ذكريات أو مذكرات الدكتور قاسم السمرائي

[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (89):[/FONT]
[FONT=&quot]عدت سريعاً بعد العشاء من الكلية إلى البيت، لكي أرى الجديد الذي أحدثته السيدة في نسخة رسالتي، فلما دخلت إلى غرفتي كانت خاوية من مس بين، ولكنني سمعت وقع أقدامها في الحمام، فحدست بأنها ستأوي إلى فراشها، فحللت وثاق حقيبتي، وأخرجت النسخة منها وبدأت في تقليب أوراقها واحدة بعد الأخرى فلما انتهيت منها، لم أجد فيها أيَّ تغيير أو تبديل أو إضافة، فشككت في انها لم تقرأها، أو أنها في أحسن الأحوال لم تجد ما تصححه فيها أو تضيفه إليها.[/FONT]
[FONT=&quot]وفي صباح اليوم التالي زرت السيدة في مكتبها، وأخبرتها بأنني لم أجد في النسخة ما أعلِّم عليه بالقلم الأحمر، فقالت: أنت محقٌ، لأنني لم أجد ما أصححه فيها ولا ما أضيفه إليها وقد قمت أنت بذلك مقدماً، فشكرتها شكراَ جزيلاً على جهدها في مساعدتي، وودعتها وانصرفت. [/FONT]
[FONT=&quot]والآن بدأت مهمتي الشاقة في تصحيح النسخ العشر، وإضافة النصوص العربية المقتبسة بخطي الرديء في أماكنها المخصصة لها، فكانت نسختي المصححة على النسخة الأصل هي دليلي في تصحيح بقية النسخ، فدامت عملية التصحيح أسابيع عديدة لم أُحصها عدَّاً، كنت خلالها مشغولاً أيضاً بساعاتي التدريسية والإشراف على الطلبة، وحضور اجتماعات المعهد. [/FONT]
[FONT=&quot]ومرت الأيام متتابعة، وجاءت عطلة الصيف، فبدأ الطلبة يهجرون المدينة ويسافرون إلى أهلهم، فخف زحام الغربان الطائرة المسرعة على سايكلاتهم، في شوارع المدينة، إلا أن الكليات ومطاعمها والمكتبة وخدماتها استمرت للطلبة الأجانب ولطلبة الدراسات العليا بل حتى للباحثين الزائرين الذين كانوا يتوافدون على المدينة سياحاً وباحثين، فيستأجرون غرف الطلبة الفارغة في الكليات أثناء عطلة الصيف ويشتركون في المطاعم أيضاً لقاء أجر معين، وكانت الأفضلية للمتخرجين سابقاً في هذه الكليات.[/FONT]
[FONT=&quot]ولن أنسى الدعوة التي جاءت إليَّ عبر اتحاد الطلبة العراقيين في المملكة المتحدة من الاتحاد الاشتراكي المصري في عهد جمال عبد الناصر لزيارة مصر لمدة شهر، فسافرت مع حوالي عشرين من الطلبة العراقيين إلى القاهرة، فأسكنونا في فندق، لم يكن بعيدا عن دار القضاء العالي، يكاد ينهد من قدمه ووساخته، فقررت في اليوم التالي أن انتهز هذه الفرصة فأسافر إلى بغداد لرؤية الوالدة والأهل، فحجزت وسافرت إلى بغداد حيث وصلت مساءاً، ولما كان الأهل قد غيروا عنوانهم في محلة راغبة خاتون، طلبت من سائق سيارة الأجرة أن يأخذني إلى راغبة خاتون، ولما وصلنا طلبت منه أن ينتظر قليلاً حتى أعثر على العنوان لأطلب من أهلي دفع أحرته، تاركاً حقيبة السفر وجواز سفري وبطاقة العودة في السيارة، وحالما ابتعدت قليلاُ من سيارة الأجرة، هرب السائق بكل ذلك وتركني واقفاً حائراً في الشارع، فمر عليَّ بعض الشباب فاستعلموا مني، فأخبرتهم فذهبوا معي إلى مركز الشرطة حيث سجلت الحادثة، وأخذني بعضهم إلى عنوان أهلي، ففرحوا جداً برؤيتي ولكنهم تأسفوا على فعل السائق الوغد. [/FONT]
[FONT=&quot]كان علي أن استخرج جواز سفر جديد فاستخرجته بعد جهد جهيد، ولم يبق إلا أيام على العودة إلى لندن، فحجزت وسافرت إلى القاهرة، فأوقفني البوليس تسع ساعات في المطار لأنهم اشبهوا في كون اسمي يشبه ضابطاً بعثياً، حسب قولهم، ولم يطلقوا سراحي إلا فجراً، فطلبوا مني العنوان الذي سأسكن فيه فاستأجرت أحد التاكسيات إلى الفندق المشؤوم، وأسرعت إلى مكتب الخطوط المصرية فشرحت لهم ما حدث، فقالوا: نريد كفالة السفارة العراقية في حال أن أحداً استعمل بطاقة السفر، فتقوم السفارة العراقية بدفع الثمن، فاسرعت إلى السفارة، ومن حسن حظي كان الملحق الثقافي زميلاً لأخي في الكلية فعرفني وزودني بكتاب الكفالة، ولما عدت إلى مكتب الخطوط المصرية مع كتاب الكفالة أصدروا لي بطاقة عودة جديدة، وبعدها أسرعت إلى السفارة البريطانية للحصول على سمة دخول، وهنا تدخل الحظ أيضاً فقد وجدت في جيبي بطاقة صادرة من شرطة المدينة تسمح لي بالمكوث والدراسة، فاصدرت القنصلية البريطانية سمة جديدة في جوازي الجديد، فتنفست الصعداء، وعدت إلى الفندق حيث وجدت الزملاء وهم يتأهبون لركوب الحافلة إلى المطار، فركبت معهم، وودعت الاتحاد الاشتراكي ودعوته في هذا الفندق التعيس باللعنات، والسائق الوغد الزنيم بالعقاب من الله تعالى على جرمه الأثيم الذي لم ينتفع به لأن حقيبة سفري كانت خاوية إلا من ثيابي ومن كامرة صغيرة فقط. وراح هذا اللص الحرامي (الشفَّار على قول الأخوة المغاربة) بعار الدنيا والآخرة. [/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
(من دفتر الذكريات (90):
بعد عودتي من القاهرة، فكرت في شراء سيارة حتى أرجع بها وبأمتعتي القليلة وكتبي إلى بغداد، لأن راتب البعثة ومرتبي في المعهد قد تكوَّما في حسابي في البنك، فصرت أزور محلات بيع السيارات الجديدة، كلما سنحت لي الفرصة، ولا أعرف أحداً له خبرة بالسيارات يمكن أن أستشيره، فاخترت سيارة "سبورت" بمقعدين فقط، فكنت أوصل مس بين إلى الكنيسة يوم الأحد، إذا لم يأت أحد من الشبان المتطوعين، وكنت أخرج معها، حين يسمح الجو وتشرق الشمس الدافئة، إلى القرى الصغيرة المحيطة بكمبردج، ونجلس سوية في إحدى المقاهي فيها، ونتحادث كأمٍّ وولدها، فكنت أرى الفرحة والسرور مرتسمين على وجهها حين أقول لها: هل تسوقين معي؟ فتعرف بأنني أود أن أخرج معها إلى إحدى القرى، للمتعة والنظر إلى الطبيعة الخلابة، والتجول بالسيارة المكشوفة السقف في الطرق الفلاحية الانكليزية الضيقة التي لم ترها من قبل، ولم أكن استعمل السيارة في الذهاب إلى المكتبة أو إلى المعهد، بل كنت أتركها في (المرأب) الكراج الذي أصلحته في آخر الحديقة الخلفية من البيت، واستمر سايكلي في خدمتي وأنا في خدمة سايكلي على الدوام.
ابتدأ الفصل الدراسي الجديد، وبدأ الطلاب القدامى والجدد يتقاطرون على المدينة، فظهرت الغربان الطائرة على السايكلات في الشوارع، وبدأ الطلاب الجدد في التسجيل في الكليات التي يرغبون فيها، واختيار الاختصاصات التي يودون دراستها، فازدادت الحركة في المدينة، وبدأت الحياة تدب فيها، وفرح أصحاب الدكاكين والمقاهي والمطاعم وغيرهم بهذه الحركة، لأن اقتصاد المدينة يكاد يعتمد كلياً على الطلاب والسُيَّاح، بعد ركود شبه تام أثناء العطلة الصيفية، إذ لولا الحركة السياحية لخفتت الحركة في المدينة.
ودبت الحياة في المعهد أيضاً، وبدأ الطلاب والطالبات يتوافدون عليه للتسجيل فيه، وبدأ المحاضرون يزورون المعهد لمعرفة ما استجد لهم ولغيرهم، إلا أنني لم أرَ أستاذي في الاسبوع الأول، ولم أسمع من أحد أنه سافر للخارج، فسألت سكرتيرة المعهد عنه، فقالت: هو موجود في كمبردج، ولم أعلم أنه سافر إلى الخارج، ولو كان مسافراً في عطلة الصيف إلى الخارج لعلمت ذلك، فاتصلت به هاتفياً من المعهد، فلم يرد أحد في بيته على الهاتف.
لم أعرف ماذا أفعل، لأنني كنت أود أن أعرف: هل تم اختيار لجنة المناقشة؟ حتى تتمكن سكرتيرة المعهد من إرسال نسخ من رسالتي إلى المناقشين، ومن هم يا تُرى؟ فتملكتني الهواجس والظنون، لأن الإشاعات المتداولة بين الطلبة عن بعضهم تبعث الرعشة في الصدور، فقد رفض بعضهم رسائل بعض الطلبة تماماً، وطلبوا إعادة كتابة الرسالة من جديد أو إبدال الموضوع كلياً، وبعضهم مَنَح درجة الماجستير لبعض الطلبة على رسائلهم بدلاً من الدكتوراه التي كانوا يأملون في الحصول عليها، فأصابتهم خيبة أملٍ ممضَّةٍ مؤلمة، وضاع وقت وجهد وعناء.
خرجت من المعهد، وقدت سايكلي بيدي، ومشيت معه إلى المكتبة، فلما وصلت إليها ركنته مع غيره، وتسلقت درج المكتبة، ووقفت تحت مظلة بوابتها، حيث كنت أقف مع الراهب، حائراً قلقاً مما ستأتي به الأيام المقبلة، فرمقتُ طالبتي المشاكسة على سايكلها قادمة من الجانب الآخر للمكتبة، فلما وصلت رأتني واقفاً، فركنت سايكلها مع غيره، واتجهت نحوي، فلما وصلت إليَّ سلمت فأجبتها، فقالت: لقد سجلت مع سكرتيرة المعهد لأكون تحت إشرافك، فقلت لها: هل لك الحق في اختيار المشرف؟ فقالت: لا، هذا موكول لمجلس المعهد، فقلت لها: هذا ما أعرفه، فقالت: سأكلم البرفيسور آربري، وأطلب منه أن أكون تحت إشرافك، وليس تحت إشراف أي محاضر آخر، فقلت لها: وإذا ما استجاب مجلس المعهد لطلبك؟ قالت: سوف أكتب شكوى إلى مجلس إدارة الجامعة، فقلت لها: يا فلانة، ما الفرق بين مشرف وآخر؟ وهل جربت مشرفاً قبلي؟ قالت: نعم، اثنين وليس واحداً، وأنت الثالث، فوجدتك أعلمهم أولاً باللغة، وطريقتك في النقاش والتوجيه أقرب إلى قلبي منهما، لأنني كنت أشعر أن حاجزاً نفسياً مصطنعاً يفصل بيني وبينهما، بينما لا أشعر بهذا معك، ولا طلابك الأخرون الذين يشعرون بأنك تعتبرهم أصدقاء لك، حسب ما سمعت منهم، فقلت لها: دعينا ننتظر قرار مجلس المعهد الذي سينعقد في بداية الاسبوع القادم، فقالت: وهو كذلك، ولكن قراري ثابت، فودعتني، ودخلت إلى المكتبة، وبقيت واقفاً حائراً تحت مظلة بوابة المكتبة، لا أعرف ماذا أفعل.
دخلت إلى المكتبة، ولم أصعد إلى ركني، بل توجهت إلى الكافيتريا حيث طلبت كوباً من القهوة، وانتحيت بها كعادتي مكاناً منزوياً في أقصى القاعة، فتملكتني الهواجس ودارت الاشاعات حول المناقشين في رأسي حول كل واحد محتمل منهم، فغرقت في تفكير عميق، ولم أفق من سباتي إلا ويد تربت على كتفي وصوت يقول: هل أنت في عالم صوفي آخر؟ فنهضت لتحيتها، ورجوتها مرافقتي، ففعلت، ولما جلست، قالت: إلى أي عالم أنت سرحان فيه؟ فأخبرتها بخوفي وهواجسي وما سمعت من إشاعات حول فلان وفلان من المناقشين المحتملين لرسالتي، فضحكت ضحكاً متواصلاً ولكن ليس عالياً.
