ذكريات أو مذكرات الدكتور قاسم السمرائي

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
ارجو أن يسرع مركز تفسير لطباعة هذه المذكرات-بعد اكتمالها- قبل أن يطبعها غيرهم
السبق!
(تواصلوا مع الدكتور قاسم لطباعتها)
من دفتر الذكريات (1):
كان أحد المستشرقين الهولنديين زميلاً لي في القسم، فنشر كتاباً في تبيان خطل بعض تعاليم الإسلام، واقتبس كتاب السيف المسلول على من سبَّ الرسول للسبكي فترجمه: السيف الذي أصابه داء السلّ، فانظر إلى مدى معرفة بعض هؤلاء بالإسلام وبلغة العرب!!!
https://www.facebook.com/q.samarrai?pnref=story
 
من دفتر الذكريات (2):
قال لي زميلي المستشرق الهولندي في القسم: العرب لا تعرف العربية، فقلت له: وهل تعرف أنت العربية؟ فإنك تكلم عربياً أمامك بالهولندية؟ فبهت الذين كفروا !!!
 
من دفتر الذكريات (3):
قال لي أحد الكتبيين في حي الحسين بالقاهرة: أتعرف فلاناً المستشرق الهولندي؟
فقلت: صفه لي، فلما وصفه عرفت من هو، واستصحبني هذا الكتبي لزيارة الشيخ الأزهري عبد الحميد الشيمي رحمه الله في بيته، فسألني عن هذا المستشرق فأخبرته بمعرفتي إياه.
فقال: إنه مسلم وقد صلى على سجادتي هنا وسبح بمسبحتي،
فقلت في نفسي: لعل الله هداه،
وكان هذا المستشرق يسكن معي في المعهد الهولندي بالزمالك، فلما عدت للمعهد وجدته في المطبخ فقلت له: سمعت بأنك أسلمت؟
فقال لي: نعم،
فقلت له: نحن هنا في المطبخ، فأرجو أن تشير لي إلى إتجاه القبلة؟
فبهت الذين كفروا !!!
 
من دفتر الذكريات (4):
زار أحد العلماء المسلمين معهداً للاستشراق، فقال: رأيت يهودياً يعلم القرآن للنصارىّ!!!
وقد علمتني تجاربي الطويلة معهم ان من يدرس الديانات الهندوكية والبوذية والتاوية والسيخية والقاديانية والبابية والبهائية واليهودية والسريانية والفرعونية منهم تراه متعاطفاً مع أهلها.

فقلت يوماً لأحد المستشرقين المهتمين بالعربية والإسلام: هل لك أن تفسر لي لغزاً حيرني طويلاً؟؟؟
فقال: ما هو؟
قلت له: رأيت ان من يدرس أو يدرِّس الديانات - وذكرتها له - ولغاتها يكتب بموضوعية وحيادية عنهم، ورأيت ان أحدكم يكره ما درس وما يدرِّس ويكتب بمنظورغربي نصراني يفتقر إلى الموضوعية والحيادية إذا كتب عن العرب ولغتهم وعن الإسلام، فكأن أحدكم تزوج إمرأة يكرهها ولكنه مضطر إلى معاشرتها على كره منه لها، فلماذا درستم ديناً تمقتونه ولغة تكرهونها؟؟؟
فبهت الذين كفروا ولم يرد عليًّ جواباً.

 
من دفتر الذكريات (5):
حير الوحوش وبركــــة المتوكــل *** ترنو لقصــــر العاشـق المتبتل
وسباق فرسان الوغى في حومــة *** أشهى لقلبي من رحيق السـلسل
يا عبق سامـــراء يا أحلى شـــذى*** يــــا أجمـــــل الأحــلام للمتعلل
[عرم الزمان على الذين عهدتهم] *** يا قصر أيـام الزمــان المعجل!!!
 
من دفتر الذكريات (6):
أبانت لنا الأيام مـا كــــــان خافياً *** فحتى متى لا يستبين سبيـــلُ؟
وفي القوم منا لو أردت له الهدى *** تحامق كالخنزير حين يغــول
فحتى متى نشكو المذلــــة والعنا *** وفي القـوم منَّـــا خائنٌ وعميل؟؟؟
يعالننـا الســـرَّاق كـــــــلَّ بليِّـــة *** وما بيننا شهـمُ العِرَان يصول !!!
 
من دفتر الذكريات (7):
في أول دورة تدريبية عقدتها مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي في استانبول، وصلت إلى استانبول مساءاً، فكان عليَّ أن أبدأ محاضرتي في مكتبة السليمانية، في التاسعة صباحاً بعد اليوم الذي وصلت فيه، فأخذني النوم إلى الثامنة وعشرين دقيقة فهرعت الى الشارع دون إفطار وأوقفت أول تاكسي وقلت له: سليمانيه كتبخانه سي.
وكان صاحب التاكسي رجلاً مسناً، والظاهر أنه عرف من لهجتي بإنني عربي، فقال بلهجة عربية: وماذا تفعل في هذه المكتبة؟
فقلت: إلقي محاضرة على الطلاب
فقال: وهل من بين الطلاب أتراك؟
قلت: له: أتراك وغير أتراك من بلدان مختلفة،
فسار بي مسرعاً عبر الأزقة المتعرجة حتى أوصلني إلى المكتبة قبيل ساعة المحاضرة بدقائق، وكان الدكتور شريفي وهو أمين عام مؤسسة الفرقان إذ ذاك واقفاً قلقاً ينتظر وصولي،
فأردت دفع اجرته، فقال: حرام حرام أنت تدرس طلابنا وآخذ منك أجرة؟
وأنا في خدمتك في أي وقت تشاء، فشكرته شكراً لا مزيد عليه.
 
من دفتر الذكريات (8):
يحظى بعض الكتاب العرب بخاصة وبعض المسلمين برعاية خاصة عجيبة في الجامعات الغربية ووسائل النشر والإذاعة فيها، فقد دعت جامعة لايدن في السبعينات الكاتب المصري محمد سعيد العشماوي، لإلقاء بعض المحاضرات على طلبة الدراسات الاستشراقية، وكنت مرافقاً له في بعض محاضراته، فدعوته يوماً إلى المقهى الذي كنا نرتادها دائما لقربها من الجامعة.
ولأن هذا المقهى كان بيتاً للمشرف على السجن الواقع أمام المقهى والذي تحول إلى كلية الحقوق، وقد سمينا هذه المقهى "الكنيسة" في ما بيننا.
فلما انتهينا من الحديث العام قلت له: يا استاذ عشماوي هل خطر ببالك إن دعوتك هذه لم تكن لعلمك ولا تقديراً لكتبك؟ لقد دعوك حتى يكون انتقاد الإسلام وثوابته على لسان مسلم وهو الآن أنت، فإذا انتهيت من هذا الدور لفظوك كما تلفظ نواة التمر من فمك؟
فقال لي: ما أظن ذلك، فقلت له: هذا رأي أراه واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
وكان الأمر معه كما قلت له.

ودعت جامعة لايدن محمد أركون الجزائري، ولما انتهى دوره أعارته إلى جامعة أمستردام الحكومية وهذه استغلته وقتاً وأنهت خدمته لها بدعوى انتهاء المبلغ المرصد لعمله.
ثم دعت نصر حامد أبو زيد المصري، وتم معه بالضبط ما حدث لأركون، فقد انتهى دوره في جامعة لايدن التي أعارته لجامعة أترخت، وتعللت هذه بدعوى أخرى فعاد نصر حامد أبو زيد إلى القاهرة ليموت فيها.
ورحم الله أمرءاً اتعظ بغيره فاتعظ !!!
 
من دفتر الذكريات (9):
كان البروفسور يان بروخمان المتوفى في سنة 2004م يشغل كرسي الدراسات العربية الذي كان مقره في بيت المستشرق الهولندي المشهور كرستيان سنوك هورخرونيه، مستشار وزارة المستعمرات الهولندية في أندونيسيا، قبل أن يتم تعيينه أستاذاً في جامعة لايدن، وحدث أن دعا يان بروخمان السفيرين العراقي والسوري لحفلة شاي في غرفته، حين كان صدام حسين وحافظ الأسد رئيسا البلدين، وكلاهما ينتمي لحزب البعث، وكنت إذ ذاك محاضراً في هذا القسم، ولما انتهوا من تناول الشاي وما يرافقه من حلويات، وقفا سوية للوداع، إلا أن السفير السوري لاحظ لوحة خشبية دكناء اللون مثبتتة في أعلى الحائط مكتوباً عليها سورة الفاتحة، لعل سنوك هورخرونيه جاء بها من أندونيسيا وعلقها في غرفته، فبدأ السفير السوري في قراءتها بصوت مسموع حتى انتهى منها، فالتفت للسفير العراقي قائلاً: من هم "الضالين" هنا؟ فسارع السفير العراقي، فقال: هم أنتم.
 
من دفتر الذكريات (10):
اعتادت بعض السفارات "الإسلامية" في لاهاي، على إقامة دعوات باذخة بمناسبة عيد العرش أو اليوم الوطني أو يوم الإستقلال وما أشبه، فتدعو إليها من تريد من الناس، وحدث أن أقامت إحدى هذه السفارات "الإسلامية" دعوة باذخة جداً وكنت أحد المدعوين إليها.
وكان أستاذ كرسي الدراسات الإسلامية في جامعة لايدن ضمن المدعوين أيضاً، وبعد العشاء الفاخر والفواكه الطازجة وكؤوس النبيذ الفاخر مع غيره من الأشربة، تجول المدعوون وبدأوا يشكلون حلقات للحديث، فكانت حلقتي وراء الحلقة التي كان فيها هذا الأستاذ، فسمعته يقول بالهولندية لصاحبه: "يدعونني وهم يظنون بأنني سأمدح دينهم".
وكان هذا الأستاذ ثملاً من خمر السفارة "الإسلامية" !!
 
من دفتر الذكريات (11):
نشر البروفيسور يان بروخمان أستاذ الدراسات العربية بجامعة لايدن، بالاشتراك مع البروفيسور يوان دروسارت لولوفس، أستاذ الدراسات اليونانية بجامعة أمستردام كتاب: "أرسطوطاليس في كون الحيوان، ترجمة من اليونانية إلى العربية نُسبت إلى يحيا بن البطريق"، ونشرته مؤسسة بريل المشهورة. وقد اعتمد الأستاذان على نسخة مخطوطة للكتاب محفوظة في مكتبة جامعة لايدن في جملة ما اعتمدا من نسخ مخطوطة للكتاب.

فأهدى إليَّ نسخة من الكتاب، كتب فيها: "إلى الدكتور قاسم السمرائي رمزا للصداقة والمحبة". فاستأذنته في أن اكتب مقالة حول الكتاب، وذلك بالرجوع إلى مخطوطة المكتبة فرحب بالفكرة إيما ترحيب.
فقارنت النص المنشور مع نص المخطوطة، فوجدت تفاوتاً كبيراً في قراءة النصوص، واستطعت أن أؤرخ سنة نسخها، وذلك بقراءة تقييد تملك مطموس لم يتعرض الأستاذان له، ولا يظهر منه إلا "بن المندائي وسنة التملك"، فإذا المتملك هو محمد بن أحمد بن المندائي المتوفى في سنة 605هـ بواسط وهو ابن القاضي أبي العباس أحمد بن بختيار بن المندائي المتوفى بواسط في سنة 552هـ، فأشرت إلى كل ذلك بوضوح متبعاً الطرق العلمية المعروفة دون شطط أو نقد، بل أكبرت في المقالة عملهما وما عانياه من جهد وما ابديا في الكتاب من علم جم. وقدمت المقالة له قائلاً: أرجو النظر فيها، فإذا كانت تستحق النشر نشرتها وإلا غضضت الطرف عنها، وأعادها بعد عدة أيام دون تصحيح أو تعليق، فقال: إنها مقالة جيدة فانشرها. فأرسلتها إلى مجلة مجمع اللغة العربية في دمشق فنشرها.
ومرت الأيام ورأيت أحد ثقاته بطريق المصادفة، فقال لي: ماذا فعلت؟
فقلت له: وماذا فعلت؟
قال: إن بروخمان غاضب عليك لأنك فضحته،
فأخبرته بتفصيل الحكاية، فتعجب،
فقال: أتعرف ماذا قال عنك؟
قلت له: قل!!
قال: إن السامرائي طعنني بخنجر في ظهري
فقلت له: لماذا لم يمنعني من نشر المقال؟
قال: هذا الذي جرى ولك أن تحكم، فشكرته على ثقته في النقل.

 
من دفتر الذكريات (12):
في سنة 1982 أقام معهد مقارنة الأديان ندوةً دعا إليها في من دعا البروفيسور مونتكومري واط، أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة أدنبرة في اسكتلنده، وكنت أحد المشاركين فيها ببحث عنوانه: "دراسة العهد النبوي (المزور) مع كل الفرق النصرانية المحفوظ في دير كاثرين بسيناء"، وكان هذا الأستاذ أحد من ناقشني في أطروحة الدكتوراه في كمبردج. ولما انتهى من إلقاء بحثه أراد أن يذهب إلى فندقه للاستراحة، فتطوعت بنقله في سيارتي الصغيرة - جداً، لأنه كان طويل القامة فلم يعبأ بذلك.
ولما وصلنا للفندق قال: تعال شاركني في شرب القهوة
فرحبت بذلك وشكرته على دعوته الكريمة.
وكنا وحدنا في بهو الفندق فأخذنا في الحديث عن مشاركته في نقاش رسالتي وغيرها من الموضوعات، فأردت معرفة رأية في أمر شغل بالي،
فقلت له: أستاذي أود أن أسألك سؤالاً قد يكون محرجاً لك، لأنني أعرف بأنك كتبت عن سيرة النبي في مكة وعن سيرته في المدينة وترجمة القرآن وعشرات المقالات حول جوانب متعددة عن الإسلام.
فقال لي: سل ولا تتحرج.
فقلت له: ما رأيك في مستقبل الإسلام في أوربا؟
فرد عليَّ بصرامة واضحة: مستقبل الإسلام في أوربا سيكون فوق كل التوقعات.
فشكرته وودعته كما يودع الطالب الممتن أستاذه.
 
من دفتر الذكريات (13):
أقامت جمعية ابن ميمون اليهودي البريطانية، ومقرها في لندن، ندوة دولية في مقارنة الأديان، ودعت إليها جملة من العلماء المهتمين بذلك، وكنت من ضمن من دعي إليها، فعقدتها في بناية سلطنة بروني المقابلة لمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية التابعة لجامعة لندن.
فألقيت بحثي حول أثر ابن سبأ في مباديء التشيع. وكان إلى جانبي في المنصة مايكل كوك مؤلف كتاب "الهاجرية" بالاشتراك مع باتريشيا كرون. فلما انتهى من بحثه التفت إليه وقلت له: مايكل، هذا البحث الذي ألقيته الآن أوثق علمياً وموضوعية من "الهاجرية" الذي أسأت أنت وباتريشيا فيه، فصمت ولم يرد عليَّ.
ولم أكد أتم كلامي حتى فوجيء الحاضرون بمعمم إيراني بعمامة سوداء مع حاشية تحف به، يدخل القاعة ويلقي محاضرة وهو واقف، باللغة الفرنسية التي لا أحسنها، وخرج مثل ما دخل، دون مناقشة أحد له في ما قال، وكأن الأمر كان مدبراَ. فاستعلمت من مايكل عنه فلم يعرفه ولم يعرف كنه الأمر وتعجب من ذلك، لأن برنامج الندوة الذي بين أيدينا لا يحتوى عليه.
 
قرأت أكثر من طلب لجمع ما أنشره من ذكريات ومواقف في كتاب، وهذا غيض من فيض، لعلّه يرى النور يوماً إن تيسرت له المكنة .. وإلى ذلك فتابعوها كما وردت ما وجدتم فيها فائدة.
وهي تحت هذا الوسم تيسيراً لجمعها لاحقاً
دمتم بخير
 
من دفتر الذكريات (14):
في الفصل الذي عقدته حول "الاستشراق في هولندا"، في كتابي: "الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية" (وهو ترجمة دقيقة لمصطلحين أوربيين هما Objectivity and Subjectivity) المنشور في الرياض في سنة 1983، تطرقت في هذا الفصل إلى تأثيركرستيان سنوك هورخرونيه على أفكار الاستشراق الهولندي، لأنه أشهر مستشرق هولندي معروف في الجزيرة العربية وفي أندونيسيا لنشاطه في هذين البلدين، وقد عُدَّ عميد العربية بعد كولدزيهر، وفي طليعة رواد الفقه الإسلامي والأصول والحديث في أوروبا.
وضربت مثالاً لهذا التأثير في اقتباس جزء من محاضرة ألقاها البروفيسور يان بروخمان في الجمعية الشرقية بلايدن في سنة 1969 حيث قال فيها: "إن معلومات محمد، في بداية دعوته، عن المسيحية، كما يبدو، كانت ناقصة، وذلك لأن الجزيرة العربية كانت معزولة تماماً في بداية القرن السابع، ومن المحتمل أنه كان هناك في شمال هذه الجزيرة الكبيرة وفي جنوبها بعض من استطاع المنصّرون النصارى تنصيرهم، بيد أنه لم يكن في زمن محمد إلا عدد ضئيل من النصارى". ولتأييد رأيه اقتبس قول تور أندريه، المستشرق السويدي، الذي افترض هو الآخر: "أن النبي كان قد سمع خطبة تنصيرية إلا أنه لم يفهم منها إلا أجزاء، وفهم البعض الآخر فهماً خاطئاً تسرب إلى تعاليمه".
وقد أهديث نسخة من كتابي إلى مكتبة الجامعة لعلمي الأكيد بأن أحد حوارييه - وكان مسؤولاً عن قسم المخطوطات والمطبوعات الشرقية، ويُصدر في الوقت نفسه مجلةً مختصة بالمخطوطات "فقط" على نفقة مكتبة الجامعة -، سوف يُطلعه على ما كتبت عنه، فكان الأمر كما توقعت، فكتب الأستاذ بروخمان مقالة انتقادية عنيفة لا تخلو من النقد الشخصي لي، فنشرها له هذا الحواري في مجلته المختصة بالمخطوطات "فقط" وليس بالمطبوعات، قال فيها ما معناه: " إن القلم الذي كتب هذا الكتاب ينقط سماً لم يخرج من قلم كاتب عربي قبله".
 
