ذكريات شهر في بروكسيل

لو قال قائل إن بروكسيل مدينة الأسواق الأسبوعية لما أبعد النجعة....ففي يوم السبت صباحا يعقد سوق في فضاء متسع في الحي الذي كان فيه مثواي في فُورِي foret وتُعرض فيه أنواع المأكول والمشروب والملبوس...وزواره في الأغلب الأعم من أهل البلد...ويُعقد يوم الأحد صباحا في المكان نفسه سوق لبيع السلع القديمة من أثاث وكتب وغير ذلك...ولقد زرت السوقيْن واشتريتُ من الأول ما قُدِّر لي ....ولم أعرج على ما في الثاني لما في طبعي من النفور من المستعمل البالي...
 
كان يشغلني مذْ وطئت قدمي أرض بلجيكا أن أطلع على الكتب والمكتبات في هذا البلد....ولقد سعيتُ بكل جهدٍ أن أقف على مكتبات بيع الكتب ...فزُرتُ منها بضع مكتبات في حي قريب من الساحة الكبرى...ولقد كان هذا الحي خالصا لأهل المغرب فيه تجارتهم ومحلات بيعهم وأرزاقهم...ومن هذه المكتبات مكتبة بيع كتب كبيرة قد رُتبِّت فيها الكتب ترتيبا...وصُفَّت أعدادها صفوفا صفوفا...وتأملتها فإذا أغلبها بالفرنسية ...وإن كانت موضوعاتها عن الإسلام....ومن المكتبات التي زُرتها مكتبة تبيع كتبا عربية ..بيْد أن ثمنها باهض...وسرَّني واللهِ وجود الكتب بالعربية في الثقافة الإسلامية وغير ذلك من العلوم في بلد غربي في قلب أوربا...
 
أُلقي في روعي وأنا أطوف بين الكتب أنْ أزور المكتبة الملكية البلجيكية - وهي المكتبة الوطنية- لأطلع على عناية البلد بالكتب والمثقفين والحركة العلمية...فترفقتُ في تحقيق المراد بهمة بعض الأصحاب من أهل المغرب...فكانت الزيارة في يوم شديد الحر....مشرقة شمسه...كانت المكتبة تقع في حي راق قد نضدت شوارعه للمُشاة السائرين...وزينت حداقه بهجة للناظرين بأشجار يخلب منظرها الزائرين...وزُخرفت أرضُه بنوافير أُرسلتْ المياهُ فيها رقراقة بين يدي السالكين...وهناك تراءت لنا المكتبة تختال مستلقية على مرتفع من الأرض كأنها تتمنع من أهل العلم الطالبين...
 
دلفنا إلى المكتبة وقد برَّح بيَ الشوقُ لرؤية ذخائرها من كتب ومجلات ومخطوطات...ألفينا هناك في الباب رجلا وامرأة في الإرشادات...طلبنا الإذن بالدخول فأُذِنَ لنا بعد أنْ قدَّمنا أنفسنا...لقد قيل لنا يمكنكم زيارة المكتبة والتفرج على محتوياتها...هكذا فهمتُ أو خُيل إلي أني فهمتُ....صعدنا إلى الأعلى عبر درجات...استرعى انتباهي وأنا أصعد منظر آلات الطباعة القديمة التي كانت مستعملة منذ مئات السنين...كانت الآلات قديمة بيْد أن أمارات الصيانة والحفظ الجيد بادية عليها....كنت أتجول بينها قارئا ما قد كُتب في ورقة تعريفية قد وضعت أمامها...توقفتُ عند بعضها متأملا كيف كانت بدايات الطباعة في أروبا والعالم...قلت في نفسي لا شك أن البدايات كانت صعبة وشاقة...آية ذلك أحجار ثقيلة توجد في هذه الآلات- كانت تستعمل لتثبيت الحروف على الورق...فسبحان من ألهم الإنسان الترقي بآلة من حالة إلى حالة ومن مرحلة إلى مرحلة..فكان في ذلك سعادة الإنسان والخير العام للبشرية..
 
دلفنا إلى داخل المكتبة عبر ممر طويل وضعت فيه صناديق كأنها مخابئ للمحافظ...لا يُمكِّنُكَ الصندوق من إغلاقه حتى تدفع يورو أو أكثر...أسلمنا الممرُّ إلى بهو واسع وُضعت فيه الحواسيب...لعلها القواعد البيلوغرافية للمكتبة...التفت يمنة فلم أر كتبا والتفت يسرة فلم أر كتبا...رأيتُ مقهى المكتبة في فضاء واسع...قد زُين بالأشجار والنبات...ربما ضللنا الطريق...تراجعنا القهقرى قليلا...حتى وصلنا إلى مكان الصناديق التي أومأتُ إليها آنفا...هناك تبين الطريق...صعدنا إلى الأعلى في مصعد سريع...أسلمنا باب المصعد إلى بهو كبير واسع حيث تراءت لي الكتب من بعيد...رُمنا الدخول عبر معبَر صغير...استأذنا فلم يؤذن لنا...
 
لم يكن يدور في خلدي أنْ سيُحال بيني وبين الكتب...لقد كان قول الموظَّفة على المعبر إلى الكتب قولا فصلا لا معقِّب له...قالت:" لابد من الانخراط ضمن المنخرطين لتكونوا أعضاء في المكتبة"...تأملتُ مليا قولها ... قلت في نفسي: الغريب مرحبٌّ به عندنا ...وإذا كان غربيًّا رُفع فوق الرؤوس والهامات!! ...خرجتُ من المكتبة غضبان أسِفا...عسى أن أجد في بروكسيل مكانا أسيح فيه...
 
