الشريعة والهدي النبوي من توجيهات منثورة هنا وهناك تحفظ للأبدان عافيتها ، كما تحفظها للقلوب ، ثم إن على الطبيب المسلم أن يُنزل هذا الهدي النبوي منزلته اللائقة ، فيدرك ويوقن ارتقاءها فوق ما تأتي به التجارب والمشاهدات الحسية التي لا تخلو من خطأ أو احتماله ، ولقد ذكر ابن قيم الجوزية - رحمه الله - كلامًا نفيسًا في هذا المعنى حيث قال : ونبين أن نسبة طب الأطباء إلى هذا الطب النبوي كنسبة طب الطُرُقية والعجائز إلى طبهم ، كما اعترف به حُذاقهم وأئمتهم[SUP][5][/SUP] ؛ وإن فهم هذا يسيرٌ عند من يدرك أن طب العجائز والطرقية قوامه الجهل ، وأن طب الطبائعيين قائم على الحس والمشاهدة والتجربة الذي يتطرق إليه الاحتمال ، وأن طب النبوة قائم على الوحي المعصوم ؛ فحصل من الاطمئنان إلى هديه صلى الله عليه وسلم في الطب أضعاف أضعاف ما حصل من الاطمئنان إلى طب الطبائعيين نسبة لطب العجائز ؛ فتأمل .... وللحديث صلة .

[1] - انظر ( مدارج السالكين ) : 1 / 6 ( دار الكتاب العربي – بيروت ) .

[2] - قال د . وسيم : لقد تولى كِبَرَ هذا الزعم باحث اسمه دين هامر من المعهد القومي للصحة في الولايات المتحدة الأمريكية في بحث نشره عام 1993 وزعم فيه أنه اكتشف وجود ارتباط مورثي على الصبغي ( X ) يؤهب للميول الجنسي المثلي عند الذكور ؛ ثم قامت دعوى كشفت وجود بعض التحريف في معطيات البحث بما يغير من نتيحته ، وتشكل فريق من لجنة التحقق من نزاهة البحث العلمي وطوي الأمر من جهة التحقيق ، ولم يطوَ هذا الإدعاء الزائف وإن كانت عدة بحوث وراثية علمية أخرى قد عارضت ما زعمه من نتائج .

[3] - هذه الفقرة مقتبسة من كتاب د . وسيم فتح الله ( حلية الطبيب المسلم ) مع شيء من الاختصار والتصرف في اللفظ .

[4] - البخاري ( 5684 ، 5716 ) ، ومسلم ( 2217 ) .

[5] - انظر ( زاد المعاد ) : 4 / 37 .
 
ولما كان علم التجربة والمشاهدة مقتصرًا في أوليته على ما يشهده الباحث والمجرِّب ، ومن ثمَّ يكون نشره قائمًا على أساس النقل ، كان منهج التحري الدقيق لما يزعم نسبته إلى العلم قائمًا على تحري أمانة النقل وصحة الدليل .
وإنما تعرف صحة النقل بأمانة الناقل ونزاهته ، وتعرف صدق الدعوى بالنظر فيما أقيم عليها من حجج ؛ فلا تكن أيها الطبيب المسلم أسير المجلة العلمية الفلانية أو الهيئة الطبية الفلانية ، تأخذ مقولاتها بغثِّها وسمينها ، ولا تميز ضارها من نافعها ، فليس كون المجلس الطبي أو العلمي منتسبًا إلى الشرق أو الغرب هو دليل الصحة والأمانة ، بل اجعل منهجك قول الحق : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [ الزمر : 18 ] .
وأُحذرك - أيها الطبيب المسلم - من أن تكون حاطبَ ليلٍ ، أو زاملةَ أخبارٍ لا تميز حقًّا من باطل ، فتُروِّج على المسلمين ما يوافق هوى الأعداء متلبسًا بلبوس العلمِ ، والعلمُ منه براء ؛ فحذار أن تغرك ترهات فرويد ، وحذار أن يغرك كذب داروين ، وحذار أن تصدق دعاوى سلامة الفكر الشذوذي[SUP] [1][/SUP] بحجة دراسة علمية مزعومة ، وتذكَّر قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا ، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ "[SUP] [2][/SUP] ... وللحديث صلة
[1] أي الشذوذ الجنسي الذي يروج له المجرمون بحجة أنه سلوك بشري طبيعي ، عليهم من الله ما يستحقون .

