ذكريات أو مذكرات الدكتور قاسم السمرائي

من دفتر الذكريات (39):
دع الذكرى تمزقهــــا يدايــــا *** وخلِّ الكأسَ يرشفهـــا سوايا
فمـــا فيها إذا جاشت ففاضت *** سـوى أمـلٍ تطوف بـــه منايا
ألملم شعثهـــــا بيدي فلمـــــا *** ملكتُ زمامهــا كانت بقايـــــا
دع الذكرى فؤادي في جراحٍ *** فما أبقى الزمان سـوى رؤايا
 
من دفتر الذكريات (40):
كان الفحم الحجري أهم مادة تستعمل لتشغيل المصانع في بريطانيا، وكذلك كل محطات الكهرباء والقطارات، وكان الناس يستعملونه في البيوت للتدفئة، وتسخين مياه الحمامات، وكانت مناجمه الكثيرة ترفد المصانع وأمثالها والبيوت به، وكان في كل بيت مخزن خاص له من الحديد أو الخشب في حديقته الخلفية، ودام هذا النظام مستمراً حتى الثمانينات حين بدأوا بإغلاق المناجم، نتيجة تلوث البيئة، واستبدلوه بالديزل والمازوت ومشتقات البترول.
فإذا حدث ضباب وبخاصة في لندن، وما أكثر ما كان يحدث، فيتحول الضباب مع الدخان إلى هواء رمادي اللون، ولذلك كانت كل واجهات العمارات في لندن سوداء اللون، وتقوم البلدية في صيف كل سنة بغسل المباني من الخارج.
وكان واحد من مخازن الفحم الحجري في حديقة السيدة الخلفية. وكان الغاز يوزع عبر أنابيب تحت الأرض إلى البيوت لتدفئة الغرف بالمواقد الحجرية التي غالباً ما يكون عدَّادٌ خاص ملحقاً بها لقياس استهلاك الغاز وبخاصة في الغرف المستأجرة إذ لا يشتغل العداد ومن ثم الغاز إلا بعملة الشلن النقدية، فكان يأتي موظف شركة الغاز كلَّ أسبوع، فيفتح جانب العداد ويحسب العملات النقدية حسب استهلاك الغاز فيأخد المبلغ المطلوب، ويترك ما زاد جنب العداد حتى يستعمله المستأجر مرة أخرى. إلا أن الموقد الحجري في غرفة جلوسي كان خالياً من هذا العداد، فكنت استعمله باقتصاد شديد.
وإذا اشتد البرد في الشتاء ونزل الثلج بغزارة، كنت أهرع صباحاً إلى مخزن الفحم الحجري في الحديقة الخلفية من البيت وأغرف الفحم منه، وأوقد الموقد في غرفة جلوس السيدة لتدفئته ولتدفئة ماء المغسلة والحمام في الطابق الثاني في ما بين غرفة نومي وغرفة نومها من البيت، ثم أعدُّ ما تيسر من إفطاري، وأهرع إلى المكتبة التي كانت التدفئة فيها تدفئة مركزية على الفحم الحجري أيضاً، ومنها أعود إلى الكلية للغداء أو للعشاء، ومن ثم إلى طابعتي المنهكة وحديث مس بين عن حياتها الأولى أيام الحرب العالمية الثانية، وعائلتها ورفو جواربي، وصحن الرباربر.
دمت على هذا المنوال طيلة المدة التي قضيتها في الجامعة، وداومت على ارتياد المكتبة لتجميع المادة لبحثي، وبمرور الشهور بدأت أرى بعض الطلاب العرب والطالبات من العراق والسعودية والبحرين والكويت وسوريا وليبيا ومصر يزداد عددهم في الجامعة باختصاصات مختلفة، إلا أنني كنت منكبَّاً على بحثي، ولذلك لم أتعرف إلا على بعضهم حين كنت أرتاد المقهى الإيطالي في العطل الإسبوعية، فأقابلهم إما في الشارع أو في المكتبة، وكان بعضهم منعزلاً تماماً حتى عن طلاب بلده ناهيك عن الطلاب العرب.
قرأت كل ما عثرت عليه من الكتب والمقالات في القائمة التي زودتني بها السيدة المشرفة على الكتب المطبوعة، واستعنت بأحد المترجمين العارفين باللغة الفرنسية، التي أجهلها وما زلت، وقرأت التوراة والإنجيل أكثر من مرة، وقرأت جميع كتب التصوف التي وجدتها في المكتبة، وكتب الرجال، وبعض المخطوطات الموجودة فيها وتلك التي وصلت إلي من جملة من المكتبات الخارجية، وبدأت أجمع الجزازات وأرتبها حسب خطة البحث، ولذلك لم أزر أستاذي مدة طويلة، حتى انتهيب من الفصل الأول الذي كان يدور حول الحياة الدينية والسياسية في نيسابور، والفصل الثاني الذي كان يدور حول حياة الإمام زين الدين عبد الكريم بن هوازن القشيري مؤلف كتاب المعراج ونشاطاته العلمية والمحن التي مرت عليه في حياته، والفصل الثالث حول إضطهاد العلماء الأشاعرة في نيسابور وخراسان وسببه السياسي والديني.
وقبل أن أحدد موعداً مع أستاذي، استعنت بشاب إنكليزي فطن، وطلبت منه أن يقرأ الفصول ويصقل فيها لغتي polish up ويعيد طباعة الفصول، لقاء أجرة طبعاً، ففعل هذا في عدة أيام، فاتصلت بأستاذي، وحددت معه موعداً في بيته.
(له صلة)
 
من دفتر الذكريات (41):
لم أكن مطمئناً لما كتبت، لأنني كنت أعرف مقدماً أن أستاذي يعرف القشيري معرفة جيدة، فقد سبق له أن كتب عنه مقالاً طريفاً بعنوان: "القشيري محدِّثاً" في سنة 1953، وأنه خبر التصوف العربي والفارسي، وكتب في كليهما كتباً وترجمةً كاملة لبعضها ومقالات عديدة، كنت قد قرأتها كلها بتمعن وإمعان شديدين حتى يكون عندي جوابٌ إذا ما سألني، أو استفسر عن أية فكرة في ما كتبت في هذه الفصول.
فلما وصلت إلى بيته شعرت بالقلق يغمر جوانحي، فتوقفت عند الباب الخارجي ولم أجرؤ على رن جرس الباب، فتراجعت خطوات، وأنا ارتجف من البرد القارس الشديد، فقلت في نفسي: وأيش يحدث؟ أسوأ ما يكون أنه يقول لي: أعد البحث من جديد لأنك لم تقرأ كذا أو كذا ..
فتشحعت وضغطت الجرس، ففتحت الباب زوجة أستاذي، فحييتها فردت التحية،
وقالت: تفضل يا فلان، ونادتني باسمي الأول، وهذا شرف لمن يعرف العادات الإنكليزية
وقالت لي: آرثر في غرفته، فدققت عليه الباب،
فصاح: ادخل،
فدخلت وسلمت عليه، وقدمت له أوراقي، فلما نظر فيها قال: الظاهر انك قد أجهدت نفسك،
فقلت له: إنني أحس بالمتعة في بحثي،
فقال: هذا شعور يحسه كل جاد في عمله، وقد قرأت أن نبي الإسلام، قال: "إذا عمل أحدكم عملاً فليتقنه"، قالها بالعربية، ثم أردف قائلاً بالانكليزية: دعها معي، وتركها على طاولة مكتبه، ولكن تعال عندي بعد أسبوع، وسار معي إلى غرفة الجلوس فوجدنا زوجته قد أعدت الشاي والحلويات.

دارت في هذه الجلسة أحاديث كثيرة، ثم التفت إليَّ وقال: انظر إلى هذه السجادة (الزربية)، التي تحت الطاولة فنظرت إليها فأذا هي من أجمل ما رأيت نسيجاً وزخرفة، ومصنوعة من الحرير الخالص
فقلت له: جميلة جداً
فقال: هذه أهداها لي شاه إيران اعترافاً بما قمت به في ترجمة قصائد حافظ الشيرازي ورباعيات جلال الدين الرومي، وغيرها من الأدب الفارسي، وقد سمعت حديثاً أن ترجمتي للقرآن قد مُنع تداولها في باكستان
فقلت له: ولماذا منعت؟
فقال: لست أدري،
فقلت له: أستاذي الجليل، أنا أنظم الشعر وأدرك أن الشعر ليس بوحي ولكنه موهبة تولد مع الإنسان، وهو يعكس ما بداخل الفرد من مشاعر وأحاسيس فتنطلق في شعره، فإذا وجد الشاعر بيئة ثقافية ملائمة، نمت هذه الموهبة وترعرت، وأقول لك مخلصاً دون تزلف أو نفاق: إن ترجمتك للقرآن الكريم ترجمة شعرية رائعة، فأنت شاعر
فقالت زوجته: اسمع ما يقول هذا العربي الشاعر، ولا تلق بالاً للنقاد الحاسدين.
فقال: أتعرف يا فلان أن زملائي من المسشرقين في كمبردج وغيرها يشعرون بالغيرة والحسد على ترجمتي للقرآن؟

(له صلة)
 
من دفتر الذكريات (42):
أستأذنت في الانصراف، فنهض أستاذي معي وسار حتى الباب الخارجي،
فودعته وأنا أقول في نفسي: "يشعرون بالغيرة والحسد على ترجمتي للقرآن"!
وقد كان صادقاً لأنني سمعت من السيدة المسؤولة عن الكتب الشرقية في المكتبة، أن همساً كان يدور في حلقات المستشرقين، بل وفي أروقة الجامعة نفسها بأن آربري أظهر روحاً إسلاميةً في هذه الترجمة لم يعهدوها من قبل في كل الترجمات التي سبقته.

ولما عدت إلى مقدمة ترجمته فإذا هو يقول: "إن نص القرآن كما طبع في القرن العشرين مطابق تماماً لنص القرآن الذي أجازة عثمان منذ أكثر من 1300 سنة مضت".
وهذا ردٌّ علمي مفحم من عالم خبير، على من حاول بعده أمثال جون ونسبره John Wansbrough ومايكل كوك و باتريشيا كرون ومن لفَّ لفهم وتبنى أسلوبهم حتى الآن، الذين أرادوا إخضاع النص القرآني للنقد الداخلي والنقد الخارجي لعلهم يجدون فيه تناقضاً كما هو موجود في التوراة والإنجيل.
أورد آربري في مقدمته القصيرة كل الروايات الموثوقة في تجميع المصحف من المواد المختلفة ومن صدور الرجال، وقيام زيد بن ثابت بجمعه، ولم يحد عن ذلك، وذكر أن القرآن الكريم سبق أن تُرجم مراراً إلى اللاتينية أولاً ثم إلى غيرها، وذكر جملة من المترجمين الإنكليز مثل سيل وردويل الذي حاول إعادة ترتيب السور، وأخيراً ريتشارد بيل، إلا أنه لم يورد أيَّ رأيٍ يؤيد أو يناقض أسلوب ترجمته.
وقال في مقدمته: "إن القرآن ليس نثراً وليس شعراً لكنه نسيج متناسق فريد من كليهما". إن الخبير باللغة الانكليزية يرى أن آربري استعمل لفظة طاقة وقوة مرتين، ففي الأولى جاءت بحرف صغير power وفي الثانية بحرف كبير ليدل على الوحي، واستعمل لفظة scripture التي تدل على الكتاب المقدس، وهو يريد هنا: "القرآن".
فكان ذكياً جداً في قول ما يريد قوله دون أن يدع ثغرة في سرده، لأن أسلوبه سهل للقاريء وفي الوقت نفسه أخَّاذ، فإذا أراد قول شيء جوهري، قال: لقد روي أنَّ It is reported that ويسرد ما يريد بدقة متناهية، دون أن يشغل القاريء بالحواشي.
وأنهي مقدمته قائلاً: بأنه قام بعمله هذا في "وقت مررت فيه بكرب شخصي شديد، حيث كانت لي فيه سلوى ومؤاساة أيدت هذا الكاتب الذي سوف يكون لها دائما شكوراً، وهو لذلك يقرُّ ويعترف بالامتنان لتلك القوة أو الطاقة (Power) التي ألهمت الرجل والنبي الذي بدأ بتلاوة هذه النصوص" scripture. وختم بقوله "وأدعو أن يكون هذا التفسير، مع إنه صدى بائس على ما هو عليه، للأصل الجليل، فإنه قد يُعلِّم ويُبهج، وإلى بعض الحدود، يُلهم أولئك الذين يقرأونه".
إذاً ليس في الأمر عجبٌ أن يرى مستشرقوا عصره بأنه نجح نجاحاً ثقافياً وعلمياً في ما أخفقوا فيه، حين غلبت عليهم خلفياتهم النصرانية، وتخلى هو عنها. وما زالت ترجمة آربري للقرآن الكريم تطبع وتنشر ويعاد طبعها ونشرها حتى يومنا هذا في أغلب أرجاء البلدان التي تتكلم الإنكليزية، أو حتى في غيرها.
(له صلة)
 
من دفتر الذكريات (43):
مرت الأيام سراعاً ما بين البيت والكلية والمكتبة التي أدمنت على ارتيادها والجلوس فيها، حيث اخترت ركناً فيه طاولة وكرسي بين الكتب الشرقية المطبوعة، فعُرفتُ بي هذه الطاولة، وعُرفتْ بها، على مدى سنيِّ دراستي. فكان كل من يود مقابلتي يعرف مكاني الثابت في الركن.
كنت أكدِّس الكتب التي أحتاجها، وأضع في كل كتاب ورقة خاصة من المكتبة تشير إلى أن هذا الكتاب محجوز للبحث، ولذلك لا يستطيع موظفوا القسم أن يرجعوه إلى مكانه على الرف إلا إذا احتاجه طالب آخر أو أي مرتاد على المكتبة.
وكان في استطاعة كل طالب في الدراسات العليا وغير العليا أن يستعير عدداً من الكتب، ليدرسها في بيته أو غرفته لمدة محدودة، ويمكنه أن يجدد هذه المدة إذا لم يحجز هذا الكتاب أو ذاك طالب آخر أو مرتاد آخر، فتُعلمه المكتبة بذلك حتى يعيده لها، ويمكنه أن يطلب حجزه أيضاً.
ولم تتبدل سيرتي اليومية سوى أنني اقتنيت سايكلاً (بايسكل) قديماً دون ثمن من أحد الطلاب، وأصلحت ما فيه من خلل، إذ كان معظم الطلاب والطالبات في السنوات الأولى من دراستهم، ويسمونهم: undergraduates يملكون سايكلات ويلبسون جباباً قصيرة بلون أسود مثل العباءآت، فتراها تطير من ورائهم وهم يتسابقون في شوارع المدينة إلى كلياتهم أو إلى قاعات الدرس، وكأنهم غربان طائرة على السايكلات. وكانت هذه المناظر مألوفة لسكان المدينة، لأن المدينة تعيش في اقتصادها على الجامعة ومن فيها وليس العكس، كما هي الحال في أكسفورد الصناعية.
أما طلبة الدراسات العليا فكان عليهم أن يقتنوا جباباً طويلة سوداء اللون بأكمام طويلة أيضا، وكذلك أساتذة الجامعة، تذكِّر كل من يراها بجباب علماء المسلمين، فهل هي تقليد قديم لعلماء المسلمين في الأندلس؟ ذلك ما فكرت فيه ولم أتحقق منه علمياً.
ومرت أيام الأسبوع ثقيلة الخطى، فقد كنت متلهفاً وقلقاً لسماع رأي أستاذي في ما كتبت من فصول، إذ اكتشفت بعض المعلومات الجديدة التي كان يجب أن تكون فيها، فتريثت حتى أرى ماذا سيقول أستاذي أولاً.
سارعت على سايكلي إلى بيت الأستاذ، واللهفة تعصف بجوانحي، والقلق يزلزل صدري، فضغطت على الجرس ففتح أستاذي الباب فألقيت عليه التحية ..
ردَّ قائلاً: تفضل ادخل .. وسار أمامي إلى غرفة مكتبه.

ولما جلس وجلست، ناولني أوراقي، وقال: ما كتبت جيد يفي بالمرام حسب خطتك، وقد صححت فيها وبدَّلت في بعض عباراتها، فأرى أن تستمر على خطتك الأولى، ولا أرى أن تريني ما تكتب من الفصول الأخرى إلى أن تصل إلى أراء المستشرقين في مسألة العروج فهو مهم لي، وأود أن أطَّلع عليه.
فقلت له: أمرك أستاذي

ولما حاولت أن أشرح له ما عثرت عليه من معلومات جديدة، قال لي بهدوء عجيب: يا فلان، أنا الآن مقتنع بأنك قد خططت لك طريقاً لا بدَّ أنك بالغه، فسر على هذا الطريق وأدخل هذه المعلومات في أمكنتها من الفصول.
ثم نهض ونهضت، وحاولت أن أودعه، فقال: إلى أين؟
المدام تنتظرنا على الشاي، فخجلت من تسرعي.
وسار أمامي إلى غرفة الجلوس حيث كانت المدام فسلمت عليها فردت،
وجلسنا لشرب الشاي وأكل الحلويات، كعادتهما في إكرام الضيوف.

(له صلة)
 
من دفتر الذكريات (44):
خرجت من بيت أستاذي مزهواً، وقد انزاح القلق، وحلت السكينة والثقة بالنفس في جوانحي، فسرت في الشارع وأنا أردد قول أستاذي: "ولا أرى أن تُريني ما تكتب من الفصول الأخرى"، فجرجرت سايكلي القديم المتعب مثلي بيدي، رغم البرد الشديد، فأحسست بفرح غامر يلف قلبي إذ اجتزت العقبة الكؤود الأولى في مسيرتي الدراسية.
عدت أدراجي مع سايكلي إلى البيت، فركنته في الحديقة الأمامية حيث كنت أفرغ فيها صحون طبيخ الربربر من النافذة، حين تكون سيدة البيت قد أوت إلى فراشها.
عبرت الشارع إلى الكلية لتناول طعام العشاء، فلما انتهيت منه رجعت، فوجدت سيدة البيت في غرفتها أمام الموقد الذي أوقدته لها صباحاً مع جارتنا التي تؤجر غرفاً في بيتها أيضاً.
فلما سلمت عليهما، قالت لي الجارة: تعال اسمع ماذا قالت مس بين عنك،
فقلت لها: وماذا قالت؟
قالت: مس بين تقول: إن كاسيم ولدي قد عوضني الرب به حين لم يهبني ولداً.
فقلت لها: أحسب ان مس بين تبالغ في قولها، ولكنني أفتخر جداً بما قالت لك، وهذا شرف لي أن أكون ابناً لها، فهي تستحق كل تجلة واحترام، فهي رؤوفة بي لأنها تقوم برفو جواربي وطبخ حساء الربربر اللذيذ، وأتعلم منها لغتي، وتونسني حين أكون في غرفتي بحكاياتها الطريفة.
فقالت: يا ليت أحد المستأجرين عندي مثلك في رعايتها واحترامها، فكلهم يأتون متأخرين سكارى مع صديقاتهم، ويعملون ضجيجاً في الشارع حين يدخلون إلى غرفهم وبخاصة في نهاية الاسبوع.
فقلت لها: إن ديننا يأمرنا باحترام من هو أكبر سناً، ويؤكد على احترام الأب والأم خاصة، وأوصانا أن نخفض لهما جناح الذل من الرحمة، ونقول: رب ارحمهما كما ربياني صغيرا.
فقالت: حتى ابنتي الممرضة لا تعاملني بالرحمة كما تعامل أنت مس بين؟!
فقلت لها: الذنب يقع عليك، لأنك ربما لم تحسني تربيتها، ثم ان مجتمعكم الذي تنادون فيه بالحرية للأولاد هو الذي جرَّأ أولادكم عليكم، وإذا تجرأ الطفل قلَّ احترامه لأبويه عندما يكبر.

فتذكرت في حينها قول الشاعر: الأم مدرسةٌ إذا أعددتها *** أعددت شعباً طيَّبَ الأعراق
ثم التفتُّ إلى سيدة البيت، وقلت لها: مس بين! سوف أعمل لكما شاياً عراقياً وعندي بعض الحلويات التركية في غرفتي،
فقالت مس بين لجارتها: ألم أقل لك إنه ولدي؟ فضحكتا.
وأثناء شرب الشاي حدثهما عما حدث لي مع أستاذي، والشعور الذي انتابني قبل مقابلتي له، وما جرى لي بعد هذه المقابلة.
فقالت الجارة: كنت أسمع الشكاوى الكثيرة من الطلاب من سوء تصرف أساتذتهم وعنجهيتهم مع طلابهم،
فقلت لها: الأساتذة بشرٌ مثلنا، فإن فيهم الوديع المتواضع في أخلاقه، وفيهم المتعالي على غيره وفيهم الحقود وفيهم ما في كل البشر، وكل هذا يعتمد على جدية الطالب وحرصه في دراسته ومع استاذه، فإنك لو رميتي قطعة خشب في الماء هل تغرق؟
قالت: طبعاَ لا
قلت لها: وإذا رميتي قطعة حديد
قالت: تغرق طبعا
قلت لها: البشر هكذا في أخلاقهم وسلوكهم.
فقالت: كل ما قلته صحيح، فلكل إنسان أخلاق خاصة وطبيعة خاصة به.
فودعتهما وعدت إلى غرفتي وإلى طابعتي المنهكة، لأكمل نص المخطوطة الذي نقلته بخطي الرديء. وسرعان ما خرجت الجارة إلى بيتها، وجاءت مس بين إلى غرفتي مع أن غرفة جلوسها كانت أدفأ من غرفتي، وجلست في مكانها المفضل من الكنبة، وأنا مستمر مع طابعتي ونص المخطوطة.
فقالت: إن ما قلته للجارة فلانة هو صحيح، وهو ما أشعر به نحوك
فقلت لها: جزاك الرب أحسن الجزاء على هذه المشاعر النبيلة، وأنا لا استحق كل هذا منك.
وأردت إدارة دفة الحديث، فسألتها عن ابنة الجارة الممرضة، فأسهبت في الحديث عن سلوكها المشين مع أمها، وقلة احترامها لها مع أنها تسكن مع أمها، ولا تعتني بها ولا تكاد تساعدها مالياً ولا في شؤون البيت.
وحدث في اليوم التالي أن شاهدت هذه الممرضة أمام بيتها، فقلت لها: يا فلانة أود الحديث معك لو سمحت
فقالت: تفضل
فقلت لها: انظري إلى هذا الحجر الثقيل، هل تستطيعن حمله في بطنك لمدة تسعة شهور؟
فقالت: أمرك غريب!! وماذا تقصد من هذا؟
فقلت لها: أمك التي حملتك تسعة شهور في بطنها وتحملت آلام المخاض والولادة حتى تمنحك الحياة، ثم أعتنت بك وأنت طفلة ثم وأنت مراهقة، ثم وأنت في المدرسة حتى تخرجت ممرضة، أما تستحق منك الحب والحنان اللذين أسدتهما لك طول حياتك فتعاملينها بما تستحق من حب وحنان واحترام؟
فنظرت في وجهي والدهشة تعلو قسائم وجهها،
فقالت: هل شكت أمي إليك؟ فإنني لم أسمع أحداً يحدثني بمثل ما حدثتني به اليوم، فأشعرتني بتقصيري في حق أمي، فأنا شاكرة ممتنة لك،
فقلت لها: أرجو أن تفكري بكل كلمة قلتها لك، لأنني لم أقصد منها إلا المودة والجيرة الحسنة، فودعتها وانصرفت إلى عملها.
وبعد أيام من محادثتي للمرضة، قالت لي مس بين: ماذا فعلت مع ابنة الجارة؟
فقلت لها: وماذا فعلت؟
قالت: لقد تغير سلوكها مع أمها، وقد سألتني أمها عما قلت أنت لابنتها فلم أعرف.
فقلت لها: يا مس بين، إن النصيحة الخالصة، إذا خرجت من القلب السليم دخلت في الأذن المريضة فشفتها.

(له صلة)
 
من دفتر الذكريات (45):
مرَّ الشتاء ببرده وثلجه، وأنا وطابعتي والعشاء في الكلية وسايكلي الذي لم أكف عن إصلاحه حتى تعب مني وتعبت منه، فأبدلته بخير منه مجاناً أيضا، إذ تركه لي أحد طلاب الكلية حين شاهد سايكلي العتيق يكاد ينقضُّ من الإعياء، لثقل الكتب التي كنت أحملها عليه من المكتبة إلى البيت ومن البيت إلى المكتبة.
وقال لي: إذا تكسَّر هذا السايكل، فاذهب إلى خلف باحة الكلية الفلانية فإنك تجد عشرات السايكلات التي تركها الطلاب والطالبات، فاختر منها ما يناسبك واترك هذا لغيرك هناك، فشكرته على هذه المعلومة الجديدة.
واستمرت طرائف مس بين وصحون الربربر، ولذلك لم أر أستاذي طوال كل هذه المدة، ولم يستدعني لزيارته، فكنت مسروراً أنه لم يطلب مني زيارته، لأنني لم أنجز له شيئاً ذا بال إلا الجزازات الكثيرة التي نظمتها في أماكنها، حسب خطة البحث. واستمر عملي في المكتبة مع الكتب المكدسة على طاولتي، في ركني المعروف، اقتبس منها ما ينفعني في هذا الفصل أو ذاك.
وجاءت عطلة الصيف السنوية، فسافرت إلى ألمانيا لمدة أسبوعين عبر الطريق الذي سافرت فيه أول مرة، لأزور أخي هناك، وهو أكبر مني سناً، وكانت مصادفة جميلة لم أتوقعها أن يكون أخي الآخر، وهو أصغر مني سناً، والذي كان يدرس الهندسة المعمارية في ميونخ موجوداً، فالتمَّ شمل ثلاثة أخوة، ففرحنا ببعضنا، واستمتعنا في الحديث الطويل عن أيامنا الماضية حين كنا صغاراً، وتذكرنا ما كانت تقول الوالدة وما كان يقول الوالد، والحوادث الصغيرة والكبيرة التي كانت تحدث في محلتنا وعند جيراننا، والفتيات اللاتي كنا نغازلهن أيام مراهقتنا عبر سطوح المنازل.
وفي أثناء الحديث المسائي، قال لي أخي الأصغر: شفت!! لولا حادثة البعرور ما وصلت إلى كمبردج، فضحكنا طويلاً، وترجم أخي الأكبر ما قلناه لزوجته،
فقالت: وما هي حادثة البعرور؟ تبدو أنها حكاية طريفة استشفها من طريقة ضحككم؟
فقال لها أخي بالألمانية، التي بدأت أفهمها: كان هذا، وأشار إليَّ، في المدرسة الابتدائية، فرآه أخونا الأكبر في الشارع، في الوقت الذي كان يجب أن يكون في المدرسة.
فقال له: لماذا لم تذهب إلى المدرسة؟ فتعلل بضياع حذائه،
فأخذه من يده إلى البيت، وأغلق الباب، وبدأ يبحث عن حذائه فوجده مخفياً في مكان خفي من البيت، فلما رآه هذا الشقي هرب إلى سرداب في أسفل البيت، كنا نكدِّس فيه البعرور (هو بعر الخرفان والشياه) لاستعماله في تنور الخبز، فلحقة أخي الأكبر، وقد تملكه الغضب هناك، حيث أراد هذا الشقي الاختفاء وراء أكداس البعرور، فبدأ يضربه، ويقول له: أريدك أن تكون مثلي، أريدك أن تكون أحسن مني، فإن والدنا يجهد نفسه في تربيتنا وفي تعليمنا.
فخرج هذا الشقي من السرداب، وهو يبكي، ويقول لأخي الأكبر: سترى يا فلان بأنني سوف أكون مثلك أو أحسن منك، إن شاء الله، ومن ذلك اليوم لم يتأخر عن مدرسته قط.

ولما انتهي أخي من الترجمة، قالت زوجته ضاحكةً: حادثة البعرور هذه علَّمته أن يكون جريئاً، فلذلك حصل على عمل في المصنع، حين لم تكن هناك حاجة لأي أحد فيه، ولولا هذه الجرأة والإقدام والحرص الشديد على التعلم، لما وصل إلى جامعة كمبردج.
(له صلة)
 
من دفتر الذكريات (46):
لم أدع أيام الاسبوعين تمرّ من دون أن أزور مختبر المصنع الذي اشتغلت فيه ما يقرب الشهرين، حيث توطدَّت أُصر الصداقة والزمالة مع العاملين فيه، وبخاصة مدبره ورفيقتي في جمع المياه في الدوارق والقوارير والتي تعلمت منها أول مباديء اللغة الألمانية.
ولما وصلت إلى بوابة المصنع وكانت بطاقة دخول المصنع معي، كان الحارس نفسه فابتسم، وقال: هل تريد مقابلة الهر فلان؟ فحييته وابتسمت، وقلت له: لا! ولكنني أود زيارة زملائي في المختبر، فقال: أنت تعرف الطريق إلى المختبر، فدلفت من البوابة الضخمة واتجهت إلى الدرج الذي يقود إلى المختبر، فتسلقته بتؤدة وتأنٍ، وتذكرت حينها تلك السرعة التي تسلقت فيها الدرج نفسه في المرة الأولى، فقلت في نفسي: سبحان مغير الأحوال.
وصلت إلى باب المختبر وكان مفتوحاً، فدخلت إلى قاعة التحاليل، فرآني بعض العاملين فيها فأسرع لتحيتي، وتجمهر الباقون حولي بما فيهم رفيقتي، فسمع مدير المختبر الضوضاء وهو في غرفته، فجاء يستجلي الأمر، فرآني فأسرع لتحيتي وضمني إلى صدرة، وقال: جميل منك أن تزورنا، وهذا دليل على وفائك لنا، فأجبته بما تيسر إذ ذاك، فأخذني إلى غرفته، وسألني عن دراستي وماذا أنجزت خلال المدة التي فارقتهم فيها، فأخبرته باختصار شديد، فظهر عليه السرور، وفجأة جاءت رفيقتي إلى غرفة المدير بالقهوة والحلويات، وتبعها بعض العاملين في المختبر، فجلسنا نستمتع بالقهوة والحلويات وبالحديث العام بالانكليزية وبالألمانية المكسرة ، فكانوا يضحكون على ألمانيتي المكسرة، وكنت أضحك على إنكليزية رفيقتي المكسرة أيضاً.
استأذنتهم للإنصراف، بعد أن شكرت لهم حسن استقبالهم وضيافتهم، فخرجت لألتقي بأخي الأصغر في المقهى المفضلة التي دخلتها أول ما وصلت في المرة الأولى، فحدثته عما حصل، فقال: عامل الناس بالمعروف تلق المعاملة نفسها منهم.
وفي المساء أخبرت أخي وزوجته عن ما لقيت من حفاوة في المختبر، فقالا: جميل ما فعلت، وسوف يذكرونها لك ولنا.
وانبرى أخي قائلاً: لم تخبرنا مع من تسكن في كمبردج؟ فقلت له: مع سيدة إنكليزية تعاملني وكأنني ابنٌ لها، وأنا اتصرف معها كأمٍّ لي.
فقال: هل تذكر أيام وصولك أنت إلى لندن، لكي تلتحق بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية، وحين ذهبنا سوية إلى مكتب إيجار الغرف، فزودونا ببعض العناوين التي تؤجر الغرف؟
فقلت له: نعم أذكر ذلك، وأذكر اننا كنا إذا وصلنا إلى أي عنوان نرى لوحة مكتوب عليه: "لا ملونين" (No Coloured)، فنذهب إلى الثاني والثالث، إلى أن وجدنا غرفتين مع سيدة يهودية في فنزبري بارك، وكانت هذه السيدة تسرق الشلنات مما فضل من فلوس عداد الغاز حين يتركها موظف الغاز في غرفتينا، فضحكنا من قلوبنا.
ولما ترجم أخي ذلك لزوجته، قالت: سمعت ذلك كثيراً حين كنت في لندن،
فقلت لهما: هذا لا يحدث في كمبردج ولم أره إطلاقاً، لأن المدينة تعيش في اقتصادها على الجامعة، أما لندن فإنها تختلف عن بقية المدن في تعدد الجنسيات نتيجة استعمار بريطانيا للهند وجزر الكاريبي وغيرها من البلدان الأفريقية.
وادرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
(له صلة).
 
من دفتر الذكريات (47):
ودعت أخوتي الأحبة بعد انقضاء الاسبوعين اللذين كانا ممتعين بينهما جداً، إذ أن الأحاديث المممتعة عن ذكرياتنا الطفولية والصحبة الأخوية التي كنا نفتقدها في الغربة، أعادتنا إلى أيامنا الخوالي الجميلة بحلوها ومرها، فملأت قلبي رضىً وجوانحي حبوراً، وجدد هذان الأسبوعان عرى الأخوة في ما بيننا بعد طول فراق واغتراب، وتعاهدنا على تكرار هذا اللقاء الممتع الرائع في قابل الأيام، وفي الوقت نفسه أبعداني عن المكتبة وعن الكتب وحجزها وعن الجزازات التي تنتظر مني أن أنسقها في كتابة فصل جديد، وعن صحون الربربر وسايكلي المركون في الحديقة الأمامية، بيد انني كنت أحنُّ إلى طابعتي المنهكة وإلى تكملة نص المخطوطة الذي تركته منقطع الذيول أو الحواشي، وإلى أحاديث مس بين الطريفة عن أهلها وعن الحرب وعن حياتها.
عدت من هاتنكن بالمترو إلى مدينة بوخم الصناعية، ومنها أخذت القطار السريع إلى مرفأ اوست اينده البلجيكي الواقع على الجانب الشرقي من بحر الشمال، ومنه بالباخرة إلى لندن، فكان القطار والباخرة مزدحمين بالسواح من شتى الأعمار والجنسيات، فاخترت مقعداً قريباً من دورات المياه خوفاً من التهوُّع أو التقيوءُّ الذي أصاب الكثير من السواح بسبب اضطراب أمواج البحر، فصار بعضهم يلقي ما في بطنه قبل أن يصل إلى دورات المياه.
وأخيراً وصلت إلى لندن ولله الحمد، وكان الجو كالحاً ممطراً، فركبت قطار الأنفاق إلى محطة القطارات التي يكون القطار الذاهب إلى كمبردج فيها، فوجدت آخر القطارات إلى كمبردج فعلوت متنه، فسار الهوينى أولاً ثم جدَّ في السرعة الهائلة رغم المطر والرياح، فكانت حافلاته تتموج مع الرياح وصوت عجلاته لا تكف عن الصراخ والزعيق إذا ما دار أو لفَّ في طريقه، حتى بدأت سرعته تخف بعد طول انتظار، فأدركت بأننا قريبون من كمبردج، فحمدت الله على السلامة، وكان الأمر كذلك.
كان الوقت إذ ذاك يقرب من الساعة الثانية عشرة، فأسرعت إلى أقرب التاكسيات، فأخذني إلى باب البيت، فنقدته الأجرة، ونظرت فإذا الظلام يلف جوانب البيت، وسايكلي لم يزل في مكانه تحت المطر، فعلمت بأن سيدة البيت قد أوت إلى فراشها، فدخلت إلى غرفتي وأنا ارتجف من البرد والبلل، إلا أن البيت كان دافئاً، لكن غرفة جلوسي كانت باردة، فأسرعت إلى موقد الغاز، فبدأ الدفء يتسرب تدريجياً في الغرفة. فأبدلت ملابسي المبللة، ودلفت إلى المطبخ لعلي أجد شيئاً أتبلغ به، فوجدت صحن طبيخ الربربر موضوعاَ ومغطىً على أعلى الموقد، فسررت إذا ذاك به وبحلاوته وبدفئه، فكان عشائي يتكون من الربربر الانكليزي مع الخبز الألماني الذي جئت به في حقيبتي الصغيرة والسكر المستورد من كوبا.
كان الإرهاق قد بلغ مني مبلغه، فهرعت إلى الحمام، فإذا مس بين خارجة للتوِّ منه، فرحبت بي ترحيباً شديداً، ولكن دون قُبلةِ على الخد لأن ذلك ليس من عادات الانكليز، وقالت: مرحباً بك يا ولدي العزيز، كيف كانت رحلتك؟ فلا بدَّ انها كانت متعبة مع هذا الجو الممطر؟
فقلت لها: سوف أحدثك غداً عن سفرتي وتفاصيلها، فقالت: ليلة سعيدة هانئة،
فقلت لها: ذلك ما أحتاجه الآن.
فأويت إلى فراشي البارد، والمطر لم يزل ينهمر بغزارة في الخارج فلم أشعر به،
واستسلمت إلى نوم هاديء عميق.
(له صلة).
 