من دفتر الذكريات (15):
دعاني أحد مدرسي اللاهوت في إحدى المدارس الثانوية المختلطة أن ألتقي بطلبته الذين يسألونه عن الإسلام فلا يحسن إجابتهم، وكان هذا المدرس قد عمل سنين طويلة في مصر مع البعثات البروتستانتية، فاستجبت لدعوته وحضرت إلى المدرسة في الساعة التي اتفقنا عليها.
فلما دخلت الفصل معه لاحظت أن الطالبات يجلسن مع الطالبات والطلاب مع الطلاب، فقلت بعد تحيتي لهم: لقد دعاني أستاذكم لكي أجيب على أسئلتكم في ما يتعلق بالإسلام، ولذلك سوف لن ألقي عليكم محاضرة حول الإسلام وتاريخه أو عقائده ولكن أترك لكم الخيار في الأسئلة.
فانبرت إحدى الطالبات قائلة: لماذا يطلب الإسلام عزل الرجال عن النساء؟
فقلت لها: انظري إلى القاعة التي تجلسين فيها، فأنت تجلسين مع صاحبتك الطالبة وكذلك كل الطالبات يجلسن مع الطالبات بينما يجلس الطلاب مع الطلاب، فهل لك أن تفسري لي هذا؟
فقالت: إن حديثي مع صديقتي يختلف عن حديثي مع زميلي الطالب في أمور لا يفهمها الطالب،
فقلت لها: معنى قولك هذا: إن هناك فرقاً بينكما؟
فقالت: طبعاً،
فقلت لها: هذا هو بالضبط ما أراده الإسلام لأن حديث المرأة مع المرأة هو غير الحديث بين الرجل والمرأة لاختلاف طبيعتهما وتساوي هذه الطبيعة بين المرأة مع المرأة والرجل مع الرجل، فقالت: صدقت.

وانبرت طالبة أخرى فقالت: لماذا يسمح الإسلام بأربع زوجات، وعندنا ممنوع هذا؟
فقلت لها: هذا صحيح ولكن اسألي استاذك فهو أعرف مني بالتوراة وبالإنجيل، كم من الأنبياء السابقين كانت له أكثر من زوجة؟ ومع هذا فإن الإسلام حدد هذا بشرط العدالة بين النساء، وجاء في القرآن "فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً"، فأكد على العدل بينهن ولكنه قال: "فإن خفتم" أي إذا لم تستطيعوا أن تعدلوا فزوجة واحدة، وقال الله أيضاً: "وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ"، وهنا أكد القرآن على المشاعر الإنسانية عند الرجل، وأنه يصعب عليه العدل في مشاعره بين زوجاته حتى ولو حرص، فلا بدَّ إذاً من واحدة فقط إذا لم يستطع العدل.

وأزيدكم أمراً آخر: أتعرفون كم من الرجال قُتلوا في الحرب العالمية الأولى والثانية؟ خمسون مليون من الرجال ماتوا أو قتلوا في الحرب العالمية الثانية فقط.
وبقيت ملايين النساء اشتغل بعضهن في تمريض الجرحى وبعضهن في معامل إنتاج السلاح، وبقيتهن بلا معيل، وهذا قبل أن تسن الحكومات الأوربية قانون الضمان الاجتماعي، فهل من العدل الإنساني أن لا يعيلهن معيلٌ بدلاً من الانخراط في العمل الشائن بسبب الحاجة الحياتية؟

فوافقني بعض الطالبات والطلاب واعترض الباقون.
 
من دفتر الذكريات (15):
دعاني أحد مدرسي اللاهوت في إحدى المدارس الثانوية المختلطة أن ألتقي بطلبته الذين يسألونه عن الإسلام فلا يحسن إجابتهم، وكان هذا المدرس قد عمل سنين طويلة في مصر مع البعثات البروتستانتية، فاستجبت لدعوته وحضرت إلى المدرسة في الساعة التي اتفقنا عليها.
فلما دخلت الفصل معه لاحظت أن الطالبات يجلسن مع الطالبات والطلاب مع الطلاب، فقلت بعد تحيتي لهم: لقد دعاني أستاذكم لكي أجيب على أسئلتكم في ما يتعلق بالإسلام، ولذلك سوف لن ألقي عليكم محاضرة حول الإسلام وتاريخه أو عقائده ولكن أترك لكم الخيار في الأسئلة.
فانبرت إحدى الطالبات قائلة: لماذا يطلب الإسلام عزل الرجال عن النساء؟
فقلت لها: انظري إلى القاعة التي تجلسين فيها، فأنت تجلسين مع صاحبتك الطالبة وكذلك كل الطالبات يجلسن مع الطالبات بينما يجلس الطلاب مع الطلاب، فهل لك أن تفسري لي هذا؟
فقالت: إن حديثي مع صديقتي يختلف عن حديثي مع زميلي الطالب في أمور لا يفهمها الطالب،
فقلت لها: معنى قولك هذا: إن هناك فرقاً بينكما؟
فقالت: طبعاً،
فقلت لها: هذا هو بالضبط ما أراده الإسلام لأن حديث المرأة مع المرأة هو غير الحديث بين الرجل والمرأة لاختلاف طبيعتهما وتساوي هذه الطبيعة بين المرأة مع المرأة والرجل مع الرجل، فقالت: صدقت.

وانبرت طالبة أخرى فقالت: لماذا يسمح الإسلام بأربع زوجات، وعندنا ممنوع هذا؟
فقلت لها: هذا صحيح ولكن اسألي استاذك فهو أعرف مني بالتوراة وبالإنجيل، كم من الأنبياء السابقين كانت له أكثر من زوجة؟ ومع هذا فإن الإسلام حدد هذا بشرط العدالة بين النساء، وجاء في القرآن "فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً"، فأكد على العدل بينهن ولكنه قال: "فإن خفتم" أي إذا لم تستطيعوا أن تعدلوا فزوجة واحدة، وقال الله أيضاً: "وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ"، وهنا أكد القرآن على المشاعر الإنسانية عند الرجل، وأنه يصعب عليه العدل في مشاعره بين زوجاته حتى ولو حرص، فلا بدَّ إذاً من واحدة فقط إذا لم يستطع العدل.

وأزيدكم أمراً آخر: أتعرفون كم من الرجال قُتلوا في الحرب العالمية الأولى والثانية؟ خمسون مليون من الرجال ماتوا أو قتلوا في الحرب العالمية الثانية فقط.
وبقيت ملايين النساء اشتغل بعضهن في تمريض الجرحى وبعضهن في معامل إنتاج السلاح، وبقيتهن بلا معيل، وهذا قبل أن تسن الحكومات الأوربية قانون الضمان الاجتماعي، فهل من العدل الإنساني أن لا يعيلهن معيلٌ بدلاً من الانخراط في العمل الشائن بسبب الحاجة الحياتية؟

فوافقني بعض الطالبات والطلاب واعترض الباقون.


 
من دفتر الذكريات (16):
كان مدرس اللاهوت نفسه يعظ أيام الأحد في كنيسة مختلطة (كاثوليك وبروتستانت وغيرهم) إضافة إلى عمله في المدرسة التي ذكرناها. فدعاني يوماً للرد على الأسئلة التي كان الحاضرون يوجهونها له حول الإسلام، فاتفقت معه على يوم معين وساعة معينة بعد الانتهاء من درسه في الوعظ، فأخبر الذين حضروا لوعظه بأن أحد المسلمين سوف يحضر للإجابة على من يود السؤال أو الاستفسار. ولما حضرت كانت القاعة مزدحمة وكان الحاضرون من أعمار مختلفة، فعرَّف بي وقدمني لهم، وطلب منهم أن يكون السؤال مختصراً حتى يتمكن الآخرون من المشاركة في المناقشة.
فقلت لهم، بعد التحية: أرجو أن يكون الأمر واضحاً لديكم بأنني لست إماماً في مسجد ولست مختصاً بعلوم الشريعة الإسلامية، ولكنني سأجيبكم حسب معرفتي الشخصية كمسلم. فكانت الأسئلة كتلك التي جرت في المدرسة، وكانت أجوبتي مثلها.

لكن سيدة مسنة طلبت الكلام، فقالت: أنا أعيش وحدي في شقة بعد وفاة زوجي وتزوج أولادي وبناتي، ويسكن بجانبي رجل مسن من المغاربة مع زوجته وقد جاءوا في الستينيات من القرن الماضي للعمل هنا، وقد لاحظت أن أولادهم وبناتهم يزورونهم دائماً بينما لا يزورني أولادي وبناتي إلا في احتفالات عيد الميلاد أو رأس السنة وقد لا يأتون، فما السر في ذلك؟
فقلت لها: إن الإسلام يحرضهم على الألفة والإحترام والتكافل وحب الوالدين، فقد جاء في القرآن: "وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً".
فلما ترجمت لها ذلك، قالت: هل جاء هذا في قرآنكم؟
قلت لها: نعم،
فقالت: هذا دين فيه رحمة
فانبرت فتاة شابة -وقد بان الغضب على ملامحها- فقالت: الإسلام ليس دين رحمة، لأن دينكم يأمركم بقطع فروج البنات حتى تقل عندهن الشهوة الجنسية، وهذا العمل فيه احتقار لكرامة النساء وانتهاك لأجسادهن،
فقلت لها: على مهلك، أين وجدت هذا في الإسلام؟
فقالت: أيان هرشي علي قالت ذلك في التلفاز
فقلت لها: الصومالية الأصل؟
صدقت فقد رأيتها في التلفاز، ولكنها كذبت حين ربطت بين ختان النساء والإسلام، فإنني لا أعرف أن ختان النساء من الفرض أو السنة لأنه لم يرد له ذكر لا في القرآن ولا في صحيح السنة، إلا في الأساطير التاريخية حيث ورد "إن هاجر كانت أول من اختتن من النساء، وكانت أول من ثقبت أذنها منهن".
وكلكم يعرف البرنامج التلفزيزني "زمبلا" الذي أثبت بأن أيان هرشي علي قد كذبت على إدارة شؤون اللاجئين فطردت من البرلمان، وسحبت منها الجنسية الهولندية، وهي هنا قد كذبت حين ربطبت بين ختان النساء والإسلام، لأن ختان النساء عادة اجتماعية قديمة، ربما تكون فرعونية تعود إلى قرون عديدة قبل المسيح وقبل الإسلام، نشأت في بلدان شرق إفريقيا كمصر والسودان والصومال وأوغندة وإثيوبيا وغيرها، ومنها انتشرت في إندونيسيا وأماكن أخرى مثل شمال العراق عند بعض الأكراد بالخصوص، فهي عادة اجتماعية قديمة لا علاقة لها بأي دين.

وبعد كل هذا اسمحي لي بسؤال واحد: هل زرت "متحف بوابة السجن" المقابل للبرلمان في لاهاي؟
قالت: نعم زرته،
قلت لها: هل تمعنت في سبب وجود "حزام العفة" فيه، ومن كان يلبسه، ولماذا؟
فضجت القاعة بالضحك والتصفيق.
ثم انتقل النقاش إلى الأقانيم الثلاثة والتوحيد.

 
من دفتر الذكريات (8):
يحظى بعض الكتاب العرب بخاصة وبعض المسلمين برعاية خاصة عجيبة في الجامعات الغربية ووسائل النشر والإذاعة فيها، فقد دعت جامعة لايدن في السبعينات الكاتب المصري محمد سعيد العشماوي، لإلقاء بعض المحاضرات على طلبة الدراسات الاستشراقية، وكنت مرافقاً له في بعض محاضراته، فدعوته يوماً إلى المقهى الذي كنا نرتادها دائما لقربها من الجامعة.
ولأن هذا المقهى كان بيتاً للمشرف على السجن الواقع أمام المقهى والذي تحول إلى كلية الحقوق، وقد سمينا هذه المقهى "الكنيسة" في ما بيننا.
فلما انتهينا من الحديث العام قلت له: يا استاذ عشماوي هل خطر ببالك إن دعوتك هذه لم تكن لعلمك ولا تقديراً لكتبك؟ لقد دعوك حتى يكون انتقاد الإسلام وثوابته على لسان مسلم وهو الآن أنت، فإذا انتهيت من هذا الدور لفظوك كما تلفظ نواة التمر من فمك؟
فقال لي: ما أظن ذلك، فقلت له: هذا رأي أراه واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
وكان الأمر معه كما قلت له.

ودعت جامعة لايدن محمد أركون الجزائري، ولما انتهى دوره أعارته إلى جامعة أمستردام الحكومية وهذه استغلته وقتاً وأنهت خدمته لها بدعوى انتهاء المبلغ المرصد لعمله.
ثم دعت نصر حامد أبو زيد المصري، وتم معه بالضبط ما حدث لأركون، فقد انتهى دوره في جامعة لايدن التي أعارته لجامعة أترخت، وتعللت هذه بدعوى أخرى فعاد نصر حامد أبو زيد إلى القاهرة ليموت فيها.
ورحم الله أمرءاً اتعظ بغيره فاتعظ !!!

اللهم ثبتنا على الإسلام وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين
أخسر الخاسرين من باع آخرته بدنيا غيره .
 
من دفتر الذكريات (17):
لم ينته النقاش في قاعة الكنيسة بالضحك والتصفيق بل تحول إلى مناقشة الفرق بين الأقانيم الثلاثة (الله الابن والروح القدس: ثلاثة في واحد)، والتوحيد، فقلت لهم: اسمحوا لي أن أؤكد لكم بأنني لست معنياً بتغيير اعتقاداتكم أو ايمانكم لأن الإيمان يغلب المنطق وإلا لما عبد بعض الهندوس البقر.
فقالت إحدى السيدات: لماذا لا يؤمن المسلمون بالاقانيم الثلاثة لأنها إله واحد؟ فقلت لها: دعيني أحكِّم واعظكم، فهو أخبر بالانجيل مني، في هذا السؤال، فالتفتُ إلى الواعظ وقلت له: ألم يقل السيد المسيح في إصحاح يوحنا: "إن تعاليمي ليست مني ولكنها منه الذي أرسلني"، وقال في مكان آخر: "أنا لا أحكم على أي أحد ولكن إذا حكمت فإن حكي يكون صائباً لأنه لست وحدي الذي يحكم ولكن أنا وهو الذي أرسلني"، وقال: "لم أجيء بمشيئتي ولكنه هو الذي أرسلني"، وإن عبارة "هو الذي أرسلني" تتردد كثيراً في الإنجيل، فهل هذا صحيح؟ فقال الواعظ: نعم هذ صحيح، فقلت: من كل هذا نستنتج أن السيد المسيح كان منفضلاً عن الذي أرسله وليس متحداً فيه، وهو عند المسلمين نبي كباقي الأنبياء الذين أرسلهم الله للبشر، ولكن الله ميزه بمعجزة أجراها على السيدة مريم في ولادته، كما أجرى معجزته في خلق آدم دون أب وأم. وذكرت لهم قصة إبراهيم عليه السلام مع الطير.
وانبرت سيدة أخرى فقالت: نسمع أن المرأة في الإسلام أحط من الرجل، فهل لك أن تشرح لنا السبب؟ فقلت لها: لو تفضلت أن تذكري اسمك؟ فقالت: انا السيدة فلانة، فقلت لها: اسمك الأخير هو اسمك قبل أن تتزوجي؟ قالت: لا، هذا اسم زوجي، فقلت لها: لقد فقدت اسمك وأخذت اسم زوجك، والمرأة المسلمة تبقى محتفظة باسمها كاملاً سواء تزوجت أم لم تتزوج. فهل الحط هنا أم هناك؟ ثم قارني بين مرتبات النساء عندكم مع الرجال في عمل واحد، فإن مرتبات النساء أقل من مرتبات الرجال وهم يعملون العمل الواحد، فلمن الحط هنا؟
ولكن اسمحي لي بسؤال: هل لك الحرية التامة أن تتصرفي بأموالك دون علم الزوج؟ قالت: زواجي كان بالشراكة التامة في كل شيء، فقلت لها: ولكن المرأة المسلمة تستطيع أن تتصرف بأموالها باستقلالية إلا إذا شاءت هي إشراك الزوج وعلى الزوج أن يتكفل مالياً بها وبأولادها وليس للزوج الحق أن يجبرها على التخلي عن أموالها له، فأين الحط هنا؟
فانبرت سيدة مسنة فقالت: أنا غير مقتنعة بسبب تعدد الزوجات الذي شرحته لنا، فقلت لها: ولماذا؟ قالت: إن قرآنكم يسمح بأكثر من زوجة، وأنت عللت ذلك بالعدل، فقلت لها: كم من الأزواج في أوربا من لم يتخذ خدينة أو خدينات؟ وهذه عادة معروفة منذ العصر الروماني وحتى اليوم، ولكن انظري إلى جماعة المورمون في أمريكا وسماحها بتزويج الرجال من النساء دون حدود، ومع أن هذا العمل ممنوع الآن في أمريكا بالقانون إلا أنهم ما زالوا يعملون به سراً، فهل يسري عليهم العدل أم لا؟ فقالت: لقد احترنا معك.
فقلت لهم: انتم تسألونني وأنا أجيب بما أعرف ولكم الحق أن ترفضوا ما قلت.
 