[2] البخاري ( 6477 ) ، ومسلم ( 2988 ) .
 
بقي أن ننبه على أمرٍ مهم يغفل عنه كثيرٌ من الناس والأطباء ، وهو أن مستند الحس والمشاهدة والتجربة في علوم الطب ينطبق على قلةٍ قليلة من الأطباء والباحثين ، وهي القلة التي تقوم بهذه التجارب والأبحاث فعلاً وتباشرها بنفسها ، أما السواد الأعظم من الأطباء وأهل الفن فإنما يتلقون نتائج هذه المشاهدات والتجارب عن طريق النقل ، كما هو معهود من طريق المجلات والدوريات العلمية والمؤتمرات والندوات والمحاضرات ، وغيرها من الوسائل التي هي في حقيقتها وسائط نقل أخبار ، لا وسائط تجربة وحس ومشاهدة ؛ وإذا كان الأمر كذلك فإن التحقق من صحة هذه الأدلة العقلية في أصلها لا يتحقق إلا بأمر من اثنين أو باجتماعهما ؛ أحدهما هو التثبت من نفس الدليل العقلي عبر تكرار التجربة والاستشكاف والتوثق من نتائجها ؛ والثاني هو التحقق من صدق الناقل عبر تحرير صفات الأمانة والعدل التي تمنع الناقل من الكذب فيما يخبر عنه ، فإذا اجتمعت الوسيلتان كان أثبت وأضبط بلا ريب ؛ ولهذا وجب عليك أيها الطبيب أن تكون فطِنًا ، فلا يُغرر بك مقال في مجلة طبية مرموقة ، ولا نتائج بحث تصدره منظمة دولية ، ولا قرارات اجتماع طبي أساسها الرأي المحض ؛ بل اعلم أن كل ما يأتيك خبره من علوم طبية حديثة متجددة فهو خاضع للبحث والتثبت بإحدى الوسائل السابقة ، والحق أن هذا الأمر - أعني التثبت من الأخبار الطبية - يستلزم منا وضع منهج متكامل نعرض عليه ما يردنا من أخبار في هذا المجال لنحكم عليه بالصحة أو القبول المبدئي أو الرفض .
فعلى الطبيب المسلم أن يحرص على تحقيق الموازنة في تحصيل ما يحتاجه من العلوم الشرعية والعلوم الكونية في سياق مهنته الطبية ، فلا يؤدي الانشغال بعلوم الشريعة الخاصة إلى العزوف عن العلوم التجريبية الضرورية لصيانة صحة المريض ، كما لا يؤدي الإغراق في ما لا طائل منه والانكباب الكلي على العلوم الطبية التجريبية إلى الزهد في رصيد الهدي الشرعي العظيم في باب الطب ، بل يعطي كل علمٍ حقه ويضعه موضعه دون إفراط ولا تفريط ، ودون الخلط بين ما يصلح في مقام مع ما يصلح في مقامٍ آخر ، وليعلم أنه مؤاخذٌ شرعًا عندما يؤدي تفريطه في ضبط علوم المهنة الخاصة إلى إلحاق الضرر بالمريض أو ربما تفويت المصلحة الأكمل له ، فمنزلة الطبيب المسلم من صحة مريضه كمنزلة الوصي في مال اليتيم ؛ فلا يكفيه حسن النية في حفظه ، بل لا بد من أن يجتهد في تحصيل أسباب حماية المال وتنميته وحفظه من الضياع .
ولكن تبقى لمسألة العلاقة بين النقل والعقل أهميةٌ خاصة لمن عزم على هذه الانطلاقة - أعني الاستكشاف العقلي التجريبي - ألا وهي دور النقل في وضع ضوابط وحدود البحث والتطبيق العقليين ؛ فلا يجاوز حدود الحلال إلى الحرام ، ولا يأتي بمنهجٍ أو طريقٍ علاجي يعارض أوامر الشرع أو يقارف مناهيه ؛ تأمل معي ما ورد في صحيح مسلم أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ ، أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا ؛ فَقَالَ : إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ ؛ فَقَالَ : " إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ "[SUP] [1] [/SUP]، وذكر البخاري في صحيحه بتعليقٍ جازم أن ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ فِي السَّكَرِ : إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ [SUP][2] [/SUP]؛ وروى ابن أبي شيبة والطبراني عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ : اشْتَكَى رَجُلٌ مِنَّا فَنُعِتَ لَهُ السُّكْرُ ، فَأَتَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ ( يعني ابن مسعود ) فَسَأَلْنَاهُ ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ عز وجل لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ[SUP] [3] [/SUP]؛ وَلِجَوَابِ اِبْن مَسْعُود شَاهِد آخَر أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان مِنْ حَدِيث أُمّ سَلَمَة قَالَتْ : اِشْتَكَتْ بِنْتٌ لِي فَنَبَذْتُ لَهَا فِي كُوزٍ ، فَدَخَلَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَغْلِي ، فَقَالَ : " مَا هَذَا ؟ " فَأَخْبَرْته ، فَقَالَ : " إِنَّ اللَّه لَمْ يَجْعَل شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ "[SUP] [4] [/SUP].
والشاهد من هذه النصوص أن على الطبيب المسلم أن يلتزم في منهج البحث العلمي التجريبي أمرين؛ أحدهما الانطلاق من قواعد الشرع الثابتة فلا يتقحم الحرام ابتداءً ، وثانيهما أن ما قد يتوهمه البعض من وجود الشفاء في المحرمات ليس إلا وهمًا باطلاًَ ، لما تقدم من أن الله تعالى لم يجعل الاستشفاء المباح في ما منعته الشريعة من الحرام ؛ وإلا كان هذا تناقضًا من جهة الشارع ، وهو ممنوع قطعًا ؛ والنكتة في المسألة أن تعلم أن ما قد يُتصور من نفع طبي في مادةٍ محرمة قد تكون موجودة في الواقع وفي نفس الأمر ، ولكنها تُعتبر مصلحة أو منفعة ملغاة بحكم الشرع ؛ فلا يُلتفت إليها ، أي : إن وجودها وعدمها سواء ، ودليل هذا قوله تعالى في الخمر والميسر : ] فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [ [ البقرة : 219 ] ، فالنص يثبت وجود منفعة يسيرة ولكنها ملغاة[5]؛ ومعلوم أن حكم الشرع قد استقر على تحريمهما ، فلم تلتفت الشريعة إلى هذا النفع اليسير ، وأسقطته من الاعتبار .
هذه الضوابط كما تنطبق على وسائل الاستشفاء فإنها تنطبق – أيضًا – على النظريات الطبية ، فلا يمكن قبول نظرية طبية تصادم النصوص الثابتة ، ولا يمكن جعل هذه النظريات منطلقًا لأي منهج علاجي البتة .
ولعل من المناسب في هذا المقام أن نشير إلى بعض النماذج التطبيقية للخلل الناجم عن عدم الانضباط بضوابط الشرع في مجال الوقاية والعلاج والنظرية والبحث الطبي ؛ فأما أنموذج الوقاية فمنه ما تروجه بعض الدوريات الطبية من نتائج أبحاث تشير إلى دورٍ وقائي للخمر من بعض الأمراض ؛ وأما أنموذج العلاج فمنه إيهام الأطباء والناس عمومًا أن علاج مصيبة الأمراض المنتشرة جنسيًا يكون بتحسين وسائل الاتصال الجنسي المحرم ، ومعالجة آثاره بالعقاقير دون الالتفات إلى العلاج الجذري لهذه المصائب ؛ وأما في مجال النظرية العلمية فحسبك فضائح الفرويدية ، وفضائح المؤصلين للشذوذ الجنسي باعتباره ( سلوكًا بشريًّا طبيعيًّا ) – خابوا وخسروا ؛ وأما في مجال البحث الطبي فها نحن نسمع ونرى كل يوم ما تتفتق به عقول ومختبرات القوم ممن لا ينضبطون بحدٍ شرعي ، ولا يقفون عند حدٍ في أبحاثهم ، فمِن استنساخ جنينٍ بشري ، إلى التلاعب بمورثات الأجنة ، إلى استئجار الأرحام وهكذا .
ولا يخالنَّ أحد أن مقصودنا الحجر على البحث العلمي .. كلا ، بل المقصود الانطلاق من قواعد علمية سليمة - بما في ذلك القواعد العلمية الشرعية - والانضباط بحدود المباح والمشروع ، حتى لا نواجَه بنوازلَ فقهية وانحرافاتٍ تطبيقية ، ثم نتهافت على دور الفتوى بحثًا عن مخارج فقهية لنوازل غريبة عن عقيدتنا ومنهجنا وشريعتنا [SUP][6][/SUP] .ا.هـ .