(له صلة).
 
[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (91): [/FONT]
[FONT=&quot]أصابتني الدهشة العارمة من ضحك السيدة المتواصل، ونظرت إليها متسائلاً عن سبب ضحكها، فلما توقفت من الضحك، قالت: يا فلان: إنك أعلم وأخبر برسالتك وما فيها من أي مناقش، أولاً، وأنا واثقة من ثقتك بنفسك، ثانياً: وثقة أستاذك بك، ثالثاً، فلماذا القلق والخوف من فلان أو فلان؟؟ ويجب عليك أن لا تصدِّق الاشاعات، فقلت لها: صدقت.[/FONT]
[FONT=&quot]فصعدت إلى مكتبها وصعدتُ إلى ركني، فوجدت ورقة من مدير المكتبة على طاولتي من أستاذي يدعونني فيها إلى زيارته بعد الاتصال به، فأسرعت إلى مكتب السيدة التي سمحت لي بالاتصال بأستاذي هاتفياً، فرد عليَّ أستاذي، وقال: زرنا يا فلان هذا المساء، فقلت له: أمرك مطاع يا أستاذي! فسمعته يضحك عبر الهاتف، فارتحت حين سمعته يضحك. [/FONT]
[FONT=&quot]ولما حان وقت زيارته، امتطيت سايكلي متوجها شطر بيت أستاذي والقلق ما يزال يحتل جوانحي، ولما وصلت إلى بيت أستاذي ركنت سايكلي، وضغطت على الجرس ففتح أستاذي الباب، وقال: تفضل يا فلان فقد اشتقنا إليك، فقلت له: اتصلت بك من المعهد، ولم يرد علي أحد، فقال: كنا في زيارة لابنتنا في مدينة أخرى، وسار بي إلى مكتبه، فلما استقر بنا الجلوس، قال: هات يا فلان، إلى أين وصلت في رسالتك؟ فقلت له: لقد انتهيت منها تماماً وصححتها، وهي مطبوعة جاهزة للمناقشة، فقال: أحسنت، فاترك نسختين مع سكرتيرة المعهد حتى أخبرها باسماء وعناوين المناقشين، واترك لي نسخة مع السكرتيرة أيضاً، فقلت له: أمرك دائماً مطاع أستاذي، فمتى تريد أن أودع النسخ عند السكرتيرة؟ قال: في أي وقت مناسب لك خلال الاسبوع القادم.[/FONT]
[FONT=&quot]لم أجروء على سؤاله عن المناقشين، ولكنني استدللت من النسختين إنهما مناقشان اثنان، والثالث أستاذي رئيساً بطبيعة قانون الجامعة. [/FONT]
[FONT=&quot]نهض استاذي فنهضت وسار إلى غرفة جلوسهم فوجدت زوجته فسلمت عليها، فقالت بلهجة مصرية: صار لك زمان ما زرتنا؟ فقلت: آسف جداً، فقد شغلتني رسالتي بالطبع والتصحيح وإعادة التصحيح، وقد أكملتها، وأرجو أن تنال القبول من أستاذي، فقالت: آرثر يذكرك دائماً بخير، وبخاصة تصرفك مع الطلاب والطالبات، فقلت لها: هذا التصرف تعلمته من أستاذي، فهو عالم جليل ومتواضع، فقالت: ما كل الناس يظنون فيه ذلك، فقلت لها بالعربية: الحسود في عينه عود، فضحكا، فقالت: هيا استمتعا بالشاي والحلويات.[/FONT]
[FONT=&quot]شكرتهما على الضيافة وأستاذنتهما في الانصراف، فمشى أستاذي معي إلى الباب، وقال: نراك في احتماع المعهد يوم الاثنين، فقلت له: إن شاء الله.[/FONT]
[FONT=&quot]امتطيت سايكلي متوجهاً إلى الكلية لتناول وجبة العشاء، وبعدها عبرت الشارع مع سايكلي للبيت، حيث ركنته في مكانه المعتاد، ولاحظت النور في غرفتي، وكانت مس بين فيها جالسة أمام المدفأة الحجرية، فسلمت عليها فأجابت، وقالت: أين كنت يا ولدي؟ فأخبرتها عن ما حدث لي بالتفصيل، فقالت: كن مطمئناً يا ولدي، وقد نصحتك السيدة في المكتبة وقالت فيك الحق، فلا تقلق يا ولدي، فقلت لها: لم أجروء على سؤال أستاذي عن المناقشَين، لأنني كنت أود أن أعرف من هما المناقشان؟ فقالت: لا تهتم بهما فأنت تعرف جيداً ماذا تجيب، إذا ما سألك أحدهم، فقلت لها: أرجو ذلك. [/FONT]
[FONT=&quot]ولما حان موعد اجتماع المعهد، أفقت مبكراً كالعادة، وأوقدت الموقد وأعددت فطوري، ثم امتطيت سايكلي مع ثلاث نسخ من رسالتي، فوصلت إلى المعهد قبل الاجتماع، فأودعتها عند سكرتيرة المعهد، وأخبرتها بما قال أستاذي.[/FONT]
[FONT=&quot]بدأ المحاضرون في التقاطر على المعهد وكان فيهم سارجنت، فلما رآني سلم عليَّ بحرارة، وقال: لم أكن أعلم بأنك هنا، فقلت له: نعم، أنا هنا منذ سنتين، وأنا مسجل مع البرفسور آربري، فقال: في أي موضوع؟ فقلت له: ستراه قريباً، ولكن هل تذكر ما قلت لي في مدرسة الدراسات الشرقية والافريقية، فقال: وماذا قلت لك؟ قلت له: قلت لي حرفياً: أنت غير مؤهل لعمل الماجستير عندنا، فانصحك أن تذهب إلى دولة عربية، فقال: لا أذكر ذلك.[/FONT]
[FONT=&quot]ولما بدأ اجتماع المعهد أخذت نسخة من رسالتي من السكرتيرة، ودرت حول منضدة الاجتماع فوضعتها أمام سارجنت، وقلت له: هذه رسالتي للدكتوراه وليس للماجستير يا دكتور سارجنت، ثم رفعتها من أمامه، فرأيت وجهه قد احمر خجلاً أو حقداً، فالتفت إليَّ، وقال هامساً: هل يمكنني دعوتك للغداء؟ [/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (92):[/FONT]
[FONT=&quot]كان حضور المحاضرين في أول اجتماع في المعهد كاملاً، وكان أستاذي يترأس جلسة الاجتماع حين درت حول طاولة المجتمعين ووضعت نسخةً من رسالتي أمام سارجنت، فسمعوا ما قلت له وما قال لي، فبدأ بعضهم ينظر إلى بعض، فأدركت من نظراتهم أن بعضهم شامتٌ به وبعضهم ممتعضٌ مني، وكان الدكتور لايونز أشدَّ امتعاضاً مني من غيره، إذ ظهر الغضب الإنكليزي واضحاً على وجهه الكالح، ولمحت ابتسامة شماتة على وجه الدكتور هوبكنز لأنه كان يأمل في الحصول على منصب سارجنت، إلا أنني لمحت ابتسامةَ رضىً خفيفة على وجه أستاذي، وليس استهجاناً مما فعلت، فلم أعبأ بمن امتعض من فعلي مع سارجنت أو شمت به. فصحَّ عليهم قول الله تعالى: "وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ". [/FONT]
[FONT=&quot]فبدأ أستاذي في افتتاح الاجتماع، كما فعل في اجتماعات المعهد الأخرى، حتى إذا جاء موضوع الإشراف على الطلاب، قرأ رسالتين من الطالبة المشاكسة ومن الطالب اليهودي، اللذين طلبا من المجلس أن يعهد إليَّ بالاشراف عليهما، وعللا ذلك بتعودهما على أسلوبي وطريقتي في المحاورة والنقاش، فبدأ الهمس بين الحاضرين، فقال أحد المحاضرين: هذه سابقة لم تحدث في المعهد، لذلك لا أرى القبول بها، وعقَّب عليه آخر، فقال: إذا كانت هذه رغبتهما، وهم أحرار في اختيار المشرف، فلا أرى بأساً بذلك، إذا لم يعترض مستر سامرائي على اختيارهما. [/FONT]
[FONT=&quot]فالتفت أستاذي إليَّ، وقال: وما هو رأيك يا مستر سامرائي؟ قلت له: الأمر موكول أولاً وأخيراً للمجلس، وليس لي، ولكن بقدر ما يتعلق الأمر بي، فليس لدي أدني اعتراض على قبولهما، أو حتى على نقلهما إلى مشرف آخر، إذا ارتأى المجلس ذلك، وبعد مداولات، كان فيها سارجنت صامتاً، أقر المجلس طلبهما وزاد عليهما طالباً آخر. [/FONT]
[FONT=&quot]ولما انتهى الاجتماع، خرجت من القاعة، فلحق بي سارجنت، وقال: يا فلان هل تعرف المطعم الفلاني؟ قلت: طبعاً أعرفه، قال: يسعدني أن أراك فيه في الساعة الواحدة، فقلت له: وهو كذلك، وإلى اللقاء. [/FONT]
[FONT=&quot]ولم يكد سارجنت يغادرني، فإذا أنا بالطالبة المشاكسة واقفة عند باب المعهد، فأقبلت عليِّ وقالت دون سلام أو تحية: هل رفضوا طلبي؟ فقلت لها: وإذا رفضوا طلبك ماذا كنت ستفعلين؟ قالت وقد بدأ الإصرار في صوتها: أكتب إلى إدارة الجامعة، وأطلب منهم السماح بنقلي إلى جامعة أكسفورد، فقلت لها: اطمئني، فقد قبلوا طلبك، ومن يرفض طلبَ شيطانة مثلك؟ فقالت: أنا مسرورة جداً بأنني سأكون معك وليس مع غيرك، فقلت لها: لقد أوتيت سؤلك يا شيطانة، فانفجرت بالضحك، وصفقت بيديها من السرور، فقلت لها: اسمعي، الآن وقت الجد، فقالت: ومتى كان وقت الهزل معك؟ فقلت لها: إشرافي عليك سيكون مثل السنة الماضية وفي الساعات نفسها في المعهد، فقالت: وهو كذلك، وما هو واجبي الآن؟ قلت لها: لم أفكر فيه، لأنني لم أتوقع أن يقبل المجتمعون طلبك، بل توقعت أن يحولوك إلى مشرف آخر، وسوف نناقش هذا الموضوع في أول لقاء بيننا، فقالت: وهو كذلك، فودعتني وانصرفت على سايكلها وكأنها غراب طائر. [/FONT]
[FONT=&quot]ولما حان وقت الغداء مع سارجنت، ركبت سايكلي متوجهاً إلى المطعم الذي اختاره، فلما وصلت وركنت سايكلي، كان سارجنت موجوداً وقد حجز لنا طاولة، فلما رآني نهض من كرسيه، ومدَّ يده لمصافحتي فصافحته، وقال بالعربية: تفضل، وناولني قائمة الأطعمة والأشربة، فاخترت منها ما يناسبني، وأخبرت النادل بحاجتي وأخبره هو بما اختار، فلما ذهب النادل لإحضار ما طلبنا، نظرت في عينية، وقلت: دكتور سارجنت، قل لي: كم أصبت من الطلاب بخيبة أمل عارمة وحطمت أحلامهم، حين كانوا يأملون منك مساعدتهم والأخذ بأيديهم وإرشادهم في عالم غريب عنهم، جديد عليهم كما فعلت معي؟ وكم من الطلاب من هو أعلم منك وأخبر بموضوعه منك، أرسلته إلى عالم اليأس والكآبة والخذلان؟ كما فعلت مع فلان وفلان؟ ألم تتعلم الحلم والكياسة والصبر من اليمنيين الذين عملت معهم في عدن؟ فانتفض وقال: ومن قال لك إنني عملت في عدن؟ فقلت له: هذا مشهور عنك ومتداول، وقد أخبرني به طالب يمني يدرس الطب في لندن، حين أرسلتني يائساً باكياً كئيباً إلى حديقة رسل سكوير، مع أنني سألتك عن سبب رفضك لي؟ فلم تبين لي سبب هذا الرفض، وقلت لي: بأنني لا استطيع إتمام الدراسة هنا، وأن اذهب إلى دولة عربية؟ ألم تقل لي هذا؟ فقال وقد بدأ عليه الأسف الكاذب: أرجو معذرتي يا فلان فقد أخطأت في الحكم عليك وعلى علمك، فقلت له: وهل أخطأت في الحكم على فلان وفلان اللذين عادا إلى بلادهما خائبين من الحسرة والألم؟ واسمح لي أن أقول لك بكل أمانة وصراحة: إن ماضيك في عدن قد أملى عليك نوعاً من استعلاء الجنس الأبيض على الطلاب الأجانب من أمثالي، فنظرت إليهم نظرةً عرقية استعلائية دونية، وليست علمية أكاديمية، وكان معك الدكتور ديفيد كاون والدكتور جونس اللذين كانا يعاملان طلابهما بإنسانية وكرامة؟ فقال: على مهلك يا فلان ولا كل هذا!! فأنا معجب جداً بصراحتك وكلامك الذي لم أسمعه من أحد قبلك، فقلت له: وأنى تسمعه من أحد وكلهم كان يخاف من تسلطك؟ وما لم تسمعه أيضاً، فإن الشائعات تقول بأنك تركت مدرسة الدراسات الشرقية والافريقية وقد كنت فيها برفيسوراً، لتصبح محاضراً في المعهد، لأنك تأمل في أن تتبوأ كرسي البرفيسور آربري بعد تقاعده، فقال: لقد تعبت من لندن المزعجة والحياة هنا أهدأ وأهنأ من هناك، فقاطعنا النادل حين أحضر طلباتنا، [/FONT]