من دفتر الذكريات (18):
استقدمت هولندا وبعض الدول الأوروبية آلاف العمال المغاربة والأتراك في الستينات من القرن الماضي، لسد النقص في اليد العاملة غير المتدربة بعد أن بدأت في النهضة الاقتصادية وإعادة الإعمار بعد الحرب العالمية، فكان أغلب العمال المغاربة الذين استقدمتهم هولندا من منطقة الريف في شمال المغرب، وكان أغلبهم يتكلم لغة الشلحة أو ما تسمى الأمازيغية، فكانوا في المدينة التي أسكنها يتنقلون من مكان إلى آخر حتى يقيموا صلواتهم.
وقد وفقني الله فاستطعت أن أمد لهم يد العون، بمساعدة أهل الخير في السعودية حين كنت أدرِّس هناك في الثمانينات، فاشتروا كنيسة مهجورة، وحولوها إلى مسجد بعد ترميمها حسب إرشادات مهندسي البلدية، واختاروا من أنفسهم لجنة تشرف على استقدام الإمام من المغرب وتولي شؤون المسجد الجديد.

وحدث أن جاءتهم دعوة مكتوبة من جمعية نصرانية للاجتماع بهم ومناقشة أوضاعهم في البلدة ومدى مقدرة هذه الجمعية على مساعدتهم، فاستشارني بعض أعضاء لجنة المسجد في قبول الدعوة أو رفضها.
فقلت لهم: لا بدَّ أن تقبلوها، لأن لها نفوذا في بعض الأحزاب الدينية، ولكن فليذهب اثنان منكم إلى مقر جمعيتهم مع رسالتهم لكم، وهذه بطاقتي الشخصية المكتوب فيها اسمي ولقبي العلمي، وقولوا لهم: نسعد بزيارتكم مع هذا الرجل.
فلما قابلوا رئيس الجمعية النصرانية وشاهد بطاقتي وما عليها، قال لهم: سنكون مسرورين جداً بزيارتكم لنا ولكن يجب أن نحدد موعداً لدعوتكم، وسوف نخبركم بهذا الموعد.
ومنذ ذلك اليوم وإلى الآن لم يحددوا موعداً
‫#‏دفتر_الذكريات‬
‫#‏أنا_والمستشرقون‬

 
من دفتر الذكريات (19):
حين كنت طالباً في كمبردج، كنت أقضي أغلب وقتي في مكتبة الجامعة، وأخرج مراراً إلى أمام بوابة المكتبة لأخفف من عناء النظر في الكتب، ولأستمتع بتدخين سيجارة، وكان أحد الرهبان الكاثوليك يخرج من المكتبة فيراني واقفاً أدخن في الحرّ والقرّ والمطر فشغفه حب الاستطلاع.
فسألني يوماً عن طبيعة البحث الذي أقوم به وعن بلدي وهل لدي صديقة؟
فأجبته بصراحة أعجبتَه، فكان كلما يراني يقف للتحدث معي حول حياته الخاصة في الدير، وماذا يفعلون فيه، وعن سبب اختياره سلك الرهبنة، وعن بحثه الذي يرتاد المكتبة من أجله، وعن أمور مختلفة.

فسألني يوماً: هل التدخين حرام أم حلال في الإسلام؟
فقلت له: ليس حراماً قطعياً، بل هو مكروه لأضراره الصحية والمالية،
فقال: لماذا لا تتركه؟
فقلت له: كلما نويت تركة عدت إليه إذا رأيتك والراهبات من أمثالك،
فضحك طويلاً وقال: عجيب! وما علاقتنا بالتدخين؟
قلت له: هل سمعت بما اكتشفت البلدية في حفرياتها حين أرادت تسوية الشارع الفلاني؟
قال: وماذا اكتشفت؟
قلت له: اكتشفت هياكل عظمية لأطفال صغار في جوانب ممرٍّ تحت الأرض، كان يربط بين دير الرهبان في أعلى التل، وبين دير للراهبات في أسفل التل
فقال: هذا لن يحدث لأن التبتل عندنا هو أن تتزوج الراهبة من السيد المسيح، ولذلك تلبس خاتماً في يدها، والراهب ينذر نفسه للسيد المسيح تشبهاً به، لأنه وهب نفسه لدعوة اليهود ولم يتزوج.

فقلت له: الظاهر أن هؤلاء الإنات من الراهبات والذكور من الرهبان خلعوا خواتم الزواج.
ثم ومن أمركم أن تتبتلوا وليس في إنجيلكم أمرٌ بذلك؟ إلا ما قاله السيد المسيح لتلامذته في انجيل متى حين اتهمه اليهود بأنه خصي، فقال لهم: هناك خصيان ولدوا من بطون أمهاتهم على هذه الحال، وهناك خصيان خصاهم الناس، وهناك خصيان خصوا أنفسهم من أجل ملكوت السماء، فمن استطاع أن يفهم فليفهم".
فهل أنت ممن خصى نفسه لأجل الملكوت؟
فضحك طويلاً وقال: من أين لك كل هذه المعلومات؟
قلت له: إن بحثي في مسألة المعراج الصوفي ساقني لقراءة ما كتب النصارى في المعراج الروحي للسيد المسيح ولرهبان البراري (Desert fathers, hermits) الذين انقطعوا عن العالم، وأوجه الشبه بينهم وبين الهندوس والبوذيين في ترديد أدعيتهم التي تسمى: المنترا the) Mentra) وهل هي مقتبسة من الهندوس والبوذيين أو كانت مصادفة أو تشابه خواطر؟
فقال: أرجو أن استفيد منك في لقائنا القادم.
قلت له: وأنا كذلك.

#دفتر_الذكريات
#أنا_والمستشرقون

 
من دفتر الذكريات (20):
جاءني الراهب يوماً وأنا استمتع بسجارتي أمام بوابة مكتبة الجامعة التي تشبه أبواب القلاع القديمة العالية، فقال لي: اسلام أليكم، بلكنة إنكليزية، فقلت له: هل صرت مسلماً من حديث واحد معك؟ فقال: لا، ولكن أحببت التقرب إليك، فقلت له: أدخلك الله في ملكوت السماء ولكن دون إخصاء، فضحك كثيراً، وقال: تعجبني بداهتك.
فقلت له: ولكن بداهتي توحلت عند اعتقادكم بالتثليث، فهل لك أن تفسره لي لعلي أترهب مثلك فأدخل ملكوت السماء؟ فقال: المسألة بسيطة، قلت له: كيف؟ قال: إن الله أرسل ابنه الوحيد لكي يفدي البشرية ويتحمل آثامها فأيده بروح القدس منه، فهو يمثل الأب، وهو الله عندكم، والمسيح نفسه والروح القدس الذي يؤيده.
فقلت له: انك تعني ما جاء في إنجيل متى: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الامم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس"؟ قال: نعم، فقلت له: هذا لا يشتمل على ما تعتقدون من الأقانيم الثلاثة واتحادها، وقد جاء في مكان آخر من أحد الأناجيل لا أذكر مكانه: "لكن لنا اله واحد الآب الذي منه جميع الاشياء ونحن له"، وفي أول إنجيل يوحنا جاء: "الكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا". فلماذا ترجمتم: "الكلمة" بالمسيح وهي تعني: كلمة الله في الخلق: كن، Be وهي موجودة عندنا في قول الله: "وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون"ً.
قال: هكذا اعتمدته الكنائس في مجمع نيقية وسرنا عليه، فقلت له: هذا تصديق ما جاء في القرآن، قال: وماذا جاء في القرآن؟ قلت له: "وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ".
ولكن قل لي: فأين كان رأي نسطوريوس وأريوس وغيرهم الذين اعترضوا على قرارات نيقية في طبيعة السيد المسيح؟ فقال: كان هؤلاء هراطقة فطردهم المجمع المسكوني. فقت له: وانتم فقط على الحق حين تبنيتم مبدأ التثليث: الأب والابن والروح القدس إله واحد، الذي فرضه قسطنطين عليكم، أليس كذلك؟ قال: نعم!
فقلت له: أين كان الأب والروح القدس حين نادى السيد المسيح "وهو الابن عندكم" وهو على الصليب باللغة الآرامية: إيلي إيلي لما سبختني؟ (الهي إلهي لماذا تركتني)، فقال: ضحَّى بولده الوحيد حتى يشعره بألم العذاب فيتحمله عن البشرية، فقلت له: هذا منطق أعوج، فقال: لماذا؟ فقلت له: أولا: إن نداء السيد المسيح يدل على أن الله غير متحد به، فهو يستنجد به، وثانيا: لماذا يتحمل ذنوب البشرية، وكل انسان مسؤول عن عمله كما جاء في القرآن: "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، فهل تتحمل أنت ذنبي وإثمي؟ قال: طبعا لا، فقلت له: وما ذنب السيد المسح حين تحملونه آثام البشرية.
فقال: إنك تدخل نفسك في مسائل شائكة، فقلت له: ما ذني أنا ودينكم مملوء بالشوائك التي لا يفهمها عقل عاقل.
 
أخي العزيز؛ أظن السيد قاسم السامرائي Qasim al-Samarrai أستاذ فخري متخصص في علم المخطوطات (Codicology) و علم الخطاطة (Palaeography).
ارجو أن يسرع مركز تفسير لطباعة هذه المذكرات-بعد اكتمالها- قبل أن يطبعها غيرهم
السبق!
(تواصلوا مع الدكتور قاسم لطباعتها)
بمساعدة أهل الخير في السعودية حين كنت أدرِّس هناك في الثمانينات
(... أما سؤالك فليس عندي له جواب ولا أظنك تجد في هذا الملتقى المبارك ...)

الجواب هو أن المتخصصين يجب أن يعملوا لايجاد مثل تلك المراكز...
هب أن جهة أهدت مركزا مجهزا ومتخصصا في الباليوغرافيا...،هل سيجد المركز من يشتغل فيه؟؟
حسب علمي كان فرانسوا ديروش مدير بحث متخصص في الموضوع بجامعة باريس الرابعة (المدرسة التطبيقية للدراسات العليا)،كان من بين تلاميذه سيدة اسبانية من أصول موريسكية تدعى نورية مارتينيس،بعد تخرجها بالدكتوراه فتحت بالمدينة الجامعية في مدريد مركزا متخصصا في مخطوطات القرآن بالأندلس...
 
لفت انتباهي في كلام السامرائي أنه يدخن وقوله إنه ليس حراما قطعيا
والعجب أن التدخين وجدته منتشرا عند بعض العلماء وكبار الأساتذة مثل محمود شاكر ومحمود الطناحي ويذكرون ذلك.
بينما يقل ذلك ويكاد ينعدم عندنا في السعودية خاصة علماء الدين
 
من دفتر الذكريات (21):
جاء الراهب إلى باب المكتبة بعد غياب دام بضعة أيام ..
فقلت له: لقد افتقدتك يا صديقي
فقال: كنت مزكوماً فآثرت الراحة
فقلت له متبسماً: أبعد عني جراثيم زكامك
فقال: لا تخش منها فإنها مباركة بماء المعمودية
فقلت له: هذا الماء الذي تضعونه في جران صخري داخل الكنيسة وفي أولها بعد الباب أو الماء الذي تمسحون به رؤوس الأطفال الذي قدسه الأسقف؟ أو الحوض الذي تغطسون فيه الناس ثلاثاً؟ فقال هو كذلك
فقلت له: هل أنت متأكد من أنك لم تصب بالزكام من هذا الماء حيث يمسح الكثيرون به جباههم؟فضحك، وقال: دعك من هذا الماء
فقلت له: إذاً من "التناول" حيث يتحول النبيذ إلى دم المسيح، والخبز إلى لحمه، فيتناوله الكثيرون قبلك
فضحك ضحكاً عالياً وقال: من أين عرفت كل هذه الطقوس وأنت لست نصرانياً؟
فقلت له: أنت تعرف بأنني لست مختصاً بدراسة علم اللاهوت، وإنني أقرأ الإنجيل والتوراة بسبب بحثي، وأرتاد الكنائس أحياناً وأستمع إلى طقوسكم لأثري معرفتي الناقصة، فهل تسمح لي أن أعود مرة أخرى إلى "الكلمة" التي وردت في أول إنجيل يوحنا؟
فقال: ولمَ لا!
فقلت له: لقد قرأتها مراراً، فلم أفهم ما فيها، فهل لك أن تفسرها لي؟
فقد جاء في أول انجيل يوحنا: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شئ مما كان، فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه"
قال: هذه بشارة لنا بأن السيد المسيح كان مع الله منذ بداية الخلق، وأنه كان يشارك الله في كل أعماله، فهو النور الذي يهدي الله به البشر لملكوته.
فقلت له: أرى أن تفسيرك غير مقنع لي
قال: ولماذا؟
قلت له: أشعر من قراءة إنجيل يوحنا أن كاتبه متأثر جداً بالفلسة الأفلاطونية وما فيها من مسألة الفيض الميتافيزيقي حيث ورد فيها: "يوجد أنا عليا وهو متعالي كليةً، وجوده منفصل عن أي وجود آخر، وهو الأكثر اكتمالاً، وهو غير قابل للانقسام أو التجزئة، ولا للمضاعفة بل ثابت، غير قابل للتغيير أو التمييز"،
أسألك أن تجيبني بصدق، أليست هذه الصفات مكتملة في خالق الأكوان؟قال: يبدو أن ما تقوله صحيح.
فقلت له: لماذا لم يحدد كاتب إنجيل يوحنا معنى "الكلمة" ويقول معها: أنا وابني أو ولدي وأنا؟
ولماذا هذا الإبهام والتورية؟ فمن المتوقع أن يقول: في البدء كان ابني وكان ابني مع أبيه، ولكنه قال: "في البدء كان الكلمة"، ثم قال: "والكلمة كان عند الله"، فإن مفهوم الكلمة هي لوجوس (Logos) باليونانية، أليس كذلك؟
قال: نعم،
فقلت له: وهي مشتقة من الكلمة اليونانية legein وتعني: نطق، تكلم to speak أليس كذلك؟
قال: هذا صحيح في ما أعلم.
فقلت له: هي كلمة الله التي جاءت في القرآن: "وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون"ً، فأمر الله "كن" كانت مع الله قبل أن يأمر بخلق السيد المسيح في رحم مريم، فلما أراد خلقه، قال: كن فكان السيد المسيح، وهذا يفسر تكملة ما جاء في إنجيل يوحنا: "... هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شئ مما كان، فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس". فكلمة الله "كن" تمثل الواسطة التي تدل على إرادة الله في الخلق.
فقال: لقد أدخلتنا في الفلسفة.
فقلت له: إذا كانت الفلسفة تهدي للتوحيد فأهلا بها.
فقال: لقد استفدت منك كثيراً اليوم، وأثرت فضولي في قراءة قرآنكم، فأية ترجمة توصيني بها؟
فقلت له: هناك ترجمات كثيرة إلى اللغة الإنكليزية، وأنا استعمل دائماً ترجمة أستاذي آرثر جون آربري فهي ترجمة تكاد تكون شعرية للنص القرآني، وهي موجودة في هذه المكتبة.

#دفتر_الذكريات
#أنا_والمستشرقون
 
أخي العزيز؛ أظن السيد قاسم السامرائي Qasim al-Samarrai أستاذ فخري متخصص في علم المخطوطات (Codicology) و علم الخطاطة (Palaeography).
كلامك مضبوط أخى العزيز والله الموفق&
 
من دفتر الذكريات (22):
انقطت عن ارتياد مكتبة الجامعة لمدة خمسة أيام، كي أنظم ما لدي من جزازات وخربشات ورقية حسب مواضعها من فصول البحث، وانتهزت عطلة نهاية الأسبوع للترويح عن نفسي في إحدى ساحات لعب كرة القدم والجولف والبيزبول وغيرها من الأنشطة الرياضية الإنكليزية، وكانت الساحة مكتظة باللاعبين والجمهور من شتى الأعمار، فأحسست بكآبة شديدة تغلِّف قلبي.
فأسرعت إلى الكنيسة الكاثوليكية الضخمة الواقعة عبر الشارع أمام ساحة الألعاب، فكانت خالية تماماً من الناس، وبينما كنت أطلق لعيني العنان أحسست بيد تربت على كتفي، فرفعت عيني المبللة لأرى أحد القساوسة بثيابه السوداء الطويلة.
فقال: ما بك يا ولدي؟ سمعتك تبكي بحرقة شديدة،
فقلت له: لا شيء!! لقد أحسست بكآبة وأردت أن أنفس عن خاطري،
فقال: كلنا نفعل مثلك إذا أصابنا ما أصابك،
فقلت له: أنت في بلدك وأنا غريب، فلعل كآبتي من إحساسي بالغربة،
فقال: لا بأس عليك، كلنا غرباء فأنا إيرلندي ولست إنكليزياً من هذا البلد، وقد بعثني الأسقف لأمثله هنا،
فقلت له، بعد أن أحسست بالراحة: ولماذا هذه الكنيسة خالية وهناك جمهور رهيب عبر الشارع؟ فتأوه، وقال: لقد ابتعد الناس عن الدين، وفي هذه المدينة قليل من الكاثوليك لأن أغلبية أهلها أنكليكان، وحتى هم أيضاً لا يرتادون كنائسهم إلا القليل منهم.
وبعدما سألني عن بلدي وسبب مجيئي والبحث الذي أقوم به، قال: أنت إذاً محمدي؟
فقلت له: قل: مسلم، لأن تلك كانت تسمية المنصرين والمستشرقين القدامي،
فقال: صدقت،
فقال لي: أنا الآن وحدي، فهل لك أن تشاركني كأس نبيذ في غرفتي؟
فقلت له: هذا ثاني أخطائك، في محادثة واحدة،
فقال: عجيب، وكيف؟
فقلت له: لأنك لا تعرف أن الخمر حرام في الإسلام؟
فقال: صدقني لم أكن أعرف هذا،
فقلت له: في الإنجيل والتوراة لا يفرق المترجمون بين عصير العنب وبين عصير العنب المخمَّر، ويسمونه كلهم: "نبيذ"،
فقال مندهشاً: وهل قرأت الإنجيل؟
فقلت له: نعم، مراراً مع التوراة لحاجتي لهما في بحثي، وقد قرأت في مكان ما من التوراة حول الخمر: "إنه في النهاية يعض كالأفعى، ويلدغ مثل الثعبان"،
فقال: نعم هذا ورد في كتاب الأمثال،
فقلت له: لذلك لا أود أن يلدغني الثعبان،
فضحك وقال: إذاً نشرب شاياً أو قهوة،
فقلت له: أشكرك من كل قلبي، فإنني لا أحب الشاي الإنكليزي بالحليب ولا أحب قهوتهم لأنها كلها نسكافيه، ولذا فأنا أرتاد مقهي الطليان أمام دائرة البريد في الشارع الفلاني.
فقال: أردت أن أكرمك وأحتفي بك،
فقلت له: في المرة القادمة حين تصيبني الكآبة، سوف أقبل دعوتك.