[1] - مسلم ( 1984 ) ، ورواه أبو داود ( 3873 ) ، والترمذي ( 2046 ) ؛ وقال النووي في ( شرح مسلم ) : هَذَا دَلِيل لِتَحْرِيمِ اِتِّخَاذ الْخَمْر وَتَخْلِيلهَا ، وَفِيهِ التَّصْرِيح بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ فَيَحْرُم التَّدَاوِي بِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ ، فَكَأَنَّهُ يَتَنَاوَلهَا بِلَا سَبَب ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا أَنَّهُ يَحْرُم التَّدَاوِي بِهَا ، وَكَذَا يَحْرُم شُرْبهَا لِلْعَطَشِ ، وَأَمَّا إِذَا غَصَّ بِلُقْمَةٍ وَلَمْ يَجِد مَا يُسِيغهَا بِهِ إِلَّا خَمْرًا فَيَلْزَمهُ الْإِسَاغَة بِهَا ؛ لِأَنَّ حُصُول الشِّفَاء بِهَا حِينَئِذٍ مَقْطُوع بِهِ بِخِلَافِ التَّدَاوِي . وَاللَّهُ أَعْلَم .

[2] - صحيح البخاري – كتاب الأشربة ( باب شراب الحلواء والعسل ) .

[3] - رواه ابن أبي شيبة ( 23492 ) ، والطبراني في الكبير : 10 / 345 ( 9714 : 9716 ) ، والحاكم ( 7509 ) وصححه .

[4] - أبو يعلى ( 69666 ) ، وابن حبان ( 1391 ) ، ورواه الطبراني في الكبير : 23 / 326 ( 749 ) .

[5] - هذه المنفعة تتعلق بما كان يعود من ربح على من يتاجر فيها ؛ فأهدرت هذه المنفعة في مقابل المفاسد العظيمة المترتبة على تعاطي الخمر والمتاجرة فيها .

[6] - انظر ( حلية الطبيب المسلم ) بشيء من الاختصار والتصرف والتقديم والتأخير مع بعض الإضافات اقتضاها مقام البيان ؛ وقد أحسن د. وسيم في هذا الفصل ( حلية العلم ) فليرجع إليه ، فإنه مهم .
 
العلم والفقه في الواقع والممارسة
المسلم الطبيب والمسلمة الطبيبة يلزمهما تكاليف شرعية يومية كالوضوء والصلاة مثلا ؛ مما يوجب عليهما تعلم ما يوجب صحة هذه العبادة تحت الظروف الطارئة أثناء ممارستهما لمهنة الطب ؛ فعليهما تعلم أحكام الطهارة وإزالة النجاسات ؛ كما عليهما أن يتعلما أحكام الجمع بين الصلوات ؛ ومتى يجمع ومتى لا يجمع ؟ وهل يمكن التغلب على الظروف الطارئة بحيث إنه يؤدي الصلاة في وقتها أم لا ؟ وماذا لو طال الوقت في إجراء عملية - مثلا - دخل فيها الوقت الثاني للصلاة ، وهو مما لا يجمع فيه بين الصلاة الحاضرة وسابقتها .
كما يجب أن يتعلما أحكام الضرورة التي تقتضيها المهنة ، وأن الضرورة تقدر بقدرها ، وأن الأصل إزالة الضرورة لا التوسع فيها .... وما يتصل بذلك من أحكام تتعلق بممارسة المهنة ؛ وقد وضع علماء الإسلام قواعد تجمع هذا الباب ؛ فالقاعدة العامة : الضَّرَر يُزَال ؛ وَأَصْلُهَا قَوْله صلى الله عليه وسلم : " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ "[SUP] [1] [/SUP]؛ وَيَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوَاعِدُ :
الْأُولَى : الضَّرُورِيَّاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ .
الثَّانِيَةُ : مَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا .
الثَّالِثَةُ : الضَّرَرَ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ
الرَابِعَةٌ : إذَا تَعَارَضَتْ مَفْسَدَتَانِ رُوعِيَ أَعْظَمُهُمَا ضَرَرًا بِارْتِكَابِ أَخَفِّهِمَا .
الخَامِسَةٌ : دَرْءُ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ[SUP] [2] [/SUP].
وأضاف إليها د . محمد بكر إسماعيل : الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف ؛ والاضطرار لا يُبطل حق الغير [3] .
ولا يجوز للطبيب ولا للطبيبة أن يتوسعا في قاعدة الضرورات تبيح المحظورات ، فالنظر إلى عورة المريض للضرورة معتبر في شرع الله ، ويجوز كذلك مس العورة بقدر الحاجة ودون تجاوز ، فمتى انتهى الطبيب من الفحص حرم عليه النظر أو اللمس بعده إلا لضرورة أخرى لاحقة ، تطبيقًا للقاعدة الفقهية : ما جاز لعذر بطل بزواله ..... وللحديث صلة .