من دفتر الذكريات (48):
صحوت مبكراً، وكان الجو صحواً وبارداً، ففتحت باب الحديقة الخلفية وغرفت الفحم الحجري من المخزن، وأوقدت الموقد قبل أن تنزل مس بين من غرفتها، وأعددت طعام الإفطار لي ولها، وكان من البيض والخبز والمربى وبعض الجبن، فلما نزلت سيدة البيت ورأت الأفطار معدَّاً لها، استغربت، لأنها كانت معتادة على أن تهيء افطارها بيدها، فقالت: فليباركك الرب يا ولدي، فقلت لها: وأنت أيضاً.
وفي أثناء الإفطار، شكرتها على صحن الربربر الذي لم أكن أتوقعه، لأنني لم أتناول شيئاً في القطار أو الباخرة قبله، خوفاَ من النتائج التي رأيتها في الباخرة.
وحدثتها بالتفصيل عن رحلتي، ولقاء أخوتي، وعن القطار والباخرة وما حدث فيهما، وكانت تنصت باهتمام بالغ لحديثي، فلما انتهيت، قالت: أحمد الرب على سلامتك ووصولك إليَّ سالماً، فقد افتقدتك كثيراً يا ولدي خلال غيابك، ولكن الرب سخَّر لي بعض شباب الكنيسة، فكانوا يوقدون الموقد لي خلال مدة غيابك.
خرجت من البيت واخذت سايكلي متوجهاً إلى المكتبة، فلما صعدت إلى ركني وجدت طاولتي خاويةً على عروشها من الكتب التي حجزتها، فأسرعتُ إلى السيدة المسؤولة، فلما رأتني رحبت بي كثيراً، وسألتني عن سفرتي، فأجبتها باختصار عن المتاعب التي صادفتها في القطار والباخرة، وسألتها عن الكتب التي كنت قد حجزتها على طاولتي، فقالت: أرجعها موظفو المكتبة إلى أماكنها لأنك غبت أكثر من أسبوعين، وسأطلب منهم أن يعيدوها إلى منضدتك إذا كانت لديك قائمة بها، فأخرجت لها القائمة، فقالت: سيكونون على طاولتك بعد ساعة فقط، ولا تقلق، فشكرتها على اهتمامها، وخرجت إلى بوابة المكتبة لأستمتع بالشمس المشرقة وبسيكارتي الألمانية.
فطرأت في ذهني، وأنا أمام بوابة المكتبة، فكرة الاستعانة بالنصوص العربية التي نشرها المستشرقون لتدريب نفسي على اسلوب تحقيق نص مخطوطتي، فاستعرت كتاب تاريخ الرسل والملوك لابن جرير الطبري الذي نشره المستشرقون تحت إشراف المستشرق الهولندي دي خويه، وكان في أجزاء كثيرة وفهارس شاملة وافية كافية.
قرأت منه الكثير ،حيث كنت أتتبع النص مع الحواشي المرفقة في أسفل النص، إلا انني لاحظت أن كثيراً من الألفاظ المثبتتة في النص لا تستقيم مع المعنى المراد، وأن ما كان في الحواشي من القراءآت المختلفة في المخطوطات التي استعان بها المستشرقون في تحقيق نص الطبري هو أصلح وأصحُّ في تبيان المراد في النص، فأدركت لأول مرة معنى المقابلة بين النسخ في تبيان الصواب في قراءة المخطوطات، بيد أن مشكلتي تكمن في أن مخطوطتي فريدةٌ لا ثانيةَ لها، ونصها بعد كل هذا يحتوي على جملة من البياضات، التي تركها الناسخ لأنه لم يُحسن قراءة النص في الأصل الذي نسخ نسختي منه، فما العمل؟
استعرت جملة من النصوص التي حققها بعض المستشرقين وجملة أخرى من النصوص التي حققها بعض العرب، فلاحظت أن هؤلاء العرب قد تأثروا، بل وقلدوا أسلوب المستشرقين، حذوَ النعل بالنعل.
ولما عدت إلى ركني وجدت بعض الكتب المدرجة في القائمة، فنزلت إل كافيتريا المكتبة وطلبت كوباً من القهوة بدون حليب، ولما انتهيت منها أسرعت إلى ركني فإذا بالكتب جميعها قد عادت إلى طاولتي، فأعدت حجزها، استعداداً ليوم جديد من البحث والتنقير.
خرجت من المكتبة وسحبت سايكلي بيدي وعبرت به مشياً عبر الكليات إلى مركز المدينة حيث يوجد البنك فركنت سايكلي عند بابه واتجهت إلى أحد الموظفين فسألته عن حسابي فقال لي: فيه كذا وكذا من الباونات، فسحبت من حسابي ما أحتاجه، وخرجت متوجهاً إلى مقهى الطليان الذي كان مزدحماَ كالعادة بالطلاب والطالبات وغيرهم، فلما دخلتها فإذا بالنادلة تسرع إلى الترحاب بي، وسألتني عن غيابي فحدثتها باختصار عن سفرتي، وقالت: القائمة نفسها؟ فقلت لها: لو تفضلت؟
عدت أدراجي على سايكلي إلى البيت، فنقدت سيدة البيت أجرة الإسبوعين، فقالت: يا ولدي لماذا تسرعت، وأنا واثقة منك؟ فقلت لها: يا سيدتي، الدين همٌّ بالليل ومذلةٌ بالنهار، فلما ترجمت لها ذلك، قالت: يا بني هذه أخلاق من يؤمن بالرب، وقليل منهم موجود الآن، فقد غلبت المادة على الناس.
فقلت لها: يا سيدتي، لو خُليتْ قُلبتْ، فلما ترجمت لها ذلك: نظرت إليَّ، وقد علت وجهها دهشة عميقة، وقالت: صدقت يا ولدي، فإن هذه الحكمة تجدها في كل الأديان السماوية، ومنها دينكم الذي اتوسمه في معاملتك الطيبة لي.
(له صلة).
 
[FONT=&quot]من دفتر الذكريات (49):[/FONT]
[FONT=&quot]كان بعض أصدقائي وأحبابي من الطلاب والأساتذة وغيرهم في الرياض يجتمعون معي في فندق السعودية، وهو أرخص فندق في الرياض، للحديث في الأدب والشعر والتاريخ وما إلى ذلك، وكان جمال البنغالي يدور علينا بكؤوس الشاي حتى ساعة متأخرة من الليل، وأحيانا إلى الفجر أيام رمضان المبارك، فقلت له:[/FONT]
[FONT=&quot]اسقنا شاياً قراحا *** علَّه يشفي الجراحــا
فلئام الناس ناموا *** ونذير الفجر صـاحا
إننا قــــومٌ كرام *** نرتدي الحب وشاحا[/FONT]

[FONT=&quot](له صلة)
[/FONT]
 
[FONT=&quot]من دفتر الذكريات (50):[/FONT]
[FONT=&quot]مرت شهور الصيف رتيبةً مملةً، بحرّها وقرِّها وبردها ومطرها، وخوت المدينة من الطلاب والطالبات والكثير من الأساتذة، وازداد عدد السياح من الجنسيات المختلفة، الذين يأتون برحلات منظمة أو وحدانا لزيارة المدينة وكلياتها ومتاحفها، ويرحلون في يومهم إلى وجهة أخرى. ولم تكن إدارة المكتبة تسمح لأي سائح بدخولها لأنها حكر على أعضاء الجامعة وزائريها من الباحثين المحليين أو الأجانب الذين تسمح لهم بدخولها والاستفادة مما فيها من كتب ومخطوطات، وكان صاحبي الراهب من هؤلاء.[/FONT]
[FONT=&quot]وأنا مع كل هذا أحاول فكَّ معمَّيات نص مخطوطتي، بعد أن انتهيت من طباعتها، فبدأت بكتب الحديث الصحاح وشروحها، وكتب السنن الموجودة في المكتبة وبخاصة مسند أبي عوانة لرواية القشيري بسنده له عن أبي نعيم الاسفرائيني لبعض الأحاديث التي رواها في قصة المعراج، وكتب السيرة والشمائل وشروحها، ألتقط منها ما يتعلق بحديث المعراج النبوي الشريف. وعرجت على كتب التفسير، وهي كثيرة، وما ورد فيها في تفسير سورة الإسراء، ثم انثنيت إلى كتب الموضوعات المنشورة منها والمخطوطة، أتتبع ما جاءفيها من الموضوع والمنحول والمصنوع وما أكله السبع، من أحاديث تضحك المحزون، وتبكي العاقل.[/FONT]
[FONT=&quot]فترحمت على علماء الحديث الأجلاء وعلى علماء الجرح والتعديل الأفذاذ كالبخاري ومسلم وابن معين وابن الجوزي وابن أبي حاتم والسيوطي والقاريء الهروي وغيرهم الكثير، الذين نخلوا الحديث النبوي الشريف ونقّووه مما علق به من وضع الوضاعين من النحل المختلفة والفرق الضالة المضلة، في كتب منشورة أو مخطوطة، فأعانتني على ملء الكثير من البياضات في النص، وليس كلها، وتصحيح بعض ما اعتور النص من تصحيف وتحريف، وأعانتني أيضاً على فرز الصحيح من الأحاديث من الموضوع والمدخول والمنتحل، وعلى معرفة الرواة الوضاعين والثقات، واقوال العلماء في هذا الراوي أو ذاك. فولجت عالماً عجيباً غريباً لم أعهده من قبل في نقد متن هذا الحديث أو ذاك وفي نقد هذا الراوي من الرواة أو ذاك، فلاحظت أن الاجتهاد المحض المبني على العلم الواسع بأحوال الرجال عندهم هو الحكم الفيصل في أحكامهم.[/FONT]
[FONT=&quot]بدأ الفصل التدريسي الجديد، فعاد الطلاب والطالبات القدامى والجدد والأساتذة، وبدت الحياة تعود لكمبردج بعد اختفاء السياح، وبدأ الشتاء ببرده وزمهريره وعواصفه وثلوجه، وعدت إلى إيقاد موقد سيدة البيت صباح كل يوم، واستمرت صحون الربربر تترى كل مساء، وحدبث مس بين الطريف في كل مساء بعد عودتي على سايكلي من المكتبة إلى الكلية لتناول العشاء فيها، ومنها إلى البيت عبر الشارع، فتحسنت لغتي على مرِّ الأيام، وصرت أحفظ حكاياتها لتكرارها أحياناً، وتكررت زيارة أختها لها مع ابنتها أو وحدها.[/FONT]
[FONT=&quot]وفي أحد أيام الزمهرير خرجت مبكراً، أروم الذهاب إلى المكتبة فإذا أنا بجارتنا الممرضة تخرج من بيتها، فحييتها بتحية الصباح، فردت بأحسن منها، وقالت: أين تريد الذهاب في هذا البرد الشديد؟
فقلت لها: ولماذا هذا الاهتمام بي الآن؟
فضحكت، وقالت: كنت أنوي أن أدعوك حتى نتقابل في المدينة في إحدى المقاهي،
فقلت لها: متى نزل عليك هذا الكرم، وأنت لا تساعدين أمك بشيء من مرتبك؟
فقالت: أنت هنا مخطيء، وما عليك إلا أن تسأل أمي،
فقلت لها: سوف لن أترك سؤالها، ولكن لماذا تريدين مقابلتي في المدينة؟
قالت: الصدق، لقد أعجبني كلامك وزاد في هذا الاعجاب ما تحكيه مس بين لأمي عن حنانك وحبك لها، فأحببت أن نتحدث سوية على انفراد،
فقلت لها: هذا شعور جميل جداً منك، ولكنني مشغول ببحثي وأود أن انتهي منه قبل أن يستدعيني أستاذي، ولذلك أرجوك أن ترجئي مقابلتنا إلى مناسبة أخرى،
فقالت: وهو كذلك، ولا بأس،
فودعتها وانصرفتْ إلى المستشفى، وأسرعتُ في طريقي على سايكلي إلى المكتبة.[/FONT]

[FONT=&quot](له صلة)[/FONT]
 
[FONT=&quot]من دفتر الذكريات (51):[/FONT]
[FONT=&quot]وثَّقتُ نصَّ المخطوطة توثيقاً كاملاً وذلك بتتبع الأحاديت الصحيحة في مصادرها، والأحايث الموضوعة التي اختلقها القصاص والوضاعون من كتب الموضوعات، حتى كدت أطمئن إليه بحذر، وأشرت إلى كل ذلك في التذييلات (الحواشي)، [/FONT]
[FONT=&quot]وترجمت معاني محتوى النص باختصار ووضوح، فاحسست بأنني قد قطعت شوطاً ولكن ليس طويلاً في رسالتي، إذ أن خطة البحث لم يزل فيها الكثير من البحث والتنقير، وبخاصة التفاصيل المرتبطة بتقاليد الأديان الأخرى بغرض استكمال الصورة التي تناولها المستشرقون من النوا[/FONT][FONT=&quot]حي المختلفة عند الصابئة المندائيين وقصة يوحنا المعمدان والتقاليد المانوية والزرادشتية وما جاء عند الشيعة من ادعاء عروج بعض الأئمة، وتتبع فكرة العروج في الديانة اليهودية (معراج موسى) والنصرانية (عروج يسوع بعد العشاء الأخير) وفي فكرة نشأة الكون عند الغنوصية وفي النظم الفلسفية كنظرية الفيض وفيض الفيض والعقل الأول.
وكان لا بدَّ أن أدرس آراء المستشرقين في مسألة العروج عموماً ومعراج النبي عليه الصلاة والسلام خصوصاً، لأن أستاذي أبدى اهتماماً زائداً بهذا الفصل دون غيره.
قرأت كلَّ ما وصلت إليه يدي، مما جاء في قائمة السيدة المسؤولة في المكتبة، وعهدت بالنصوص التي لا أعرف لغتها كاللاتينية والفرنسية بل وحتى الإيطالية مثلاً، إلى من يعرفها لقاء أجور، حتى تكون دراستي شاملة لهذا الموضوع الشائك المتشابك في الديانات والملل والنحل المختلفة. ولاحظت بوضوح أن هناك تضارباً وتناقضاً بين آرائهم في تفسير وما جاء في قصة المعراج النبوي من ذكر المسجد الأقصى ومسجد الجعرانة والبيت المعمور، فحاولت نقض آرائهم التي غلب عليها الهوى الاستشراقي وليس العلمي المحض بآراء غيرهم من المستشرقين بما توفر لدي من معلومات منهم، جتى انتهيت إلى آراء آسين بلاثيوس الإسباني الذي اثبت بأن قصة المعراج التي توسعت واضيف إليها الكثير من الأساطير والحكايات الموضوعة، كانت معروفة في الأدب الأوربي في القرن الثالت عشر/ السابع للهجرة، عبر ترجمة قصة المعراج الطويلة إلى اللغة اللاتينية، بيد أنه لم يربط بين هذه الترجمة وثأثيرها على الكوميديا الإهية لدانتي الذي وصف الجنة والنار وما فيهما، حيث وضع النبي عليه الصلاة والسلام مع ابن رشد تحت قدمي توماس الاكويني، بطل الكنيسة في محاربة الرشدية.
إلا أن سيريولي Cerulliالإيطالي استطاع أن يجمع كل مخطوطات قصة المعراج المترجمة ويدرسها بإمعان في كتابه "البرو دي لا اسكاله"، فخرج بنتيجة واضحة بأن دانتي كان على معرفة تامة بترجمة قصة المعراج التي كانت شائعة في أوربا وفي مقاطعة بروفانس بإبطاليا وغيرها باللغة اللاتينية والفرنسية خلال القرن الثالث عشر والرابع عشر للميلاد.
وأخيراً استعرضت ما كتبه المستشرق الفرد جيوم، وهو آخر مستشرق انكليزي كتب عن المعراج، في مقالة له حول تفسيره للمسجد الأقصى، كما جاء في النص: "فلما أراد الانصراف إلى المدينة، خرج من الجعرانة ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة بقيت من ذي القعدة، فأحرم من المسجد الأقصى إلى بحير الوادي بالعدوة القصوى"، فنقضت كل ما جاء به من تفسير متكلَّف يتعارض نصاً ومعنى تماماً مع ما ورد في سورة الإسراء وفي كتب الحديث والسيرة والشمائل النبوية.
وقبل أن أحدد موعداً مع أستاذي، عهدت بهذا الفصل الطويل إلى شاب انكليزي فطن، ورجوته أن يصقل لغته فقط دون التدخل في محتواه، ففعل في عدة أيام، وأعاد طبعه على آلته الكاتبة، حين ذاك تجرأت على أن أحدد موعداً مع أستاذي لأرى رأيه في هذا الفصل الذي تناولت فيه جميع من كتب حول المعراج من المستشرقين.
(له صلة).[/FONT]
 
من دفتر الذكريات (52):
كان الجو كالحاً عابساً زمهريراً ذلك اليوم، وكان الثلج ينهمر بغزارة كانه القطن المُندَّف، وكنت قد أخبرت سيدة البيت بموعدي مع أستاذي، فقالت: ليكن الرب معك يا ولدي، فقلت لها: آمين.
فخرجت وقد طويت ملابسي الثقيلة على إضبارتين أحميهما من الثلج، وركبت سايكلي متوجهاً إلى بيت أستاذي حتى أصل في الموعد المحدد، بعد أن ذقت مرارة الخيبة والأسى في التأخير مع الأستاذ في جامعة درم، فلم يُعِقْني الثلجُ ولا كلاحة الجو وبرده من المخاطرة بسايكلي حتى لا ينزلق بي وبما أحمل بين ثيابي، فوصلت سالماً غانماً، فركنت سايكلي قريباً من الباب الخارجي لبيت أستاذي وضغطت على الجرس، ففتح أستاذي الباب، فلما رآني ضحك، وقال لي: ادخل بسرعة، فإني أراك كأمرأة حامل، فقلت له: صدقت!! فأنا أحمل توأمين، فضحك ضحكاً عالياً، سمعته زوجته، فقالت لنا: من منكما يضحك على الآخر، فقلت لها: يا سيدتي أستاذي يضحك عليَّ لأنه رآني أحمل هاتين الإضبارتين تحت ثيابي، فقال لي: أراك كأمرأة حامل، فقلت له: صدقت، فأنا حامل بتوأمين، فضحكت كثيراً، وأردفت: اجلس يا قاسم فقد أعددت لكما ما يبعث الدفء فيكما قبل أن تدخلا في العلم،
وقد صدقت، إذا قدمت لنا شاياً لذبذاً بالهيل، وهو ما تعلمته في مصر، مع الحلويات، حتى بدأ الدفء يدبُّ رويداً رويداً في عروقي، فقلت لها: اسمحي لي يا سيدتي، فأنا في شوق وقلق حتى أسمع رأي أستاذي في التوأمين.
فنهض أستاذي واتجه إلى مكتبه فتبعته، ولما استقر بنا المقام، أريته أولاً نص المخطوطة كاملاً مكملاً، فأخذه وبدأ يتصفحه ثم طواه وأعاده لي، وقال: يبدو لي أنك بذلت جهداً كبيراً في تحقيقه، فقلت له: منك تعلمت التحقيق، فقال: كيف؟ فقلت له: لقد استأنست بتحقيقاتك للنصوص العربية والفارسية وبتحقيقات غيرك من المستشرقين والعرب، فتفاديت ما رأيته لا يصلح عندي وتبنَّيتُ ما وجدته صحيحاً في النص، فقال: أحسنت، ولكن خذه إليك لأنك أقدر على الحكم عليه مني إذا كنت مطمئناً لما عملت، أما دراستك لآراء المستشرقين، فاترك الفصل عندي حتى أقرأه على مهل، وتعال عندي الاسبوع القادم في مثل هذا الوقت، فقلت له: إن شاء الله.
فودعته وودعت زوجته بعد أن شكرتهما على الشاي اللذيذ بالهيل والحلويات، وخرجت من البيت والثلج لم يزل في عنفوان انهماره، وكان سايكلي المسكين قد غطاه الثلج، فنفضته عنه، وعدت أدراجي إلى الكلية، حيث تناولت العشاء ومنها إلى البيت عبر الشارع، وكانت سيدة البيت تنتظرني في غرفتي، فحدثتها بالتفصيل عن ما حدث لي في بيت أستاذي، وعن التوأمين، فضحكت ملءَ أشداقها، وقالت: الشكر للرب الذي هيأ لك مثل هذا الأستاذ النبيل، فقلت لها: آمين.
(له صلة).
https://www.facebook.com/q.samarrai/posts/1665158950464908
 
[FONT=&quot]من دفتر الذكريات (53):[/FONT]
[FONT=&quot]جلست أمام طابعتي التي أنهكتُ حروفَها، وأنهكتْ أصابعي في طباعة كتاب المعراج وتوثيقه، لأبدأ بطباعة نص آخر قصير لأبي القاسم القشيري نفسه، بعنوان: "ترتيب السلوك في طريق الله"، حيث يذكر فيه تجربته الشخصية في السلوك الصوفي والمعاناة التي فرضها عليه شيخه للوصول إلى درجة المريد، وما مرَّ به من رياضة النفس، ليكون ملحقاً للفصل الخامس الذي عقدته بعنوان: "الطريق إلى الله"، وهو توطئة للفصل السادس الذي كان بعنوان: "غاية الصوفي القصوى"، اعتماداً على ثلاث نسخ مخطوطة وعلى اقتباسات من النص ذاته في كتاب السمط المجيد للقشاشي وغيره. [/FONT]
[FONT=&quot]وكانت سيدة البيت جالسة في ركنها المفضل من الكنبة في غرفتي، فنهضت فجأة وخرجت إلى المطبخ، وعادت بصحن الربربر الساخن ووضعته أمامي على الطاولة بجنب الطابعة، وعادت إلى مجلسها أمام الموقد الحجري، وقالت: اعذرني يا ولدي فقد نسيت هذا الصحن حين حدثتني عن لقائك بأستاذك، وقد تذكرته الآن، فأرجو أن يعينك على برودة الجو، ويخفف من العناء الذي لقيته في الذهاب إلى أستاذك مع سقوط الثلج وإيابك منه، فقلت لها: صدقت يا سيدتي فإنني كنت أخاف أن اتزحلق وأنا على سايكلي، وبدأت بأكله، وهي تلاحظني، فكان والحق أقول، لذيذاً بحلاوته وسخونته، فشكرتها على طبخه ورعايتها لي. [/FONT]
[FONT=&quot]فقالت: يا ولدي أنت ترعاني أكثر مما أرعاك، فقد عوضني الرب عن ما افتقدته من البنين والبنات بك، ولذلك فكرت في تحويل ملكيتي لهذا البيت باسمك، فإذا انتهيت من دراستك، فيمكنك أن تجد عملاً في الجامعة، وتبقى في كمبردج حتى نستمر في العيش معاً، فترعاني وأرعاك، فهل تروق لك هذه الفكرة يا ولدي؟[/FONT]
[FONT=&quot]التفتُّ إليها وقد فاضت عيناي بالدموع، وقلت لها: لم أكن اتوقع منك كل هذه التضحية بكل ما تملكين يا سيدتي الكريمة، ولكن انت تعرفين بأنني جئت إلى انكلترا من أجل هدف واحد، فإذا حققته عدت إلى بلدي وعائلتي، فلا أرى لي حقاً في ما تملكين، وإن ربنا يقول: الأقربون أولى بالمعروف، وانت تذكرين بأنني ذهبت إلى أختك وابنتها فجاءتا لزيارتك بعد انقطاع بينكما، فهما أحق بالبيت مني، وهما أقرب إليك مني وأحوج إلى ذلك مني، فقالت: فكِّر يا ولدي في ما قلته لك قبل أن تقرر، فقلت لها: نعم سوف أفعل ذلك.[/FONT]
[FONT=&quot]وفجأة رن جرس الباب الخارجي، فلما فتحته، وجدت جارتنا أم الممرضة، فحيتني، وقالت: هل مس بين ما زالت صاحية؟ فقلت لها: نعم، تفضلي، فدخلت إلى غرفتي حيث كانت سيدة البيت، فتبادلتا التحيات، وجلست بجانبها، فأسرعت إلى المطبخ، وهيأت الشاي لهما ولي، وجلسنا نتحدث في أمور مختلفة، فالتفتت جارتنا إليَّ، وقالت: لماذا رفضت موعد ابنتي معك؟ فقد كانت في شوق للتعرف عليك والتحدث معك، فقلت لها: اعذريني، فإنني لم أرفض لابنتك موعداً ولكن رجوتها أن تؤجل مقابلتي لها إلى مناسبة أخرى، وقد شرحت لها السبب فوافقت، ولعلمك فقد انتقدتها على سوء معاملتها لك وبخلها براتبها، ومشاركتها لك في شؤون البيت.[/FONT]
[FONT=&quot]فقالت: الآن علمت سبب تحسن معاملتها لي ومشاركتها لي بجزء من راتبها، فأرجو أن تخبرني عن حديثك معها الذي بدَّل سيرتها معي، فأخبرتها بمَثَل الحجر وصعوبة حملها له تسعة اشهر في بطنها، وكيف أنك رعيتيها وهي في بطنك وعندما كانت طفلة ومن ثم حين راهقت واخيراً حين درست وتخرجت واصبحت ممرضة، فقالت: يا كاسيم، من أين لك هذه الحكمة في الإقناع، فقلت لها: يا سيدتي ليس في الأمر حكمة ولا إقناع، فقد كانت ابنتك مستعدة لذلك نفسياً وروحياً، لأنها ربما لم تسمع كلمة صادقة دون رياء من أحد قبلي، فجاءت نصيحتي لها كافية لها لأنها خرجت من القلب الصادق السليم فدخلت في الأذن المريضة فشفتها، ولذلك تبدلت سيرتها معك، لا أكثر ولا أقل. [/FONT]
[FONT=&quot]فقالت لي: إني لأغبط مس بين على أخلاقك ورعايتك لها، فقالت سيدة البيت لها: لقد قلت لك مراراً: إنه ولدي، فضحكتا وضحكت معهما، [/FONT]
[FONT=&quot]ثم قلت لها: يسعدني أن أقبل دعوة ابنتك هذا الأسبوع في أي وقت تشاء إذا كانت مصرَّة، لأنني انتهيت من أهم فصل في رسالتي، وانتظر أن أرى أستاذي بعد أسبوع من اليوم، فقالت: سوف اخبرها بذلك. [/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
[FONT=&quot]من دفتر الذكريات (55):[/FONT]
[FONT=&quot]تلك آثارنا تدل علينا *** فانظروا بعدنا إلى الآثار[/FONT]
[FONT=&quot]صحوت مبكراً بعد نوم هاديء عميق، حين عرفت ما كان يدور في ذهن سيدة البيت، وكان الجو صحواً بارداً زمهريراً، وكان الثلج لم يزل متراكماً فوق النباتات في الحديقة وعلى مخزن الفحم، فاسرعت إلى باب الحديقة الخلفية، فغرفت من الفحم فيه، وأوقدت الموقد قبل نزولها، وأعددت إفطاري، وخرجت من البيت، فما كدت أركب سايكلي، إلا والممرضة قد خرجت من بيتها تروم الذهاب على سايكلها إلى المستشفى، فحييتها بتحية الصباح فردت، ثم قالت: هل صحيح ما سمعته من أمي بأنك لا تمانع في مقابلتي، فقلت لها: هذا صحيح، إذا كنت مصرِّةً، فقالت: نعم مع سبق الإصرار، فقلت لها: ومتى تنتهين من عملك؟ قالت: في الساعة الخامسة، فقلت لها: وأين تودين أن نتقابل؟ فقالت: في المقهى الفلاني الواقع في الزقاق الفلاني أمام دار البلدية، فقلت لها: وهو كذلك، فقالت: إذاً إلى اللقاء، فقلت لها: إلى اللقاء، وسارت على سايكلها إلى المستشفى، وأخذت طريقي إلى المكتبة، حيث ركنت سايكلي مع الآخرين وصعدت إلى ركني وكتبي المكدسة أبحث فيها واقتبس منها ما ينفعني في بحثي، فوجدت أن كتاب جيو ودنكرن السويدي Widengren, Geo المكتوب باللغة الإنكليزية من أنفع الكتب التي تناولت مسألة العروج في الديانات المختلفة، وعنوانه:[/FONT]
[FONT=&quot]The ascension of the apostle and the heavenly book: (King and Saviour III) (Uppsala universitets årsskrift 1950:7)[/FONT]
[FONT=&quot]فاعتمدت عليه وعلى غيره من المصادر المختلفة في محاولة كتابة فصل جديد حول العروج في مختلف الديانات والنحل والملل الموجودة والمنقرضة، ولما أحسست بالملل نزلت إلى كافتيريا المكتبة لكي أستمتع بكوب من القهوة، فوجدت السيدة المسؤولة عن الكتب جالسة، فأشارت لي أن أجلس معها، فلما جلست، قالت: لقد قرأت الفصل حول آراء المستشرقين، فوجدته شاملاً لكل آرائهم، لذلك لم استطع النوم حتى أكملت قراءته، وقد أعجبتني ردودك العلمية المنطقية في نقض بعض آرائهم، ولذلك لم أجد ما أضيفه على ما قلت، إلا أنني لاحظت بأنك لم تدرس مسألة العروج في الديانات والملل المختلفة التي تناولها ودنكرين، فقلت لها: هذا هو بالضبط الذي أنزلني إلى كافيتريا المكتبة لأنني لم أُلِمْ بعد بكل ما كُتب في ذلك، وها أنا الآن منهمك في قراءة كتاب ودنكرين، فقالت: عجيب من توارد الخواطر، وأنا متلهفة لقراءة هذا الفصل بعد إنجازه، فقلت لها: ستكونين أنت أول من يقرأه، وأنا شاكر ممتن لعنائك الذي أبعد ذاك الفصل عنك النوم اللذيذ، فضحكت وافترقنا.[/FONT]
[FONT=&quot]خرجت من المكتبة وتوجهت على سايكلي الى المقهى الواقع أمام دار البلدية، ولم أكن قد زرته من قبل، وكانت الساعة تشير الى بعد الخامسة بقليل، فدخلت إليها فإذا بالممرضة جالسة تنتظرني، فسلمت عليها، وجلست مقابلاً لها، وقلت لها: هل نذهب دج (Dutch)؟ ومعناها: كل منا يدفع على نفسه، وهي عادة هولندية تبناها الانكليز، وبخاصة الطلاب، فقالت: نعم. فأخذنا، كعادة الانكليز في الحديث حول الطقس، ولو كان الجو كالحاً مغبراً فأنهم يقولون لبعضهم: إنه يوم جميل، أليس كذلك؟ It is lovely day, is int it? ثم انتقل الحديث حول خصوصياتنا، فأخبرتها بصدق وأمانة عن كل ما مرَ بي من عناء ومعاناة وألم وحسرات في لندن ودرم، وما عملت في ألمانيا وموقف أستاذي مني في التشجيع والرعاية، وعلاقتي مع مس بين وسبب رعايتي لها ورعايتها لي لأنها تحسُّ بالوحدة وأنا أحسُّ بالغربة، فرأيت فيها أماً لي ورأت فيَّ إبناً لها، فكانت عيناها مسمرتين تنظران في وجهي باستمرار وأنا مستمر في حديثي.[/FONT]
[FONT=&quot]ولما انتهيت من حديثي، قلت لها: الآن جاء دورك في التحدث عن نفسك بصراحة حتى يكون الحديث متعادلاً، فقالت: إن حياتي كانت رتيبة إلا من بعض المطبات المزعجة مع بعض أصدقائي وصديقاتي، فسردت حياتها الدراسية وتخرجها من مدرسة الممرضات والتحاقها بالعمل في المستشفى، حتى وصلت إلى حديثي معها حول أمها وأن حديثي معها قد أيقظها من غفلتها، وهي الآن على وئام مع أمها، وأنها معجبة بأخلاقي وبما تتحدث أمها عني، وأنها في شوق إلى لقاء آخر لنتعرف على بعضنا أكثر من الآن لو كنت راغباً في رؤيتها، حيث لا يفصل بين بيتينا إلا الجدار. فقلت في نفسي: صدقت يا مس بين، فما زالت البنت لعوبة محتالة.[/FONT]
[FONT=&quot]فقلت لها: يا فلانة، أنا مسرور جداً بجيرتنا وبصداقة أمك مع مس بين، وأنا مسرور أيضاً بهذا اللقاء الجميل معك وحديثي معك، ولكنني لست بصدد اتخاذ صديقة دائمية لي، لأنني مشغول جداً ببحثي وليس لدي الوقت للخروج مع هذه الصديقة للمراقص أو للسينما، وانت تشاهدين بأنني أذهب كل يوم إلى المكتبة ومنها إلى الكلية للعشاء وأعبر الشارع إلى البيت الذي لا أغادره إلا في صباح اليوم التالي، فأنا سعيد بصداقتك بصفتك جارة لنا، لا أكثر ولا أقل، فأرجو أن تقدري موقفي لأنك من هذا البلد وأنا غريب عنه، [/FONT]
[FONT=&quot]وهناك الكثير من الشباب الإنكليز من يتمنى أن تكوني صديقة دائمة له، فبكت، وقالت: كنت أرجو أن تكون ذاك الشاب الذي تتمناه لي. فقلت لها: يؤسفني جداً أن أخيب ظنك فيَّ، فلست أهلاً لهذا الدور الذي تودينه.[/FONT]
[FONT=&quot]ولما عدت إلى البيت بعد العشاء في الكلية، وجدت سيدة البيت تنتظرني في غرفة جلوسها، مع أم الممرضة، فسلمت عليهما، وانسحبت إلى غرفتي، فلما غادرت الجارة، أسرعت مس بين إلى غرفتي متلهفة، فحدثتها عن ما جرى بالتفصيل، وشكرتها على نصيحتها، فقالت: أحمد الرب على أنك لم تقع في حبائل هذه المحتالة، فقلت لها: لست غبياً يا سيدتي، ولن أكون غبياً بعد اليوم مع الغواني، إن شاء الله. [/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
[FONT=&quot]من دفتر الذكريات (54):[/FONT]
[FONT=&quot]أظل أسائل: أين الطريقُ؟ وأسحبُ خلفي حُطامَـــاً رديِّــا
يضجُّ بصدري صدى الذِّكرياتِ فتحملُ أَمسي الذبيحَ يديِّا[/FONT]

[FONT=&quot]خرجت جارتنا إلى بيتها، وكانت سيدة البيت لم تزل تحتل مكانها المفضَّل في غرفتي أمام المدفأة الحجرية، وبدأت أُشغل نفسي مع طابعتي في طبع نص كتاب "ترتيب السلوك في طريق الله"، وكانت صامتة على غير عادتها، فنهضت فجأة وألقت عليَّ تحية المساء، وغادرت إلى غرفة جلوسها، إلا أنها عادت بعد دقائق بصحن من الحلوى المتنوعة.[/FONT]
[FONT=&quot]فقلت لها: من أين لك هذه الحلوى يا مس بين؟
فقالت: جارتنا التي كانت هنا قبل قليل أهدتها لي أمس، فأحببت أن أشاركك فيها، فشكرتها علىها،
فقالت لي: تصبح على خير يا ولدي، فرددت عليها، فأوت إلى فراشها.[/FONT]

[FONT=&quot]لقد ساورني القلق أولاً وحب الاستطلاع ثانياً لمعرفة ما كان يدور في ذهن سيدة البيت، إذ لم تشأ أن تبوح به حين كانت صامتة، ومن ثم نهوضها فجأة ثم عودتها بصحن الحلوى، ثم إسراعها إلى فراشها، وكل هذا لم يكن من عاداتها التي اعتدت عليها منها.[/FONT]
[FONT=&quot]وفي صباح اليوم التالي أوقدت موقدها قبل نزولها، وأعددت فطوري مبكراً، ونفضت الثلج الذي لم يزل يتساقط بغزارة، عن سايكلي، فركبته ميمماً شطر المكتبة، فشاهدت سيارات البلدية ترش الطرق الرئيسة والفرعية في البلد بخليط من الملح والرمل حتى يذوب الثلج فلا تتزحلق السيارات أو السايكلات، فوصلت بسلام للمكتبة، وركنت سايكلي مع الآخرين، ودخلت إلى المكتبة، وأنا ارتجف من البرد، وصعدت إلى ركني وإلى كتبي المكدسة المحجوزة على طاولتي.[/FONT]
[FONT=&quot]وانتظرت حتى بدأ الدفء يدبُّ في يدي ورجلي، وأنا أنظر إلى الثلج المتساقط الغزير أمامي من خلال النافذة، وفكرت في مس بين وتصرفها معي في الليلة الماضية، فلم أجد لذلك تفسيراً مقنعاً، فنزلت إلى كافيتريا المكتبة لأستمتع بكأس من القهوة فوجدت السيدة المسؤولة عن الكتب فسألتها إن كانت تسمح لي بمرافقتها على طاولتها، فرحبت بي، وسألتني عن ما قمت به من بحث، فأخبرتها بزيارتي لأستاذي وردِّ فعله حول النص العربي واحتفاظه بالفصل الذي كتبته حول آراء المستشرقين في المعراج.[/FONT]
[FONT=&quot]فقالت: وهل قرأت كلَّ المصادر التي زودتك بها في القائمة؟
فقلت لها: نعم بإمعان ولكنني عهدت بما لم أعرفه من اللغات لمترجمين لقاء أجر وبخاصة اللاتينية والفرنسية والإيطالية.
فقالت: لقد أرهقت جيبك، ولكن هل تسمح لي بقراءته؟ فقد أثرث فضولي
فقلت لها: بكل ترحاب وشكر، ولكنني سلمت النسخة الأولى لأستاذي وعندي نسخة الكاربون منها
فقالت: لا بأس فهي مقروءة، فسلمتها لها بعد صعودنا من كافيتريا المكتبة حيث كانت في حقيبتي، فقالت: سوف أقراؤها على مهل ثم أكتب لك ملاحظاتي لعلها تنفعك،
فقلت لها: لا أشك في ذلك.[/FONT]

[FONT=&quot]خرجت من المكتبة والثلج لم يزل في غلوائه، فأخذت سايكلي بيدي وعبرت به من خلال الكليات مشياً إلى المقهى الإيطالي، فكان مكتظاً برواده وضبابه ودخانه، فاسرعت النادلة إليَّ، فقالت: أين كنت؟ فقد افتقدتك منذ أيام.
فقلت لها: كنت مشغولاً مع أستاذي.
فقالت: القائمة نفسها؟
فقلت: نعم نفسها، فجاءت لي بالقهوة ومعها قطعة كبيرة من الحلوى.
فقلت لها: وما هذه اليوم؟
قالت: هذه مني بمناسبة عودتك للمقهى بعد غياب.
فقلت لها: وهل تدفعين ثمناً لها؟
فقالت: لا، لأنه يحق لنا أن نأكل قطعة كل يوم في الغداء، وهذه قطعتي لك لأنني لم أشتهها في الغداء، فلماذا تذهب للمقهى؟
فشكرتها على إحسانها وكرمها.[/FONT]