[FONT=&quot]فقال: هل يمكن أن نكون أصدقاء من اليوم؟ قلت له: إذا غلبتْ إنسانيتك عنصريتك، فقال: أنا لست عنصرياً، وكل إنسان قد يخطيء في حكمه أحياناً، وأنا لست معصوماً من الخطأ، وأنتم تقولون: إن النبي محمداً كان معصوماً، فقلت له: هذا خطأ فادح منك، قال: كيف؟ قلت له: لم يقل أحد من العلماء المسلمين بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا في الوحي، وهل قرأت ما قال الإمام مالك: "كل أحد يؤخذ من قوله، ويُترك إلا صاحب هذا القبر"؟، وهذا واضح في ما نشرت أنت من عهده صلى عليه وسلم مع يهود المدينة، أليس كذلك؟ فقال: لقد غلبتني، فقلت له: المنطق السليم في الحق هو الغالب ولست أنا. [/FONT]
[FONT=&quot]ومع هذا فأنا لك شاكر وممتن على دعوتك الكريمة هذه، وعلى هذه المناسبة التي افضيت لك فيها بما كان في نفسي عنك، وأرجو أن ننتفع أنا وأنت بمحادثتنا هذه في تصرفاتنا مع الناس، فقال: لقد نبهتني في ساعة واحدة على ما كنت غافلاً عنه، فأنا أكرر إعجابي وسروري بصراحتك في ما قلت وفي ما نصحت.[/FONT]
[FONT=&quot]وكنت على وشك أن أقول له: صدقت وأنت كذوب، فبلعتها بصعوبة بالغة. [/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (93):[/FONT]
[FONT=&quot]خرجت مع سارجنت سوية من المطعم، فشكرته مرة أخرى على دعوته، فقال: يجب أن نكررها يا فلان، فقلت له: يسعدني هذا جداً في أن أتبادل الحديث والنقاش معك في أي وقت تشاء، وقد كنت أستاذي في لندن، واليوم أنت زميلي، ونحن أناس نحفظ الود لمن تعلمنا منه شيئاً، لأن القلوب جُبِلت على حبّ من أحسن إليها، فقال: لقد تعلمت منك اليوم ما لم أتعلمه من طالب آخر، فقلت له ونحن وقوف بباب المطعم: إن من بين الطلاب الذين أعرفهم في مدرسة الدراسات الشرقية والافريقية في لندن من هو أعرف وأعلم مني، وقد قال أحدهم، وهو أستاذ مشهور في بلده بالأدب والشعر:[/FONT]
[FONT=&quot]ومن عجب الأيام أني بلندنٍ *** لأصبحَ أستاذ البلاغة والشعر [/FONT]
[FONT=&quot]فقال: عجيب غريب، فقلت له: أين العجب وأين الغرابة في هذا؟ وأنتم باستعماركم، الذي غربت عنه الشمس، لبلداننا قد زرعتم فينا عقدة الخواجة، والفرنجي برنجي؟ فقال: ألم أقل لك بأنني تعلمت منك في ساعة واحدة ما لم اتعلمه من تلميذ آخر؟ فقلت له: وكيف تتعلم يا دكتور سارجنت من أي تلميذ إذا جعلت بينك وبينه سدَّاً لا يمكنه تخطيه؟ ولو كنت مشرفاً عليَّ لم أكن لأجروء أبداً على الحديث معك بهذه الصراحة والصدق، لأنني أعرف مقدماً بأنك سوف تقف ضدي، ولن أحصل على الدرجة منك، كما فعلت معي ومع غيري في لندن، فلم يرد عليَّ، وودعني وانصرف إلى المعهد ماشياً.[/FONT]
[FONT=&quot]امتطيت سايكلي وعدت إلى المعهد، فلما وصلت إليه كان خالياً إلا من السكرتيرة، فسألتها إن كانت قد بعثت نسخَ رسالتي إلى المناقشين؟ فقالت: نعم، وتسلم البروفيسور آربري نسخته أيضاً، فلم أجروء على سؤالها عن أسماء المناقشين لأنني كنت أعرف مقدماً بأنها سوف لن تفضي لي بذلك، فحدست انه ينبغي عليَّ أن انتظر شهرين أو أكثر، على أقل تقدير، حتى ينتهي المناقشون من قراءة الرسالة، ويتم بعد ذلك تحديد يوم وساعة المناقشة. [/FONT]
[FONT=&quot]خرجت من المعهد وقدت سايكلي بيدي متوجهاً إلى المكتبة ماشياً، وقد تملكتني الحيرة والقنوط، لأنني لم أكن أعرف ماذا عليَّ أن أفعل، فلما وصلت إليها، ركنت سايكلي مع غيره وتسلقت درج المكتبة ووقفت تحت مظلة بوابتها، ولم يطل وقوفي حتى بدأ المطر ينهمر بغزارة، فدخلت إلى المكتبة، ونزلت إلى الكافيتريا فطلبت كوباً من القهوة وانتحيت به مكاناً قصياً من القاعة، وغرقت في تفكير عميق وكأنني أرى شريطاً طويلاً يمر أمام عيني، فتخيلت بأنني جالسٌ أمام المناقشين أثناء المناقشة وهم يسألونني وأنا أجيب، فأفقت على صوت يقول لي: هل أنت نائم هنا يا فلان؟ فنهضت من مقعدي تحيةً للسيدة التي كانت تحمل كوباً من القهوة بيدها، فرجوتها مرافقتي، فلما جلست، قالت: أراك غارقاً في التفكير، فقلت لها: نعم رغماً عني، فقالت: ولماذا؟ فحدثتها عن دعوة سارجنت، وما قلت له، وسؤالي سكرتيرة المعهد وجوابها، وإنني تخيلت نفسي جالساً مع المناقشين، فقالت: يا فلان إنك لم تزل في ضلالك القديم، وقلقك الذي لا فائدة منه لك. [/FONT]
[FONT=&quot]أما صراحتك مع سارجنت فقد أخطأت فيها كثيراً، فقلت لها: ولماذا؟ فقالت: انتم أيها العرب فيكم سذاجة وقصرُ نظر، وما في قلوبكم على ألسنتكم، فلا تنظرون إلى أبعد من أرنبة أنوفكم، ولا تعرفون نفسية الأوربيين البيض وبخاصة الإنكليز منهم، فهم سياسيون بالطبع كتومون، ولا يظهرون لكم ما يخفون، فإذا أسأتم إليهم فهم لن ينسوا هذه الإساءة قط لكم، فيبتسمون في وجوهكم فتظنون أنهم نسوا الإساءة، وهذه سذاجة مفرطة منكم، لأنهم يتحينون الفرص للغدر بكم والانتقام منكم، دون أن تدركوا طريقة غدرهم، وهل نسيتم ما فعلنا مع الشريف حسين ولورنس؟ وما تمَّ بين سايكس الإنكليزي وبيكو الفرنسي من غدر بوعودهم لكم؟ وما فعلته مس كوترود بيل وبرسي كوكس ببلدك؟؟ فانسَ الموضوع إلى أن تحين ساعة المناقشة. [/FONT]
[FONT=&quot]فقلت لها، وقد صدمتني صراحتها في قومها: إنك تعممين وتبالغين!! وهذا أستاذي واحدٌ منهم؛ لم أرَ منه ما تقولين في غيره، فقالت: أستاذك عاش ودرَّس في مصر ردحاً من الزمن، وتزوج من مصرية، فتخلق بأخلاقكم، ولذلك صار سموحَ الخلق، إلا أنه لم ينس أخلاق أهله، وسارجنت عمل مع وزارة المستعمرات البريطانية في اليمن وحضرموت جاسوساً، لتمكيننا من السيطرة على عدن وباب المندب، فشتان ما بين أستاذك وبين سارجنت، فكن حذراً يا فلان فإن سارجنت لن ينسى لك ما قلت له أمام زملائه في المعهد، ودعوته لك للغداء معه كانت لمعرفة ما تكنُّه له في صدرك، وقد نجح في ذلك بسبب سذاجتك إن لم يكن غباؤك!! [/FONT]
[FONT=&quot]فضاعت الكلمات مني في فمي، ولم أدر ما أردُّ عليها، فنظرت إليها ونظرت إليَّ فأدركت سبب صراحتها، فأغضيت على قذىً، ولم تجروء هي على الإفصاح، ولم أجروء أنا على السؤال، فنهضتْ ونهضتُ معها، وتركنا الكافيتريا صامتين ودون وداع، فصعدتْ إلى مكتبها، وخرجتُ من المكتبة، ووقفتُ تحت مظلة البوابة لأن المطر لم يزل ينهمر بغزارة. [/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (94):[/FONT]
[FONT=&quot]لم ينقطع انهمار المطر الغزير وهبوب الريح العاتية، رغم انتظاري الطويل تحت مظلة بوابة المكتبة، ولم أدر ماذا أفعل، إذ ليس عليَّ ما يقيني من المطر والرياح، إذا جازفت في الخروج مع سايكلي، فعدت أدراجي إلى كافيتريا المكتبة، وطلبت كأساً من الشوربة وبعض الخبز، وأخذتهما إلى الطاولة التي كنت قد شغلتها مع السيدة، فبدأت أقطِّعُ الخبز وأغمسه في الشوربة، فإذا أنا بالطالب اليهودي ديفد يتقدم إلى الطاولة وبيده شيء ملفوف بعناية، فسلم عليَّ وجلس، فقلت له: أهلا وسهلاً بك، وما الذي جاء بك في هذا الجو الممطر؟ فقال: لقد صعدت إلى ركنك فلم أجدك، وما أحببت أن أترك رسالتك على طاولتك، فقلت لعلك موجود هنا، لأنني أحببت أن أشكرك على موافقتك على الإشراف عليَّ أولاً، فقد سُررت جداً حين سمعت ما جرى في اجتماع المعهد من الطالبة فلانة، وأود أن أشكرك حين سمحت لي بقراءة هذه النسخة من رسالتك والاسترشاد بما فيها من معلومات مفيدة تتعلق ببحثي، ثانياً، فإن غيرك لم يكن ليسمح لأي طالب أن يطلع على رسالته، فقلت له: هل معك ورقة وقلم؟ قال: نعم، قلت له: اكتب ما أملي عليك: [/FONT]
[FONT=&quot]من يفعل الخير لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العرف بين الله والناس[/FONT]
[FONT=&quot]فقال: هل تتفضل عليَّ بترجمته، ففعلت، فقال: ومن قال هذا البيت الرائع: قلت له: قاله شاعر عربي عاش في زمن الخليفة عمر بن الخطاب، اسمه الحطيئة، فكتب كل ذلك. [/FONT]
[FONT=&quot]فسألته عن صديقته سارة، فقال: صدقني!! إنك سحرتها بأخلاقك وحسن تصرفك معي، فهي تذكرك دائماً بخير، وتود رؤيتك، فقلت له: أبلغها تحياتي، فقال: سأفعل، ولكن متى نلتقي في أول ساعة إشراف؟ قلت له: لم أنظِّم جدولي بعد، وسوف أخبرك قريباً إن شاء الله، فقال: إن شاء الله، فودعني وانصرف. [/FONT]