ولما رأيت الراهب أمام بوابة المكتبة، في اليوم التالي، قلت له: أود أن أفضي لك بسرٍّ لم أفشه لأحد،
فقال مسرعاً: هل تركتك صديقتك؟
فقلت له: ألم تفكر إلا بالجنس وأنت من الذين خصوا أنفسهم من أجل ملكوت السماء؟
فقال: اعذرني على تسرعي،
فأخبرته بما جرى لي في الكنيسة وحديثي مع القسيس،
فقال: أعرفه، وبدأ يثني عليه وعلى خلقه،
فقلت له: إن هذا القسيس الذي تثني عليه أكرم منك؟
فقال: لماذا: فقلت له: لقد دعاني إلى شرب النبيذ أو القهوة أو الشاي معه، وأنت لم تفعل هذا قط، قال: اعذرني لأنني لم أفكر بهذا، فهيا معي إلى كافتيريا المكتبة،
فقلت له: دعوتك جاءت متأخرة.
ثم قال: قرأت في قرآنكم أن لحم الخنزير حرام عندكم، فلماذا؟
فقلت له: ألم تجد غير لحم الخنزير في قرآننا، وأنت راهب تعرف إنجيلك وما فيه، وتعرف أن لحم الخنزير محرم في اليهودية؟
فقال: وأين تحريمه عندنا؟
فقلت له: ألا تذكر ذلك الرجل العظيم الذي ركبته الآلاف من الجن وكان اليهود يخافون منه، فلما مرَّ به السيد المسيح صرخ فيه أن يطهره من الجن، فأرسل السيد المسيح كل الجن فركبوا قطيعاً يُعد بألفين من الخنازير فركضوا بهم ورموا بأنفسهم في البحر وغرقوا، وفرَّ أصحاب الخنازير؟ فقال: هذا صحيح ولكن هذا لا يدل على تحريم أكله،
فقلت له: عجيب!!
وهل يرسل السيد المسيح ألفين من الخنازير إلى الموت في البحر لو كانوا غير محرَّمين؟
لماذا لم يرسل ألفين من الخراف أو الماعز للموت؟ هذا إذا صدقنا رواية الإنجيل،
فماذا عن أصحاب الخنازير إذ بدد السيد المسيح وسيلة معيشتهم؟
فقال: منطقك عجيب،
فقلت له: فهمك لما جاء في إنجيلكم أعجب.

#دفتر_الذكريات
#أنا_والمستشرقون
 
من دفتر الذكريات (23):
كان الثلج يتساقط بغزارة في أحد الأيام، فخرجت متدثراً بملابسي الثقيلة لأستمتع بتدخين سيجارة تحت مظلة بوابة المكتبة، وسرعان ما خرج الراهب فرآني واقفاً تحت مظلة الباب.
فقال: حتى الثلج لم يمنعك من التدخين؟
فقلت له: حتى الصواريخ الألمانية الطائرة التي كانت تتساقط على لندن في الحرب العالمية الثانية.
فقال: لقد مللت من البحث وكنت أود الذهاب إلى منزلي.
فقلت له: وما الذي يمنعك؟
قال: أنت !!
فقلت له: أنا؟ كيف؟
قال: الحديث معك مفيد لي ولك،
فقلت له: نعم هو كذلك، ولكنه مفيد لك وليس لي
قال: عجيب!! ولماذا هو مفيد لي وليس لك؟
قلت له: أنا لا استفيد منك ولا مما تعرفه من إنجيلك، وأنت تستفيد من اعتراضاتي ونقولي من هذا الإنجيل، فإنك لم تجد في قرآننا إلا تحريم لحم الخنزير، ولما جئت لك بما في الانجيل من تحريمه، قلتَ لي: بأن منطقي عجيب، والآن اسمح لي بسؤال بسيط، لا منطق فيه،
قال: تفضل!!

قلت له: لماذا السيد المسيح مفقود ذكره في النصوص التاريخية؟
قال: ما تقوله ليس صحيحاً، فقد جاء ذكره عند المؤرخ اليهودي يوسوفوس في تاريخه،
فقلت له: أعرف هذا، ولكن بعض المؤرخين منكم شكك في الجملة التي جاء ذكر المسيح فيها، وقالوا: إن يوسفوس إدعى بان يسوع كان هو المسيح المنتظر (Jesus was the Messiah ho christos, the Christ!) وقالوا: إنها مقحمة فيه لغرابة سياقها في موضعها والنفس النصراني الذي فيها لا يصدر عن مؤرخ يهودي كان مغرماً بالرومان وأباطرتهم.

ولعلمك فإن يوسوفوس ذكر يسوع في موضعين: في الأول: سماه يسوع الناصري، وفي الثاني: يسوع أخو يعقوب، فقط. فلعله يعقوب البار هو ابن يوسف النجار من زوجته المتوفاة، وهذا الاسم محل اختلاف بين المؤرخين اللاهوتيين، وقد قال بعضهم: إنه كان يعلِّم المؤمنين حرمة عبادة الأصنام والزنا وأكل المخنوقة وأكل الدم.
ففي الجملة الأولى أجمع المؤرخون منكم بأنها مقحمة في النص الأصل دون أدنى شك، أو في الأقل دخل في الجملة التي أوردها يوسيفوس ما ليس منها وقد أقحم (interpolated) أحد النساخ النصارى نصوصها في النص الأصل.
فقال الراهب، وقد بدا منزعجاً: أتريد أن تنفي تاريخية الرب وإنه لم يُذكر إلا في الأناجيل؟
فقلت له: أبداً، ليس هذا قصدي لأنني أؤمن إيماناً راسخاً بوجود السيد المسيح وتاريخيته التي أكدها القرآن مراراً، إذ وردت كلمة عيسى فيه 25 مرة أو أكثر وكذلك اسم السيدة مريم وولادة عيسى من مريم دون أب، وهو عندنا نبي صادق وأمه صدِّيقة.
قلتها بالعربية "siddiqah"
قال: وما معنى "صدِّيقة".
قلت له: إنها صدقت بكلمات ربها حين أبلغها بها الملاك، وأنت لديك ترجمة القرآن التي استعرتها من المكتبة.
فقال: إنني لم استعرها بعد، ولكن سوف أفعل.
فقلت له: إذا استعرتها فتتبع اسم عيسى واسم مريم في الفهرس وانظره في النص.
فقال: سأفعل ولكنني اليوم استفدت منك حول ما جاء في القرآن عن ربنا يسوع.
فقلت له: ربكم الله وليس يسوعاً،
فقال: هذا اعتقادك وليس اعتقادي
فقلت له: سنرى من منا على الحق حين تقرأ القرآن؟
فقال: أمرضني البرد ولا بدَّ أن أذهب.
فقلت له: حديثي معك أفادني أيضاً، فضحك وبدا السرور على وجهه.

#دفتر_الذكريات
#أنا_والمستشرقون

 
من دفتر الذكريات (15):
دعاني أحد مدرسي اللاهوت في إحدى المدارس الثانوية المختلطة أن ألتقي بطلبته الذين يسألونه عن الإسلام فلا يحسن إجابتهم، وكان هذا المدرس قد عمل سنين طويلة في مصر مع البعثات البروتستانتية، فاستجبت لدعوته وحضرت إلى المدرسة في الساعة التي اتفقنا عليها.
فلما دخلت الفصل معه لاحظت أن الطالبات يجلسن مع الطالبات والطلاب مع الطلاب، فقلت بعد تحيتي لهم: لقد دعاني أستاذكم لكي أجيب على أسئلتكم في ما يتعلق بالإسلام، ولذلك سوف لن ألقي عليكم محاضرة حول الإسلام وتاريخه أو عقائده ولكن أترك لكم الخيار في الأسئلة.
فانبرت إحدى الطالبات قائلة: لماذا يطلب الإسلام عزل الرجال عن النساء؟
فقلت لها: انظري إلى القاعة التي تجلسين فيها، فأنت تجلسين مع صاحبتك الطالبة وكذلك كل الطالبات يجلسن مع الطالبات بينما يجلس الطلاب مع الطلاب، فهل لك أن تفسري لي هذا؟
فقالت: إن حديثي مع صديقتي يختلف عن حديثي مع زميلي الطالب في أمور لا يفهمها الطالب،
فقلت لها: معنى قولك هذا: إن هناك فرقاً بينكما؟
فقالت: طبعاً،
فقلت لها: هذا هو بالضبط ما أراده الإسلام لأن حديث المرأة مع المرأة هو غير الحديث بين الرجل والمرأة لاختلاف طبيعتهما وتساوي هذه الطبيعة بين المرأة مع المرأة والرجل مع الرجل، فقالت: صدقت.

وانبرت طالبة أخرى فقالت: لماذا يسمح الإسلام بأربع زوجات، وعندنا ممنوع هذا؟
فقلت لها: هذا صحيح ولكن اسألي استاذك فهو أعرف مني بالتوراة وبالإنجيل، كم من الأنبياء السابقين كانت له أكثر من زوجة؟ ومع هذا فإن الإسلام حدد هذا بشرط العدالة بين النساء، وجاء في القرآن "فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً"، فأكد على العدل بينهن ولكنه قال: "فإن خفتم" أي إذا لم تستطيعوا أن تعدلوا فزوجة واحدة، وقال الله أيضاً: "وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ"، وهنا أكد القرآن على المشاعر الإنسانية عند الرجل، وأنه يصعب عليه العدل في مشاعره بين زوجاته حتى ولو حرص، فلا بدَّ إذاً من واحدة فقط إذا لم يستطع العدل.

وأزيدكم أمراً آخر: أتعرفون كم من الرجال قُتلوا في الحرب العالمية الأولى والثانية؟ خمسون مليون من الرجال ماتوا أو قتلوا في الحرب العالمية الثانية فقط.
وبقيت ملايين النساء اشتغل بعضهن في تمريض الجرحى وبعضهن في معامل إنتاج السلاح، وبقيتهن بلا معيل، وهذا قبل أن تسن الحكومات الأوربية قانون الضمان الاجتماعي، فهل من العدل الإنساني أن لا يعيلهن معيلٌ بدلاً من الانخراط في العمل الشائن بسبب الحاجة الحياتية؟

فوافقني بعض الطالبات والطلاب واعترض الباقون.

من دفتر الذكريات (15):
دعاني أحد مدرسي اللاهوت في إحدى المدارس الثانوية المختلطة أن ألتقي بطلبته الذين يسألونه عن الإسلام فلا يحسن إجابتهم، وكان هذا المدرس قد عمل سنين طويلة في مصر مع البعثات البروتستانتية، فاستجبت لدعوته وحضرت إلى المدرسة في الساعة التي اتفقنا عليها.
فلما دخلت الفصل معه لاحظت أن الطالبات يجلسن مع الطالبات والطلاب مع الطلاب، فقلت بعد تحيتي لهم: لقد دعاني أستاذكم لكي أجيب على أسئلتكم في ما يتعلق بالإسلام، ولذلك سوف لن ألقي عليكم محاضرة حول الإسلام وتاريخه أو عقائده ولكن أترك لكم الخيار في الأسئلة.
فانبرت إحدى الطالبات قائلة: لماذا يطلب الإسلام عزل الرجال عن النساء؟
فقلت لها: انظري إلى القاعة التي تجلسين فيها، فأنت تجلسين مع صاحبتك الطالبة وكذلك كل الطالبات يجلسن مع الطالبات بينما يجلس الطلاب مع الطلاب، فهل لك أن تفسري لي هذا؟
فقالت: إن حديثي مع صديقتي يختلف عن حديثي مع زميلي الطالب في أمور لا يفهمها الطالب،
فقلت لها: معنى قولك هذا: إن هناك فرقاً بينكما؟
فقالت: طبعاً،
فقلت لها: هذا هو بالضبط ما أراده الإسلام لأن حديث المرأة مع المرأة هو غير الحديث بين الرجل والمرأة لاختلاف طبيعتهما وتساوي هذه الطبيعة بين المرأة مع المرأة والرجل مع الرجل، فقالت: صدقت.

وانبرت طالبة أخرى فقالت: لماذا يسمح الإسلام بأربع زوجات، وعندنا ممنوع هذا؟
فقلت لها: هذا صحيح ولكن اسألي استاذك فهو أعرف مني بالتوراة وبالإنجيل، كم من الأنبياء السابقين كانت له أكثر من زوجة؟ ومع هذا فإن الإسلام حدد هذا بشرط العدالة بين النساء، وجاء في القرآن "فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً"، فأكد على العدل بينهن ولكنه قال: "فإن خفتم" أي إذا لم تستطيعوا أن تعدلوا فزوجة واحدة، وقال الله أيضاً: "وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ"، وهنا أكد القرآن على المشاعر الإنسانية عند الرجل، وأنه يصعب عليه العدل في مشاعره بين زوجاته حتى ولو حرص، فلا بدَّ إذاً من واحدة فقط إذا لم يستطع العدل.

وأزيدكم أمراً آخر: أتعرفون كم من الرجال قُتلوا في الحرب العالمية الأولى والثانية؟ خمسون مليون من الرجال ماتوا أو قتلوا في الحرب العالمية الثانية فقط.
وبقيت ملايين النساء اشتغل بعضهن في تمريض الجرحى وبعضهن في معامل إنتاج السلاح، وبقيتهن بلا معيل، وهذا قبل أن تسن الحكومات الأوربية قانون الضمان الاجتماعي، فهل من العدل الإنساني أن لا يعيلهن معيلٌ بدلاً من الانخراط في العمل الشائن بسبب الحاجة الحياتية؟

فوافقني بعض الطالبات والطلاب واعترض الباقون.

هناك تكرار، وهي نفس المشاركة التي سبقتها، فأقترح حذفها.
 
من دفتر الذكريات (24):
من كان مع الله كان الله معه، وقال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ).
حال خروجي من السجن الذي وضعني فيه الشيوعيون في بغداد أيام عبد الكريم قاسم، قدَّمت لمدرسة الدراسات الشرقية والافريقية التابعة لجامعة لندن لقبولي في دراسة درجة الماجستير في الأدب العربي، فجاءتني رسالة من البرفيسور سارجنت، رئيس القسم، بقبولي مبدئياً على أن أمضي سنة مع غيري من الطلاب في الدراسة عليه وعلى غيرة من الأساتذة فكان هذا البروفيسور يدرسنا مباديء الترجمة من العربية إلى الإنكليزية وبالعكس، من كتاب البخلاء للجاحظ، الذي سبق لي أن قرأته، فكنت أثناء قراءته للنص أصحح له قراءة بعض ألفاظه، فكان يبدي سروره بذلك ويشكرني عليه أمام زملائي، ولم أدر ما يجول في نفسه، ثم بعد إتمام السنة نخضع لاختبار المعادلة الذي يؤهلنا لاختيار موضوع الدراسة والأستاذ الذي يشرف علينا.
ولما جرى الاختبار كنت أحد الفاشلين فيه، فذهبت إليه لأستعلم منه عن سبب فشلي في الاختبار، فقال لي: يا فلان أنت غير مؤهل لعمل الماجستير عندها، فانصحك أن تذهب إلى دولة عربية، فقلت له: إنك لم تبين لي سبب فشلي في الاختبار وتنصحني أن أذهب إلى دولة عربية، فهل هذا قرارك الأخير؟ فقال: نعم.
فخرجت من الكلية وقد غلفت الكآبة واليأس العارم قلبي، ولم أدر ماذا سأفعل، فساقتني قدماي إلى رسل سكوير، Russell Square وهي حديقة كبيرة قريبة من الكلية، فجلست جنب شجرة كبيرة وأطلقت لعيني العنان طويلاً، فلما ارتحت قليلاً، عدت ادراجي إلى الكلية، ورميت نفسي على كرسي في كافيتريا الطلاب، فجلس جنبي أحد الطلاب المسلمين من سيريلانكا واسمه مكين، فقال لي: ما بك؟ أرى في عينيك دموعاً، فأخبرته بما حصل لي مع سارجنت، فأخرج ورقة من حقيبته المتسخة، وبدأ يكتب فيها، فلما انتهى من الكتابة قال لي: وقِّع هنا، فقلت له: ما هذا يا مكين؟ قال لي: هل عندك ظرف نضع فيه الرسالة: قلت له: طبعا لا، فأخرج ظرفاً وكتب عليه عنواناً وقال لي: هل عندك طابع بريدي؟ قلت له: لا يا مكين، فأخرج طابع البريد من حقيبته وألصقه على الرسالة، فقال: خذ هذه الرسالة وارمها في صندوق البريد، ففعلت ولا أدري ما فيها وإلى من أرسلها. وفي اليوم التالي أرسلت رسالة إلى أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة درم، Durham في شمال إنكلترا، أطلب منه قبولي في دراسة الماجستير، فجائني الجواب بعد يومين مع موعد مقابلتي له.
وفي اليوم المحدد سافرت إلى درم، واستطعت أن أعثر على الكلية التي فيها هذا الأستاذ قبل موعد المقابلة بنصف ساعة، فقلت لنفسي: دعني أتجول حول الكلية في الوقت المتبقي قبل المقابلة، وحدث إنني تهت في الأزقة، فلما اهتديت للكلية كان موعد المقابلة قد تجاوز عشر دقائق فقط، فاعتذرت لسكرتيرة الأستاذ بسبب جهلي بالمدينة، فقالت: انتظرك الأستاذ ثم غادر، فقلت لها: هل تسمحين أن أكلمه بالتلفون؟ فاتصلت به واعتذرت له بجهلي بالمدينة، فقال لي: أنا لا أقبل طالباً لا يحافظ على الموعد.
فعدت إلى لندن مثل ما ذهبت والأسى يعصر جوانحي.
(له صلة).
 