[FONT=&quot]عدت أدراجي على سايكلي إلى الكلية حيث العشاء المعهود، ومنها إلى البيت عبر الشارع، فرأيت الضوء في غرفتي الأمامية، فأدركت أن سيدة البيت فيها.
ففتحت الباب وولجت إلى غرفتي وسلمت على سيدة البيت فردت
ثم قالت: لعلك استغربت من تصرفي معك أمس؟
فقلت لها: هذا ليس من عادتك، لأنني تعودت على كل عاداتك
فقالت: صدقت يا ولدي العزيز، فقد كنت في قلق شديد حين قلت لجارتنا بأنك مستعد بأن تقابل ابنتها على انفراد في المقهى، فهل أتركك وانت ولدي تقع في حبائلها أم أحذرك منها؟ لأنني أعرف عنها الكثير من خلال أمها،
فقلت لها: يا سيدتي العزيزة ثقي بأنني لست بهذا الغباء حتى أسلم قيادي لفتاة لا أعرف ظاهرها وباطنها، ولكن ارجوك هات ما عندك حتى أكون على بينة من أمري معها، فحدثتني عن تصرفاتها الصبيانية مع الطلاب ومع الأطباء والممرضين بل والمرضى دون حياء أو خجل.[/FONT]

[FONT=&quot]فقلت لها: لعلك تظلمينها بسبب عقوقها والدتها وغضب والدتها عليها قبل أن تتحسن سيرتها معها؟ فقالت: يا ولدي، لا بأس أن تقابلها ولكن حاول معها أن تحدثك عن ماضيها، فإن صدقتك القول فاعرف بأنها تغيرت، وإن أنكرت فأعلم بأنها ما زالت البنت اللعوب بالعقول.
فقلت لها: سوف أفعل بنصيحتك وأخبرك بكل ما يجري بيننا دون لف أو دوران،
فقالت: الآن اطمأن قلبي عليك، فهل تحب أن أجلب لك صحن الربربر؟
فقلت لها: عجلي به يا أماه، وكانت هذه أول مرة أقولها لها، فالتمعت سرائر وجهها رضى وسروراً.[/FONT]

[FONT=&quot](له صلة)[/FONT]
 
من دفتر الذكريات (56):
انتهيت من طباعة نصِّ كتاب "ترتيب السلوك في طريق الله"، للقشيري، ومن تحقيقه وتوثيقه وترجمة محتواه، وعادت سيدة البيت إلى عادتها في الجلوس في مكانها المفضل في غرفتي أمام المدفأة الحجرية والحديث الطريف المكرر عن حياتها وعائلتها، وما عانته من ويلات الحرب، وعاد صحن الربربر متربعاً على الطاولة جنب الطابعة، كلَّ مساء بعد عودتي من عشاء الكلية، ولم تعد تذكر بنت جارتنا مع أن جارتنا لم تنقطع من زيارتنا، وفجأة التفتت إليَّ، وقالت: متى يكون موعدك مع أستاذك؟ فقلت لها: بعد غد، فقالت: تذكَّره ولا تنسه، فقلت لها: ولماذا اهتمامك به الآن؟ قالت: لو لم يكن مهماً لما طلب أستاذك زيارتك له، فقلت لها: سوف أعلم ذلك حين أزوره بعد غد، وأخبرك بالتفاصيل، فنهضت وألقت عليَّ تحية المساء وصعدت إلى غرفة نومها.
تذكرت فجأة سؤال سيدة البيت عن موعدي مع أستاذي، فتناولت نسخة الكاربون للفصل الذي كتبته حول آراء المستشرقين في قصة المعراج، وكنت قد تسلمته من السيدة في كافيتريا المكتبة من حقيبتي، وبدأت في قراءته برويِّة وتمعُّن، وكأنني لم أكتبه من قبل، فلاحظت فيه خللاً في السياق هنا أو هناك، فأصلحت بعض نصوصه بخطي الرديء على حواشي الصفحات، وزدت فيه بعض العبارات أو الكلمات هنا أو هناك، حتى أعرضها على أستاذي ليرى رأيه فيها، فأطفأت المدفأة الحجرية والأضواء، وصعدت إلى غرفة نومي الباردة.
استفقت مبكراً، وأوقدت الموقد حتى يسخن الماء في الحمام قبل نزول سيدة البيت، وأعددت إفطاري كالعادة، وخرجت إلى المكتبة على سايكلي حيث كان كتاب ودنكرين في حقيبتي لكي أواصل قراءته في ركني الهاديء مع غيره من المصادر التي تتناول الأبحاث التي وردت فيه.
ولما وصلت إلى ركني المفضل وجدت ورقة من أمين المكتبة يخبرني فيها أن الأستاذ آرثر جون آربري اتصل به، وهو يود أن تزوره مساء اليوم في بيته، فاستغربت أولاً وبدأ القلق يساورني بشدة، لأنني أعرف أن أستاذي لا يتعجل في مواعيده، فلماذا تعنَّى واتصل؟ وهو لم يفعل هذا مع أحد من قبل؟ فشغلني قلقي عن البحث والتنقير، فنزلت إلى كافيتريا المكتبة فطلبت كوباً من القهوة لعلها تخفف من قلقي المتزايد، فما أحسست إلا وبيد تربت على كتفي فالتفت فإذا السيدة المسؤولة عن الكتب تطلب مني السماح في الجلوس معي، فرحبت بها، فلما جلست، قالت: أراك مهموماً، فشرحت لها سبب قلقي وهمي، فقالت: ولماذا تقلق؟ فقلت لها: هل حدث أن أستاذاً يتصل بأمين المكتبة ويطلب منه أن يخبر تلميذه بما أخبرني؟ فقالت: نعم يحدث مثل هذا، ولكنه قليل جداً إلا في الضرورة، فقلت لها: وأين الضرورة وموعدي معه غداً؟ فقالت: لقد قرأت الفصل الذي تفضلت به عليَّ فلم أستطع الزيادة فيه، فلعله رأي فيه ما لم أرَ أنا فيه، فأحبَّ أن يستطلع رأيك أو يُرشدك إلى بعض النقاط التي فاتت عليك، فقلت لها: أشكرك من صميم قلبي فقد خففت عني ما كان يساورني من قلق شديد، فقالت: قلقك في غير محله، وما عليك إلا أن تصبر قليلاً إلى أن ترى أستاذك، فقلت لها: اسمعي مني هذا البيت من الشعر، باللغة العربية التي تعرفينها، فقالت: قل!! فقلت:
سأصبر حَتَّى يعلمَ الصَّبْرُ أنني *** صبرت على أمرٍ أَمرَّ من الصَّبْر
فضحكت كثيراً، وقالت: إلقاؤك للشعر أجملُ من الشعر.
فودعتها وصعدنا إلى مكانينا، وخرجت من المكتبة، وقد قرب موعدي مع أستاذي، فركبت سايكلي متوجهاً شطر بيت أستاذي فوصلت إليه في الموعد المحدد، فركنت سايكلي وضغطت على جرس الباب الخارجي، ففتحه أستاذي بنفسه، فحييته فرد، وقال: تفضل ادخل فعندي لك بشارة، فلما قال: عندي لك بشارة، بدأ قلبي يدق بعنف شديد، فسار أمامي إلى مكتبه وجلس على كرسي وجلست مقابلاً له، وأنا في أشد الشوق لمعرفة هذه البشارة، وفجأة مدَّ يده بأوراق عرفت منها أنه الفصل الذي كان مهتماً به، فقال: انظر فيها، فقد أصلحت في الفصل وزدت فيه، فلما نظرت في مجرى قلمه في الأوراق فإذا هي توافق ما أجريته أنا، فقلت له بالعربية: يا سبحان الله، فقال: لماذا قلت هذا؟ فأريته ما صححت في نسخة الكاربون فتعجب جداً، فقال: بشارتي لك تكمن في أسلوبك الجميل في المناقشة ومنطقك العلمي في الرد على بعض آراء المستشرقين ونقضها، لذلك قررت أن أنقلك من مسلك الماستر إلى مسلك الدكتوراه، وقد كتبت بذلك كتاباً إلى إدارة الجامعة، وسوف تصل إليك رسالة منهم بهذا المعنى، فنظرت إليه مندهشاً والفرحة تتطاير من عيوني، وأردت شكره فلم أجد كلمة تفي بذلك، فقلت له بالعربية: الحمد لله، الحمد لله، جزاك الله خيراً، فقال بالعربية: الشكر لله، وهيا بنا إلى المدام، فسار أمامي إلى غرفة الجلوس فسلمت على زوجته، فقالت: يا كاسيم هل أعجبك ما فعل آرثر معك؟ فقلت لها: أقسم لك، فوق ما توقعت وأملت، وجلسنا نشرب الشاي مع الحلويات، ونتحدث عن الطقس في الأيام القادمة، حتى إذا انتهينا، استأذنت منهما، بعد شكرهما على الضيافة وعلى البشارة، فخرجت والدنيا لا تسع خطواتي.
(له صلة).
 
[FONT=&quot]من دفتر الذكريات (57):[/FONT]
[FONT=&quot]خرجت من بيت أستاذي والفرحة تملأ جوانحي والسرور يغلف قلبي، فأخذت سايكلي بيدي وسرت معه ماشياً، رغم البرد الشديد والثلج الذي لم يزل يغطي الحدائق والأزقة الفرعية، إلى أن وصلت إلى الكلية حيث لم يبق على انتهاء فترة العشاء إلا عشر دقائق، فتعشيت بسرعة وعبرت الشارع مع سايكلي إلى البيت، فركنته في الحديقة الأمامية، ودلفت إلى البيت حيث كان الظلام يلف جوانبه، فاستغربت، لأن سيدة البيت لم تخبرني عن غيابها، [/FONT]
[FONT=&quot]ولما دخلت إلى غرفتي وجدت ورقة منها جنب الطابعة، تقول فيها بأنها ذهبت لزيارة أختها وسوف تعود غداً. [/FONT]
[FONT=&quot]واسرعت إلى غرفة جلوسها فإذا نار الموقد في آخر عمرها، ووجدت صحن الربربر مغطىً بعناية فوق الموقد، ففتحت باب الحديقة وغرفت من الفحم وألقيته على النار فبدأت تتقد، وأخذت الصحن معي إلى غرفتي، وانتظرت فيها إلى أن أحسست بأن الماء في الحمام قد سَخُن الآن، فانتهزت فرصة غيابها لكي أستمتع بحمامٍ ساخٍن لذيذٍ لي وحدي، بدلاً من "دوش" الكلية ورؤية الطلاب عرايا فيه. [/FONT]
[FONT=&quot]ولم أكد استقر في غرفتي مع صحن الربربر إلا وجرس الباب الخارجي يرن، فأسرعت إلى فتحه، ظناً مني أن سيدة البيت ربما قد عادت من زيارة أختها، فوجدت جارتنا، فسلمت عليَّ فرددت، وقلت لها: مس بين غير موجودة، وقد ذهبت لزيارة أختها، فقالت: أريد أن أتحدث معك إذا سمحت، فقلت: أهلا بك تفضلي، فدخلت إلى غرفتي، وجلست في مكان سيدة البيت، وجلست على الكرسي جنب الطابعة، فقالت: أنا أعرف بأنك صريح وصادق، فأرجو أن تخبرني عن ما جرى في مقابلتك لابنتي في المقهى، فحكيت لها باختصار ما جرى بيني وبين ابنتها، فقالت: عجيب!! فقلت: وأين العجب؟ قالت: هذا غير ما أخبرتني به، فقلت لها: وماذا أخبرتك؟ قالت: أخبرتني بأنك معجبٌ بها وبأخلاقها، وبأنك تود أن تدوم الصداقة بينكما، فقلت لها: كذبت في الأولى وصدقت في الثانية، فقالت: كيف؟ قلت لها: أولاً: أنا لم أبدِ أعجابي بها قط، وثانياً: قلت لها: أنا سعيد بصداقتك بصفتك جارة لنا، وليس صديقة دائمة، لا أكثر ولا أقل، لأنني لست بصدد اتخاذ صديقة لانشغالي برسالتي، وهناك الكثير من الشباب الإنكليز من يتمنى أن تكوني صديقة دائمة له، ولكن لست أنا لأنني غريب وأنت من أهل البلد. [/FONT]
[FONT=&quot]هذا خلاصة ما جري بيني وبين ابنتك. فقالت: أنت أصدق منها، فقد كذبت عليَّ كثيراً في حياتها، ومع هذا فقد تحسنت سيرتها معي قليلاً منذ أن كلمتها أنت أول مرة، فودعتني وانصرفت إلى بيتها. [/FONT]
[FONT=&quot]ولما خلوت إلى نفسي، استعرضت كلامي مع الممرضة وما نقلته لأمها لتبرير ما تُحس به من نقص في علاقاتها السابقة مع الشباب الانكليز الذين استغلوا سذاجتها وتهورها في سن المراهقة، فأرادت تعويض هذا النقص يالكذب على أمها. [/FONT]
[FONT=&quot]أتممت قراءة كتاب ودنكرين، بعد ذهاب الجارة، واقتبست منه ما يلائم الفصل الذي عقدته حول موقف الديانات والملل والنحل وتفسيرها لظاهرة المعراج، وعكفت على قراءة غيره من المصادر والمقالات التي تناولت الموضوع نفسه، في البيت أو في المكتبة، فاحسست بحاجة ملحة للنوم، فأطفأت المدفأة الحجرية والأضواء، وأويت إلى فراشي في غرفة النوم الباردة، وحيداً فريداً.[/FONT]
[FONT=&quot]أفقت من النوم مبكراً كالعادة، فهرعت إلى مخزن الفحم، فأفعمت الموقد به، حتى إذا عادت سيدة البيت من زيارة أختها، فإنها تجد غرفة جلوسها دافئة وماء الحمام ساخناً، وأعددت فطوري وخرجت مع سايكلي إلى المكتبة، فلما ولجتها، أسرعت لرؤية السيدة الفاضلة لأخبرها بأن نصيحتها لي بالصبر قد انتجت، فلما رأتني مقبلاً خرجت من مكتبها متلهفة لسماع ما سأقوله لها، فقالت لي: دعنا نشرب القهوة في كافيتريا المكتبة سويةً، فقلت لها: ساتبعك بعد أن أضع حقيبتي على طاولتي، ولما نزلت إلى الكافيتريا كانت قد طلبت كوبين من القهوة، فرافقتها على الطاولة، فلما استقر بي الجلوس، قالت: دعني الآن أسمع ما عندك، فأخبرتها بالتفصيل عن ما حدث، فقالت: ما كنت أتوقع أن أستاذك سوف ينقلك من مسلك الماستر إلى مسلك الدكتوراه، وهذه الخطوة التي فعلها معك قليلة عند غيره من الأساتذة، ولكن هذا يدل على أنه كان واثقاً كل الثقة فيك، فلك مني التهنئة الخالصة، فشكرتها، وقلت لها: إذاً دعيني أدفع ثمن القهوة، فقالت: قد دفعتها، فشكرتها مرة ثانية، وقلت لها: أسمعتك أمس بيتاً من الشعر، فهل تودين سماع بيت آخر مثله؟ فقالت: بالتأكيد، فقلت:[/FONT]
[FONT=&quot]تعوَّدتُ مرَّ الصبر حتى أَلِفْتُه *** فأسلمني حسنُ العزاءِ إلى الصبر[/FONT]
[FONT=&quot]فقالت: هذا أجمل من بيت الأمس، وأجمل منهما طريقة إلقائك للشعر. [/FONT]
[FONT=&quot]وفي أثناء الحديث ذكرت لها ما فعلته مع كتاب ودنكرين ومع غيره، فسألتها إن كان لديها وقت في مراجعة الفصل حين أتمه، فقالت: طبعاً وبكل سرور، فشكرتها مرة ثالثة، ولما انتهينا من القهوة والحديث، ذهبت إلى مكتبها وذهبت إلى ركني، إلا أنني لم أجد في نفسي أية رغبة في البحث والتنقير، فتركت الكتب المكدسة، وخرجت مع حقيبتي من المكتبة متوجهاً مع سايكلي بيدي عبر الكليات إلى مقهى الطليان، التي كانت كعادتها مليئة بالزبائن والدخان، ولما رأتني النادلة: قالت: ما بك؟ تغيب وتنبع، وأرى في عينيك سروراً لم أعهده فيك، فقلت لها: لقد أفرحني أستاذي حين نقلني من مسلك الماستر إلى مسلك الدكتوراه، ففرحت جداً، وقالت: هذه مناسبة رائعة للاحتفال، فقلت لها: أرجوك اتركي هذا إلى مناسبة أخرى، فقالت: حسناً، وكما تشاء، والقائمة نفسها، قلت لها: نعم نفسها.[/FONT]
[FONT=&quot]تركت المقهى ورائي، وركبت سايكلي متوجهاً إلى الكلية حيث العشاء المعتاد، ولما انتهيت منه، عبرت الشارع، فلاحظت الضوء في غرفتي، فعلمت أن سيدة البيت قد عادت من زيارة أختها.[/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
[FONT=&quot]من دفتر الذكريات (58):[/FONT]
[FONT=&quot]ركنت سايكلي في مكانه المعهود من الحديقة الأمامية، وفتحت الباب، ودخلت إلى غرفتي، فسلمت على سيدة البيت، ففرحت برؤيتي، وقالت: أشكرك يا ولدي على تدفئة غرفة جلوسي وماء الحمام، فقلت لها: هذا هو أقل واجب أفعله، ولكن ما سبب زيارتك المفاجئة لأختك؟ فقالت: جاءت أختي بعد أن ذهبت أنت للمكتبة، ورجتني أن أذهب معها إلى بيتها في القرية فلم أشأ أن أرفض دعوتها لأنني لم أزرها في بيتها منذ زمن بعيد، وقد كتبت لك ورقة وتركتها على طاولتك، فقلت لها: نعم رأيتها، ولذلك استغللت غيابك فاستمتعت بحمام ساخن رائع، وقد جاءت جارتنا تسأل عن ما جرى لي مع ابنتها، فحدثتها بكل صدق وأمانة، فقالت لي: إن ابنتها كذبت عليها. [/FONT]
[FONT=&quot]فنظرت إليَّ مس بين بجدٍّ واهتمام، ثم قالت: حماك الرب من ألاعيب المحتالات والمحتالين، فقلت لها: آمين. [/FONT]
[FONT=&quot]ولكن دعينا من هذه اللعوب المحتالة، فعندي خبر يفرحك، فقالت: وما هو يا ولدي؟ فقلت لها: قد اتصل أستاذي أمس بأمين المكتبة فترك لي ورقة على طاولتي في المكتبة يقول فيها: إن البرفيسور آربري اتصل به لكي أخبرك بأنه يود زيارتك له اليوم في المساء، فقالت: كنت أظن أن موعدك اليوم معه ولذلك عدت سريعاً من زيارة أختي. [/FONT]
[FONT=&quot]فأخبرتها بالتفصيل عن ما حدث أمس، فهبَّت واقفةً على قدميها، وقالت: شكراً لك يا رب، شكراً لك يا رب، فقلت معها: الشكر لله رب العالمين، فقالت: وهل أخبرت جارتنا عن كل هذا؟ فقلت لها: لا، فقالت: كنت أود أن تكون قد أخبرتها لتعرف قدرك عند أستاذك، ولأفتخر عليها، فقلت لها: يا سيدتي، أنا لا أهتم بهذه الأمور الخاصة بي، فقالت: أعرف ذلك فيك يا ولدي، وأعرف أن أخلاقك تمنعك من التباهي. [/FONT]
[FONT=&quot]فقلت لها: أذكر أن نبينا، (صلى الله عليه وسلم)، قال: "المتشبع بما لم يعطه كلابس ثوبي زور"، ولما ترجمت لها هذا الحديث، قالت: ما أروع هذا القول وأجمله من نبيكم، وقد صدق، فكثير من الناس يدعي كذباً ما ليس فيه ليكبر في أعين غيره.[/FONT]
[FONT=&quot]عادت الأمور إلى رتابتها، وانهمكت يومياً وعلى مدى شهرين أو أكثر في البحث والتنقير والاقتباس من المصادر المختلفة بصبرِ وجَلَدِ، وتنظيم الجزازات، حتى أيقنت بأنني ألممت بجوانب الفصل، فاخترت ركناً معزولاً في نادي الطلاب في الكلية، فصرت أرتاده بعد العشاء مع جزازاتي، لكي أكتب الفصل، ولأبتعد عن حكايات مس بين وقصصها، فإذا شعرت بالتعب أو الملل، لملمت جزازاتي في حقيبتي وعبرت الشارع إلى غرفتي، فتكون سيدة البيت قد آوت إلى غرفة نومها أو كادت، حتى أتممته بخطي الرديء جداً، وعهدت به إلى الشاب الانكليزي الفطن الذي تعود على قراءة خطي الرديء ليصقل لغته دون أن يغير في محتواه، ويطبعه على آلته، ففعل ذلك في أسبوع، فكان في سبع وثلاثين صفحة، فنقدته أجرته، وأسرعت به إلى مكتب السيدة المسؤولة عن الكتب، وحييتها ثم قلت لها: لقد وعدتك أن تكوني أول من يقرأه، فقالت: شكراً لك على حفظك لوعدك، فسلمته لها وصعدت إلى ركني وطاولتي وكتبي المكدسة. [/FONT]
[FONT=&quot]ونظرت من النافذة، فإذا بالثلج ينهمر بشدة في الخارج، فتدثرت بثيابي الثقيلة وخرجت إلى بوابة المكتبة كعادتي في متعتي، فرأيت الراهب يسرع تحث الثلج قاصداً المكتبة، فلما رآني حياني فرددت عليه التحية، فقال لي: لم تزل على عادتك السيئة: لقد توقعت أنك سوف تتركها، فقلت له: ما في كنيستك أسوأ، ولكنكم لم تتركوها، فقال: كيف، وما هي؟ فقلت له: هل تعرف أو لا تعرف أن أحد البابوات في الفاتيكان كان امرأة متنكرة اتخذت اسم يوحنا الثامن، فلما كانت تقود الكرادلة في احتفال كنسي جاءها المخاض فولدت مولودة، فأسرع الكرادلة إلى رجمها ومولودتها بالحجارة حتى قتلوهما ودفنوهما في مكانهما، فقال: هذه قصة أسطورية تاريخية ملفقة، لا أساس لها أبداً.[/FONT]
[FONT=&quot]فقلت له: إذا كانت القصة أسطورية فلماذا سنَّ الفاتيكان أن يُختبر الرجل الذي يختاره مجمع الكرادلة حيث يجلس المرشح لمنصب الباباوية على كرسي توجد في وسطه فتحة دائرية، ويتخفف من ملابسه الداخلية، ويأتي شخص آخر من خلفه ويمد يده من خلال الفتحة ليفحصه ويتأكد أن البابا الجديد رجل، ويملك خصيتين ويقول: (Duo testis bene bondeta) أي: (إنه يملك خصيتين فهو ملائم )، فيطلقون الدخان الأبيض من المدخنة، ويبدأ تصفيك الجماهير المجتمعة في ساحة الفاتيكان، أليس هذا من مراسيم اختيار البابوات عندكم؟ فقال: نعم، ولكن لا علاقة له بأسطورة المرأة، فقلت له: اشرح لي إذاً سبب هذا الطقس البابوي عندكم، فقال: إنك تدخلني في متاهات أسطورية تاريخية غير منطقية، فقلت له: يا صديقي، إن كل ما في إنجيلكم يحتاج إلى منطق أرسطي لفهم الثلاثة في واحد والواحد في ثلاثة.[/FONT]
[FONT=&quot]فتركني ودخل إلى المكتبة غاضباً.[/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
[FONT=&quot]من دفتر الذكريات (59):[/FONT]
[FONT=&quot]لم يبق من الجزازات الكثيرة في حقيبتي إلا مجموعة واحدة تتعلق بعروج الصوفي أبي يزيد البسطامي، فإن قصص عروجه ارتبط ذكرها بمسألة العروج عند الصوفية عموماً، فأردت أن يكون مكملاً للفصل الذي عقدته حول آراء المستشرقين في المعراج، لإن هذه القصص التي أوردتها المصادر الصوفية، استرعت انتباه البرفيسور Zaehner وهو أحد المستشرقين المتخصصين بديانات الهند، فتتبعها وحاول ربطها بما يشابهها في الديانة الهندوسية من الفيدا والنرفانا. [/FONT]
[FONT=&quot]ولما قارنتها مع المعراج النبوي ومع الروا[/FONT][FONT=&quot]يات التي وردت عند الشيعة في إدعاء نوع من عروج بعض أئمتهم، تساءلت: هل كان أبو يزيد البسطامي يقلد المعراج النبوي، أم أنه تأثر بما ورد في الديانة الهندوسية، كما ادعى المستشرق، أو بآراء الشيعة؟ فحاولت نقض رأيه بآراء غيره من المستشرقين مثل نيكلسون وآربري وغيرهما وبما وجدته في كتب التصوف المعتبرة، وقد نجحت إلى حد كبير في البرهنة على أن أبا يزيد البسطامي وغيره من الصوفية الذين ادعوا العروج كانوا متأثرين بالمعراج النبوي الذي حاولوا تقليده بعروج أرواحهم إما في النوم أو في حالة الفناء عن النفس. وقد ناقشت كل ذلك حيث أوردت الآراء باختصار غير مخلِ، ونقضت بعضها ببعض.
فاتصلت بالشاب الانكليزي الفطن، فسلمته هذا الفصل الذي لم يزد على خمس عشرة ورقة، لينظر فيها، ففعل ذلك في يومين، فدفعني حب استطلاع رأي أستاذي في ما كتبته إلى الذهاب إلى المعهد، فوجدته في مكتبه، فلما رآني قال بالعربية: خير إن شاء الله، واردف بالانكليزية: جئت في وقتك، فقلت له: خطر ببالي أن أكتب ملحقاً حول معارج أبي يزيد البسطامي ونقض رأي البرفيسور زينر في تأثر أبي يزيد بالهندوسية، فقال: جيد ما فعلت، فاترك هذه الورقات عندي، ولكن أود أن أخبرك بأن مجلس المعهد قد قرر اليوم أن يختار أحد الطلاب العرب النابهين لتدريس العربية الفصحى للطلاب، وقد اخترتك لتكون ذلك المدرس، فما هو رأيك؟ فقلت له: دون تفكير، موافق جداً، وهذا شرف كبير لي أن تختارني أنت، فقال: غداً نصدر أمر تعيينك في المعهد.
فخرجت من المعهد والسرور يملأ جوانحي، والأرض لا تتسع لخطواتي مع سايكلي، متوجهاً شطر المكتبة.
(له صلة).[/FONT]
 
[FONT=&quot]من دفتر الذكريات (60):[/FONT]
[FONT=&quot]لم يكن المعهد المتواضع الذي كان إذ ذاك في أول (Sidgwick Avenue) يبعد كثيراً عن المكتبة، قبل تحويله إلى بنايته الجديدة الفخمة التي بنتها أموال أحد الأمراء السعوديين، بعد رحيلي من كمبردج، فركنت سايكلي مع الآخرين، ودخلت إلى المكتبة، وتوجهت إلى مكتب السيدة المسؤولة عن الكتب، فلما وقعت عينها عليَّ، قالت: يؤسفني أن أخبرك بأنني لم انته بعد من قراءة الفصل، فقد أصلحت في ما قرأت وزدت فيه، فقلت لها: لم آت لذلك، وإنما جئت لأخبرك بأن مجلس المعهد قرر أن يعين أحد الطلبة مدرساً لتدريس اللغة العربية للطلاب، وإن أستاذي وقع اختاره عليَّ لأكون ذلك المدرس، فقالت: تهانينا الحارة، فإنه خير ما اختار، وإنك أكثر من أهل لذلك، ونعم الاختيار منه، فشكرتها على حسن ظنها كثيراً، ثم قالت: دعنا نشرب القهوة سويةً في الكافيتريا، فقلت لها: على شرط واحد، فقالت: وما هو؟ فقلت لها: أن تسمحي لي بدفع الثمن، فقالت: لا بأس، وحتى نحتفل بتعيينك.[/FONT]
[FONT=&quot]ولما انتهينا، صعدت إلى مكتبها، وخرجت من المكتبة، وسحبت سايكلي بيدي وسرت معه ماشياً عبر الكليات، رغم البرد الشديد، إلى المقهى الطلياني، التي كانت كالعادة تعج بالزبائن والدخان، فلم يرق لي الجلوس فيها لأنني لم أرَ النادلة فيها، فركبت سايكلي، ووليت شطر الكلية حيث تناولت العشاء ثم عبرت الشارع مع سايكلي الذي ركنته في الحديقة الأمامية كعادتي كل يوم، فلاحظت أن غرفتي الأمامية مظلمة، فحدست بأن سيدة البيت في غرفة جلوسها أمام الموقد، وكان كما حدست، فسلمت عليها فردت، ثم قالت: كيف كان يومك يا ولدي؟ فقلت لها: عندي لك بشارة جديدة، فاتسعت حدقتا عينيها، وقالت: قل يا بني وأرح قلبي، فأخبرتها بخبر تعييني في المعهد، فهبت من مقعدها وأمسكت برأسي وقبلتني على خديَّ، وهذه أول مرة تفعلها معي، وهي تقول: حمداً وشكراً لك يا رب على ما تفعله مع ولدي، فقلت هامساً: الحمد لله وحده، فمن كان مع الله كان الله معه، فلما ترجمت لها ذلك: Praise be only to God alone, Whosoever is with God, God is certainly with him قالت: صدقت يا ولدي، فإن الله مع كل من يحبه ويخشاه. [/FONT]
[FONT=&quot]انسحبت إلى غرفتي الباردة جداً، فأوقدت المدفأة الحجرية، واستغرقت في تفكير عميق، وأنا جالس بثيابي على الكرسي جنب طابعتي المنهكة، وأحدِّق بالمدفأة، عن ما سيكون في المعهد غداً، وكيف اتصرف مع بقية المحاضرين ومع الطلاب والطالبات، لأنني أعرف مقدماً أن من جملة المحاضرين من هو مختص باللغة الفارسية، وأخرى باللغة التركية، وآخر باللغة العبرية، وآخر بالأدب العربي، وآخر بالفلسفة الإسلامية، وكلهم أعلا منى في سلم الدرجات العلمية، وما أنا إلا Lector، فما أحسست إلا وسيدة البيت تدخل إلى غرفتي وطبق الربربر الساخن بيدها، فوضعته على الطاولة، وجلست في مكانها المفضل، فقالت: أراك مهموماً قلقاً يا ولدي، فأخبرتها عن ما يقلقني، وأنني لا أعرف كيف أتصرف معهم، فقالت: يا ولدي إن الأمر أسهل مما تتصور، فما عليك إلا أن تكون صادقاً مع نفسك، واترك الأمر للرب، فهو يدبره لك، ألم تترجم لي قبل قليل: من كان مع الله كان الله معه؟ فقلت لها: نعم، فخف قلقي قليلاً، فالتهمت صحن الربربر وكأنني لم أذقه من قبل.[/FONT]
[FONT=&quot]استيقظت كعادتي مبكراً من ليلة ليلاء، فأوقدت الموقد، وأعددت فطوري، وخرجت على سايكلي متوجهاً إلى المعهد، خائفاً متوجساً مما لا أعرف، فلما ركنت سايكلي على جداره الخارجي ودخلت إليه، أحسست بالراحة لأنه كان خاوياً على عروشه، إلا من السكرتيرة، فلما رأتني حييتها بتحية الصباح فردت، ثم سحبت ورقة وقالت: هذا أمر تعيينك عندنا، وسوف تصلك رسالة من الجامعة بهذا المعنى، وأرجو أن تترك عنوانك واسم البنك ورقم حسابك، ففعلت، فلما تسلمت الورقة مني، قالت: أرجو أن تكون حاضراً غدا في الساعة التاسعة صباحاً، حيث سيكون اجتماع كل أعضاء المعهد لتوزيع الحصص التدريسية والإشراف على الطلبة، فقلت لها: وهل سأكون من ضمن المشرفين؟ فقال: بالتأكيد، فأنت مثل غيرك من المحاضرين في المعهد وسوف يعهدون إليك بما يرونه.[/FONT]
[FONT=&quot]خرجت من المعهد وقد زال قلقي تماماً، فركبت سايكلي متوجهاً نحو المكتبة.[/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
[FONT=&quot]من دفتر الذكريات (61):[/FONT]
[FONT=&quot]أمطري هماً وغماً وعناءا *** وانسجي من أضلعي الظمئى سماءا[/FONT]
[FONT=&quot]وأبيحي حرمــــات لم تزل *** مسجـــداً يشكـــو إلى الله الوفــــاءا[/FONT]
[FONT=&quot]ما لقومي ســـدروا لم يعلموا *** إننـــــا لله بـــــــدءاً وانتهــــــــاءا
(له صلة)
[/FONT]
 
[FONT=&quot]من دفتر الذكريات (62):[/FONT]
[FONT=&quot]حين وصلت إلى المكتبة ركنت سايكلي مع السايكلات، وتسلقت الدرجات القليلة إلى بوابتها، فرأيت الراهب واقفاً تحتها، فاستغربت من وقوفه، ولكنني حييته فرد علي بهدوء.[/FONT]
[FONT=&quot]فقلت له: هذه ليست عادتك، فهل تنتظر يسوع المخلص حتى ينزل ليأخذك إلى ملكوته؟
فقال: كنت أنتظرك
فقلت له: والآن أنا أمامك فهات ما تريد قوله لي
فقال: فكرت في ما قلته لي حول انتخاب الباباوات، فسألت زملائي في الدير وبعض القسس، فكلهم أكد لي بأن ما قلته حول البابا الذي كان إمرأة محض افتراء وكذب أسطوري
فقلت له: وهل سألتهم عن طقس اختبار بعض الكرادلة الكبار في السن للبابا المنتخب، وهل عنده ما عندك بين رجليك؟
فقال: لقد أدخلتنا في المزاح، ونحن نناقش مسألة عقدية
فقلت له: دعنا ندخل إذاً في مسألة عقدية
فقال هات
فقلت له: لما انتهى يسوع من العشاء الأخير مع تلامذته الإثني عشر، أين ذهب؟
فقال: ودعهم وعرج إلى السماء وهم يرونه
فقلت له: جميل منك أن تقرَّ بما جاء في إنجيل لوقا، ولكن قل لي: هل عرج وحده أم مع الرب؟ فقال: وحده
فقلت له: هذا اعتراف منك بأن الأب لم يكن معه ولا الروح القدس، وهذا ما يؤكده سفر المزامير في التوراة حيث نقرأ في ترجمة منه:
"يقول الأزلي لسيدي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ"، وهذا بالضبط ما جاء في إنجيل لوقا 20/42: "كيف يُـقال ليسوع إنه ابن داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير قال الرب لربي: اجلس عن يميني حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ".
فمن هو سيدي في الترجمة الأولى ومن هو ربي في الترجمة الثانية؟
قال: هذه بشارة لنا بالسيد المسيح ومقداره عند الرب
فقلت له: هذا ينفي ما ترونه من الأقانيم الثلاثة، في الأب والابن والروح القدس
فقال: اشرح لي
فقلت له: هو في الحالين منفصل عن الأب، والأب منفصل عنه، لأن يسوع عرج وحده. وأزيدك ما جاء في مزمور داود نفسه:
"أَقْسَمَ الرَّبُّ وَلَنْ يَتَرَاجَعَ: أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى الأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِيصَادَقَ"، فلمن الخطاب هنا؟ ومن هو ملكيصادق؟
فقال: لقد أدخلتنا في دروب لاهوتية ومزالق دينية عميقة
فقلت له: أنت أردت ذلك
فقال: سوف أسأل رفاقي في الدير وأجيبك
فقلت له: لا تسلهم فهم لن يقولوا لك الحقيقة، ولكن سلهم عن الكرسي والفتحة التي فيه وسببها في اختيار البابا الجديد، لعلهم يصدقون معك.
قلت له: وعندي سؤال لك آخر
قال: ما هو؟
قلت له: هل قرات العهد القديم (التوراة)؟
فقال: طبعاً
فقلت له: هل تعتقد أن أحد الأنبياء يقترف الفاحشة مع بناته حتى يستمر نسله؟
فقال: مستحيل يكون هذا من نبي
فقلت له: إذاً فإنك لم تقرأ التوراة
فقال: أين هذا في التوراة؟
فقلت له: في قصة النبي لوط مع بناته
فقال: هذه أقحمت في التوراة للإساءة إلى اليهود
فقلت له: إذا كان فيها إساءة لليهود فلماذا لم تزل القصة بنصها في التوراة؟
فبهت، وتركني ودخل إلى المكتبة.[/FONT]