لم ينقطع رجائي في أن أكحِّل مقلتي بالكتب في بروكسيل....إذ وقفتُ منها على ما تشتهيه الأنفس وتقرُّ به الأعين في مكتبة مسجد السنة...وإن كان قد أعجلني عن النظر فيها واستيعاب التملي بها متعجِّلٌ لا غرض له في العلم ووسائله فلم أقض منها لُبانتي...بيْد أنني نظرتُ منها دواوين السنة ومجاميع الحديث والخبر...وكتب الرجال والتراجم...وكانت الكتب مرتبة ترتيبا..قد وُضعت داخل مكتبة من زجاج للحفظ والصيانة..وكنت تقدَّمتُ إلى المشرف على المسجد أو من يمثله بقولي الذي ينوه بالمكتبة...فكان مما قلته:" هذا مسجد السنة ...وهذه كتب السنة...قد جُمعت ههنا كلها تقريبا...فحياكم الله وبيض وجوهكم".
 
كانت زيارة الجامعات من بين غاياتي في بروكسيل...وإن كان بدا أن ذلك قد يكون غير ممكن في عطلةِ صيفٍ تمتد لشهرين...لكن حب الاطلاع على وسائل البحث العلمي في بلجيكا حملني على أن أسأل عن جامعة قد تكون مفتوحة الأبواب..فهداني السؤالُ والبحثُ إلى جامعة خاصة قد يكون مفتوحا فيها إدارتها المكلفة بتسجيل الطلبة الراغبين في الالتحاق بها في الموسم الجامعي الجديد...فكانت زيارتي لصرح جامعي في بروكسيل في يوم رمضاني جميل...
 
كانت الجامعة التي ذهبتُ إليها زائرا في طرف المدينة...على تلٍّ هناك...قد أُحيطت بأشجار يُرى طولها من بعيد...على مدخل الجامعة موقف للسيارات...نظرت يمنة فألفيتُ خضرة ونضارة...ونظرتُ يسرةً فوجدت ماء يجري ونافورة تزين المكان...لقد كانت المساحات الخضراء تغطي أغلب أرض الجامعة...ومباني قاعات الدراسة والمختبرات غارقة في جمال الطبيعة...توقفت قليلا عند معالم الطريق التي ترشد التائه مثلي...قرأت ما كان مكتوبا بالفرنسية:" كلية الصيدلة...الجغرافية...العلوم..."...أدركت أنني في جامعة فيها كليات متعددة التخصصات...على أن بنايات الكليات صغيرة الحجم...ربما كان ذلك لأن الجامعة خاصة...تجولتُ مستمتعا في ساحات الجامعة الخضراء...أرى بنايات الدراسة المغلقة من بعد... كان المكان خاليا إلا من رفقائي...لقينا في أثناء التجوال إفريقي من دولة صديقة أُنسيتُ اسمها...سألناه عن سبب تواجده في بروكسيل في هذه الجامعة فأخبرنا أنه مبتعث في دورة تدريبية...ثم ودعنا ماضيا إلى حال سبيله بعد أن تمنينا له التوفيق والسداد...
 
إذا أمِنَ الناسُ ذهب الخوف، وسعِد المجتمع، وحفظت الحقوق، ولقد شاهدت في بروكسيل من ذيوع الأمن وشيوع الطمأنينة، ما قد ذُهلت له...لقد كنت أخرج ليلا قُبيل السَّحر لوحدي أو مع جماعة من المرافقين، لا أخشى شيئا، أتجول آمنا، وأطوف الحي الذي كان فيه مثواي غير خائف...مع انفضاض مجالس الناس في الشارع...وفَزَعِهم إلى المضاجع...وفي إحدى الليالي اتفق لي أمرٌ عجيبٌ، وذلك الذي أقصه بعد حين...
 
كنت متجولا على - عادتي الجارية - ليلا عقب صلاة التراويح وقد اشتد سواد الليل...وخفَّت الرِّجْل...وسكتت الأصوات...وسكن المكان إلا من وقْع خطاي وخطى مُرافقي...سلكنا طريقا يؤدي إلى مرتفع قد أحاطت به الأشجار الفارهة الطول من كل جانب...وكان المكان غاصا بمساكن الناس الجميلة التي يقال لها في عُرفهم " الفيلات"...وظهر لي في سواد الليل البهيم سوق ممتاز قد أُغلقت أبوابه..قد خرج من ناحيته حيوان كأنه كلبٌ لم أتبين ملامحه...سرعان ما اقترب كأنه يريدنا...فتبينتُ أنه ليس كما ظننتُ...إذْ لم يكن كلبا بل كان ثعلبا!!!
 