[FONT=&quot]صعدت من الكافيتريا إلى ركني وطاولتي حيث تركت عليها النسخة، ونزلت إلى بوابة المكتبة، فإذا المطر قد خفَّ هطوله، ولكن الرياح لم تزل عاتية، فجازفت في قيادة سايكلي بيدي، ومشيت معه عبر الكليات متوجهاً إلى المقهى الطلياني، فوصلت بعد أن كادت الريح توقعني أرضاً مراراً، فركنته، ودخلت إلى المقهى التي كانت شبه خاوية، فأسرعت النادلة لتحيتي، وقالت: جئت في وقتك، فقلت لها: هل من جديد مع ماركريت وصديقها؟ قالت: لا، ولكن هذه الفتاة، وأشارت إلى فتاة إنكليزية شقراء جميلة، وأمامها عربة أطفال، تود أن تسألك، فقد قلت لها بأنك من العراق، فهي تنتظرك، فقلت لها: وماذا تريد أن تسألني؟ فقالت الفتاة: هل تعرف العائلة الفلانية في بغداد؟ فقلت لها: بالتأكيد، فهي عائلة تجارية ميسورة، ولهم محل تجاري مشهور باسم كذا في شارع كذا، فكتبته، ولكن لماذا تسألين؟ فقالت: أبو هذا الصبي كان يتدرب على الطيران في المطار الفلاني، وقد اختفى فجأة، قبل ولادة هذا الصبي، ولكنه قد أوصاني أن اسمي المولود إذا كان صبياً باسم كذا وإذا كانت بنتاً باسم كذا، وقد سميت الصبي بالاسم الذي أوصاني به، وأنا أود أن أسافر معه إليه وإلى عائلته في بغداد، فأشكرك جداً، فقد زودتني بعنوان هذه العائلة، فقلت لها: وهل كتب لك أية رسالة منذ رحيله؟ قالت: لا!! قلت لها: إن سفرك إلى بغداد فيه مجازفة كبيرة، قالت: كيف؟ فقلت لها: اسمعيني جيداً، فلعله متزوج، ولذلك لم يتصل بك، فإذا وصلتِ إلى عائلته فإنه قد ينكر معرفته بك، وينكر صلته بالصبي، فتقعين في مشكلة كبيرة في بلد لا تعرفين فيه أحداً، ولكن أنصحك أن تكتبي رسالة إلى السفارة البريطانية في بغداد عبر وزارة الخارجية البريطانية في لندن، تذكرين فيها كل ما تعرفينه عنه وعن عائلته، وتقوم السفارة بالاتصال بعائلته أولاً لمعرفة حقيقة أمر هذا الطيار، فتكونين في مأمن من التشرد في بغداد، فإنني أعرف حالة مماثلة لحالتك لسوري مع ألمانية. فقالت: لم أفكر بهذا من قبل، لأنني كنت متيقنة تماماً بأنه سيأخذني هو وعائلته بالأحضان إذا وصلت إليهم بولدهم، ولا أعرف كيف أشكرك على هذه النصيحة العملية الصادقة منك، والشكر للنادلة فلانة التي دلتني عليك. فقلت لها: أرجو أن تخبري النادلة فلانة إذا جاءتك أخباره من وزارة الخارجية البريطانية، قالت: بالتأكيد.[/FONT]
[FONT=&quot]جلست في المقهى، وكوب القهوة في يدي، متفكراً في سذاجة بعض الفتيات وتصديقهن وعود بعض الشباب المراهق الطائش، فيسلمن أنفسهن سريعاً لهم دون التفكير بالعواقب، فتذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم"، فجاءت النادلة بكوب قهوة آخر، فقالت: هذه هدية من الفتاة، فقلت لها: هذه رشوة، ولا أقبل رشوة على نصيحة، فقالت: هي مني لك، فقلت: الآن مقبولة منك، فضحكت، وقالت: تعجبني صراحتك، فقلت لها: وأنا أيضاً تعجبني أخلاقك، فما حال ماركريت؟ قالت: تركت صديقها، وبدأت تدرس بجدية، فقد تعلمت من تجربتها معه، وأنا الآن سعيدة معها، فقد تركت نزق المراهقة.[/FONT]
[FONT=&quot]خرجت من المقهى بعد مكوث طويل فيها، وكان المطر قد انقطع، ولكن الرياح لم تزل عاصفة، فلم أجروء على امتطاء سايكلي، فقدته بيدي وسرت ماشياً إلى الكلية لأحظى بوجبة العشاء قبل فوات الوقت.[/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (95):[/FONT]
[FONT=&quot]طالَ انتظارُ الفجر لمَّاحِ السَنَا *** أتراهُ يلمعُ من وراء غمام؟؟[/FONT]
[FONT=&quot]عبرت الشارع مع سايكلي بعد العشاء إلى البيت، فركنته في مكانه المعهود، فلاحظت أن الظلام يخيم على غرفتي الأمامية، فحدست بأن سيدة البيت في غرفة جلوسها، فأسرعت في الدخول إلى غرفتي، وأوقدت المدفأة الحجرية وأنا في كامل ثيابي الثقيلة، ولاحظت الضوء في غرفة جلوسها، فدلفت إليها، فوجدت جارتنا معها، فسلمت عليهما فردتا عليَّ السلام، وقالت: جئت في وقتك يا ولدي، فإنني لم أجروء على الخروج إلى الحديقة خوفاً من الرياح العاتية، ولم تجروء فلانة أيضاً، لأن نار الموقد تكاد تخبو، ونكاد نتجمد من البرد، فأسرعت إلى مخزن الفحم في الحديقة الخلفية وغرفت منه، ورميت الفحم في الموقد، فبدأ الموقد يتقد، وسرعان ما بدأت الحرارة ترتفع في جو الغرفة، فملأت غلاية الماء، وأنا لم أزل بكامل ثيابي، لكي أهيء لهما الشاي الساخن حتى يتغلبا على برودة الغرفة قبل أن يبدأ الدفء يسري فيها، فلما قدمت لهما كؤوس الشاي مع بعض الحلويات، نظرت إليَّ مس بين، وقالت: حفظك الرب يا ولدي، فقلت لها: وأنت أيضاً، والتفتت إلى جارتنا، وقالت لها: هذا دليل على ما قلته لك مراراً، فحرَّكت الجارة رأسها بصمت، ثم قالت: أنت محظوظة يا مس بين.[/FONT]
[FONT=&quot]عدت إلى غرفتي فتخففت من ثيابي الثقيلة، والرياح لم تزل تلطم زجاج نوافذ غرفتي بعنف فتهتزُّ منها، وتبعها برق ورعد صاعق ومطر غزير، فإذا أنا بمس بين والجارة يدخلان إلى غرفتي ويجلسان سوية على الكنبة، فابتسمت لهما، وقلت لهما: مرحباً بكما، فقالت مس بين: قد اعترانا الخوف من البرق والرعد، فهرعتُ إلى غرفة جلوس سيدة البيت، وجئت لهما بكؤوس الشاي، وقلت لهما: اطمئنا فما هي إلا سويعة ويتوقف المطر، فكأنني كنت أقرأ الجلجلوتية الكبرى الكاذبة المنسوبة زوراً للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إذ توقف البرق والرعد والمطر فجأة، ولكن الرياح لم تزل في عنفوانها، فانتهزت الجارة ذلك، واستأذنت في الذهاب، فقلت لها: هل أصحبك إلى البيت؟ فقالت: بيتي ليس بعيداً، وشكرتني على الشاي، وانصرفت. [/FONT]
[FONT=&quot]ثم التفتت إليَّ مس بين، وقالت: أين كنت يا ولدي كلَّ هذا اليوم؟ فحدثتها بالتفصيل عن ما حدث لي، فقالت: لقد تصرفت تصرفاً حكيماً يا ولدي مع الفتاة التي تركها الطيار مع طفلها، وأنت محق كل الحق في نصيحتها، فماذا كانت ستفعل لو أنكرها الطيار وأنكر طفلها في بلد غريب عليها؟ ولا أكتمك الصدق، فإن وزارة خارجيتنا عندها ما يكفيها من المشكلات الدولية والمحلية، ولا أظن أن سفارتنا في بغداد ستفعل لها شيئاً، فلتتحمل هذه الفتاة الساذجة وزر الخطأ الذي وقعت فيه، فإن القانون لا يحمي المغفلين والمغفلات، ثم نهضت، وقالت: ليلة هانئة يا ولدي، وصعدت إلى غرفة نومها. [/FONT]
[FONT=&quot]والعجيب إن حادثة هذه الفتاة ذكرتني بحادثة أخرى مشابهة لها، وهي إنني كنت في يوم من الأيام سائراً في أحد شوارع المدينة، فدنا مني شاب يافع، وقال: تسمح لي أن أسألك؟ فقلت له: نعم، تفضل، فقال: هل أنت من العراق؟ فقلت له: نعم، ولكن كيف عرفت أنني من العراق؟ قال: سألت في معهد الدراسات الشرقية عن أي طالب عراقي، فأعطوني اسمك، ولما رأيتك توسمت فيك أنه أنت، فقلت له: وماذا كنت تريد أن تسأل؟ قال: أنا اسمي فلان، فذكر اسماً عربياً، وأبي فلان بن فلان، وذكر اسماً عربياً أيضاً، فهل تعرفه؟ أو تعرف شيئاً عن عائلته؟ فقلت له: ولماذا تسأل عنه؟ فقال: أنا ابنه، وقد ترك والدتي حبلى بي منذ ست عشرة سنة وهرب، وأريد أن أذهب إلى العراق للبحث عنه، فزودته باسم أبيه واسم عائلته ومحل سكناهم، فسافر، ولقيته بعد حين، فشكرني شكراً جماً على المعلومات، وقال لي: إنه وجد أباه وكان متزوجاً وله أولاد، فاعترف به، واعترفت به عائلته أيضاً، وأرادوه أن يكتسب جنسية والده ويمكث عندهم فرفض، وعاد إلى بلد والدته.[/FONT]
[FONT=&quot]جلست وحيداً في غرفتي، وكانت الرياح العاتية، والمدفأة الحجرية أمامي، مؤنسي الوحيد، وفجأة لاحظت أنوار سيارة تقترب من نوافذ غرفتي الأمامية ثم انطفأت، وسمعت نقراً على زجاج النافذة فتطلعت إلى الخارج فإذا بسيدة المكتبة واقفة عند الباب الخارجي، فاسرعت إلى فتحها، فدخلت وهي ترتجف من البرد، فقلت لها: يا ألف مرحباً بهذه الزيارة غير المتوقعة، في هذا الجو التعيس، فلم ترد عليَّ، إلى أن استردت أنفاسها بدفء الغرفة، فقالت: لقد افتقدتك هذا اليوم، فصعدت إلى ركنك، فوجدت نسخة من رسالتك عليها، وهبطت إلى الكافيتريا فلم أجدك، فقلت لنفسي: لعله مريض، فلم يهدأ لي بال، فقررت أن ازورك لأطمئن عليك، فشكرتها على مشاعرها الطيبة واهتمامها الذي لا أستحقه بي، فقالت: أنت عزيز عليَّ يا فلان، فقلت لها: وأنت أيضاً عزيزة عليَّ، وهل استطيع أن أنكر جهودك العلمية ومعاونتك لي؟ [/FONT]
[FONT=&quot]وقلت لها: لقد كنت اليوم في المكتبة، ولما أردت الخروج كان المطر ينهمر بغزارة، ولم يكن عليَّ ما يقيني من المطر فرجعت مرة ثانية إلى الكافيتريا، ولما توقف المطر أو كاد ذهبت إلى مقهى الطليان، وسردت لها قصة الفتاة الإنكليزية مع الصبي، وقبل أن تتكلم أسرعت إلى غرفة جلوس سيدة البيت وملأت غلاية الماء، لأهيء شاياً للضيفة، فملأت كأسين بالشاي وحملتهما إلى غرفتي مع السكر، فقالت: أحسنت صنعاً، فأنا في أشد الحاجة إلى ما يسخن معدتي، فقلت لها: اعذريني فليس عندي حلويات، فقد قدمتهما لمس بين وجارتنا قبل تفضلك بالزيارة، فقالت: لا بأس عليك فإن هذا الشاي الساخن يكفيني، وقد اطمأننت عليك، وقد أعجبتني نصيحتك للفتاة المغرر بها، ولا أظن أن سفارتنا في بغداد سوف تفعل شيئاً لها، وإني أعرف قصصاً شبيهة بقصتها مع شبان من بلدان أوربية وآسيوية أيضاً، وهذا ثمن الحرية التي نالتها المرأة في الغرب والتي نفتخر بها على غيرنا، فاحسست بنبرة حزينة تسري في كلامها، فقلت لها: كل مجتمع له أعرافه وقيمه، وقد فقد الغرب كثيراً من أعرافه التقليدية المحافظة وقيمه الإنسانية، لأنه ابتعد عن دينه، الذي كان يردعه إلى حد ما عن اقتراف الموبقات، وغلبت علية الماديات في حياته، وقد تجلى هذا كله في استعماره، إذ نقل مويقاته إلى البلدان التي استعمرها أيضا، فقالت: صدقت جداً، ولكن هل أراك غداً في المكتبة؟ فقلت لها: بالتأكيد بعد الانتهاء من الساعة التدريسية في المعهد، سوف أسعد بشرب القهوة معك في الكافيتريا، فنهضت ثم قالت: تصبح على خير وإلى اللقاء في الغد، فقلت لها: إن شاء الله، فقالت: إن شاء الله، وخرجت إلى سيارتها. [/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
(من دفتر الذكريات (96):
انتابني شعور غريب، حين خرجت السيدة من غرفتي إلى سيارتها، غلَّف قلبي بالحيرة والذهول من زيارة هذه السيدة في هذا الجو التعيس، وفي هذا الوقت المتأخر من الليل للاطمئنان على صحتي، دون وجود مس بين ، فاحترت في ما سأقول لها إذا سألتني عن هذه الزيارة غير المتوقعة؟ فلا بدَّ أنها سمعت النقر على زجاج غرفتي رغم عنفوان الرياح العاتية، إذ سبق لها أن حذرتني من أحابيل الفتيات الانكليزيات، حين حاولت جارتنا الممرضة اللعوب الاستحواذ عليَّ والايقاع بي في شباكها؟ فطردت هواجس الشيطان، وأطفأت المدفأة الحجرية والأضواء، وصعدت إلى الحمام ومنه إلى غرفة نومي الباردة، وفراشي الأبرد.
