ذكريات شهر في بروكسيل

الرمق الثاني
ألفيتُ أنَّ سلطان المال أقوى من سلطان الحبِّ عند كثيرٍ من الناَّس...فصاحبُ الشابِّ الذِّي قد مضت قصته آنفا قد استفاد من صاحبه مالا وهدايا واحتجن ماله...وتصرَّف فيه...ولما أصابت صاحبَه بليَّةٌ لم يسأل عنه...ونسيه فيمن قد نسي...وما هكذا توجب أخلاق الصداقة المبرورة ....وليس هكذا تكون الأخوة الصادقة المأجورة...
 
الرمق الأخير
كانت الطائرة المغربية تحلق في سماء بروكسيل وقد آذنت بمغادرة التراب البلجيكي...كنت جالسا لوحدي في مقعدي المفضل قرب النافذة...أرى من عَلٍ سماء فرنسا الملبدة بالغيوم...تعتلج في نفسي معاني كثيرة...أتذكر كيف أمضيت أيام الشهر الكريم في بروكسيل متنقلا بين درسٍ وعظةٍ وسياحة واستكشاف...وأحنُّ حنينا إلى فلذة كبدي صغيرتي ليلى التي كان يأتيني صوتها في بروكسيل عبر الهاتف تختنقه العبرات...عرَّجت الطائرة تهوي إلى الجنوب شطر إسبانيا...تعْبُر مدريد فإقليم الأندلس فالبحر المتوسط...محاذية الشاطئ المغربي الشمالي...داخلة إلى الوطن عبر سبتة المسلمة أُخيَّة مكة ويثرب....وددتُ أنْ لوْ نزلتُ هناك فأهلي في أحواز سبتة...لكن ليس في اليد حيلة وأنى لي ذلك...وفي زمن يسير قيل لنا اربطوا الأحزمة فالطائرة تهبط إلى مطار الدار البيضاء...حيث ألقيتُ عصا التسيار بعد أن منَّ العليُّ الجبارُ بسلامة الوصول إلى الديار...
تمت ذكرياتي- وقد تم اليوم شهر على بداية كتابتها- وإلى لقاء قريب مع فائت الذكريات أو المستدرك على الذكريات.
 
كلمةٌ أوجهها إلى قارئ هذه الذكريات...ذلك أنني كلما هممتُ بالإمساك عن التذكر انثالت علي الذكريات تترى...فأذكر منها بعضا وأدعُ منها بعضا...وربما كان المتروك أهم من المذكور...لذلك رأيت بعد استخارة واستشارة أن أتبع الذكريات بمستدرك قد يكون قصيرا بيْد أنه قد يكون فيه المفيد الممتع...على أنني أبرزت بعض هذه الذكريات في قسمها الأخير إبرازا فيه كثير من التعمية والغموض..فما أدري هل وضَح للقارئ الكريم المراد أم أنني قائلٌ في نحوٍ غير مسلوك ولا مفهوم...
 
أول ما كنت أغفلت الحديث عنه لقائي بطائفة من أهل النكتة العلمية والطرفة الأدبية...ومن هؤلاء أستاذ ضليع في الفرنسية قائم بالعربية...جمعتنا مائدة إفطار مغربي رمضاني شهي...فكان مما جرى الحديث فيه...أن البلجيكيين خاصة والأروبيين عامة لهم أسلوب خاص في المخاطبة يدل على أدب جم، وذوق رفيع...فمن ذلك أن الواحد منهم إذا أراد أن يشتري شيئا قال للبائع:" هل أستطيع أن أشتري منك كذا وكذا"est-ce que je peux acheter......قال الأستاذ الفاضل:" وهذا أمرٌ ليس يوجد عندنا نحن العرب...."...فاستفزني حديثه إلى الاعتراض عليه وإن لم يكن لي سابق معرفة به...فكان مما قلت له....
 