[1] - رواه أحمد : 5 / 326 ، 327 ، وابن ماجة ( 2340 ) عن عبادة بن الصامت ، ورواه أحمد : 1 / 313 ، وابن ماجة ( 2341 ) عن ابن عباس ، وله شواهد كثيرة أوردها الألباني في إرواء الغليل ( 896 ) وصحح الحديث .

[2] - انظر الأشباه والنظائر للسيوطي : القاعدة الخامسة .

[3] - انظر ( القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه ) د. محمد أبو بكر إسماعيل – من ص 96 إلى ص 114 .
 
وقد نقل هذه القواعد د. وسيم فتح الله في كتابه ( حلية الطبيب المسلم ) ثم قال : ولسوف أشير دون إطالة إلى نماذج تطبيقية سريعة تبين لك دور هذه القواعد في القرار الطبي العلاجي ؛ فتطبيق قاعدة ( الضرر يُزال ) يدفعك لرفع آثار المرض عن المريض ، في حين إن قاعدة ( الضرر لا يُزال بالضرر ) تمنعك من أن تعالج خرَّاجًا يسيرًا في طرف من الجسم ببتر ذلك الطرف ، أما قاعدة ( الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف ) فتسمح لك إعمال المبضع لشق ذلك الخراج ، مع ما في ذلك من ألم وخرق لأنسجة الجسم ؛ أما إذا تحول الخراج إلى نسيج متموت يضر بالجسم ( كالغرغرينا ) فهنا تطبق قاعدة ( إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما ) فيجوز بتر العضو إذا خيف على باقي الجسد من الهلاك ؛ وهكذا الحال عند مرضى السرطان الذين يحتاجون لأدوية ذات أضرار جانبية شديدة فتحتمل هذه الأضرار لأنها أخف من ضرر السرطان ، وهكذا دواليك ..
وقد يبادرني أحدٌ القولَ بأن هذه الموازنات في القرار الطبي بدهية معروفة وواضحة ، فلماذا نربطها بقواعد فقهية ولماذا نُقحم الشريعة في الطب ؟ والجواب على هذا من أوجه :
أولها : أن كون الأمر بدهي لا يمنع من تقريره بالدليل الشرعي ، لتستقر في عقول الناس ملائمة ديننا الحنيف لفطرة وحاجة الإنسان .
وثانيها : أن بيان تقرير هذه المبادئ في ديننا الحنيف يقي الطبيب المسلم من الانبهار بالمنهجية العلمية الطبية التي قد تكون تطورت على أيدي الكافرين ؛ حيث يدرك أن المبادئ العامة التي تضبط منهجية القرار مستقرة راسخة في ديننا ، فتنقطع مفسدة الانبهار بالكفار ، وناهيك بها مفسدة .
وثالثها : وهو أمر يغفل عنه الكثير من الأطباء المسلمين ، وهو أن الانطلاق من هذه القواعد الفقهية الشرعية في تقرير ما هو أصلح لعلاج المريض يُذكرك باعتبار المصالح والمفاسد الشرعية ، إضافة إلى المصالح والمفاسد الطبية البحتة ؛ بحيث تراعي قدر الإمكان ألا يؤدي القرار العلاجي إلى تفويت مصلحة شرعية أو دينية للمريض أو لغيره ، طالما أن مراعاة هذا الأمر لا تخل بأسباب العلاج والبرء إن شاء الله ، وهذا الاعتبار لا يمكن شهوده عند من لا ينطلق في قراراته من هذه القواعد الفقهية المذكورة ؛ وأورد هنا مثالاً واحدًا يبين أهمية مراعاة المصالح الشرعية في القرار العلاجي :
هب أنك تعالج مريضًا أصيب بكسر في اليد ، وقررت أنه يحتاج إلى جبيرة ، وفي سياق وضع الجبيرة لتثبيت الكسر كان حجم الجبيرة أكثر قليلاً مما يحتاجه الكسر ، فهذه الزيادة القليلة لا تضر من الناحية الطبية ؛ فإذا توقفت عند حدود المصلحة الطبية لم يكن هناك مانع من الإبقاء على هذه الزيادة ، أما لو كنت تخاف الله وتستحضر القواعد الشرعية التي تضبط رفع الضرر ، لعلمت أن هذه الزيادة في موضع الوضوء قد تعطل على المريض طهارته وعبادته ؛ لأن هذه الزيادة ليست موضع رخصة للمسح على الجبيرة ، فلا يجزيه المسح على الموضع الزائد ؛ ولربما تعطلت عبادته شهرًا أو أكثر مدة بقاء الجبيرة ، فلو أنك استحضرت هذا الأمر وراعيت هذه المفسدة الشرعية لاتقيت الله ، ولما أبقيت على القدر الزائد الذي لا حاجة له من هذه الجبيرة .
وهكـذا تتضح أهمية مراعاة الضرر الشرعي إضافة إلى الضرر الجسدي عند اتخاذ القـرار العلاجي ، والأمثلة أكثر من أن تحصر في هذا المقام ، ولكن أردت التمثيل فحسب .ا.هـ[SUP] [1][/SUP] .