أفقت في الصباح مبكراً كعادتي على جو هاديء مشمس جميل، فأوقدت الموقد وهيأت إفطاري البسيط، وخرجت ممتطياً سايكلي إلى المعهد، فوصلت إليه قبل وقت الساعة التدريسية بنصف ساعة، فدخلت إلى قاعة المحاضرات، فإذا أنا بالطالبة المشاكسة جالسة فيها، فألقيت عليها تحية الصباح، وقلت لها: ما الذي جاء بك الآن؟ قالت: أنت!! فقلت لها مستغرباً: أنا؟؟ قالت: نعم، أردت أن أراك قبل حضور زملائي، فقلت لها: ولمَ يا فلانة؟ قالت: أبي وأمي أكدا عليَّ اليوم أنه يجب عليك أن تقبل دعوتهما للعشاء معنا، فقلت لها: يجب؟؟ فقالت: نعم، فقلت لها: لقد سبق لي أن اعتذرت عن قبولها، فقالت: لم يقبلا اعتذارك، وهما يُصرِّان عليها، فقلت لها: حدثيني بصراحتك التي أعهدها فيك، ما الغرض من هذه الدعوة؟ فقالت: هما يريدان التعرف عليك فقط، لأنني كنت أحدثهما عنك وعن أخلاقك مع الطلاب والطالبات، ولا أريد بقية زملائي أن يعرفوا عن هذه الدعوة، فقلت لها: دعيني أفكر في الأمر، وسوف أخبرك، فبدأ الطلاب والطالبات بالتقاطر على القاعة، فقطعنا المحادثة، فقلت في نفسي: ما للشيطان لا يدعني هادئاَ هانئاً، ولا يفتأ يَؤزُّ بناته ويغريهن بي؟
ولما اكتمل حضورهم، كتبت على السبورة، البيت الآتي، على ما أتذكر:
ذَرْذَرَ الفَجْرُ عَلَى رَغْمِ الدُجَى *** بحِفَافَيهِ فَمَا يَلْوَى لِعَذْلِ
فترجمتُ البيت أولاً، ثم حلَّلت كلَّ لفظة فيه تحليلاً لغوياً مع اشتقاقات كل لفظة ومعناها، وبدأت بإعراب البيت، وشرح القواعد النحوية في كل لفظة، ولما انتهيت، قال أحد الطلاب: هل أفهم من كلَّ شرحك أن الشاعر يصف تسرُّبَ الشيب إلى جوانب الشعر الأسود من الرأس بالرغم من استنكار الرجل؟ فقلت له: هذا هو المعنى العام، ولكنني أردت أن أغني معرفتكم بالألفاظ واشتقاقاتها وبالقواعد النحوية، وانتم أيها الطلاب سوف لن ينجو أحد منكم من ذلك، فانفجروا بالضحك، وقالت إحدى الطالبات: وهل هذا يشملنا؟ فقلت لها: بالطبع، نعم، ويشمل الجن والأنس والحيوان معاً، فانفجروا بالضحك أيضاً، فقال أحد الطلاب: يا معلمي نحن جميعاً نحب فيك إحساسك بالنكتة العفوية We like your good sense of humour، فقلت له: هذا خطأٌ مرضيٌّ في أخلاقي يصعب عليَّ إصلاحه أو مداواته.
قدت سايكلي بيدي ماشياً وميمماً شطر المكتبة، فلحقت بي الطالبة المشاكسة على سايكلها، فقالت: أرجو أن أسمع منك الجواب قريباً، فقلت لها: هل يصلح يوم السبت القادم؟ قالت: جداً، جداً، فقلت لها: فإلى يوم السبت، فقالت: سيطير والدي من الفرح باستقبالك. فقلت لها: اتركي عنوان منزلكم ورقم تلفونكم على طاولتي في المكتبة، والوقت الذي أكون فيه عندكم، قالت: سأفعل اليوم، وقلت لها: واعلمي بأنني لا أقرب من لحم الخنزير ولا السمك ولا الخمر، قالت: نعم، سأقول لهم ذلك، وطارت على سايكلها كالغراب الطائر.
ركنت سايكلي مع غيره وتسلقت درج المكتبة متوجهاً إلى ركني وطاولتي فوجدت ورقة الطالبة المشاكسة وفيها كل ما طلبته منها، فدسستها في جيبي، ونزلت إلى مكتب السيدة وسلمت عليها، فقلت: انتظرني في الكافيتريا، فهبطت إلى الكافيتريا وطلبت كوباً من القهوة، وانتحيت به إلى مكاني القصيَّ المعهود، ولم يطل مقامي فيه حتى جاءت السيدة مع كوب قهوتها، وجلست معي، فقلت لها: يا مرحباً بك، فقالت: وبك أيضاً، فقلت لها: اعذريني فما أجد الكلمات للتعبير عن شكري وامتناني الجم على زيارتك لي أمس في ذلك الجو التعيس للإطمئنان عليَّ، فقالت: أنا أحبك يا فلان، وانت نقلت في رسالتك قول أحد الصوفية: المحب إذا سكت هلك، فلا أريد أن أهلك وأنت أمامي، فقلت لها: أنا لست مستغرباً من قولك هذا، فقد أحسست به منذ سنتين حين اشتريتُ منك الطابعة العربية، وتفضلت بإيصالها بسيارتك إلى غرفتي في بيت البولندي، وابديت استعدادك في مساعدتي، وتطوعك في قراءة رسالتي وتصحيح ما فيها من أخطاء لغوية، ولا أكتمك الصدق فإنني معجب بك وبأخلاقك جداً، فقالت بالعربية: الحمد لله، فقد كنت خائفة جداً، فقلت لها: وممَن كنت تخافين؟ قالت: من طالباتك أن تكون إحداهن قد استحوذت عليك، فضحكتُ، وقلت لها: لقد سبقتك جارتنا الممرضة، ولكن مس بين حذرتني من الفتيات الانكليزيات وأحابيلهنَّ، فضحكت ضحكاً متواصلاً، وقالت: لقد صدقتك مس بين في تحذيرها، وأنا لست من أولئك، فقلت لها: دون شك.
فقالت: هل سمعت شيئاً عن المناقشين أو يوم المناقشة؟ فقلت لها: لم أسمع شيئاً من أستاذي ولا من سكرتيرة المعهد، فنهضتْ، ونهضتُ لها، فودعتني وانصرفت إلى مكتبها، فقلت في نفسي: ما للشيطان لا يدعني هادئاَ هانئاً، ولا يفتأ يَؤزُّ بناته ويغريهن بي؟
خرجت من المكتبة، واقتدت سايكلي بيدي، والهواجس تدور في رأسي، ولا أعرف إلى أي جهة أتوجه، فإن كلَّ همي وعنائي كانا في أن أكمل دراستي وأحصل على الورقة الملعونة، وأعود بسيارتي إلى بلدي وأهلي، وهذه الفتاة الثالثة التي تلاحقني بمشاعرها، فماذا أنا فاعل، وكيف لي أن اتخلص من حبائلهنَّ، لأنني لم أفكر بالاقتران بإحداهنَّ؟؟ فوجدت نفسي تسير مع سايكلي عبر الكليات إلى مركز المدينة، فركبته متوجهاً إلى البيت، ولما وصلت ركنته في الحديقة الأمامية ودخلت إلى غرفتي، فإذا مس بين تدخل عليَّ، فقالت: ما الذي جاء بك مبكراً؟ وهذه ليست عادتك يا ولدي؟ فأخبرتها بخبر الطالبة المشاكسة وزيارة السيدة لي أمس في البيت، وما قالت لي في الكافيتريا، فقالت: نعم، سمعت نقرها على زجاج النافذة، ولكن لا تقلق يا ولدي، ولا تلق لهن بالاً، فهنَّ معجبات بأخلاقك الطيبة الكريمة وبسماحتك، وقد توقعت هذا من هذه السيدة التي أعانتك في رسالتك، حين كنت تحدثني عنها، فهي على خلق عالٍ حين صارحتك مباشرة بحبها لك، وردك المؤدب الجميل عليها، وهذا يحدث كثيراً، يا ولدي، فقد أحببت أنا رجلاً حين كنت يافعة شابة، وصارحته إلا أنه استهجن مني ذلك وازدراني، وجاءت الحرب فشغلتني عنه وعن غيره، والزمن الآن غير ذلك الزمن يا ولدي، وأعراف البشر وتقاليدهم تتغير وتتبدل، فقلت لها: صدقت، ولكن ماذا سأفعل يا سيدتي؟ قالت: دع الأمر للزمن، فهو خير من يكشف لك الأسرار.
(له صلة).