وصف رائق وقلم نابض وتفصيل ماتع
نتابع معكم
 
من المتاحف التي تشتهر بها بروكسيل المتحف الوطني الإفريقي...وهو متحف أقيم داخل فضاء طبيعي واسع...فيه الأشجار والبِرك التي عُلقت فوقها القناطر...وزينت الأرض بأنواع من النبات الأخاذ الجميل...وبالجملة فلو قال قائل إن أرض المتحف من جنان الأرض المعدودة لما أبعد....كان الوقت ظهرا...والجو حارا..لما وصلنا إلى باب المتحف الذي دخلنا ساحته الخضراء الممتدة إلى أفق بعيد لم أُحطْ به...كان يشغلني أداء الفريضة...ولم أكن أنا ومن يصحبني على وضوء...دلفنا إلى قاعة المتحف التي يبدو أنها قديمة لظهور الزخارف الأثرية على واجهتها...علمنا بعدُ أنَّ الدخول إلى المتحف لن يتأتى إلا بأداء 12 يورو - هكذا حفظتُ وربما كان الثمن أكثر- للشخص الواحد...أجمع رأينا بعد إجالة النظر أن لا ندخل إلى المتحف لأن ما فيه معروف لدينا نحن سكان إفريقيا...فليس في بذل ثمن تذكرة الولوج إلا مضيعة للمال...بيْد أننا قررنا الدخول إلى حيث نمكَّن من الوضوء للصلاة لأن وقتها قد حضر ولابد من أدائها...أدينا ثمن الولوج إلى المكان المخصوص حسْبُ...فدخلنا...فإذا نحن نمر على التحف الأثرية المعروضة قبل أن نصل إلى مقصدنا...ولقد علِم الله- وهو العليم المطلع على الخبايا أننا ما قصدنا حيلة ولا ريبة...معاذ الله..وأنى لنا أن نعرف - ولم يسبق لنا الدخول إلى المتحف- أن مريد المراحيض لابد أن يمر على ما في المتحف؟؟....ما إن انتهينا من الوضوء حتى جاءنا أحد حراس المتحف..قال وقد استبطأ خروجنا وما علِم أن وضوءنا للصلاة له وقت-:" لابد من الخروج على الفور...فليس لكم حق النظر في التحف"....قلت له:" نعم نعم...وما قصدنا النظر ولا رُمناه"....وما عندكم من أُسود وفُهود ولباس وأثاث...فإنما مصدره ديارنا!!
 
من المشاهد التي زرتها وشدني موقعها معركة واترلو التي وقعت سنة 1815م بين نابليون بونابرت وبين الإنجليز وحلفائها...انطلقت بها السيارة من بروكسيل تسير في طريق سيار لاحب...قد حُفَّ بالأشجار...ولُفَّ بسحر الطبيعة الخلابة...لقد قدَّرتُ أنها سارت نصف ساعة أو يزيد...أنستني حمارة القيظ...وخيوط الشمس الذهبية أن أضبط مقدار المسافة التي قطعتها السيارة إلى أرض المعركة...تراءت لنا بعد ذاك المسير...أرضٌ فيها تجمع للسيارات يسيرٌ...وقفت السيارة حيث انتهى بها موضع الوقوف...قيل لنا انزلوا هذا المكان المقصود...فنزلنا نتطلع إلى أرض المعركة...سرنا يسيرا...حتى بدت لنا دورٌ ومقهى قديمة...ثم ظهر لنا مرتفع من الأرض كأنه جبل قد كسي بغطاء نباتي أخضر...على رأسه تمثال أسد مصنوع من الحديد أو البرنز...قيل لنا لقد عُمل المرتفع من الأرض على جثث القتلى في المعركة...والأسد المتربع على الجبل إشارة إلى هزيمة بونابرت...ونكايةً فيه وُجِّه رأس الأسد شطر إنجلترا!!!
 
كنت في ذهابي إلى مساجد بروكسيل المختلفة التي كانت فيها دروسي أمرُّ على مهرجان الألعاب...فأرى من السيارة التي أركبها ما يتهيأ منه من ألعاب مسرحُها السماءُ....فترخَّصْتُ ذاتَ ليلة رمضانية في أن أذهب عقِب صلاة العشاء متفرجا على تلك الألعاب التي شدَّني منظرُها من بعيد...ولأقف على ما يقضي فيه القومُ أوقات فراغهم...فكانت جولتي بين تلك الألعاب...
 
كان فضاء الألعاب واسعا ممتدا على طول شارع مستقيم أضاء منه كل شيء...وماج منه كل شيء...وازدحم منه كلُّ موضع...كانت بعض الألعاب جنونية...منها ما تصنعه آلات ضخام من إركاب طائفة من الناس على متنها...ورفعهم في السماء بحركات سريعة جدا...حتى إن الراكبين يخرجون عن طورهم فيصيحون ويضحكون وتخرج منهم عن غير قصد أصوات غريبة....ومنها ركوب طائفة من الناس على متن مرْكبات فضائية محمولة على ناعورة ضخمة تسد أنحاء السماء ..تدور بسرعة في حركات متتابعة...
 
ومما رأيته من تلك الألعاب التي لم يرقني منظرها ولم يعجبني مقصدها ما قد يفعله شباب متنكرون في لباس أسود مخيف...وهم واضعون على رؤوسهم أقنعة قبيحة تحكي الأشرار...يباغتون بمنظرهم هذا القبيح المرعب الناس الذين يدخلون عليهم مبارزين ...ويقتحمون عليهم ظلمتهم متحدِّين...فما هو إلا أن يخرج المنظر القبيح حتى يسمع للجبان الخوَّار صياح وصراخ... واستغاثة وعويل...وقد يَثْبُت لذلك الذي رُبط على قلبه فهو في الصابرين الشجعان من المعدودين؟؟!!
 
ومما رأيته في ذلك المهرجان العجيب...جملة ألعاب بألوان زاهية...يُتوصل فيها إلى مبالغ مالية بتحريك كرات أو ما يشبهها...لكن لابد من دفع مبلغ حُدد مقداره...وفي ذلك ما فيه شرعا وديانةً...ومن تلك الألعاب بنادق وضعت لطالبيها ممن يدفع قليلا وقد يأخذ كثيرا مما يقع عليه تصويبه واستهدافه...وفي ذلك ما فيه شرعا وديانة...
 
