حُجِّيَّةُ خبرِ الآحادِ في العلم والعمل

إنضم
21/12/2015
المشاركات
1,712
مستوى التفاعل
13
النقاط
38
الإقامة
مصر
حُجِّيَّةُ خبرِ الآحادِ في العلم والعمل :
قال ابن عبدالبر رحمه الله في كِتَابِ التَّمْهِيدِ:
وَكُلُّهُمْ يَدِينُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ ويعادى ويوالى علها وَيَجْعَلُهَا شَرْعًا وَدِينًا فِي مُعْتَقَدِهِ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَهُمْ فِي الْأَحْكَامِ مَا ذَكَرْنَا وَبِاللَّهِ تَوْفِيقُنَا
قال في مختصر الصواعق :
قَالَ إِمَامُ عَصْرِهِ الْمُجَمَعُ عَلَى إِمَامَتِهِ أَبُو الْمُظَفَّرِ مَنْصُورُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمْعَانِيُّ فِي كِتَابِ الِانْتِصَارِ لَهُ وَهَذَا لَفْظُهُ.
{فصل الاستدلال بأحاديث الآحاد في العلم كالعمل}
فَصْلٌ
وَنَشْتَغِلُ الْآنَ بِالْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ لَا تُقْبَلُ فِيمَا طَرِيقُهُ الْعِلْمُ، وَهَذَا رَأْيٌ سَمِعْتُ بِهِ الْمُبْتَدَعَةَ فِي رَدِّ الْأَخْبَارِ فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: إِذَا صَحَّ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ الثِّقَاتُ وَالْأَئِمَّةُ وَأَسْنَدَهُ خَلَفُهُمْ عَنْ سَلَفِهِمْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلَقَّتُهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ فِيمَا سَبِيلُهُ الْعِلْمُ، هَذَا قَوْلُ الْعَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمُتْقِنِينَ مِنَ الْقَائِمِينَ عَلَى السُّنَّةِ.
وَأَمَّا هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي يُذْكَرُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِحَالٍ فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْلِهِ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ لِوُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ حَتَّى أَخْبَرَ عَنْهُ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَكَانَ قَصْدُهُمْ مِنْهُ رَدَّ الْأَخْبَارِ، وَتَلَقَّفَهُ مِنْهُمْ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي الْعِلْمِ قَدَمٌ ثَابِتٌ، وَلَمْ يَقِفُوا عَلَى مَقْصُودِهِمْ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَوْ أَنْصَفَ أَهْلُ الْفِرَقِ مِنَ الْأُمَّةِ لَأَقَرُّوا بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ قَدْ يُوجِبُ الْعِلْمَ، فَإِنَّكَ تَرَاهُمْ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي طَرَائِقِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ يَسْتَدِلُّ كُلُّ فَرِيقٍ
مِنْهُمْ عَلَى صِحَّةِ مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ بِالْخَبَرِ الْوَاحِدِ: تَرَى أَصْحَابَ الْقَدَرِ يَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» " وَبِقَوْلِهِ: " «خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ دِينِهِمْ» " وَتَرَى أَهْلَ الْإِرْجَاءِ يَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِهِ: " «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ " قِيلَ: " وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ " قَالَ: " وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» " وَتَرَى الرَّافِضَةَ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يُجَاءُ بِقَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِي فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ» " وَتَرَى الْخَوَارِجَ يَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» " وَبُقَوْلِهِ: " «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» "
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَسْتَدِلُّ بِهَا أَهْلُ الْفِرَقِ، وَمَشْهُورٌ مَعْلُومٌ اسْتِدْلَالُ أَهْلِ السُّنَّةِ بِالْأَحَادِيثِ وَرُجُوعُهُمْ إِلَيْهَا، فَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَكَذَلِكَ أَجْمَعَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ مُتَقَدِّمُوهُمْ وَمُتَأَخِّرُوهُمْ عَلَى رِوَايَةِ الْأَحَادِيثِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالرُّؤْيَةِ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ وَالشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ وَإِخْرَاجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ الْمُذْنِبِينَ مِنَ النَّارِ، وَفِي صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَفِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَفِي فَضَائِلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنَاقِبِ أَصْحَابِهِ وَأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَخْبَارِ الرِّقَاقِ وَغَيْرِهَا مَا يَكْثُرُ ذِكْرُهُ.
وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ عِلْمِيَّةٌ لَا عَمَلِيَّةٌ، وَإِنَّ مَا تُرْوَى لِوُقُوعِ الْعِلْمِ لِلسَّامِعِ بِهَا، فَإِذَا قُلْنَا خَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ الْعِلْمَ، حَمَلْنَا أَمْرَ الْأُمَّةِ فِي نَقْلِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى الْخَطَأِ وَجَعَلْنَاهُمْ لَاغِينَ هَازِلِينَ مُشْتَغِلِينَ بِمَا لَا يُفِيدُ أَحَدًا شَيْئًا وَلَا يَنْفَعُهُ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُمْ قَدْ دَوَّنُوا فِي أُمُورِ الدِّينِ مَا لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَرُبَّمَا يَرْتَقِي هَذَا الْقَوْلُ إِلَى أَعْظَمِ مِنْ هَذَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَّى هَذَا الدِّينَ إِلَى الْوَاحِدِ فَالْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا الْوَاحِدُ يُؤَدِّيهِ إِلَى الْأُمَّةِ وَيَنْقُلُهُ عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الرَّاوِي لِأَنَّهُ وَاحِدٌ رَجَعَ هَذَا الْعَيْبُ إِلَى الْمُؤَدِّي نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الْبَشِعِ وَالِاعْتِقَادِ الْقَبِيحِ.
قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ الرُّسُلَ إِلَى الْمُلُوكِ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَمَلِكِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَإِلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُلُوكِ الْأَطْرَافِ يَكْتُبُ إِلَيْهِمْ كُتُبًا عَلَى مَا عُرِفَ وَنُقِلَ وَاشْتُهِرَ، وَإِنَّمَا بَعَثَ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّصْدِيقِ بِرِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِلْزَامِ الْحُجَّةِ وَقَطْعِ الْعُذْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا تَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الْعِلْمِ مِمَّنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ بِالْإِرْسَالِ وَالْمُرْسَلِ، وَأَنَّ الْكِتَابَ مِنْ قِبَلِهِ وَالدَّعْوَةَ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً كَثِيرًا مِنَ الرُّسُلِ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ وَالْكِتَابِ إِلَيْهِمْ لَبِثِّ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِمْ فِي جَمِيعِ الْمَمَالِكِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى دِينِهِ عَلَى حَسَبِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَقَعِ الْعِلْمُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي أُمُورِ الدِّينِ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى إِرْسَالِ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهَا إِنَّهُ بَعَثَ عَلِيًّا لِيُنَادِيَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ بِمِنًى " «أَلَا لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» " «وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَمُدَّتُهُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ» «وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ» .
وَلَا بُدَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ وُقُوعِ الْعِلْمِ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ كَانَ يُنَادِيهِمْ حَتَّى إِنْ أَقْدَمُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا بَعْدَ سَمَاعِ هَذَا الْقَوْلِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْسُوطًا لِلْعُذْرِ فِي قِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ.
وَكَذَلِكَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُعَلِّمَهُمْ إِذَا أَجَابُوا شَرَائِعَهُ.
وَبَعَثَ إِلَى أَهْلِ خَيْبَرَ فِي أَمْرِ الْقَتِيلِ وَاحِدًا يَقُولُ: «إِمَّا أَنْ تَدُوا وَإِمَّا أَنْ تُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ، وَبَعَثَ إِلَى قُرَيْظَةَ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ يَسْتَنْزِلُهُمْ عَلَى حُكْمِهِ، وَجَاءَ أَهْلَ قُبَاءٍ وَاحِدٌ وَهُمْ فِي مَسْجِدِهِمْ يُصَلُّونَ فَأَخْبَرَهُمْ بِصَرْفِ الْقِبْلَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَانْصَرَفُوا إِلَيْهِ فِي صَلَاتِهِمْ، وَاكْتَفَوْا بِقَوْلِهِ، وَلَا بُدَّ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُ الطَّلَائِعَ وَالْجَوَاسِيسَ فِي بِلَادِ الْكُفْرِ وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ وَيَقْبَلُ قَوْلَهُ إِذَا رَجَعَ، وَرُبَّمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ بِقَوْلِهِ وَحْدَهُ، وَمَنْ تَدَبَّرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِيرَتَهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَا يَرُدُّ هَذَا إِلَّا مُكَابِرٌ وَمُعَانِدٌ.
وَلَوْ أَنَّكَ وَضَعْتَ فِي قَلْبِكَ أَنَّكَ سَمِعْتَ الصِّدِّيقَ وَالْفَارُوقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ وُجُوهِ الصَّحَابَةِ يَرْوِي لَكَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ مِنَ الِاعْتِقَادِ مِنْ جَوَازِ الرُّؤْيَةِ عَلَى اللَّهِ وَإِثْبَاتِ الْقَدَرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَوَجَدْتَ قَلْبَكَ مُطْمَئِنًّا إِلَى قَوْلِهِ لَا يُدَاخِلُكَ شَكٌّ فِي صِدْقِهِ وَثُبُوتِ قَوْلِهِ، وَفِي زَمَانِنَا تَرَى الرَّجُلَ يَسْمَعُ مِنْ أُسْتَاذِهِ الَّذِي يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ وَيَعْتَقِدُ فِيهِ التَّقْدُمَةَ وَالصِّدْقَ إِنَّهُ سَمِعَ أُسْتَاذَهُ يُخْبِرُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ عَقِيدَتِهِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ بِهَا، فَيَحْصُلُ لِلسَّامِعِ عِلْمٌ بِمَذْهَبِ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ أُسْتَاذُهُ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِجُهُ شُبْهَةٌ وَلَا يَعْتَرِيهِ شَكٌّ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْعِلْمُ تُوجَدُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَحْصُلُ لَهُمُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ وَمَنْ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ عَلِمَ بِذَلِكَ.
قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَبَرَ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَالظَّنَّ فَلِلتَّجَوُّزِ فِيهِ مَدْخَلٌ، وَلَكِنَّ هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ لَا يَنَالُهُ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُعْظَمُ أَوْقَاتِهِ وَأَيَّامِهِ مُشْتَغِلًا بِالْحَدِيثِ وَالْبَحْثِ عَنْ سِيرَةِ النَّقَلَةِ وَالرُّوَاةِ، لِيَقِفَ عَلَى رُسُوخِهِمْ فِي هَذَا الْعِلْمِ وَكَبِيرِ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ وَصِدْقِ وَرَعِهِمْ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَشِدَّةِ حَذَرِهِمْ مِنَ الطُّغْيَانِ وَالزَّلَلِ، وَمَا بَذَلُوهُ مِنْ شِدَّةِ الْعِنَايَةِ فِي تَمْهِيدِ هَذَا الْأَمْرِ، وَالْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ الرُّوَاةِ وَالْوُقُوفِ عَلَى صَحِيحِ الْأَخْبَارِ وَسَقِيمِهَا، وَكَانُوا بِحَيْثُ لَوْ قُتِلُوا لَمْ يُسَامِحُوا أَحَدًا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَتَقَوَّلُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فَعَلُوا هُمْ بِأَنْفُسِهِمْ ذَلِكَ، وَقَدْ نَقَلُوا هَذَا الدِّينَ إِلَيْنَا كَمَا نُقِلَ إِلَيْهِمْ وَأَدَّوْا كَمَا أُدِّيَ إِلَيْهِمْ، وَكَانُوا فِي صِدْقِ الْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِهَذَا الشَّأْنِ مَا يَجِلُّ عَنِ الْوَصْفِ وَيَقْصُرُ دُونَهُ الذِّكْرُ، وَإِذَا وَقَفَ الْمَرْءُ عَلَى هَذَا مِنْ شَأْنِهِمْ وَعَرَفَ حَالَهُمْ وَخَبَرَ صِدْقَهُمْ وَوَرَعَهُمْ وَأَمَانَتَهُمْ، ظَهَرَ لَهُ الْعِلْمُ فِيمَا نَقَلُوهُ وَرَوَوْهُ.
قَالَ: وَالَّذِي يَزِيدُ مَا قُلْنَا إِيضَاحًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ قَالَ: " «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» " فَلَا بُدَّ مِنْ تَعَرُّفِ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَلَيْسَ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ إِلَّا النَّقْلَ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تُنَازِعُوا الْأَمْرَ أَهْلَهُ» " فَكَمَا يُرْجَعُ فِي مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ صَارُوا قُدْوَةً فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى أَهْلِ الْفِقْهِ، وَيُرْجَعُ فِي مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ إِلَى أَهْلِ اللُّغَةِ، وَفِي النَّحْوِ إِلَى أَهْلِ النَّحْوِ، وَكَذَا يُرْجَعُ فِي مَعْرِفَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَهْلِ الرِّوَايَةِ وَالنَّقْلِ، لِأَنَّهُمْ عُنُوا بِهَذَا الشَّأْنِ وَاشْتَغَلُوا بِحِفْظِهِ وَالْفَحْصِ عَنْهُ وَنَقْلِهِ، وَلَوْلَاهُمْ لَانْدَرَسَ عِلْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقِفْ أَحَدٌ عَلَى سُنَّتِهِ وَطَرِيقَتِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْمُظَفَّرِ: فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ كَثُرَتِ الْآثَارُ فِي أَيْدِي النَّاسِ وَاخْتَلَطَتْ عَلَيْهِمْ قُلْنَا: مَا اخْتَلَطَتْ إِلَّا عَلَى الْجَاهِلِينَ بِهَا، فَأَمَّا الْعُلَمَاءُ بِهَا فَإِنَّهُمْ يَنْتَقِدُونَهَا انْتِقَادَ الْجَهَابِذَةِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، فَيُمَيِّزُونَ زُيُوفَهَا وَيَأْخُذُونَ خِيَارَهَا، وَلَئِنْ دَخَلَ فِي أَغْمَارِ الرُّوَاةِ مَنْ وُسِمَ بِالْغَلَطِ فِي الْأَحَادِيثِ فَلَا يَرُوجُ ذَلِكَ عَلَى جَهَابِذَةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَوَرَثَةِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى أَنَّهُمْ عَدُّوا أَغَالِيطَ مَنْ غَلِطَ فِي الْإِسْنَادِ وَالْمُتُونِ، بَلْ تَرَاهُمْ يَعُدُّونَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمْ فِي حَدِيثٍ غَلِطَ، وَفِي كُلِّ حَرْفٍ حَرَّفَ، وَمَاذَا صَحَّفَ، فَإِذَا لَمْ تَرُجْ عَلَيْهِمْ أَغَالِيطُ الرُّوَاةِ فِي الْأَسَانِيدِ وَالْمُتُونِ وَالْحُرُوفِ فَكَيْفَ يَرُوجُ عَلَيْهِمْ وَضْعُ الزَّنَادِقَةِ وَتَوْلِيدُهُمُ الْأَحَادِيثَ الَّتِي يَرْوِيهَا النَّاسُ حَتَّى خَفِيَتْ عَلَى أَهْلِهَا، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمَلَاحِدَةِ وَمَا يَقُولُ هَذَا إِلَّا جَاهِلٌ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ كَذَّابٌ يُرِيدُ أَنْ يُهَجِّنَ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ الْكَاذِبَةِ صِحَاحَ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآثَارِهِ الصَّادِقَةِ، فَيُغَالِطَ جُهَّالَ النَّاسِ بِهَذِهِ الدَّعْوَى وَمَا احْتَجَّ مُبْتَدِعٌ فِي رَدِّ آثَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُجَّةٍ أَوْهَنَ وَلَا أَشَدَّ اسْتِحَالَةً مِنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ، فَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّعْوَى يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَفَّ فِي فِيهِ وَيُنْفَى مِنْ بَلَدِ الْإِسْلَامِ.
فَتَدَبَّرْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَيُجْعَلُ حُكْمُ مَنْ أَفْنَى عُمُرَهُ فِي طَلَبِ آثَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْقًا وَغَرْبًا، بَرًّا وَبَحْرًا، وَارْتَحَلَ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ فَرَاسِخَ، وَاتَّهَمَ أَبَاهُ وَأَدْنَاهُ فِي خَبَرٍ يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ مَوْضِعَ التُّهْمَةِ، وَلَمْ يُحَابِهِ فِي مَقَالٍ وَلَا خِطَابٍ غَضَبًا لِلَّهِ وَحَمِيَّةً لِدِينِهِ، ثُمَّ أَلَّفَ الْكُتُبَ فِي مَعْرِفَةِ الْمُحَدِّثِينَ وَأَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ وَقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، وَذَكَرَ أَعْصَارَهُمْ وَشَمَائِلَهُمْ وَأَخْبَارَهُمْ، وَفَصَلَ بَيْنَ الرَّدِيءِ وَالْجَيِّدِ، وَالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ، حُبًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَغِيرَةً عَلَى الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَ آثَارَهُ كُلَّهَا حَتَّى فِيمَا عَدَا الْعِبَادَاتِ مِنْ أَكْلِهِ وَطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَنَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَدُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ، وَجَمِيعِ سُنَنِهِ وَسِيرَتِهِ حَتَّى فِي خُطُوَاتِهِ وَلَحَظَاتِهِ، ثُمَّ دَعَا النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ وَحَثَّهُمْ عَلَيْهِ وَنَدَبَهُمْ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ وَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ بِكُلِّ مَا يَمْلِكُهُ حَتَّى فِي بَذْلِ مَالِهِ وَنَفْسِهِ كَمَنْ أَفْنَى عُمُرَهُ فِي اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِ وَإِرَادَتِهِ وَخَوَاطِرِهِ وَهَوَاجِسِهِ، ثُمَّ تَرَاهُ مَا هُوَ أَوْضَحُ مِنَ
الصُّبْحِ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشْهَرُ مِنَ الشَّمْسِ بِرَأْيٍ دَخِيلٍ، وَاسْتِحْسَانٍ ذَمِيمٍ، وَظَنٍّ فَاسِدٍ، وَنَظَرٍ مَشُوبٍ بِالْهَوَى.
فَانْظُرْ وَفَّقَكَ اللَّهُ لِلْحَقِّ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَاسْتِعْمَالِ الْأَثَرِ.
فَإِذَا قَضَيْتَ بَيْنَ هَذَيْنِ بِوَافِرِ لُبِّكَ وَصَحِيحِ نَظَرِكِ، وَثَاقِبِ فَهْمِكَ فَلْيَكُنْ شُكْرُكُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى حَسَبِ مَا أَرَاكَ مِنَ الْحَقِّ وَوَفَّقَكَ لِلصَّوَابِ وَأَلْهَمَكَ مِنَ السَّدَادِ.
قُلْتُ: وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ هَذَا عِنَايَتُهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِيرَتِهِ وَهَدْيِهِ فَإِنَّهَا تُفِيدُ عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ وَالنَّظَرِيِّ مَا لَا تُفِيدُهُ عِنْدَ الْمُعْرِضِ عَنْهَا الْمُشْتَغِلِ بِغَيْرِهَا، وَهَذَا شَأْنُ مَنْ عُنِيَ بِسِيرَةِ رَجُلٍ وَهَدْيِهِ وَكَلَامِهِ وَأَحْوَالِهِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ مَا هُوَ مَجْبُولٌ لِغَيْرِهِ.
 