[FONT=&quot]فصعدت إلى ركني وكتبي المكدسة على الطاولة، فرأيت أوراق الفصل الذي عهدت به للسيدة موضوعاً بعناية في ملف كارتوني على الطاولة، ولما بدأت في تقليب أوراقه، رأيت العجب العجاب، إذ أصلحت الكثير من عباراتي وزادت عليها بقلمها الواضح الدقيق، فلم أدر كيف أكافئها على جهودها، فنزلت إلى مكتبها والأوراق بيدي.
فحييتها، وقلت لها: يا سيدتي لقد أجهدت نفسك، إذ كان يكفيني أن تصححي بعض عباراتي المبهمة، ولكنك زدت على الفصل معلومات رائعة أكملت الفصل إكمالاً رائعاً
فقالت: لقد وجدت الفصل بما فيه من معلومات غزيرة حول الديانات المختلفة، فأردته أن يكون مقنعاً للأساتذة المختبرين، أولاً ـ وإكمالاً لمتعتي فيه ثانياً، فقد استمتعت كثيراَ بقراءته
فقلت لها: لا أدري كيف أجازيك؟
فقالت: بكوب قهوة في الكافيتريا، وإسماعي بعض شعرك، وقد كان ما أرادت وأحبت.
ولكنني فكرت في نفسي أن أهديها هدية تليق بجهودها ومساعدتها، فتركت المكتبة واتجهت مع سايكلي إلى مقهى الطليان، فكانت كالعادة مزدحمة بالزبائن، ولما رأتني النادلة أسرعت إلى الترحاب بي
فقلت لها: جئت قبل يومين فلم أحدك
فقالت: كنت مع ابنتي في زيارة بعض أقاربنا
فقلت لها: أود أن أسألك، وأنت انكليزية، عن هدية تليق أقدمها لإنكليزية في المكتبة ساعدتني كثيراً في رسالتي
فقالت: بسيطة، اذهب إلى الدكان الفلاني في الزقاق الفلاني غداَ، واطلب منه أن يوصل باقة زهور تختارها أنت إلى بيتها حين تكون في البيت
ثم قالت: القائمة نفسها؟
قلت لها: نعم لو تفضلت[/FONT]

[FONT=&quot](له صلة)[/FONT]
 
[FONT=&quot]من دفتر الذكريات (63):[/FONT]
[FONT=&quot]تركت المقهى على عجلة من أمري، وركبت سايكلي ميمماَ شطر الكلية لأحظى بوجبة العشاء قبل انتهاء الوقت، ولما انتهيت منه، عبرت الشارع مع سايكلي حيث ركنته في مكانه المعتاد، فلاحظت أن الضوء ينبعث من غرفتي، فحدست أن سيدة البيت فيها، وكان كما توقعت، فسلمت عليها فردت، ثم قالت: ماذا جرى اليوم معك في المعهد، وها أنا انتظرك؟
فحدثتها عن قول السكرتيرة، ثم أريتها الورقة التي فيها أمر تعييني
فلما قرأتها، قالت: الشكر للرب الذي يسر لك الأمور، وقد قلت لك: لا تقلق، واترك الأمر للرب، فهو يدبره لك،
فقلت لها: صدقت، فلله الأمر من قبل ومن بعد، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
ولما ترجمت لها كل ذلك: قالت: صدقت يا بني، ثم نهضت إلى غرفة جلوسها وعادت مع صحن الربربر الساخن، فقالت: أرجو أن تستمتع به يا ولدي،
فقلت لها: دون شك، وجلست في مكانها المفضل، ولما لم أشأ إزعاجها، التهمته على مضض. وأخرجت أوراق الفصل التي تسلمتها من السيدة في المكتبة، وبدأت في قراءته بإمعان شديد وتمعن عميق.[/FONT]

[FONT=&quot]وفجأة قالت: ماذا تقرأ يا ولدي؟
قلت لها: أقرأ في أحد فصول رسالتي، وقد سألت السيدة المسؤولة عن الكتب في المكتبة أن تتفضل عليَّ بقراءته وتصحيح لغتي فيه، إلا أنها صححت لغتي وزادت فيه زيادة كثيرة، فأردت أن أجازيها على جهودها، فاختارت كوباً من القهوة في كافيتريا المكتبة وسماع بعض أشعاري فقط، وقد سألت النادلة في المقهى الطلياني عن هدية تليق بها، فقالت: ابعث لها باقة من الزهور إلى بيتها.[/FONT]

[FONT=&quot]كانت مس بين تنصت إلى حديثي باهتمام شديد، فلما انتهيت، قالت: يا ولدي، أنا أعرف عقلية البنات الانكليزيات جيداً، فهي لم تفعل كل هذا المجهود حباً في العلم بل بك،
فقلت لها: ماذا تعنين بالضبط؟
فقالت: يا بني هذه الفتاة واقعة في حبك،
فقلت لها: ولكنني لم أقع في حبها ولم أبد لها أي شيء من هذا، وإنما أجلها وأحترمها كثيراً لمساعدتها الكثيرة لي منذ البداية،
فقالت: سوف ترى صدق ما حدست، وألقت علي تحية المساء، ونهضت إلى غرفة نومها.
فقلت في نفسي: أعوذ بالله من حبائل الشيطان.[/FONT]

[FONT=&quot]استيقضت كعادتي مبكراَ، فأوقدت الموقد وأعددت فطوري، وخرجت متوجها إلى المعهد لكي أصل إليه قبل التاسعة، فلما وصلت ركنت سايكلي على جداره الخارجي ودخلت إليه فإذا هو يعج بمن وصل من المحاضرين، فسلمت عليهم، فأجاب بعضهم واستغرب البعض من حضوري.
وانتظرنا حتى وصل أستاذي فسلم عليهم، وتصدر طاولة الاجتماع، فأشار لي أن أجلس إلى جنبه، ففعلت،
فقال موجهاً كلامه إلى المجتمعين: دعونا نرحب بالمستر فلان الذي يرافقنا اليوم، فهو الذي سوف يدرس العربية للطلاب، فنظر بعضهم إلى بعض، وفي أثناء كلامه أزاح الأوراق التي كانت أمامه نحوي، فأخذتها ودسستها في حقيبتي التي كانت على الأرض.[/FONT]

[FONT=&quot]وبدأوا بتوزيع طلبة الماستر على من يشرف على هذا الطالب أو ذاك حسب اختصاصه، ثم عرجوا على طلبة الدكتوراة، فكنت من نصيب أستاذي.[/FONT]
[FONT=&quot]ولما وصلوا إلى طلبة الـ B.A عهدوا إليَّ بطالبتين وطالب واحد، وكلهم مسجل في كليات مختلفة. ولما عرضت الأسماء علي أدركت أن واحدة من الطالبتين تحمل اسماَ عربياً، علمت في ما بعد أن أباها فلسطيني وأمها انكليزية، والثانية إنكليزية، والطالب الثالث: إنكليزي يهودي.[/FONT]
[FONT=&quot]وفي آخر الاجتماع وزعت سكرتيرة المعهد الحصص التدريسية وأوقاتها مع قائمة الإشراف على كل المجتمعين. وانفض الاجتماع ليستمتع الجميع بالقهوة أو الشاي مع الحلويات والحديث مع بعضهم.[/FONT]
[FONT=&quot]وانفرد أستاذي بي، فقال: احسنت في الكتابة عن أبي يزيد البسطامي، فألحقه بالفصل حول آراء المستشرقين حول المعراج،
فقلت له: سأفعل ذلك إن شاء الله.[/FONT]

[FONT=&quot](له صلة)[/FONT]
 
[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (64):[/FONT]
[FONT=&quot]خرجت من المعهد مع سايكلي الوفي الذي بدأ يشكو الوهن، متوجهاً إلى المكتبة، ففكرت في طريقة للحصول على عنوان بيت السيدة لأبعث لها باقة من الزهور، فوقفت على أحد الموظفين في قسم الاستعلامات، وسألته بلطف أن يزودني بعنوان السيدة فلانة
فقال: ولماذا تريد عنوانها؟ وهي موجودة في مكتبها كل يوم؟
فبيَّنت له السبب، وإنني أريدها ذلك حتى تكون مفاجئة لها عندما تعود من المكتبة.
فقال: هذا أمر معقول مقبول، فكتبه لي،
فشكرته، وخرجت من المكتبة إلى حانوت بائع الزهور، فاخترت أغلى ما عنده من الزهور، وسلمته العنوان، وقلت له: أرجو أن تصل الباقة إلى البيت بعد السادسة مساءاً.
فقال: كن واثقاً من ذلك، يا سيدي، ولكن ماذا أكتب على البطاقة التي نرفقها عادة مع الباقة؟
فقلت له: اكتب "مع خالص تقديري واعترافي بالجميل"،
فقال: هل أضيف اسمك على البطاقة؟
فقلت له: لا، ليس ضرورياً.[/FONT]

[FONT=&quot]وسحبت سايكلي الذي كان ينوء بحقيبتي الثقيلة، متوجهاً إلى بيتي، فلما وصلت إليه، ركنته في مكانه المعتاد، ونقلت حقيبتي بما فيها كتب وأوراق إلى غرفتي، لأنني كنت متلهفاً لمعرفة ماذا كتب أستاذي على الورقات، التي كتبتها حول معارج أبي يزيد البسطامي، ولما استخرجتها من حقيبتي بدأت في تقليبها، فوجدت أن أستاذي قد أصلح بعض الألفاظ هنا أو هناك فيها فقط، فسررت بذلك.[/FONT]
[FONT=&quot]وفجأة دخلت مس بين إلى غرفتي، وأنا منشغل بتقليب الأوراق، وفي يدها صحن الربربر الساخن، وحيتي، فرددت عليها دون أن أرفع بصري من الأوراق، فوضعت الصحن جنب الطابعة، مع أنه لم يكن وقت تقديمه، ولم أذهب للعشاء في الكلية بعد، ثم تراجعت إلى مكانها المفضل وجلست فيه.[/FONT]
[FONT=&quot]ثم التفتت إلي، وقالت: ماذا جرى لك اليوم في المعهد يا ولدي؟
فإنك لم تحدثني وأراك مهتماً ببعض الأوراق في يدك.
فانتبهت على سؤالها، فقلت لها: اعذريني، فهذه الأوراق التي كانت عند أستاذي وقد تسلمتها منه اليوم، هي التي أكمل بها رسالتي، إذ لم يبق من إكمال رسالتي إلا هذه الأوراق والمقدمة التي سأشرح فيها محتوى الرسالة بأختصار، ويتبعها عبارت الشكر والامتنان لمن أعانني وساعدني فيها.[/FONT]

[FONT=&quot]فقالت: ظننت أنك كنت قلقاً من شيء تخفيه عني
فقلت لها: يا سيدتي أنا لا أخفي عنك شيئاً، وأنت تعرفين ذلك
فقالت: أعذرني يا بني.
فحدثتها عن كل ما جرى بالتفصيل، وعن ذهابي إلى حانوت الزهور، وإرسالي باقة من الزهور إلى السيدة المسؤولة عن الكتب في المكتبة، والغريب أنها لم تعلق على باقة الزهور ولا بكلمة واحدة، ولم تسألني حتى عن اسمها.
ثم قالت: ومتى تبدأ محاضراتك في المعهد؟
قلت لها: أول محاضرة لي ستكون غداً في التاسعة صباحاً،
فقالت: وهل فكرت في أسلوب التدريس، لأن من أسباب نجاح المحاضر أن يشدَّ انتباه سامعيه إليه، فقد يسهو التلميذ لسبب أو لآخر،
فقلت لها: من أين تعلمت هذا وأنت لم تدرِّسي أحداً في حياتك؟
فقالت: في الدورات التدريبية التمريضية، كان بعض الأطباء، الذين يلقون علينا المحاضرات، ثقلاء، فلم نكن نفهم منهم شيئاً، ونستثقل وجودهم، وكان بعضهم الآخر يخلط الجد الصارم بنكتة ذكية عابرة، فيتبدل الجو تماماً، فكنا نفهم من هؤلاء أكثر مما نفهم من أولائك الثقلاء.[/FONT]

[FONT=&quot]فقلت لها: قد وصلت نصيحتك يا مس بين، ولا أدري إن كنت قادراً على العمل بها غداً، ولكنني أستأذنك الآن، فتركت صحن الربربر قابعاً على الطاولة، وخرجت إلى الكلية، مع الأوراق لأنظر فيها مرة أخرى.[/FONT]
[FONT=&quot]ولما انتهيت من العشاء، اخترت ركناً خالياً في نادي الطلاب، وجلست أقرأ فيه كل كلمة كتبها أستاذي في الأوراق لأسبر قصده وأدرك مراده من التغيير.[/FONT]
[FONT=&quot]عدت إلى البيت، وكانت السيدة قد صعدت إلى غرفة نومها، فكانت فرصتي أن أتخلص من صحن الربربر، فدلقته في ما بين سايكلي والحائط فاختفى بين الحشائش، وأغلقت الشباك بهدوء اللص وحذره.[/FONT]
[FONT=&quot]وفي صباح اليوم التالي، أوقدت الموقد وأعددت فطوري، ثم أسرعت إلى المعهد، ولما وصلت إليه، ركنت سايكلي، ودخلت إلى أحدى قاعة المحاضرات، فوجدت بعض الطلاب والطالبات قد سبقوني بالبكور، فلما اكتمل العدد (وكانوا 14 فرداً)، أكثرهم طالبات، حييتهم، وقدمت لهم نفسي وما هو واجبي نحوهم، ثم أردفت قائلاً:الميزان ليس في كفتيه تعادل: فضحكوا جميعاً.
فالتفت إلى اللوحة السوداء ورائي وكتبت عليها بخط كبير واضح:[/FONT]

[FONT=&quot]حَنَنْتَ إِلى رَيَّا وَنَفْسُكَ بَاعَدَتْ *** مَزَاْرَكَ مِنْ رَيَّا وَشِعْبَاكُمَاْ مَعَا[/FONT]
[FONT=&quot]ثم شرحت لهم ما سافعله في كل حصة معهم، حسب الخطوات الآتية:[/FONT]
[FONT=&quot]1) أقرأ ما أكتب على اللوحة بعربية فصيحة وبتأن.
2) أترجم ما أكتب على اللوحة ترجمة حرفية: لفظاً لفظاً
3) أترجم ما أكتب ترجمة شاملة، أبين فيها مقاصد القائل
4) أفكك ما أكتب على اللوحة من الألفاظ وأبين اشتقاقاتها، وموقع كل لفظة من الإعراب.
5) أنهي الدرس بأعراب ما اكتبه على اللوحة إعراباً كاملاً شاملاً.
6) يجب أن تكتبوا كلَّ ما تسمعون، فأذا انتهيت، فلكم كل الحق أن تسألوني، ولا تتحرجوا.[/FONT]

[FONT=&quot]فرفع أحد الطلاب يده وقال: طريقتك في التدريس لا تشبه من سبقك،
فقلت له: أيهما أسهل لك؟
قال: طريقتك،
قلت له: شكراً، أرجو أن تنتفع بها.[/FONT]

[FONT=&quot]وحين خرجت من قاعة التدريس، لحقت بي إحدى الطالبات، وقالت: أستاذ، أعرفك بنفسي، فأنا فلانة، وأنك ستشرف عليَّ،
فقلت لها: جميل جداَ، وأنا شاكر لك تعريفي بنفسك، فهل تركت عنوانك عند سكرتيرة المعهد؟
فقالت: نعم. وأود أن أدعوك لسماع محاضرة يلقيها البروفسور فلان، في قاعة الكنيسة الانكليكانية الفلانية، في الساعة الفلانية،
فقلت لها: هذا من المشهورين بحملات التنصير في لبنان وسوريا والشرق الأوسط مثل زويمر، وغيره،
فقالت: لا أعرف، ولكنني سمعت هذا من الطلبة، ونرجو أن تحضر.
فقلت في نفسي: راهب واحد ما يكفي: صار معه برفيسور منصر؟
فقلت لها: سوف أفكر في الأمر.[/FONT]

[FONT=&quot](له صلة)[/FONT]
 
[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (65):[/FONT]
[FONT=&quot]تركت الطالبة ورائي، وسحبت سايكلي وأنا أردد مع نفسي: "راهبٌ واحدٌ ما يكفي؟ والآن صار معه برفيسور منصِّر أيضاً"؟، هل أذهب أو لا أذهب؟
فلحقت بي الطالبة على سايكلها، ولما حاذتني، قالت: نحن ننتظرك، وفاتتني، فقلت في نفسي: يا ملعونة، لماذا تصرِّين على حضوري هذه المعمعة مع هذا الخبير النحرير؟ فهل في الأمر سرٌّ؟[/FONT]

[FONT=&quot]وكان هناك وقت كافٍ لزيارة مقهى الطليان للإستمتاع بكوب من القهوة اللذيذة، وتدبر الأمر مع محاضرة هذا الأستاذ، فلما دخلت إلى المقهى أسرعت النادلة فحيتني، وقالت: هذا ليس وقت زيارتك لنا،[/FONT]
[FONT=&quot]فقلت لها: نعم، صدقت ولكن إحدى طالباتي دعتني للإستماع إلى محاضرة يلقيها missionary بروفيسور في الكنيسة الفلانية، فلما سمعت الكلمة الانكليزية،
قالت: إياك أن تدخل معهم في نقاش، لأنهم خبراء في التهرب من الإجابة، ولا يمتنعون من الكذب،
فقلت لها: هل هذا معقول من أناس يحاولون إقناع غيرهم بدينهم فيكذنون عليهم؟
فقالت: دعك من هذا الهراء في إقناع غيرهم بدينهم، لأنهم يعملون كل هذا من أجل المال وليس من أجل يسوع ودينه.[/FONT]

[FONT=&quot]ولما حان وقت المحاضرة ركبت سايكلي إلى الكنيسة يدفعني حب الاستطلاع وليس الدخول في ملاسنةٍ عقيمةٍ مع هذا الأستاذ، ولما وصلت إلى بوابتها رأيت كثيراً من السايكلات مركونة على بعضها، فعلمت أن القاعة غاصة بالحضور، فركنت سايكلي ودخلت، ولم أجد مكاناً خالياً، فآثرت الوقوف إلى جنب البوابة التي لا تبعد كثيراً عن منصة الخطابة.[/FONT]
[FONT=&quot]فرأيت شخصاً نحيفاً طويلاً، يقترب من منصة الخطابة، فحدست أنه هو المتكلم، فكان هو، فبداً بتحية المساء، ثم استمر في كلامة وكأنه يلقي موعظة كنيسة اعتاد الحاضرون على سماعها من القسس قبل الصلاة.[/FONT]
[FONT=&quot]فرفعت يدي دون شعور، فنظر إليَّ باشمئزاز وقال: نعم؟ هل تعرف أن العادة عندنا هنا أن يستمع الحاضرون إلى المحاضر حتى إذا انتهى من محاضرته، تبدأ أسئلة الحاضرين له؟[/FONT]
[FONT=&quot]فقلت له: صدقت جداُ، وأنا متفق معك تماماً، لو أنك بدأت المحاضرة كأي بروفيسور أكاديمي، ولكنك بدأتها وكأنك تلقي علينا طقوساً كنسية كقسيس، وما جاء مثلي لكي يسمع هذه الطقوس لأنها موجودة في كل الكنائس.[/FONT]
[FONT=&quot]وقد تطرقت في أول طقسك الكنسي إلى إيمانك بيسوع، وهذا من حقك، وإنه نزل مع الرب والروح القدس بدافع الرحمة التي يحملها للبشرية حتى يفديها بنفسه ويتحمل عنها الذنب، وقلت: إن دين النصرانية هو دين الرحمة وليس غيره من الأديان.[/FONT]
[FONT=&quot]وأنا هنا أود أن أسألك هل ما قلته أنا هو بالضبط أو يشبه ما تفضلتَ أنت به؟
فقال: نعم، هو يشبه ما قلته أنا،
فقلت له: جميل منك أن تعترف بدون لف أو دوران بقولك، ولكن أسألك: هل تعرف اللغة العربية؟
فقال: طبعاً!!
فقلت له: لو تفضلت علينا نحن المسلمين الجهلاء بقراءة سورة الفاتحة. فقال وقد علته الحيرة: آسف لا أحفظها،
فقلت له: إذا قرأتها عليك، هل يمكنك أن تترجم أولها فقط لنا؟
قال: نعم، اقرأ،
فقلت: "بسم الله الرحمن الرحيم"،
فقال: ترجمها أنت،
فقلت: عجيب منك، تقول إنك تعرف العربية ولا تستطيع أن تترجم أربع كلمات؟
ومع هذا فأنا مطيع لك، فإليك وإلى الحاضرين ترجمتها:[/FONT]

[FONT=&quot]In the name of God the Merciful the Compassionate[/FONT]
[FONT=&quot]فهذه الألفاظ ترد عليك بأن الرحمة من الله للبشر كافة الذين يؤمنون بوحدانية الله، وليس كما تحتكرونها أنتم لأنفسكم، فصار لغط كثير في القاعة، فلم أسكت، فأشار بيده للجمهور فسكت،
فقلت له: يا بروفيسور أنا أسأل وأنت الخبير الذي تجيبني، وهذا هو الأسلوب الأكاديمي في التعليم، أليس كذلك؟
قال: نعم، سل!!
فقلت: أتناقش أحياناً مع راهب كاثوليكي أمام بوابة مكتبة الجامعة، فسألته يوماً: أين ذهب يسوع بعد العشاء الأخير مع تلامذته؟
فقال لي: عرج وحده إلى السماء وهم ينظرون إليه، فهل ما قال لي هذا الراهب صحيح يا برفيسور؟
فقال: نعم هذا صحيح،
فوجهت كلامي للحاضرين: أعزائي الحاضرون، هل عروج يسوع وحده إلى السماء يؤيد أو ينقض ما تفضل به هذا الأستاذ في إيمانه بالأقانيم الثلاثة؟
فساد لغط عظيم، ولم أسكت، فقلت له: يا برفيسور، هل يمكنك أن تحمل ذنبي وإثمي على عائقك،
فقال: طبعاً لا،
فقلت له: لماذا يتحمل يسوع أوزاركم وآثامكم وهو لم يقترفها؟
أليس هذا ظلم منكم له؟
ولو تفضلت، قل لي لأية كنيسة تنتمي؟
فقال: الكنيسة الانكليكانية،
فقلت له: لو تسمح تثقفنا حول تاريخ هذه الكنيسة التي ترأسها الملكة؟ ولماذا انشقت عن بابا روما؟
فقال: بسبب سياسي،
فقلت له: لا، ليس بسبب سياسي، وإنما بسبب نسواني، ودور الملك هنري الثامن في انشقاقها معروف لتبرير زواجه غير الشرعي من آن بولين،
فقال: كأنك تعرف التاريخ الانكليزي؟
فقلت له: قليلاً، ولكن ما يكفي للرد عليك وعلى أمثالك.
وقبل أن انهي مشاكستي معك أود أن تنصحني إذا تنصرت، فإلى أية كنيسة انتمي؟
فقال: الكنيسة التي تعجبك تعاليمها؟
فقلت له: هنا صدقت جداً، جداً، وانسللت من الكنيسة لأنني كنت بجنب الباب.
ولما وصلت إلى سايكلي فإذا أنا بالطالبة الملعونة تقف إلى جنبي،
فقلت لها: لقد أحرجتيني مع هذا الأستاذ،
فقالت: أشكرك بالنيابة عني وعن زميلاتي فقد أفرحتنا أجوبتك وردودك،
فقلت لها: عجيب، وأيش قصة بالنيابة عني وعن زميلاتي هذه؟[/FONT]

[FONT=&quot](له صلة)[/FONT]
 
[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (66):[/FONT]
[FONT=&quot]لم تجبني الطالبة عن سؤالي، بل تركتني مع سايكلي في يدي وأسرعت في الدخول إلى الكنيسة، وكأنها كانت لا تود أن يفوتها من كلام البرفيسور أية كلمة، ولما فتحت الطالبة باب الكنيسة، سمعت تصفيقاً وصفيراً وأصواتاً مختلطة من داخلها. [/FONT]
[FONT=&quot]فركبت سايكلي وتوجهت الى الكلية لتناول العشاء، ولما انتهيت منه عبرت الشارع مع سايكلي الى البيت كالعادة، فوجدت سيدة البيت جالسة في ركنها المفضل في غرفتي، فحييتها فردت عليَّ تحيتي، وقالت: هات يا بني فإنني أرى في عينيك أثرَ ضحكٍ وسرور.[/FONT]
[FONT=&quot]فبدأت فعلاً بالضحك، ثم قلت لها: تصوري يا مس بين، طالباً مسلماً يدرس مسألة العروج في الديانات المختلفة، الحية والبائدة، بجامعة انكليزية، ويدرِّس اللغة العربية للطلبة النصارى واليهود، في الجامعة نفسها، ويتناقش مع راهب كاثوليكي في معتقده من نصوص اناجيله، واليوم يتجادل مع بروفيسور انكليكاني واعظ ومنصِّر، يحاول أن يقنع غير النصراني باعتناق دينه، فمن يكون هذا؟ [/FONT]
[FONT=&quot]فانفجرت مس بين بالضحك المتواصل، فشاركتها في الضحك، فلما توقفت من الضحك، قالت: ذلك الشخص هو أنت دون أدنى شك وليس غيرك، ولكن هل اسم البروفيسور الواعظ فلان؟ فقلت لها: نعم، كيف عرفت؟ قالت: رئيس جماعتنا حذرنا منه أكثر من مرة، فهو ذو طبيعة متشددة اعتدائية، ولا يقبل الجدال في غير ما يعتقد، ويرى غير نفسه وجماعته هراطقة مرتدين. [/FONT]
[FONT=&quot]فقلت لها: لقد أفحمته اليوم أمام جمهور كبير من الطلبة والطالبات، فقالت: كيف فعلت ذلك؟ فقلت: استخدمت كلامه نفسه للرد عليه، [/FONT]
[FONT=&quot]فقلت له: يا برفيسور، هل يمكنك أن تحمل ذنبي وإثمي على عائقك، فقال: طبعاً لا، فقلت له: لماذا يتحمل يسوع أوزاركم وآثامكم، وهو لم يقترفها؟ أليس هذا ظلم منكم له؟ ثم انسحبت من الكنيسة، وتركت الحاضرين في هرج ومرج.[/FONT]
[FONT=&quot]فضحكت مس بين طويلاً، وقالت: لقد صدقت يا ولدي، فليس أحدنا يكون مسؤولاً عن ذنب الآخر، وكلُّ أنسانٍ مسؤولٌ عن عمله إنْ خيراً أو شراً.[/FONT]
[FONT=&quot]نهضت مس بين مسرعةً من مكانها وخرجت من الغرفة، إلا أنها عادت مع صحن الربربر الساخن، وأودعته مكانه المعتاد على الطاولة، وتراجعت إلى مكانها المفضل من الكنبة، ثم التفتت إليَّ فقالت: لم أكن أعلم يا ولدي بأنك كنت تجادل راهباً أمام المكتبة؟ فقلت لها: لم أكن اتجادل معه لكي أقنعه بترك الرهبنة أو عقيدته، وإنما كنت أسأله فيجيبني بما يعرف، وأصحح له أحياناً بعض معلوماته، فيتعلم مني وأتعلم منه، [/FONT]
[FONT=&quot]فقالت: مثل ماذا مثلاً؟ [/FONT]
[FONT=&quot]فذكرت لها قصة البابا يوحنا الثامن الذي كان امرأة، وكيف تم اكتشافها، وما فعله الكرادلة بها وبطفلتها، وقد كانت هذه الحادثة سبباً في أن الفاتيكان سنَّ مسألة الاختبار بالكرسي المثقوب، فلما وصلت الى محاولة تبيان فائدة الفتحة فيه، بدأت مس بين بالضحك المتواصل، ثم قالت: فهمت، فهمت!! ثم قالت: هل ما تقوله صحيح تاريخياً؟ فقلت لها: وكيف أعرف ذلك؟ وأنا لم أشهد هذا الاحتفال؟ لأنني لم أكن كردنالاً معهم؟ ولكن هذا مذكور في بعض التواريخ وهم ينفون حدوثه، ومنهم الراهب الذي قلت له: إذاً لماذا هذا الاختبار؟ فلم يفسره لي، وانكر قصة يوحنا الثامن.[/FONT]
[FONT=&quot]فقالت: هذه قصة عجيبة لم أسمع بها من أحد قبلك، ولولا تفسيرك للكرسي في انتخاب البابوات لما صدقتك. وسوف أحكيها يوم الأحد القادم لأصدقائي في كنيستنا، ثم نهضت والقت علي تحية المساء وغادرت إلى الحمام وغرفة نومها.[/FONT]
[FONT=&quot]بعد مغادرة سيدة البيت لغرفتي انهمكت في ترتيب أوراق رسالتي استعداداً لدفعها إلى أحد مكاتب طبع الرسائل في المدينة، إلا أنني آثرت التريث حتى انتهي من المقدمة وصفحة الشكر والعرفان، لتكون كاملة في الترقيم أيضاً، ولذلك قررت أن أقرأ الرسالة بكاملها، ابتداءاً من مساء غد في ركني من نادي الطلاب في الكلية.[/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
من دفتر الذكريات (67):
أفقت من النوم مبكراً كالعادة، على جوٍّ باردٍ مكفهرٍّ كالحٍ كئيبٍ، يغلِّفُ سماءَه ضبابٌ رماديٌّ كثيفٌ، ومن حسن الحظ فإن ماء الحمام كان ولم يزل دافئاً، فأسرعت إلى الحديقة الخلفية، وغرفت الفحم، وشرعت في إيقاد الموقد قبل نزول السيدة، وأعددت فطوري البسيط، وخرجت مع سايكلي الوفي في سرَّاء وضرَّاء وبأساء، وحقيبتي عليه ميمماً شطر المكتبة، لأن يومي هذا كان خالياً من أية حصة تدريسية في المعهد ولا ساعة إشراف، فلولا معرفتي التامة بالطريق إلى المكتبة، لتعذر عليَّ الوصول إليها بسبب كثافة الضباب، وكان أصحاب السيارات والحافلات يسوقون بحذر شديد لصعوبة الرؤية.
لما وصلت إلى المكتبة ركنت سايكلي مع غيره وتسلقت درجات المكتبة ناوياً الدخول إليها، فرأيت الراهب خارجاً منها، فسلم عليَّ فرددت عليه السلام، وأردف قائلاً: كيف وصلت في هذا الضباب الكثيف؟
فقلت له: وأنت كيف وصلت؟ هل كان يسوع يقودك من يديك؟
قال: لا تدع تحرشاتك حتى في أقل الأمور؟
فقلت له: أنت البادي والبادي أظلم،
فقال: كيف؟
فقلت له: لأتك لم تجبني على سؤالي، بل سألتني: كيف وصلت في هذا الضباب الكثيف؟
فهل هذا تحرش مني أو جواب عليك؟
فقال: دعنا من هذه الأمور الصغيرة، فماذا جئت تفعل في المكتبة؟
فقلت له: إن أمرك عجيب وغريب،
فقال: لماذا عجيب وغريبٌ؟
فقلت له: أجبني على سؤال واحد بسيط أولاً؟
قال: ما هو؟
قلت له: ماذا يفعل مثلي ومثلك في المكتبة؟
قال: نبحث في المصادر المتاحة فيها أو نستعيرها،
فقلت له: هذا جواب سؤالك،
فقال: ما كنت أقصد هذا،
قلت له: وماذا كنت تقصد إذاً؟ فقد حيرني سؤالك؟
قال: في مثل هذا الجو البارد والضباب الكثيف، كان عليك أن تبقى في غرفتك وتشتغل ببحثك، بدلاً من أن تتحمل مشقة المجيء إلى المكتبة،
فقلت له: يا صديقي العزيز، هل شربت نبيذاً كثيراً لتسخين عروقك قبل المجيء إلى المكتبة؟ فقال: سؤالك عجيب،
فقلت له: سؤالك هذا يشبه سؤالك الأول، ولو لم تكن tipsy مخموراً لما سألت هذا السؤال، ولأنني سأسألك السؤال نفسه، فماذا ستجيب؟
فقال: أعذرني، فإنني اليوم على غير عادتي،
فقلت له: على غير عادتك الشهرية أو السنوية؟
فضحك طويلاً، وقال: هذا الذي يحببني في صحبتك والحديث معك،
فقلت له: وما هو؟
قال: سرعة ردك وإحساسك الجميل بالنكتة.
فقلت له: عندي خبر ظريف لك، فتطلع بشوق في وجهي،
وقال: لا أسألك عن صديقتك إذا تركتك أم لا، فلن أخطيء مرتين، ولكن هات وبسرعة،
فأخبرته بالتفصيل بما جرى لي مع البروفيسور المنصِّر في الكنيسة، ثم قلت له: وقد ذكرتك أثناء المناقشة،
فقال متعجباً: ذكرتني أنا؟
فقلت: نعم أنت بالذات،
فقال: في أية مناسبة؟
فقلت له: هل تذكر حديثنا حول عروج يسوع وحده إلى السماء أمام تلاميذه بعد العشاء الأخير من البستان التي دعاهم إليه؟
فقال: نعم أذكر ذلك، وأنك جئت به لتنفي مبدأ الأقانيم الثلاثة، وأن يسوع كان وحده حين عُرج به إلى السماء، وأنه جلس عن يمين الرب.
فقلت له: هذا بالضبط ما جادلت به البروفيسور في الكنيسة. وأزيدك بأنني قلت له: يا برفيسور، هل يمكنك أن تحمل ذنبي وإثمي على عائقك، فقال: طبعاً لا، فقلت له: لماذا يتحمل يسوع أوزاركم وآثامكم، وهو لم يقترفها؟ أليس هذا ظلم منكم له؟
فقال الراهب: اسمع مني، أنا لم أجعل منك نصرانياً وأنت لم تجعل مني مسلماً، فكل واحد منا مقتنع بما لديه، فدعنا نتناقش بود ومحبة، فاستفيد منك وتستفيد مني.
فقلت له: اسمع أنت مني، فلا أنت وبما لديك من معرفة قاصرة بديانتك، التي أثبتتها مناقشاتنا، ولا البروفيسور الأنكليكاني المتشدد وبما لدية من معلومات عن النصرانية البروتستانتية بكنائسها المختلفة عموماً، ولا البابا الذي قعد ظلماً وعدواناً بموجب هبة قسطنطين المزورة على كرسي الرسول بولس، أو شاؤول الطرسوسي، بمستطيع إقناعي بصحة دين النصرانية أو البهودية.
فنظر إلي مبهوتاً، وقال: ما هذه الهبة المزورة من قسطنطين لبابا روما؟
فقلت له: سيأتيك حديثها بعد حين، ودخلت إلى المكتبة وتركته واقفاً أمامها.

(له صلة)
 
من دفتر الذكريات (68):
تركت الراهب واقفاً أمام بوابة المكتبة، وأسرعت إلى ركني وطاولتي، ولم أكد أنظِّم أوراقي عليها إلا ورأيت السيدة المسؤولة عن الكتب تتجه نحوي، فلما وصلت إليَّ حيتني فرددت عليها التحية.
فقالت: جئت لأشكرك على باقة الزهور الغالية التي أرسلتها إليَّ، ولا بدَّ أنها قد كلفتك الكثير، فقلت لها: يا سيدتي العزيزة، هذا أقل ما يجب أن أفعله لك، لقاء جهدك الرائع في تصحيح الفصل وكل مساعداتك الكثيرة لي، ثم لا تنسي فلدي الآن راتبان،
فضحكت ثم قالت: نعم لقد نسيت، ثم عادت إلى مكتبها.

لم أجد في نفسي ميلاً للبحث والتنقير أو حتى قراءة جزء من رسالتي لكي ألخصها في المقدمة، فنزلت إلى كافتيريا المكتبة للاستمتاع بكوب من القهوة الساخنة، ولم أكد أدير وجهي، بعد أن تناولت كوب القهوة بيدي، حتى شاهدت الراهب جالساً وحده على طاولة منزوية، فلما رآني أشار إليَّ أن أرافقه ففعلت.
سلمت عليه فرحب بي وقال: أنا مسرور برؤيتك،
فقلت له: ولماذا؟
قال: إنني أشعر بالوحدة في المكتبة، إذ لا أحد يتكلم معي، أو إنني لا أتكلم مع أحد إلا معك.
فقلت له: يا صاحبي، الذنب ليس ذنبك، ولكنْ ذنب كنيستك وقساوستها، فقد ملَّ الناس من ما تكررونه عليهم من وعظ كاذب، وما تجمعون من أموالهم بعد كل صلاة، مع معرفتهم بأن كباركم يمتلكون المال الكثير في البنوك، وكأنهم مكَّاسون وليسوا رجال دين، فلذلك هجر الناس كنائسكم، فتأوه الراهب بحرقة وحزن، ثم قال: صدقت في كل كلمة قلتها، ولكن أرجوك اشرح لي مسألة هبة قسطنطين المزورة، لأنني لم أسمع بها من قبل.