من دفتر الذكريات (25):
عدت إلى لندن من درم في القطار مثل ما ذهبت، والأسى يعصر جوانحي واليأس يعصف بصدري، فتوجهت إلى الله، وقلت في نفسي: اللهم سهِّل لي ما لا أعلم به في ما أنت به أعلم إنك أنت علام الغيوب. فأحسست براحة غريبة تسري رويداً رويداً في قلبي لم أشعر بها من قبل.
ولما وصلت إلى غرفتي في لندن كتبت رسالة إلى أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة سانت اندروس الواقعة في شمال سكوتلنده، أطلب منه قبولي في دراسة الماجستير معه. فجاءني الجواب بعد عدة أيام بالرفض متعللاً بإشرافه على العدد المطلوب من الطلاب ولا يستطيع الإضافة إليهم.
وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية لعلي أجد رسالة من أحد أخوتي من بغداد في صندوق البريد الخاص بي حيث كان لكل طالب صندوق صغير مربع الشكل يسمى: كوة الحمام (pigeon hole)، فوجدت رسالة لي من سويسره فاستغربت جداً لأنني لا أعرف أحداً هناك، ففتحتها بأصابع مرتعشة وقرأت في أولها:
بروفيسور آرثر جون آربري
بمبروك كولج – كمبردج
عزيزي فلان، يؤسفني أن لم أرد عليك سريعاً، فأنا الآن في عطلتي السنوية في سويسره، وقد تلطفت الكلية فأرسلت رسالتك مع بريدي إلى هنا حسب إرشادي لهم، ويسرني أن أقابلك في مكتبي في الكلية في اليوم الفلاني والساعىة الفلانية حال عودتي من عطلتي.
فطرت فرحاً، وقلت في نفسي: جزاك الله خيراً يا مكين، فمن أرسلك لي في تلك الساعة؟ ومن أرشدك أن تكتب رسالتك إلى آربري؟ فلم أحلم أن أكون طالباً في جامعة كمبردج لأنني لم أجروء أن أكتب لهذه الجامعة ولا إلى جامعة أكسفورد وهما اللتان يرتادهما الطلبة الأغنياء وعلية القوم من الطلاب العرب.
وفي اليوم المحدد وصلت إلى كلية بامبروك ولكن قبل ساعة الموعد بساعة كاملة خشيةً من تكرار ما حدث لي درم، فبدأت بالتجوال في حدائق الكلية أو الجلوس على المصاطب أو الكراسي فيها، تزجيةً للوقت حتى حان موعد اللقاء فنهضت متوجهاً إلى مكتب الأستاذ، فرأيت في طريقي رجلاً أبيض الوجه، ممتليء الجسم يمشي الهوينا في اتجاهي، حتى إذا قاربني، قال: مستر فلان؟ فقلت: نعم، فقال: أنا: آربري، فصافحني بحرارة، وقال: تفضل معي إلى غرفتي، وكانت غرفته فوق بوابة الكلية الضخمة، فلما دخلناها فإذا هي تغص برفوف الكتب، وفي جانب منها منضدة بسيطة وكرسيان، فأشار لي أن أجلس على أحدهما وجلس هو على الآخر، وبدأت حديثي معه حول سارجنت، فأوقفني بإشارة من يده، وقال: ماذا تود أن تدرس عندي؟ فلما قال: تدرس عندي، قلت في نفسي: خذها يا ابن سامراء، فقلت له: أود أن أدرس شعر المتصوفة، فقال: هذا موضوع محبب لي، وعليك أن تفعل كذا وكذا، فقلت له: أمرك مطاع،
فقال: أنت مقبول عندي من هذا اليوم، فقلت له: وأنا مندهش تماماً: يا سيدي إنك لم تسأل عن شهادتي ولا عن أي توصية، فقال لي: يا قاسم لقد درَّست في القاهرة ، فعرفت معادن الطلبة، وانت يبدو عليك الجد والحرص، فقلت له متلهفاً: هل انتقل من لندن إلى كمبردج؟ فقال بصرامة شديدة: اليوم قبل غد، وأضاف: اذهب إلى مكتب تأجير الغرف الفلاني، في الشارع الفلاني لعلك تجد غرفة تناسبك، واترك عنوانك عند حارس الكلية تحت غرفتي.
فخرجت منه والدنيا لا تسع خطواتي.
(له صلة)
 
من دفتر الذكريات (26):
خرجت من غرفة الأستاذ، والدنيا لا تسع خطواتي من فرحي العارم وسروري الدافق، فأسرعت في السؤال عن مكتب تأجير الغرف للطلبة، فلما دخلت المكتب شرحت لهم حاجتي لغرفة للإيجار، فزودوني بثلاثة عناوين، فأسرعت إلى أقربها من مركز المدينة فلم ترق لي الغرفة، وأخيراً أخترت غرفة العنوان الثالث لهدوء الشارع مع بعدها عن مركز المدينة، وكانت في بيت سيدة إنكليزية متزوجة من ألماني، فدفعت لها إيجارها لمدة أسبوع حيث كانت العادة كذلك في أن يكون الإيجار أسبوعياً. واسرعت إلى الكلية حيث تركت عنواني مع الحارس، فقال لي: شكراً، لقد أخبرني البروفيسور بذلك.
وعدت إلى لندن حيث كنت اسكن في حي كولدرز كرين، Golders Green الذي يقع شمال لندن، حيث انتقلت إليه بعد أن كنت أسكن مع أخي الأكبر مني في منطقة فنزبري بارك Finsbury Park ، إلا أن أخي، الذي تزوج من سيدة ألمانية، سافر معها إلى بلدها.
وكان عليَّ أن أبحث لي عن غرفة أسكن فيها، فجئت إلى حي كولدرز كرين. وبينما كنت أبحث في لوحة إعلانات التأجير الملصقة أمام مكتب التأجير، توقفت إلى جانبي سيدة، فقالت لي: لعلك تبحث عن غرفة للإيجار؟ فقلت لها: نعم، فقالت: هيا معي. عندي ما تطلب. فلما وصلنا إلى بيتها، أرتني الغرفة فأعجبتني جداً لنظافتها أولاً ولرخص إيجارها ثانياً، وقد كانت تسكن مع زوجها الروسي الأصل، وكان هذا زواجها الثاني بعد طلاقها من زوجها الأول الذي أنجبت منه ولداً فقط.
وكان أغلب سكان هذا الحي من اليهود، فقدمتني لزوجها، فقال لي: أنت عربي؟ فقلت له: نعم، فقال لي: أنا أعشق الغناء العربي، فمرحباً بك معنا، وأراني ما يحتفظ به من الأسطوانات، ثم بادر إلى الكراموفون ووضع عليه أسطوانة فلعلع من خلالها صوت محمد عبد الوهاب، فقلت له: أتفهم ما يقول؟ قال: ولا حرف، ولكنني استمتع باللحن جداً وبالطريقة التي يغني بها المغنون العرب، فقلت له: ولا تستمتع بالأغاني اليهودية؟ فقال: وهل عندنا مغنون مثل ما عندكم؟ وبدأ يذكر لي أسماءهم: عبد الوهاب، فريد الأطرش، ليلى مراد، أسمهان.... فقلت له: وهل عندك اسطواناتهم، قال: كلهم وأكثر من ذلك.
فكنت استمع معهما إلى الأغاني العربية في جلساتهما المسائية حين أعود من المدرسة، فاحدثهم عما جرى لي في المدرسة، فكانا يستأنسان بحديثي ويتألمان لألمي وما جرى لي مع سارجنت. وحدثتهما عن رسالة آربري، ففرحا وقالت السيدة: أرجو أن يقبلك فترتاح من المصاعب، وبدأت تصف لي مدينة كمبردج وما فيها من كليات لأنها زارتها مراراً.
وحدث في أمسية أحد الأيام أن زارهم ابن السيدة، وكان اسمه نورمان،، وكنت معهما نشرب الشاي سويةً، فنظر إليَّ شزراً، فقلت لزوجها: لماذا بنظر نورمان إليَّ هكذا؟ فقال لي: دعك منه فهو صهيوني متطرف، يرسل أمواله إلى إسرائيل ليزرعوا شجرة هناك باسمه، مثل كل الشبان اليهود في هذا الحي، وكل البلاء من أمثال هؤلاء المغسولة عقولهم.
ولما عدت من كمبردج بعد المقابلة المفرحة، أخبرتهما بما جرى ففرحا جداً وأصرَّا أن يأخذاني بسيارتهما إلى كمبردج، فاعتذرت لهما بشدة، ولكن اعتذاري لم ينفع مع إصرارهما، فذهبنا في اليوم التالي وتركت حقيبتي، وهي كل ما أملك، في عنواني الجديد، فقلت للسيدة: أنت تعرفين المدينة أحسن مني فأرجو أن تقبلا دعوتي لكما على الغداء في أي مطعم تختارينه، فذهبنا إلى المطعم، وبعد الغداء ودعتهما وشكرتهما على تجشمهما عناء السفر.
فعادا إلى لندن مباشرة.
ولم تتح الفرصة لي لكي أزورهما مرة ثانية في لندن، إلا بعد سنتين، فوجدت الدار غير الدار والسكان غير السكان،
وكان الغداء آخر العهد بهما وبالأغاني العربية الجميلة وبالحي اليهودي.
(له صلة)
 
من دفتر الذكريات (27):
عدت إلى غرفتي وبدأت أرتب ما في حقيبتي الصغيرة من ملابس قليلة وأدوات حلاقة عتيقة، وما كدت انتهي حتى نادتني السيدة فنزلت من غرفتي فوجدتها وزوجها في قاعة الجلوس فدعتني لشرب كأس شاي دون حليب مع الحلويات وفطائر سكون المشهورة في كمبردج، والظاهر أن السيدة اشترتها خصيصاً للإحتفاء بي في هذه المناسبة، وسلمتني مفتاح الباب الخارجي فقط.
فجرى الحديث عني وعن أصلي وفصلي ودراستي وسبب انتقالي من لندن إلى كمبردج، فبدأت السيدة وقد بدا عليها الحماس في الإشادة بشهرة جامعتها وفضيلتها على جامعة أكسفورد وتاريخ إنشائها في القرن الثاني عشر وسببه، فشعرت من حديثها بالمنافسة الثقافية بين أكسفورد وكمبردج. والظاهر أن حماستها قد انتقلت بالعدوى دون شعور إليَّ، ولكن حديثها كان أول محاضرة مفيدة لي حول تاريخ المدينة والجامعة.
وخرجت في المساء للتعرف على المدينة وما فيها من أسواق ودكاكين ومطاعم ومقاهٍ وسينمات وبنوك، فساقتني قدماي دون شعور إلى كلية بامبروك حيث وقفت أمامها طويلاً متأملاً ما حدث لي قبل أيام قليلة فيها. وعدت أدراجي إلى مركز المدينة، فدلفت إلى مقهى صغيرة تقع أمام دائرة البريد المركزي في المدينة وكانت مزدحمة بالطلبة وغيرهم من شتى الأعمار والألوان فطلبت كوباً من القهوة الإيطالية، فلما جاءت النادلة بالقهوة، قالت لي: يظهر لي من حركاتك بأنك جديد على المدينة وعلى هذه المقهى، لأنني أعرف زبائنها وروادها، فقلت لها: ما حدستية صحيح. فأنا من بغداد (ولم أقل العراق، لأنهم لا يفرقون بين العراق فيقولون: "إيراك" وبين إيران) والتحقت بالجامعة قبل أيام، فقالت: أهلا بك، وأنا من كيب تاون بجنوب أفريقيا ولكن أصلي الإنكليزي من هنا، وقد توفي زوجي هناك وعدت إلى بريطانيا مع بنت وحيدة لي، وأنا أشتغل في هذا المقهى لأعيل نفسي وابنتي.
فصرت أرتاد هذه المقهى كلما خرجت من مكتبة الجامعة لشرب القهوة الأيطالية فيها والاستمتاع بسيجارة، إذ لم يكن التدخين قد مُنع بعد في المقاهي والمطاعم حين ذاك، فكان غالبية الطلاب وغيرهم يدخنون في المقهى.
عدت إلى غرفتي وقد أرهقني التعب فنمت قريراً، فإذا بباب غرفتي يُقرع في الساعة الثامنة صباحاً، فدخلت السيدة وفي يدها صينية الإفطار، فقالت: صباح الخير، فرددت عليها إلا أنني استغربت من فعلها لأن إيجار الغرفة كان بلا إفطار، وقد نويت أن أفطر في إحدى المقاهي القريبة، فوضعت السيدة صينية الإفطار على فراشي وجلست على كرسي قريب من فراشي، فنظرت إلى الصينية فإذا هو إفطار إنكليزي صرف: شرائح لحم الخنزير مع فاصولية بيضاء بمرق الطماطة وبيضة مقلية وكأس شاي وقطع الخبز، فقلت لها: أنا لا آكل لحم الخنزير، فقالت: حسناً، كُلِّ البيضة مع الخبز، ففعلت، وأمري إلى الله، وهي لم تزل جالسة.
وقد دامت صينية الإفطار ولكن دون شرائح لحم الخنزير لمدة أسبوعين، فأحسست أن في الأمر سراً لم أدرك له كنهاً فاستعذت بالله من وساوس الشيطان ونزغاته.
وفي يوم من هذه الأيام تلقيت رسالة من كلية فتزوليم هاوس للحضور في اليوم الفلاني والساعة الفلانية لإجراء طقوس التسجيل في الكلية وهو ما يسمى بلغتهم: Matriculation حتى أكون مخولاً للتسجيل في سجل الجامعة، فحضرت في الوقت المحدد، فجرت الطقوس بحضور مدير الكلية وبعض أساتذتها وثلاثة من الطلبة، وبعد الطقوس أعلن المدير بأننا من اليوم طلاب رسميون في الجامعة، وزودنا برسائل إلى المكتبة، فذهبت إلى مكتبة الجامعة وأريتهم الرسالة فأصدروا لي بطاقة المكتبة التي تخولني دخولها واستعارة الكتب منها.
ولما دخلت المكتبة تعرفت على السيدة المشرفة على قسم الكتب الشرقية، وكانت تعرف العربية، وأخبرتها بموضوع بحثي في دراسة شعر المتصوفة، فقالت: قسمنا يحتوي على كتب كثيرة في التصوف الإسلامي وبلغات متعددة، وأنا مستعدة لمعاونتك إذا كنت تحتاج لأية مساعدة، فشكرتها، وعرفت منها مكان قسم المخطوطات الشرقية وغيرها من المخطوطات الأجنبية.
(له صلة)
 
من دفتر الذكريات (28):
استمرت صينية الإفطار لمدة إسبوعين حيث كانت السيدة تجلس على كرسي جنب فراشي، مع وجود زوجها في أسفل البيت، فإذا انتهيت من الإفطار أسرعتُ فلبست ثيابي متذرعاً بتأخري عن موعدٍ لي مع الأستاذ او المكتبة، وأنا أقول في نفسي: أعوذ بالله من شر ما خلق، ثم أقول لها: اسمحي لي سيدتي فقد تأخرت، فتأخذ الصينية وتنزل دون اية كلمة.
وفي آخر يوم من أيام الإسبوعين عدت إلى البيت متأخراً، فلما فتحت الباب الخارجي وجدت حقيبتي في الممر الذي يربط الباب بالدرج، الذي يأخذني إلى غرفتي، فأدركت الأمر دون سؤال، فرميت المفتاج في الممر، وأخذت حقيبتي وأغلقت الباب الخارجي خلفي، دون أن أصعد إلى غرفتي، وخرجت، ولكن إلى أين؟؟ فالساعة تشير إلى ما بعد العاشرة مساءاً ومكتب تأجير الغرف مقفل، ولا أعرف أحداً في المدينة بعد؟؟
وسرت في الأزقة على غير هدىً ففكرت أن أذهب إلى أحد الفنادق الذي مررت عليه في تجوالي، فلاحظت في أحد الأزقة لوحة مضيئة في أعلى باب أحد البيوت، فلما اقتربت منها قرأت فيها فراش وإفطار ((Bed & Breakfast فضغطت على جرس الباب ففتحت صاحبة الدار الباب، فقلت لها بعد التحية: هل لديك غرفة فارغة؟ فقالت: نعم، تفضل، وأرتني الغرفة، وأخبرتني بموعد الإفطار، ونزلت إلى غرفتها. فرميت حقيبتي وجلست على الكرسي الفريد في الغرفة متفكراً في أمر تلك السيدة وماذا كانت تريده مني؟ فشكرت الله تعالى إذ عصمني من الزلل والوقوع في الخطل.
وقد ذكرت كلَّ هذا للراهب بعد أن تعرفت عليه في حديث طويل معه، فقال لي: ألم تكن تعرف ما كانت تريده منك؟ فقلت له: لو كنت أنت مكاني فماذا كنت تفعل؟ فقال: ما كانت لتجرؤ عليَّ وأنا راهب، فقلت له: لقد تجرأت امرأة ملك مصر على يوسف وهو ابن نبي، فمن أنت!!! فقال: وما قصته: فشرحتها له كما جاءت في القرآن الكريم، فقال لي: إلم أقل لك بأنني استفيد منك؟
فقلت له: وسوف تستفيد قريباً من قصة البابا مع حريمه، فقال لي، وقد بدأت الدهشة على وجهه: البابا مع حريمه؟؟ فقلت له: سوف أحدثك عن ذلك في لقاء آخر، فقال: أمرك عجيب!! فقلت له: ما ستسمعه أعجب.
وفي الصباح بادرت إلى مكتب تأجير الغرف، وتركت حقيبتي عند سيدة البيت، فزودني بأربعة عناوين، فكانت الغرفة الأولى أرضية رطبة تفوح بالعفن، وكانت الثانية صغيرة جداً تحتوي على سرير وطاولة وكرسي فقط، وكانت الثالثة بعيدة جداً، فاخترت الرابعة، وكان مالك البيت بولندي الأصل مع زوجته البولندية، وقد عرفت في ما بعد بأنهما هربا من بولندا بعد الثورة البولندية في بوزنان حين تدخلت القوات الروسية بدباباتها وجيوشها، فأخضعت الثورة بالعنف والنار.
وعلمت أيضاً أن المديتة تحتوى على جالية كبيرة من البولنديين الذين كان آباؤهم قد انضموا إلى جيوش بريطانيا في حربها ضد ألمانيا النازية، ولما انتهت الحرب استقروا في بريطانيا، وكان لهم نوادي خاصة بهم في المدن ومنها كمبردج.
كان مالك البيت يشتغل مساء كل يوم في مصنع فيلبس للألكترونيات في المدينة، وكانت زوجته تشتغل نهاراً في دار رعاية المسنين، فيأتي الزوج مع الفجر وينام، وتأتي الزوجة في حوالي السادسة مساءاً فيلتقيان على مائدة العشاء، وما كان لهما من لقاء طويل إلا في عطلة نهاية الإسبوع، حيث كنت ألتقي بهما أحياناً في غرفة المطبخ فيدعوانني للجلوس معهما. فعرفت منهما في يومي الأول بأنني لم أكن المستأجر الوحيد في البيت إذ كان أحد الطلبة العراقيين يشغل غرفة أخرى في الطابق الأرضي، وذكرا لي اسمه، فلما التقيت به يوماً في المطبخ وتعرفت عليه، علمت منه أنه نصراني الديانة من بغداد، وانه يدرس في إحدى مدارس تعليم اللغة، وأنه على صلة صداقة حميمة مع فتاة فرنسية من أصل فيتنامي، وحدث أن التقيت به وبها في يوم من الأيام في المدينة، فعرفها بي، وكانت هذه أول مرة أراها معه.
(له صله).
 