ولعل هؤلاء القوم لو كانوا موجودين في عهد نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام ...لأنكروا عليه تصديقه للهدهد فيما نقل من خبر سبأ ...ولأنكروا عليه أيضا إرسالَه الهدهد لملكة سبأ .... وأين الهدهد من أمة نقل علمَها خيارُها.
 
قال أبو محمد ابن حزم في كتاب " الإحكام في أصول الأحكام ": إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوجب العلم والعمل معًا".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوي : جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَلَى أَنَّ " خَبَرَ الْوَاحِدِ " إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ أَوْ عَمَلًا بِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إلَّا فِرْقَةً قَلِيلَةً مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ يُوَافِقُونَ الْفُقَهَاءَ وَأَهْلَ الْحَدِيثِ وَالسَّلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ .
وقال رحمه الله: (وَمِنْ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا تَلَقَّاهُ الْمُسْلِمُونَ بِالْقَبُولِ فَعَمِلُوا بِهِ كَمَا عَمِلُوا بِحَدِيثِ الْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ وَكَمَا عَمِلُوا بِأَحَادِيثِ الشُّفْعَةِ وَأَحَادِيثِ سُجُودِ السَّهْوِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا يُفِيدُ الْعِلْمَ وَيَجْزِمُ بِأَنَّهُ صِدْقٌ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا بِمُوجِبِهِ وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ؛ فَلَوْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذِبًا لَكَانَتْ الْأُمَّةُ قَدْ اتَّفَقَتْ عَلَى تَصْدِيقِ الْكَذِبِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا).
يقول القرطبي رحمه الله في تفسيره : خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مِنَ السَّلَفِ مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ عَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي توجيهه ولأنه وَرُسُلَهُ آحَادًا لِلْآفَاقِ، لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ دِينَهُمْ فَيُبَلِّغُوهُمْ سُنَّةَ رَسُولِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأوامر والنواهي.
عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ ) أخرجه أصحاب السنن - قال الألباني : صحيح
قال الشوكاني في إرشاد الفحول : (وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ قَدْ صَيَّرَهُ مِنَ الْمَعْلُومِ صِدْقُهُ وَهَكَذَا خَبْرُ الْوَاحِدِ إِذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَكَانُوا بَيْنَ عَامِلٍ بِهِ وَمُتَأَوِّلٍ لَهُ.
وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَحَادِيثُ صَحِيحَيِ "الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ " فَإِنَّ الْأُمَّةَ تَلَقَّتْ مَا فِيهِمَا بالقبول).
 
يقول الإمام ابن دحية في كتاب الابتهاج : "وعلى قبول خبر الواحد الصحابة والتابعون وفقهاء المسلمين، وجماعة أهل السنة، يؤمنون بخبر الواحد، ويدينون به فى الاعتقادات".
والمعتزلة : هم أول الفرق التى اشترطت فى قبول الأخبار العدد كما فى الشهادة، وما أرادوا بذلك الشرط إلا تعطيل الأخبار والأحكام الواردة فيها .
وقال الحافظ ابن عبد البر في جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ: " وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ السُّنَّةِ أَخْبَارُ الْآحَادِ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ الْعُدُولِ وَالْخَبَرُ الصَّحِيحُ الْإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ مِنْهَا يُوجِبُ الْعَمَلَ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ هُمُ الْحُجَّةُ وَالْقُدْوَةُ وَلِذَلِكَ مُرْسَلُ السَّالِمِ الثِّقَةِ الْعَدْلِ يُوجِبُ الْعَمَلَ أَيْضًا وَالْحُكْمَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا.
 
كانوا يريدون التثبت وليس الطعن في أحاديث الآحاد، ثم إن هذه الأحاديث مستويات ودرجات؛ بل من الأحاديث الموضوعة ما هو صحيح مقبول -من حيث المتن- أي لا يستغرب صدورها عن النبي. فلابد من تفصيل في المسألة .. كنتُ في مجلِسٍ من مَجالِسِ الأنصارِ، إذ جاء أبو موسى كأنه مَذعورٌ، فقال : استأذَنتُ على عُمَرَ ثلاثًا، فلم يؤذَنْ لي فرجَعتُ، فقال : ما منَعك ؟ قلتُ : استأذَنتُ ثلاثًا فلم يؤذَنْ لي فرجَعتُ، وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( إذا استأذَن أحدُكم ثلاثًا فلم يؤذَنْ له فليَرجِعْ ) . فقال : واللهِ لتُقيمَنَّ عليه بَيِّنَةً، أمِنكم أحدٌ سمِعه منَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ؟ فقال أُبَيُّ بنُ كعبٍ : واللهِ لا يقومُ معَك إلا أصغَرُ القومِ، فكنتُ أصغَرَ القومِ فقُمتُ معَه، فأخبَرتُ عُمَرَ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال ذلك . أخرجه البخاري وغيره.
 
{وقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) }
ليتك لا تقصد أبعد مما قلت.....فلو كان لكان خيرا وأبقى .
 
وفي الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ: («وَعَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَانَ كَافَّةُ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْخَالِفِينَ , فِي سَائِرِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا , وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِنْكَارٌ لِذَلِكَ وَلَا اعْتِرَاضٌ عَلَيْهِ , فَثَبَتَ أَنَّ مِنْ دِينِ جَمِيعِهِمْ وُجُوبَهُ , إِذْ لَوْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ كَانَ لَا يَرَى الْعَمَلَ بِهِ لَنُقِلَ إِلَيْنَا الْخَبَرُ عَنْهُ بِمَذْهَبِهِ فِيهِ , وَاللَّهُ أَعْلَمُ»
يقول الإمام الحازمى شروط الأئمة الخمسة: "ولا أعلم أحداً من فرق الإسلام القائلين بقبول خبر الواحد اعتبر العدد سوى متأخرى المعتزلة؛فإنهم قاسوا الرواية على الشهادة، واعتبروا فى الرواية ما اعتبروا فى الشهادة، وما مغزى هؤلاء إلا تعطيل الأحكام كما قال أبو حاتم ابن حبان .
 
قال الإمام النووى في المنهاج : " وَأَمَّا خَبَر الْوَاحِد : فَهُوَ مَا لَمْ يُوجَد فِيهِ شُرُوطُ الْمُتَوَاتِرِ سَوَاء كَانَ الرَّاوِي لَهُ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ . وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ ؛ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَأَصْحَابِ الْأُصُولِ : أَنَّ خَبَر الْوَاحِد الثِّقَةِ حُجَّةٌ مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهَا ، وَيُفِيدُ الظَّنَّ وَلَا يُفِيدُ الْعِلْمَ ، وَأَنَّ وُجُوب الْعَمَل بِهِ عَرَفْنَاهُ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ . وَذَهَبَتْ الْقَدَرِيَّة وَالرَّافِضَة وَبَعْض أَهْل الظَّاهِر إِلَى أَنَّهُ يَجِب الْعَمَل بِهِ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُول : مَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ دَلِيلُ الْعَقْلِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول : مَنَعَ دَلِيلُ الشَّرْعِ . وَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى أَنَّهُ يَجِب الْعَمَل بِهِ مِنْ جِهَة دَلِيل الْعَقْل . وَقَالَ مِنْ الْمُعْتَزِلَة : لَا يَجِب الْعَمَل إِلَّا بِمَا رَوَاهُ اِثْنَانِ عَنْ اِثْنَيْنِ . وَقَالَ غَيْره . لَا يَجِب الْعَمَل إِلَّا بِمَا رَوَاهُ أَرْبَعَة عَنْ أَرْبَعَة . وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْل الْحَدِيث إِلَى أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُوجِبُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ دُونَ الْبَاطِنِ . وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ إِلَى أَنَّ الْآحَادَ الَّتِي فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ أَوْ صَحِيح مُسْلِم تُفِيدُ الْعِلْمَ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْآحَاد . وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْقَوْل وَإِبْطَاله فِي الْفُصُول وَهَذِهِ الْأَقَاوِيل كُلّهَا سِوَى قَوْلِ الْجُمْهُور بَاطِلَةٌ ، وَإِبْطَالُ مَنْ قَالَ لَا حُجَّةَ فِيهِ ظَاهِرٌ ؛ فَلَمْ تَزَلْ كُتُبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَآحَادُ رُسُلِهِ يُعْمَلُ بِهَا ، وَيُلْزِمُهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَمَلَ بِذَلِكَ ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ . وَلَمْ تَزَلْ الْخُلَفَاء الرَّاشِدُونَ وَسَائِر الصَّحَابَة فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ السَّلَف وَالْخَلَفِ عَلَى اِمْتِثَال خَبَر الْوَاحِد إِذَا أَخْبَرَهُمْ بِسُنَّةٍ ، وَقَضَائِهِمْ بِهِ ، وَرُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ فِي الْقَضَاء وَالْفُتْيَا ، وَنَقْضِهِمْ بِهِ مَا حَكَمُوا بِهِ خِلَافه ، وَطَلَبِهِمْ خَبَرَ الْوَاحِدِ عِنْدَ عَدَمِ الْحُجَّة مِمَّنْ هُوَ عِنْده وَاحْتِجَاجِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ ، وَانْقِيَادِ الْمُخَالِفِ لِذَلِكَ . وَهَذَا كُلُّهُ مَعْرُوفٌ لَا شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْهُ . وَالْعَقْل لَا يُحِيل الْعَمَل بِخَبَرِ الْوَاحِد وَقَدْ جَاءَ الشَّرْع بِوُجُوبِ الْعَمَل بِهِ ، فَوَجَبَ الْمَصِير إِلَيْهِ .
 