[1] انظر ( حلية الطبيب المسلم ) للدكتور طبيب وسيم فتح الله .
 
هذا ؛ ومما يغفل عنه كثير من الناس - والأطباء منهم - واجبات تتعلق بتهذيب النفس والتحلي بمكارم الأخلاق ؛ فليست الأخلاق في الإسلام من مواد الترف بل هي أصل أصيل في هذا الدين ؛ وليعلم كل واحد أن قليل الكبر من الكبائر ، وأن الكذب لا يجوز قليله وكثيره ، وأن المكر والخديعة في النار ، وأن الأمانة مجالها واسع يشمل كل ما في حياة الإنسان ... إلى غير ذلك من الصفات والأخلاق التي لابد أن يتحلى بها المسلم والمسلمة .
كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات على المسلم والمسلمة كل بحسبه ؛ وقد شاع كثير مما يجب النهي عنه في المشافي ودور العلاج ، والله سائلنا عن ذلك ... فهل يغيب هذا عن الطبيب المسلم والطبيبة المسلمة ؟
وهذا كله يحتاجه الطبيب في ممارسته لمهنته كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
وهناك أمر آخر مهم وخطير في حياة الناس ، وهو الشهادة في بعض ما يجري بين الناس من منازعات قد تؤدي إلى إصابات تتعلق بحقوق ، فليجأ إلى أهل الاختصاص من الأطباء للشهادة فيها ، فعليهم أن يكونوا على علم بالشهادة وما يتعلق بها من حقوق الجنايات ، وما يكون في شأن كتمانها أو المغالطة فيها محاباةً لكبيرِ قوم أو صديق ؛ والله تعالى يقول : { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } [ الطلاق : 2 ] ؛ ويقول عز وجل : { وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] ؛ وفي الصحيحين عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ " قُلْنَا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ قَالَ : " الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ " وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ ، فَقَالَ : " أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ " فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا : لَيْتَهُ سَكَتَ[SUP] [1] [/SUP].
إن للمسلم الطبيب والمسلمة الطبيبة شخصية متميزة ، مصبوغة بصبغة الإسلام ؛ فيحكمهما الإسلام في ذاتهما ، كما يحكمهما في معاملاتهما .
إنهما يمارسان أعمالاً لها أحكام شرعية ، إذ لا يوجد في حياة المسلم شيء ليس له حكم في الشريعة ؛ إما واجبًا أو مستحبًا أو محرمًا أو مكروهًا أو مباحًا ، فلا تخرج أعمال المسلم عن هذه الأحكام الخمسة .
فمن هنا كانت أهمية العلم الشرعي للمسلم الطبيب والمسلمة الطبيبة .