[FONT=&quot] [/FONT][FONT=&quot]من دفتر الذكريات[/FONT] (29):
كان هذا العراقي مهووساً بسرقة الكتب والروايات الأجنبية من حوانيت بيع الكتب حتى ضاقت غرفته بها، فنقل قسماً كبيراً منها إلى كراج مهجور في آخر حديقة المنزل، فقلت له يوماً ونحن في المطبخ: يا فلان، هذا عيب عليك وعلينا إذا قبض عليك البوليس، وهو ليس من أخلاقنا، فقال: وما لك أنت؟ إن سرقتهم حلال، لأنها من الثقافة وسرقة الثقافة ليست حراماً، وإنني أشعر بالمتعة والسعادة في هذا، فقلت له: في أي دين يكون هذا الحلال؟ فأعرض عني غاضباً، واستمر في فعلته الشنعاء.
كان الأستاذ يحب أن يزوره طلابه في بيته للإشراف عليهم بدلاً من مكتبه في الكلية حتى يتفرغ للواجبات الرسمية والتفرغ لبحوثه، فزرته يوماً في بيته بعد موعدي معه، فرحبت بي زوجته المصرية الأصل وأعدت لنا الشاي والحلويات، وانفردت به في غرفته، وشرحت له ما ألقى من صعوبة بحثي في شعر المتصوفة، فقال لي: كيف ذلك؟ فقلت له: إن كثيراً من أبيات الشعر الوجداني لا تعود لهم وإنما لشعراء ليسوا من الصوفية ولكنهم ينشدونها وكأنها لهم، وإن كثيراً من أشعارهم لا تنسب لأحد منهم، وقد قرأت كل ما توصلت إليه من كتب الصوفية أمثال: إحياء علوم الدين للغزالي والرسالة القشيرية لعبد الكريم بن هوازن القشيري والتعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي واللمع للسراج الطوسي وغيرها، فجمعت ما فيها من أشعار، وأنا في حيرة من أمري، فقال لي والبسمة تعلو ثنايا وجهه: اشرب شايك واستمتع بحلويات المدام، ولها حلاَّل. ولما قال: "ولها حلال" بالعربية، أدركت أنه شعر بما القاه من صعوبات.
ولما انتهيت من الشاي والحلويات، شكرته على الضيافة، وحين أردت الانصراف، قال لي: تعال غداً إلى مكتبي في الساعة الفلانية، فقلت له بالعربية: إن شاء الله.
وفي اليوم المحدد والساعة المحددة كنت واقفاً أمام باب مكتبه، فطرقت الباب ففتحها بنفسه، وقال: أهلا وسهلاً، وأشار إلى الكرسي الذي جلست عليه أول مرة، ولم يجلس هو بل مشى إلى أحد رفوف مكتبته فسحب منها جملة من الأوراق كانت في ظرف أسمر اللون، ثم جلس أمامي وناولي الأوراق، فلما سحبتها من الظرف لاحظت أنها مصورات ورقية لمخطوطة، فقال لي: خذها معك وادرسها جيداً وبعدها قدم لي تقريراً عنها، فقلت له: أمرك أستاذي، وخرجت والأوراق بيدي، وكانت هذه الأوراق المخطوطة أول ما رأيت في حياتي من المخطوطات.
فهرعت إلى مكتبة الجامعة حيث الهدوء التام، فدلفت إلى قاعة المطالعة الكبرى، وأخترت مقعداً علبى طاولة طويلة مقسمة لجلوس الطلاب مع كراسٍ وفوق كل مقعد مصباح يضيء ما يريد الطالب قراءته أو كتابته، فبدأت بقراءة المخطوطة حتى انتهيت منها، وعدت في اليوم الثاني وأعدت قراءة نص المخطوطة، وفي اليوم الثالث والرابع، حتى استوعبت ما فيها، وداومت على قراءتها في غرفتي أيضاً، وفي اليوم الخامس أو السادس بدأت بتقسيم خطة البحث إلى فصول وأبواب، ولما انتهيت منها في اليوم التاسع أو العاشر وأنا في المكتبة، أسرعت إلى السيدة المسؤولة عن قسم الكتب العربية، فرجوتها أن تتفضل عليَّ بتصحح لغتها الإنكليزية، لأنني لم أكن متأكداً من سلامة ما كتبت من النصوص لغوياً، فقالت لي: اتركها عندي حتى أنظر فيها حين انتهي من عملي، ومرَّ عليَّ غداً في الصباح.
وفي اليوم التالي زرتها في مكتبها وحييتها، فسلمتني ورقتين مطبوعتين على الآلة الكاتبة بدقة تامة، وأردفت قائلة: إنها خطة بحث متكاملة في موضوع طريف جداً، وعندنا في المكتبة بحوث تلامس بحثك حول المعراج في أديان أخرى كاليهودية والنصرانية والهندوسية والبوذية وحتى الغنوصية بلغات أوربية مختلفة، وأذكر أن عراقياً قبلك كتب رسالته عندنا في الصلة بين التصوف والتشيع، ومع هذا فسوف انظم لك قائمة بما أعثر عليه منها، فشكرتها على اهتمامها العميق وعلى مساعدتها التي لم أتوقعها، فقالت: لقد وعدتك بالمساعدة حين قابلتك أول مرة.
فقلت لها: لقد أدخلتيني في بحر لجيٍّ عميق، فقالت: أرجو أن تحسن السباحة في هذا البحر الواسع من البحث العلمي الذي لم أر فيه من سبقك.
(له صلة).
 
من دفتر الذكريات (30):
فكَّرت طويلاً في خطة البحث أياماً طوالاً وقلَّبت فصولها وأبوابها مراراً وتكراراً ثم ارتأيت أن إضيف لها فصلاً جديداً أدرس فيه مسألة العروج ومفهومه في الديانات الأخرى، وبخاصة سفر الرؤيا، فكان عليَّ أن أبدأ بدراسة التوراة والإنجيل، وهذا ما فعلت، إذ استعرت ترجمة الملك جيمس من الكنيسة المدورة الصغيرة الواقعة جنب نادي الطلاب في مركز المدينة، واشتريت النسخة المنقحة من "الكتاب المقدس" التي نُشرت في تورنتو ونيويورك وأدنبره، وعكفت على قراءتها بتمعن، لأنها -كما قيل لي- أوثق التراجم، ولأنها تشير إلى اختلاف القراآت في النصوص، فاستوقفني في التوراة ما يسمى: أغاني سليمان، أو نشيد الإنشاد أو Song of Songs وقرأته يلهفة شديدة لأنه يمثل قمة عبارات الحب التي يتبادلها محبوبان، فجاء في أوله: "آه يا أنتَ، هل لك أن تقبلني بقبلات فمك، لأن حبك أحسن من النبيذ، إن رائحة الزيت الذي تمسحني به طيبة، وإن اسمك هو الزيت المتدفق ولذلك يحبك العذارى، اجذبني وراءك ودعنا نسرع، فإن الملك قد أدخلني مخدعه، وسوف نفرح ونبتهج فيك، وسوف نبجِّل حبك أكثر من النبيذ، وهم على حق لأنهم يحبونك"، ويستمر نشيد الانشاد في غزل شاعري طويل عجيب غريب.
ولما انتهيت من قراءته: قلت في نفسي: هذا لا يمكن أن يكون في كتاب يدعون بأنه وحي من الله، فكيف يضمونه إلى التوراة؟ فاستعرت الترجمة العربية من المكتبة فإذا الترجمة مشوهة للنص ومحرَّفة له تحريفاً مخلَّاً بالمعاني التي جاءت فيه، فتبادر إلى ذهني كتاب المواقف والمخاطبات لعبد الجبار النفَّري الصوفي الذي نشره أستاذي آربري نفسه مع ترجمته في القاهرة حين كان مدرساً في جامعتها، وهذا ما يسميه الصوفية: "وحدة الوجود" التي يُتهم محي الدين ابن عربي الأندلسي بها في كتبه وبخاصة في الفتوحات المكية وفي كتابه ترجمان الأشواق الذي قصره على التغزل بابنة شيخه في مكة المكرمة، وفي كتابه فصوص الحكم وغيرها، والعلماء بين ناقد له وبين مؤيد.
وأسرعت إلى الموسوعة البريطانية وإلى الموسوعة اليهودية، فراعني ما فيهما من اختلاف وجهات النظر وتكلُّف المفسرين في تفسير هذا القسم من التوراة، فتبسمت حين قرأت أحدها: "إنه الحديث المقدس الذي كان موجهاً لوصف الصفات الرائعة للسيد المسيح وعمق الحب الذي بينه وبين الشعب الذي افتداه بنفسه".
فقلت في نفسي: أيُّ فداء؟ لا درَّ دركم!!، فهو يقول فيه: "انظر، إنك جميل يا حبيبي، عيونك حمائم وراء خمارك، وشعرك يشبه سرب الماعز وهو ينحدر في سفوح جلياد، واسنانك مثل سرب من النعاج المجزوزة الصوف التي جاءت من الغسل (الاستحمام) وكلها تحمل توائم وليس فيها واحد أثكل، شفتاك كخيط من القرمز وفمك جميل وخداك كفلقتي رمانة تحت خمارك ...، ثدياك كخشفي ظبية توامين يرعيان بين السوسن ".
اتصلت بأستاذي وحددت معه موعداً، فلما رأى خطة البحث، نظر في وجهي وقال: خطة البحث جيدة ومتكاملة ولكن هل تعرف أية لغة أجنبية غير الإنكليزية؟ فقلت له: لا! فقال: الفصل الذي عقدته حول الديانات الأخرى يحتاج إلى معرفة الألمانية والفرنسية في الأقل، فقد كتب فيه فلان وفلان وفلان، فقلت له بالعربية: يحلها الحلال، فضحك، وقال: أنا واثق بأنك جاد في بحثك وحريص عليه، وأرجو لك النجاح.
وفي أثناء الحديث، قلت له: استاذي، اطلعت على كتاب المواقف للنفري الذي حققتموه وترجمتموه للإنكليزية، هل ترى من تشابه بينه وبين نشيد الإنشاد في التوراة؟ فقال لي: وهل قرأته؟ قلت كلَّه، فقال: فيهما تشابه في المناجاة الروحية، ولكن ما رأيك بنشيد الإنشاد؟ قلت له: هو حديث عشق ومحبة بين اثنين تكاد تكون جنسية، وأنا غير مقتنع بالتفسيرات الكنسية له. فقال: صحيح ما توصلت إليه. فودعته وانصرفت إلى المكتبة.
كان أول ما فكرت فيه هو نسخ المخطوطة ولكنني لم أكن أحسن التحقيق ولا قواعده ولا أصوله، فلما دخلت في المكتبة اتجهت إلى قسم المخطوطات لأنني علمت أن هذا القسم في المكتبة يحتفظ بنسخة من كل الرسائل الجامعية المجازة، فبحثت في الفهرس عن النصوص العربية المحققة، فلم أهتد إليها، فسارعت إلى السيدة المسؤولة عن الكتب المطبوعة، فعرضت عليها مشكلتي، فقالت: أرى أن تطبع النص أولا على الآلة الكاتبة وبعد إتمام طبع النص، يمكنك أن تتعلم أسلوب التحقيق من كتب أستاذك، فنبهتني على ما غاب عن خاطري، فقلت لها: وأين أجد من يطبع لي النص إذا نقلته بخطي؟ فقالت: أنت، فقلت لها: كيف ذلك وما لدي آلة الطباعة؟ قالت: عندي واحدة اشتريتها بباونين في مزاد أعلنت عنه محطة البي بي سي العربية، وهي لك بسعرها، فإذا انتهيت منها أعدتها لي، ولكن حين انتهي من عملي سوف أوصلها بسيارتي إلى عنوانك.
فكان ما لم أكن أتوقعه أن يكون.
(له صلة)
 
من دفتر الذكريات (31):
وجدت الآلة الكاتبة "رمنكتون" القديمة أمام باب غرفتي، فرفعتها بحنان وأجلستها على طاولتي بهدوء، خشية أن تحدث ضوضاء في المنزل، وبدأت اتحسس حروفها بلطف، واتجسس على مواضعها، إذ لم يسبق لي أن تعلمت أسلوب الطباعة ولا كيف تعمل هذه الطابعة اليدوية الأسطورية، مع أنني كنت أرى السكرتيرات وهن ينقلن أصابعن بسرعة ورشاقة على الحروف، فإذا ما انتهين من سطر في الورقة رن جرس خافت فيدفعن يداً في أعلاها لكتابة سطر جديد، فتركتها ترتاح من شغبي وتحسس أصابعي لحروفها وشوقي أن أعرف مواضع الحروف فيها.
وفي صباح اليوم التالي دلفت إلى المكتبة وزرت السيدة الكريمة فشكرتها على جهودها في نقلها ونقدتها الباونين، فقالت: كيف وجدتها؟ فقلت لها: اقرأي نشيد الانشاد في التوراة فهو يكاد ينطبق عليها. فقالت باستغراب: وهل قرأت أغاني سليمان؟ فقلت لها: نعم باصحاحاتها الثمانية، فقالت - والبسمة تعلو وجهها -: لقد بدأت السباحة في بحور اللاهوت مبكراً. فودعتها وانصرفت.
قررت أن أنسخ نص المخطوطة أولاً بخطي في دفتر خاص، وأن أترك بياضاً في مكان الكلمات التي تعسر عليَّ قراءتها، أو في البياضات التي وردت فيها، مع معرفتي التامة بأن خطي الرديء الذي لا يقرأه سواي، لا يختلف عن خط الأطباء ولكن الصيادلة يقرؤونه بسهولة.
وعثرت أثناء قراءتي للنص في آخرها أن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الوهاب الحسني الحسيني المصري قد أتمَّ تصحيحها من أولها إلى آخرها في سنة 880 هجرية، فاستنتجت بأنها قد تكون مصرية النجار، وأنها نسخت قبل هذه السنة، فانتقلت إلى مكتبة بانكيبور في الهند بعد سنة 880هـ، إلا أن تصحيحاته لم تكن سليمة دائماً، ولوجود جملة من البياضات في أوراقها الأخر التي لم تحظ بالتصحيح.
استمر نسخي للنص ما يقارب الشهر أو أكثر ، فشعرت بالحاجة إلى تجميع كل مصنفات القشيري المطبوعة والمخطوطة وبخاصة تفسيره للقرآن الكريم وتفسير ابنه، ومسند أبي عوانة، لعل نصوصها تعينني على ملءِ البياضات في النص، فحصلت على بعضها بعد جهد جهيد، وانتظرت البواقي.
المهم في كل هذا إنني ومنذ قدومي إلى لندن كنت أصرف على نفقاتي من مبلغ 20 باون شهرياً كانت تأتيني من إدارة البعثات في بغداد، وكانت تسمى: "منحة"، وحدث إن توقف صرفها لأمرِ لا أعرفه، فالتجأت إلى أستاذي وحدثته بالأمر، فقال لي: وماذا ستفعل؟ فقلت له: تسمح لي بالسفر إلى ألمانيا، لأن لي أخاً هناك فلعلي أجد عملاً أوفر منه نفقاتي الدراسية، وبعدها لها حلاَّل.
فقال لي وقد بدأ الحزن على وجهه: اذهب يا فلان ولكن لا تذكر الأمر لأي أحد قط، وأنت عندي مواظب على الدراسة، فشكرته على هذا الجميل الرائع، وعدت إلى غرفتي فألقيت نظرة على الآلة الكاتبة، وقلت لها: يؤسفني أن لا أقلقك من الآن وحتى عودتي إن شاء الله.
واتفقت مع مالك الدار على أن أترك كتبي مع الطابعة في الكراج المهجور في صندوق كارتوني، فوافق دون اعتراض،
والعجيب أنه لم يسألني عن سبب تركي لها ورحيلي عن الغرفة.
 