قال عبدالمحسن العباد في التحفة السنية شرح منظومة ابن أبي داود المسماة بالحائية :
قلنا : إن قوماً ينكرون هذه الأحاديث !! قال فما يقولون ؟ قلنا : يطعنون فيها , فقال :إن الذين جاءوا بهذه الأحاديث هم الذين جاءوا بالقرآن وبالصلاة والحج وبالصوم , فما يُعرف الله إلا بهذه الأحاديث .
وهذا الضلال مبنيٌّ على القاعدة التي قعدها المعتزلة : أن خبر الآحاد لا يقبل في العقيدة , مع أن حديث النزول متواتر , فما الضابط عندهم ؟ ومن يتأمل يجد أنَّ الضابط عند هؤلاء هو : أنَّ كلَّ حديث خالف مذهبهم ردوه بحجة أنَّه خبر آحاد وإن كان متواتراً , وكل حديث وافق هواهم قبلوه ولو كان مكذوباً , ولذا اعتمدوا على الحديث المكذوب ( أول ما خلق الله العقل ) , فالقوم أصحاب أهواء .
إن أحاديث الآحاد لم يتوقف علماء الصدر الأول من الإسلام عن الأخذ بها سواء في العلميات أو العمليات ، ولم يقسّم الحديث إلى آحاد ومتواتر إلا الجهميّة في القرن الثالث الهجري .
ولذا قال ابن حبان رحمه الله في صحيحه : " فأما الأخبار فإنّها كلها أخبار آحاد ؛ لأنّه ليس يوجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرٌ من رواية عدلين روى أحدهما عن عدلين ، وكل واحد منهما عن عدلين ، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما استحال هذا ، وبطل ، ثبت أنَّ الأخبار كلها أخبار آحاد . وأن من تنكّب عن قبول خبر الآحاد فقد عمد إلى ترك السُّنن كلها لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد .
كما أنّ حد الزاني المحصن وشارب الخمر وتفصيلات حدود السرقة وزنا البكر كلها إنّما ثبتت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآحاديّة .
 
قال الإمام أحمد رحمه الله في الرد على الجهمية والزنادقة :
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتل لإبليس فقد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس ! وأقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبّهون عليهم -فنعوذ بالله من فتن الضالين.
 
وقال أبو المظفر السمعاني رحمه الله في كتاب الانتصار :
وَاعْلَم أَن فصل مَا بَيْننَا وَبَين المبتدعة هُوَ مَسْأَلَة الْعقل فَإِنَّهُم أسسوا دينهم على الْمَعْقُول وَجعلُوا الِاتِّبَاع والمأثور تبعا للمعقول وَأما أهل السّنة قَالُوا الأَصْل الِاتِّبَاع والعقول تبع وَلَو كَانَ أساس الدّين على الْمَعْقُول لاستغنى الْخلق عَن الْوَحْي وَعَن الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم ولبطل معنى الْأَمر وَالنَّهْي ولقال من شَاءَ مَا شَاءَ .
وَلَو كَانَ الدّين بني على الْمَعْقُول وَجب أَلا يجوز للمؤمين أَن يقبلُوا شَيْئا حَتَّى يعقلوا .
وَنحن إِذا تدبرنا عَامَّة مَا جَاءَ فِي أَمر الدّين من ذكر صِفَات الله عز وَجل وَمَا تعبد النَّاس بِهِ من اعْتِقَاده وَكَذَلِكَ مَا ظهر بَين الْمُسلمين وتداولوه بَينهم ونقلوه عَن سلفهم إِلَى أَن أسندوه إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذكر عَذَاب الْقَبْر وسؤال الْملكَيْنِ والحوض وَالْمِيزَان والصراط وصفات الْجنَّة وصفات النَّار وتخليد الْفَرِيقَيْنِ فيهمَا أُمُور لَا ندرك حقائقها بعقولنا وَإِنَّمَا ورد الْأَمر بقبولها وَالْإِيمَان بهَا .
فَإِذا سمعنَا شَيْئا من أُمُور الدّين وعقلناه وفهمناه فَللَّه الْحَمد فِي ذَلِك وَالشُّكْر وَمِنْه التَّوْفِيق وَمَا لم يمكنا إِدْرَاكه وفهمه وَلم تبلغه عقولنا آمنا بِهِ وصدقنا واعتقدنا أَن هَذَا من قبل ربوبيته وَقدرته واكتفينا فِي ذَلِك بِعِلْمِهِ ومشيئته وَقَالَ تَعَالَى فِي مثل هَذَا {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} وَقَالَ الله تَعَالَى {وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ}.
ثمَّ نقُول لهَذَا الْقَائِل الَّذِي يَقُول بني ديننَا على الْعقل وأمرنا باتباعه أخبرنَا إِذا أَتَاك أَمر من الله تَعَالَى يُخَالف عقلك فبأيهما تَأْخُذ بِالَّذِي تعقل أَو بِالَّذِي تُؤمر ...؟
فَإِن قَالَ بِالَّذِي أَعقل فقد أَخطَأ وَترك سَبِيل الْإِسْلَام وَإِن قَالَ إِنَّمَا آخذ بِالَّذِي جَاءَ من عِنْد الله فقد ترك قَوْله وَإِنَّمَا علينا أَن نقبل مَا عَقَلْنَاهُ إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا وَمَا لم نعقله قبلناه وتسليما واستسلاما .....وَهَذَا معنى قَول الْقَائِل من أهل السّنة إِن الْإِسْلَام قنطرة لَا تعبر إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ فنسأل الله التَّوْفِيق فِيهِ والثبات عَلَيْهِ وَأَن يتوفانا على مِلَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنه وفضله .
فمن تلكم القواعد قولهم: "إنّ أخبار الآحاد لا يحتج بها في باب العقيدة؛ لأنها لا تفيد اليقين وإنما تفيد الظن"، فكم أساءت هذه المقولة الباطلة إلى الإسلام، وكم أهانت من حديث عظيم من أحاديث رسول الله ( واستخفت به. وامتدت هذه القاعدة إلى جحود وإنكار قضايا عقدية تبلغ أدلتها حد التواتر، مثل: أحاديث نزول عيسى، وخروج الدجال، وطلوع الشمس من مغربها، وأحاديث المهدي، وغيرها مما يؤدي إنكاره إلى هدم عقيدة الإسلام من أساسها، بل بعضها تطابقت في الدلالة عليها نصوص الكتاب والسنّة، مثل: رؤية الله في الدار الآخرة.
 
قال ابن القيم رحمه الله في الصَّوَاعِقِ الْمُرْسَلَةِ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ :
خَبَرُ الْوَاحِدِ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، فَتَارَةً يُجْزَمُ بِكَذِبِهِ لِقِيَامِ دَلِيلِ كَذِبِهِ وَتَارَةً يُظَنُّ كَذِبُهُ إِذَا كَانَ دَلِيلُ كَذِبِهِ ظَنِّيًّا، وَتَارَةً يُتَوَقَّفُ فِيهِ فَلَا يَتَرَجَّحُ صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ إِذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ أَحَدِهِمَا، وَتَارَةً يَتَرَجَّحُ صِدْقُهُ وَلَا يُجْزَمُ بِهِ، وَتَارَةً يُجْزَمُ بِصِدْقِهِ جَزْمًا لَا يَبْقَى مَعَهُ شَكٌّ، فَلَيْسَ خَبَرٌ وَاحِدٌ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَلَا الظَّنَّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْفَى عَنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ مُطْلَقًا أَنَّهُ يَحْصُلُ الْعِلْمُ، فَلَا وَجْهَ لِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ وَإِلَّا اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ، بَلْ نَقُولُ خَبَرُ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ فِي مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: خَبَرُ مَنْ قَامَ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ عَلَى صِدْقِهِ، وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ جَلَّ وَعَلَا وَخَبَرُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ.
الثَّانِي: خَبَرُ الْوَاحِدِ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَدِّقُهُ كَخَبَرِ الْمُخْبِرِ الَّذِي أَخْبَرَ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «أَنَّ اللَّهَ يَضَعُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ " فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لَهُ» ، وَكَخَبَرِ مَنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى السَّدَّ مِثْلَ الْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ فَقَالَ: " قَدْ رَأَيْتُهُ " وَمِنْ هَذَا تَرْتِيبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَبَرِ الْمُخْبِرِ لَهُ مُقْتَضَاهُ كَغَزْوِ مَنْ أَخْبَرَهُ بِنَقْضِ قَوْمٍ الْعَهْدَ وَخَبَرِ مَنْ أَخْبَرَهُ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ شَتَمَهُ وَنَالَ مِنْ عِرْضِهِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ.
فَهَذَا تَصْدِيقٌ لِلْمُخْبِرِ بِالْفِعْلِ، وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْطَعُ بِصِدْقِ أَصْحَابِهِ كَمَا قَطَعَ بِصِدْقِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِقِصَّةِ الدَّجَّالِ، وَرَوَى ذَلِكَ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَلَمْ يَقُلْ أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ عَنِ اللَّهِ، بَلْ قَالَ: (حَدَّثَنِي تَمِيمٌ الدَّارِيُّ) وَمَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِالسُّنَّةِ يَرَى هَذَا كَثِيرًا فِيمَا يَجْزِمُ بِصِدْقِ أَصْحَابِهِ، وَيُرَتِّبُ عَلَى أَخْبَارِهِمْ مُقْتَضَاهَا مِنَ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُسَالَمَةِ وَالْقَتْلِ وَالْقِتَالِ.
وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ شَهَادَةً عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ، لَا نَمْتَرِي فِيهَا وَلَا نَشُكُّ عَلَى صِدْقِهِمْ وَنَجْزِمُ بِهِ جَزْمًا ضَرُورِيًّا لَا يُمْكِنَّا دَفْعُهُ عَنْ نُفُوسِنَا، وَمِنْ هَذَا أَنَّهُ كَانَ يَجْزِمُ بِصِدْقِهِمْ فِيمَا يُخْبِرُونَهُ بِهِ مِنْ رُؤْيَا الْمَنَامِ، وَيَجْزِمُ لَهُمْ بِتَأْوِيلِهَا وَيَقُولُ إِنَّهَا رُؤْيَا حَقٍّ، وَأَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَدَحَهُ بِتَصْدِيقِهِ لِمَنْ أَخْبَرَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
 
وقال رحمه الله :وَمِنْ هَذَا إِخْبَارُ الصَّحَابَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْزِمُونَ بِمَا يُحَدِّثُ بِهِ أَحَدُهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِمَنْ حَدَّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُكَ خَبَرُ وَاحِدٍ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ حَتَّى يَتَوَافَرَ، وَتَوَقَّفَ مَنْ تَوَقَّفَ مِنْهُمْ حَتَّى عَضَّدَهُ آخَرُ مِنْهُمْ لَا يَدُلُّ عَلَى رَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يَسْتَثْبِتُ أَحْيَانًا نَادِرَةً جِدًّا إِذَا اسْتَخْبَرَ.وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا أَهْلِ الْإِسْلَامِ بَعْدَهُمْ يَشُكُّونَ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ وَلَا عَلِيٌّ وَلَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو ذَرِّ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، بَلْ كَانُوا لَا يَشُكُّونَ فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعَ تَفَرُّدِهِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَوْمًا وَاحِدًا مِنَ الدَّهْرِ: خَبَرُكَ خَبَرٌ وَاحِدٌ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَكَانَ حَدِيثُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَلَّ فِي صُدُورِهِمْ مِنْ أَنْ يُقَابَلَ بِذَلِكَ، وَكَانَ الْمُخْبِرُ لَهُمْ أَجَلَّ فِي أَعْيُنِهِمْ وَأَصْدَقَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ يَقُولَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ.وَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا رَوَى لِغَيْرِهِ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّفَاتِ تَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَاعْتَقَدَ تِلْكَ الصِّفَةَ بِهِ عَلَى الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ كَمَا اعْتَقَدَ رُؤْيَةَ الرَّبِّ وَتَكْلِيمَهُ وَنِدَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِعِبَادِهِ بِالصَّوْتِ الَّذِي يَسْمَعُهُ الْبَعِيدُ كَمَا يَسْمَعُهُ الْقَرِيبُ، وَنُزُولُهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ، وَضَحِكُهُ وَفَرَحُهُ وَإِمْسَاكُ سَمَاوَاتِهِ عَلَى إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ يَدِهِ وَإِثْبَاتُ الْقَدَمِ لَهُ.مَنْ سَمِعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مِمَّنْ حَدَّثَ بِهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَنْ صَاحِبٍ اعْتَقَدَ ثُبُوتَ مُقْتَضَاهَا بِمُجَرَّدِ سَمَاعِهَا مِنَ الْعَدْلِ الصَّادِقِ، وَلَمْ يَتَرَتَّبْ فِيهَا حَقٌّ حَتَّى أَنَّهُمْ رُبَّمَا تَثَبَّتُوا فِي بَعْضِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ حَتَّى يَسْتَظْهِرُوا بِآخَرَ كَمَا اسْتَظْهَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَلَى خَبَرِ أَبِي مُوسَى، كَمَا اسْتَظْهَرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ عَلَى رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ، وَلَمْ يَطْلُبْ أَحَدٌ مِنْهُمُ الِاسْتِظْهَارَ فِي رِوَايَةِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ الْبَتَّةَ بَلْ كَانُوا أَعْظَمَ مُبَادَرَةً إِلَى قَبُولِهَا وَتَصْدِيقِهَا وَالْجَزْمِ بِمُقْتَضَاهَا، وَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ بِهَا مِنَ الْمُخْبِرِ لَهُمْ بِهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ لَهُ أَدْنَى إِلْمَامٍ بِالسُّنَّةِ وَالْتِفَاتٍ إِلَيْهَا يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَوْلَا وُضُوحُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ لَذَكَرْنَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَوْضِعٍ.فَهَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ نُفَاةُ الْعِلْمِ عَنْ أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ خَرَقُوا بِهِ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ بِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ وَإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَوَافَقُوا بِهِ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْجَهْمِيَّةَ وَالرَّافِضَةَ وَالْخَوَارِجَ الَّذِينَ انْتَهَكُوا هَذِهِ الْحُرْمَةَ، وَتَبِعَهُمْ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَإِلَّا فَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ سَلَفٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِذَلِكَ بَلْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ.فَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَصْحَابُهُ كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ وَالْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيُّ.
 
وقال رحمه الله :
قَالَ ابْنُ خُوَازِ مِنْدَادَ فِي كِتَابِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ خَبَرَ الْوَاحِدِ الَّذِي لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانُ، وَيَقَعُ بِهَذَا الضَّرْبِ أَيْضًا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مَالِكٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ: نَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ، وَنَقْطَعُ عَلَى الْعِلْمِ بِهَا، وَكَذَلِكَ رَوَى الْمَرُّوذِيُّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: هَاهُنَا اثْنَانِ يَقُولَانِ إِنَّ الْخَبَرَ يُوجِبُ عَمَلًا وَلَا يُوجِبُ عِلْمًا فَعَابَهُ، وَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا هَذَا، وَقَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُ هَذَا إِنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي أَوَّلِ الْمُخْبِرِ: خَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعِلْمَ إِذَا صَحَّ سَنَدُهُ وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَةُ فِيهِ وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، وَأَصْحَابُنَا يُطْلِقُونَ الْقَوْلَ فِيهِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَإِنْ لَمْ تَتَلَقَّهُ بِالْقَبُولِ، قَالَ: وَالْمَذْهَبُ عَلَى مَا حَكَيْتُ لَا غَيْرُ.
فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَنَصَّ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ يُحَتَّمُ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: إِذَا جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فِيهِ حُكْمٌ أَوْ فَرْضٌ عَمِلْتُ بِهِ وَدِنْتُ اللَّهَ بِهِ، وَلَا أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي يُونُسَ فِي أَوَّلِ الْإِرْشَادِ: وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا، وَنَصَّ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ فِي الْكِفَايَةِ.
 