إن للعرب مناهج خاصة بطلب الشيء شراء وبيعا...فقاطعني الأستاذ قائلا:" ليس عن هذا أتكلم، وإنما عن أمر آخر لو فطنتَ إليه"....قلت: وماذاك؟ قال:" ألست ترى ياأستاذ أن العربية وإن اتسعت مناحي القول فيها في الطلب...ليس يستعمل المتكلمون بها اليومَ من هذه الأساليب شيئا قليلا ولا كثيرا"...قلت: وإذن العيبُ في الناطقين بالعربية اليومَ لا في العربية..."....قال" نعم" قلت:" ومع ذلك فلن تعدم عربيا متأدبا ملتزما بدينه...يجري على نسق ما تدندن حوله...وإن كانوا قليلا كثر الله سوادهم، وأبقى على الأمة الإسلامية أدبها وخلقها ودينها"....
 
لفت نظري في كثير من مساجد بروكسيل التي زرتها هذا الإعلان المعلق:" يجب التفكير في إغلاق الجوال قبل الصلاة"...فقلت للأستاذ الضليع في الفرنسية القائم بالعربية الآنف الذكر:" هذه ترجمة حرفية عن الفرنسية إذ فيها IL FAUT PENSER DÉTENIR LE PORTABLE AVANT LA PRIÈRE والأفصح أن يقال:" يجب إغلاق الجوال قبل الصلاة" أو نحو هذا مما يكون جاريا مجرى الديباجة العربية الفصيحة التي نزل بها القرآن ونطق بها النبي العدنان عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام...
 
لم يكن من المناسب ولا المنطقي أن يكون الاعتراض على بعض ما قد تقع ترجمته عن الفرنسية في بيئة يقل فيها دوران العربية...ويكثر فيها استعمال اللسان الفرنسي...فإذا ألفى الباحث هفوة أو سقطة في الترجمة أخفاها ولم يبدها...وبارك الخطى الحثيثة لمن يسعى في الحفاظ على العربية لسانا يتحدث به الصغار من الجيل الثالث أو الرابع الذي ولد في المهجر...ونشأ في المدارس الحكومية على معرفة الفرنسية...
 
يعاني المسلمون في المهجر من بُعد أبنائهم عن العربية ممارسة وتدريسا...فليس في مقررات الدول المضيفة حصص رسمية للغة العربية...ولقد لقيت في بروكسيل من أبناء المسلمين من لايتكلم العربية ولا يعرفها أدنى معرفة...ويكلم أباه بالفرنسية ويكلمه أبوه بها وكأنهما ليسا من العرب...ولقد لقيتُ في دروسي الوعظية عنتا...إذ قيل لي ألق درسك باللسان الدارج أو اللهجة المحلية أو بالفرنسية تكون مفهوما...فعمدت إلى ذلك أحيانا...كما عمدت إلى طريقة أخرى سأتحدث عنها لاحقا...
 
جريْتُ في دروسي على أن أستعمل اللسان الدارجي والعربية الفصيحة والفرنسية...وكنت أقدِّم العربيةَ على سواها...وأرغب السامعين في تعلمها والإقبال عليها...لأنها وعاء هذا الدين..وليس يفهم هذا الدين من غير تعلمها واستعمالها أداة في الخطاب والمحاضرة والدرس...وكنت لا أتقعر في استعمال العربية ولا أُغرب..بل أستعمل منها ما قرُب تناوله وسهل مأخذه،وكان أصلَ ما تحرَّف من اللهجة المحلية واللسان الشعبي...وكنت أحيانا أقارن في الدرس بين العربية واللسان الدارجي...وأذكر أن العربية أصل هذه الألسنة الدارجة وأمِّثل على ذلك بأمثلة أُنسيتها الآن...وكنت ربما استعملت الفرنسية في مقام لا أجد فيه عنها مندوحةً ولا مفرا...وكان استعمالي لها مستملَحا مقارنا كلمة عربية بكلمة منها ...لا أعدو ذلك إلى الاسترسال في الاستعمال...حتى إذا ظننتُ أني قد أفْهمتُ عُدت إلى الأصل ...وذاك هو العربية لغة القرآن الكريم والحديث الشريف..
 