شَعُرتُ بأن صدري قد ضاق بما رأيته من هذه الألعاب...وأن نصف الساعة التي قضيتُها متفرجا عليها اقتطعتُها من وقتٍ شريف...من الهزيع الثاني من ليلة رمضانية زاهرة...وأنَّ ما ترخَّصتُ فيه قد طال النَّظر إليه...على أنَّ ما كنتُ فيه لم يكنْ دَاعِيهِ التَّصابي أو اللهو...بل كان دَاعيهِ الفكرةُ والتدبر...إذ وقفتُ على أنَّ القوم يأخذون من لهوهم لجِدِّهم...ولفراغهم لشغلهم...كما استفدتُ مما رأيتُ من ألعاب شدة حرص القوم على تأمين حياة اللَّاهين من اللاعبين واللاعبات...إذ أدوات اللَّعب في مُنتهى النظافة والجدة والصيانة كما قد قيل لي...وتجرى عليها عدة اختبارات قبل أن يؤذن بها لمن يريد التسلي والمرح...ما إنْ تسلل إليَّ الضيق والملل حتى ورد عليَّ هاتفٌ يدعوني صاحبُه إلى عشاء على بيتزا أروبية حلال...فصادف ذلك منِّي بطنا خاليا فتمكنا!!!
 
في بلجيكا عدة منظمات وهيئات تشرف على العمل الإسلامي في البلاد...فمن ذلك تجمع مسلمي بلجيكا والمجلس العلمي ..ولقد اجتهد العاملون في المجلس العلمي على تنظيم الدروس الرمضانية التي يلقيها السادة الأساتذة الضيوف من المغرب -وأنا منهم- في مساجد بروكسيل المختلفة...كما نظم المجلس العلمي والهيئة التنفيذية لتجمع مسلمي بلجيكا ندوات عديدة شاركتُ في اثنتين منها: إحداهما: عن الإسلام دين الرحمة والسلام، والثانية عن حقوق الأبناء على الآباء..
 
كان ممن تعرَّفتُ عليه من المجلس العلمي لبروكسيل الشيخ الأستاذ محمد قجاج...ولقد كان الرجل يفيض علما وأدبا...مع حسن السمت وبهاء المطلع...وحسن التصرف...ولقد حضرني مقدِّما في الندوتين المنوه بهما آنفا فما رأيت منه إلا خيرا..وقدم إلى المطار يوم رحيلنا...فوَّدعنا أحسن توديع ... ولقد رأيته من بعيد يلوح مودعا بيديه ..كأنه يقول إننا على العهد ... وما زال معنا مصطحبا حتى توارينا عن الأنظار حيث لا يسمح لغير المسافرين بالدخول...
 
من طرائف ندوة الإسلام دين السلام والرحمة أنني قارنت بين رحمة الإسلام بخصومه وأعدائه لما ملكنا، بأن عاش الأعداء في كنف دولة الإسلام مكفولي الحقوق: لم يُضيَّق عليهم في دين ولا دنيا...بينما لما ملَك الآخرون حاربوا المخالفين وعلى رأسهم أهل الإسلام ممن أُعطوا الوعود والمواثيق في أنفسهم وأموالهم ودينهم...لكن غدر بهم وقتلوا وأخرجوا من ديارهم وهجروا وتوبعوا كما وقع في الأندلس أيام محاكم التفتيش....فاعترضني من لا خلاق له في العلم - سرا وقد اختلى بي- وقال:" ما كان عليك أن تعرج على محاكم التفتيش...فلعل ذلك فيه ما فيه..." هكذا قال...وما علم المسكين في العلم أن الحديث عن محاكم التفتيش حديث عن حدَثٍ قد مر وانتهى وغدا من التاريخ...فأين المانع والمحظور؟
 
دعيتُ ضمن وفد أساتذة المغرب من قِبل الهيئة التنفيذية لتجمع مسلمي بلجيكا لفطور في فندق شيراطون ببروكسيل....فأجبت الدعوة...كانت قاعة الإفطار واسعة في الدور الثلاثين من الفندق الفخم ذي النجوم الخمس....وكانت بروكسيل ترى أنحاؤها القاصية من القاعة...ألفينا على مدخل القاعة من يرحب بنا ويُدخلنا إليها ...كانت القاعة ملأى بالمدعوين من أئمة ودعاة وغيرهم...قد مدت على طولها موائد الإفطار.. التي وضعت عليها آنية فيها تمور وحلوى مغربية رمضانية يقال لها في اللسان المغربي الدارج:" الشبكية"...لعلنا كنا آخر الداخلين...إذ ما اطمأن بنا المقام حتى افتُتح حفل الإفطار...
 
وبعد فإني قائلٌ فيما يلي من صفحات هذه الذكريات - وذلك هو آخرُ فصولها- بقولٍ لا تظهر منه دلالة واضحة إلا لمن عاين ما عاينتُ وشهد ما قد شاهدتُ أو شعر بما شعُرتُ به....وإنما كان هذا مني لأنه ليس كلُّ ما يُرى يُقال، أو يُتحدث عنه، كما أنني سالكٌ فيمن كان من الناس ذا علاقة بما سأقول مسلك الإسلام الذي بُني على الستر والصون والتلميح تبعا لهديه صلى الله عليه وسلم في هذا الضرب:" ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا..."...فانتظر أيها القارئ الكريم من ذلك أولَّ القطر قريبا إن شاء الله...
 