بارك الله فيكم ، ولكن ما نقلته يحتاج لنقاش وتأصيل .كل البشر بعد محمد يؤخذ من كلامه ويرد ، لقد نقلت أكثر من قول على أنها قولا واحداً، والحقيقة أن الأمر بحاجة للتدقيق . . فالقول بأن مجرد صحة السند ، أو مجرد نقل الثقة عن مثله ، لا يكفي ليكون خبر الآحاد صحيحا . وقد نقلت العديد من هذه الأقوال دون أن تدقق فيها .وكان ينبغي تحري الأقوال التي تشتمل الشروط ، ولا تدخل فيها الأحاديث المقطوعة ولا الشاذة ولا المعلولة بعلة قادحة .- تضمن النقل على وجوب العلم لعموم وتقييد .أما العموم -على اعتبار الآحاد الصحيح - أنه يوجب العلم دون تحدد لشرط .والتقييد فهو كما نقلت عن حفه بقرينة كتلقيه بالقبول ،والعمل به .وقد ذكر الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في كتابه الكفاية عدد من تلك القرائن .ونقلك عن شيخ الإسلام وابن القيم فيه التصريح بذلك . وفيما يتعلق بالقرآن ، وهذا أمر لا خلاف فيه أن ثبوت القرآن لا يؤخذ بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا بالتواتر ، وكذا الرسم ، لم يقبل بكتابة شيء من ما كتب من القرآن إلا بشرطين ، الأول أن يكون كتب زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يحضر شاهدين إلا ما كان من صاحب الشهادتين . أما ما يختص القراءة فلا تصح بمجرد صحة السند بل بعض القراءات شاذة لأنها لم تتواتر . والله اعلم
 
وقال رحمه الله :

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي كُتُبِهِ الْأُصُولِ كَالتَّبْصِرَةِ وَشَرْحِ اللُّمَعِ وَغَيْرِهِمَا وَهَذَا لَفْظُهُ فِي الشَّرْحِ: وَخَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ سَوَاءٌ عَمِلَ بِهِ الْكُلُّ أَوِ الْبَعْضُ، وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ نِزَاعًا بَيْنَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَصَرَّحَتِ الْحَنَفِيَّةُ فِي كُتُبِهِمْ بِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُسْتَفِيضَ يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» " قَالُوا: مَعَ أَنَّهُ إِنَّمَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، قَالُوا: وَنَحْوُهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُتَبَايِعَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ أَوْ يَتَرَادَّانِ، قَالُوا: وَنَحْوُهُ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ، قَالُوا: وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي إِعْطَاءِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ، قَدِ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى اسْتِعْمَالِ حُكْمِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ حِينَ سَمِعُوهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِهَا وَسَلَامَتِهَا، وَإِنْ قَدْ خَالَفَ فِيهَا قَوْمٌ فَإِنَّهَا عِنْدَنَا شُذُوذٌ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ.
قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْنَا مَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ مِنَ الْأَخْبَارِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّا إِذَا وَجَدْنَا السَّلَفَ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى قَبُولِ خَبَرٍ هَذَا وَصْفُهُ مِنْ غَيْرِ تَثْبِيتٍ فِيهِ وَلَا مُعَارَضَةٍ بِالْأُصُولِ أَوْ يُخْبَرُ مِثْلُهُ مَعَ عِلْمِنَا بِمَذَاهِبِهِمْ فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ وَالنَّظَرِ فِيهَا وَعَرْضِهَا عَلَى الْأُصُولِ، دَلَّنَا ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَصِيرُوا إِلَى حُكْمِهِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ صِحَّتُهُ وَاسْتِقَامَتُهُ، فَأَوْجَبَ لَنَا الْعِلْمَ بِصِحَّتِهِ، هَذَا لَفْظُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ فِي كِتَابِهِ أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ لِكُلِّ ذِي حِسٍّ سَلِيمٍ وَعَقْلٍ مُسْتَقِيمٍ اسْتِفَاضَةُ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ وَالنِّدَاءِ وَالنُّزُولِ وَالتَّكْلِيمِ وَغَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ، وَتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهَا بِالْقَبُولِ أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ مِنِ اسْتِفَاضَةِ حَدِيثِ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، وَحَدِيثِ «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ، وَحَدِيثِ فَرْضِ الْجَدَّةِ، بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَ اسْتِفَاضَةِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَاسْتِفَاضَةِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَهَلْ يَسُوغُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ هَذِهِ تُوجِبُ الْعِلْمَ وَتِلْكَ لَا تُوجِبُهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاهِتًا.
 
وقال رحمه الله :
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي كُتُبِهِ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ صَرِيحًا
فِي كِتَابِهِ اخْتِلَافِ مَالِكٍ، وَنَصَرَهُ فِي الرِّسَالَةِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ الَّذِي يُوجِبُهُ نَصُّ الْكِتَابِ وَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ لَفْظَهُ فِي الْكِتَابَيْنِ.
قَالَ فِي الرِّسَالَةِ: فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ سُنَّةٍ مِنْ خَبَرِ الْخَاصَّةِ الَّذِي قَدْ يَخْتَلِفُ الْخَبَرُ فِيهِ فَيَكُونُ الْخَبَرُ مُحْتَمِلًا لِلتَّأْوِيلِ، وَجَاءَ الْخَبَرُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الِانْفِرَادِ، فَالْحُجَّةُ فِيهِ عِنْدِي أَنْ يَلْزَمَ الْعَالِمِينَ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُمْ رَدُّ مَا كَانَ مَنْصُوصًا مِنْهُ كَمَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا شَهَادَةَ الْعُدُولِ لَا أَنَّ ذَلِكَ إِحَاطَةٌ كَمَا يَكُونُ نَصُّ الْكِتَابِ وَخَبَرُ الْعَامَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ شَكَّ فِي هَذَا شَاكٌّ لَمْ نَقُلْ لَهُ تُبْ، وَقُلْنَا لَيْسَ لَكَ إِنْ كُنْتَ عَالِمًا أَنْ تَشُكَّ كَمَا لَيْسَ لَكَ إِلَّا أَنْ تَقْضِيَ بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ وَإِنْ أَمْكَنَ فِيهِمُ الْغَلَطُ، وَلَكِنْ تَقْضِي بِذَلِكَ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ صِدْقِهِمْ، وَاللَّهُ وَلِيُّ مَا غَابَ عَنْكَ مِنْ ذَلِكَ. اه.
فَهَذَا نَصُّهُ فِي خَبَرٍ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ، وَهَذَا لَا تَنَازُعَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ سَنَدًا وَمَتْنًا، وَكَلَامُنَا فِي أَخْبَارٍ تُلُقِّيَتْ بِالْقَبُولِ وَاشْتَهَرَتْ فِي الْأُمَّةِ وَصَرَّحَ بِهَا الْوَاحِدُ بِحَضْرَةِ الْجَمْعِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ، بَلْ قَبِلَهُ السَّامِعُ وَأَثْبَتَ بِهِ صِفَةَ الرَّبِّ تَعَالَى، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ نَفَاهَا، كَمَا أَنْكَرَ جَمِيعُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ عَلَى مَنْ نَفَى صِفَاتِ الرَّبِّ الْخَبَرِيَّةَ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْبِدْعَةِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ الْأَخِيرِ فَقَالَ: فَقُلْتُ لَهُ يَعْنِي مَنْ يُنَاظِرُهُ أَرَأَيْتَ إِنْ قَالَ لَكَ قَائِلٌ: أَتَّهِمُ جَمِيعَ مَا رَوَيْتَ عَمَّنْ رَوَيْتَهُ عَنْهُ، فَإِنِّي أَخَافُ غَلَطَ كُلِّ مُحَدِّثٍ عَنْهُمْ عَمَّنْ حَدَّثَ عَنْهُ إِذَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافُهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّهَمَ حَدِيثُ أَهْلِ الثِّقَةِ، قُلْتُ: فَهَلْ رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: وَمَا رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَإِنَّمَا عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ بِصِدْقِ الْمُحَدِّثِ عِنْدَنَا وَعَلِمْنَا أَنَّ مَنْ سَمَّيْنَا قَوْلَهُ بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَعِلْمُنَا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ عِلْمُنَا بِأَنَّ مَنْ سَمَّيْنَاهُ قَالَهُ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ فَإِذَا اسْتَوَى الْعِلْمَانِ مِنْ خَبَرِ الصَّادِقِ فَأَوْلَى بِنَا أَنْ نُصَيِّرَ إِلَيْهِ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَأْخُذَ بِهِ أَوِ الْخَبَرِ عَمَّنْ دُونَهُ، قَالَ: بَلِ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ ثَبَتَ، قُلْتُ: ثُبُوتُهُمَا وَاحِدٌ، قَالَ: فَالْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِنَا أَنْ نَصِيرَ إِلَيْهِ، وَإِنْ أَدْخَلْتُمْ عَلَى الْمُخْبِرِينَ عَنْهُ أَنَّهُ يُمْكِنُ فِيهِمُ الْغَلَطُ دَخَلَ عَلَيْكُمْ فِي كُلِّ حَدِيثٍ رُوِيَ مُخَالِفَ الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنْ قُلْتَ: نُثْبِتُ بِخَبَرِ الصَّادِقِينَ) فَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى عِنْدَنَا أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ.
فَقَدْ نَصَّ كَمَا تَرَى بِأَنَّهُ إِذَا رَوَاهُ وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ يُصَدَّقُ الرَّاوِي عِنْدَنَا وَلَا يُنَاقَضُ، هَذَا نَصُّهُ فِي الرِّسَالَةِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا نَفَى هُنَاكَ أَنْ يَكُونَ الْمُعَلِّمُ الْمُسْتَفَادُ مِنْهُ مُسَاوِيًا لِلْعِلْمِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ وَخَبَرِ التَّوَاتُرِ، وَهَذَا حَقٌّ فَإِنَّ الْعِلْمَ يَتَفَاوَتُ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ عَنْ أَحْمَدَ فِي أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ: نُؤْمِنُ بِهَا وَنَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ، قَالَ: فَقَطَعَ عَلَى الْعِلْمِ بِهَا، وَذَهَبَ إِلَى ظَاهِرِ هَذَا الْكَلَامِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَالُوا: خَبَرُ الْوَاحِدِ إِنْ كَانَ شَرْعِيًّا أَوْجَبَ الْعِلْمَ، قَالَ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدِي عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ لَا مِنْ جِهَةِ الضَّرُورَةِ.
 
وَالِاسْتِدْلَالُ يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَتَلَقَّاهُ الْأُمَّةُ بِقَبُولٍ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ، وَإِنَّ قَبُولَ الْأُمَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ قَدْ قَامَتْ عِنْدَهُمْ بِصِحَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الَّذِي لَمْ تَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ لَا تَجْتَمِعُ الْأُمَّةُ عَلَى قَبُولِهِ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ قَوْمٌ وَيَرُدُّهُ قَوْمٌ، الثَّانِي: خَبَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاحِدٌ فَيَقْطَعُ بِصِدْقِهِ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ دَلَّ عَلَى عِصْمَتِهِ، الثَّالِثُ: أَنْ يُخْبِرَ الْوَاحِدُ وَيَدَّعِيَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُنْكِرُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقِرُّ عَلَى الْكَذِبِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يُخْبِرَ الْوَاحِدُ وَيَدَّعِيَ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ مِنْهُ، فَلَا يُنْكِرُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صِدْقٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذِبًا لَمْ تَتَّفِقْ دَوَاعِيهِمْ عَلَى السُّكُوتِ عَنْ تَكْذِيبِهِ، وَالْعِلْمُ الْوَاقِعُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مُكْتَسَبٌ، لِأَنَّهُ وَاقِعٌ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ. .
 
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ: قُلْتُ حَصْرُهُ لِأَخْبَارِ الْآحَادِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ لَيْسَ بِجَامِعٍ؛ لِأَنَّ مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ مَا تَلَقَّاهُ الرَّسُولُ أَيْضًا بِالْقَبُولِ، كَأَخْبَارِهِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ مُصَدِّقًا لَهُ فِيهِ، وَمِنْهَا إِخْبَارُ شَخْصَيْنِ عَنْ قِصَّةٍ يَعْلَمُ أَنَّهُمَا لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَيْهَا وَيَبْعُدُ فِي الْعَادَةِ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْكَذِبِ فِيهَا وَالْخَطَأِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قُلْتُ: أَخْبَارُ الْآحَادِ الْمُوجِبَةُ لِلْعِلْمِ وَلَا تَنْحَصِرُ، بَلْ يَجِدُ الْمُخْبَرُ عِلْمًا لَا يَشُكُّ فِيهِ بِكَثِيرٍ مِنْهَا، كَمَا إِذَا أَخْبَرَهُ مَنْ لَمْ يُجَرِّبْ عَلَيْهِ كَذِبًا قَطُّ أَنَّهُ شَاهَدَهُ، فَإِذًا يَجْزِمُ بِهِ جَزْمًا ضَرُورِيًّا أَوْ يُقَارِبُ الضَّرُورَةَ، وَكَمَا إِذَا أَخْبَرَ عَلَيْهِ فِي الْإِخْبَارِ بِهِ ضَرَرٌ، فَأَخْبَرَ بِهِ تَدَيُّنًا وَخَشْيَةً لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا إِذَا أَتَى بِنَفْسِهِ اخْتِيَارًا وَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِحَدٍّ ارْتَكَبَهُ يَطْلُبُ تَطْهِيرَهُ مِنْهُ بِالْحَدِّ، أَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِحَقٍّ ادُّعِيَ بِهِ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ وَلَا يَمِينَ يُطْلَبُ مِنْهُ، وَلَا مَخَافَةَ تَلْحَقُهُ فِي الْإِنْكَارِ، أَوْ أَخْبَرَ الْمُفْتِيَ بِأَمْرٍ فَعَلَهُ لِيَحْصُلَ لَهُ الْمَخْرَجُ مِنْهُ، أَوْ أَخْبَرَ الطَّبِيبَ بِأَلَمٍ يَجِدُهُ، يَطْلُبُ زَوَالَهُ إِلَى أَضْعَافِ أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَقْطَعُ السَّامِعُ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ بِهَا، فَكَيْفَ يَنْشَرِحُ صَدْرًا وَيَنْطَلِقُ لِسَانًا بِأَنَّ خَبَرَ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِذَا قَالُوا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا أَنَّهَا لَا تُفِيدُ عِلْمًا الْبَتَّةَ، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ.
وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا إِذَا أَخْبَرُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ بِخَبَرٍ جُزِمَ بِصِدْقِهِمْ، وَنَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَخْبَرُوا سِوَاهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ جَزَمَ بِصِدْقِهِمْ، بَلْ نَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ سَالِمًا وَنَافِعًا وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَأَمْثَالَهُمْ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، بَلْ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَنَحْوُهُمْ كَذَلِكَ، فَلَا يَقَعُ عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَ مَنْ عَرَفَ الْقَوْمَ الِاحْتِمَالُ فِيمَا يَقُولُ فِيهِ مَالِكٌ: سَمِعْتُ نَافِعًا يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ، وَنَحْنُ قَاطِعُونَ بِخَطَأِ مُنَازِعِينَا فِي ذَلِكَ.
 