من دفتر الذكريات (32):
عبرت بحر الشمال بالباخرة إلى مدينة اوست اينده Oostende الواقعة على شاطيء بحر الشمال في بلجيكا، فوجدت القطار السريع الذي يأخذ المسافرين إلى مدن ألمانيا المختلفة، وكان هذا القطار يمر على محطات كبريات المدن الألمانية باتجاه شمال ألمانيا، فلما وصلت إلى مدينة بوخم في الصباح نزلت منه، وأخذت عربة المترو من هذه المدينة إلى قرية هاتنكن حيث كان يسكن أخي مع زوجته الألمانية، وكنت قد علمت من أخي عبر الرسائل البريدية بأنه يشتغل في أحد المصانع المنتجة للحديد والصلب، واسمه: "هنري سوته" الواقع على نهر الروهر، ويلفظ: الرور، وأن زوجته تشتغل سكرتيرة عند أحد مدراء الأقسام فيه.
ولما وصلت إلى عنوان البيت، وكان مكوناً من شقتين، لم يكن أحد في شقته، فتركت حقيبتي الصغيرة عند صاحبة الشقة الثانية، وهي مالكة العمارة، وكانت من حسن الحظ تتكلم الإنكليزية، فقالت لي: إن أخاك وزوجته ما يزالان في عملهما، وإنهما يعودان في الساعة الفلانية، فانتهزت المناسبة لأجول في القرية لأتعرف على دكاكينها ومقاهيها وما فيها، فمررت بأحد البنوك وكان في جيبي بعض الباونات القليلة فحولتها للماركات الألمانية، فدلفت إلى إحدى المقاهي، وكان البرد شديداً، فطلبت فنجاناً من القهوة، وجلست استمتع بها وبسجارتي الانكليزية.
ولما حان وقت قدوم أخي وزوجته أسرعت إلى البيت، وقد كانت السيدة قد أخبرتهم بوصولي، فرحبوا بي وفرحوا بزيارتي، دون أن أخبرهم بهدفي من هذه الزيارة، ولكن الحديث جرى حول مائدة العشاء حول عملي في كمبردج وما حققته من بحثي وحول أمور عائلية أخرى، فالتفت إلى زوجة أخي وقلت لها: أختي العزيزة، إنك سكرتيرة أحد مدراء المصنع، فهل يمكنك أن تستعلمي إن كان هناك أي مكان يمكنني أن أشتغل فيه لفترة قصيرة في هذا المصنع؟ فقالت: سوف استعلم لك غداً. واستمر الحديث طويلاً ثم آووا إلى غرفتهم وآويت إلى الفراش في غرفة أخرى، وفي الصباح لم يوقظوني للإفطار لأنهم أدركوا بأنني مرهق من السفر الطويل.
ولما أفقت من النوم نظرت من خلال زجاج النافذة إلى الخارج فرأيت الثلج يتساقط بغزارة شديدة، وتذكرت قول الفرزدق:
وأصبح مبيَّضُّ الصقيع كأنه ... على سروات النيب قطنٌ مندَّفُ
فخرجت أتجول في القرية رغم البرد والثلج، فساقتني قدماي إلى المقهى نفسها فدلفت إليها وطلبت ما طلبت في يومي الأول.
وفي مساء ذلك اليوم أخبرتني زوجة أخي بأنها قد استعلمت من كافة اقسام المصنع عن أي مكان يمكنني أن أجد عملاً فيه فلم تفلح، وكلهم قالوا لها: لسنا في حاجة إلى إي أحد، في الوقت الحاضر.
فطرأت في فكري خاطرة رحمانية، فقلت لها: ما اسم الرئيس في هذا المصنع، فقالت: اسمه هر فلان، فقلت لها: اكتبي لي اسمه على هذه الورقة، فكتبته، ثم قالت وقد علتها الدهشة: وماذا ستفعل باسمه؟ قلت لها: عندي فكرة فلعلها تنجح حين قلت لي: إن كل الأقسام غير محتاجين إلى أي أحد في الوقت الحاضر.
وفي الصباح اتجهت إلى المصنع الواقع جنب النهر، وكان الطريق إليه منحدراً فزلقت ووقعت على قفاي، فقمت ثم انزلقت ثانية، ثم سرت بحذر شديد حتى وصلت إلى الباب الرئيس للمصنع، فرأيت حارسها جالساً في ركن من غرفته، فأشرت إليه بالورقة التي بيدي، فتناولها بيده، فلما قرأ الاسم، رفع سماعة تلفونه وبدأ يتكلم مع الجانب الآخر، دون أن أفهم حرفاً مما قال، وسرعان ما جاء شخص في غاية الهندام، فحياني ثم قال لي بالانكليزية: ماذا تريد؟ فقلت له: أود أن أقابل هر فلان شخصياً، فقال: ولماذا؟ فقلت له: أريد مقابلته لأمر يخصني ويخصه، فقال لي: انتظر.
(له صلة).
 
من دفتر الذكريات (33):
لم انتظر طويلاً إذ رأيت شابين أكثر هنداماً يتجهان نحوي، فلما وصلا إليَّ، قال لي أحدهما، بعد التحية: لقد علمنا بأنك تريد مقابلة هر فلان؟
فقلت له: نعم، فقال الآخر: إذا كنت تود التعرف على المصنع وأقسامه وكيف نديره وماذا ينتج ومقدار ما ينتج وعدد العاملين فيه والبلدان التي نصدِّر لها منتجاتنا، فنحن مستعدون أن نرافقك في جولة في المصنع ونشرح له كل ذلك.
فقلت لهما: اسمحوا لي، فأنا لست معنياً بكل ما عرضتموه، فأنتما، على ما يبدو لي، خبيران جيدان، وهذا فخر للمصنع، ولكنني أود أن اقابل هر فلان لأمر يخصني ويخصه، فنظر أحدهما للآخر وانسحبا.
وفجأة رأيت شاباً وسيماً يسير بتؤدة واعتداد في اتجاهي، فلما وصل أمامي بدأني بالتحية، فأجبته، فقال: أنا سكرتير هر فلان، فقلت له: تشرفت بمعرفتك، فقال: تفضل معي، فسرنا في دروب المصنع حتى وصلنا إلى بناية أخرى، فأشار لي إلى باب مغلق ففتحه وقال: تفضل ادخل، فلما دخلت الغرفة فإذا هي صالة كبيرة وفي وسطها طاولة مستطيلة طويلة تحف بها كراس كثيرة، فأشار لي إلى الكرسي الذي في صدرها، وقال: انتظر قليلاً.
ولم يطل انتظاري، إذ دخل رجل مهيب ووراءه السكرتير الذي أرشدني للصالة، فشعرت بأنه الشخص المطلوب، فأردت النهوض فأشار بيده أن لا أنهض، ثم انحنى عليَّ وقال: أنا هر فلان، لماذا تريد أن تراني شخصياً لأمر يخصني ويخصك؟
فقلت في نفسي: هنا ينفع الصدق، فقلت له: بكل أمانة وصراحة، أنا طالب في الدراسات العليا في جامعة كمبردج بانكلترا، ولم يكن لدي مورد مالي يقوم بنفقاتي الدراسية، فاستأذنت أستاذي المشرف في القدوم إلى هنا لعلي أجد عندكم عملاً لمدة قصيرة فأوفر بعض المال لكي استمر في دراستي.
فقال: هذا كل ما في الأمر لرؤيتي شخصياً؟ قالها: متعجباً، فقلت له: لا بدَّ ان كلمتك مطاعة في هذا المصنع فلذلك قصدتك شخصياً، لأن الأمر لك شيء بسيط ولكنه لي شي هائل في الاستمرار بدراستي، .
فقال: هل لديك خلفية علمية بالميتالوجي، (وتعني علم المعادن) ولكنه قالها بلكنة ألمانية، طرقت سمعي: بالميثالوجي، (الأساطير الأغريقية) فردتت عليه بالإيجاب، فأخرج ورقة من جيبه وبدأ يكتب فيها، وسكرتيره واقف وراءه، فلما انتهى تكلم مع سكرتيره، ثم صافحني بحرارة، وخرج، فقلت في نفسي: خذها يا ابن سامراء مرة ثانية.
فسار معي السكرتير إلى مكتب التشغيل في البناية نفسها وسلم الورقة إلى أحد الموظفين، وودعني وانصرف.
طلب مني هذا الموظف أن أجلس على كرسي في المكتب فجلست، وبدأ يكتب شيئاً على الآلة الكاتبة، فتذكرت "رمنكتون" العزيزة، فلما انتهى سلمني بطاقة رسمية مكتوب عليها: "مساعد مهندس"، تسمح لي بالدخول إلى المصنع مع رسالة مصاحبة لها، وأشار لي إلى بناية بيضاء عالية على التل، وقال بانكليزية مكسرة: إذهب إلى تلك البناية.
تسلقت أدراج التلة وكأنني ظبي شارد من الفرح، وتخيلت وجه زوجة أخي وهي ترى بطاقتي: "مساعد مهندس"، فطرقت الباب ففتحته فتاة في العشرين من عمرها، فأريتها الرسالة، فأشارت إلي بالدخول، فإذا أنا في داخل مختبر وكانه أحد المختبرات الطبية، ومضت بالرسالة إلى مدير المختبر، فجاء مسرعاً وصافحني بحرارة شديدة، وقال بانكليزية سليمة: أنا هر فلان، أهلا بك معنا، فقلت له: يسعدني أن أكون معكم.
فقال لي: اسمك يدل على انك عربي، فقلت له: نعم، فأخذني إلى مكتبه، وكانت القهوة مهيئة، فقال: أنا كنت ضمن الشبيبة النازية، ولذلك أحب العرب وأكره اليهود، فقلت له: ولماذا تكره اليهود؟ فقال: هم قوم غدَّارون.
فقلت له: متى أبدأ العمل. وما نوع العمل الذي تطلبه مني؟ وأقول لك بكل صراحة وأمانة ما قلته لهر فلان، وأعدت عليه كلامي، وانني لا افهم في الكيمياء ولا بعلم المعادن، فضحك طويلاً، ثم قال: تعجبني صراحتك، وقال: عملك عندي سيكون بسيطاً وسهلاً، فقلت له: وما هو؟
قال: تخرج مع هذه الفتاة كل يوم في الساعة الفلانية إلى أعلى النهر وتملأون جملة من الدوارق والقوارير بالماء، وتنزلون إلى ما بعد المصنع وتملأون جملة من الدوارق والقوارير بالماء أيضا، وتعودون في الساعة الفلانية حتى نجري التحاليل على الماء ونكتب التقرير اليومي، وهذه الفتاة تعرف المواضع وما عليك إلا مرافقتها.
فقلت له: ولماذا تفعلون هذا؟ قال: هذا أمر مفروض من الدولة على المصنع حتى يتأكدوا من أن المصنع لا يلوث مياه النهر الذي يُسحب ماء الشرب منه قبل تصفيته.
فقلت له: هل أبدأ العمل غداً؟ قال: لا!! بل اليوم، وخرجت مع الفتاة، ولم تكن هذه الرفيقة تحسن الإنكليزية، فكنا ننزوي في مقهى على النهر، بعد أن نملأ الدوارق والقوارير من ماء النهر، تعلمني الألمانية وأعلمها الإنكليزية، حتى إذا حانت ساعة العودة عدنا للمختبر.
(له صلة).
 
من دفتر الذكريات (34):
عندما كنا نعود للمختبر، نسلم القوارير والدوارق إلى مجموعتين من المحللين: مجموعة تحلل الماء الذي جئنا به من أعلى المصنع، والثانية تحلل ما جئنا به من أسفل المصنع، فكنت أتتبع معهم كل العمليات بشغف وحب استطلاع، فتعلمت طرق التحليل والكثير من المصطلحات الكيماوية، وبدأت أتعلم شيئاً من اللغة الألمانية التي ازدادت على مدى الأيام معهم ومع رفيقتي.
وعدت إلى البيت بعد انتهاء عملي في المختبر، فوجدت أخي وزوجته على مائدة العشاء، فألقيت عليهما التحية،
فبادرتني قائلة: أين كنت ونحن ننتظرك؟
فقلت لها: افتحي يدك، فلما فتحتها وضعت فيها بطاقتي،
فلما نظرت فيها: قالت والدهشة العميقة تعلو وجهها: عجيب غريب، كيف عملت هذا؟
فأخبرتهما بالتفاصيل،
فقالت: إن ما قمت به لن يفعله ألماني أو ألمانية قط.
فقال أخي: الضرورات تُبيح المحظورات، ولولا ما فعل فلا يمكن له أن يحصل على عمل في المصنع.
واستمر عملي في المختبر مع الدوارق والقوارير والرفيقة، حيث كنت أشارك أخي وزوجته في النفقات، إلى أن حدث ما لم أكن أتوقعه، إذا وصلت إليَّ رسالة من أخي الأكبر - رحمه الله- وكان أميناً عاماً للمجمع العلمي العراقي إذ ذاك، يقول فيها: أكتب طلباً إلى مديرية البعثات العامة، مع توصية من أستاذك، تطلب فيه أن يضموك إلى قائمة الطلاب الذين يدرسون على حسابهم في الخارج.

أسرعت في الكتابة إلى أستاذي حيث أخبرته بما جاء في رسالة أخي، فجاءتني التوصية سريعاً بعد عدة أيام، فأرفقتها مع طلبي للإنضمام إلى طلاب البعثة، وأودعتها في صندوق البريد.
ومن الطرائف أنني كنت سائراً في القرية في يوم عطلة، فهرولت نحوي طفلة صغيرة كانت مع والديها، وقالت لي: لماذا شعرك أسود؟
فقلت لها: لأنني اصبغه بدهن الأحذية الأسود،
فضحكت وهرولت لوالديها.

وأردت مرة أن أشتري قنينة حبر، ولم أكن أعرف اسم الحبر يالألمانية،
فقالت لي البائعة: ماذا ترغب؟
فقلت لها: ماء أسود، فجاءت لي بقنينة الحبر.

وفي نهاية ما يقرب من الشهرين على وصولي إلى ألمانيا، ودَّعت مدير المختبر والعاملين فيه ورفيقتي طبعاً، وشكرتهم على حسن استقبالهم والمتعة التي أحسستها معهم، وودعت أخي وزوجته، وشكرتهما على صبرهما عليَّ وعلى حسن ضيافتهما، وعدت أدراجي إلى لندن كما جئت أول مرة.
وحدثت نفسي وأنا في لندن أن أزور الملحق الثقافي في السفارة العراقية بلندن قبل سفري إلى كمبردج، فلعله سمع شيئاً عن أمر البعثة، فكان كما حدست، إذ عندما رآني قال لي: تهانينا،
فقلت له: على ماذا؟
قال: قد ورد أمر من مديرية البعثات العامة من يغداد بضمك إلى الطلبة الذين يدرسون على حسابهم، ثم سحب ورقة مكتوبة من مكتبه وقال: وقِّع ها هنا.
فوقعت دون النظر في محتوياتها، ورأيته يسحب حزمة من الباونات وبدأ يحسبها، فنقدني ما بذمته من البعثة لمدة شهرين ومصاريف الكلية وثمن القرطاسية. فشكرت الله تعالى على نعمه الظاهرة والباطنة، إذ لم يدخل جيبي مثل هذا المبلغ من قبل.

ولما خرجت من السفارة، فرحاً مسروراً، يممت شطري إلى محطة القطار لأذهب إلى كمبردج، وحال وصولي إليها أسرعت إلى مكتب تأجير الغرف، فزودني بثلاثة عناوين، فارتأيت أن أنتظر إلى الساعة السادسة حين يصحو البولندي من نومه لكي آخذ الآلة الكاتبة مع ما تركته في الكراج القديم، فلما وصلت إلى البيت، وجدتهما في المطبخ على مائدة العشاء، فرحبا بي إيما ترحيب، وقال البولندي لي: غرفتك ما تزال فارغة تنتظرك،
فقلت له: جيد جداً سوف اشغلها، فصعدت إلى الغرفة وتركت حقيبتي ونزلت لشرب الشاي معهم.
(له صلة)

#دفتر_الذكريات
#أنا_والمستشرقون

 
من دفتر الذكريات (35):
ولما انتهيت من شرب الشاي والحديث معهما عن سفري المتعب ومصاعبه، وما عملته في ألمانيا باختصار، تركت البولندي وزوجته في غرفة المطبخ وصعدت إلى غرفتي فأويت إلى الفراش لأنني كنت مرهقاً من السفر الطويل، مع علمي بأن البولندي سوف يذهب إلى عمله المسائي ليعود مع الفجر لكي ينام، وأن زوجته سوف تأوي إلى فراشها مبكراً لتؤدي عملها في دار المسنين صباحاً.
وفي حدود الساعة التاسعة صباحاً، رنَّ جرس الباب الخارجي، فاسرعت إلى الباب خشية أن يستفيق البولندي من نومه، فلما فتحت الباب رأيت اثنين من رجال البوليس، فسلما عليَّ بتحية الصباح، وقال أحدهما: أنت المستر فلان؟ فقلت له: نعم، فقال: لو سمحت أن تتفضل معنا؟ فقلت له: إلى أين؟ قال: إلى مركز البوليس، فقلت له: ولماذا؟ قال: لا نعلم، فقد أرسلنا الضابط لإحضارك، فقلت لهما: أمهلاني حتى ألبس ملابسي وأذهب معكما.
لبست ثيابي بسرعة، وكان البولندي، من حسن حظه، يغط في نومه، فذهبت بسارتهما دون إفطار إلى مركز البوليس في وسط المدينة، فأدخلاني إلى غرفة الانتظار، وبعد دقائق جاء أحدهما وأشار إليَّ أن أدخل في غرفة أخرى، فلما فتح الباب رأيت ثلاثة من كبار ضباط البوليس جالسين وراء الطاولة، فأشار إليَّ أحدهم أن أجلس على كرسي مقابل لهم فجلست.
فبدأ الرئيس منهم، فقال لي: أتعرف فلانة، فقلت: نعم، هي صديقة فلان، وهو عراقي الجنسية يسكن معي في منزلي.
فقال: وماذا شأنك معها؟ فقلت له: ما شأني؟ اشرح لي لو سمحت ما تعني، فقال: إنك، حسب شهادة صديقها، اعتديت عليها بسكينة، وهي راقدة الآن في المستشفى للعلاج، فقلت له: يا سيدي، أنا لا أملك سكينة حتى أعتدي على أحد، ثم إنني لم أصل إلى إنكلترا ومن ثم كمبردج إلا أمس حيث كنت في ألمانيا، فقال: وكيف تثبت ذلك؟ فأخرجت جواز سفري وكان فيه أختام الخروج والعودة، فلما شاهد ضباط البوليس الأختام بدأوا ينظرون لبعضهم البعض، فقاموا جميعا، وقالوا: نأسف جداً على إقلاق راحتك وإزعاجك، ونرجو أن تسمح لنا في ما وقعنا فيه من الخطأ، ويمكنك أن تطالب بتعويض منا على إقلاقك وإزعاجك.
فقلت لهم: لست محتاجاً إلى تعويض ولكن عليكم بمن فعل هذا وكذب عليكم.
ولما استجوبوا الفتاة لوحدها أخبرتهم بالحقيقة، فما كان من البوليس إلا أن يقبض على صديقها ويرحلوه مباشرة بملابسه إلى المطار في لندن تحت الحراسة ومنها إلى بغداد، دون أن يسمحوا له بالرجوع إلى غرفته أو أخذ أي شيء منها.
ولما علم الرجل البولندي وزوجته بالأمر، قالا لي: يا فلان، ماذا نفعل بملابسه وما تركه في الغرفة وكميات الكتب التي تركها في الغرفة وفي الكراج؟ فقلت لهما: اعذروني، فإن هذا الأمر لا يخصني ولكم أن تتصرفوا كما تشاءون بها.
(له صلة).
 