رأيتُ أناسا قد لبسوا مُسوح العلماء..وتدَّثروا بلباس أهل الفضل..واستشعروا الأدبَ ونسبوا أنفسَهم إلى أهل الفتوى والصلاح...بيْد أنهم طرحوا وقار أهل العلم والفضل...وتخففوا مما سمَّوْهُ تصنَّع المروءة..مع أقرانهم وأهل طبقتهم...فرأيتُهم يخوضون معهم فيما يخوض فيه الأراذلُ من تنكيت بعضهم على بعض...وضحك بعضهم على بعض...حتى بالنكتة البذيئة...والكلمة القبيحة...واللمزة الشنيعة التي يُستحيى من ذكرها...وتراهُم بعد ذلك يتقدَّمون الناس في الجُمع على المنابر يعِظون...وعلى كراسي الدروس -زعموا - يعلِّمون ويُرشدون...وبالفتاوى يصدحون ويُصدرون ...وإذا كُلِّموا فيما يفعلون قالوا ساعة وساعة...وما لنا لا نروح على أنفسنا ببعض اللغو....وإننا لا نحبُّ التزمت ولا تصنع الوقار..؟؟
 
رأيتُ أناسا قد ملك عليهم حبُّ المال وجمعه قلوبهم حتى إنهم لَيَسْعوْنَ في طلبه سِعاية مَقيتةً...وهُمْ أغنياء قد رزقهم الله رزقا حسنا...وهُمْ إلى ذلك يزعمون أنهم من أهل العلم والفكر والصلاح....بل ومن أهل التنظير وتأسيس الأفكار والمشاريع العلمية الكبرى...ورأيتُ من هذا الضرب نفرا قد تَنَزَّلَ في طلب المال إلى أسفل سافلين إذ استحل أخذ صدقات الناس التي هي أوساخهم...وأكلَها أكلا لماًّ...وبلغني عن واحد منهم أنه استحلَّ أخْذ مال فدية الإطعام لقاءَ الإفطار لكِبرٍ أو عجز عن صيام...وليت شعري ما قيمة رجل يحمل الدكتوراه في(...)وفي (...)وله من الكتب(...)ومن المقالات(....)وله من المشاركات العلمية في مؤتمر(...)ومؤتمر(...)، وله عضوية في جائزة(....) الدولية... ، وهو إلى ذلك أستاذ زائر لعدة جامعات في(...) وفي(...)،وهو مع ذلك يسعى....ويتكفف الناس؟!!...وما قيمةُ رجلٍ حافظٍ للقرآن...قائمٍ به يتلوه آناء الليل وأطراف النهار...يجوِّده تجويدا ويحبِّره تحبيرا...وهو لا يتصون عما في أيدي الناس؟؟!! وهلاَّ تعفَّف الأول والثاني وصانا ما قد عُلِّماه من القرآن والهدى؟ ووالله ما تعلمنا هذا العلم إلا ابتغاء الزهادة في الدنيا والمال...
 
جزاكم الله خيرا على هذا الوصف الواضح والأسلوب الرائق، وكأننا معكم في بروكسال نرى بعض ما فيها، ونعيش معكم بعض ذلك، فاستفدت كثيرا، وأشكركم جدا على قولكم هذا:
.......وإنما كان هذا مني لأنه ليس كلُّ ما يُرى يُقال، أو يُتحدث عنه، كما أنني سالكٌ فيمن كان من الناس ذا علاقة بما سأقول مسلك الإسلام الذي بُني على الستر والصون والتلميح تبعا لهديه صلى الله عليه وسلم في هذا الضرب:" ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا..."...فانتظر أيها القارئ الكريم من ذلك أولَّ القطر قريبا إن شاء الله...
فهي فائدة جليلة عظيمة استفدتها منكم، وهذا يدل على عقل رفيع وفقه كبير، فالله يبارك فيكم وينفع بكم.

ونحن معكم ننتظر ونتابع.
 
رأيتُ أقواما من الضرب الذي وصفتُ من حالهم آنفا حملَهُم حبُّ المال على إرضاء الغني المعطِي ولو بسخط الله...رأيتُ منهم رجلا يحمل شهادة الدكتوراه في(....) يُساير غنيًّا في رأيه....على حساب العلم وما قد قُرِّر فيه رجاءَ أن يُعطيه فَيُجزلَ له...وهل جائزٌ أن يكون صاحب الفضيلة تبعا لهوى صاحب الدينار والليرة ؟؟
 
رأيتُ أقواما ممن يرغب إلى الناس أن يُعطوه من متاع الدنيا من أجل أن يلبس هو أجود الثياب، ويأكل أحسن الأكل، ويشرب أرفع المشروب...وهذا عجيب إذ ما جُوِّزت السِّعاية والمسألة إلا لسدِّ الجوْعة، وإغاثة اللَّهفة، والصَّون من الخَلَّة، فإذا كانت المسألة سببا للاستكثار من الدنيا ...ولُبس أحسن الثيات من أرفع " الماركات"، لإرضاء الشهوات...فأخشى أن يكون ذلك من المحظورات...
 
رأيتُ أقواما ما زالت السعاية والمسألة بأحدهم حتى حملته على الكذب نهارا جهارا ....وهو صائمٌ في شهر رمضان...إذ جاءته عطية ليست لنفسه خالصةً...بل كانت لجمعٍ من الناس، فسَطا عليها مستأثرا بأحسن ما فيها، مبرزا للناس ما شاء ومخفيا ما شاء...ولما أُوقف فَسُئِل كذب وتردى وَبهَت وهذى فهوى...نسأل السلامة في الدين والدنيا..
 