وَقَدْ ذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ إِذَا انْعَقَدَ عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ صَارَ كَالْمُتَوَاتِرِ، حَكَى ذَلِكَ ابْنُ بُرْهَانَ وَاخْتَارَ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ كَالْمُتَوَاتِرِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْوَاحِدَ إِذَا ادَّعَى عَلَى جَمَاعَةٍ بِحَضْرَتِهِمْ صِدْقَهُ فَسَكَتُوا صَارَ خَبَرُهُ كَالْمُتَوَاتِرِ، وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ يَجْحَدُ مَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ، وَالتَّكْفِيرُ مَذْهَبُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَإِنَّمَا أُتِيَ مُنْكِرُ إِفَادَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِلْعِلْمِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، فَإِنَّهُ قَاسَ الْمُخْبِرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرْعٍ عَامٍّ لِلْأُمَّةِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى عَلَى خَبَرِ الشَّاهِدِ عَلَى قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَيَا بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْمُخْبِرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ كَذَبَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَلَمْ يَظْهَرْ مَا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ لَزِمَ عَلَى ذَلِكَ إِضْلَالُ الْخَلْقِ، إِذِ الْكَلَامُ فِي الْخَبَرِ الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَعَمِلَتْ بِمُوجَبِهِ وَأَثْبَتَتْ بِهِ صِفَاتِ الرَّبِّ وَأَفْعَالِهِ، فَإِنَّ مَا يَجِبُ قَبُولُهُ شَرْعًا مِنَ الْأَخْبَارِ لَا يَكُونُ بَاطِلًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا قَبِلَتْهُ الْأُمَّةُ كُلُّهُمْ، وَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يُقَالَ فِي كُلِّ دَلِيلٍ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ شَرْعًا لَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا، فَيَكُونُ مَدْلُولُهُ ثَابِتًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
هَذَا فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ شَرْعِ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ الْمُعَيَّنَةِ عَلَى مَشْهُودٍ عَلَيْهِ مُعَيَّنٍ فَهَذِهِ قَدْ لَا يَكُونُ مُقْتَضَاهَا ثَابِتًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَمَسْأَلَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الَّذِي تَعَبَّدَ اللَّهُ بِهِ الْأُمَّةَ وَتَعَرَّفَ بِهِ إِلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِثْبَاتِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ كِذِبًا وَبَاطِلًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَحُجَجُ اللَّهِ لَا تَكُونُ كَذِبًا وَبَاطِلًا، بَلْ لَا تَكُونُ إِلَّا حَقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَكَافَأَ أَدِلَّةُ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ وَشَرْعِهِ وَدِينِهِ مُشْتَبِهًا لِلْوَحْيِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَتَعَبَّدَ بِهِ خَلْقَهُ، بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ هَذَا مِنْ هَذَا فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَوَحْيِ الشَّيْطَانِ وَوَحْيِ الْمَلَكِ عَنِ اللَّهِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَشْتَبِهَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، أَلَا وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَى الْحَقِّ نُورًا كَنُورِ الشَّمْسِ يَظْهَرُ لِلْبَصَائِرِ الْمُسْتَنِيرَةِ، وَأَلْبَسَ الْبَاطِلَ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ، وَلَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَشْتَبِهَ الْليلُ بِالنَّهَارِ عَلَى أَعْمَى الْبَصَرِ، كَمَا يَشْتَبِهُ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ عَلَى أَعْمَى الْبَصِيرَةِ.
 
قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فِي قَضِيَّتِهِ، تَلَقَّ الْحَقَّ مِمَّنْ قَالَهُ، فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا، وَلَكِنْ لَمَّا أَظْلَمَتِ الْقُلُوبُ وَعَمِيَتِ الْبَصَائِرُ بِالْإِعْرَاضِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَازْدَادَتِ الظُّلْمَةُ بِاكْتِفَائِهَا بِآرَاءِ الرِّجَالِ، الْتَبَسَ عَلَيْهَا الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، فَجَوَّزَتْ عَلَى أَحَادِيثِهِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي رَوَاهَا أَعْدَلُ الْأُمَّةِ وَأَصْدَقُهَا أَنْ تَكُونَ كَذِبًا، وَجَوَّزَتْ عَلَى الْأَحَادِيثِ الْبَاطِلَةِ الْمَكْذُوبَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي تُوَافِقُ أَهْوَاءَهَا أَنْ تَكُونَ صِدْقًا فَاحْتَجَبَ بِهَا.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ خَبَرَ الْعُدُولِ الثِّقَاتِ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْعَمَلَ بِهِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذِبًا وَخَطَأً وَلَا يَنْصِبُ اللَّهُ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ، فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ يَقُولُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ بَلْ مَتَى وُجِدَتِ الشُّرُوطُ الْمُوجِبَةُ لِلْعَمَلِ بِهِ وَجَبَ ثُبُوتُ مُخْبِرِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَعَلَى هَذَا تَنَازَعُوا فِي كُفْرِ تَارِكِهِ لِكَوْنِهِ مِنَ الْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ كَمَا تَكَلَّمُوا فِي كُفْرِ جَاحِدِ الْإِجْمَاعِ أَنَّ مَنْ رَدَّ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ اعْتِقَادًا لِغَلَطِ النَّاقِلِ أَوْ كَذِبِهِ أَوْ لِاعْتِقَادِ الرَّادِّ أَنَّ الْمَعْصُومَ لَا يَقُولُ هَذَا، أَوْ لِاعْتِقَادِ نَسْخِهِ وَنَحْوِهِ، فَرَدَّهُ اجْتِهَادًا وَحِرْصًا عَلَى نَصْرِ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِذَلِكَ وَلَا يَفْسُقُ فَقَدْ رَدَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْضَ أَخْبَارِ الْآحَادِ الصَّحِيحَةِ، كَمَا رَدَّ عُمَرُ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي إِسْقَاطِ نَفَقَةِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَكَمَا رَدَّتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا رِوَايَةُ الْأَثْرَمِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَبَرِ وَيَعْمَلُ بِهِ، فَهَذِهِ رِوَايَةٌ انْفَرَدَ بِهَا الْأَثْرَمُ، وَلَيْسَتْ فِي مَسَائِلِهِ، وَلَا فِي كِتَابِ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا حَكَاهَا الْقَاضِي أَنَّهُ وَجَدَهَا فِي كِتَابِ مَعَانِي الْحَدِيثِ، وَالْأَثْرَمُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ بَلْ لَعَلَّهُ بَلَغَهُ عَنْهُ مِنْ وَاهِمٍ وُهِمَ عَلَيْهِ فِي لَفْظِهِ، فَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ذَلِكَ، بَلِ الْمَرْوِيُّ الصَّحِيحُ عَنْهُ أَنَّهُ جَزَمَ عَلَى الشَّهَادَةِ لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنَّةِ، وَالْخَبَرُ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ وَاحِدٌ، وَلَعَلَّ تَوَقُّفَهُ عَنِ الشَّهَادَةِ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ، فَكَانَ يَجْزِمُ بِتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ، وَيَتَوَقَّفُ عَنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ تَحْرِيمٍ عَلَيْهَا، وَيَجْزِمُ بِتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ وَيَتَوَقَّفُ عَنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْوُجُوبِ عَلَيْهَا تَوَرُّعًا، بَلْ يَقُولُ: أَكْرَهُ كَذَا وَأَسْتَحِبُّ كَذَا، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَجْوِبَتِهِ.
وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ: وَلَا نَشْهَدُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَنَّهُ فِي النَّارِ لِذَنْبٍ عَمِلَهُ وَلَا لِكَبِيرَةٍ أَتَاهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ فَنُصَدِّقَهُ وَنَعْلَمَ أَنَّهُ كَمَا جَاءَ وَلَا نَنُصَّ الشَّهَادَةَ، وَلَا نَشْهَدُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ لِصَالِحٍ عَمِلَهُ وَلِخَيْرٍ أَتَاهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ فَنَقْبَلَهُ كَمَا جَاءَ عَلَى مَا رُوِيَ وَلَا نَنُصَّ، قَالَ الْقَاضِي: وَلَا نَنُصُّ الشَّهَادَةَ، مَعْنَاهُ عِنْدِي وَلَا نَقْطَعَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: لَفْظُ " نَنُصَّ " هُوَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ لَا نَشْهَدُ عَلَى الْمُعَيَّنِ، وَإِلَّا فَقَدَ قَالَ: نَعْلَمُ أَنَّهُ كَمَا جَاءَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ يَشْهَدُ لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنَّةِ لِلْخَبَرِ الْوَارِدِ، وَهُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ أَشْهَدُ وَأَعْلَمُ وَاحِدٌ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَشْهَدُ بِمُوجَبِ خَبَرِ وَاحِدٍ، وَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ.
 
قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ يَقُولُونَ: أَخْبَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُفِيدُ الْعِلْمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3] .
وَقَالَ تَعَالَى آمِرًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] قَالُوا: فَعُلِمَ أَنَّ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدِّينِ كُلِّهِ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكُلُّ وَحْيٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ ذِكْرٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] فَالْكِتَابُ الْقُرْآنُ، وَالْحِكْمَةُ السُّنَّةُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» " فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أُوتِيَ السُّنَّةَ كَمَا أُوتِيَ الْكِتَابَ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ ضَمِنَ حِفْظَ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ لِيُقِيمَ بِهِ حُجَّتَهُ عَلَى الْعِبَادِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَقَالُوا: فَلَوْ جَازَ عَلَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنْ تَكُونَ كَذِبًا لَمْ تَكُنْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَا كَانَتْ مِمَّا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَآتَاهُ إِيَّاهُ تَفْسِيرًا لِكِتَابِهِ وَتَبْيِينًا لَهُ، وَكَيْفَ تَقُومُ حُجَّتُهُ عَلَى خَلْقِهِ بِمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ تُجْرَى مَجْرَى تَفْسِيرِ الْكِتَابِ وَبَيَانِ الْمُرَادِ، فَهِيَ الَّتِي تُعَرِّفُنَا مُرَادَ اللَّهِ مِنْ كِتَابِهِ، فَلَوْ جَازَ أَنْ تَكُونَ كَذِبًا وَغَلَطًا لَبَطَلَتْ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَلَقَالَ كُلُّ مَنِ احْتُجَّ عَلَيْهِ بِسُنَّةٍ تُبَيِّنُ الْقُرْآنَ وَتُفَسِّرُهُ: هَذَا فِي خَبَرِ وَاحِدٍ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَلَا تَقُومُ عَلَيَّ حُجَّةٌ بِمَا لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَهَذَا طَرْدُ هَذَا الْمَذْهَبِ الْفَاسِدِ، وَأَطْرَدُ النَّاسِ لَهُ أَبْعَدُهُمْ عَنِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ.
وَالَّذِي جَاءَ يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبَ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ، وَيَرْجِعُونَ إِلَى الْخَيَالَاتِ الذِّهْنِيَّةِ وَالشُّبُهَاتِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَلَقَّوْهَا عَنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالتَّجَهُّمِ وَالِاعْتِزَالِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا بَرَاهِينُ عَقْلِيَّةٌ.
 
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَقَدْ قَسَّمَ الْأَخْبَارَ إِلَى تَوَاتُرٍ وَآحَادٍ فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ التَّوَاتُرِ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْأَخْبَارِ فَهُوَ مَا لَا يَرْوِيهِ إِلَّا الْوَاحِدُ الْعَدْلُ وَنَحْوُهُ، وَلَمْ يَتَوَاترْ لَفْظُهُ وَلَا مَعْنَاهُ، وَلَكِنْ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ عَمَلًا بِهِ أَوْ تَصْدِيقًا لَهُ كَخَبَرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ " «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» " وَخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ " «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِهِ» " وَخَبَرِ أَنَسٍ «دَخَلَ مَكَّةَ عَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ» ، وَكَخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ " «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا» " وَكَقَوْلِهِ " «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» " وَقَوْلِهِ:" «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الْغَسْلُ» " وَقَوْلِهِ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا " «حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» " وَقَوْلِهِ " «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» " وَقَوْلِهِ " «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» " وَقَوْلِهِ يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ " «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى» " وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، فَهَذَا يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.
أَمَّا السَّلَفُ فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ، وَأَمَّا الْخَلَفُ فَهَذَا مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ الْكِبَارِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَنْقُولَةٌ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ مِثْلِ السَّرَخْسِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَأَبِي الطَّيِّبِ وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَابْنِ خُوَازِ مِنْدَادَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمِثْلِ الْقَاضِي وَأَبِي يَعْلَى وَابْنِ مُوسَى وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْحَنْبَلِيَّةِ، وَمِثْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الِاسْفَرَايِينِيِّ وَابْنِ فُورَكَ وَأَبِي إِسْحَاقَ النَّظَّامِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.
وَإِنَّمَا نَازَعَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ كَابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِثْلُ أَبِي الْمَعَالِي وَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ عَقِيلٍ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَصَحَّحَهُ وَاخْتَارَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ كَثْرَةَ الْقَائِلِينَ بِهِ لِيَتَقَوَّى بِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَهُ بِمُوجَبِ الْحُجَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَظَنَّ مَنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ لَهُمْ عِلْمٌ وَدِينٌ وَلَيْسَ لَهُمْ بِهَذَا الْبَابِ خِبْرَةٌ تَامَّةٌ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو انْفَرَدَ بِهِ عَنِ الْجُمْهُورِ، وَعُذْرُهُمْ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ إِلَى مَا يَجِدُونَهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ، وَإِنِ ارْتَفَعُوا دَرَجَةً صَعَدُوا إِلَى سَيْفِ الْآمِدِيِّ وَإِلَى الْخَطِيبِ، فَإِنْ عَلَا سَنَدُهُمْ صَعِدُوا إِلَى الْغَزَالِيِّ وَالْجُوَيْنِيِّ وَالْبَاقِلَانِيِّ.
قَالَ: وَجَمِيعُ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو، وَالْحُجَّةُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، أَنَّ تَلَقِّيَ الْأُمَّةِ لِلْخَبَرِ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ، وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ كَمَا لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى مُوجِبِ عُمُومٍ أَوْ مُطْلَقٍ أَوِ اسْمٍ حَقِيقَةً أَوْ عَلَى مُوجِبِ قِيَاسٍ فَإِنَّهَا لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ، وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَوْ جُرِّدَ النَّظَرُ إِلَيْهِ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فَإِنَّ الْعِصْمَةَ تَثْبُتُ بِالنِّسْبَةِ الْإِجْمَاعِيَّةِ، كَمَا أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ يَجُوزُ الْخَطَأُ وَالْكَذِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْمُخْبِرِينَ بِمُفْرَدِهِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَالْأُمَّةُ مَعْصُومَةٌ مِنَ الْخَطَأِ فِي رِوَايَتِهَا وَرَأْيِهَا وَرُؤْيَاهَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ» " فَجُعِلَ تَوَاطُؤُ الرُّؤْيَا دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهَا. وَالْآحَادُ فِي هَذَا الْبَابِ قَدْ تَكُونُ ظُنُونًا بِشُرُوطِهَا، فَإِذَا قُوِّيَتْ صَارَتْ عُلُومًا، وَإِذَا ضَعُفَتْ صَارَتْ أَوْهَامًا وَخَيَالَاتٍ فَاسِدَةً.
قَالَ أَيْضًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يُنْكِرُهُ إِذْ هُوَ خِلَافُ مَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ.
 