من الضروري أن يحتك المسلم في الغرب بالآخر، لأنه يعيش في بلده ويحيا بين أناس ليسوا من دينه وثقافته وهويته...ولقد شاهدت في أثناء هذه الرحلة من لقاء المسلم للآخر صورا...في بعضها اعتراف من الآخر بالإسلام وإشادة بتعاليمه..وسعي في خدمة مصالح الجالية المسلمة..بتسهيل الحصول على رخص بناء المساجد..وتيسير إقامة الشعائر الدينية.. والعيش في أمن وأمان مع كفالة الحقوق وحفظ الواجبات...وذلك والله مما يُسرُّ به المسلمُ وتقَرُّ به عينه...
 
سمعت أحد اليهود - في أثناء هذه الرحلة وكان من كبارهم - يقول إنه ليس يهمُّ أن يكون الإنسان يهوديا أو نصرانيا أو مسلما أو حتى لا دينيا لا يعتقد دينا معينا...المهم أن يكون إنسانيا يحيا مع الآخر ويقبل أن يعيش جنبا إلى جنب معه في هذه الحياة...فالحقيقة ليست ملكا لأحد...وهذا كلام فيه كثير من المغالطة...إذ الدين الذي لايُقبل في هذا العصر بعد بلوغ الدعوة وثبوت الحجة - غيرُه هو الإسلام...دعك من الخلط بين هذا وبين التعايش السلمي بين الطوائف الدينية المختلفة...فذاك حديث آخر...وليس من هذا الأمر في وِرد ولا صَدْر....
 
التعايش السلمي بين المسلم وغيره من أهل الأرض أمر مطلوب ومرغب فيه...وأوضح صوره تقع في الغرب...إذ يعيش أهل الإسلام في ديار غير ديارهم...وهم ضيوف عند أهل ملل وعقائد أخرى فالأوْلى أن يُعامَلوا بالإحسان الواجب لبني إنسان...بأن تحفظ حقوقهم وتصان ذممهم...ولقد رأيت من صور الإحسان إليهم في هذه الرحلة مشاهد يطرب لها القلب...ورأيت من صور التنافر والاختلاف والكراهية صورا تبعث على الأسى والأسف...وتذكر من رآها بعصور التمييز العنصري....
 
من صور التآلف والتعايش السلمي التي رأيتها في بروكسيل رؤية عين...وعشتها أنا بنفسي...ما شهدته من دماثة أخلاق بعض من قد عاملته من أهل البلد من البلجيكيين....فلقد قدِّر لي أن أبتاع كاميرا فيديو من إحدى المحلات المشهورة ببيع الإلكترونيات في وسط بروكسيل...فمضيتُ بها سعيدا إلى مثوايَ أباشرُ عليها العملَ ...فتبين بعد اختبارها أنَّ بها عطلا لم أفطن إليه وقتَ ابتياعها....فعزمتُ من الغد على ردِّها وبيان عُوارها لمن ابتعتُها منه في المحلِّ المشهور المذكور آنفا...فلعله يغيِّرها لي بأخرى حسنة المظهر والمخبر...فجئتُ المحلَّ أقدِّم رجلا وأُؤخِّر أخرى...أقول لنفسي وهل سوف يستجيب أصحابُ المحلِّ...ويصدِّقونني في دعوايَ أنَّ بالآلة الموصوفة آنفا عيْبا..وأنا الغريب الأجنبي؟...
 
فدخلت المحل على استحياء...وأبديت لأهله صفحتي...وأظهرت لهم عذري...فوالله ما زبرني أحد ولا انتهرني...ولا كذَّبني منهم أحدٌ ولا أساء معاملتي...فما هو إلا أن أبديتُ لإحدى الموظفات أمري حتى بادرتْ فأرسلتْ إلى موظف أعلى منها رتبة ومقاما...فأتى مسرعا...فواللهِ ما كلَّمني وقد عرَّفته المرسلة في أثره الخبرَ...فتأكد من أني اشتريت الآلة من المحل بمراجعة الحاسوب...ثم ناولني كمبيالة فيها ثمن السلعة وقال خذ ما شئتَ من المحل بشرط أن لا تتعدى الثمن المنصوص عليه...فآثرت أخذ كاميرا فيديو أخرى لا شية فيها ولا عيبَ...فوافقني على ذلك أصحاب المحل...ومضيتُ إلى حالي مجبور الخاطر...سعيدا بما وقع وحصل...
 