رأيتُ من هذا الضرب من الناس ممن ينسب إلى العلم ويتزين بِحِلْيته...من يخادع ويخاتل ويتواطأُ...ويُصِرُّ على أن يكون في الصدارة...ويتقدم غيرَه ممن هو أعلمُ وأسَنُّ وأزهدُ في الصدارة ...وهذا خبرٌ بلغني في هذا المعنى: نمى إليَّ بإخبار الثقة الذي لا أشكُّ في دينه ونقله، أن خطيب يوم جمعة خرج على الناس ليخطب...فصلَّى لأوَّل خُروجه قبل أن يرقى المنبرَ ركعتين، ثم جلس ينتظر أن يُعْلمه المؤذن بالصلاة حتى يجلس على المنبر...فجاءه آتٍ يكلِّمه في أمر لم يتناهَ إلى مسامعه...فنهض قائما وذهب متواريا مع الآتي - حتى يسمع ما عنده-إلى مكان بعيد عن المنبر...فكلَّمه الآتي بكلام استفاد منه أنه مأذونٌ له في الخطبة حسَب المسطَّر المقرَّر...وانفصل عن الآتي بأنه هو صاحب الخطبة في ذاك اليوم الأغر الميمون...فلما أن أتى المنبر سُقط في يده إذْ ألفى خطيبا آخر جالسا عليه وقد أوشك المؤذن أن يؤذن...فجلس المسكينُ مع الناس يستمع إلى من سرق منه خطبته ومنبره؟؟!!!
 
رأيتُ من لا يُعنى بأهل العلم مطلقا ويزدريهم ولا يُباليهم بالةً....ويَعُدُّهم سُعاة مال...وجمَّاع دنيا...وأَكَلة صدقات...ولذلك فهم لا يستحقون احتراما ولا تقديرا...إذ لا وزن لهم ولا اعتبار...ولما كان هؤلاء يكرهون أهل العلم بإطلاق من غير تمييز بين ذوي الصيانة والنجابة، والسؤدد والسيادة ...لم يحفلوا بهم عند دعوتهم إلى المساجد للعِظة والتَّوجيه...لا باستقبال ولا ببشاشة...ولا بترحيب ولين جانب في قول أو فعل...ورأوا في السُّعاة من أهل العلم رزيةً وخسرانا...ونقصا ووبالا....وألحقوا بهم من أقرانهم من لا يُنسب إلى ظِنَّة، ولا فيه رائحة شُبهة ولاريبة....
 
رأيت بعض من ينتسب إلى العلم الشرعي يؤيد مقولة من يرى أن كل متدين بأي دين سواء كان وضعيا أو سماويا قديما أو حديثا متبوعا أو غير متبوع، هو على الحق مادام أنه يعتقد أن ذلك دين وهدي....ويهَشُّ لهذه المقولة ويُصفِّق لها...ونسي- وما كان ينبغي له أن ينسى- أن الدين الحق في هذا العصر والذي لا يُقبل من الناس غيرُه هو الإسلام....هكذا عُلِّمنا في قواعد هذا الشرع ومحكماته وأصوله...
 
رأيت كثيرا من الناس يحسبون أن من إكرام العالم أن يعطوه من صدقاتهم وأوساخهم...ولو فكروا مليا لوجدوا ألف سبيل للإكرام المطلوب...الذي يصون كرامة العالم ويبقي عليه ماء وجهه...فمن إكرام العالم إهداؤه شيئا قل أو كثر ثمنه، ومن إكرامه السعي في تلبية حاجياته...ومن ذلك تحقيق أمانيه وآماله...
 
رأيت بعض من ينسب إلى تجويد القرآن وتحبيره، وتزيينه وتلاوته على الوجه المطلوب، قد ملك عليهم حب المال وجمعه أفئدتهم، حتى أطار ذلك النومَ من أعينهم...وأقض مضاجعهم، وأسهر ليلهم...وبلغني بواسطة الثقة الذي لا يكذب ولا يهِمُ ولا ينقل حديثا فيه غيبة أن بعضهم كان يقوم من الليل يعدُّ ما قد جمع ليلة العيد عدا...ويلتفت يمينا وشمالا حذر أن يطلع عليه أحد...وما علم المسكين أن الذي فطن إليه بعض من أقامه من النوم وأقلقه من كثرة حركته وجلبته؟!!
 
رأيت كثيرا ممن تجمعهم الخلطة لبعض الوقت في بلد شهرا كان أو أكثر لا يتواصلون بعدُ إذا رجعوا إلى أوطانهم...وينقطع ما كان بينهم من ود ومصاحبة...مع أن منهم وهذا الغالب من له أكثر من طريق للتواصل بالجوال والبريد الإلكتروني وغير ذلك...حدثني الثقة الصدوق الذي يعي ما يقول أنه خالط رجلا في الغربة في سفر شهرا ونيفا...فكان ينام بنومه ويستيقظ بيقظته...ويخرج لخروجه...ويفطر لفطوره...فلما رجعا إلى بلدهما وقراَّ بالمقام لم يسأل الرجل البتة عن صاحبه....وذَوَى ما كان بينهما؟!!
 
قال لي شاب لقيته في بروكسيل:" تعرفت في المهجر على شاب مثلي فأحببته في الله...لما ظهر لي من أخلاقه ودينه...وخلطته بنفسي وأظهرته على أسراري...وحدثته في آمالي...وأشركته في كل شيء يتعلق بي...وما من يوم يمر عليَّ إلا رأيته فيه: أخرج معه وأماشيه الساعات الطوال...نصلي معا ونذكر الله معا...ونتحدث في الدين والسياسة والاجتماع معا...حتى غدا أخي الذي لم تلده أمي...لكن تغير الحال بعد...ولم يثبت صاحبي على حاله وقد أحببته.." سكت الشاب وتنهد ثم تابع قائلا...
 
قدِّر لي أن أرجع إلى بلدي، وأن يبقى صاحبي في بروكسيل...فاشتد عليَّ الكرب، لموضع الألفة بيننا..والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف...فودعني صاحبي كأحسن ما يكون التوديع...فذرفت -كما أخبرني بعدُ- عيناه عندما تواريتُ عن ناظره في أرض المطار...تواصلنا بعدُ عبر الهاتف لأقل من شهر...كنت في الغالب أبادر إلى الاتصال به... ثم مرضت مرضا شديدا لم يتصل بي صاحبي فيه ليسأل عني...اتصلت به بعد...ثم انقطع ما بيننا.." ثم سكت الشاب متنهدا ثم تابع قائلا..
 