تأمل قوله رحمه الله :
وَالْأُمَّةُ مَعْصُومَةٌ مِنَ الْخَطَأِ فِي رِوَايَتِهَا وَرَأْيِهَا وَرُؤْيَاهَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ» " فَجُعِلَ تَوَاطُؤُ الرُّؤْيَا دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهَا.
 
فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا الْجَزْمُ بِصِدْقِهِ فَلَا يُمْكِنُ مِنْهُمْ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهِ وَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فِي الْبَاطِنِ، وَهَذَا سُؤَالُ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ.
قُلْنَا: أَمَّا الْجَزْمُ بِصِدْقِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَحْتَفِ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، إِذِ الْقَرَائِنُ الْمُجَرَّدَةُ قَدْ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِهَا، فَكَيْفَ إِذَا احْتَفَتْ بِالْخَبَرِ، وَالْمُنَازِعُ بَنَى عَلَى هَذَا أَصْلَهُ الْوَاهِيَ أَنَّ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِ الْأَخْبَارِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْعَدَدِ، فَلَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ مَا دُونَ الْعَدَدِ لَا يُفِيدُ أَصْلًا، وَهَذَا غَلَطٌ خَالَفَهُ فِيهِ حُذَّاقُ أَتْبَاعِهِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهِ فَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ كَذِبًا وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِهِ لَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَا هُوَ كَذِبٌ وَخَطَأٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِذَا كَانَ تَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ لِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ صِدْقٌ مَقْبُولٌ فَإِجْمَاعُ السَّلَفِ وَالصَّحَابَةِ أَوْلَى أَنْ يَدُلَّ عَلَى صِدْقِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَدَّعِيَ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ إِلَّا فِيمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُهَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدِ انْتَشَرَتِ انْتِشَارًا لَا تُضْبَطُ أَقْوَالُ جَمِيعِهَا.
قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ أَحَادِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالْحَافِظِ أَبِي طَاهِرٍ السِّلَفِيِّ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ مَا تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَعُلَمَاؤُهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ فَهُوَ مُحَصِّلٌ لِلْعِلْمِ مُفِيدٌ لِلْيَقِينِ، وَلَا عِبْرَةَ بِمَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ بِأَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، كَمَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَّا الْعُلَمَاءُ بِهَا دُونَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالنُّحَاةِ وَالْأَطِبَّاءِ، كَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى صِدْقِ الْحَدِيثِ وَعَدَمِ صِدْقِهِ إِلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَطُرُقِهِ وَعِلَلِهِ، وَهُمْ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْعَالِمُونَ بِأَحْوَالِ نَبِيِّهِمْ، الضَّابِطُونَ لِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الْمُعْتَنُونَ بِهَا أَشَدَّ مِنْ عِنَايَةِ الْمُقَلِّدِينَ بِأَقْوَالِهِمْ مَتْبُوعِيهِمْ.
فَكَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّوَاتُرِ يَنْقَسِمُ إِلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ، فَيَتَوَاتَرُ عِنْدَ الْخَاصَّةِ مَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لِغَيْرِهِمْ فَضْلًا أَنْ يَتَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ، فَأَهْلُ الْحَدِيثِ لِشِدَّةِ عِنَايَتِهِمْ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ وَضَبْطِهِمْ لِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا لَا يَشُكُّونَ فِيهِ مِمَّا لَا شُعُورَ لِغَيْرِهِمْ بِهِ أَلْبَتَّةَ، فَخَبَرُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَحْوِهِمْ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْجَازِمَ الَّذِي يَلْتَحِقُ عِنْدَهُمْ بِقِسْمِ الضَّرُورِيَّاتِ، وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ لَا يُفِيدُ عِلْمًا، وَكَذَلِكَ يَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَيَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ نَبِيَّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ عَنْ خُرُوجِ قَوْمٍ مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُمْ جَازِمُونَ بِأَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ قَاطِعُونَ بِصِحَّتِهَا عَنْهُ، وَغَيْرُهُمْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مِنَ الْأَخْبَارِ يُوجِبُ الْعِلْمَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ.
 
وَأَمَّا خَبَرُ الْوَاحِدِ الَّذِي أَوْجَبَتِ الشَّرِيعَةُ تَصْدِيقَ مِثْلِهِ وَالْعَمَلَ بِهِ بِأَنْ يَكُونَ خَبَرَ عَدْلٍ مَعْرُوفٍ بِالصِّدْقِ وَالضَّبْطِ وَالْحِفْظِ، فَهَذَا فِي إِفَادَتِهِ لِلْعِلْمِ قَوْلَانِ، هُمَا رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ أَيْضًا وَهُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ خُوَازِ مِنْدَادَ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مِنْهُمُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ، وَاخْتَارَهُ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَعَلَى هَذَا فَيَحْلِفُ عَلَى مَضْمُونِهِ وَيَشْهَدُ بِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَأَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَحْلِفُ عَلَى مَضْمُونِهِ وَلَا يَشْهَدُ بِهِ، وَقَدْ حَلَفَ الْإِمَامُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَضْمُونِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الْآحَادِ حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ.
وَأَهْلُ الْحَدِيثِ لَا يَجْعَلُونَ حُصُولَ الْعِلْمِ بِمُخْبِرِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ مِنْ جِهَةِ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ فِي حَقِّ سَائِرِ الْمُخْبِرِينَ، بَلْ يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِ وَأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبَرِ بِهِ، وَأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِ الْمُبَلِّغِ.

فَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ بَلَّغُوا الْأُمَّةَ سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ كَانُوا أَصْدَقَ الْخَلْقِ لَهْجَةً، وَأَعْظَمَهُمْ أَمَانَةً وَأَحْفَظَهُمْ لِمَا يَسْمَعُونَهُ، وَخَصَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ بِمَا لَمْ يَخُصَّ بِهِ غَيْرَهُمْ، فَكَانَتْ طَبِيعَتُهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ الصِّدْقَ وَالْأَمَانَةَ، ثُمَّ ازْدَادُوا بِالْإِسْلَامِ قُوَّةً فِي الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، وَكَانَ صِدْقُهُمْ عِنْدَ الْأُمَّةِ وَعَدَالَتُهُمْ وَضَبْطُهُمْ وَحِفْظُهُمْ عَنْ نَبِيِّهِمْ أَمْرًا مَعْلُومًا لَهُمْ بِالِاضْطِرَارِ، كَمَا يَعْلَمُونَ إِسْلَامَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ وَجِهَادَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى عِلْمٍ بِحَالِ الْقَوْمِ يَعْلَمُ أَنَّ خَبَرَ الصِّدِّيقِ وَأَصْحَابِهِ لَا يُقَاسُ بِخَبَرِ مَنْ عَدَاهُمْ، وَحُصُولُ الثِّقَةِ بِخَبَرِهِمْ فَوْقَ الثِّقَةِ وَالْيَقِينِ بِخَبَرِ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ.
فَقِيَاسُ خَبَرِ الصِّدِّيقِ عَلَى خَبَرِ آحَادِ الْمُخْبِرِينَ مِنْ أَفْسَدِ قِيَاسٍ فِي الْعَالَمِ، وَكَذَلِكَ الثِّقَاتُ الْعُدُولُ الَّذِينَ رَوَوْا عَنْهُمْ هُمْ أَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً وَأَشَدُّهُمْ تَحَرِّيًا لِلصِّدْقِ وَالضَّبْطِ حَتَّى لَا تُعْرَفَ فِي جَمِيعِ طَوَائِفِ بَنِي آدَمَ أَصْدَقُ لَهْجَةً وَلَا أَعْظَمُ تَحَرِّيًا لِلصِّدْقِ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا الْمُتَكَلِّمُونَ أَهْلُ ظُلْمٍ وَجَهْلٍ يَقِيسُونَ خَبَرَ الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِأَخْبَارِ آحَادِ النَّاسِ، مَعَ ظُهُورِ الْفَرْقِ الْمُبِينِ بَيْنَ الْمُخْبِرِينَ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ سَوَّى بَيْنَ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ فِي عَدَمِ إِفَادَةِ الْعِلْمِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْفَضْلِ.وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَكَفَّلَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُظْهِرَ دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَأَنْ يَحْفَظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ الْأَوَّلُ لِمَنْ بَعْدَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْفَظَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُهُ وَبَيِّنَاتُهُ، وَلِهَذَا فَضَحَ اللَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ وَبَيَّنَ حَالَهُ لِلنَّاسِ، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَا سَتَرَ اللَّهُ أَحَدًا يَكْذِبُ فِي الْحَدِيثِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: لَوْ هَمَّ رَجُلٌ أَنْ يَكْذِبَ فِي الْحَدِيثِ لَأَصْبَحَ وَالنَّاسُ يَقُولُونَ فُلَانٌ كَذَّابٌ.
وَقَدْ عَاقَبَ اللَّهُ الْكَاذِبِينَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِمْ بِمَا جَعَلَهُمْ بِهِ نَكَالًا وَعِبْرَةً حِفْظًا لِوَحْيِهِ وَدِينِهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ حَدَّثَنَا بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ فِي جَانِبِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي أَنْ أَحْكُمَ فِيكُمْ بِرَأْيِي فِي أَمْوَالِكُمْ وَفِي كَذَا وَكَذَا، وَكَانَ خَطَبَ امْرَأَةً مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ، ثُمَّ ذَهَبَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى الْمَرْأَةِ فَبَعَثَ الْقَوْمُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، ثُمَّ أَرْسَلَ رَجُلًا فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتَهُ حَيًّا فَاقْتُلْهُ فَإِنْ أَنْتَ وَجَدْتَهُ مَيِّتًا فَأَحْرِقْهُ بِالنَّارِ، فَانْطَلَقَ فَوَجَدَهُ قَدْ لُدِغَ فَمَاتَ فَحَرَقَهُ بِالنَّارِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» "
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْوَزْعَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُسَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» " وَذَلِكَ أَنَّهُ بَعَثَ رَجُلًا فَكَذَبَ عَلَيْهِ فَوُجِدَ مَيِّتًا قَدِ انْشَقَّ بَطْنُهُ وَلَمْ تَقْبَلْهُ الْأَرْضُ.فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُقِرَّ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَفَضَحَهَ، وَكَشَفَ سِتْرَهُ لِلنَّاسِ بَعْدَ مَمَاتِهِ.
وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبَرِ بِهِ فَإِنَّهُ الْحَقُّ الْمَحْضُ وَهُوَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَلَامُهُ وَحْيٌ فَهُوَ أَصْدَقُ، وَأَحَقُّ الْحَقِّ بَعْدَ كَلَامِ اللَّهِ، فَلَا يُشْتَبَهُ بِالْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ عَلَى ذِي عَقْلٍ صَحِيحٍ، بَلْ عَلَيْهِ مِنَ النُّورِ وَالْجَلَالَةِ وَالْبُرْهَانِ مَا يَشْهَدُ بِصِدْقِهِ، وَالْحَقُّ عَلَيْهِ نُورٌ سَاطِعٌ يُبْصِرُهُ ذُو الْبَصِيرَةِ السَّلِيمَةِ، فَبَيْنَ الْخَبَرِ الصَّادِقِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْخَبَرِ الْكَاذِبِ عَنْهُ مِنَ الْفَرْقِ كَمَا بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالضَّوْءِ وَالظَّلَامِ، وَكَلَامُ النُّبُوَّةِ مُتَمَيِّزٌ بِنَفْسِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ الصِّدْقِ، فَكَيْفَ نِسْبَتُهُ بِالْكَذِبِ، وَلَكِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ لَهُ عِنَايَةٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَارِهِ وَسُنَّتِهِ، وَمَنْ سِوَاهُمْ فِي عَمًى عَنْ ذَلِكَ، فَإِذَا قَالُوا: أَخْبَارُهُ وَأَحَادِيثُهُ الصَّحِيحَةُ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ فَهُمْ مُخْبِرُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنْهَا الْعِلْمَ، فَهُمْ صَادِقُونَ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، كَاذِبُونَ فِي إِخْبَارِهِمْ أَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ.
وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِ فَالْمُخْبِرُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ لَهُ عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ بِأَحْوَالِ الصَّحَابَةِ وَعَدَالَتِهِمْ وَتَحَرِّيهِمْ لِلصِّدْقِ وَالضَّبْطِ، وَكَوْنِهِمْ أَبْعَدَ خَلْقِ اللَّهِ عَنِ الْكَذِبِ وَعَنِ الْغَلَطِ وَالْخَطَأِ فِيمَا نَقَلُوهُ إِلَى الْأُمَّةِ وَتَلَقَّاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِالْقَبُولِ، وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ، عَنْهُمْ كَذَلِكَ، وَقَامَتْ شَوَاهِدُ صِدْقِهِمْ فِيهِ، فَهَذَا الْمُخْبِرُ يَقْطَعُ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ وَيُفِيدُهُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ وَالْيَقِينَ لِمَعْرِفَتِهِ بِحَالِهِ وَسِيرَتِهِ، وَنَوْعٌ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِحَالِ الْمُخْبِرِينَ مَا عِنْدَ أُولَئِكَ، فَهَؤُلَاءِ قَدْ لَا يُفِيدُهُمْ خَبَرُهُمُ الْيَقِينَ، فَإِذَا انْضَمَّ عَمَلُ الْمُخْبِرِ وَعِلْمُهُ بِحَالِ الْمُخْبِرِ وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَنِسْبَةُ ذَلِكَ الْخَبَرِ إِلَيْهِ، أَفَادَ ذَلِكَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِصِحَّةِ تِلْكَ النِّسْبَةِ، وَهَذَا فِي إِفَادَةِ الْعِلْمِ أَقْوَى مِنْ خَبَرِ رَجُلٍ مُبْرَزٍ فِي الصِّدْقِ وَالتَّحَفُّظِ، عَنْ رَجُلٍ مَعْرُوفٍ بِغَايَةِ الْإِحْسَانِ وَالْجُودِ أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ مُعْدِمٌ فَقِيرٌ مَا يُغْنِيهِ؟ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ، وَظَهَرَتْ شَوَاهِدُ تِلْكَ الْعَطِيَّةِ عَلَى الْفَقِيرِ، فَكَيْفَ إِذَا تَعَدَّدَ الْمُخْبِرُونَ عَنْهُ وَكَثُرَتْ رِوَايَاتُهُمْ وَأَحَادِيثُهُمْ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَعَطَايَا مُتَنَوِّعَةٍ فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
 