ومن صور العداوة والكراهية التي رأيتها وأنا مارٌّ بالسيارة غير مترجل...مخاصمة بين عربي مسلم صائم وإحدى العجائز من أهل البلد...ورأيت العجوز قد همت بمهاتفة الشرطة ولعلها قد فعلت...وسألت من كان في صحبتي عن مصير العربي قال إنه سيوقف ثم يطلق سراحه...ولعله قد يتابع إن كان جنى أو ظلم أو اعتدى...
 
خصت بروكسيل ببادية ناضرة المنظر...بهية المخبر...فأنت إذا زرتها خيل إليك أنك في حاضرة تتجول...إذ الشوارع مرصوفة ومرافق المدينة الحديثة موجودة...والأمن والأمان يلف المكان...مع سحر الطبيعة...وجمال المنظر...وبهاء المكان...ولقد قدِّر لي أن أزورها مرات عديدة...فرأيت أكثر مما وصفتُ من سكون وبهاء...وجمال ورُواء...
 
أسعدني القدرُ أن زرت بادية بروكسيل ذات يوم جميل...فوقفت على خضرة ناضرة...ونظام عجيب في تربية الماشية..نظرت إلى البقر كيف مُهدت لها سبل الأكل والتناسل..فأعطت خير ما عندها ألبانَها ولحومها للإنسان الذي رعاها أحسن ما تكون الرعاية...لقد قيل لي إن أغلب أهل البلد قد خرجوا إلى ظاهر المدينة حيث البادية فبنوا الدور...وآثروا السكنى فيها ...ذهابا منهم إلى أن الصحة والراحة والهدوء كل ذلك موفور في البادية...
 
انتهى ما كنت أردت استدراكه من الذكريات ...وبانتهاء ذلك كملت ذكرياتي عن قضائي لشهر في بروكسيل...وأرجو أن أكون قد وُفقت في عرضها ورصفها وترتيب القول فيها...كما أرجو أن أكون قد أفدت بها من رام الإفادة بقراءتها ومتابعتها...وأشكر جميع من كتب إليَّ معلقا مشجعا على كتابتها وتدبيجها...إذ والذي برأ النسمة وفلق الحبة لولا ذلك ما كنت كتبت فيها حرفا يُبرزها ويُظهرها فيكون سببا في نشرها وإذاعتها....ولقد سرتني كلمات المعلِّقين وأثلجت صدري..وعلمتُ أن في هذه الأمة من لا يزال يطرب للكلمة الصادقة والشعور الرقيق...والحمد لله أولا وأخيرا وإلى لقاء قريب مع سفرة جديدة ورحلة أخرى قد تكون وشيكة وأصلي وأسلم على سيد المرسلين وقائد الغر الميامين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين..
ولقد وافق الفراغُ من كتابة الرحلة وفائتها ومستدركها بُعيد عشاء يوم الجمعة الثالث من ذي الحجة الحرام من عام 1433هـ
 
أحببت أن أخبر كل من تابع نشر هذه الذكريات لأول مرة في هذا الموقع المبارك بأنه أعيد نشرها في مواقع أخرى منها موقع المنظمة العالمية للشعب الأندلسي من هنا
ذكريات شهر في بروكسيل.
ومما ميز النشر هناك ما قد تفضل به صاحب الموقع من صور رائعة للمواضع التي زرتها..
 
ما شاء الله ... ماتع ماتع ما قمت به و زبرته بريشتك يا دكتور.
أنت رائع.
جزاك الله خيرا.
الدكتور مصطفى حميداتو ( أحد المناقشين لمذكرتي) يثني عليك ثناء عجبا. ... وقد صدق.
 
عودة
أعلى