قلت له: أنت حتماً تعرف بأن الإمبراطور قسطنطين الأول جعل مدينة القسطنطينية عاصمةً للإمبراطورية الرومانية الشرقية وترك روما العاصمة الغربية لهذه الامبراطورية، وكان البابا سلفستر الأول قد ادعى في روما بأن الامبراطور قسطنطين قد منحه السلطة الروحية العليا على النصرانية والسلطة الروحية والدنيوية على إيطاليا، بوثيقة مكتوبة منه، كما جاء في الموسوعة البريطانية وفي غيرها من التواريخ. ومن ذلك الحين والباباوات في الفاتيكان يستندون على هذه الوثيقة في دعم سلطتهم الروحية والدنيوية حتى يومنا هذا.
وقد أثبت الراهب لورنزو فالا في سنة 1440م بأن هذه الوثيقة مزورة ومزيفة، وقد استند فالا في تبيان تزويرها على الأخطاء التاريخية وتسلسل الحوادث التي وردت في الوثيقة، ومثله فعل راهب آخر هو نيقولاس أوف كوسا في سنة 1464م، وهذا كله مذكور في تواريخكم المطبوعة.
فتأوه الراهب وهو ينظر في وجهي بحزن، وقال: العجيب إننا نتعلم تاريخ كنيستنا من مسلم، فقلت له: ولمَ العجب؟ فقد دخل عالم مسلم في معهد استشراقي فرأى يهودياً يعلِّم القرآن للطلبة النصارى، فضحك الراهب ضحكاً عالياً، وقال: سامحك الرب فقد فرجت همومي بحسن نادرتك، وخرجنا سوية من الكافتيريا، فودعته وصعدت إلى ركني.
جمعت أوراقي وأودعتهم في حقيبتي، ونزلت إلى خارج المكتبة، فإذا الضباب لم يزل كثيفاً، فسحبت سايكلي وعليه الحقيبة عبر الكليات إلى مقهى الطليان، فلما دخلت إليها كانت شبه خاوية، فلما رأتني النادلة حيتني فرددت عليها
فقالت: كيف اهتديت إلينا؟
فقلت لها: حماري الحديدي يعرف الطريق أحسن مني، فقادني إليكم،
فضحكت، وقالت: القائمة نفسها؟
قلت: نعم لو تفضلت عليَّ،
ولما انتهيت من القهوة، ودعت النادلة وركبت سايكلي على حذر شديد وخوف أشد، متوجهاً شطر الكلية، لعلي أجد هناك عشاءاً إذ كنت أخشى أن يكون الضباب قد منعهم ما اعتدنا عليه، فلما وصلت بعد لأي رأيت الأنوار ساطعة في جوانب المطعم، فركنت حماري الحديدي وتأبطت حقيبتي وأسرعت مع الطابور القصير من الطلاب.

ولما انتهيت من العشاء، أسرعت إلى ركني القصي في نادي الطلاب الذي كان خالياً خاوياً، وبدأت في قراءة رسالتي من بدايتها، وأكتب في الوقت نفسه ملخصاً لما أقرأ، حتى أحسست بالملل، فلملمت أوراقي في الحقيبة وتركت الكلية مع حماري الحديدي عبر الشارع إلى البيت، الذي كان الضباب الكثيف يمنعني من رؤية أي ضوء في غرفتي إلى أن دخلت البيت، فوجدت سيدة البيت في ركنها المفضل أمام المدفأة الحجرية، فسلمت عليها فردت عليَّ تحيتي، وقالت: كنت قلقة عليك من هذا الضباب، والشكر للرب الذي أرجعك سالماً،
فقلت لها: آمين.
فقالت: أعذرني يا ولدي فلم اطبخ لك اليوم صحن الربربر، لأنني خفت أن أخرج إلى الحديقة، فقلت لها: حسناً فعلت، فأنت أغلى عندي من كل نبات الربربر، وأخبرتها بالتفصيل عن ما حدث لي مع الراهب وما عملت في نادي الطلاب.
فقالت: الظاهر أن هذا الراهب يشعر بالوحدة والاكتئاب، فلماذا لا تدعوه لشرب القهوة معك هنا؟
فقلت لها: يا مس بين!!! لو أدعوه فإنه يحوِّل بيتك إلى دير رهبان، وأنا أريده أن يكون دير راهبات، أيش رأيك؟؟
فضحكت وقالت: تصبح على خير يا ولدي.

(له صلة)
 
(من دفتر الذكريات (69):
كان الجو صافياً مشمساً بارداً، حين فتحت عيني في الصباح، وكأن الضباب الكثيف قد ابتلعه حوتٌ هائل أو جرفته رياح عاتية، فاغتسلت ولبست ثيابي، وأسرعت إلى مخزن الفحم وأوقدت الموقد كالعادة وأعددت فطوري ثم خرجت واوثقت حقيبتي رباطاً على حماري الحديدي، وأسرعت به إلى المعهد لإلقاء الدرس الثاني على الطلبة والطالبات، فوصلت في الوقت المحدد تماماً إذ كان الطلبة في انتظاري، فسلمت عليهم، وإلتفتُّ إلى اللوحة السوداء (السبورة) فكتبت عليها:
(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)
فبدأت بترجمة النص حرفياً، ثم ترجمته كلياً، ثم قرأته بالعربية متأنياً، ثم بدأت بتفكيك كلماته واشتقاقاتها اللغوية ومعانيها مفردةً أو مع غيرها، ثم بدأت بإعرابه وتبيان سبب رفعه ونصبه وضمه وكسره، وكان الطلبة منهمكين بكتابة كل كلمة أتفوه بها، إما بالحروف العربية أو بالحروف اللاتينية، ولما انتهيت أو كدت، قالت لي إحدى الطالبات: في ترجمتك للجملة الأخيرة، قلتَ:
It is the utterance of a gracious messenger
فمن هذا الرسول؟ فقلت لها: هو جبرائيل حسب أقوال المفسرين، أما إذا أردتم معرفة المعنى العام للنص الذي كتبته لكم على اللوحة، فانظروا ترجمة أستاذنا آربري لسورة التكوير، وهي برقم: 81، وفي الحصة القادمة سوف نتعامل مع نصٍّ أدبيٍّ .
ولما انتهيت أشرت إلى الطالبة التي ورطتني مع البروفيسور الواعظ المنصر الانكليكاني، فجاءت وبادرتني بالسلام فرددت عليها، فقالت: هل تود معرفة ماذا جرى في الكنيسة بعد مغادرتك؟ فقلت لها: لا، هذا غير مهم لي، ولكن اشرحي لي قولك: أشكرك بالنيابة عني وعن زميلاتي فقد أفرحتنا أجوبتك وردودك.
فقالت: المسألة في غاية البساطة، فقد اتفق جماعة من الطلاب والطالبات على أن يقوموا بمتابعة أمثال هذا البروفيسور، ونقوم بمقاطعته ونشوش عليه في أثناء كلامه ونتصدى له بالأسئلة ونؤلب عليه من ليس له رأي أو موقف من أمثال هذا، لأننا نعتقد ونؤمن بدين الانسانية الذي يضم كل البشر دون النظر إلى اللون أو الجنس، وإن هذا وأمثاله ينشرون الحقد والتفرقة، فنحاول أن نقلل من تأثيره، ولذلك فرحنا جداً حين رددت عليه وأفحمته، ونرجو ان تلبي دعواتنا في المستقبل، فقلت لها: نشاطكم رائع وإنساني، ولكنني سوف افكر في كل دعوة اتلقاها منكم، خشية أن أقع في موقف محرج لي.
وبالمناسبة متى ستكون ساعة اشرافي معك؟ قالت: يوم الاثنين القادم، في الساعة الثانية بعد الظهر هنا، فقلت لها: أرجو أن لا تأتيني دعوة أخرى منكم قبل ساعة الإشراف.
ولما حانت ساعة إشرافي على الطالب المسجل في كلية كوربس كريستي Corpus Christi College الواقعة في وسط المدينة، ولم تكن بعيدة عن المقهى الطلياني، ركبت سايكلي وتوجهت إلى هذه الكلية، حيث يسكن الطالب اليهودي، فوجدته ينتظرني أمام بوابة الكلية، فسار أمامي وصعدنا إلى غرفته، ولما استقر بنا المقام، بدأنا النقاش في موضوع رسالته للماستر والخطة التي رسمها وخطط لها، ولما انتهينا من النقاش، قلت له: هل تعرف معنى اسم الكلية التي أنت فيها؟ فقال: من سخريات القدر، نعم، وأنا يهودي لا أؤمن بذلك، فما علاقتي بجسد يسوع الذي حولوه إلى الخبز ودمه الذي حولوه إلى الخمر؟ ولكنني اضطررت للتسجيل فيها لأن الكليات الباقية رفضت تسجيلي بحجة اكتفائها من الطلاب، فقلت له: ليس مهماً أين سجلت، ولكن المهم أن تثابر وتجتهد في إنجاز رسالتك، قال: سوف أحاول بكل جد واجتهاد العمل على ذلك، فودعته وانصرفت إلى المكتبة ماشياً مع سايكلي عبر الكليات.
فلما وصلت ركنته مع غيره، وتسلقت درجات المكتبة، وتوجهت مباشرة إلى ركني وطاولتي، فلم أحس برغبة في البحث فنزلت إلى كافتيريا المكتبة لأستمتع بكوب من القهوة، فرأيت السيدة المسؤولة عن الكتب جالسة فأشارت إليَّ أن أرافقها على طاولتها، فحييتها قبل جلوسي معها، فرحبت، وسألتني عن رسالتي وماذا بقي منها، فأخبرتها بأنني الآن مشغول في كتابة المقدمة، ولكنني في الوقت نفسه أبحث عن أحد مكاتب الطباعة لطباعة نص رسالتي المليء بالألفاظ العربية المكتوبة بالحروف اللاتينية، فقالت: أعرف أن المكتب الفلاني الواقع في الشارع الفلاني قد طبع رسالة لطالب عربي قبلك، فزر هذا المكتب واتفق مع من فيه من العاملين أو العاملات، فلعلهم يوافقون على طبعها لك، فشكرتها على اهتمامها، وودعتها، وعدت أدراجي إلى ركني وطاولتي وكتبي المكدسة.
لم أجد في نفسي حماساً ولا رغبة في الاستمرار في قراءة رسالتي، فطويت أوراقها في حقيبتي ونزلت من المكتبة إلى خارجها، وسحبت حماري بما عليه من حقيبتي وركبته ميمماً المقهى الطلياني، فلما دخلتها فإذ ا هي مليئة بالزبائن وبالدخان ولم أرَ النادلة فعافت نفسي جوها، وما كدت أتركها حتى رأيت جارتي الممرضة تتجه نحوي بلباسها الأبيض، فحيتي بتحية المساء فرددت عليها، فقالت: هل يمكن أن أدعوك لشرب كوب قهوة معي؟ لأنني أحب صراحتك؟ فقلت لها: يؤسفني أن أرفض دعوتك، لأنك كذبت عليَّ عند أمك حين قلت لها: إنني معجبٌ بك، وهذا ليس صحيحاً. فقالت: يا فلان! لا تبالغ في الأمور فنحن جيران ونحترم بعضنا، وما فات راح ونحن أولاد اليوم، فقلت لها: صدقت، فأرجو أن تدوم جيرتنا واحترامنا وصداقتنا، ولكن اعذريني اليوم فلا بدَّ أن أصل إلى الكلية قبل أن تنتهي فترة العشاء، فودعتها وركبت سايكلي متوجهاً إلى الكلية.
(له صلة).
 
(من دفتر الذكريات (70):
وصلت إلى الكلية، فركنت حماري الحديدي، وأخذت دوري في (طابور) صفِّ الطلاب الذين بدأوا يتقاطرون على المطعم، ولما انتهيت من العشاء، يممت شطر ركني في نادي الطلاب الذي كان خاوياً من الطلاب، فسحبت أوراق رسالتي من حقيبتي وبدأت أقرأ وألخص ما أقرأ، حتى مللت، فدسست الأوراق في حقيبتي وعبرت الشارع مع سايكلي إلى البيت.
ولم أكد أركن حماري في الحديقة الأمامية وافتح الباب إلا والمطر قد بدأ يتساقط عنيفاً، وينهمر بشدة مع ريح عاتية، فحمدت الله على أنني لم أستحم بماء المطر المثَلَّج قسراَ وغصباً عني حين عبرت الشارع، فسارعت إلى إيقاد المدفأة الحجرية، وأنا في كامل ثيابي، ثم ذهبت إلى غرفة جلوس سيدة البيت فوجدتها شبه نائمة في كرسيها أمام الموقد، فحييتها فردت، ثم قالت: الشكر للرب الذي حفظك من المطر والرياح، فقلت لها: آمين. وحدثتها عن ما فعلت في يومي وعن دعوة جارتنا الممرضة لي في المقهى وجوابي لها وجوابها لي، فقالت: هذه الفتاة اللعوب لن تتركك من حبائلها الشيطانية، لأنها ترى فيك فريسة صعبة المراس ولا بدَّ للإيقاع بها، لأنها تجد متعةً في ذلك، وسترى بأنها ستحاول معك، فخذ حذرك منها، فقلت لها: يا مس بين، لا تقلقي عليَّ لأنني صرت عارفاً بخططها، ولكن المهم فيها إنها أحسنت سيرتها مع أمها، فقالت: صحيح ذلك يا ولدي، ثم نهضت وألقت عليَّ تحية المساء good night وصعدت إلى غرفة نومها.
عدت إلى غرفتي والمطر والرياح لم يزالا في عنفوانهما وشدتهما، يطرقان زجاج غرفتي، ولم أجد في نفسي الرغبة في قراءة رسالتي، فجلست أمام المدفأة الحجرية، خاوي الفكر، كئيب النفس، ولكنني لا أعرف لهذه الكآبة سبباً سوى الخواء والفراغ الذي أحسُّ به، ودار شريط أفكاري سريعاً، فإذا بي أفكر في جارتنا الممرضة وما قالت لي في المقهى: "لا تبالغ في الأمور فنحن جيران ونحترم بعضنا، وما فات راح ونحن أولاد اليوم"، واستعرضت رد مس بين على ما أخبرتها به، فانتبهت من غفلتي، وقلت: أعوذ بالله من وساوس الشيطان، وأويت مبكراً إلى فراشي البارد جداً.
ولما أفقت في صباح اليوم التالي كان الجو صحواً مشمساً، كأن لم تمطر السماء طوال الليل، فاغتسلت، ولبست ثيابي، ونزلت إلى الحديقة ومخزن الفحم فأوقدت الموقد كالعادة، وأعددت فطوري، وسحبت سابكلي المبلل، وركبته مع حقيبتي متوجهاً إلى المكتبة.
ولما وصلت إليها ركنت سايكلي مع غيره وتسلقت درج المكتبة متوجهاً إلى ركني وطاولتي، ولم أكد أخرج أوراق رسالتي من الحقيبة إلا ورأيت الطالبة الملعونة تتوجه نحوي، فقلت في نفسي: لا بدَّ أنها تحمل خبراً كئيباً، فلما وصلت إليَّ ألقت التحية فرددت عليها، وقلت لها: اليوم ليس يوم إشرافي وليس عندي ساعة تدريسية، فقالت: أستاذي لا هذا ولا تلك، إنما جئت باسم جماعة الطلاب والطالبات لأدعوك إلى حضور محاضرة يلقيها قسيس كاثوليكي حول كتاب: "من أزاح الصخرة" Who Moved the Stone? لفرانك موريسون، بعد غد في الكنيسة الفلانية، فقلت لها: عجيب أمركم، ولماذا أنا، وفيكم كفاية؟ بل ومعكم بعض الطلاب المسلمين؟ وهو كتاب صغير كتبه صحفي يدور حول قيامة يسوع من القبر، فهل قرأتيه؟ قالت: لا، فقلت لها: اقرأيه أولاً، واطلبي من أصحابك أن يقرأوه أيضاً، فكيف تجادلون قسيساً حول كتاب لم يقرأه أحد منكم؟
ولعلمك فقد سبق لي أن اقتنيت الطبعة العاشرة وهي آخر طبعة من هذا الكتاب مع كتاب عشيق الليدي جاترلي Lady Chatterley's Lover للورنس الذي كان نشره ممنوعاً، وقرأتهما.
قالت: ولهذا نود أن تكون معنا لتشد أزرنا حين المناقشات، فقلت لها: أما المناقشات العلمية، فنعم، وأما التهريج فلا، ولا أستطيع أن أعدك بأنني سأحضر، ولكن سوف أفكر في الأمر، وبقدر ما يختص الأمر بك، فلا تنسي ساعة الإشراف يوم الإثنين.
فقالت: سأكون في الوقت المحدد في المعهد، ولكن أرجوك فكر في حضور المحاضرة،
فقلت لها: سوف أفكر إن شاء الله.
(له صلة).
 
(من دفتر الذكريات (71):
تركتني الطالبة المشاكسة مسرعةً كما جاءت، ولكنها لم تتركني مستريحاً مع رسالتي، فقد أثارت فيَّ فضولي لقراءة الكتاب مرة أخرى، لأنني عندما قرأته أول مرة لم أجده بحثاً علمياً صرفاً بل كان بحثاً يغلب عليه السرد الصحفي المملُّ، لأن مؤلفه كان صحفياً، ولم يكن من القسس او علماء اللاهوت المعتبرين علمياً، فهو لذلك لا يستأهل محاضرة إلا من وجهة نظر عقدية كنسية فقط، وتساءلت: ما الذي دفع هذا القسيس لأن يلقي محاضرة عامة حول هذا الكتاب؟
لم أعر هذه المحاضرة كبير اهتمام بل عكفت على قراءة رسالتي وتلخيص ما أقرأ، فاحسست بالملل من الرتابة، فتركت ركني وطاولتي وهرعت إلى كافيتريا المكتبة للاستمتاع بكوب من القهوة، ولم أكد اتسلم الكوب حتى رأيت الراهب يقف ورائي فسلم عليَّ فرددت عليه سلامه، وقال: هل يمكنني مرافقتك؟ فقلت له: طبعاً، أهلا بك، فانتحينا ركناً في الكافيتريا، فقلت له: بعد غد سيلقي أحد القسس الكاثوليك، من نحلتك طبعاً، محاضرة حول كتاب: من أزاح الصخرة Who Moved the Stone? لفرانك موريسون، فهل سمعت به أو قرأته؟ قال: لم أسمع به ولم أقرأه، ولكن قل لي: ماذا فيه؟ فقلت له: عجباً لراهب مثلك يسأل مثلي عن كتاب يتعلق بأهم مبدأ في دينه، فقال: وما هو هذا المبدأ؟ قلت له: قيامة يسوع من القبر بعد ثلاثة أيام من موته على الصليب، حسب إنجيلك. فقال: نعم أعرف هذا فقد ذكره ثلاثة من كتَّاب الأناجيل حسب علمي، ولكن ما تقول أنت؟ فقلت له: تعال بعد غد إلى الكنيسة الفلانية لترى ما أراه أنا في هذا، فقال: قل لي باختصار ما هو رأيك في قيامة الرب من قبره بعد ثلاثة أيام؟ قلت له: باختصار شديد، إن يسوع لم يمت على الصليب وقد وضعوه في قبره وهو حيٌّ، فقال: عجيب!! وهل تكذِّب ما نقله لنا كتَّاب الأناجيل؟ فقلت له: هات لي برهاناً واحداً من الانجيل يؤيد أن يسوع كان ميتاً عندما أنزلوه من الصليب؟؟ لأن ماريا المجدلية جاءت بزيت حتى تمسح يسوع، فهل مسح الميت بالزيت كان عادة يهودية؟ قال: لا! فقلت له: هذا دليل أن ماريا المجدلية كانت تعرف أن يسوع لم يكن ميتاً حين أودع في قبره، فلما جاءت إلى قبره وجدته فارغاً فبدأت تبكي وكان يسوع واقفا ينظر إليها فسألها: أيتها المرأة لماذا تبكين وعمن تبحثين?
"Woman, why weepest thou? Whom seekest thou?"
ألم يرد كل هذا في الأناجيل؟ فقال: بلى، فقلت له: وهذا دليل مقنع بأن يسوع لم يمت وإنما بقي في القبر حتى عادت إليه قواه فشق الكفن وأزاح الصخرة وخرج، وبقي أربعين يوماً مع تلامذته حتى العشاء الأخير حين ظنوا أنه روح أو شبح وليس يسوعا بلحمه ودمه، ثم عرج إلى السماء حسب ما جاء في أناجيلكم.
فقال: استنباطك عجيب غريب لا يوافقك عليه أحد قط، ولكنني قد أتفق معك بأن الأناجيل ليس فيها ما يدل على موت الرب على الصليب، فقلت له: المهم هنا انك اتفقت معي في أمر أهمله كتَّاب الأناجيل أو أنهم افترضوه قد حصل took it for granted.
فقال: ربما.
فقلت له: هل ستأتي إلى المحاضرة؟ قال: لا أظن، فقد عرفت رأيك الآن، فلماذا حضوري؟؟؟
(له صلة).
 
(من دفتر الذكريات (72):
تركت الراهب جالساً وحده في الكافيتريا، يحلم بالعروج إلى ملكوت السماء، لينعم بصحبة السيد المسيح ، وعدت أدراجي إلى ركني وطاولتي، فعكفت على قراءة ما تبقى من النصوص وتلخيصها، فشعرت بالملل والرتابة، فجمعت أوراقي في حقيبتي وخرجت من المكتبة، فإذا أنا بالراهب وهو واقف تحت مظلة البوابة محتمياً بها من المطر، فلما رآني أشار بيده إليَّ أن أقترب منه، ففعلت، فقال لي: لقد فكرت طويلاً في قولك بأن الرب يسوع لم يمت على الصليب، وحاولت أن أفهم منطقك ومنطق من ظن مثلك من الهراطقة، فقلت له: أتجعلني من الهراطقة؟ قال: نعم، لأنك تتبني آراءهم، فقلت له: اسمع مني إذاً، إن الهرطيق هو الذي لا يؤمن بوجود السيد المسيح وينفي وجوده جسدياً وتاريخياً، ولا يؤمن برسالته التي بعثه الله لتبليغها لليهود.
وأنا لست من هؤلاء لأنني مثل كل المسلمين نؤمن بكافة الأنبياء والرسل ولا نفضل بعضاً على بعض، ونؤمن بالتوراة التي أنزلها الله على موسى والإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، وليس تلك التي في أيديكم، لأنهما محرفان ومليئان بالتناقضات العقدية والتاريخية كما اثبت ذلك علماؤكم في كتب كثيرة، ولا أجدني في حاجة إلى سرد عناوين هذه الكتب الكثيرة التي انتقدت التوراة وانتقدت الإنجيل.
وأود هنا أن أذكر لك أيضاً أن ماريا المجدلية لم تتعرف على يسوع عندما كلمها لأنه كان متخفياً في زي حدائقي، كما جاء في إنجيل يوحنا، فقالت له: أرجوك يا سيد أن تخبرني إذا ما نقلته إلى مكان آخر. فهل هذا موجود في إنجيل يوحنا؟ قال: نعم هو موجود فيه، فقلت له: وفي مكان آخر من أناجيلكم أن امرأتين جاءتا إلى قبر فارغ فكلمهم شاب قبل بزوغ الفجر فهربتا، فهل هذا موجود في إنجيلكم؟ قال: نعم هو موجود، فقلت له: ولكن السؤال: لماذا كان يسوع متخفياً في زي حدائقي حتى أن ماريا المجدلية والأخريات لم يتعرفن عليه؟ فلعله كان خائفاً من خاخامات اليهود أن يعرفوا أنه لم يمت حتى لا يؤلبوا عليه الرومان.
وأزيدك علماً بإنني لست أول من شك في موت يسوع على الصليب، فقد شك العالم الألماني فنتوريني German rationalist Venturini في بداية القرن التاسع عشر، في موت يسوع على الصليب، فقال: "إن يسوع أغمي عليه فقط، وأفاق في برودة القبر الصخري المنحوت في ما بعد" (Jesus only swooned and recovered later in the cool of the rock-hewn grave.)
فقال: فنتوريني الألماني كان ملحداً ومن الهراطقة أيضاً، فقلت له: عجيب أمرك!! فقال: لماذا؟ فقلت له: لقد وعدت مراراً بأن تقرأ القرآن بترجمة آربري فلم تفعل، فقال: أنت هنا صادق، فقلت له: وفي غير هذا؟؟ فضحك، وقال: أنت تحب المزاح وأنا أمزح معك، فقلت له: اتفقنا، ولكن اسمع ما يقول القرآن عن السيد المسيح في الرد على اليهود: "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً"، فقال: أرجوك ترجم لي ما قلت، فقلت له: عُدْ إلى داخل المكتبة واستعر ترجمة آربري واقرأ ترجمة هذا النص في سورة النساء 154 إلى 159. وبالفعل عاد إلى داخل المكتبة، وأخذت سايكلي وعليه حقيبتي وسرت ماشياً معه إلى مركز المدينة، متوجهاً شطر المقهى الطليانية.
(له صلة).
 
(من دفتر الذكريات (73):
قررت، وأنا في طريقي إلى المقهى، والسحاب لم يزل ينثُّ قطراته على رأسي، أن لا أذهب إلى محاضرة القسيس حول كتاب "من أزاح الصخرة"، لفرانك موريسون، لأنني فكرت أن حضوري لن يغيِّر من مجرى المناقشات مع قسيس كاثوليكي جاء لتأكيد ما حاول موريسون إثباتَه من أن معجزةَ قيامة يسوع كانت بعد موته على الصليب، لكي تتفق مع مبدأ تأليه يسوع الذي أقره مجمع نيقية في سنة 325م، وهي السنة التي تم فيها عقد المجمع لإرساء أسس العقائد النصرانية الرسمية بما فيها صورة وطبيعة المسيح في الأقانيم الثلاثة، وتم فيه طرد الأريوسيين والنسطوريين وغيرهم وعدُّهم هراطقة ومرتدين.
ولما وصلت إلى المقهى، ركنت سايكلي على غيره، وتأبَّطت حقيبتي المبللة ودخلت إلى المقهى التي كانت تعج كالعادة بالزبائن والدخان، فرأتني النادلة فاسرعت لتحيتي فرددت عليها، فقالت: القائمة نفسها؟ فقلت لها: نعم لو تفضلت، فإذا أنا بالطالبة المشاكسة تقف على رأسي وتحييني، فأجبتها، وقلت لها: هات ما عندك، فقالت: ذهبت إلى مكانك في المكتبة فلم أجدك، وعرفت أنك ترتاد هذه المقهى، فجئت لأذكِّرك بموعد المحاضرة غداً، فقلت لها: لقد قررت أن لا أذهب إليها، فشهقت وكأن ثعباناً لدغها، فقالت: لماذا؟ والجميع معول على حضورك ومناقشاتك الممتعة البديعة؟؟ فقلت لها: لقد فكرت في الأمر ملياً، فوجدت أن حضوري هو لتسليتكم وليس لتعليمكم، ثم إن هذا القسيس جاء لإثبات مبدأ عقدي كنسي يراه هو وغيره، فما علاقتي بما يريد إثباته علناً؟؟ ولو كان الأمر يتعلق بديني أو حضارتي، فإنني لن أتردد عن الحضور والمناقشة، ولكن هذا أمر يخصكم فتدبروه أنتم كما شئتم، وإذا أردتم رأيي فقاطعوا المحاضرة، وحثوا الآخرين على مقاطعتها، فقالت وقد بان الانفعال والخيبة على وجهها: شكراً لك على رأيك، وسوف أناقش الموضوع مع الزملاء هذه الليلة، فتركتني وانصرفتْ، فاحسست بهدوء يلفُّ جوانحي ويزيح الهمَّ الثقيل عن أكتافي.
خرجت من المقهى وركبت حماري الحديدي بعد أن أوثقت حقيبتي رباطاً عليه متوجها صوب الكلية لأحظى بعشاء لذيذ ساخن، فلما دلفت إلى المطعم أخذت مكاني في طابور الطلاب، وانتحيت مع صينيتي مكاناً قصياً من المطعم حتى انتهيت منه، وأسرعت إلى ركني في نادي الطلاب لأكمل قراءة رسالتي وأختصار ما أقرأه منها، فاتممت ذلك في اليومين التاليين، فكانت المقدمة في ثماني صفحات بعد التصحيح والطباعة على الآلة الكاتبة، وهي تمثل كل الآراء التي أوردتها في رسالتي باختصار شديد.
أخذت سايكلي بيدي اليمنى وحقيبتي بيدي اليسرى وعبرت الشارع إلى بيتي، فركنت سايكلي في مكانه المعهود من الحديقة الأمامية، ولاحظت الضوء في غرفتي فحدست أن سيدة البيت فيها، فكان كما ظننت، فحييتها وأجابتني بأحسن من تحيتي، وقالت: أين كنت في هذا الجو الماطر يا ولدي؟ فأخبرتها بالتفصيل، فقالت: يا ولدي أنا قلقة عليك لإنك تجهد نفسك كثيراً في رسالتك، ولا تأبه كثيراً لصحتك وعافيتك، وها أنا أراك مبلل الثياب ترتجف من البرد، فأرجو أن تسرع وتبدِّل ثيابك، فقلت لها: أنت محقة جداً يا مس بين، فاسرعت واستبدلت ثيابي المبللة بأخرى جافة، وعدت إلى غرفتي التي كانت دافئة.
فقلت لها: أنا الآن على وشك الانتهاء تماماً من رسالتي، فقالت: الشكر للرب الذي أعانك يا ولدي، فقلت لها: آمين،
ثم قالت: لقد أعددت لك صحن الربربر الذي ارجو أن يبعث الدفء في أوصالك الباردة، وهو على سطح الموقد، فكله متى تشاء، فقلت لها: شكراً جزيلاً، وسوف أفعل حال حاجتي إليه، ثم نهضت، وقالت: ليلة هانئة يا بني، فقلت لها: ولك أيضاً، وصعدت إلى غرفة نومها.
شغلت نفسي بترتيب أوراق رسالتي التي حسبت بأنني أكملتها إلاَّ أنني لم أكن على يقين تام واقتناع أكيد بصواب ما كتبت، فارتأيت أن أتركها شهراً أو شهرين، وأشغل نفسي بأمرٍ آخر، ثم أعود إلى قراءتها من جديد.
وفجأة تذكرت صحن الربربر لقرقرقة أحسستها في بطني، فأسرعت إلى غرفة جلوس السيدة، فوجدت الصحن الساخن على الموقد، فأخذته إلى غرفتي، فالتهمته مع قليل من الخبز اليابس، وأعدت الصحن بعد غسله إلى مكانه المعتاد، وأطفأت المدفأة الحجرية في غرفتي وكذلك الأضواء، وصعدت إلى غرفة نومي الباردة وفراشي الأبرد.
استيقظت كالعادة مبكراً على صباح بارد مكفهر الجوانب ممطر الأركان، فاوقدت الموقد، وأعددت فطوري البسيط، وخرجت مع سايكلي ميمماً شطر المعهد لإلقاء الدرس المعتاد، وكانت الطالبة المشاكسة موجودة، فلما انتهيت من الدرس أشرت لها أن تأتي ففعلت، فقلت لها: كيف كانت محاضرة القسيس أمس؟ قالت: لم يحضر القسيس، ولم يحضر من المستمعين إلا القليل لذلك ألغيت المحاضرة، فقلت لها: جميل جداً فقد وفَّر عليكم العناء.
والآن ساعة الاشراف عليك، قالت: نعم، قلت لها: حدثيني أولا عن موضوعك وعن خطة عملك، فشرحت لي بالتفصيل خطة بحثها والموضوع الذي تود البحث فيه، فنصحتها أن تبدِّل الموضوع لأن هناك من كتب فيه قبلها، واتفقنا على موضوع آخر جديد، فانصرفت.
وخرجت من المعهد وركبت سايكلي مع حقيبتي عليه متوجهاً صوب المكتبة فلما وصلت إليها ركنت سايكلي مع غيره وتسلقت درج المكتبة إلى ركني وطاولتي، فاحسست برغبة جامحة إلى ما يسخن جوفي البارد، فنزلت إلى كافيتريا المكتبة وطلبت كأساً من الشوربة وكوباً من القهوة، فانتحيت بهما مكاناً منزوياً، ولم أكد أستقر في مكاني إلا والراهب قد طلب كوباً من القهوة، فلما تسلمه رمقني، ولم أكن راغباً في مرافقته، فاتجه إلى طاولتي دون دعوة مني، فلما اقترب، قال: هل تسمح لي بالجلوس معك؟ فقلت له: طبعاً، إذا أصررت!! فقال: نعم أنا مصر رغماً عن أنفك، فقلت له: لقد تجاوزت حدودك، فقال: ما بين الأصدقاء حدود إذا ساد بينهم الاحترام، فقلت له: لقد صدقت، ولكن قل لي: هل قرأت ترجمة آربري؟؟ قال: نعم، ولذلك أصررت أن أجلس معك اليوم، فقد كنت انتظرك.
فقلت له: هات يا صديقي الراهب، ماذا فهمت من الترجمة؟؟؟
(له صلة).
 
(من دفتر الذكريات (74):
مرت لحظات قبل أن يجيبني الراهب على سؤالي، شعرت فيها أن شيئاً جديداً يلوح على وجهه لم أدرك له كنهاً أو مغزىً، فقال: يا صديقي العزيز لقد رميتني في وادٍ عميق سحيق يحتار فيه السائر، فقلت له: عن أي وادٍ عميق تتحدث؟ قال: قرآنكم!! فقلت له: وماذا وجدت فيه؟ قال: كلَّ شي ولا شيء، Everything and Nothing فقلت له: هذا كلام سريالي غامض يحتاج إلى شرح وإلى إبانة المقصود منه، فقال: هذا الكتاب لا يمكن أن يكون دنيوياً، فقلت له: دنيوياً أو أخروياً!!! هذا شأن آخر، فأنا طلبت منك أن تقرأ ترجمة آربري لما جاء في القرآن حول السيد المسيح فقط، وإذا أنت الآن تحكم على القرآن كله، فهل قرأته كله؟ قال: لا، ولكن قرأت كثيراً منه وأود أن أكمل قراءته، فقد أعجبني ما قرأت فيه وقد أعجبتني ترجمة آربري الشعرية.
فقلت له: اسمع يا صديقي، أنا لا أريدك أن تسيء فهمي، لأنني أردت منك فقط أن تعرف ما يفكر المسلمون في السيد المسيح، وما هو موقفهم منه ومن أمه، فقال: كان الواجب عليَّ أن أستعير هذه الترجمة منذ زمن، لأنني أدركت الآن أن معرفة ديانة الآخرين هي أحسن وسيلة للتفاهم والوئام بين الناس، وقد سجلت جملة من الأسئلة سوف أعرضها عليك حال انتهائي من قراءة الترجمة بكاملها، فقلت له: وأنا مستعد أن أجيبك بكل سرور وترحاب.
ولكن اود أن أعلق على قولك: "إن معرفة ديانة الآخرين هي أحسن وسيلة للتفاهم والوئام بين الناس"، فهل ما تقوله صحيح؟ فإنني أشك في ذلك، لأن دراسات بعض المنصرين وبعض المستشرقين حول الإسلام وحضارته تكذِّب هذه الدعوى، وأسألك في الوقت نفسه: هل يعمل الفاتيكان او اسقف كانتربري او البابا الارثوذوكسي الروسي أو اليوناني أو القبطي أو حتى الكنائس البروتستانتية المختلفة على معرفة ديانة الآخرين؟؟ والتمييز العنصري والعرقي segregation and racial apartheid على أشده كما تراه الآن في العالم النصراني الأوربي والأمريكي وجنوب افريقيا.
وهل فعل أجدادك ذلك أيام الحروب الصليبية؟ أو أيام كاد فيها الرجل الأبيض أن يقضي على الهنود الحمر ويبيدهم في امريكا الشمالية وعلى حضارة الإنكا والأستك في امريكا الجنوبية؟ أو حين سرق الآلاف من سكان افريقيا واستعبدهم في مزارعه؟
وسؤالي لك: من أين جاء هذا التمييز العنصري والعرقي في ثقافة الرجل الأبيض؟ قال: لا أعرف، فقلت له: من التوراة التي تقرأونها مع إنجيلكم، قال: أين تجدها في التوراة؟ قلت له: من اللعنة الأبدية في سفر التكوين Genesis، قال: وما هذه اللعنة؟ فقلت له: لعنة نوح حين سكر وتعرَّى، فنظر حام إلى عورته، وقام سام ويافث بسترها، فلما علم نوح بذلك دعا على حام أن يكون هو وذريته عبيداً لسام ويافث، فهل تنكر وجود هذا في سفر التكوين؟
فقال: بالطبع لا أنكر ذلك، ولكن تفسيرك خاطيء بأن حام وذريته هم الجنس الأسود، فقلت له: هذا ليس تفسيري بل هو تفسير علمائكم لسفر الخروج حيث ورد فيه: "فقال ملعون كنعان عبد العبيد يكون لاخوته، وقال مبارك الرب اله سام، وليكن كنعان عبداً لهم، ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبداً لهم". إلم يرد هذا في سفر الخروج؟ قال: بلى، فقلت له: إذاً كيف يكون تفسيري خاطئاً؟
والمعروف تاريخياً أن حام هو والد كنعان، وأن أرض حام هي مصر وشرق افريقيا، وقد تم استخدام ذلك العذر لتبرير استعباد السلالات الافريقية، ونمو الاستعلاء الأبيض الذي يتحكم في سياساتكم.
فقال: يا صاحبي العزيز إنك تتخبط بين الكتاب المقدس وتفسيره حسب هواك وبين السياسة التي لا يتحكم فيها الدين وإنما المصالح الدنيوية. فقلت له: إنك تنسى أن الخلفية الثقافية ومنها الدينية لأي أمة هي التي تتحكم في سلوكها، وهذه الخلفية الدينية المتراكمة هي التي تتحكم في سلوك الرجل الأبيض مع غيره من الأعراق، مثل سلوك السيد المستعمر الانكليزي مع الهندي مثلاً، أو البور الهولندي الأصل أو الانكليزي الأبيض مع الإنسان الأسود في جنوب افريقيا.
فقلت له: وأزيدك علماً بأن النصرانية المشرقية الفلسطينية الموحِّدةَ عندما وصلت إلى روما تحولت روميةً إذ تأثرت بالثقافة الدينية الرومانية السائدة التي كانت تؤمن بالآلهة المختلفة التي نراها في التماثيل التي تمثلها مثل إلاه الحرب زيوس وغيره من الآلهة الرومانية، ومن هنا تبنى قسطنطين الأول مبدأ الآلهة الثلاثة الذي فرضه عليكم وتبنيتموه في المجامع المسكونية المختلفة، فهل أزيدك يا صديقي العزيز؟
قال: أقسم بأنني استفدت منك اليوم كثيراً، فقلت له: ولكنني لم استفد منك حرفاً، فقال: سوف تستفيد بعد حين إن شاء الله، قالها بعربية هجينة ولكنها واضحة.
فتركته جالساً في الكافيتريا وغادرته إلى ركني وطاولتي.
(له صلة).
 