[كلام الإمام ابن حزم في أن خبر الواحد يفيد العلم قطعا]
قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ أَخْبَارَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُفِيدُ الْعِلْمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فَصَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِبَيَانِ الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ، وَفِي الْقُرْآنِ مُجْمَلٌ كَثِيرٌ، كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ مَا أَلْزَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ بِلَفْظِهِ، لَكِنْ بِتِبْيَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا كَانَ بَيَانُهُ لِذَلِكَ الْمُجْمَلِ مَحْفُوظًا وَلَا مَضْمُونًا سَلَامَتُهُ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ فَقَدْ بَطَلَ الِانْتِفَاعُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَبَطَلَتْ أَكْثَرُ الشَّرَائِعِ الْمُفْتَرَضَةِ عَلَيْنَا فِيهِ إِذَا لَمْ نَدْرِ صَحِيحَ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا مِمَّا أَخْطَأَ فِيهِ الْمُخْطِئُ أَوْ تَعَمَّدَ فِيهِ الْكَذِبَ الْكَاذِبُ، وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا.
قَالَ: وَأَيْضًا فَنَقُولُ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ عَنْ مِثْلِهِ مُبَلِّغًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ وَالْوَهْمُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونِ الْحِفْظِ: أَخْبِرُونَا هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَكُمْ شَرِيعَةُ فَرْضٍ أَوْ تَحْرِيمٍ أَتَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَاتَ وَهِيَ بَاقِيَةٌ لَازِمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، فَجُهِلَتْ حَتَّى لَا يَعْلَمَهَا عِلْمَ الْيَقِينِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الْعَالَمِ أَبَدًا؟ وَهَلْ يُمْكِنُ عِنْدَكُمْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ مَوْضُوعٍ بِالْكَذِبِ أَوْ بِخَطَأٍ بِالْوَهْمِ قَدْ جَاوَزَ وَمَضَى وَاخْتَلَطَ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ اخْتِلَاطًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَيِّزَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الْعَالَمِ أَبَدًا، أَمْ لَا يُمْكِنُ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا يُمْكِنَانِ أَبَدًا بَلْ قَدْ أَمِنَّا ذَلِكَ، صَارُوا إِلَى قَوْلِنَا وَقَطَعُوا أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ رَوَاهُ الثِّقَةُ عَنِ الثِّقَةِ مُسْنَدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدِّيَانَةِ فَإِنَّهُ حَقٌّ، قَدْ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَيَقْطَعُ بِصِحَّتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِطَ بِهِ خَبَرٌ مَوْضُوعٌ أَوْ مَوْهُومٌ فِيهِ لَمْ يَقُلْهُ قَطُّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتِلَاطًا لَا يَتَمَيَّزُ الْبَاطِلُ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ أَبَدًا، وَإِنْ قَالُوا: بَلْ كُلُّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ كَانُوا قَدْ حَكَمُوا بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ قَدْ فَسَدَ وَبَطَلَ أَكْثَرُهُ وَاخْتَلَطَ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَعَ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ اخْتِلَاطًا لَا يُمَيِّزُهُ أَحَدٌ أَبَدًا، وَأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ أَبَدًا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِمَّا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ، وَلَا مَا وَضَعَ الْكَاذِبُونَ وَالْمُسْتَخِفُّونَ بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِالظَّنِّ الَّذِي هُوَ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَالَّذِي لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وَهَذَا انْسِلَاخٌ مِنَ الْإِسْلَامِ وَهَدْمٌ لِلدِّينِ وَتَشْكِيكٌ فِي الشَّرَائِعِ. ثُمَّ نَقُولُ لَهُمْ: أَخْبِرُونَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مُمْكِنًا عِنْدَكُمْ، فَهَلْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِالْعَمَلِ بِمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ مُسْنَدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَمْ يَأْمُرْكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ؟ وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا.
..............................................................
 
فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَأْمُرْنَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ لَحِقُوا بِالْمُعْتَزِلَةِ، وَسَيَأْتِي جَوَابُهُمْ عَنِ الْقَوْلِ، وَإِنْ قَالُوا: بَلْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَمَلِ بِذَلِكَ، قُلْنَا لَهُمْ: فَقَدْ قُلْتُمْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَكُمْ بِالْعَمَلِ فِي دِينِهِ بِمَا لَمْ يَأْمُرْكُمْ بِهِ مِمَّا وَضَعَهُ الْكَاذِبُونَ وَأَخْطَأَ فِيهِ الْوَاهِمُونَ وَأَمَرَكُمْ أَنْ تَنْسُبُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَأْتِكُمْ بِهِ قَطُّ، وَمَا لَمْ يَقُلْهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ، وَهَذَا قَطْعٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ، وَافْتَرَضَ الْعَمَلَ بِالْبَاطِلِ وَبِمَا شَرَعَهُ الْكَاذِبُونَ مِمَّا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَبِمَا لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا لَا يَسْتَجِيزُ الْقَوْلَ بِهِ مُسْلِمٌ.
ثُمَّ نَسْأَلُهُمْ عَمَّا قَالُوا: إِنَّهُ مُمْكِنٌ مِنْ سُقُوطِ بَعْضِ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُكْمِ فِي الدِّينِ بِإِيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ حَتَّى لَا يُؤْخَذَ عَنْ أَحَدٍ هَلْ بَقِيَ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِهِ أَمْ سَقَطَ عَنَّا؟ وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَيْنَا، قُلْنَا لَهُمْ كَيْفَ يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِمَا لَا نَدْرِي وَبِمَا لَمْ يَبْلُغْنَا أَبَدًا، وَهَذَا مِنْ تَحْمِيلِ الْإِصْرِ وَالْحَرَجِ وَالْعُسْرِ الَّذِي قَدْ آمَنَنَا اللَّهُ مِنْهُ.
وَإِنْ قَالُوا: بَلْ قَدْ سَقَطَ عَنَّا الْعَمَلُ بِهِ قُلْنَا لَهُمْ: فَقَدْ أَجَزْتُمْ نَسْخَ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ دِينِ الْإِسْلَامِ، مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مُحْكَمَةٌ بَاقِيَةٌ لَازِمَةٌ، فَأَخْبِرُونَا مَنِ الَّذِي نَسَخَهَا وَأَبْطَلَهَا، وَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ لَازِمَةٌ لَنَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَهَذَا خِلَافُ الْإِسْلَامِ وَالْخُرُوجُ مِنْهُ جُمْلَةً.
فَإِنْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُ شَرِيعَةٍ. مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لَازِمٌ لَنَا وَلَمْ يُنْسَخْ، قُلْنَا لَهُمْ: فَمِنْ أَيْنَ أَجَزْتُمْ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْحِفْظِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلَمْ تُجِيزُوا تَمَامَ الْحِفْظِ لِلشَّرِيعَةِ مِنْ أَنْ لَا يَخْتَلِطَ بِهَا بَاطِلٌ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهِ قَطُّ اخْتِلَاطًا لَا يَتَمَيَّزُ مَعَهُ الْحَقُّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْبَاطِلِ الَّذِي لَمْ يَأْمُرْ بِهِ قَطُّ، وَهَذَا لَا مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ مَنَعَ مِنْ سُقُوطِ شَرِيعَةِ حَقٍّ أَوْ أَجَازَ اخْتِلَاطَهَا بِالْبَاطِلِ، وَبَيْنَ مَنْ مَنَعَ مِنِ اخْتِلَاطِ الْحَقِّ فِي شَرِيعَةٍ بِالْبَاطِلِ، وَأَجَازَ سُقُوطَ شَرِيعَةِ حَقٍّ، وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ لَا يَجُوزُ الْبَتَّةَ وَمُمْتَنِعٌ، قَدْ أَمِنَّا كَوْنَهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَإِذَا صَحَّ هَذَا فَقَدَ ثَبَتَ يَقِينًا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ عَنْ مِثْلِهِ مُبَلِّغًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى حَقٍّ مَقْطُوعٍ بِهِ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا.
 
قَالَ: وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]
فَنَسْأَلُهُمْ هَلْ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَمْ لَمْ يُبَيِّنْ، وَهَلْ بَلَّغَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ أَمْ لَمْ يُبَلِّغْ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: فَمِنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ بَلَّغَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَبَيَّنَهُ لِلنَّاسِ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى مَنْ بَلَّغَهُ، فَنَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ التَّبْلِيغِ وَذَلِكَ الْبَيَانِ، أَهُمَا بَاقِيَانِ عِنْدَنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَمْ هُمْ غَيْرُ بَاقِيَيْنِ؟ فَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُمَا بَاقِيَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، رَجَعُوا إِلَى قَوْلِنَا وَأَقَرُّوا أَنَّ الْحَقَّ مِنْ كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الدِّينِ مُبَيَّنٌ مِمَّا لَمْ يُنْزِلْهُ، مُبَلَّغٌ إِلَيْنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَهَذَا هُوَ نَصُّ قَوْلِنَا فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ مِثْلُهُ مُسْنَدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ مَقْطُوعٌ بِغَيْبِهِ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُمَا غَيْرُ بَاقِيَيْنِ، دَخَلُوا فِي عَظِيمَةٍ وَقَطَعُوا بِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الدِّينِ قَدْ بَطَلَ، وَأَنَّ التَّبْلِيغَ قَدْ سَقَطَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَأَنَّ بَيَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَثِيرَ مِنَ الدِّينِ قَدْ ذَهَبَ ذَهَابًا لَا يُوجَدُ مَعَهُ أَبَدًا، وَهَذَا قَوْلُ الرَّافِضَةِ، بَلْ شَرٌّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الرَّافِضَةَ ادَّعَتْ أَنَّ حَقِيقَةَ الدِّينِ مَوْجُودَةٌ عِنْدَ إِنْسَانٍ مَضْمُونٍ كَوْنُهُ فِي الْعِلْمِ، وَهَؤُلَاءِ أَبْطَلُوهُ مِنْ جَمِيعِ الْعَالَمِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ كِلَا الْقَوْلَيْنِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: 33] إِلَى قَوْلِهِ: {مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] وَقَالَ تَعَالَى ذَامًّا لِقَوْمٍ فِي قَوْلِهِمْ {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا - وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 32 - 148] وَقَدْ صَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَرَضَ عَلَيْنَا الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الثِّقَةِ عَنْ مِثْلِهِ مُبَلِّغًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ نَقُولَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا وَنَهَى عَنْ كَذَا وَفَعَلَ كَذَا وَاللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ الْقَوْلَ فِي دِينِهِ بِالظَّنِّ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ إِلَّا بِعِلْمٍ، فَلَوْ كَانَ لِخَبَرِ الْمَذْكُورِ يَجُوزُ فِيهِ الْكَذِبُ أَوِ الْوَهْمُ لَكَانَ قَدْ أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَا نَعْلَمُ، وَلَكَانَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا الْحُكْمَ فِي الدِّينِ بِالظَّنِّ الَّذِي لَا نَتَيَقَّنُهُ، وَالَّذِي هُوَ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا يُغْنِي عَنِ الْحَقِّ شَيْئًا، وَالَّذِي هُوَ غَيْرُ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهَذَا هُوَ الْإِفْكُ وَالْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ الَّذِي لَا يَحِلُّ الْقَوْلُ بِهِ وَالَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْنَا أَنْ نَقُولَ بِهِ.
فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ الْخَبَرَ الْمَذْكُورَ حَقٌّ مَقْطُوعٌ عَلَى غَيْبِهِ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ مَعًا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
 
وقال رحمه الله :
فَصَارَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ بِإِيجَابِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ ظَنٌّ لَا يَقْطَعُ بِصِحَّةِ غَيْبِهِ وَلَا يُوجِبُ الْعِلْمَ قَائِلًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَبَّدَنَا بِأَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ، وَأَنْ نَحْكُمَ فِي دِينِنَا بِالظَّنِّ الَّذِي قَدْ حُرِّمَ عَلَيْنَا أَنْ نَحْكُمَ بِهِ فِي الدِّينِ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] فَنَقُولُ لِمَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ مِنْ بَيَانِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ مَحْفُوظٍ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّبْدِيلُ، وَأَنْ يَخْتَلِطَ بِالْكَذِبِ الْمَوْضُوعِ اخْتِلَاطًا لَا يَتَمَيَّزُ أَبَدًا، أَخْبِرُونَا عَنْ إِكْمَالِ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا دِينَنَا وَرِضَاهُ الْإِسْلَامَ لَنَا دِينًا وَمَنْعِهِ مِنْ قَبُولِ كُلِّ دِينٍ سِوَى الْإِسْلَامِ، أَكُلُّ ذَلِكَ بَاقٍ عَلَيْنَا وَلَنَا وَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَمْ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَطْ، أَوْ لَا لِلصَّحَابَةِ وَلَا لَنَا؟ وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ.
فَإِنْ قَالُوا: لَا لِلصَّحَابَةِ وَلَا لَنَا، كَانَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ كَافِرًا لِتَكْذِيبِهِ اللَّهَ جِهَارًا وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ، وَإِنْ قَالُوا: بَلْ كُلُّ ذَلِكَ بَاقٍ لَنَا وَعَلَيْنَا وَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، صَارُوا إِلَى قَوْلِنَا ضَرُورَةً، وَصَحَّ أَنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ كُلَّهَا كَامِلَةٌ وَالنِّعْمَةَ بِذَلِكَ عَلَيْنَا تَامَّةٌ، وَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَلْزَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى اتِّبَاعَهُ، لِأَنَّهُ هُوَ الدِّينُ عِنْدَهُ مُتَمَيِّزٌ مِنْ غَيْرِهِ، قَدْ هَدَانَا بِفَضْلِهِ لَهُ، وَإِنَّا عَلَى يَقِينٍ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَمَا عَدَاهُ هُوَ الْبَاطِلُ، وَهَذَا بُرْهَانٌ ضَرُورِيٌّ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدِّينِ وَفِي بَيَانِ مَا يَلْزَمُنَا مَحْفُوظٌ لَا يَخْتَلِطُ بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ أَبَدًا.
وَإِنْ قَالُوا: بَلْ كَانَ ذَلِكَ لِلصَّحَابَةِ فَقَطْ، قَالُوا الْبَاطِلَ، وَخَصَّصُوا خِطَابَ اللَّهِ بِدَعْوَى كَاذِبَةٍ، إِذْ خِطَابُهُ تَعَالَى بِالْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا عُمُومٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فِي الْأَبَدِ، وَلَزِمَهُمْ مَعَ هَذِهِ الْعَظِيمَةِ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ غَيْرُ كَامِلٍ عِنْدَنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى رَضِيَ لَنَا مِنْهُ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَيْنَا وَأَلْزَمَنَا مِنْهُ مَا لَا نَدْرِي أَيْنَ نَجِدُهُ، وَافْتَرَضَ عَلَيْنَا اتِّبَاعَ مَا كَذَّبَهُ الزَّنَادِقَةُ وَالْمُسْتَحِقُّونَ وَوَضَعُوهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ أَوْ وَهِمَ فِيهِ الْوَاهِمُونَ مِمَّا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيُّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا بِيَقِينٍ لَيْسَ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ بَلْ هُوَ إِبْطَالٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ جِهَارًا، وَلَوْ كَانَ هَذَا (وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ) لَكَانَ دِينُنَا كَدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ كَتَبُوا الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ وَقَالُوا: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَنَحْنُ قَدْ وَثِقْنَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الصَّادِقُ فِي قَوْلِهِ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213] وَأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ هَدَانَا لِلْحَقِّ فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ هَدَانَا تَعَالَى لَهُ وَأَنَّهُ حَقٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ.
 