من دفتر الذكريات (36):
عدت إلى غرفتي من مركز البوليس بعد أن اشتريت ما أحتاجه لإفطاري، فأويت إلى الفراش لأخفف من الصدمة البوليسية والإرهاق، فصحوت على صوت البولندي وزوجته في غرفة المطبخ، فلبست ملابسي ونزلت إليهم وحييتهم، فدعوني إلى العشاء معهم، وقالوا: ما زلنا لا نعرف ماذا نفعل بحاجيات الرجل وكتبه، فقلت لهم: اهدوا ما في الغرفة إلى إحدى الجمعيات الخيرية التي تعنى بالفقراء، والكتب إلى المكتبات المحلية التي يرتادها عموم الناس، وتكونوا قد أفرغتم الغرفة والكراج لمستأجر جديد.
خرجت في المساء ميمماً شطرمركز المدينة حيث المقهى الإيطالية، التي كانت مزدحمة أيضا بالطلاب والطالبات وغيرهم، فلما دلفت إليها تلقتني النادلة بترحاب شديد، وقالت: لقد افتقدتك، فأين كنت في هذا الغياب؟
فقلت لها: كنت في زيارة أخي وزوجته في ألمانيا.
فقالت لي: وماذا تود أن تشرب؟
قلت: قائمة الشراب نفسها، فجاءت لي بفنجان القهوة مع قطعة كبيرة من "الكيك"، فقلت لها: ما هذا؟ فقالت: هذا مني للإحتفال بقدومك، فشكرتها على كرمها.
ولما كان المقهى مزدحماً فلم يكن لديها وقت للتحدث معي. فخرجت إلى شوارع المدينة، أبحث عن بنك مناسب حتى أفتح فيه حساباً وأرسل اسمه وعنوانه ورقم الحساب إلى الملحق الثقافي لأنه أوصاني بذلك، ولأودع فيه ما عندي من مال، فساقتني قدماي مرة أخرى إلى كلية بامبروك، فوقفت أمام بوابتها المغلقة، فتذكرت تلك اللحظات المقلقة التي مررت بها، فقلت في نفسي: من كان مع الله كان الله معه.
عدت من المدينة إلى البيت، فلما فتحت الباب الخارجي رأيت الضوء في غرفة المطبخ، وكانت زوجة البولندي لم تزل فيها، فحييتها بتحية المساء، فقالت: اجلس واشرب هذا الشاي وحدثني عما حصل لك مع البوليس ولفلان، قبل أن أذهب للنوم، فأخبرتها عما حدث بالتفصيل، فقالت: الغرابة في اختلافكما وأنتما من بلد واحد، فقلت لها: هل كل البولنديين من أمثالك وأمثال زوجك؟ فقالت: طبعاً لا، فقلت لها: كل شعوب الدنيا فيها الخسيس وفيها النفيس، فمنهم حديد ومنهم ذهب كالمعادن، فقالت: صدقت. فلما نهضت ألقيت عليها تحية المساء وصعدت إلى غرفتي.
وفي صباح اليوم التالي، كان البيت خالياً هادئاً، فالرجل البولندي يغط في نومه وزوجته في عملها، فهيئت إفطاري البسيط، وخرجت ميمماً شطر معهد الدراسات الشرقية حيث كان أستاذي رئيساً له، وكان فيه جملة من المحاضرين بدرجات متفاته، فلما دلفت إليه اتجهت إلى غرفة أستاذي، فطرقت الباب ففتحه بنفسه، فلما رآني، قال لي: أهلاً وسهلاً، متى عدت؟ قلت له: البارحة، فأشار لي إلى كرسي قريب منه، فبدأت أحدثه، إلا أنه أوقفني باشارة من يده، وقال: زرني اليوم في بيتي في المساء حتى نتحدت بحرية دون رقيب، فقلت له: أمرك أستاذي.
خرجت من المعهد ميمماً شطر مركز المدينة حيث يقع لويدز بنك، فأبديت لأحد الموظفين فيه رغبتي في فتح حساب لي فيه، فرحب جداً، ففتح لي حساباً فأودعت فيه ما لدي من مبلغ وتركت في جيبي ما اتبلغ به ومنه، إلا ان الموظف غاب برهة من الزمان وتركني، ثم عاد ومعه دفتر الشيكات.
وعدت إلى المقهى حيث كتبت رسالة للملحق الثقافي ذكرت فيها عنوان البنك ورقم حسابي، فأودعتها في صندوق البريد، المقابل للمقهى.
في المساء سارعت إلى بيت أستاذي، فوجدته ينتظرني فحييته وحياني بحرارة، وقادني إلى غرفة الجلوس حيث كانت زوجته أيضاً فحييتها، فأشار إلي أن أجلس على كرسي بينهما، وكان الشاي والحلويات مهيئين على الطاولة، فقال استاذي: يا فلان، الآن يمكننا أن نتحدث بحرية، فماذا فعلت؟ فبدأت من أول سفري إلى لحظة وصولي إلى كمبردج، وهما يستمعان لي باهتمام شديد، حتى إذا وصلت في حديثي إلى "ميتالوجي" وميثولوجي"، ضحكا طويلاً، ثم حدثتهما عن قصتي مع البوليس فاستغربا من غباء البوليس حيث أنهم لم يتحققوا الأمر من الفتاة نفسها أولاً.
ولما انتهيت من سرد الحوادث بتفاصيلها، قال لي استاذي: لقد أمتعتنا يا فلان بمغامراتك السندبادية، وقد أعجبتني جرأتك وصبرك ومثابرتك، ولذلك لم أكن مخطئاً حين أخترك طالباً عندي، فقد توسمت فيك كلَّ هذا حين رأيتك أول مرة. والآن أرجو أن تستمر في بحثك بجد ونشاط وأن تطلعني قريباً عن ما فعلت، فقلت له: إن شاء الله.
ولما هممت بالانصراف شكرتهما على حسن ضيافتهما وانصرفت.
(له صلة).
 
من دفتر الذكريات (37):
بادرت في اليوم التالي إلى زيارة المكتبة، ولما دخلت إليها أسرعت إلى المشرفة على الكتب الشرقية، فوجدتها في مكتبها، فسلمت عليها، وقدمت لها هدية بسيطة من ألمانيا، فشكرتني على أنني لم أنسها، وقدمت لي بعض الأوراق التي تحتوي على المصادر التي تتناول مسألة العروج في الديانات المختلفة، وسألتني عن سفري وما لقيت فيه فأخبرتها بأنني كنت في زيارة لأخي، وكانت فرصة لي لكي أتعلم شيئاً من اللغة الألمانية التي قد تنفعني في بحثي، فقالت: هذا صحيح لأن بعض البحوث التي في القائمة مكتوبة بهذه اللغة.
ثم سألتني عن الآلة الكاتبة، فقلت لها: ما زالت تنعم براحتها في الكراج القديم، وسوف أحاول استعمالها عندما انتهي من النص ومشكلاته. ولم اتطرق في حديثي معها إلى ما جرى لي مع البوليس لأن ذلك ليس من شأنها.
وفي مساء ذلك اليوم نقلت الآلة الكاتبة مع كتبي الأخرى إلى غرفتي من الكراج القديم، فحاولت أن أتعلم على مواقع الحروف فيها، فإذا بهذه الطابعة الملعونة تحدث ضجيجاً في البيت حين ضربي على حروفها، فتوقفت حالاً، وفكرت في الانتقال إلى مكان آخر لأن البولندي ينام مع الفجر ولايصحو إلا في حوالي السادسة مساءاً، بينما تنام زوجته مبكراً ولا استطيع الطباعة حين تكون نائمة، فتوحلت في هذه المسألة.
وفي صباح اليوم التالي زرت مكتب تأجير الغرف، فزودوني بثلاثة عناوين، فذهبت إلى العنوان الأول فلم يكن أحد في البيت وكذلك في العنوان الثاني، فسرت إلى حيث العنوان الثالث، فاكتشفت أنه يقع مقابل كليتي عبر الشارع تماماً. فدلفت إلى الممر الذي بين الشارع وبين البيت لكي أرن جرس الباب، فإذا بسيدة تسرع الخطى إليَّ أمام الباب، فلما وصلت إليَّ قالت وبدون تحية: لقد بعثك الرب إليَّ، فقلت لها مستغرباً: كيف بعثي الرب إليك وأنا ابحث عن غرفة؟ ففتحت الباب، وقالت: تفضل يا بني، فدخلت، فأرتني غرفة أرضية تطل على الشارع مقابل كليتي، فقالت: هذه لجلوسك ولعملك.
وطلبت مني أن أصعد الدرج أمامها، وهذه عادة أوربية إذا ذاك وما زالت، قبل أن يشيع استعمال السراويل وأنواعها بين النساء،حتى لا يبصبص الرجل إلى ما تحث ثياب النساء حين صعودهن قبل الرجال، فصعدتُ وهي ورائي، فأشارت لي إلى غرفة صغيرة مطلة على الحديقة الخلفية للدار، وقالت: وهذه لمنامك، وهذا الحمام ومرافقه، واردفت قائلة: هل اعجبك ما ترى؟ قلت لها: أحسن مما توقعت وتأملت، ولكن ما سعر تأجيرهما؟ فقالت: كلاهما بسعر واحد، وهو بسعر غرفة واحدة.
فلما نزلنا إلى غرفة جلوسها دعتني إلى شرب الشاي مع بعض الحلويات، فسألتني عن بلدي وديني وبحثي والأستاذ المشرف عليَّ وعن كليتي، فأخبرتها عن كل ذلك بصدق وصراحة، ولما وصلت إلى اسم كليتي: أشرت إليها، فقالت: أحمد الرب الذي جعلك قربها،
فقلت لها: يا سيدتي لقد ذكرت الرب الآن، فما قصة قولك: لقد بعثك الرب إليَّ؟ فقالت: يا ولدي أنا الآن فوق السبعين من عمري، وقد كنت مشغولة مع كثير من النساء بالتمريض في الحرب العالمية الثانية، فلم تحن لي فرصة للزواج، وكنت أسمع كثيراً عن المشكلات التي يسببها المستأجرون من جيراني الذين يؤجرون الغرف،
فدعوت الرب أن يرسل لي أحد الطلاب الهادئين الذين عندهم خلق وحنان وصدق في أقوالهم، فلما حدثتني عن نفسك بصراحة وأمانة، شعرت أن الرب استجاب دعائي، فقلت لها: يا مس بين Miss Pyne أرجو أن أكون عند حسن ظنك.
وفي اليوم التالي انتقلت إلى هذا العنوان الجديد، بعد أن شرحت الأمر للرجل البولندي حول عملي في الطابعة والضجيج الذي تحدثه في البيت في الوقت الذي يكون فيه نائماً وزوجتك التي تنام مبكراً، فتفهم الأمر، وقال: أرجو أن تزورنا ولا تقطع زيارتك لنا، فقلت له: سوف أفعل دائماً، وقد فعلت.
ودمت ساكناً في هذا العنوان الجديد، إلى أن أكملت رسالتي, ومناقشتي لها.
(له صلة).
 
من دفتر الذكريات (38):
كانت هذه السيدة تنتمي لجماعة مسيحية صغيرة لهم كنيسة واحدة في البلدة، فكانوا يأتون بسيارة أحدهم يوم الأحد فيأخذونها إلى الكنيسة، ويعودون بها بعد الإنتهاء من صلاتهم، فإذا لم يأت أحد، أوصلتها بسبارتي التي اقتنيتها في ما بعد، ويعيدها أحدهم للبيت.
وكان بعضهم يتطوع أحياناً فينظف الحديقة الخلفية ويعتني بها وبما فيها من أشجار ونباتات، حيث كان من ضمنها شجرة كمثرى pear كبيرة تنتج كثيراً من هذه الفاكهة، فكنت في كل سنة أوزعها من كثرتها في أكياس على كل الجيران في الشارع، ويبقى منها الكثير.
وكان في هذه الحديقة أيضاً شجيرة ذات أوراق كبيرة ذات عروق حامضة، تسمى: Rabarber رباربر. وكانت هذه السيدة مشتركة مع مؤسسة تطوعية تسمى: "وجبات على العجلات" Meals on Wheels تجلب لها الأكل ظهراً لمرة واحدة في اليوم، وكانت هذه الوجبة تكفيها إلى اليوم الثاني، بينما كنت أتناول الغداء والعشاء مع الطلاب في الكلية لقاء سعر رمزي ببطاقات نشتريها من المسؤول عن المطعم، إضافة إلى الاستحمام فيها مجاناً. إذ لم يكن الاستحمام متاحاً في بيت البولندي إلا له ولزوجته. وكانت الكليات إذ ذاك غير مختلطة كما هي الآن، فقد كان للطلاب كليات خاصة بهم وللطالبات كليات خاصة بهن، ولما كان الطلاب يستحمون تحت "الدوش" عرايا، كنت أتجنب الاستحمام معهم، حتى إذا خلت الحمامات منهم في آخر المساء، ولم يبق منهم أحد، استحممت بسرعة، وعبرت الشارع إلى البيت.
لما انتهيت من نقل نص المخطوطة بخطي الرديء، بدأت بالتعلم على الآلة الكاتبة بعد أن وضعتها على الطاولة بمواجهة الكلية، وأدخلت فيها ورقتين بينهما ورقة الكاربون، وقد سبق لي أن اشتريت قنينة تحتوى على سائل أبيض يجف بسرعة لتصحيح ما أطبع من خطأ في النص، وبدأت بالتدريب عليها كل مساء عند عودتي من المكتبة وانتهائي من العشاء في الكلية.
كانت غرفة نوم السيدة فوق غرفة عملي تماماً، فكنت أسألها أن كان ضجيج الآلة الكاتبة المزعج يزعجها في نومها، فتقول لي: أبداً لا اسمعها، فأرتاح لذلك. وكانت قبل أن تأوي إلى فراشها، تجلس على كنبة في غرفتي تؤنسني، وتحدثني عن حياتها وعن عائلتها، وأنا في الوقت نفسه منهمك في الطباعة، فبدأت لغتي الإنكليزية تتحسن تدريجياً مع الأيام، وكنت أرد عليها بين الحين والآخر: أي نعم مس بين! O yes Miss Pyne فتستمر في حديثها دون أن أقاطعها، حتى إذا اكتفت، ألقت عليَّ تحية المساء وصعدت إلى غرفتها.
فعلمت منها أن لها أختاً وابنتها تعيشان في قرية قريبة من كمبردج، وعلمت منها أن أختها وابنتها على خلاف معها منذ زمن طويل بسبب نسيته الآن، فزرت هذه الأخت ورجوتها أن تزور أختها، بعد أن أخبرتها بأنني أسكن في بيتها، ففعلت في يوم من الأيام، فكانت مفاجئة غير متوقعة لها أن تزورها أختها، فحدَّثَتْها عن زيارتي لها، فقالت لي بعد أن رحلت أختها: يا فلان، ألم أقل لك إن الرب بعثك إليَّ؟
فقلت لها: إن صلة الرحم واجبة في ديننا وفي كل الأديان وحرام قطعها.
واستمرت زيارة أختها لها مع ابنتها، منذ ذلك الحين.

وفي يوم من الأيام عدت للبيت بعد العشاء في الكلية، فوجدت صحناً مغطىً على الطاولة جنب الآلة الكاتبة، فلما كشفت عنه عرفت أنه طبيخ الربربر بالسكر، فأكلته وحملت الصحن بعد أن غسلته إلى غرفة جلوسها، فشكرتها جداً على لذته وحسن طبخه، فقالت: يا فلان، هذا أقل ما يمكنني أن أقدمه لك، أنك تعرف بأنني لا أطبخ وكنت أود أن أطبخ.
واستمر صحن الربربر يومياً حتى مللته، فصرت أدلقه أحياناً من النافذة الأمامية، حين تأوي السيدة إلى غرفتها للنوم، فيختفي بين حشائش الحديقة الخارجية الصغيرة، دون أن أخبرها بذلك، ثم أغسل الصحن وأودعه في مكانه، فكان سماداً طبيعياً رائعاً للحشائش.
وفي يوم من الأيام عدت من العشاء في الكلية، فوجدتها جالسة في غرفتي وهي منهمكة في رفو جواربي الممزقة، فقلت لها: ماذا تفعلين يا سيدتي؟
فقالت: هذا ما كنا نفعله لجوارب الجنود أثناء الحرب العالمية الثانية، فأنا أتسلى برفو جواربك، حتى تقتصد في مصروفاتك، فشكرتها على هذه الفكرة التي لن يفكر بها أحد ممن ذاق الغنى والترف.

(له صلة)
 
عودة
أعلى