(من دفتر الذكريات (75):
إذا أراد الله أمراً هيَّأ له أسبابَه
تركت الراهب جالساً في الكافيتريا، وغادرته إلى ركني وطاولتي وكتبي المكدسة، ولم أكد أجلس حتى أغمضت عيني من الإرهاق، فبدأ شريط قديم من حياتي يمرُّ الهوينا أمام عيني المقفلة، فعادت بي الذاكرة إلى سنين خلت من حياتي حين كنت أدرس في الثانوية المأمونية ببغداد مساءاً، وأعمل ساعياً في البريد المركزي أثناء النهار.
ولما حان وقت الاختبار فشلت في اختبار الرياضيات، فكان عليَّ الانتظار كلَّ شهور الصيف القائظ الحنَّان بما فيه شهر آب اللَّهاب الذي يحرق المسمار في الباب، دون تبريد او تكييف، للاختبار التكميلي الذي علمت بأنه سوف يعقد في مدرسة التفيض الأهلية الكائنة إذ ذاك في محلة العاقولية ببغداد، وفي ليلة الاختبار رأيت في النوم ورقة الاختبار كاملة أمام عيني، فلما استيقظت في الصباح راجعت الأسئلة قبل ذهابي إلى قاعة الاختبار، فلما وزع المشرفون علينا الدفاتر وورقات الأسئلة فإذا هي التي رأيتها في النوم، فبدأت أرتجف مما رأيت، ولذلك خفت أن أجيب على الأسئلة جميعها، وأجبت على ما يضمن لي النجاح فقط، وقد تم ذلك.
كان على الطلاب والطالبات الذين اجتازوا الاختبار أن يقدموا ملفاتهم إلى الكليات التي يرومون الدراسة فيها مع كافة الوثائق المطلوبة، وكان الكثير منهم يقدم إلى كليات متعددة فإذا قُبل في اثنتين أو أكثر يختار منها الأقرب إلى نفسه، فقدمت إلى كلية الحقوق وكلية الاقتصاد ودار المعلمين العالية، قبل أن يتحول اسمها إلى كلية التربية، وكان على الطلاب والطالبات أن يمروا على الكليات التي قدموا ملفاتهم لها ليعرفوا إن كانوا ضمن المقبولين أو المرفوضين فيها، ويشاء الله أن أكون ضمن المرفوضين في الكليات الثلاث، فجمعت ملفاتي والأسى يعصر قلبي والحيرة تعصف بجوانحي، والطرق قد سُدَّت بوجهي، ولم أعرف ماذا أعمل، فتهالكت على أريكة مقهى لم أجلس فيها من قبل، ويشاء الله أيضاً أن يمرَّ على هذه المقهى صديق لم أره منذ زمن طويل، فلما رآني حياني فرددت عليه ورحبت به، فلما جلس قال: أرى الحزن واضحاً في وجهك، فأخبرته بأنني قدمت إلى الكليات الثلاث فرفضوني، فقال: وهل قدمت إلى دار المعلمين العالية فرفضتك؟ قلت: نعم، قال: هل تعلم بأنها قد خصصت مقاعد لأولاد المعلمين؟ وأخوك مدرس في الثانوية المركزية، فقلت له: ثم ماذا؟ قال: اذهب الآن إلى إدارة معارف بغداد واطلب منهم كتاباً يثبت فيه أن أخاك مدرس، وتقدمه مع أوراقك، فقلت له: سبحان الله الذي ساقك إليَّ في هذه الساعة، فسارعت إلى إدارة معارف بغداد وكان مديرها إذا ذاك عبد الستار القره غولي، وحصلت على الكتاب، وركضت ملهوفاً مع الملف إلى دار المعلمين العالية، فقدمت أوراقي لمكتب التسجيل قبل نصف ساعة فقط من وقت إغلاق التسجيل، فلما رأوا كتاب إدارة معارف بغداد، قبلوني، وظهر اسمي في قائمة المقبولين.
فإذا شاء الله أمراً هيَّأ له أسبابه، وما كان لك لن يذهب لغيرك.
والعاقل من اتعظ بغيره فاتعظ
(له صلة).
 
(من دفتر الذكريات (76):
لم أر الراهب بعد ذلك اليوم حين تركته جالساً في كافيتريا المكتبة، فكأنه قطعة ملح قد ذابت في كأس ماء، ولم أعرف أين يقع ديره أو عنوان سكناه، ولا أعرف أحداً له صلة به، لكي أسأل عنه، بل الأعجب من كل هذا أنني لا أعرف حتى اسمه.
ومرت الأيام تباعاً، وتبعتها الأسابيع، وأنا منهمك في ما أعتدت عليه من ارتياد المكتبة والمقهى الطليانية، والتدريس في المعهد والإشراف على الطلبة والعشاء في الكلية، إضافة إلى أحاديث مس بين وصحنها الربربري، وسايكلي الذي بدأ الوهن يدبُّ في مفاصله.
وعدت مرة أخرى إلى قراءة رسالتي، فوجدت فيها بعض الهفوات والفجوات التي لم تسترع انتباهي في قراءتي لها في المرة الأولى، فأصلحتها، ومع هذا فلم أطمئن إليها كل الاطمئنان، وأحببت من يقرأها غيري ويبدي رأيه فيها قبل أن أدفعها إلى مكتب طباعة الرسائل الجامعية، فلم أجد في من أعرف أقمن وأجدر بذلك من السيدة المسؤولة عن الكتب، أو تليذي اليهودي في كلية كوربس كرستي، فزرتها في مكتبها، وعرضت عليها الأمر على أن تقرأها لقاء أجر نتفق عليه مقدماً، فضحكت، وقالت: اتركها عندي حتى أعرف كم سأتقاضى منك لقاء قراءتها، فوافقتُ، وشكرتها أحرَّ شكر، وتركتها ميمماً كافيتريا المكتبة حيث استمتعت بكوب من القهوة، ثم صعدت إلى ركني وطاولتي، إلا أنني شعرت فجأة بكآبة طاغية وخوف شديد أن يحدث ما لا أعرف لرسالتي التي لا أملك نسخة ثانية منها إلا نسخة "كاربون" لنص كتاب المعراج العربي فقط، فهممت أن أنزل إليها لأطلب استرجاعها، فاحسست بالحرج المُرِّ من طلب استرجاعها، فاستسلمت لما سوف يحصل، ولم أجرؤ على الرجوع إلى مكتبها مرة أخرى.
خرجت من المكتبة مع سايكلي وحقيبتي متوجهاً شطر كلية كوربس كريستي إذ كانت ساعة الاشراف على الطالب اليهودي في هذا اليوم، فلما تسلقت الدرج إلى غرفته، وجدته ينتظرني، فسلمت عليه فأجابني، فبدأت مباشرة بنقاش ما أنجز من خطة بحثه، فقال: على مهلك يا أستاذي، فقد هيأت شاياً وحلويات، فأرجو أن نستمتع أولاً بالشاي والحلويات قبل الخوض في مناقشة بحثي، فقلت له: وكما تشاء.
وفي أثناء الحديث، قال: أنا وأنت أولاد عم وقرابة، فقلت له: وكيف ذلك يا فلان؟ قال: نحن ساميون وأنتم ساميون: أنتم إسماعيليون ونحن إسحاقيون، فقلت له: أنت مخطيء تمام الخطأ، فاندهش من قولي، وقال: ولماذا؟ فقلت له: هل نظرت إلى وجهك في المرآة؟ قال: طبعاً وتكراراً، فقلت له: أنت يهودي خزري قوقازي ولست سامياً، ولعلك تسمع أن يهود فلسطين هم إما سفردي أو اشكنازي، والسفردي هو اليهودي السامي مثل شكلي، أما الاشكناز فهم قوم من الخزر الذين اعتنقوا اليهودية مثلك، فقال: ليس هذا مهماً، فقلت له: وما هو المهم إذاً؟ قال: أنتم موحدون ونحن موحدون، وهؤلاء النصارى يشركون يسوع النغل مع الله، فقلت له: تقول: النغل؟؟ قال: نعم، قلت له: وهل هذا اعتقاد اليهود في يسوع؟ قال: نعم، فقلت له: كل اليهود؟؟ فقال: نعم، كل اليهود، فقلت له: هل يمكنك كتابة هذا بخطك على هذه النسخة من الإنجيل؟ قال: نعم وبكل سرور، فأخرجت طبعة الملك جيمس من حقيبتي وسلمتها له، فكتب على حاشية أحد الأناجيل من الكتاب، باللغة الانكليزية: "أشهد بأن يسوع هو نغل، ولد لمريم من سفاحها مع جندي روماني"، وما زلت أحتفظ بهذه النسخة وعليها خطه.
فقلت له: هل تعرف ماذا يقول القرآن عنه؟ قال: أعرف، فأنتم تُبجِّلونه أكثر مما يستحق، فقلت له: وهل نُبجِّل موسى وهارون أكثر مما يستحقان أيضاً؟؟ فقال ضاحكاً: لقد غلبتني يا أستاذي. فقلت له: أنا لم أغلبك، ولكن المنطق السليم هو الذي غلبك. ثم انتقلنا إلى مناقشة خطة بحثه وما أنجز منها.
خرجت من كلية كوربس كرستي متأبطاً حقيبتي وفيها نسخة الإنجيل وعليها خط هذا التلميذ اليهودي في السيد المسيح، فاتجهت مع سايكلي إلى مقهى الطليان التي لم تكن بعيدة عنها، فلما دلفت إليها لم أرَ النادلة، فسألت عنها زميلتها، فقالت لي: إنها مريضة، فطلبت عنوانها، واشتريت باقة زهور وركبت سايكلي ميمماً شطر عنوان بيت النادلة، فلما ضغطت على جرس الباب خرجت ابنتها فسألتها عن أمها؟ فقالت: هي في الفراش لأنها مصابة بالزكام، وطلبت مني الدخول، فدخلت وسلمت عليها، ففرحت جداً بزيارتي لها في بيتها وبباقة الزهور، وقالت: هل تعلم بأنك الوحيد من زبائن المقهى الذين زاروني؟!! فقلت لها: لعلهم لم يعلموا بمرضك، وقد استعلمت أنا شخصياً عن سبب غيابك، فلما علمت بمرضك جئت لزيارتك، وهذا مندوب له في ديننا في عيادة المريض، فقالت: وهل عيادة المريض واجبٌ في دينكم؟ فقلت لها: ليس واجباً بل هو أمر مندوب إليه وفيه أجرٌ لتوثيق عُرى المحبة والألفة بين الناس. فطلبت من ابنتها ان تهيء لي القهوة، فقلت لها: دعي ذلك إلى أن تعودي إلى المقهى، فودعتها وانصرفت مع سايكلي وحقيبتي إلى الكلية لكي أحظى بالعشاء قبل انتهاء موعده.
(له صلة).
(من دفتر الذكريات (75):
إذا أراد الله أمراً هيَّأ له أسبابَه
تركت الراهب جالساً في الكافيتريا، وغادرته إلى ركني وطاولتي وكتبي المكدسة، ولم أكد أجلس حتى أغمضت عيني من الإرهاق، فبدأ شريط قديم من حياتي يمرُّ الهوينا أمام عيني المقفلة، فعادت بي الذاكرة إلى سنين خلت من حياتي حين كنت أدرس في الثانوية المأمونية ببغداد مساءاً، وأعمل ساعياً في البريد المركزي أثناء النهار.
ولما حان وقت الاختبار فشلت في اختبار الرياضيات، فكان عليَّ الانتظار كلَّ شهور الصيف القائظ الحنَّان بما فيه شهر آب اللَّهاب الذي يحرق المسمار في الباب، دون تبريد او تكييف، للاختبار التكميلي الذي علمت بأنه سوف يعقد في مدرسة التفيض الأهلية الكائنة إذ ذاك في محلة العاقولية ببغداد، وفي ليلة الاختبار رأيت في النوم ورقة الاختبار كاملة أمام عيني، فلما استيقظت في الصباح راجعت الأسئلة قبل ذهابي إلى قاعة الاختبار، فلما وزع المشرفون علينا الدفاتر وورقات الأسئلة فإذا هي التي رأيتها في النوم، فبدأت أرتجف مما رأيت، ولذلك خفت أن أجيب على الأسئلة جميعها، وأجبت على ما يضمن لي النجاح فقط، وقد تم ذلك.
كان على الطلاب والطالبات الذين اجتازوا الاختبار أن يقدموا ملفاتهم إلى الكليات التي يرومون الدراسة فيها مع كافة الوثائق المطلوبة، وكان الكثير منهم يقدم إلى كليات متعددة فإذا قُبل في اثنتين أو أكثر يختار منها الأقرب إلى نفسه، فقدمت إلى كلية الحقوق وكلية الاقتصاد ودار المعلمين العالية، قبل أن يتحول اسمها إلى كلية التربية، وكان على الطلاب والطالبات أن يمروا على الكليات التي قدموا ملفاتهم لها ليعرفوا إن كانوا ضمن المقبولين أو المرفوضين فيها، ويشاء الله أن أكون ضمن المرفوضين في الكليات الثلاث، فجمعت ملفاتي والأسى يعصر قلبي والحيرة تعصف بجوانحي، والطرق قد سُدَّت بوجهي، ولم أعرف ماذا أعمل، فتهالكت على أريكة مقهى لم أجلس فيها من قبل، ويشاء الله أيضاً أن يمرَّ على هذه المقهى صديق لم أره منذ زمن طويل، فلما رآني حياني فرددت عليه ورحبت به، فلما جلس قال: أرى الحزن واضحاً في وجهك، فأخبرته بأنني قدمت إلى الكليات الثلاث فرفضوني، فقال: وهل قدمت إلى دار المعلمين العالية فرفضتك؟ قلت: نعم، قال: هل تعلم بأنها قد خصصت مقاعد لأولاد المعلمين؟ وأخوك مدرس في الثانوية المركزية، فقلت له: ثم ماذا؟ قال: اذهب الآن إلى إدارة معارف بغداد واطلب منهم كتاباً يثبت فيه أن أخاك مدرس، وتقدمه مع أوراقك، فقلت له: سبحان الله الذي ساقك إليَّ في هذه الساعة، فسارعت إلى إدارة معارف بغداد وكان مديرها إذا ذاك عبد الستار القره غولي، وحصلت على الكتاب، وركضت ملهوفاً مع الملف إلى دار المعلمين العالية، فقدمت أوراقي لمكتب التسجيل قبل نصف ساعة فقط من وقت إغلاق التسجيل، فلما رأوا كتاب إدارة معارف بغداد، قبلوني، وظهر اسمي في قائمة المقبولين.
فإذا شاء الله أمراً هيَّأ له أسبابه، وما كان لك لن يذهب لغيرك.
والعاقل من اتعظ بغيره فاتعظ
(له صلة).
 
(من دفتر الذكريات (77):
بدأ المطر ينزل غزيراً حين عبرت الشارع للبيت مع سايكلي وحقيبتي، فركنت سايكلي في مكانه المعتاد في الحديقة الأمامية فوق معلفه من صحون الربربر، ورأيت الضوء يشع من غرفتي، فحدست بأن مس بين فيها، فدخلت إلى البيت وحييتها، فردت عليَّ باحسن من تحيتي، وقالت: شكراً للرب على أنك دخلت للبيت قبل انهمار المطر عليك، فقلت لها: شكراً للرب دون شك، ولكنني تبللت قبل دخولي للبيت، كما ترين، وشكراً للرب على أن غرفتي دافئة، فقالت: أنا أوقدت المدفأة لبرودة الجو وتحسباً لوصولك، وصحن الربربر الساخن ينتظرك، إذا شئت أن تأكله الآن لتسخين أوصالك المتجمدة، أو عند ما تشاء، فقلت لها: لقد نلت عشائي الآن في الكلية، فقالت: لا بأس، فهو في مكانه المعهود فوق الموقد، وبالمناسبة لقد زارتني اليوم أختي مع ابنتها لأنهم كانوا في كمبردج لأمر خاص بابنتها، وقد حملوني سلامهم الجم إليك، وهم يتأسفون أنهم لم يروك في البيت ليسعدوا برؤيتك، فقلت لها: وأنا أيضا حزين لأنني لم أحظ برؤيتهم، ونهضت وقالت: ليلة هانئة يا ولدي، فقلت: ولك أيضاً يا مس بين، وتصبحين على خير، وصعدت إلى غرفة نومها.
ولما خلوت إلى نفسي بدأت أفكر برسالتي وبأسوأ الأمور التي توهمت أن تحدث لها أو حولها، وماذا سيحصل لو فُقدت في حادث أو سُرقت؟؟ وماذا سأفعل لو حدث ذلك فعلاً؟ وانتقلت إلى التفكير بالجزازات الكثيرة التي ما زلت محتفظاً بها حسب ترتيبها، فأحسست بشيء من الطمأنينة إلا أن هذه الطمأنينة لم تخفف من القلق الشديد في نفسي، فاسرعت إلى غرفة جلوس مس بين، وحملت صحن الربربر الساخن إلى غرفتي مع قليل من الخبز، وجلست أمام المدفأة الحجرية، والصحن مع قطعة الخبز في يدي، فأكلتهما دون وعيٍّ أو انتباه لما أفعل، لاستغراقي المؤلم في التفكير برسالتي، وأطفأت المدفأة الحجرية وغسلت الصحن وأودعته في مكانه المعهود، وأطفأت الأنوار، وأويت إلى غرفة نوم باردة وفراش أبرد وقلق يساورني.
استيقظت كعادتي مبكراً على شمس ساطعة، وبرد لاذع، وكان ماء الحمام ساخناً، فاغتسلت، وهرعت إلى خزان الفحم، وأوقدت الموقد قبل نزول السيدة، وأعددت فطوري البسيط كالعادة، وخرجت مع سايكلي إلى المعهد للمشاركة في اجتماع هيئة التدريس وتقديم التقارير حول سير الدراسة وتقييم حال كل طالب وطالبة الدراسية، فلما وصلت، ركنت سايكلي على حائط المعهد ودخلت إلى قاعة الاجتماع حيث وجدت بعض الزملاء قد وصل فعلاً وبدأ الآخرون يتقاطرون على القاعة، وأخيراً وصل أستاذي وحيَّا الجميع وبدأ الاجتماع، فأدلى كل محاضر دلوه في النقاش حول سير الدراسة وحال الطلاب والطالبات، فاستمعت إلى شكاوى كثيرة من هؤلاء المحاضرين حول أنشطة الطلاب الدراسية لم أعهدها في طلابي، فاعترضت عليها، وقلت: اعذروني إذا لم أوافقكم على هذه الشكاوى من الطلاب، ولكن يجب علينا أن لا ننحى باللأئمة على الطلاب فقط فلعل في طرق تدريسنا لهم خللاً، لأنني خلال كل الشهور الماضية لم أجد من الطلاب والطالبات الذين أدرسهم أو أشرف عليهم إلا التجاوب وحب التعلم، ولم أكلفهم بأي عمل علمي إلا وأنجزوه، وأتسائل الآن: هل طلابي يختلفون عن الآخرين؟ مع أن بعضهم يدرس علوماً أخرى على غيري من المحاضرين الحاضرين، لأنني أدرسهم اللغة فقط، فنظر إليَّ أستاذي وقد شاعت البسمة على أساريره، ونظرت إلى وجوه الحاضرين الذين أدهشهم قولي، فابتسم بعضهم وتجهم الآخرون، وكأنني ألقمتهم حجراً.
وفي آخر مادة في الاجتماع، قال أستاذي للحاضرين: أود أن أعلمكم بأن الدكتور سارجنت سوف يلتحق بهذه الأسرة في أول السنة التدريسية القادمة، من مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية التابعة لجامعة لندن، فقد اختارته الجامعة وفضلته على غيره ممن تقدم لشغل المنصب الفارغ في معهدنا.
فلما سمعت ذلك، قلت في نفسي: سيأتيك بالأنباء من لم تزود، يا سارجنت!!!
وقد شاء الله أن يرد كيلك كيلين.
(له صلة).
 
من دفتر الذكريات (78):
انفرد بي أستاذي بعد أن انفض الاجتماع، وهمس في أذني: زرنا في البيت هذا المساء، فقلت له: سمعاً وطاعة، بالعربية، فضحك، وقال بالعربية: إن شاء الله.
لم أعرف سبباً لهذه الدعوة المفاجئة، لأنني لم أر أستاذي إلا لِمَاماً في المعهد أو أثناء الاجتماعات فيه، لأنه سبق وقد أخبرني منذ شهور طويلة أن لا أريه أيَّ فصل من رسالتي بعد الفصل الذي يدور حول رأي المستشرقين في مسألة العروج حتى انتهي منها تماماً.
خرجت من المعهد ميمماً مع سايكلي الذي بدأ الهرم والإعياء يدبُّ في أوصاله وحقيبتي المتعبة من ثقل كتبي، شطر المكتبة، يسبقني الشوق والقلق لمعرفة رأي السيدة في رسالتي، ولما وصلت إلى المكتبة ركنت سايكلي مع الآخرين وأسرعت بتسلق درجات المكتبة ويا للمفاجأة المذهلة إذ رأيت الراهب واقفاً تحت مظلة الباب بدمه ولحمه ولحيته إلا أن ثيابه ليست التي أعهدها عليه، حيث كان يشدُّ خصره بما يشبه الحبل وبقايا الحبل تتدلى منه على جانبه، فاقتربت منه وحييته فرد عليَّ بحماس وبادر باعتناقي، فقلت له: لقد افتقدتك يا صديقي، وقد احترت في سبب اختفائك الطويل، ولم أدر كيف أصل إلى أخبارك، لأنني لا أعرف ديرك ولا عنوان سكنك، بل لا أعرف حتى اسمك، ثم تظهر اليوم بثياب غير ثيابك التي أعهدها عليك، فقال: سأختصر لك سبب غيابي ببضع كلمات، فقلت له: هات!! قال: أولاً اسمي ستيفن، وثانياً: تركت سلك الرهبنة، وتزوجت من البنت التي كنت أحبها، قبل أن أدخل في سلك الرهبنة، وثالثاً: جئت خصيصاً لرؤيتك وتوديعك، لأنني وجدت عملاً في ايرلندا، ورابعاً: أود أيضاً شكرك حين وجهت اهتمامي لقراءة ترجمة القرآن، وشكرك على صبرك وحلمك في مناقشاتنا التي فتحت عيني على الكثير مما كنت غافلاً عنه، فقلت له: أنا مسرور جداً بهذا اللقاء غير المتوقع، ومسرور بأنك تركت سلك الرهبنة، وزواجك بمن تحب، ومسرور أبضاً برأيك في مناقشاتنا، فأرجو أن تتمعن فيها جيداً فلعلها تهديك إلى اتِّباع الحق، فودعني بعناق طويل، وانصرف، وكان هذا آخر العهد به.
دخلت إلى المكتبة وأسرعت إلى مكتب السيدة، فلم أجدها فيه، وصعدت إلى ركني وطاولتي حيث تركت حقيبتي ونزلت إلى الكافيتريا لتسخين أعضائي الباردة بكأس من الشوربة الساخنة، فوجدت السيدة جالسة مع بعض موظفي المكتبة فانتحيت مكاناً خالياً، وعيني عليها وعلى رفاقها، ورأيتها قد استأذنت منهم وسارت في اتجاه طاولتي، فلما وصلت، سلمت فرددت عليها ودعوتها لمرافقتي، وسألتها إن كانت تشتهي كأساً من الشوربة؟ فقالت: نعم، فأسرعت وأمرت لها بكأس، وجلسنا نستمتع سوية بسخونة الشوربة، ولم أجرؤ على سؤالها عن رسالتي، إلا أنها بادرت فقالت: لقد قرأت نصف رسالتك، وهذا النصف موجود في مكتبي، فإذا أحببت فيمكنك المرور عليَّ وتسلمه، فقلت لها: لا أعرف كيف أشكرك على جهودك في قراءتها، وأرجو أن لا تنسي التكاليف التي اتفقنا عليها، فقالت: سأخبرك حال انتهائي من قراءتها وكتابة ما أجد فيها، فقلت لها: ولماذا تجهدين نفسك في غير قراءتها، فقالت: هذا الأمر منوط بي وليس بك، فإنه يعجبني أن أقول رأيي فيها كتابةً حتى أستحق أجوري في ما أنجز من عمل.
فقلت لها: كما تشائين، وسوف أمر على مكتبك قبل خروجي من المكتبة، فصعدنا إلى المكتبة، فاتجهت إلى مكتبها، وصعدت إلى ركني، ولم استطع القرار فيه، فنزلت إلى مكتب السيدة، وأخذت منها النصف الأول من رسالتي فارتحت قليلاً.
بدأت بتصفح النصف الأول من الرسالة بلهفة وشوق عارم لعلي أجد فيها شيئاً مهماً فاتني واستدركته السيدة، فلم أجد في كل النصف الأول إلا بعض التصحيحات اللغوية أو الإملائية، فسررت بهذه النتيجة، وتسربت الثقة إلى نفسي مجدداً.
خرجت من المكتبة متأبطاً حقيبتي وبها النصف من رسالتي، فركبت سايكلي متوجها شطر بيت أستاذي، فلما وصلت إليه ركنت سايكلي على جدار حديقته الأمامية وأسرعت في الضغط على جرس الباب ففتح أستاذي الباب وقال بالعربية: أهلا وسهلاً، فقلت له: أهلاً بك يا شيخي الجليل، فضحك من تعبيري، وسار معي إلى غرفة جلوسه حيث كانت السيدة زوجته، فحييتها فردت، وقالت: أهلا بك، فقد أخبرني آرثر بزيارتك لنا، فقلت لها: العتب على أستاذي يا سيدتي لأنه منعني من أن أريه أيَّ فصل، وتركني وحيداً في خضم البحث، فقالت: هذا شأنه مع من يثق به من تلامذته، وقد أعددت لكما الشاي مع بعض الحلويات، فيمكنكما أن تشاركاني أو تأخذاهما إلى مكتب آرثر، فقلت: الرأي رأي أستاذي، فقال: دعنا نستمتع بهما بصحبتك، ولما انتهينا نهض استاذي متوجهاً إلى مكتبه فتبعته، فلما استقر بنا الجلوس، قال: لقد كان تعليقك اليوم في الاجتماع في محله، وقد أعجبني جداً، لأن بعضهم يعامل الطلبة باستعلاء وعنجهية ولذلك اندهشوا من صراحتك، وقد طلبت منك زيارتنا لأعرف منك مباشرة عن ما تمَّ إنجازه من رسالتك، فقلت له: لقد أنجزتها تماماً إلا إنني أعطيتها للسيدة فلانة لقراءتها وإبداء رأيها فيها، لأنني لم أرد تقديمها لك إلا بعد أن أكون متأكداً من سلامتها اللغوية والعلمية، فقال: أحسنت الظن، ومتى تقدمها لي حتى أقرأها؟ فقلت له: في أي وقت تشاء، فقال: بعد أربعة أسابيع من يومنا هذا، فقلت له: نعم، وبكل سرور، فقال: ما رأيك في التحاق سارجنت بالمعهد؟ فقلت: يا أستاذي الجليل، هو شخص كان جاسوساً للمخابرات البريطانية في اليمن، وهو رجل ذكي، ولا بدَّ أنه قد عرف بأنك سوف تتقاعد بعد سنتين، فيأخذ مكانك، فقال: عجيب أن نتوافق في التفكير!! فقلت له: لقد عرفت نفسيته لمدة سنة كاملة في لندن، وسمعت من بعض الطلبة اليمنيين عن دوره التجسسي في عدن واليمن، ولا أظن بأنني سوف أكون في المعهد وقت تقاعدك.
فقال: دعنا الآن من ذلك، فإنني أقلب الرأي في اللجنة التي نشكلها لمناقشتك، فما هو رأيك؟ فقلت له: أنت أعرف مني يا أستاذي الكريم بمن له اهتمام بالفكر الإسلامي عموماً وبالتصوف خصوصاً من المستشرقين، ولا اعتراض لي على أيٍ منهم.
قال: سوف نرى!!
فنهض ونهضت وسار معي إلى غرفة الجلوس فودعته وودعت زوجته، وخرجت متوجهاً شطر الكلية لأنعم بالعشاء فيها قبل انتهاء وقته.
(له صلة).
 
(من دفتر الذكريات (79):
العجب العجاب أن المطر لا ينهمر إلا حين أعبر الشارع من الكلية إلى البيت وأركن سايكلي في الحديقة الأمامية، فقد كان الجو غائماً ساكناً هادئاً أثناء وجودي في المعهد وفي المكتبة وفي الكلية، إلى أن عبرت الشارع بعد العشاء، فبدأ ينهمر بغزارة شديدة، وقبل أن أفتح الباب، فتبللت بللاً شاملاً، فلما رأتني مس بين بدأت بالضحك على حالي المزري، واردفت قائلة: اصعد يا ولدي بسرعة لغرفتك وغير ثيابك قبل أن تصاب بالزكام فتمرض، فتسلقت السلم إلى غرفتي المثلجة، فغيرت ثيابي وأنا أرتجف من البرد القارس، وأسرعت بالهبوط إلى غرفتي الدافئة وصحبة مس بين التي حدثتها بما جرى لي في اجتماع المعهد وما جرى لي في المكتبة مع الراهب وما عملت السيدة في نصف رسالتي ومن ثم زيارتي لبيت أستاذي بناء على دعوته لي في المعهد، وكانت مس بين تنصت لي باهتمام شديد، حتى إذا انتهيت من حديثي، قالت: حديثك عن الراهب سرَّني لأنني أرى أن الرهبانية ليست من ديننا، وهي سلوك يتكلفه الكاثوليك دون مسوغ ديني أو عقدي.
فقلت لها: قد فعله كثير من الزهاد منذ القرن الرابع الميلادي حين فطموا انفسهم عن شهوات الدنيا وانعزلوا عن الناس في الصحارى والبراري وكهوف الجبال والصوامع، وكانوا يعرفون باسم: Desert Fathers، ومن تقليدهم نشأت الطرق الرهبانية المتعددة مثل الفرنسسكانية والبندكتية وغيرها، وتسمى: Monasticism فقالت: ومع هذا فأنا أراه هروباً من تكاليف الحياة والأسرة، وتعطيل لنشاط قسم كبير من النساء والرجال، فلو ترهب كل الرجال لتوقفت الحياة، واندرست حضارة الأمة، وهم بعد هذا يعيشون عيالاً على غيرهم باسم الدين، فيحبسون أنفسهم في الأديرة للصلاة والعبادة وغيرهم يشتغل ويكدُّ لهم .
فقلت لها: يا مس بين، ديننا لا يعترف بالرهبانية فقد جاء في القرآن: "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم"، فقالت: صدق دينكم، فهي ليست من الدين، وقد ابتدعوها دون أمر إلاهي، ولذلك لا ترى في الكنائس التي انشقت عن الكنيسة الكاثوليكية طرقاً رهبانية فيها.
ثم قالت: ارجوك يا ولدي كرر لي ما قلته في اجتماع المعهد لزملائك، فأعدت عليها ما قلته لهم، فابتسمت ابتسامة عريضة، ثم قالت: أحسنت القول يا ولدي فقد تجرأت، وقلت ما لم يجرؤ حتى أستاذك عليه، وهو رئيسهم، خشية إزعاج مزاجهم، وأنت قلت ذلك بعفويتك وحسن نيتك التي يفتقدونها في ما بينهم ومع طلبتهم، ولو كنت انكليزياً صرفاً لما قلت ذلك أبداً.
فقلت لها: ولماذا لا يقول الانكليز الحق والصدق ولو على أنفسهم؟ قالت: هذا من أسس ثقافتنا المبنية على التمويه والالتفاف بالكلمات الموحية بالصدق في الموضوع لتجنب قول الحق والصدق، أو تبيان القصد.
فقلت لها: هذه عقلية متشابكة التعقيد، فقالت: تبدو لكم كذلك!! ولكن ليس لنا، لأننا تعودنا عليها، فقد يسألك انكليزي عن دراستك، فتخبره بأنك طالب في الدراسات العليا بجامعة كذا، فيقول لك: كم أنت ذكي حين وصلت إلى ذلك!!، How clever you are? وهو هنا يحط منك، ويريد أن يقول لك: إنك غبي، لأنك تنتمي إلى عرق غبي، فكيف وصلت إلى ذلك؟ أو كما ترى في مراسلاتنا الدبلوماسية حين ننهي الرسالة من سيد إلى مسود، بقولنا: خادمك المطيع، فلان Your obedient sevent فقلت لها: ولكنني لا أرى هذا في معاملتك لي ولا في كلامك معي، فقالت: يا ولدي، أنا كلمتك عن بعض الناس وليس كلهم، ففي كل أمة أتقياء صالحون وخبثاء محتالون، وفي أمتنا يا ولدي كثير من المحتالين سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وكن واثقاً أن أستاذك ليس منهم، أما ذلك الاستاذ الذي حدثتني عنه في لندن فهو منهم، فقلت لها: صدقت، فقد كان جاسوساً في المخابرات البريطانية في عدن واليمن. والمحتالون من السياسيين والاقتصاديين والثقافيين في الدول الاستعمارية هم من استغل حسن نية الشعوب وطيبتهم، فاستعمروهم وأذلوهم. فقالت: نعم، صدقت، ولكن ذلك عاد عليهم بالمقت والكراهية من هذه الشعوب ومن بعض الناس من بلدانهم أيضاً، وأنا وغيري منهم.
ثم نهضت فجأة، وقالت: ليلة هانئة سعيدة يا ولدي، ولا تنس صحن الربربر فوق الموقد، فرددت عليها، وقلت لها: سوف أتذكره ولا أنساه، وصعدت إلى الحمام ثم إلى غرفة نومها، والمطر لم يزل يلطم نوافذ غرفتي بشدة عاتية، فاحسست ببرودة ورعشة في جسمي، فهرعت إلى غرفة السيدة الدافئة وأخذت صحن الربربر الساخن مع قطعة من الخبز إلى غرفتي، فاكلته بشهية ورغبة، فسكنت رعشة البرد، فأطفأت المدفأة الحجرية والأضواء، وتسلقت الدرج إلى الحمام، ومن ثم إلى غرفتي الباردة وفراشي الأبرد.
صحوت كعادتي مبكراً على جو مشمس بارد رطب، وضباب في الأفق، فهرعت إلى باب الحديقة ومن ثم إلى مخزن الفحم، فاوقدت الموقد وهيأت فطوري المعتاد من الشاي والبيض والجبن والمربى والخبز ، وتأبطت حقيبتي وخرجت على سايكلي الذي بدأ الصدأ يأكل دواليبه الحديدية لتعرضه إلى الرطوبة، متوجهاً إلى المكتبة، لعلي أحظى بالنصف الثاني من رسالتي من السيدة جتى أدفعها كاملة إلى مكتب طباعة الرسائل، لتقوم إحدى الموظفات فيه بطبعها على الاستنسل أولاً، وهي أوراق مغطاة بطبقة من الشمع، ومن ثم تستعمل الموظفة آلةً يدوية تدار باليد، أو كهربائية لطبع نسخ متعددة منها، إذ لم يكن التصوير وآلاته معروفاً إذ ذاك.
(له صلة).
 