لقد أودعت صاحبي أمانةً مالا أُهدي إليَّ فأبيْتُ أخذه لأنني شككت في مصدره...فآثرت التصدق به على المنقطعين في بلاد الغربة...وكلفت صاحبي بالقيام بذلك...فما أدري هل وفَّى صاحبي بما قطع لي...و..." قاطعتُ الشاب وقد أشجاني حديثه قائلا:" حسبك...حسبكَ...إن كان كما تقول، فلقد أديتَ ما عليك...أحببتَ في الله...وكرهتَ فيه..فمأجور إن شاء الله...واعتبر بما حصل لك...واجعل حبَّ الله ورسوله أحبَّ إليك من كل حُب..."، قاطعني الشاب - وقد شعُرت أنه سلَى وثابَ إليه صوابُه- قائلا:" أجل... أجل...لابد أن أكون كُلِّي لله..لابد أن أكون كلِّي لله..لابد أن أكون كلِّي لله".

الشذرات المقبلة تقدمة للخاتمة
 
رأيت بعض الناس يكونون جبارين بأرضٍ أذلة بأرضٍ...فإذا تجبروا ظهر للخلق منهم تكبرٌّ وبطشٌ وغرورٌ...وخيل إليك عندما تراهم أنهم أغنياء وهم في واقع الحال فقراء، وسادة وهم مملوكون...وأحرار وهم مقيَّدُون....وإذا ذَّلُّوا رأيتهم على حقيقتهم: ضيقٌ في العيش...وخضوعٌ للغير...ومَسكنةٌ للأقوى...وما أجملَ أن يكون الإنسان إنسانا في أرضٍ، إنْسانا في أرْضٍ...لا تغيِّره الأرضون مهْما تبدَّلت، ولاتؤثِّر فيه الأحوالُ مهما تغيرت...
 
أختم هذا القسم من هذه الذكريات بطُرفة عجيبة وقعت لي في بروكسيل من غير تعمية في ذكرها ولا استعمال لتعريض أو كناية في حكايتها لأنتقل بعدُ إلى آخر شذرة منها...ذلك أني قرأت إماما في الركعة الأولى من صلاة الجمعة بسبِّح اتباعا للسنة، فلما وصلت إلى قوله تعالى:" ..إنه يعلم الجهر وما يخفى"، قرأتها هكذا:" إنه يعلم السر وأخفى"..ووقفتُ...ففتح عليَّ بعض من صلى خلفي بالصواب...فلم يستقم لي في الآية وجه فركعتُ...فلما قُضيت الصلاة قال لي بعضهم:" هل قرأت بقراءة أخرى؟" فأجبت:" بل وهمتُ ولم يفتح عليَّ فيها بشيء، فركعتُ، وسبحان من لا يهم ولا ينسى".
 
ليس أضرَّ على الإنسان من أن يُغدر به، وأن يخدع ...وأن يُفعل به ما قد يُفعل في الأفلام والمسلسلات...ولا يُُدرى الفاعل ولا السبب الداعي إلى الفعل...ولقد حدَّثني الثقةُ الصدوق الراوية " أنه لما كان في بروكسيل عائدا إلى مسقط رأسه...وموطن محتده وأصله...عمدتْ يدٌ آثمة مجرمة...لذي صدر حاقد موتور...وقلب كذوب آثم حَسود...إلى الانتقام من خالي الذهن آمِنٍ مبرور..لم يكن يدُرْ بخلده أن سيُغدر به من قِبل من كان يُدلي إليه بسبب دِخلة أو خِلطة، أو مُصاحبة لزمنٍ محدودٍ أو متَّسعٍ ممدود"...قلتُ للثقة الضابط المأمون وقد شوَّقني حديثه إلى معرفة آخره المدفون المكنون :" ويلك...لقد شوَّقتني إلى الاطلاع على جليَّة هذا الخبر العجيب المزبور...فقُصَّه عليَّ مُبرزا له غيرَ آثم مُذنب كَفورٍ".....
 
قال الثقة الصدوق المأمون..وقد تنهَّد تنهيدة طويلة حتى خِلتُ أنها نفثة مصدور...:" لقد قدِّر لي أن أقضي شهرا في بروكسيل ضيفا على أناس سُقت إلى ضيافتهم سوْقا... ونزلتُ في ساحتهم غداة وظُهرا...فأكرموني كما ظهر لي من صنيعهم أكلا وشُرْبا، وضيَّفوني مع رُفقة بدا أنَّ بينهم ما يكون بين الأقران منافسةً وحسدًا سرًّا وجهْرا..."، قاطعت صاحبي سائلا، ولحاله مستغربا:" ولبثتَ بينهم على ذلك شهرا!!؟؟"...قال صاحبي والأسى يعتصر فؤاده، والحزن يعلو محياه:" أجل...صبرتُ إذ لم أكن مخيرا، فذُقْت في كل يوم من أيام ذاك الشهر من ألوان العذاب مُرًّا وحنظلا...بيْد أنَّ أشدَّ ذلك وأنكاه، هو ما حدث يوم الفراق..إذ غُدر بي...وعُمل لي...ودُبِّر عليَّ.."، قلت متلهفا ولحديث الصاحب الثقة متشوفا:" وكيف ذلك؟".....
 