 
[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (97):[/FONT]
[FONT=&quot]أتاني هَواها قبلَ أنْ أعرفَ الهوى *** فصادفَ قلباً خالياً فَتَمَكَّنا[/FONT]
[FONT=&quot]استمرت مس بين في حديثها عن الشاب الذي أحبته، ولما صارحته بحبها له قابلها بالجفاء والازدراء، فرأيت الدموع تغلِّف مآقيها، فقلت لها: أما زلت تحبينه يا سيدتي؟ فقالت: الحبُّ الأول لا يمكن نزعه من الوجدان، يا ولدي، فقلت لها: إن شاعراً عربياً قد أفصح بالضبط عن ما تعانينه في بيت من الشعر، فقالت: وماذا قال؟ قلت لها: سأقرأ عليك البيتَ بالعربية، ومن ثم أترجمه لك، فقالت: هات، يا ولدي، فقلت:[/FONT]
[FONT=&quot]نقِّلْ فؤادَك حيث شِئْتَ من الهوى *** ما الحبُّ إلاَّ للحبيب الأول[/FONT]
[FONT=&quot]فلما ترجمت البيت لها، شهقت، وفاضت عيونها بالدموع، فلما مسحتها، قالت: وحق الرب!! لقد صدق هذا الشاعر، فقلت لها: هل رأيت؟ فإن المشاعر الإنسانية عند كل البشر واحدة، ولكن كل أنسان يعبِّر عنها بلغته، فقالت: صدقت يا ولدي، فإنني ما زلت حتى اليوم أحسُّ بالألم، إذا ما تذكرت ذلك الشاب الذي صارحته بحبي، فجبهني وازدرى مشاعري الصادقة نحوه. [/FONT]
[FONT=&quot]فقلت لها: وهذا موجود عند شكسبير في رواياته المختلفة، فقد عبَّر عن الغيرة القاتلة في أوتيلو (عطيل)، والجشع القاتل في تاجر البندقية، وتناقض الشهوة والحيرة والتردد والانتقام في هاملت، وهو موجود عند اللورد بايرون، الذي التحق باليونانيين في حربهم ضد الأتراك، وعند شاعر سكوتلنده روبرت بيرنز وغيرهم، فقالت: وهل قرأت عن كل هؤلاء يا ولدي، فقلت لها: نعم، عنهم وعن غيرهم، لأن اهتمامي كان ولم يزل في الشعر والشعراء العرب وغير العرب من الذين أفهم لغتهم، فاستمتع بقراءة شعرهم.[/FONT]
[FONT=&quot]فقلت لها: ولكن هناك أمر آخر شغلني وحيرني، فأحب أن أسمع رأيك فيه لكي أسترشد به، فقالت: وما هو يا بني؟ قلت لها: إصرار إحدى طالباتي الانكليزيات على دعوتي للعشاء مع والديها، فقد اعتذرت لها مراراً، فلم ينفع اعتذاري معها، ولكنها أكدت عليَّ اليوم ذلك، فقبلت دعوتها في يوم السبت القادم مضطراً وعلى مضض. [/FONT]
[FONT=&quot]فقالت: يظهر لي يا ولدي بأن هذه الطالبة تحبك أيضاً مثل السيدة في المكتبة، فقد كانت تكثر الحديث عنك أمام والديها، فأحبوا، بدافع الفضول inquisitive وحب الاستطلاع، التعرف عليك، ونحن أمةٌ قد خدعنا كلَّ شعوب الأرض واستعمرناهم بخداعنا لهم، ونظن أن كل شعوب الأرض تريد خداعنا، ولذلك لا نثق بسهولة بأحد إلا إذا تأكدنا كل التأكد منه، فلعل هذه العائلة من طبقة المحافظين وليست من الطبقة الوسطى، ولذلك لا أجد حرجاً في قبول دعوتهم، حتى ترى ما هو قصدهم من دعوتهم لك.[/FONT]
[FONT=&quot]فقلت لها: حسناً، سأذهب إليهم يوم السبت القادم ، وسوف أخبرك بالتفاصيل، واسمحي لي الآن بعبور الشارع إلى الكلية، فنهضتُ، وعبرت الشارع، ونلتُ وجبة العشاء في مطعم الكلية، وعدت أدراجي إلى البيت، فإذا مس بين قد غادرت غرفتي إلى غرفة جلوسها، فدخلت إليها، فرأيتها تقرأ في الإنجيل، ورأيت النار في الموقد قد بدأت بالذبول والانطفاء، فاسرعت إلى مخزن الفحم، وغرفت منه الفحم، ورميته على النار في الموقد، فبدأت تتقد قليلاً، وملأت غلاية الماء لكي أُعدَّ الشاي لها ولي، فقالت: فليباركك الربُّ يا بني، فقلت لها: وأنت أيضاً يا مس بين، وملأت قدحين من الشاي الساخن، فقدمت أحدهما إليها، وحملت الثاني إلى غرفتي. [/FONT]
[FONT=&quot]تناوبتني الهواجس والظنون والشكوك من دعوة الطالبة المشاكسة، فبعد أن قطعت عليها الطريق في إشراكي مع زمرتها من الطلاب في مناقشة القساوسة، تفتق ذهنها الشيطاني عن هذه الدعوة، فلا بدَّ أنها أقنعت والديها قبل أن تدعوني، لأنها الوحيدة لهما، وفجأة قطع عليَّ هواجسي، دخول مس بين إلى غرفتي، فقالت: ليلة سعيدة يا ولدي، فقلت لها: ليلتك أسعد يا مس بين، وصعدت إلى الحمام ومن ثم إلى غرفة نومها، وبقيت وحيداً في غرفتي مع هواجسي وشكوكي وظنوني، فنظرت إلى الآلة الكاتبة القابعة على الطاولة فلمستها، وهمست لها: أنتِ سببُ إحدى البلايا التي ألمت بي، وبليت بها.[/FONT]
[FONT=&quot]نظرت في جدول ساعات الإشراف على الطلبة، فوجدت أن الساعة الثالثة غداً هي ساعة الإشراف في المعهد على الطالب الجديد، الذي أضافه مجلس المعهد إلى الطالبة المشاكسة والطالب اليهودي، وقد علمت بأن هذا الطالب كاثوليكي النِحْلَة، فاجتمع عندي: انكليكانية وكاثوليكي ويهودي، ويُعلِّمهم معلمٌ مسلمٌ، فتذكرت ما ذكرته في حلقة سابقة من أن عالماً مسلماً زار أحد معاهد الاستشراق في أوربا، فرأى أستاذاً يهودياً يعلم القرآن للطلاب النصارى، فاستعذت بالله من الشيطان، وأطفأت المدفأة الحجرية وأضواء البيت، وتسلقت الدرج إلى الحمام ومنه إلى غرفة نومي الباردة وفراشي الجليدي. [/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (98):[/FONT]
[FONT=&quot]عِدِيني وَامطُلي، أبداً، فحِسبي *** وِصَالاً أنْ أرَاكِ وَأنْ تَرَيْني[/FONT]
[FONT=&quot]ولا يغريك قـــول الناس عني *** فحسبي أن أبيتَ قرير عين[/FONT]
[FONT=&quot]أفقت، كعادتي، مبكراً، ولما نظرت من نافذة غرفة نومي إلى الحديقة الخلفية، لم أرَ فيها أو منها شيئاً، فقد اكتنفها ضباب كثيف، غطَّى عليها، فأسرعت إلى الحمام، ثم لبست ثيابي، ونزلت إلى غرفتي حيث أوقدت المدفأة الحجرية أولاً، ثم بادرت إلى مخزن الفحم الذي لم أره بوضوح لكثافة الضباب، فغرفت منه، وألقيت الفحم على نار الموقد الخامدة وحركتها بالمحراك، فبدأت بالتألق والتَّوقُّد، وبدأ الدفء يسري في غرفة جلوس سيدة البيت، فأعددت فطوري البسيط من الشاي والبيض والجبن والمربى والخبز، وحملته إلى غرفتي التي بدأ الدفء يسري فيها، ولما انتهيت منه غسلت الأواني في المطبخ وأودعتها في أماكنها، وخرجت من البيت، بعد أن أطفأت المدفأة الحجرية، مع سايكلي متوجهاً إلى المكتبة، فكنت لا أرى ما هو أمامي ولا ما هو خلفي من كثافة الضباب، إلا بصيصَ أضوية السيارات التي كانت تسير بحذر وببطء شديد، ولو لم أعرف الطريق إلى المكتبة لما وصلت إليها، إذ كانت مصابيح الشوارع لا تضيء إلا لنفسها، وكانت مصابيح المكتبة الداخلية لا تكاد تُرى من الخارج، فركنت سايكلي، وتسلقت درج المكتبة إلى ركني وطاولتي، فوجدت نسخةَ رسالتي التي تركها الطالب اليهودي ديفد، فلم أعرها اهتماماً، فنزلت إلى كافيتريا المكتبة، فكانت خاوية على عروشها إلا من النادلة، والسكون يلفُّ جوانبها، فطلبت كوباً من القهوة، وأخذته إلى مكاني القصيَّ لأحتسي القهوة منه وحيداً فريداً، فسمعت وقع أقدام على سلم الكافيتريا، فإذا أنا بالسيدة المسؤولة عن الكتب، فطلبت شيئاً من النادلة واتجهت نحوي، فقمت لها احتراماً، فسلمت فرددت عليها السلام، فقالت: عجيب! كيف وصلت في هذا الضباب الكثيف؟ فقلت لها: وأنتِ كيف وصلت؟ فقالت: جئت بسيارتي، ولكنني كنت حذرة جداً في سياقتي، فقلت لها: أنا جئت راكباً على حماري الحديدي الذي يعرف الطريق، وأنا أهتدي به، فضحكت، وقالت: وما الذي جاء بك إلى المكتبة؟ فقلت لها: لدي ساعة إشراف في الثالثة على أحد الطلبة في المعهد، ولم أدر ماذا أعمل، فجاء بي حماري إلى هنا، وأنا انتظر حتى تحين ساعة الإشراف حتى أذهب للمعهد. [/FONT]
[FONT=&quot]فقالت: يا فلان، كل يوم يزداد إعجابي بتصرفاتك، فقلت لها: أية تصرفات تعنين؟ قالت: حرصك الشديد على الالتزام بمواعيدك، فإن غيرك قد يجد سبباً في التنصل من الموعد بسبب كثافة الضباب، ولا أظن أن هذا الطالب سوف يأتي للمعهد في هذا الجو. [/FONT]
[FONT=&quot]فقلت لها: سوف ألتزم بواجبي في الحضور سواءاً جاء أو لم يجي، وإن حرصي على الالتزام بمواعيدي نابع من شيئين: [/FONT]
[FONT=&quot]أولهما: ديني، والثاني: أملته عليَّ تجاربي، فأما الديني فقد قال الله تعالى في القرآن: "وأوفوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً"، وأنت تعرفين العربية فلا أحتاج أن أترجمه لك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "آيةُ المنافق ثلاثٌ إذا حدَّثَ كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا ائتمنَ خانَ"، فلا أحب أن أكون منافقاً.[/FONT]
[FONT=&quot]وثانبهما: ما يخص تجاربي الشخصية، فحدثُها عن سارجنت الملعون، وما فعل معي في مدرسة الدراسات الشرقية والافريقية في لندن، وما قال لي، وبكائي ونحيبي في حديقة رسل سكوير.[/FONT]
[FONT=&quot]وحدثتها عن الأستاذ في جامعة دَرَم، وكيف أن عشر دقائق تأخرتها عن الموعد كانت سبباً في امتناع الأستاذ عن قبولي أو حتى مقابلتي؟؟ [/FONT]
[FONT=&quot]وحدثتها عن كتابتي لجامعة سانت اندروز، واعتذار الأستاذ هناك عن قبولي، وكيف هيأ الله لي مكين السريلانكي وكتابته الرسالة، في الوقت الذي استولى عليَّ فيه اليأس، وكيف قبلني الأستاذ آربري دون أن يطلب مني رؤية أية وثيقة، فهل ترين في التزامي بالموعد اليوم له ما ينقضه أو ما يبرره؟؟ يا سيدتي؟[/FONT]
[FONT=&quot]ظلت السيدة تنصت لي باهتمام شديد، فرأيت دموعها تتحدر على خديها، وأخذت يدي وصارت تقبلها، وتقول: اسمح لي، اسمح لي،، فتساقطت دموعها على يدي، فسحبتها برفق وتؤدة، ولما مسحت دموعها، قالت: اعذرني، فلم أكن أعرف ما عانيته من ألم ممضٍّ وحسرة وقنوط وإحباط ويأس، وفوق كل ذلك صبرك العميق ومثابرتك للوصول إلى هدفك، وأنا الآن أشد حباً لك، وتعلقاً بك، بعد أن حدثتني بصراحتك الصادقة، عن كلِّ ما كنت أجهله عنك، [/FONT]
[FONT=&quot]فقلت لها: وأنا الآن أشدُّ إعجاباً بأخلاقك السامية ومشاعرك الصادقة الصافبة، فلعل الله ييسر لي ولك الخير، فقالت: يا فلان، يكفيني هذا منك، ولا أطمع إلا في إسعادك، ما استطعت، بعد كل ما سمعته اليوم منك، فنهضتْ ونهضتُ لتحيتها، فغادرت الكافيتريا. [/FONT]
[FONT=&quot]بقيت وحدي في الكافيتريا، فطلبت كوباً آخر من القهوة، وعدت به إلى مكاني، فنظرت في ساعتي فكانت الثانية والنصف، فشربت قهوتي الثانية، وتركت المكتبة مع سايكلي ماشياً متوجها للمعهد، وهو لا يبعد كثيراً عن المكتبة، فلما وصلت إليه، ركنت سايكلي على جداره الخارجي، ودخلت إليه، فلم أجد أحداً فيه إلا السكرتيرة التي هرعت إليَّ، وقالت: لقد اتصل الطالب فلان بالتلفون، وهو يعتذر عن القدوم، بسبب كثافة الضباب، وخطورة المواصلات، فقلت لها: كثافة الضباب لم تمنعني من القدوم في الموعد المحدد، فقالت: لقد جازفت أنا وخاطرت في القدوم، لأنني يجب أن أكون في المعهد، فلم يحضر أحد من المحاضرين سواك، فشكرتها على إيصال رسالة الطالب، فودعتها، وخرجت إلى سايكلي، الذي لم أسمع منه حمحمة حصان عنترة حين قال:[/FONT]