(من دفتر الذكريات (80):
خرجت من البيت، وامتطيت سايكلي، فشعرت أن حماري الحديدي قد بدأ يتلوى تحتي من ثقلي وثقل حقيبتي، من الوهن والإعياء، فاتجهت به إلى مجمع السايكلات في الساحة التي تقع وراء إحدى الكليات، فطرحته على غيره من المهملات، واخترت آخر قديماً ولكنه، على ما يبدو، أحسن قواماً وألمع عجلات وأهيب هيئة من صاحبي الذي أهنته فرميته، فنفخت إطاراته المطاطية وعلوته مع حقيبتي بهمة ونشاط، واتجهت معه إلى المكتبة، فركنته على حائط المكتبة، وتسلقت درج المكتبة بهمة ونشاط، متوجهاً إلى مكتب السيدة، فلما رأتني خرجت من مكتبها وبيدها النصف الثاني من رسالتي، فحييتها بحرارة فردت عليَّ، وقالت: هذا التقرير عن رسالتك، وقد استمتعت بها جداً، فقلت لها: لك ألف شكر على عنائك وتعبك، ولكن أين ورقة التكاليف؟ فقالت: أي تكاليف؟ فقلت لها: لقد اتفقنا في البداية على ذلك، إلا تذكرين؟ قالت: أذكر ذلك، وقد قلت لك: إن هذا منوط بي وليس بك، وأحسب الآن أنني أنا التي يجب أن أدفع لك التكاليف التي تطلبها مني لقاء سماحك لي بقراءتها، فقد تعلمت منها كثيراً، وأنت معلمٌ وتأخذ مرتباً على تعليمك اللغة للطلبة، أليس كذلك؟ فقلت لها: هذا تهرُّب منكِ يا سيدتي، فلكل عملٍ وعناءٍ أجرٌ حسب هذا العمل وهذا العناء، فقالت: لا بأس أذاً، ابعث لي باقة زهور لقاء عملي وعنائي، هل رضيت؟ فقلت لها: رضيت إذا كان هذا يرضيك أنت، فشكرتها شكراً كثيراً، ودعوتها لمرافقتي إلى الكافتريا، فقالت: في يوم آخر، لأنني مشغولة الآن، فودعتها وهبطت إلى الكافتريا، وطلبت كوباً من القهوة، فلما استقر بي الجلوس بدأت بتفحص أوراقها بعناية شديدة، فإذا الأمر هنا يشبه الأمر مع النصف الأول، فعرجت على تقريرها الذي كان في صفحتين، فكان دقيقاً جداً في تتبع مسار المناقشات، بفهم وعمق، ولم تنس إزجاء المديح في آخره على النتائج التي توصلت إليها.
ولما عرضت تقريرها على أستاذي في ما بعد، وقرأه، قال: هذه تصلح أن تكون ضمن لجنة المناقشة لشمولية تقريرها، ولكن حسب نظام الجامعة لا يمكن إدراجها.
خرجت من المكتبة وعلوت حماري الجديد بعد أن أوثقت حقيبتي التي بها رسالتي كاملةً وثاقاً شديداً خشية أن تهرب مني أو تُسرق، واتجهت إلى مكتب طباعة الرسائل الجامعية، حيث اتفقت معهم على طباعتها وتجليدها تجليداً ورقياً بسيطاً في مدة ثلاثة أسابيع، ثم عرجت على بائع الزهور فانتقيت باقة تليق بمقام السيدة، واعطيته الاسم والعنوان، فلما رآه قال: أعرفه، فقد سبق لي وأن أوصلت باقة زهور إليه.
كنت على مقربة من كلية كوربس كرستي، فركبت سايكلي إليها، فلما وصلت أدركت أن ليس لي ساعة إشراف على تلميذي اليهودي اليوم، فدخلت إليها وتسلقت السلالم إلى غرفته، فلما رآني استغرب من زيارتي لأنه كان بصحبة صديقته، فاعتذرت منه وحاولت التراجع والنزول، فقال: أهلا بك وألف مرحباً، فهذه فرصة جميلة لأعرِّفك على صديقتي سارة التي حدثتها عنك، فقلت له: أرجو أن حديثك كان مدحاً وليس ذماً، فقالت سارة: بل كله مدح فيك وفي علمك وسماحتك، وأنا مسرورة جداً إذ اتيحت لي الفرصة لمقابلتك شخصياً، ولم أكن أعرف أنك إنسان جذَّاب charming، إلى هذه الدرجة، فقال تلميذي مسرعاً: لا تصدقها، يا أستاذي، فهي من صواحب يوسف، فقلت له: صواحب يوسف قطعن أيديهن بالسكاكين لانشغالهن بجمال يوسف، وسارة لم تقطع يدها لانشغالها بجمالي؟ فضجوا بالضحك، فجلست قليلاً معهما ثم استأذنت في الذهاب.
خرجت من الكلية، واقتدت سايكلي إلى المقهى الطلياني، فلما رأتني النادلة أسرعت في تحيتي والترحاب بي، وقالت: قهوتك اليوم على نفقتي، لأنك لم تشرب قهوة حين زرتني في بيتي، فقلت لها: قهوة فقط دون شيء آخر رجاءاً، ولكنها عادت بقهوة وقطعة كبيرة من الحلويات،
فقلت لها: كيف حال ابنتك؟ فقالت: ابنتي مراهقة الآن وتتعبني كثيراً بنزواتها وتقلب مزاجها، فهل لك أن تصطحبها يوماً في نزهة في النهر؟ فقلت لها: اعذريني فإن صبري على المراهقات أقل من صبرك، وقد سبق أن مررت بهذه المشكلة مع بنت الجيران، ولم اتخلص من مشكلتها حتى اليوم. فقالت: لا بأس عليك فأنا اتفهم موقفك ولكنني لا أدري كيف اعلمها السكون والرزانة، فهي كل يوم تأتيني إلى البيت بشاب من الشباب المتهورين، وأنا لا أستطيع الانقطاع عن العمل لأجلها ولأجلي، فقلت لها: سوء التصرف والتهور والنزوات معروفة من المراهقين والمراهقات إلا القليل منهم، وابنتك لها حالة خاصة لأنك مشغولة بالعمل طول النهار وهي في المدرسة فإذا عادت للبيت لا تجدك فيه، ولا أحد في البيت وهذا سبب من أسباب تهورها وسوء تصرفها، على ما أظن، فقالت: لعلك على حق، وكل ما أرجوه أن تنصلح حالتها حين تكبر قليلاً، قلت لها: أرجو ذلك، فودعتها وانصرفت مع سايكلي الجديد إلى الكلية والعشاء فيها.
(له صلة).
 
(من دفتر الذكريات (81):
عبرت الشارع مع سايكلي القديم – الجديد، فركنته في الحديقة الأمامية، وكان من بركات هذا السايكل المحظوظ، أن السماء لم تمطر عليَّ فجأة حين عبرت الشارع، ولم ألحظ الضوء في غرفتي، فحدست بأن مس بين في غرفة جلوسها أمام الموقد، وقد صدق حدسي حين دخلت إلى البيت، فرميت حقيبتي في غرفتي الباردة المثلجة، وأسرعت بإيقاد المدفأة الحجرية، وهرعت إلى غرفة جلوس مس بين وأنا بكامل ثيابي الثقيلة، ويا للمفاجأة إذ فوجئت بوجود أختها وابنتها، فسلمت عليهم جميعاً بتحية المساء، فأجابوا جميعاً، فقد كانوا على مائدة العشاء، فدعوني إلى مشاركتهم، فشكرتهم وأخبرتهم بأنتي قد تناولت عشائي في الكلية تواً، فتركتهم، وعدت إلى غرفتي التي بدأ الدفء يدبُّ في أرجائها، فتخففت من بعض ثيابي الثقيلة، وسحبت تقرير السيدة من حقيبتي وبدأت بقراءته بتمعن وإمعان لاستيعاب التفاصيل التي ذكرتها السيدة حول جملة من النقاط التي ذكرتها في رسالتي، مثل: تأثُّرِ دانتي في الكوميديا الإهية بقصة المعراج الاسطورية الموسعة، وأثر ابن رشد في الفكر الأوربي، وردة فعل الكنيسة الكاثوليكية الجارف على الإسلام في شخص توماس الاكويني الذي رأى دانتي فيه السد الحصين ضد تسرب الفكر الإسلامي في الفكر الأوربي، حين وصف الجنة والنار وما فيهما، فوضع النبي عليه الصلاة والسلام مع ابن رشد تحت قدمي توماس الاكويني، بطل الكنيسة في محاربة الرشدية.
لم أكد انتهي من قراءة ما كتبته السيدة حول تأثر دانتي بقصة المعراج، إلا ومس بين مع أختها وابنتها يدخلون إلى غرفتي، فنهضت قائماً لتحيتهم، ودعوتهم للجلوس، فرحبوا وجلسوا على الكنبة أمام المدفـأة الحجرية، وجلست على كرسي جنب الطاولة التي لم تزل الآلة الكاتبة قابعة فوقها، فانبرت مس بين قائلة: أختي وابنتها يودان شكرك على ما تقوم به من العناية بي، فقاطعتها أختها قائلة: لم نتوقع منك أن تكون بهذا البر والحنان على أختي فتعاملها وكأنها والدتك، ومع هذا فإنني أود أن أشكرك من كل قلبي، لأنك أنت الذي جمعت بيننا بعد انقطاع طويل بيننا، ونشكرك أيضاً على كرمك وسماحتك وأخلاقك حين رفضت تسجيل هذا البيت باسمك، فقد حدثتني أختي عن ذلك، فزاد إعجابنا بك وبأخلاقك.
تريثت هنيهة لألتقط أنفاسي قبل أن أجيبها، فقلت لها: يا سيدتي، إن تصرفي مع أختك ليس تكلفاً أو من بابة الرياء بل هو نابع من تعاليم ديني أولاً، وما تعلمته في بيتنا من احترام الكبار من الناس، ثم إن مس بين تستحق كل تجلة واحترام لأنها تعاملني كولد لم تلده لها، وهذا شرف لي، فقد تعلمت لغتي منها وهي تؤانسي في وحدتي كما أؤانسها، وتطبخ لي كل يوم صحناً من الربر بر الساخن اللذيذ، وقد كانت ترفو جواربي قبل أن أصبح "غنياً" براتبين الآن، فضحكوا جميعاً.
أما طلب مس بين تسجيل البيت باسمي فكان قبل أن أزورك في بيتك، دون علم مس بين، لأرجوك أن تقومي بزيارة أختك، وقد فعلتِ ذلك، وأنتم أحق بالبيت مني لأنها أختك، فلم يسمح ديني وأخلاقي أن أسلبكم حقاً من حقوقكم، لأنني كنت باراً بمس بين وحنوناً عليها، فإن ذلك لا يؤهلني لآخذ ما ليس لي فيه حق شرعي.
فقالت: هذا مما زاد في اعجابنا واحترامنا لك.
فقلت لهم: ومع هذا فلا بدَّ لي من استضافتكم، لأنكم دخلتم غرفتي لأول مرة، وضيافتي لكم واجبة، وهي إعداد شاي عراقي مع بعض الحلويات، فقالوا: فكرة جيدة، فأسرعت إلى المطبخ وأعددت الشاي والكؤوس والحلويات التي كانت في غرفتي، وجلسنا متحلقين حول المدفأة الحجرية نحتسي شاياً عراقياً داكناً، ونستمتع بالحلويات السورية، حتى استأذنوا للنوم، فصعدت مس بين إلى غرفتها، وصعدت أختها وابنتها إلى الغرفة الشاغرة الكائنة بين الحمام وغرفة نوم مس بين، والتي لم يشغلها أحد منذ حلولي في هذا البيت حتى اليوم.
عدت إلى قراءة التقرير، إلا أنني أحسست برغبة في النوم، فأطفأت المدفأة الحجرية والأضواء، وغسلت وجهي وفمي كالعادة بالماء الساخن في الحمام، وأويت إلى فراشي البارد.
(له صلة).
 
(من دفتر الذكريات (82):
أفقت في منتصف الليل على زئير أصوات الرعود القاصفة، وسقوط حبات البَرَد، التي كانت تضرب سقوف المرائب (الكراجات) المعدنية في الحدائق الخلفية للبيوت، فتحدث قرقعة شديدة على قرقعات الرعد، فنظرت من النافذة، فإذا أرض الحديقة بيضاء مغطاة بكرات البَرَد الكبيرة التي لم تزل تتساقط بكثرة مع تزايد عزيف الرعد، فحاولت أن أعاود النوم فلم أستطع، فتركت فراشي، ولما فتحت باب غرفة نومي لكي أهبط إلى غرفة جلوسي، رأيت النور في أسفل البيت، فهبطت، فإذا مس بين واختها وابنتها في غرفة الجلوس، فسلمت عليهم، فقالوا: لم نستطع النوم من الخوف، وكانوا يرتجفون من الخوف والبرد، فطمأنتهم، ولبست أثقل ثيابي، ولففت رأسي، وفتحت باب الحديقة وغرفت من الفحم ورميته على النار التي كادت تخمد في الموقد، وملأت غلاية الماء بالماء ووضعتها على الموقد حتى اعمل لهم شاياً ساخناً، وبدأت غرفة الجلوس تسخن شيئاً فشيئاً، وبدأ ماء الغلاية يفور فيها، فأعددت لهم شاياً أعاد الدفء والهدوء إلى السيدات الثلاث، مع أن الجو في خارج البيت لم تهدأ غلواؤه، وكرات الثلج لم تزل تتساقط دون هوادة والرعد والبرق لم يكفا عن الزئير المنقطع والمتواصل، حتى بدأت خيوط الفجر تلوح من خلال السحب المتراكمة.
أسرعت إلى غرفتي فأوقدت المدفأة الحجرية، وتسلقت السلم إلى الحمام حيث غسلت ما أحتاج إلى غسله من جسمي، ولبست ثيابي، وفكرت في إعداد الفطور لنفسي وللسيدات الثلاث إلا إنني وجدت نفسي في موقف حرج إذ لم أعد للأمر عدته لأنني لم أتوقع هذه الزيارة المفاجئة، وما كان عندي ما يكفي لنا جميعاً، ومع هذا فقد أعددت ما وجدته، وتشاركنا فيه، فالتفتت مس بين إلى أختها، وقالت: هل صدَّقت الآن بأنه ولدي؟ فضحكت أختها وابنتها، وقالت: لم أكن محتاجة إلى برهان يثبت ذلك، فهو حنون عليك رؤوف بك، دون شك.
لم أدر كيف أصل إلى المعهد لإلقاء محاضرتي؟ وزئير الرعود لم يهدأ، بالرغم من انقطاع سقوط كرات البرد، ولكن المطر بدأ ينهمر بشدة وغزارة، فقررت الانتظار، لأنني أدركت أن الطلبة لن يتمكنوا أيضاً من الوصول إلى المعهد في مثل هذا الجو المربد الكالح، وليس عندي أية وسيلة للإتصال بهم أو بالمعهد سوى سايكلي الهرم المبلل المركون في الحديقة الأمامية.
لم يطل انتظاري فقد سكن الرعد فجأة وتوقف هطول المطر، فخرجت من البيت وركبت سايكلي متوجهاً إلى المعهد، فلما ركنته على جدار المعهد، ودخلت إليه لم أجد أحداً غير سكرتيرة المعهد لأنها تمتلك سيارة، ولاحظت في طريقي أن أسطح السيارات التي كانت في الشوارع قد أصابتها ندوب (فعوص) كثيرة بفعل كرات الثلج الثقيلة، ولم أجد أحداً أيضاً في قاعة المحاضرات الخاوية، فما كان عليَّ سوى انتظار وصول الطلبة، إذ بدأوا يتقاطرون الواحد تلو الآخر والواحدة تلو الأخرى حتى استتم وصولهم جميعاً، فبدأت بالاستماع إلى ما كنت طلبت من كل واحد أو واحدة عمله في المحاضرة السابقة، وبدأت بالمحاضرة، فلما انتهيت منها طلبت من كل واحد أو واحدة القيام بواجب يكون جاهزاً في المحاضرة القادمة،
وفجأة تقدمت نحوي الطالبة المشاكسة فسلمت عليَّ فأجبتها، وقلت لها: إذا كانت هناك محاضرة لقسيس وتريدين مشاركتي فيها، فأرجو إعفائي، فقالت: ليس هناك أية محاضرة، ولكنني أردت تذكيرك بساعة الإشراف عليَّ غداَ، فقد أعددت ما طلبته مني، فقلت لها: يا فلانة، أنا لا أحتاج إلى تذكير فهي مكتوبة في جدولي اليومي، وشكراً على تذكيري،
فقالت: أشعر يا أستاذي بأنك مستاءٌ مني وتتجنبني، وأنا أودك جداً، وأحب محاضراتك وأنتظرها بفارغ الصبر، فقلت لها: أنا لست مستاءاً منك يا فلانة، ولا أتجنبك عن عمد، وأما أنك تودينني فهذا شعور جميل منك، وأقدره فيك وأعتز به، بل وافتخر به، فلا تظني بي ظن السوء، فقالت: أرجو أن تعذرني، فقد ظننت ذلك، فقلت لها: ظنك يا فلانة في غير محله، وسوف أراك غداً، فودعتني وافترقنا.
خرجت من المعهد وركبت حماري وعليه حقيبتي متوجهاً إلى المكتبة، ولما وصلت إليها ركنت حماري بين حمير الطلبة، وارتقيت سلم المكتبة إلى ركني وطاولتي، لم أجد ما أُشغل نفسي به سوى تقرير السيدة، فاستللته من حقيبتي لأعاود قراءته فلم أجد في نفسي الرغبةَ في ذلك، فهبطت إلى كافتيريا المكتبة فإذا هي مكتظة بموظفي المكتبة، فسألت النادلة عن ذلك، فقالت: إنهم يحتفلون بعيد ميلاد فلانة، فأصابني الحرج الشديد، لأن فلانة هي السيدة التي قرأت رسالتي فأرسلت لها باقةً من الزهور، ولم أعلم بأن هذا اليوم هو يوم ميلادها، فخرجت من المكتبة مسرعاً، وركبت سايكلي متوجهاً إلى المدينة، فاشتريت هدية تليق بها، ثم عدت مسرعاً إلى المكتبة، وهبطت إلى الكافتيريا فإذا هي خواء من الجمهور، فهرعت إلى مكتبها وسلمت عليها وهنئتها بعيد ميلادها، وقدمت لها الهدية، ففرحت فرحاً شديداً، فقفزت من كرسيها وضمتني وقبلتني مرتين على خديَّ، وهذا ما لا يفعله الانكليز قط، وقالت: صدقني!! بأنني لم افرح بهدية أحد مثل فرحي بهديتك، فقلت لها: إنها هدية بسيطة، وقد استعجلت في شرائها لك، فقالت: العجب ليس في الهدية نفسها ولكن في المشاعر التي دفعتك لشرائها وتقديمها لي لأنني بالفعل أحتاجها، وكنت ناوية شراءها فسبقتني إليها، وكأنك قد قرأت ما كان يجول بخاطري، فقلت لها: لعلها من بابة التلاباثي telepathy، فقالت: لا أكاد أشك في ذلك، فودعتها وخرجت من المكتبة وجررت سايكلي وعليه حقيبتي خلال الكليات ميمماً المقهى الطليانية، ولما وصلت إليها ركنت سايكلي ودخلت إليها، وكانت كالعادة تعج بالزبائن والدخان الخانق، فلما رأتني النادلة أسرعت بتحيتي والترحاب بي، ثم قالت: جئت في وقتك، فقلت: ولماذا؟ قالت: ابنتي، يا فلان!! فقلت لها: وما شأني أنا بابنتك؟ قالت: تريد أن تراك لكي تخرج معها في السفرة النهرية، فقلت في نفسي: اللهم استر.
(له صلة),
 
[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (83):[/FONT]
[FONT=&quot]قلت للنادلة: متى تريد ابنتك الخروج معي في السفرة النهرية؟ فقالت: في أي وقت تشاء أنت، فقلت لها: أنت تعرفين وابنتك تعرف أيضاً أن السفرات النهرية تتوقف في فصل الشتاء، وهي الآن متوقفة تماماً، ولا تبدأ إلا في فصل الصيف، وعندها سوف أكون مسروراً لاصطحابها. [/FONT]
[FONT=&quot]فقالت: لو تفضلت أن تزورنا في البيت هذا المساء، وانت تعرف العنوان؟ فقلت لها: ولماذا؟ وقد شرحت لك الأسباب، فقالت: هي مصرة على رؤيتك والتحدث معك، فقلت لها: كم عمر ابنتك؟ قالت: ست عشرة سنة، فقلت لها: هذه طفلة ولا تعرف ماذا تريد، ومع هذا فسوف أزوركم بعد تناول العشاء في الكلية، في الساعة التاسعة مساءاً.[/FONT]
[FONT=&quot]تركت الكلية وامتطيت صهوة حماري، وتوجهت إلى عنوان النادلة في أقصى المدينة، بدلاً من عبور الشارع إلى بيتي، فوصلت إلى أمام الباب في الوقت المحدد تماماً وضغطت على الجرس بعد أن ركنت سايكلي على الجدار، ففتحت ابنتها الباب، فحييتها، فردت عليَّ تحيتي وقد بدأ السرور على ملامح وجهها، وقالت: تفضل، أمي تنتظرك، فقادتني إلى غرفة المطبخ، فوجدت النادلة فسلمت عليها فنهضت وحيتني، وقالت: نحن نجلس هنا لأنها أدفأ من غرفة الجلوس، فقلت لها: في أي مكان تكونين فيه هو غرفة الجلوس، فضحكت هي وكذلك ابنتها، ورأيت كؤوس الشاي والحلويات جاهزة على الطاولة، فالتفت إلى ابنتها وقلت لها: يا ماركريت، أخبرتني أمك بأنك تريدين مني أن اصطحبك في سفرة نهرية؟ قالت: نعم، قلت لها: ولكنك تعلمين أن السفرات النهرية متوقفة في الشتاء؟ فقالت: أعرف ذلك، ولكنني أريد منك أن تصطحبني غداً إلى مهرجان الألعاب (الفن فير)، وقبل أن أتكلم، انبرت النادلة قائلة: أرجوك تعال غداً وخذها إلى مهرجان الألعاب، ودعها تستمتع بصحبتك، فأنا واثقة منك حين تكون معك، فتحيرت ولم أدر ما أقول، وأخيراً قلت لها: سافعل على أن تنتظرني ماركريت في المقهى، فقالت: وهو كذلك. [/FONT]
[FONT=&quot]استأذنت منهما للإنصراف وشكرتهما على الضيافة، وركبت سايكلي متوجهاً إلى البيت، فركنت سايكلي في الحديقة الأمامية، ولاحظت النور في غرفتي فعرفت أن مس بين فيها وأن أختها وابنتها قد رحلتا إلى قريتهما، فدخلت البيت وسلمت على مس بين فردت عليَّ تحيتي، وقالت: اين كنت يا ولدي، فإنني أرى في وجهك شيئاً غريباً، فاخبرتها عن النادلة وابنتها، وما جرى وما سيجري غداً، فقالت: اسمع مني يا ولدي، أنا انكليزية وأعرف خبايا البنات المراهقات والنساء الانكليزيات أحسن منك، فقلت لها: أنا لا أشك في معرفتك وتجربتك، ولكن اين المشكلة؟ فقالت: إذا ذهبت مع البنت إلى مهرجان الألعاب فلا تشرب شيئاً قط، فإن بعض البنات يسقون الشبان مادة مخدرة فيتهمونهم بالاغتصاب ويجبرونهم على الزواج بالبنات، ولا تختلِ بالبنت لوحدك في أي مكان أبداً، بل أرجعها بالباص أو بالتاكسي إلى بيتها، ولا تتركها إلى أن تدخل البيت، وانتظر خارج البيت، حتى تقفل الباب وراءها.[/FONT]
[FONT=&quot]فقلت لها: يا مس بين، ولماذا هذا الاحتراز الشديد؟ قالت: إن بعض البنات تنتهز فرصة خروجها بعد موافقة أهلها مع من يثقون به، فإذا أعادها متأخرة إلى البيت فإنها قد تنتهز هذه الفرصة بعد ذهاب صاحبها، فتنسل من البيت إلى بيت صديق آخر أو عشيق، دون علم أهلها. [/FONT]
[FONT=&quot]فقلت لها: عجيب، فكم أنا ساذج حين لم أدرك حيل النساء!! وسوف أكون حذراً فلا أقع في فخ إحداهن. [/FONT]
[FONT=&quot]فقالت: لقد حذرتك يا ولدي، فكن منتبهاً معهن، فقلت لها: سافعل ما توصيني به، فنهضت، وقالت: ليلة هانئة يا ولدي، فقلت لها: ولك أيضاً، فصعدت إلى الحمام ومنه إلى غرفة نومها.[/FONT]
[FONT=&quot]تملكتني حيرة شديدة واضطراب في مشاعري حين تركتني مس بين وحيداً في غرفتي، ولم أدر كيف أتصرف مع الطالبة المشاكسة غداً، ولا مع بنت النادلة المراهقة، ولم أفهم بالضبط تحذيرات مس بين من البنات الانكليزيات، وهن لا يختلفن عن غبرهن من البنات، فاقنعت نفسي بأنها تعرف النساء أحسن مني، ولا بدَّ أن نصيحتها في صالحي.[/FONT]
[FONT=&quot]أطفأت المدفأة الحجرية وهرعت إلى غرفة جلوس سيدة البيت لعلي أجد صحن الربربر الساخن لكي يدفيء جسدي البارد، فلم أجده، والظاهر أن مس بين كانت مشغولة مع أختها وابنتها فنسيت إعداده، فأطفأت الأنوار وصعدت إلى الحمام ومنه إلى غرفتي الباردة وفراشي الأبرد. [/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
(من دفتر الذكريات (84):
بتُّ بليلة ليلاء مضطربة، وأفقت كعادتي مبكراً على جوٍّ غائم مكفهر بارد، كنت أود أن يكون عاصفاً ممطراً أو مثلجاً زمهريراً،حتى أتملَّصَ واتخلصَ من اصطحاب ماركريت لمهرجان الألعاب، فأسرعت للحمام ولبست ثيابي الثقيلة وهبطت إلى غرفة جلوس السيدة، وفتحت باب الحديقة وغرفت الفحم من مخزنه ورميته في الموقد على النار الخافتة، وأعددت وجبة إفطاري البسيطة، ولم أوقد المدفأة الحجرية في غرفتي بل تناولت حقيبتي منها وخرجت من البيت قبل نزول السيدة، دون أن أعرف، أو أفكر في المكان الذي سأذهب إليه، لأن ساعة إشرافي على الطالبة المشاكسة تكون في الثالثة بعد الظهر في المعهد، ولم أحدد موعد لقائي مع بنت النادلة للذهاب إلى مهرجان الألعاب، والنهار لم يزل في أوله، ومقهى الطليان لا تُفتح إلا في الساعة العاشرة صباحاً، فاحترت وأنا أمسك سايكلي بيميني وحقيبتي بيساري أمام البيت، ماذا أفعل؟؟ وفجأة خرجت جارتي الممرضة من بيتها، فرأتني واقفاً، فسلمت عليَّ بتسليمة الصباح فأجبتها، فقالت: إلى أين أنت ذاهب؟ قلت لها: الحق أقول لك، لا أعرف!! فانفجرت ضاحكة، ثم قالت: عندي نصف ساعة من الوقت، فهل ترافقني إلى مقهى المحطة لنشرب القهوة سويةً؟ فقلت في نفسي: القِدْرُ لا تستقر إلا على ثلاث أثافٍ، (أحجار): الطالبة المشاكسة وابنة النادلة، وهذه الثالثة، فقلت لها: شكراً جزيلاً على دعوتك، ولكن نصف ساعة لا تكفي لحديثنا، فأرجو تأجيلها إلى وقت آخر، وقد قررت العودة إلى البيت، فقالت: كما تشاء، وإلى اللقاء، فانصرفت إلى المستشفى على سايكلها، وعدت إلى البيت، وأوقدت المدفأة الحجرية في غرفتي المثلجة، وأسرعت إلى غرفة جلوس مس بين وملأت غلاية الماء لكي أعمل شاياً لنفسي ولمس بين حين نزولها، ولم أكد أفرغ من إعداد الشاي إلا ومس بين قد دخلت غرفة جلوسها، فلما رأتني استغربت، وقالت: هل أفقت اليوم متأخراً؟ فقلت لها: لا، ولكنني لا أعرف ماذا أعمل، فخرجت من البيت فرأتني فلانة فدعتني لشرب القهوة معها في مقهى المحطة قبل ذهابها لعملها، فرجوتها تأجيل دعوتها إلى وقت آخر.
فقالت: هذه البنت اللعوب لن تتركك في راحتك، وهي مصرة على إيقاعك في حبائلها الشيطانية، فقلت لها: لا تقلقي عليَّ لأنني أتبع نصحائحك الرحمانية، فضحكت كثيراً، ولم أقاطعها في ضحكها.
ثم قلت لها: ولما انصرفت فلانة إلى عملها عدت للبيت، فارتأيت أن أعمل الشاي لي ولك قبل نزولك، فقالت: شكراً لك يا ولدي، ولكن هل أفطرت؟ فقلت لها: نعم، منذ ساعة، فأخذت كأسي إلى غرفتي، وتركتها مشغولة في إعداد بقية فطورها.
انتظرت في غرفتي الدافئة إلى حدود الساعة العاشرة صباحاً، وخرجت من البيت حيث تركت حقيبتي، وركبت سايكلي متوجهاً إلى المقهى الطلياني لكي أسأل النادلة عن موعدي مع ابنتها، ولما دخلت إلى المقهى استقبلتني النادلة بالتحية، ثم قالت: ستأتي ماركريت في الساعة السادسة مساءاً، لكي تصطحبها إلى مهرجان الألعاب، فقلت لها: هذا الوقت مناسب لي، وسوف أكون هنا في السادسة، إذا لم تعصف العاصفة أو ينهمر المطر، فودعتها وانصرفت على سايكلي متوجهاً إلى المكتبة لتزجية الوقت قبل موعدي مع الطالبة المشاكسة في المعهد.
ركنت سايكلي مع غيره، وتسلقت درج المكتبة إلى ركني وطاولتي، ولم أدر ماذا أفعل، فنزلت إلى كافتيريا المكتبة، فطلبت كأساً من الشوربة الساخنة وقليلاً من الخبز، وانتحيت معهما ركناً قصياً، وما كدت استقر وأبدأ بشرب شوربتي، حتى رأيت السيدة المسؤولة عن الكتب تتوجه نحو طاولتي وبيدها كوب من القهوة، فلما وصلت، نهضت لها احتراماً فسلمت واستأذنت في مرافقتي، فرحبت بها أجمل ترحيب، فشكرتني مرة ثانية على هديتي لها، وقالت: هل اودعت رسالتك في مكتب طباعة الرسائل الجامعية؟ فقلت لها: نعم، منذ أيام قلائل واتفقت معهم على ثلاثة أسابيع، فقالت: أنا واثقة بأن من سيقوم بطبعها لا بدَّ أن يخطيء هنا أو هناك في الطباعة أو ينسى كلمة أو حتى جملة أثناء الطباعة، فقلت لها: هذا متوقع دون شك، ولكن ما العمل؟ قالت: لا بدَّ من مراجعتها قبل أن تسلمها إلى أستاذك ليبعث بها إلى لجنة المناقشة، وأنا مستعدة لمراجعتها إنْ لم تراجعها أنت؟ فقلت لها: لدي فكرة أخرى، فقالت: وما هي؟ قلت لها: أنا أراجع نسخة منها وأنت تراجعين نسخة أخرى منها، ثم أصحح ما حدث في نسختي من خطأ أو إغفال، وأنت تصححين نسختك، ثم نصحح بقية النسخ، فقالت: فكرة رائعة، فقلت لها: أنا عاجز تماماً عن شكرك فقد قدمت لي المساعدة تلو المساعدة دون أجر، فقالت: وأنا أتعلم منها دون أجر، أذاً تساوينا في الحساب، فاستأذنتها في الذهاب إلى المعهد لأن ساعة إشرافي على الطالبة المشاكسة قد حان، فودعتها، وخرجت من المكتبة وركبت سايكلي متوجها إلى المعهد، فوصلت إليه قبل خمس دقائق من الموعد، فإذا الطالبة واقفة في الباب تنتظرني، فسلمت عليها، وقلت لها: يبدو لي انك مستعجلة، فقالت: نعم، مستعجلة لرؤيتك، فقلت في نفسي: أعوذ برب الفلق، وقلت لها مستغرباً: لرؤيتي يا فلانة؟؟ فقالت: نعم، فقلت لها: طبعاً حتى نتناقش حول ما أنجزت من خطة عملك، فقالت: هذا جزء أول والجزء الآخر أود أن تلبي دعوة والديَّ على العشاء في أي يوم تحدده أنت، فقد حدثتهما عنك، فقلت لها: يا فلانة، أنا أستاذك، فهل في العُرف الانكليزي أن تدعو طالبةٌ معلمَها إلى بيتها للعشاء معها ومع والديها؟ قالت: هذا لا يحدث إلا قليلاً في عرفنا وعاداتنا، لأن أعرافنا وعاداتنا تحكمها التقاليد الطبقية، فمن كان من طبقة اجتماعية معينة لا يطمح أن ينتقل إلى طبقة أعلى من طبقته، ولكن هناك استثناءآت، وأنت واحد من هذا الاستثناءآت، فقلت لها: مجتمعكم عجيب غريب يا فلانة، وسوف أفكر جدياً في دعوة العشاء.
تناقشنا طويلاً في خطة بحثها وما أنجزت، فأجزت بعض ما أنجزت واعترضت على البعض الآخر، واتفقنا أن نلتقي في مثل هذا اليوم والساعة من الاسبوع القادم، فودعتني وانصرفت، فاحسست أن ثقلاً قد أزيح جزءياً من على أكتافي، وبقي ثقل ابنة النادلة.
(له صلة).
 