[1] البخاري ( 2654 ، 5976 ، 6919 ) ، ومسلم ( 87 ) .
 
خاتمة :
هذا ما يسره الله الكريم المنان في كتابة هذه السطور ؛ وهو مختصر في كثير من جوانبه يحتاج من القارئ أن يرجع إلى مظان موضوعاته من الكتب ليقف على جوانبها ، وإنما أردنا التذكير فكفانا هذا الموجز .
على أنه مما يجب على المسلم الطبيب والمسلمة الطبيبة أن يرجعا إلى أهل العلم الشرعي فيما يعنُّ لهما من إشكالات لرفع اللبس فيها ؛ فهما على ثغر من ثغور الإسلام حقيقة فلا يؤتى الإسلام من قبلهما .
يقول د. وسيم فتح الله : فأنت أيها الطبيب المسلم أعظم دورًا من أن تنشغل برتبٍ وظيفية وترقيات مهنية ، والدور المنوط بك اليوم - كالدور المنوط بإخوانك وأخواتك - أكبر وأعظم من الانشغال بحظوظ النفس وأهوائها ، ولذا عليك أن تلتزم بهذا الرباط وقوامه أمران : رباط علمي ، وآخر عملي .
أما رباطك العلمي فأن تأخذ أنت زمام البحث والتجربة والاستكشاف الصحيح ، ولا تقنع بمجلس المتلقي ، وأن تأخذ على عاتقك مهمة صد الدخيل من سهام الفكر والمعتقد المتلبسة بلبوس العلم ، فتكون حارسًا لمجتمعك المسلم ، تنبه أفراده ومسؤوليه إلى الدس والكيد المغلَّف ، وأن تعيد لكل ذي قدرٍ قدره فتدرك آلية الموازنة الصحيحة بين توجيه الوحي وبين ما سخره الله تعالى من مفردات الكون ونواميسه ، فلا يكون حالك البتة كحال ذلك الهالك : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } [ القصص : 78 ] ؛ ولا يعميك بريق العلم الكوني عن الاعتراف بالمِنة والفضل لواهبه ، حتى لا تكون ممن قال فيهم الله تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [ الروم : 7 ] .
وأما رباطك العملي فأن تستحضر في كل يوم تزاول فيه مهنتك ما أنت عليه من ثغر ، وما هو منوط بك من مسؤولية ، وتجعل من وقتك وجهدك ما هو مصروف للتحصُّن العلمي والتواصل مع إخوانك في المهنة وأهل العلم ، ثم التطبيق العملي لكل ما ذكرنا ، وتذكر أن ميدان عملك المباشر يتمثل في المريض الذي أسلم أمره - بعد الله تعالى - إليك ، ووثق بك وحمَّلك أمانة رعاية جسده الذي هو قالب قلبه ، فارعَ الأمانة - رعاك الله ، وتأمل حديث معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ "[SUP] [1] [/SUP]، وإن الله سائلك عما استرعاك واستأمنك ، فإذا وصلت إلى هذا الحد ، فارتق بطموحك درجةً أخرى لتبحث عن موطئ قدم تقف فيها إلى جانب المنافحين عن هذا الدين بكل ما يملكون ، فإن لهم في طِبِّك حظٌ ونصيب ، بل حظهم آكد ونصيبهم أشح ، والله تعالى أعلم .
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يسددنا ويتقبلنا ويوفقنا للعمل في خدمته ، إنه ولي ذلك والقادر عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين[SUP] [2][/SUP] .
وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله

[1] رواه البخاري ( 7150 ، 7151 ) ، ومسلم ( 142 ) .

[2] هذه نهاية محاضرة " بحث المنهج العلمي للطبيب المسلم " للدكتور طبيب وسيم فتح الله نفع الله به .
 
عودة
أعلى