[FONT=&quot]فازورَّ من وقع القنا بلبانه *** فشكا إليَّ بعبرة وتحمحم[/FONT]
[FONT=&quot]وقدته ماشياً بيدي، وهو صامتٌ مثلي، صبورٌ على جوري وتعنتي معه، متوجهاً إلى مقهى الطليان في مركز المدينة، فلما وصلت إليها بعد لأي، ركنت سايكلي، ودخلت إليها، فلم أجد إلا القليل من الزبائن فيها، فلما رأتني النادلة أسرعت إليَّ، وقالت: عجيب!! كيف جئت في هذا الجو المخيف الخانق؟ فقلت لها: للضرورة أحكام، قالت: وما هي الضرورة؟ قلت لها: كان عندي موعد مع أحد الطلاب في المعهد فلم يأت بسبب الضباب، فلم أعرف ماذا أفعل؟ فجئت للمقهى، فقالت: مرحباً بك، القائمة نفسها، قلت لها: لو تفضلتِ!! فجاءت بالقهوة ومعها قطعة كبيرة من الحلوى، فقلت لها: وما هذه الحلوى؟ فقالت: هذه حصتي لم أجد أحداً يستأهلها اليوم غيرك، فشكرتها على كرمها وجميل خلقها، فقالت: ماركريت تسألني دائماً عنك، وهل تأتي باستمرار للمقهى، فقلت لها: أبلغيها تحياتي، وحرضيها على الدراسة، فقالت: أنا مرتاحة من سلوكها، فقد تبدلت، وتحسن سلوكها معي كثيراً. [/FONT]
[FONT=&quot]وسألتها عن الفتاة أم الصبي، وهل سمعت شيئاً من وزارة الخارجية البريطانية، فقالت: كانت أمس هنا مع الصبي، وكتبت رسالة إلى أب الصبي حسب العنوان الذي أخذته منك، ولكنها لم تخبرني بشيء آخر، فلعلها لم تسمع بعد شيئاً.[/FONT]
[FONT=&quot]تركت المقهى والضباب يزداد كثافة، وبدأ الرذاذ يتطاير عليَّ، فقدت سايكلي ماشياً، متوجهاً إلى البيت، وقد لاحظت أن حركة السيارات والسايكلات والناس، قد توقفت تماماً في الشوارع، فكأنني أشق عباب الضباب مع سايكلي حتى وصلت إل البيت، فركنت سايكلي في الحديقة الأمامية، ولم ألحظ النور في غرفتي لكثافة الضباب، فقلت: لعل مس بين في غرفة جلوسها، ولكنني وجدتها تنتظرني في غرفتي حين فتحت الباب، وقد أوقدت المدفأة الحجرية، فسلمت عليها، فقالت: الحمد للرب حين أوصلك سالماً إلى البيت.[/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (99):[/FONT]
[FONT=&quot]عديني وامطلي وعــدي عديني *** وديني بالصبــابة فهـي ديني*[/FONT]
[FONT=&quot]صدقتكِ في الــودادِ ولم أُداجي *** فإن الصـدق يمحــو كلَّ شَيْنِ[/FONT]
[FONT=&quot]لحا الله الكواذب كـــــم أشاعوا *** على الأحباب من كَذِبٍ ومَينِ[/FONT]
[FONT=&quot]ما كدت أنزع معطفي المبلل، حتى انثالت علي أسئلة مس بين، أين كنت يا ولدي؟ ولماذا خرجت يا بني في مثل هذا الجو التعيس، والضباب الكثيف؟ [/FONT]
[FONT=&quot]فسردت لها ما جرى لي من موعدي مع أحد الطلاب، وذهابي إلى المكتبة، وماذا جرى لي مع السيدة في الكافيتريا، وذهابي إلى المعهد، وقول السكرتيرة لي حول اعتذار الطالب، وذهابي إلى المقهى، وما شاهدته في الطريق إلى البيت، من هدوء تام في كل شيء، إذ لم أر حانوتاً مفتوحاً، ولا سيارة تسير، ولا غربان الطلبة والطالبات تطير على السايكلات إلى قاعات الدروس.[/FONT]
[FONT=&quot]كانت مس بين تنصت باهتمام شديد لسردي، فلما انتهيت، قالت: أخزى الرب الشيطان، فما كدتَ تتخلص من شباك بنت جارتنا، حتى تولتك شباك سيدة المكتبة وشباك الطالبة، فقلت لها: ولكن شباكك أغلظ من شباكهن، فضحكت طويلاً، ثم قالت: شباك الوالدة التي تحمي ولدها ليست بشباك يا ولدي، فقلت لها: صدقت، فلو كانت شباكهن مثل شباكك الرحيمة لهان علي ما ألقى من كيدهن؟ فقالت: وماذا أنت فاعلٌ؟ قلت لها: لا أدري؟؟؟ [/FONT]
[FONT=&quot]فقالت: غداً السبت، وفيه موعدك على العشاء مع الطالبة ووالديها، وإني لأرجو الرب أن يستمر الضباب الكثيف حتى تجد لنفسك عذراً ، فقلت لها: يا سيدتي العزيزة، أنت تعرفين أنني لا أُخلُّ بأي موعدٍ، ولا أتنصل منه، فلعل الضباب سوف ينقشع في الصباح، أو ربما تخف كثافته، لأن موعدي معها في الساعة السادسة مساءاً، فقالت: أرجو أن لا ينقشع أو يخف، فقلت لها: ومع هذا إذا جاءت، فإنني سأراها في ساعتي التدريسية في المعهد، إذا انقشع الضباب، أو لم ينقشع، ولكن ماذا ترين أن آخذ معي لهم إذا انقشع الضباب، قالت: باقة من الزهور فقط، إذا كانت الدكاكين مفتوحة. [/FONT]
[FONT=&quot]ونهضتُ وقلت لها: اسمحي لي أن أعبر الشارع إلى الكلية لأحظى بوجبة العشاء، فقالت: يؤسفني يا ولدي أنني لم استطع أن أطبخ لك صحن الربربر منذ أيام لسوء الجو، فقلت لها: حفظك الرب يا مس بين، فقالت: اذهب يا ولدي إلى الكلية يحفظك الرب ويرعاك. [/FONT]
[FONT=&quot]كان المطعم مكتظاً على غير العادة، فأخذت مكاني في الطابور الطويل، ولما جاء دوري حملت صينيتي بيدي فلم أجد مكاناً خالياً، فأخذتها إلى نادي الطلاب الذي كان خالياً، ولما انتهيت من العشاء، أعدت الصينية والصحون إلى أماكنها في المطعم، وعبرت الشارع إلى البيت، فوجدت مس بين لم تزل جالسة في غرفتي أمام المدفأة الحجرية، فحييتها، فردت، وكان الإنجيل في يدها، فبادرت إلى غرفة جلوسها وملأت غلاية الماء ووضعتها على الموقد، وانتظرت حتى يغلي الماء فيها، فأعددت كاسين من الشاي، وحملتهما مع السكر إلى غرفتي، فلما رأت الشاي، قالت: شكراً لك يا ولدي، فكأنك كنت تقرأ أفكاري، فقلت لها: عندنا مثل نتداوله، قالت: ما هو؟ قلت لها: قلب الحرِّ يعلم، فترجمته لها، فقالت: عجيب!! فإن مثله عندنا، فقلت لها: وما هو في لغتكم؟ [/FONT]
[FONT=&quot]قالت: A Clean Heart perceives، فقلت لها: المعنى في مثلكم يكاد يكون قريبا من مثلنا إلا أن مثلكم له طابع ديني كنسي، فقالت: كيف؟ فقلت لها: هذا المثل ينقص منه كلمة "الله" The Lord في آخره، وهو يعني: قلب المؤمن بيسوع يدرك وجود الله فيه، فقالت: الغريب إن هذا المعنى لم يطرأ على خاطري، ولا أظن أن أحداً سبقك إلى هذا الفهم فيه، فقلت لها: بل القساوسة ورجال الدين يفهمونه بهذا المعنى، فقالت: كل يوم أتعلم منك شيئاً جديداً يا ولدي، فقلت لها: وأنا حتى اليوم، وبعد سنتين، لم أتعلم منك طريقة طبخ الربربر، فضحكت، وقالت: سوف أكتب لك طريقة طبخه، فقلت لها: وما حاجتي إلى وصفة الطبخ وعندي الطباخة الماهرة نفسها؟ فضحكت وقد بان على وجهها السرور، فقالت: ليس عجيباً أن تفتتنَ بك الفتيات الانكليزيات يا ولدي، ثم نهضت وألقت عليَّ تحية المساء، وقالت: ليلة سعيدة يا ولدي، فقلت لها: ومثلها لك، وصعدت إلى الحمام ومنه إلى غرفة نومها.[/FONT]
[FONT=&quot]لم أجد ما أُشغل به نفسي، ففكرت في ما يخبئه لي الغد من مفاجئات، وكيف سأتصرف مع والديِّ الطالبة المشاكسة على مائدة العشاء، إذ لم يسبق لي أن دخلت إلى بيت عائلة إنكليزية ناهيك عن العشاء معها، سوى بيت نادلة المقهى الطليانية، حين زرتها لما كانت مريضة، فشربت عندها القهوة فقط، وسوى بيت أستاذي الذي كنت أشرب الشاي مع الحلويات معه ومع زوجته المصرية في بيته؟ فهمست في نفسي: يحلها الحلاَّل، ونظرت من غرفتي إلى الشارع، فكان الضباب الكثيف على أشده، فأطفأت المدفأة الحجرية وأضواء البيت، وتسلقت السلم إلى الحمام ومنه إلى غرفة نومي الباردة وفراشي الثلجي البارد.[/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
[FONT=&quot]*البيت الأول لمريد أحب ابنة شيخه، فلم يقدر أن يصارحها، فمات كمداً، فوجدوا هذه القصيدة تحت مخدته، أما البيت الثاني والثالث فهما لي.[/FONT]
 
[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (100):[/FONT]
[FONT=&quot]عِدْيني فالهوى عَــذْبٌ عِدْيني *** ولا تُبْقِيْ وصالَك بَيْنَ بَيْنِ[/FONT]
[FONT=&quot]فما ندري لعَلَّ غــــداً سَيُبْـدي *** بِمَــا نُخْفِيهِ مِنْ شَوقٍ دَفينِ[/FONT]
[FONT=&quot]أفقت صباحاً كعادتي مبكراً على وقع سقوط حبات البَرَد المتقطع، التي كانت تضرب سقوف المرائب (الكراجات) المعدنية في الحدائق الخلفية للبيوت بشدة، فنظرت من نافذة غرفة نومي إلى الحديقة الخلفية، فرأيت أن الضباب الكثيف قد اختفى تماماً، فاسرعت إلى الحمام فاغتسلت ولبست ثيابي، وهبطت إلى غرفة جلوس سيدة البيت، فلاحظت أن نار الموقد كادت تخمد، ففتحت باب الحديقة، وغرفت الفحم من المخزن وألقيتة على النار وحركتها بالمحراك، فبدأت تتقد قليلاً قليلاً، ثم أسرعت إلى غرفتي، فأوقدت المدفأة الحجرية، وعدت إلى غرفة جلوس السيدة، حيث أعددت فطوري البسيط، وأخذته إلى غرفتي الباردة التي بدأ الدفء يسري فيها، ولما انتهيت منه غسلت الأواني في المطبخ وأودعتها في أماكنها، ونظرت من غرفتي إلى الشارع فرأيت كرات الثلج التي تغطي الشوارع قد بدأت بالذوبان بسبب الملح والرمل الذي تنثره سيارات البلدية في شوارع المدينة الرئيسة، فخرجت من البيت، بعد أن أطفأت المدفأة الحجرية، وامتطيت سايكلي متوجهاً إلى المكتبة التي كانت لا تقفل أبوابها إلا أيام الأحد فقط من كل أسبوع، فلما وصلت إليها، ركنت سايكلي الهرم مع غيره، وتسلقت درج المكتبة، فرأيت، ويا للمفاجأة، الطالبة المشاكسة واقفة أمام البوابة، فسلمت عليها، وقلت لها: ما الذي جاء بك الآن؟ وموعدنا في السادسة؟ فقالت: من حسن حظي أنك جئتَ إلى المكتبة، فقلت لها: ماذا تريدين أن تقولي يا فلانة؟ قالت: جئت لكي أخبرك أن أمي مريضة اليوم، وأود أن نتفق على موعد آخر في الأسبوع القادم، فقلت لها: طيب، تعالي معي لنشرب القهوة سوية في الكافيتريا، فنزلنا إلى الكافيتريا معاً وطلبت كوبين من القهوة، واخترت مكاناً بعيداً عن بقية الزبائن، ولما استقر بنا المقام، قلت له: لماذا انت ووالداك مصرون على هذه الدعوة؟ فقالت: يا أستاذي العزيز، هل على عينيك غشاوة؟ فلم تدرك سبب إصراري؟ فقلت لها: لا أظن أن على عينيَّ غشاوةً يا فلانة فلم أدرك سبب إصرارك، فإن الله تعالى يقول: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ"، وأرجو أن يخيب ظني في ما ظننت، فقالت: وماذا ظننتَ؟ فقلت لها: أرجو يا فلانة أن تريحي أعصابي، وتقولي لي عن سبب هذا الإصرار، فقالت: ألم تدرك بعد السبب الذي حداني إلى كتابة رسالتي إلى مجلس المعهد بأن أبقى تحت إشرافك؟ والسبب بكل بساطة لأنني أحبك حباً جمَّاً؟ ووالداي يعرفان ذلك، وقد أخبرتهما بمشاعري نحوك، فأحبوا أن يروك، إن كنت أهلاً لحبِّ ابنتهما الوحيدة؟ فرددت في نفسي المثل العراقي: جانت عايزة والتمَّتْ. [/FONT]