[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (85):[/FONT]
[FONT=&quot]بقيت ساعتان على موعدي مع ابنة النادلة، ولم أدر ماذا أعمل فيهما، فقُدْتُ سايكلي بيدي ومشيت معه من المعهد إلى المكتبة، ولما وصلت إليها، ركنت سايكلي مع غيره، وارتقيت سلم المكتبة متوجهاً إلى الكافيتريا، فطلبت كوباً من القهوة وبعض الحلويات، واخترت كعادتي دائماً، إحدى الطاولات الخاليات من الزبائن، لأنني لست مولعاً بالثرثرة مع أحد، وجلست متفكراً في بنت النادلة وماذا سأفعل معها في مهرجان الألعاب؟ هل أركب ألآلة الهائلة الدوارة فيصيبني الدوار والدوخة، فأنكب على وجهي فتضحك مني؟، أم أركب معها العربة الكهربائية فأتصادم معها أو مع غيرها فتنفجر مسرورة بالضحك؟ أو أركب معها في مقعد الدولاب الهائل وأنا أخاف من الارتفاع خشية أن ينخلع قلبي؟ أم أدعها لوحدها تفعل كل ذلك وأرقبها فقط، ثم أعود بها سالمة غانمة لأمها؟ [/FONT]
[FONT=&quot]دارت كل هذه الصور برأسي، وأنا أرتشف قهوتي، واستمع إلى ثرثرة رواد الكافيتريا تأتي إلى أذني من بعيد، فأفقت على يدٍ تربت على كتفي، وصوتٍ يقول: مساء الخير، هل كانت ليلتك سيئة؟ فنهضت من سباتي على قدميَّ لتحية السيدة الفاضلة، وقلت لها: سأقول لك الحقيقة، فبدأت الدهشة على وجهها وفتحت عينيها، فلعلها كانت تتوقع أن أجثو على ركبتي لأطلب الزواج منها، أو سماع عبارات الغزل والحب مني، فقلت لها: مشكلتي مع ابنة النادلة المراهقة في المقهى الطلياني، فتنفست الصعداء، وأغلقت عينيها ثم فتحتهما، وقالت: وأين المشكلة؟ فأخبرتها بما تم مع أمها وزيارتي لبيتها وإصرار البنت على اصطحابي لها إلى مهرجان الألعاب، وشرحت لها المشكلة بالتفصيل، وإنني متخوف من تصرفاتها الصبيانية معي أو مع غيري بحضوري لاختلاف عاداتنا وثقافتنا. [/FONT]
[FONT=&quot]فقالت: أنصحك أن تجد لك عذراً تتملص به من اصطحابها لأنك قد تقع في مواقف محرجة مع أصدقائها من المراهقين الذين سوف يكونون حتماً موحودين في المهرجان، وقد تحدث نزاعات بينك وبينهم بسببها، فيعتدون عليك، وأنت وحيد وهم جماعة، فقلت لها: وماذا أفعل وقد وعدت أمها بأنني سوف اصطحبها في الساعة السادسة، فنظرت إلى ساعتها، وقالت: لم يبق على موعدك معها إلا نصف ساعة، فقلت لها: عشر دقائق تكفي للوصول إلى المقهى، فنهضت واستأذنت في الانصراف، وقد أحسست أن شيئاً خفياً يدور في نفسها لم أدرك له كنهاً، فطردت هذا الوسواس من خاطري.[/FONT]
[FONT=&quot]خرجت من المكتبة وأخذت سايكلي بيميني وسرت ماشياً معه عبر الكليات إلى مركز المدينة حيث المقهى الطلياني، فلما وصلت إليها ركنت سايكلي على الجدار، ودخلت إلى المقهى فكانت ماركريت مع أمها في انتظاري، فحييتهما فقالت النادلة: استرح قليلاً حتى تشرب قهوتك ثم روحا للمهرجان، فجلست وجلست ماركريت جنبي، فشممت رائحة عطر نفاذة، فقلت لها: يا ماركريت هل انت ذاهبة إلى مرقص أو إلى مهرجان ألعاب؟ فقالت: وماذا تعني؟ فقلت لها: هذا العطر النفاذ يجلب الانتباه من الشباب، فقالت: أنا استعمله دائماً عندما أخرج، وهو مريح للنفس، فقلت لها: لكنه غير مريح لنفسي، وأنت حرة في استعمال ما تشائين، فهيا بنا نذهب، فنهضتُ ونهضتْ وودعنا أمها، وقلت لها: سأجلبها للبيت حين ننتهي، فقالت: استمتعوا بوقتكم، وما كدنا نخرج من باب المقهى إلا والسماء قد أرسلت عزاليها وبدأ الرعد والبرق يغشيان السماء، فعدنا راكضين مع غيرنا إلى المقهى من شدة انهمار المطر، فقالت النادلة: انتظروا قليلاً، فلعل المطر ينقطع قريباً، فجلسنا سوية جنب بعض، ولكن العطر النفاذ بدأ يسبب لي الصداع، وبدأ بعض الزبائن الذين كانوا في المهرجان يصلون إلى المقهى مبللين تماماً، فأخبرونا بأن أرض المهرجان قد فاضت بالماء وأن المهرجان قد أُلغي هذه الليلة بسبب صاعقة خفيفة ضربت الدولاب الدوار، فتوقفت كل الآلات بسبب انقطاع الكهرباء. [/FONT]
[FONT=&quot]لم ينقطع انهمار المطر ولا البرق ولا الرعد، وزاد هبوب ريح عاتية من سوء الجو، ونحن وبقية الزبائن قابعون في المقهى ننتظر انقطاع المطر، وهدوء الجو، فجاءت النادلة إلينا، وقالت: من سوء حظ ماركريت انها لم تستمتع هذه الليلة بوقتها في المهرجان معك، فقلت في نفسي: هذا من حسن حظي، فعقبت ماركريت على أمها، وقالت: غداً يكون الجو أحسن، وسوف نستمتع بالمهرجان سوية، أليس كذلك يا فلان؟ فقلت لها: إذا تحسن الجو، وقرر المسؤولون عن المهرجان استئنافه Who knows?، [/FONT]
[FONT=&quot]ثم قالت: أحسُّ بأنك تشعر بالحرج من خروجك معي، فقلت لها: صدقت!! فإنني أشعر بالحرج لإختلاف ثقافاتنا وعاداتنا، فلعلك تتصرفين حسب عاداتك التي تعودتي عليها هنا، فأرى ذلك مناقضاً لعاداتنا، فأتألم في نفسي وأشعر بالحرج من خروجي معك.[/FONT]
[FONT=&quot]انتظرت طويلاً وأنا صامت أتصفح وجوه الزبائن، وفجأة قالت ماركريت: يا فلان أنا أقدر فيك صراحتك وصدقك، وأنا أشعر أيضاً أن بيننا اختلافاً في كثير من الأفكار، لذلك أرجو قبول اعتذاري عني وعن أمي حين أجبرناك على القبول بمصاحبتي، فقلت لها: أنا مسرور جداً بأنك الآن تتفهمين ترددي منذ البداية، ولكن أعدك بأنني سأكون مسروراً إذا قبلت دعوتي إلى سفرة نهرية في الصيف حين يسمح الجو بذلك، فقالت: يسرني جداً أن أقبلها. [/FONT]
[FONT=&quot]استمر هطول المطر والبرق والرعد والرياح دون هوادة لمدة ساعتين، ثم بدأ بعدها يخف ويخفت، فانتهز كثير من الزبائن هدوء الجو، فتركوا المقهى، وانتهزت هذه الفرصة فاستأذنت من النادلة وابنتها، فخرجت من المقهى والمطر لم يزل ينهمر ولكن بصورة خفيفة، فركبت سايكلي إلى البيت، بعد أن فاتتني وجبة العشاء في الكلية، فاشتريت من أحد دكاكين الباكستانيين على الطريق خبزاً وحليباً وجبناً ومربى وبيضاً، وأسرعت مع سايكلي إلى البيت، حيث ركنت سايكلي في مكانه المعتاد، ولم أر الضوء في غرفتي، فحدست بأن السيدة قد أوت إلى فراشها، فكان الأمر كما حدست، حين دخلت إلى غرفتي الباردة المثلجة، فأوقدت المدفأة الحجرية، وأنا بكامل ثيابي الثقيلة المبللة، وفي الحال توجهت إلى غرفة جلوس السيدة، لأجد صحن الربربر الساخن ينتظرني هادئاً هانئاً على سطع الموقد. [/FONT]
[FONT=&quot](له صلة):[/FONT]
 
[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (86):[/FONT]
[FONT=&quot]مرت الأيام تتلوها الأيام، والروتين اليومي يكاد يكون نفسه، فقد اعتذرت للطالبة المشاكسة عن دعوة العشاء، وتعللت لها بأنني لو قبلتها، فكأنني قد قبلت الرشوة منها، فيتغير تصرفي معها، فلم تقتنع، وخيرتها بنقل إشرافي عليها إلى محاضر آخر، إلا أنها أصرت على أن تكون تحت إشرافي، ولن تقبل بإشراف محاضر آخر، لأنها تعودت على أسلوبي وطريقتي في النقاش، ولم تزل تأمل في أن أبدِّل موقفي من دعوة والديها للعشاء معهم وليست دعوتها. [/FONT]
[FONT=&quot]وفي الوقت نفسه تسلمت عشر نسخ من رسالتي مع قائمة بالتكاليف من مكتب طبع الرسائل الجامعية، فنقدتهم التكاليف، وأسرعت بنسخة منها إلى السيدة في المكتبة، فبادرتني بالسؤال عن ما جرى في مهرجان الألعاب مع بنت النادلة، لأنني لم أرها منذ ذلك اليوم، فاخبرتها بالتفاصيل، ولشدة عجبي ودهشتي، انفجرت بالضحك المتواصل، وأنا واقف مشدوه أمامها، ولم أجروء على سؤالها عن سبب ضحكها. [/FONT]
[FONT=&quot]ثم قالت: يا فلان لقد كان الجو في جانبك، فلم تحتج إلى عذر تقدمه لها أو اعتذار، فتخلصتَ من المنغصات والمشكلات التي كانت ستسببها لك هذه البنت المراهقة في مهرجان الألعاب مع الشبان المراهقين، فقلت لها: نعم، صدقت، فربَّ مصادفة خير من التقصد، ولقد نجوت من الحرج مع أمها أيضاً. [/FONT]
[FONT=&quot]ثم قالت: على أية حال، اترك هذه النسخة عندي لمدة أسبوع، واقرأ أنت نسخةً أخرى، ثم نقارن بعد ذلك بين عملي وعملك، فقلت لها: وهو كذلك، ودعوتها لشرب القهوة معي، فقالت: أنا مشغولة الآن، فودعتها، ونزلت إلى الكافيتريا لأستمتع بكوب من القهوة الساخنة مع بعض الحلويات. [/FONT]
[FONT=&quot]صعدت مع نسخة من رسالتي والنسخة الأصل، إلى ركني وطاولتي التي كانت خالية من الكتب المكدسة، وبدأت في مراجعة نصها ومقارنته بتمعن وإمعان، مع النسخة الأصل، مع انني أكاد أحفظ نصها، فأضفت النصوص العربية المقتبسة بخطي الرديء في الفراغات التي تركتها السيدة الطبَّاعة في خلال النص، أو في الحواشي، فاكتشفت في مراجعتها أن السيدة الطبَّاعة قد أغفلت كلمة هنا أو جملة قصيرة هناك، فأضفتها بقلمي الدقيق الرديء فوق السطور، وكان عليَّ أن أضيف كل ذلك في النسخ الباقية أيضاً، حين انتهي من مقارنة نسختي مع نسخة السيدة.[/FONT]
[FONT=&quot]أطبقت حقيبتي على النسخة الأصل من رسالتي التي لم أعد خائفاً وجلاً قلقاً عليها من السرقة أو الضياع، مع نسخة مطبوعة منها، فبدت حقيبتي وكأنها حبلى في شهرها الثامن، فتركت المكتبة، وركبت سايكلي مع حقيبتي متوجهاً إلى كلية كوربس كرستي، لأنه كان يوم إشرافي على الطالب اليهودي الذي كان يكتب في "تأثير الاسرائيليات في التفسير"، التي تسربت من روايات كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهم من اليهود الذين أسلموا في كتب التفاسير، ولما ركنت سايكلي، رأيته واقفاً بباب الكلية ينتظر وصولي، فحييته فأجابني وتلقف حقيبتي بيديه، وتسلقنا معاً السلالم إلى غرفته، ولما استقر بنا المقام، نظر إلى حقيبتي وقال: لعلك استعرت كتباً من المكتبة؟ فقلت له: افتحها وانظر إلى ما بها، ففتحها وتناول رسالتي بيديه، وبدأ يتصفح أوراقها، ويقرأ بعض نصوصها، ثم قال: أرى أنك قد قرأت بعضها وصححت فيها، فقلت له: نعم، وأنا مستمر في ذلك، فقال: ما قرأت فيها قد أعجبني جداً، وأنا مستعد أن أقرأها لك إذا أحببت، لكي أتعلم منها طريقة نقاشك، وأسلوب بحثك في المصادر، فقلت له: لا بأس، تعال غداً إلى المكتبة حتى أزودك بنسخة منها.[/FONT]
[FONT=&quot]والآن ماذا حول بحثك في الاسرائيليات، فقال: أجد صعوبة جمة في معرفة الخبر إن كان مقتبساً من الاسرائيليات أو من الأساطير الأخرى، لأن المفسر قد لا ينسب الخبر إلى راوٍ معين، أما إذا رواه بالسند إلى كعب أو وهب أو عبد الله بن سلام أو غيرهم فإن الأمر واضح لي لا التباس فيه، فقلت له: للتأكد من ذلك يجب عليك مقارنة الخبر نفسه في عدة تفاسير اذا ما ذكروه، فلعل أحدهم ينسبه لراوٍ معينٍ قد أغفله الآخرون . [/FONT]
[FONT=&quot]وهناك أمر آخر يجب أن تأخذه بالحسبان، وهو أن الأخبار الإسرائيلية في ما يذكره كثير من المفسرين والمؤرخين فكثيرة جداً، وبخاصة في أخبار أنبياء بني إسرائيل، فإذا كان الخبر مناقضاً لأي مبدأ إسلامي، فأعلم بأنه خبرٌ مزورٌ مدسوس أو مختلق اختلقه القصاصون والوضاعون دون شك، فقال: هذه نقطة مهمة لم أفكر بها من قبل. [/FONT]
[FONT=&quot]فقلت له: وهل سبق لك أن فكرت في ما هو مدسوس في كتابكم ومختلق فيه؟ فانتفض كأن ثعباناً لسعه، فقال: ماذا تقول يا معلمي؟ فقلت له: لقد سمعتَ ما قلتُ لك، وأكرر قولي: هل توراتُك خالية من الكذب والاختلاق؟ فقال: طبعاً خالية من ما تدعيه، فقلت له: تمهل ولا تغضب عليَّ، فإننا نتناقش نقاشاً علمياً صرفاً لا نتحيز فيه لدين، فدعنا نحكِّم المنطق والعقل قبل أن نحكم العاطفة والإيمان، فأنا أفهم جيداً بأنك تعتقد في أن التوراة كتابٌ أنزله الله على موسى وهو منذ نزوله إلى الآن لم يطرأ عليه تحريف أو تبديل، أليس هذا اعتقادك؟ فقال: بلى!! ولا أشك في ذلك، فقلت له: لك كل الحق في هذا الاعتقاد، ولكن قل لي: هل كان كتاب التوراة مباحاً لكل اليهود؟ قال: لا، إلا أنه كان مباحاً للخاخامات وهم يفسرونه للعامة، فقلت له: هل يمكنك أن تخبرني متى تمت كتابة التوراة؟ فقال: منذ زمن موسى، فقلت له: معلوماتك التاريخية تحتاج إلى صقل، فقد جاء فيها أخبار تشير إلى ما بعد وفاة موسى مما يدل على انها كتبت بعده، ولما غزا أحد ملوك مصر أورشليم أخذ خزائن بيت الرب، وخزائن بيت الملك، وأخذ كل شيء، أليس هذا في سفر الملوك؟ قال: بلى. فقلت له: ولما زحف نبوخذ نصر الثاني على القدس في عام 586 قبل الميلاد أحرق معبد الاله يهوا ودمر القدس، وأخذ النخبة والاغنياء والكهنة ونقلهم إلى بابل، وبحسب التوراة أيضا، فإن البابليين قتلوا أبناء الملك صدقيا أمام عينيه ثم اقتلعوا عينيه وسبوه ونقلوه الى بابل، أليس هذا في التوراة؟ قال: بلى.[/FONT]
[FONT=&quot]قلت له: والمعروف تاريخياً أيضاً إن بداية تدوين التوراة تعود الى القرن السابع قبل الميلاد، وقد أعاد الكاهن عزرا كتابتها بعد أن عاد من المنفى في الفترة الفارسية، وأعاد تعليم التوراة في القدس كما جاء في سفر نحميا، فهل قلت أنا شيئاً من عندي أو من كتابك؟؟ [/FONT]
[FONT=&quot]فقال: عجيب أمرك!! فقلت له: وأين العجب؟ قال: العجيب في اهتماماتك المختلفة وحفظك للحوادث، فقلت له: هل تعلم بأنني قرأت التوراة والإنجيل مراراً وتكراراً ونقَّبتُ في تاريخهما في المصادر المختلفة من أجل بحثي ورسالتي، وسوف تجد ذلك في رسالتي عند ما تقرأها، فقال: لقد شوقتني كثيراً لقراءة رسالتك، فقلت له: كما أنك شوقتني لمعرفة نتائج بحثك في تأثير الاسرائيليات على المفسرين،[/FONT]
[FONT=&quot]فلما أردت الانصراف، قال: لا يمكن ذلك إلا إذا شاركتني في شرب الشاي وأكل الحلويات. [/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (86):[/FONT]
[FONT=&quot]مرت الأيام تتلوها الأيام، والروتين اليومي يكاد يكون نفسه، فقد اعتذرت للطالبة المشاكسة عن دعوة العشاء، وتعللت لها بأنني لو قبلتها، فكأنني قد قبلت الرشوة منها، فيتغير تصرفي معها، فلم تقتنع، وخيرتها بنقل إشرافي عليها إلى محاضر آخر، إلا أنها أصرت على أن تكون تحت إشرافي، ولن تقبل بإشراف محاضر آخر، لأنها تعودت على أسلوبي وطريقتي في النقاش، ولم تزل تأمل في أن أبدِّل موقفي من دعوة والديها للعشاء معهم وليست دعوتها. [/FONT]
[FONT=&quot]وفي الوقت نفسه تسلمت عشر نسخ من رسالتي مع قائمة بالتكاليف من مكتب طبع الرسائل الجامعية، فنقدتهم التكاليف، وأسرعت بنسخة منها إلى السيدة في المكتبة، فبادرتني بالسؤال عن ما جرى في مهرجان الألعاب مع بنت النادلة، لأنني لم أرها منذ ذلك اليوم، فاخبرتها بالتفاصيل، ولشدة عجبي ودهشتي، انفجرت بالضحك المتواصل، وأنا واقف مشدوه أمامها، ولم أجروء على سؤالها عن سبب ضحكها. [/FONT]
[FONT=&quot]ثم قالت: يا فلان لقد كان الجو في جانبك، فلم تحتج إلى عذر تقدمه لها أو اعتذار، فتخلصتَ من المنغصات والمشكلات التي كانت ستسببها لك هذه البنت المراهقة في مهرجان الألعاب مع الشبان المراهقين، فقلت لها: نعم، صدقت، فربَّ مصادفة خير من التقصد، ولقد نجوت من الحرج مع أمها أيضاً. [/FONT]
[FONT=&quot]ثم قالت: على أية حال، اترك هذه النسخة عندي لمدة أسبوع، واقرأ أنت نسخةً أخرى، ثم نقارن بعد ذلك بين عملي وعملك، فقلت لها: وهو كذلك، ودعوتها لشرب القهوة معي، فقالت: أنا مشغولة الآن، فودعتها، ونزلت إلى الكافيتريا لأستمتع بكوب من القهوة الساخنة مع بعض الحلويات. [/FONT]
[FONT=&quot]صعدت مع نسخة من رسالتي والنسخة الأصل، إلى ركني وطاولتي التي كانت خالية من الكتب المكدسة، وبدأت في مراجعة نصها ومقارنته بتمعن وإمعان، مع النسخة الأصل، مع انني أكاد أحفظ نصها، فأضفت النصوص العربية المقتبسة بخطي الرديء في الفراغات التي تركتها السيدة الطبَّاعة في خلال النص، أو في الحواشي، فاكتشفت في مراجعتها أن السيدة الطبَّاعة قد أغفلت كلمة هنا أو جملة قصيرة هناك، فأضفتها بقلمي الدقيق الرديء فوق السطور، وكان عليَّ أن أضيف كل ذلك في النسخ الباقية أيضاً، حين انتهي من مقارنة نسختي مع نسخة السيدة.[/FONT]
[FONT=&quot]أطبقت حقيبتي على النسخة الأصل من رسالتي التي لم أعد خائفاً وجلاً قلقاً عليها من السرقة أو الضياع، مع نسخة مطبوعة منها، فبدت حقيبتي وكأنها حبلى في شهرها الثامن، فتركت المكتبة، وركبت سايكلي مع حقيبتي متوجهاً إلى كلية كوربس كرستي، لأنه كان يوم إشرافي على الطالب اليهودي الذي كان يكتب في "تأثير الاسرائيليات في التفسير"، التي تسربت من روايات كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهم من اليهود الذين أسلموا في كتب التفاسير، ولما ركنت سايكلي، رأيته واقفاً بباب الكلية ينتظر وصولي، فحييته فأجابني وتلقف حقيبتي بيديه، وتسلقنا معاً السلالم إلى غرفته، ولما استقر بنا المقام، نظر إلى حقيبتي وقال: لعلك استعرت كتباً من المكتبة؟ فقلت له: افتحها وانظر إلى ما بها، ففتحها وتناول رسالتي بيديه، وبدأ يتصفح أوراقها، ويقرأ بعض نصوصها، ثم قال: أرى أنك قد قرأت بعضها وصححت فيها، فقلت له: نعم، وأنا مستمر في ذلك، فقال: ما قرأت فيها قد أعجبني جداً، وأنا مستعد أن أقرأها لك إذا أحببت، لكي أتعلم منها طريقة نقاشك، وأسلوب بحثك في المصادر، فقلت له: لا بأس، تعال غداً إلى المكتبة حتى أزودك بنسخة منها.[/FONT]
[FONT=&quot]والآن ماذا حول بحثك في الاسرائيليات، فقال: أجد صعوبة جمة في معرفة الخبر إن كان مقتبساً من الاسرائيليات أو من الأساطير الأخرى، لأن المفسر قد لا ينسب الخبر إلى راوٍ معين، أما إذا رواه بالسند إلى كعب أو وهب أو عبد الله بن سلام أو غيرهم فإن الأمر واضح لي لا التباس فيه، فقلت له: للتأكد من ذلك يجب عليك مقارنة الخبر نفسه في عدة تفاسير اذا ما ذكروه، فلعل أحدهم ينسبه لراوٍ معينٍ قد أغفله الآخرون . [/FONT]
[FONT=&quot]وهناك أمر آخر يجب أن تأخذه بالحسبان، وهو أن الأخبار الإسرائيلية في ما يذكره كثير من المفسرين والمؤرخين فكثيرة جداً، وبخاصة في أخبار أنبياء بني إسرائيل، فإذا كان الخبر مناقضاً لأي مبدأ إسلامي، فأعلم بأنه خبرٌ مزورٌ مدسوس أو مختلق اختلقه القصاصون والوضاعون دون شك، فقال: هذه نقطة مهمة لم أفكر بها من قبل. [/FONT]
[FONT=&quot]فقلت له: وهل سبق لك أن فكرت في ما هو مدسوس في كتابكم ومختلق فيه؟ فانتفض كأن ثعباناً لسعه، فقال: ماذا تقول يا معلمي؟ فقلت له: لقد سمعتَ ما قلتُ لك، وأكرر قولي: هل توراتُك خالية من الكذب والاختلاق؟ فقال: طبعاً خالية من ما تدعيه، فقلت له: تمهل ولا تغضب عليَّ، فإننا نتناقش نقاشاً علمياً صرفاً لا نتحيز فيه لدين، فدعنا نحكِّم المنطق والعقل قبل أن نحكم العاطفة والإيمان، فأنا أفهم جيداً بأنك تعتقد في أن التوراة كتابٌ أنزله الله على موسى وهو منذ نزوله إلى الآن لم يطرأ عليه تحريف أو تبديل، أليس هذا اعتقادك؟ فقال: بلى!! ولا أشك في ذلك، فقلت له: لك كل الحق في هذا الاعتقاد، ولكن قل لي: هل كان كتاب التوراة مباحاً لكل اليهود؟ قال: لا، إلا أنه كان مباحاً للخاخامات وهم يفسرونه للعامة، فقلت له: هل يمكنك أن تخبرني متى تمت كتابة التوراة؟ فقال: منذ زمن موسى، فقلت له: معلوماتك التاريخية تحتاج إلى صقل، فقد جاء فيها أخبار تشير إلى ما بعد وفاة موسى مما يدل على انها كتبت بعده، ولما غزا أحد ملوك مصر أورشليم أخذ خزائن بيت الرب، وخزائن بيت الملك، وأخذ كل شيء، أليس هذا في سفر الملوك؟ قال: بلى. فقلت له: ولما زحف نبوخذ نصر الثاني على القدس في عام 586 قبل الميلاد أحرق معبد الاله يهوا ودمر القدس، وأخذ النخبة والاغنياء والكهنة ونقلهم إلى بابل، وبحسب التوراة أيضا، فإن البابليين قتلوا أبناء الملك صدقيا أمام عينيه ثم اقتلعوا عينيه وسبوه ونقلوه الى بابل، أليس هذا في التوراة؟ قال: بلى.[/FONT]
[FONT=&quot]قلت له: والمعروف تاريخياً أيضاً إن بداية تدوين التوراة تعود الى القرن السابع قبل الميلاد، وقد أعاد الكاهن عزرا كتابتها بعد أن عاد من المنفى في الفترة الفارسية، وأعاد تعليم التوراة في القدس كما جاء في سفر نحميا، فهل قلت أنا شيئاً من عندي أو من كتابك؟؟ [/FONT]
[FONT=&quot]فقال: عجيب أمرك!! فقلت له: وأين العجب؟ قال: العجيب في اهتماماتك المختلفة وحفظك للحوادث، فقلت له: هل تعلم بأنني قرأت التوراة والإنجيل مراراً وتكراراً ونقَّبتُ في تاريخهما في المصادر المختلفة من أجل بحثي ورسالتي، وسوف تجد ذلك في رسالتي عند ما تقرأها، فقال: لقد شوقتني كثيراً لقراءة رسالتك، فقلت له: كما أنك شوقتني لمعرفة نتائج بحثك في تأثير الاسرائيليات على المفسرين،[/FONT]
[FONT=&quot]فلما أردت الانصراف، قال: لا يمكن ذلك إلا إذا شاركتني في شرب الشاي وأكل الحلويات. [/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (87):[/FONT]
[FONT=&quot]جاء الطالب اليهودي في اليوم التالي إلى المكتبة، وصعد إلى ركني، فسلمته نسخة من رسالتي وقلت له: أنظر الصفحات كذا وكذا، فإنك تجد فيها ما قلت لك عن كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام، وتجد فيها أيضاً قول عمر بن الخطاب لكعب الأحبار: "لتتركن الحديث عن الأُول أو لألحقنك بأرض القردة"، وأن ابن عباس نعته بالكاذب، وإنك لتجد فيها بعضَ من كتب عن الاسرائيليات في الحديث والتفسير مثل: ساميول روزنبلات وماكس كرونباوم، وكلاهما يهودي قوقازي مثلك، وجيمس روبسون أيضاً وغيرهم.[/FONT]
[FONT=&quot]وأود أيضاً أن أُثيرَك فتقرأ سفر نحميا جيداً، بعيداً عن المشاعر الدينية التي تؤمن بها بل كنص تاريخي، ولا تنس ما جاء فيه عن جشم العربي، رئيس قبيلة قيدار العربية، ووقوفه ضد نحميا في ترميم سور أورشليم وأبوابه التي أحرقها نبوخذنصر البابلي. [/FONT]
[FONT=&quot]وانظر الأصحاح الثامن لتعلم اسم الكاهن الكاتب الذي أعاد كتابة التوراة بعد السبي البابلي، حيث جاء فيه "<واجتمع كل الشعب كرجل واحد الى الساحة التي امام باب الماء، وقالوا لعزرا الكاتب: ان ياتي بسفر شريعة موسى التي امر بها الرب اسرائيل>". [/FONT]
[FONT=&quot]فقال وقد بدأ مندهشاً: من أين لك كل هذه المعلومات يا معلمي؟ فقلت له: من قراءة كتابكم يا فلان وليست وحياً من السماء، وأحسب أنك قادر أيضاً على حفظ الكثير مما تقرأ في كتب التفسير، إذا كان لك اهتمام شديد بذلك، حتى تجادل المسلمين أيضاً، وهذه المعرفة لا تتأتى إلا بالمثابرة والجد والحرص على التعلم، وقد سبق لي أن قلت لك بأنني قرأت التوراة والإنجيل مضطراً مراراً لحاجة بحثي لذلك، فحرَّك رأسه يائساً، وقال: أنا لا أريد أن أجادل أحداً في اعتقاده، وكل همي أن أنال الشهادة لأجد عملاً، وليبق كل أنسان على دينه ومعتقده، كما يشاء. [/FONT]
[FONT=&quot]فقلت له: يا فلان، إنك تناقض نفسك، فقال: كيف يا معلمي؟ قلت له: ألم تكتب أنت لي بقلمك على نسخة الإنجيل التي قدمتها لك في غرفتك، بأن يسوع "نغل" وُلِدَ من سفاح مريم مع جندي روماني؟ فقال: هذا ما يعتقده كل اليهود، وقد كتبت هذا الاعتقاد لأنني يهودي أيضاً، فقلت له: ألا ترى في هذا القول تناقضاً واضحاً مع قولك: ليبق كل إنسان على دينه ومعتقده؟ فقال: اعذرني يا معلمي، فإنني لا أرى أيَّ تناقض بينهما، فنهض ورسالتي بيده، واستأذن في الانصراف، وقد اربدَّ وجهه من الغضب والحيرة. [/FONT]
[FONT=&quot]فقلت له: يا فلان حافظ على النسخة واقرأها بتأنٍ واقتبس منها إذا شئت، فقال: شكراً كثيراً، وسأخبرك عن انطباعي عنها في ساعة الإشراف القادمة. [/FONT]
[FONT=&quot]عدت إلى قراءة رسالتي، فأحسست بالظمأ، فتركت القراءة وأسرعت إلى الكافتيريا، وطلبت كوباً من القهوة وبعض الحلويات وكأساً من ماء، وانتحيت بها مكاناً قصياً في آخر القاعة لأستمتع بما اشتريت، ولأبتعد عن ثرثرة الحاضرين، [/FONT]
[FONT=&quot]ولما كدت انتهي من قهوتي وحلوياتي، إذ مرَّت نادلة الكافيتريا من أمام طاولتي لأخذ الكأس الفارغة والصحن الفارغ، فقالت لي: أتعرف فلاناً العراقي الذي يدرس كذا عند الاستاذ فلان؟ فقلت لها: نعم، أعرفه، ولكن لم يسبق لي التحدث معه، لأنه انعزالي حتى عن الطلبة العرب، فقالت: أريد بعض المعلومات عنه لأنه طلب مني الزواج، فقلت لها: لماذا لم تأخذي المعلومات منه، قالت: أود أن أسمع بعض ما أخبرني عنه من مصدر آخر للتأكد، فقلت لها: لا أعرف عنه إلا القليل، فهو من مدينة تقع في شمال العراق، وغير هذا لا أعرف عنه شيئاً آخر، لأنني لست فضولياً فأدسُّ أنفي في الأمور الشخصية لأي طالب عربي أو طالبة، فقالت: هل بين الطلاب من يعرف شيئاً أكثر مما تعرفه عنه؟ فقلت لها: يؤسفني جداً أن أقول لك: لا أعرف ذلك، فقالت: أرجو أن تبقى محادثتنا بيني وبينك، فقلت لها: بالتأكيد، فانصرفت إلى عملها. [/FONT]
[FONT=&quot]وقد علمت في ما بعد أنهما تزوجا، ولما أكمل دراسته سافر معها إلى العراق، إلا أنها لم تتأقلم مع بيئته أو معه، فتطلقت منه، وعادت إلى العمل في كافيتريا المكتبة.[/FONT]
[FONT=&quot]عدت أدراجي إلى ركني وطاولتي فلم أجد في نفسي الرغبة لمواصلة القراءة، فدسست رسالتي مع النسخة الأصل في حقيبتي، وتركت المكتبة دون أن أمرَّ على السيدة المسؤلة عن الكتب، وأخذت سايكلي بيدي وعليه حقيبتي الحبلى وسرت بهما ماشياً عبر الكليات إلى مركز المدينة، فيممت شطر مقهى الطليان، فلما دخلت إليها أسرعت النادلة إليَّ وقالت: ابنتي يا فلان، قد هربت، أغراها أحد الشبان المراهقين فهرب معها إلى مدينة كرتنا كرين Gretna Green الواقعة على الحدود بين سكوتلندة وانكلترة للزواج بها، لأنها قاصر حيث يسمح القانون الاسكوتلندي بذلك ولا يسمح القانون هنا، فقلت لها: وماذا ستفعلين؟ قالت: لا أدري!! قلت لها: وأنا كذلك، ولكنني أتوقع أن قضاة الزواج هناك سوف ينصحونهما أولاً بالتريث، فإذا أصرَّا فلا بدَّ أن يعقدوا زواجهماً قانونياً، ولكن السؤال: هل هذا العقد معترف به في انكلترا؟ قالت: نعم، فقلت لها: ما لديك حيلة إلا الانتظار، فلعلك تكسبين زوجاً جيداً لابنتك؟؟ فقالت: أرجو ذلك. [/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
[FONT=&quot](من دفتر الذكريات (88):[/FONT]
[FONT=&quot]مرَّت أيام الاسبوع ثقيلةً مملةً، وبدأ الجو يميل إلى الدفء والتحسن، إلا إن هطول المطر لم ينقطع تماماً، واستمر عملي في قراءة رسالتي في البيت وفي المكتبة، ومقارنتها بالنسخة الأصل، وإضافة بعض الاقتباسات العربية في مواضعها، وتتبع ما أغفلته الطبَّاعة أو أخطأت في طباعته، حتى انتهيت منها، ولكنني لم أستطع أن ألمس بقية النسخ حتى تنتهي السيدة في المكتبة من قراءة النسخة التي عندها ومن ثم مقارنتها مع نسختي ليتسنى لي تصحيح بقية النسخ.[/FONT]
[FONT=&quot]ومع مرور الاسبوع فإنني لم أر منها أية بادرة تنبيء بأنها قرأتها أو انتهت منها، مع أنني كنت أرتاد ركني وطاولتي في المكتبة يومياً، إلا أنني لم أجروء على زيارتها في مكتبها وسؤالها عن رسالتي، خشيةَ إحراجها، فلعلها لم تجد وقتاً لقراءتها أو أن أمراً حدث لها فشغلها عن قراءتها؟ [/FONT]
[FONT=&quot]نزلت من ركني إلى الكافتيريا وطلبت كأساً من الشوربة والخبز، وانتحيت بهما إلى طاولة في أقصى القاعة، كعادتي في توخي الابتعاد عن الناس، ولما انتهيت منهما، رمقت السيدة وهي تهبط في السلم إلى الكافتيريا، فلم ترني إلا حينما أخذت كأس القهوة بيدها، ونظرت حواليها لتختار مكاناً لجلوسها، رأتني فاتجهت نحو طاولتي، مع وجود بعض زملائها في الكافتيريا، فنهضت احتراماً لها، واستأذنتْ في الجلوس معي فرحبتُ بها، ولما استقر بها الجلوس، قالت: لماذا لم تزرني في مكتبي؟ فقلت لها: الحق أقول: ما وددتُ إحراجك، إذ قلت في نفسي: لعل شيئاً حدث لها فشغلها، فلم يكن لديها وقت لتنظر في رسالتي؟ فقالت: هذا الذي أحبه فيك: الصدق في القول، فقلت لها: هل حدث لك أن قرأت قول النبي صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان"؟ قالت: نعم، قرأته في مكان ما، وهو ينطبق على الكثير من البشر، بينما الشق الثاني أراه عملياً في كثير من بني قومك، فقلت لها: كيف ذلك؟ فقالت: تجربتي مع العرب عموماً تجعلني لا أثق بوعودهم، فهم يعدونك الكثير إذا كانوا أمامك ولكنهم ينسون أو يتناسون هذه الوعود حالما يديرون لك ظهورهم، فقلت لها: ولا تجدين كلَّ هذا في بني قومك وجنسك؟ وتاريخكم الاستعماري يعج بخلف الوعد وخيانة الشعوب؟! فقالت: آسفة وأعتذر عن تهوري، ونهضت من كرسيها وقد احمرَّ وجهها، وقالت: زرني في مكتبي فقد انتهيت من قراءة رسالتك، فقلت لها: شكراَ جزيلاً على جهدك وعنائك في قراءتها، وسوف أمرُّ عليك قبل أن أترك المكتبة. [/FONT]
[FONT=&quot]قررت أن أتركها ساعة أو أكثر حتى يخف غضبها أو خجلها، فكان حدسي في محله إذ بدت هادئة حين زرتها، فقالت لي: يا فلان، لقد كنت قاسياً معي، فقلت لها: الحقيقة مرَّة يا سيدتي وقول الصدق لا يتقبله كل إنسان، وقد صدقتك في الحالين، فقالت: صدقت، وأنت على حق، فأرجو قبول اعتذاري، فقلت لها: وارجو قبول اعتذاري أيضاً إذا كنت قاسياً معك، فابتسمت، وقالت: خذ رسالتك هذه وقارنها مع ما لديك وعلِّم على ما تراه في هذه النسخة بالقلم الأحمر، حتى أرى الفروق بينهما، فقلت لها: نعم، سأفعل، فودعتها وانصرفت. [/FONT]
[FONT=&quot]تركت المكتبة وفي حقيبتي ثلاث نسخ: النسخة الأصل مع نسختي التي صححتها، ونسخة السيدة التي تسلمتها تواً منها، وقُدْتُ سايكلي بيدي وعليه حقيبتي الثقيلة مفتوحة، فبدأت دواليبه تئن من حمل النسخ الثقال، عبر الكليات ميمماً شطر مقهى الطليان، فبدأ المطر ينهمر خفيفاً، فلم أجد ما أغطي النسخ من المطر إلا أن أقلب حقيبتي بطناً لظهر حتى لا يتسرب ماء المطر إلى النسخ. [/FONT]
[FONT=&quot]ولما وصلت إلى المقهى رحبت بي النادلة وكانت ابنتها معها، فاستغربتُ من وجودها، فقالت أمها: لقد كان توقعك صائباً، فإن قضاة الزواج في كريتنا كرين نصحوهما بالتريث، وأقنعوهما بأن يصبرا، حتى يجد الشابُ عملاً وتُكمل البنتُ دراستها، فوافقا وعادا، وأنا سعيدة، ومسرورة بهذا الحل منهما. [/FONT]
[FONT=&quot]بدأ المطر ينهمر غزيراً في الخارج، ولم يكن لدي ما أغطي به النسخ إذا ما حملتها على سايكلي إلى البيت، فجلست مع قهوتي انتظر انقطاع المطر، فسألت النادلة إن كان عندها حلٌ؟ فذهبت ثم جاءت ومعها شمسية كبيرة قد تكسرت أسلاكها المعدنية، وبقي قماشها الشمعي سليماً، فشكرتها على الفكرة المبتكرة، فانتزعتُ القماش من الأسلاك المعدنية ولففت به حقيبتي.[/FONT]
[FONT=&quot]بدأ المطر يخفُّ هطوله فانتهزت الفرصة وركبت سايكلي بعد أن أوثقت حقيبتي شداً ورائي، إلا أن سايكلي بدأ يترنح يمنة ويسرى من ثقلي وثقل حقيبتي، فآثرت أن أنزل عن مطيتي خوف الخذلان في الطريق وتحت المطر، حتى وصلت إلى البيت، فلاحظت الضوء في غرفتي فحدست أن تكون مس بين فيها وأنها الآن دافئة، فكان كما ظننت، إذ حالما فتحت الباب الخارجية ورميت حقيبتي في جانب غرفتي ملفوفة بالقماش الشمعي المبلل، سلمت على مس بين فردت، وهي لا تحوِّل نظرها عن الكومة التي رميتها، فقالت: أولاً أسرع وأبدل ثيابك المبللة، ففعلت، فلما نزلت إلى غرفتي، قالت: ماذا جئت به اليوم في هذه الكومة السوداء؟ قلت: ثلاث نسخ من رسالتي، فانفجرت بالضحك، فلما هدأت، قالت: هذه الكومة السوداء تذكرني بولادة عجل أسود كان عندنا في القرية وأنا صغيرة، إذ حالما ولدته أمه البقرة كان مكوماً مثل كومتك هذه، وهذا الذي أضحكني، والآن قل لي: لماذا ثلاث نسخ في حقيبة لا تسعها كلها؟ فحكيت لها القصة بالتفصيل مع حديثي مع السيدة، ولما وصلت إلى قولي للسيدة: ولا تجدين كلَّ هذا في بني قومك وجنسك؟ وتاريخكم الاستعماري يعج بخلف الوعد وخيانة الشعوب؟! نظرت إليَّ مس بين، وقد بان الغضب في وجهها، فقالت: إنك لم تحسن الرد عليها يا ولدي، فقلت لها: وكيف لم أحسن الرد عليها؟ قالت: كان المفروض أن تقول لها: قومك هم أكذب الكاذبين، وأسوأ الأقوام خداعاً، وأرذل الأقوام عنصرية وطبقية وانتهازية، وكان عليك أن تقول لها: انظري إلى ما فعل قومك في الامريكتين مع سكانها وفي الهند والشرق الأوسط وسرقة الأفارقة واستعبادهم في أمريكا وجنوب افريقيا وترينيداد ويقية المستعمرات التي أبدتم فيها سكانها الأصليين، فقلت لها: أنا أعرف كل هذا، ولكنني حفظت لها الود الذي بيننا لأنها ساعدتني كثيراً في بحثي، ثم ما ذنبها إذا كان بعض قومها مجرمين، فقالت: صدقت يا ولدي.[/FONT]
[FONT=&quot]أستأذنت مس بين لعبور الشارع إلى الكلية لتناول وجبة العشاء، فقالت: بالصحة والشفاء، ولا تنس صحن الربربر فوق الموقد، فقلت لها: لا أبداً، وهل ينسى المحب حبيبه؟؟؟ [/FONT]
[FONT=&quot](له صلة).[/FONT]
 
عودة
أعلى