قال الثقة الصدوق المأمون:" أنا لا أعرف لي أعداء ولا شانئين في بروكسيل.."...ثم قال متسائلا وكأنه غير متأكد مما يقول:" هل يكون أُصيحابي الذين كانوا معي في الرحلة هم الذين غدروا بي...وأملى لهم الشيطان...وسوَّل لهم ؟؟ هل يكون أحد ممن ضيَّفني سوَّلت له نفسه أن يؤذيني...وهل هناك ما يحمله على ذلك...وما جنايتي...وما ذنبي...وماذا فعلت؟؟....هل يكون صديقي الذي تعرفت عليه في بروكسيل...وأخلصت له...وأحببته...وقرَّبته مني...هو الفاعل؟...وما الحامل له؟ ....وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟" قلتُ لصاحبي وقد عيل صبري:" لكن أخبرني ماذا فُعل بك، وكيف غُدر بك، وكيف وقعت الجناية عليك؟" قال صاحبي مبادرا لإسعافي بالجواب بعد أن ضقت ذرعا بكلامه الذي فيه كثير من التعمية والغموض.....
 
قال صاحبي الثقة الصدوق المأمون وقد رأيتُ في عينيه بريقَ الحقيقة يسطع:" كان ياسيدي من خبري العجيب أني لما كنت راجعا من سفرتي تلك من البلدة التي أمضيتُ بين ظهراني أهلها ما قد أمضيتُ...امتدت يد آثمة فاجرة إلى حقيبتي فوضعت- ألا شلت هذه اليد، وقطعت تعزيرا- حقيبة نسائية صغيرة فيها أعقاب سجائر قد استعملت، وأوراق لفِّ المخدِّر المعروفة...ولُفَّت الحقيبة لَفًّا محكما، ووُضعت في موضع خارجي في حقيبتي التِّي كانت بيدي لما وصلتُ إلى مطار بروكسيل...وتحت نظري...وتقدمتُ إلى موظف مراقبة الجوازات والتذاكر لأعرف منه رقم مكاني في الطائرة..ووضعتُ حقيبتي وفيها تلك الحقيبة- الرزيَّة- على الميزان...فـ...
 
فما كان من الموظف إلا أن أمضاها...فبارك في مجراها ومرساها...وأنا خالي الذهن مما فيها...لا أعلمُ ما فيها...ولو علمتُ لرجفتْ مني القدمان...ولبلغ قلبي حنجرتي..ولأَخذني ما اللهُ به عليم...ومضيتُ إلى الطائرة مع مَنْ مضى مِن أُصيْحابي...مطمئنا لا أعلم بما دُبِّر لي، وكِيد لي...مشتاقا إلى أهلي وأولادي الذين أودعتهم بلادي..ولما وصلتُ إلى حيث وطني...ذهبت أتفقد حقيبتي ...فإذا هي...
 
على حالتها كما أودعتها في مطار بروكسيل لم يمسها سوء...ولم يفتشها باحث...وخرجتُ من المطار وأنا مهتمٌّ بملاقاة أهلي فلقد طال عهدي بهم...وكلما قرُبت الدار من الدار اشتد الشوق، وعيل الصبر...فلقيتُ من أهوى وأنِستُ بهم بعد طول الفراق، وبُعد الديار...وبِتُّ بأحسن ليلة...ولما أصبحتُ حللْتُ متاعي لأتحف أهلي بما حملته من هدايا...فوجدت ما حملتُ على ما عهدت في بروكسيل...وعزمت على السفر لأمر طارئ تاركا حقيبتي تلك على حالتها...فسافرت لأزيد من عشرة أيام...فلما رجعت إلى حيث الحقيبة...ذهبت زوجتي تنظف بعض جُيوبها فألْفَت...
 
الحقيبةَ -الرزيَّة- مكانها حيثُ وضعها آثمٌ مجرمٌ ...وفيها ما فيها...فأخبرتْني الخبرَ..فسُقطَ في يدي ولم أدر ما أقول...ودارت بي الأرض...وذهب عني استقراري...وأخذت أسترجع ما قد مرَّ بي من إِحَنٍ تنطوي على كثيرٍ من الفتن...وأتفكَّرُ في هذه السَّفرة التي جرَّت عليَّ هذه البليَّة...وأتدبَّرُ حالَ هذه الصُّحبة التي أوْغَرت الصَّدرَ...ولعلها قد تسبَّبتْ في هذا الأمر....
لعل الحلقة المقبلة هي الرمق الأخير من هذه الذكريات
 
الرمق الأول
أثَّرت فيَّ قصة هذا الشاب اليافع...وأخذت أتفكر مثله في حال هذه الدنيا التي يغدر فيها الصديق الوَفيُّ...والخليل الأوَدُّ..الذي قد يُشهد اللهَ على ثُبوت محبته...وصدْق عشرته...ونقاء سريرته...أو قد يغدر المُضيف الذي فتح بيته للضيف...من غير رحمة ولا هوادة في إيقاع المكيدة أو المؤامرة...أو قد يغدر الحبيب مع دعواه ثبوت محبته ... وما فائدة هذه الحقيبة النسائية التي دُسَّت في حقيبة الشاب و فيها ما فيها...فهي وإن كانت تقدمةً للمحظور الذي هو عين الزُّور...فالغاية تخويف الشاَّبِّ وإرهابه...ولعله تهديد فيه إشارة إلى أن يَرَى ويسكت، أو ينافق فيُداري...ويمسك ولا يماري...ولكن هيهات...لقد عرفتُ هذا الشابَّ وثبوته على ما قد نشِّئ عليه...وبقاءَه دهرَه على ما قد عُوِّد...فلَأَنْ يؤمرَ بزحزحة الجبال الراسيات... خيرٌ من أن يؤمر بزحزحة مبادئه: ترقيعا ومسخا...
 
عودة
أعلى