[FONT=&quot]فقلت لها: يا فلانة هذا وسام شرف وفخر كبيرين منك لي، وأنا أعتزُّ اعتزازاً شديداً بهذه المشاعر الرائعة التي عبَّرتِ بها نحوي، وسوف لن أرفض دعوتك في يوم السبت القادم إذا تحسنت صحة والدتك، فقالت: إذاً اتفقنا؟ فقلت لها: نعم يا فلانة اتفقنا. [/FONT]
[FONT=&quot]ثم قلت لها: ومتى ساعة إشرافي عليك؟ قالت: يوم الاثنين في الساعة الثالثة، وكالعادة في المعهد، فنهضتْ وقالت: إلى اللقاء، فقلت: إلى اللقاء، وهنا تذكرت قول جرير:[/FONT]
[FONT=&quot]إنَّ الذين غدوا بلبِّك غـادروا *** وَشَـلاً بعينك لا يزال معينا[/FONT]
[FONT=&quot]غيَّضنَ من عبراتهنَّ وقلنَ لي: *** ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟[/FONT]
[FONT=&quot]جلست وحيداً فريداً أفكر في ما سمعت منها، فطلبت قهوة ثانية، فقلت في نفسي: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، الذي لا ينفكُّ متلذلذاً في دفع عميلاته للإيقاع بي في شباكهن، فأين المفرُّ؟ فلا مفرَّ منك إلا إليك.[/FONT]
[FONT=&quot]خرجت من المكتبة، وقدت سايكلي بيدي خلال الكليات إلى مركز المدينة، وركنته عند المقهى الطلياني، فكانت كعادتها مليئة بالزبائن والدخان، ولما رأتني النادلة، قالت: جئت في وقتك، فقلت لها: إنك لا تقولين: جئت في وقتك إلا لأمر مهم، فقالت: انظر إلى من يجلس هناك؟ إنها تنتظرك، فرميت بصري من خلال الدخان، فرأيت الفتاة مع عربة الصبي، فقلت للنادلة: هل سمعت شيئاً من وزارة الخارجية البريطانية؟ فقالت: لا، وها هي تريد أن تكلمك، فاقتربت الفتاة مني مع عربة الطفل، وقالت: أريد أن أشكرك على عنوان أب هذا الصبي، فقد أرسل لي رسالة رداً على رسالتي، يتأسف فيها على ترك بريطانيا مسرعاً، لسبب عسكري لم يفضِ به، وأنه سوف يعود للتزوج بي هنا وأخذي مع ولدي إلى العراق، وقد فرح جداً برسالتي، فقلت لها: أرجو أن يكون صادقاً، وأرجو أن يجتمع شملك به، فقالت: أنا متأكدة من نيته، فقلت لها: الخير في ما أختاره الله، The benevolence is that as chosen by God فقالت: أحسُّ بالشك في كلامك، فقلت لها: إن صدق في وعده أم لم يصدق، فأنت في خير هنا وأمان في بلدك بدلاً من مجازفتك للسفر إلى بلد غريب، ثم إن هذه الرسالة اعتراف منه بأبوبته للطفل، فاحتفظي بها له، فلعله يحتاجها إذا كبر وبحث عن أبيه، فقالت: صدقت، فودعتني وانصرفت إلى طاولتها.[/FONT]
[FONT=&quot]خرجت من المقهى، وكان الجو بارداً جداً وهادئاً، فامتطيت سايكلي الهرم الذي لم يتبرم ولم يحتج على سوء معاملتي له، مولياً شطر البيت، ولما وصلت إليه ركنته كالعادة في الحديقة الأمامية، وفتحت الباب الخارجي ودخلت إلى غرفتي، وأوقدت المدفأة الحجرية، فما كان أسرع من دخول مس بين إلى غرفتي، فسلمت فرددت عليها، فقالت: جئت مبكراً، فأين كنت يا ولدي، فسردت عليها ما قالت لي الطالبة وما رددت عليها، وقصة الفتاة مع الصبي، فقالت: عجيب أمر بنات هذا الزمان وجرأتهن على الشباب، فقلت لها: وأين العجب؟ وقد حدث الأمر كذلك معك، حين صارحتِ من أحببت فازدرى مشاعرك؟ فقالت: صدقت يا ولدي، فقلت لها: أنا لست من جنس الملائكة ولكنني لا أشعر بالحب الذي يشعرن به، ولم ألتق بعد بفتاة تستولي على قلبي ومشاعري، فلعلي من صنف القرود، فضحكت طويلاً، ثم قالت: جارتنا تشتكي من كثرة الفتيات اللآتي يدخلن في غرف الطلبة، وأنا لم أر أية فتاة تدخل غرفتك سراً أو علانية إلا سيدة المكتبة التي جاءت للإطمئنان عليك وقد كنت محرَجاً حين أخبرتني أنت عنها.[/FONT]
[FONT=&quot]فقلت لها: لن أسمح لأية فتاة بالدخول إلى غرفة جلوسي إلا بعد أن أستأذن منك مقدماً، فقالت: بارك الرب فيك يا ولدي، ولكنني لا أرى مانعاً إذا أحببت أن تدعو أية فتاة إلى غرفتك، فقلت: نعم بعد أن أستأذن منك أولاً، والآن اسمحي لي بعبور الشارع إلى الكلية، فقالت: بالصحة التامة يا ولدي. [/FONT]
[FONT=&quot]كان المطعم مزدحماً بالطلبة، وكان الأساتذة المنتمون للكلية fellows يجلسون، وهم في لباسهم الأكاديمي والقفطان الأسود، على طاولة أعلى من طاولات الطلبة في صدر قاعة المطعم، وكان لهم طبيخ خاص لهم وخدم خاصون بهم، فلا يعانون من الاصطفاف في الطابور، وهنا تتجلى الطبقية الإنكليزية بأجلى صورها البشعة، فوقفت مع الطابور حتى إذا جاء دوري أخذت صينيتي بيدي وجلست في مكان فارغ مع بقية الطلاب، ولما انتهيت من العشاء، أعدت الصينية مع الأواني إلى أمكنتها، بينما يقف خدم الأساتذه لتلقي أوامر هذا أو ذاك، ويحملون الأواني الفارغة وكؤوس النبيذ لأماكنها، وهم منهمكون بالحديث في ما بينهم. [/FONT]
[FONT=&quot]عبرت الشارع فرأيت الظلام مخيماً على غرفتي، فحدست أن مس بين إما انزوت في غرفة جلوسها أو صعدت إلى غرفة نومها، فلما فتحت الباب رأيت ضوءاً من تحت باب غرف جلوسها، فدخلت إلى غرفتي، فرأيت أن المدفأة الحجرية لم تزل موقدة، فأسرعت إلى غرفة جلوس مس بين، فوجدتها نائمة على كرسيها والإنجيل في يدها، فأفاقت لما شعرت بدخولي، فقالت: آسفة يا ولدي، فقلت لها: هل تحبين كأساً من الشاي؟ فقالت: نعم، فملأت غلاية الماء ووضعتها على الموقد، فلما غليَ الماء، أعددت كأسين من الشاي لها ولي، فقالت: يا ولدي العزيز لا أعرف كيف أشكرك على عنايتك بي، فقلت لها: وأية عناية هذه في إعداد الشاي لك ولي؟ فقالت: ليس في الشاي يا ولدي، ولكن في شعورك الطيب الذي يدفعك لعمل مثل هذه الأمور ولو أنها صغيرة، فقلت لها: إن ديننا أوصانا بالوالدين خيراً، وأنت بمثابة أمي، والعناية بك هي مثل العناية بأمي، فقالت: وهل ما زالت أمك على قيد الحياة؟ فقلت لها: نعم، فقالت: نعم الوالدة والدتك التي ربتك على الحنان والطيبة في الأخلاق. [/FONT]
[FONT=&quot]أخذت كأس الشاي إلى غرفتي، فما كدت أجلس فإذا بمس بين تدخل الغرفة وبيدها صحن الربربر، فأخذته منها وشكرتها على طبخه، وقلت لها: فما حاجتي بوصفة طبخه يا سيدتي؟ فضحكت، وقال: ليلة سعيدة يا ولدي، فقلت لها: ولك أيضاً يا مس بين، فصعدت إلى الحمام ومن ثم إلى غرفتها.[/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (101):[/FONT]
[FONT=&quot]عِديني يا مُنَى قَلْبي عِـديني*** فحسبي أنْ أرَاكِ وَأنْ تَرَيْني[/FONT]
[FONT=&quot]ولا تَدَعِيْ العـواذلَ شَامِتَاتٍ *** فَـإنَّ البَيْنَ مِنْـكِ عليَّ بَيْـنِي[/FONT]
[FONT=&quot]حين صعدت مس بين إلى غرفة نومها، بقيت وحيداً فريداً في غرفتي، لا يؤنس وحدتي إلا صحن الربربر على الطاولة، والمدفأة الحجرية والآلة الكاتبة، القابعة الصامتة الصابرة عليَّ كصبري على بلايا عميلات الشيطان، اللاتي يؤزُهُنَّ على الإيقاع بي، فتذكرت قول الطالبة المشاكسة عن والديها: "فأَحبوا أن يَرَوْك، إن كنت أهلاً لحبِّ ابنتهما الوحيدة"؟ فاستغربت في نفسي من شروط هذه الأهلِّية التي يتوخاها والداها فيَّ، وهل أنا مؤهل لحب ابنتهما؟ وهل تتوفر فيَّ هذه الشروط حتى أكون أهلاً لحبها؟ بل وحتى لو كنت مؤهلاً لذلك، وتتوفر فيَّ كل شروط هذه الأهلية، فماذا يترتب على كل هذا؟ [/FONT]
[FONT=&quot]وفجأة وأنا مع هذا الهواجس التي تدور في رأسي، سمعت نقراً على زجاج النافذة، فلما فتحت الباب كانت سيدة المكتبة واقفة عند الباب، فسلمت عليَّ فرددت عليها السلام، ودعوتها للدخول بسرعة، لأنها كانت ترتجف من البرد، فلما جلست على الكنبة، أسرعت إلى غرفة جلوس السيدة لأعدَّ لها الشاي، فحملت كأسين من الشاي الساخن مع السكر إلى غرفتي، فقالت: كم أنا في حاجة إلى تسخين معدتي في هذا البرد الشديد، وقد جئت لك بخبر قد يسرك، لأنني لا اشتغل يوم السبت، ولذلك لم أذهب اليوم إلى المكتبة، فقد أخبرتني صديقتي سكرتيرة المعهد اليوم بأسماء المناقشين، وشدَّدت علي أن لا أخبر أحداً باسمهما، فقلت لها: وكيف عرفت أسماء المناقشين؟ قالت: حين طلب أستاذك إرسال نسخ رسالتك لهم، فقلت لها: ومن هم؟ فقالت: هما مونتكومري واط من جامعة أدنبره وريتشارد فالتزر من جامعة أكسفورد، فلما ذكرت اسم فالتزر اليهودي والألماني الأصل، ارتعب قلبي، وقلت: يا ساتر، فقالت: لماذا أنت خائف منه؟ فقلت لها: سُمْعته سيئةٌ بين طلبة الدكتوراه، بأنه شديد على الطلبة العرب، ولا يكاد طالب عربي يسلم منه، فقد رفض بعض رسائل الدكتوراه وانزلها إلى درجة ماجستير أو أنه رفضها تماماً، فكان على بعضهم أن يعيد بحثه من الأول، ولم يجرؤ المشرف ولا المناقش الآخر أو الآخرون على الوقوف ضده. [/FONT]
[FONT=&quot]وأعرف طالباً عراقياً كان الدكتور لايونز يشرف عليه، وكان هذا الطالب يرى نفسه فيلسوف زمانه، فلما كان يوم المناقشة، كان فالتزر من ضمن المناقشين فأصرَّ على تنزيل درجته إلى الماجستير بدلاً من الدكتوراه، فلم يعبأ هذ الطالب بالنتيجة، وأخذ درجته وسافر إلى بلده. [/FONT]
[FONT=&quot]فقالت: اسمع مني، فقلت لها: وماذا أسمع؟ فقالت: أستاذك يحترم علمه كلُّ المستشرقين الإنكليز وغير الإنكليز، ومنزلته العلمية عندهم غير منزلة لايونز، ولا أظن أن فالتزر أو غيره سوف يجرؤ على تحديه إذا قرر أمراً، بل وحتى لو اعترض فالتزر على رسالتك فلا أظن أن مونتكومري واط سوف يقف معه ضد أستاذك، فكن مطمئناً، [/FONT]
[FONT=&quot]وأرجو أن يكون هذا بيني وبينك فقط، فقلت لها بالعربية: السر عند كرام الناس مكتوم، فضحكت، واستأذنت للذهاب، وشكرتني على الشاي، فقلت لها: هل جئت بسيارتك؟ فقالت: لماذا هذا السؤال؟ فقلت لها: إن سيارتي المصونة تحتاج إلى تحريك عضلاتها من طول مكثها في المرأب، فقالت: دعها في ترفها البارد، فقد جئت بسيارتي، فودعتها عند الباب، وشكرتها على تجشمها عناء الزيارة. [/FONT]
[FONT=&quot]عدت إلى وحدتي وهواجسي، ونظرت إلى الآلة الكاتبة فتأسفت أنني لم أردها إليها، أو أحملها إلى سيارتها، فقد حملتها هذه السيدة الفاضلة أول مرة إلى بيت البولندي حين كنت ساكناً فيه، وكانت السبب الذي حملني على تغيير مكان سكني إلى بيت مس بين، فهمست في نفسي: الخير في ما أختاره الله. [/FONT]
[FONT=&quot]فتذكرت قول الشاعر:[/FONT]
[FONT=&quot]دعِ المقـــاديرَ تجري في أعنّتها *** ولا تَبِيتَنَّ إلا خـاليَ البالِ[/FONT]
[FONT=&quot]ما بين غمْضةِ عين وانتباهتِها *** يغيّر الله مِنْ حالٍ إلى حالِ[/FONT]
[FONT=&quot]أطفأت المدفأة الحجرية، وأضواء البيت، وتسلقت السلم إلى الحمام ومنه إلى غرفة نومي المثلجة.[/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
عودة
أعلى