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمَّا انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَسْبَابُ: خَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ عِلْمًا ظَاهِرًا.
قَالَ: وَهَذَا كَلَامٌ لَا يُعْقَلُ، وَمَا عَلِمْنَا عِلْمًا ظَاهِرًا غَيْرَ بَاطِنٍ وَلَا عِلْمًا بَاطِنًا غَيْرَ ظَاهِرٍ، بَلْ كُلُّ عِلْمٍ يُتَيَقَّنُ فَهُوَ ظَاهِرٌ لِمَنْ عَلِمَهُ وَبَاطِنٌ فِي قَلْبِهِ، وَكُلُّ ظَنٍّ لَمْ يُتَيَقَّنْ فَلَيْسَ عِلْمًا أَصْلًا لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا، بَلْ هُوَ ضَلَالٌ وَشَكٌّ وَظَنٌّ مُحَرَّمٌ الْقَوْلُ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ.
وَنَقُولُ لَهُمْ إِذَا كَانَ عِنْدَكُمْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ قَدِ اخْتَلَطَ بِالْبَاطِلِ فَمَا يُؤَمِّنُكُمْ إِذْ لَيْسَ مَحْفُوظًا أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنَ الشَّرَائِعِ قَدْ بَطَلَتْ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْهَا أَحَدٌ أَصْلًا فَإِذَا مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُمُ الْمَنْعُ مِنِ اخْتِلَاطِهِمْ بِمَا لَيْسَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ حِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى يَقْتَضِي الْأَمَانَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ كُلَّ مَا عَلِمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ أُمَّتَهُ مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ وَاجِبِهَا وَحَرَامِهَا وَحَلَالِهَا، فَإِنَّهُ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ - لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: 34 - 115] فَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا نَقَلَهُ الثِّقَاتُ الَّذِينَ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا قَبُولَ نَقْلِهِمْ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْقَوْلَ بِأَنَّهُ سُنَّةُ اللَّهِ وَبَيَانُ نَبِيِّهِ يُمْكِنُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ التَّحْوِيلُ أَوِ التَّبْدِيلُ لَكَانَ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ لَهَا تَبْدِيلٌ وَلَا تَحْوِيلٌ كَذِبًا، وَهَذَا لَا يُجِيزُهُ مُسْلِمٌ أَصْلًا، فَصَحَّ يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ كُلَّ سُنَّةٍ سَنَّهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ وَسَنَّهَا رَسُولُهُ لِأُمَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا تَبْدِيلٌ وَلَا تَحْوِيلٌ أَبَدًا، وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّ نَقْلَ الثِّقَاتِ فِي الدِّينِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ حَقٌّ كَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ مُجْمِعُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنَ اللَّهِ فِي الْبَلَاغِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَعَلَى تَكْفِيرِ مَنْ قَالَ: لَيْسَ مَعْصُومًا فِي تَبْلِيغِهِ إِلَيْنَا وَنَقُولُ لَهُمْ: أَخْبِرُونَا عَنِ الْفَضِيلَةِ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَبْلِيغِهِ الشَّرِيعَةَ الَّتِي بُعِثَ بِهَا أَهِيَ لَهُ فِي إِخْبَارِهِ الصَّحَابَةَ بِذَلِكَ فَقَطْ أَمْ هِيَ بَاقِيَةٌ لِمَا أَتَى بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بُلُوغِهِ إِلَيْنَا وَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ فَإِنْ قَالُوا: بَلْ هِيَ لَهُ مَعَ مَنْ شَاهَدَهُ خَاصَّةً لَا فِي بُلُوغِ الدِّينِ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، قُلْنَا لَهُمْ: إِذًا قَدْ جَوَّزْتُمْ بُطْلَانَ الْعِصْمَةِ فِي تَبْلِيغِ الدِّينِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَجَوَّزْتُمْ وُجُودَ الدَّاخِلَةِ وَالْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالتَّحْرِيفِ فِي الدِّينِ، فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَكُمُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا جَوَّزْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَهُ وَبَيْنَ مَا مَنَعْتُمْ مِنْ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ؟ ، فَإِنْ قَالُوا: لِأَنَّهُ يَكُونُ غَيْرَ مُبَلِّغٍ لِمَا أُمِرَ بِهِ وَلَا مَعْصُومٍ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] الْآيَةَ (قِيلَ) : نَعَمْ وَهَذَا التَّبْلِيغُ الْمُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ مَعْصُومٌ فِيهِ بِإِجْمَاعِكُمْ مَعَنَا مِنَ الْكَذِبِ وَالْوَهْمِ هُوَ إِلَيْنَا كَمَا هُوَ إِلَى الصَّحَابَةِ وَلَا فَرْقَ، وَالدِّينُ لَازِمٌ لَنَا كَمَا هُوَ لَازِمٌ لَهُمْ سَوَاءً، فَالْعِصْمَةُ وَاجِبَةٌ فِي التَّبْلِيغِ لِلدِّيَانَةِ بَاقِيَةٌ مَضْمُونَةٌ وَلَا بُدَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ بِالدِّينِ عَلَيْنَا وَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا كَانَتْ قَائِمَةً عَلَى الصَّحَابَةِ سَوَاءً، وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَقَدَ قَطَعَ بِأَنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ غَيْرُ قَائِمَةٍ، وَالْحُجَّةُ لَا تَقُومُ بِمَا لَا يُدْرَى أَحَقٌّ هُوَ أَمْ كَذِبٌ.
ثُمَّ نَقُولُ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] ، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] ، {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] وَإِنِ ادَّعَوْا إِجْمَاعًا، قِيلَ مِنَ الْكَرَّامِيَّةِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مَعْصُومٍ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يُعَدُّ فِي الْإِجْمَاعِ (قُلْنَا لَهُمْ) : صَدَقْتُمْ وَلَا يُعَدُّ فِي الْإِجْمَاعِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الدِّينَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَطَلَتْ وَاخْتَلَطَتْ بِالْبَاطِلِ الْمَوْضُوعِ وَالْمَوْهُومِ فِيهِ اخْتِلَاطًا لَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ وَلَا دِينُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ دِينِ إِبْلِيسَ.
 
(وَإِنْ قَالُوا) : إِنَّ الْفَضِيلَةَ بِعِصْمَةِ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدِّينِ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، صَارُوا إِلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ قَوْلُنَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
(فَإِنْ قَالُوا) : إِنَّ صِفَةَ كُلِّ مُخْبِرٍ وَطَبِيعَتَهُ أَنَّ خَبَرَهُ يَجُوزُ فِيهِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ وَالْخَطَأُ، وَقَوْلُكُمْ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ فِي الشَّرِيعَةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ إِحَالَةُ الطَّبِيعَةِ وَخَرْقُ الْعَادَةِ فِيهِ.
قُلْنَا: لَا يُنْكَرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِحَالَةُ مَا شَاءَ مِنَ الطَّبَائِعِ إِذَا صَحَّ الْبُرْهَانُ بِهِ، فَالْعَجَبُ مِنْ إِنْكَارِكُمْ هَذَا مَعَ قَوْلِكُمْ بِهِ بِعَيْنِهِ فِي إِيَجَابِكُمْ عِصْمَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكَذِبِ وَالْوَهْمِ فِي تَبْلِيغِهِ الشَّرِيعَةَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرْتُمْ بِعَيْنِهِ، بَلْ لَمْ تَقْنَعُوا بِالتَّنَاقُضِ إِذَا أَصَبْتُمْ فِي ذَلِكَ وَأَخْطَأْتُمْ فِي مَنْعِكُمْ مِنْ ذَلِكَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ حَتَّى أَتَيْتُمْ بِالْبَاطِلِ الْمَحْضِ، إِذْ جَوَّزْتُمْ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ مُوَافَقَةَ الْخَطَأِ فِي إِجْمَاعِهَا فِي رَأْيِهَا، وَذَلِكَ طَبِيعَةٌ فِي الْكُلِّ وَصِفَةٌ لَهُمْ، وَمَنَعْتُمْ مِنْ جَوَازِ الْخَطَأِ وَالْوَهْمِ عَلَى مَا ادَّعَيْتُمُوهُ مِنْ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً فِي اجْتِهَادِهَا فِي الْقِيَاسِ، وَحَاشَ لِلَّهِ أَنْ تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْقِيَاسُ عَيْنُ الْبَاطِلِ، فَخَرَقْتُمْ بِذَلِكَ الْعَادَةَ وَأَحَلْتُمُ الطَّبَائِعَ بِلَا بُرْهَانٍ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمُخَالِفُ لَنَا مِنَ الْمُرْجِئَةِ الْقَاطِعِينَ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ يَعْرِفُ بِقَلْبِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَقٌّ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَحَالُوا الطَّبَائِعَ بِلَا بُرْهَانٍ وَمَنَعُوا مِنْ إِحَالَتِهَا إِذَا قَامَ الْبُرْهَانُ بِإِحَالَتِهَا.
 
فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ يَلْزَمُكُمْ أَنْ تَقُولُوا إِنَّ نَقَلَةَ الْأَخْبَارِ الَّتِي قَالَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومُونَ فِي نَقْلِهَا وَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَعْصُومٌ فِي نَقْلِهِ مِنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ وَوُقُوعِ الْوَهْمِ مِنْهُ.
قُلْنَا لَهُمْ: نَعَمْ هَكَذَا نَقُولُ وَبِهِ نَقْطَعُ، وَكُلُّ عَدْلٍ رَوَى خَبَرًا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدِّينِ فَذَلِكَ الرَّاوِي مَعْصُومٌ فِيهِ مِنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ، مَقْطُوعٌ بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ، وَمِنْ جَوَازِ الْوَهْمِ فِيهِ إِلَّا بِبَيَانٍ وَارِدٍ وَلَا بُدَّ مِنَ اللَّهِ بِبَيَانِ مَا وَهِمَ فِيهِ كَمَا فَعَلَ سُبْحَانَهُ بِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ وَمِنْ ثَلَاثٍ وَاهِمًا لِقِيَامِ الْبَرَاهِينِ الَّتِي قَدَّمْنَا مِنْ حِفْظِ جَمِيعِ الشَّرِيعَةِ مِمَّا لَيْسَ مِنْهَا.
قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ حَقٌّ فِي الْخَبَرِ الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا دُونَ الْغَرِيبِ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ تَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ.
(قَالَ ابْنُ حَزْمٍ) : فَإِنْ قَالُوا: قَدْ تَعَبَّدَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: " «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي خَيْرًا» ".
قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا مِنَ الْحُكْمِ فِي الدِّينِ بِالظَّنِّ فِي شَيْءٍ بَلْ كُلُّهُ بَابٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْنَا أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ فِي الدِّينِ بِالتَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْإِيجَابِ مَا لَا نَعْلَمُ، وَبَيَّنَ لَنَا كُلَّ مَا أَلْزَمَنَا مِنْ ذَلِكَ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِكُلِّ ذَلِكَ كَمَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِتَخْلِيدِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ، وَتَخْلِيدِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَلَا فَرْقَ، وَلَمْ يَجُزِ الْقَوْلُ بِالظَّنِّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
 
فَإِنْ قَالُوا: أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِمَا شَهِدَ بِهِ الْعَدْلُ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ وَبِمَا شَهِدَ بِهِ الْعَدْلَانِ فَصَاعِدًا، وَبِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَقُمْ بِالْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ فِي إِبَاحَةِ الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْأَبْشَارِ وَالْأَمْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِمْ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ بِخِلَافِ مَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ وَحَلَفَ عَلَيْهِ الْحَالِفُ، وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ بِالظَّنِّ الَّذِي أَنْكَرْتُمْ عَلَيْنَا قَوْلَهُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ.
قُلْنَا لَهُمْ: وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فُرُوقٌ وَاضِحَةٌ كَالشَّمْسِ:
أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ الدِّينِ وَإِكْمَالِهِ وَتَبْيِينِهِ مِنَ الْغَيِّ وَمِمَّا لَيْسَ مِنْهُ وَلَمْ يَتَكَفَّلْ تَعَالَى بِحِفْظِ دِمَائِنَا وَلَا بِحِفْظِ فُرُوجِنَا وَلَا بِحِفْظِ أَبْشَارِنَا وَأَمْوَالِنَا فِي الدُّنْيَا، بَلْ قَدَّرَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَقُولُ: " «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» " وَبِقَوْلِهِ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: " «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ» ".
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَنَا بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ الْحَالِفِ لَيْسَ حُكْمًا بِالظَّنِّ كَمَا زَعَمُوا بَلْ نَحْنُ نَقْطَعُ لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَرَضَ عَلَيْنَا الْحُكْمَ بِيَمِينِ الطَّالِبِ مَعَ الشَّهَادَةِ الْعَدْلِ وَبِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ، وَشَهَادَةُ الْعَدْلِ وَالْعَدْلَيْنِ وَالْعُدُولِ عِنْدَنَا وَإِنْ كَانُوا فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ كَاذِبِينَ أَوْ وَاهِمِينَ، فَالْحُكْمُ بِكُلِّ ذَلِكَ حَقٌّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَنَا مَقْطُوعٌ عَلَى غَيْبِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّ حَاكِمًا لَوْ تَحَاكَمَ إِلَيْهِ اثْنَانِ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فَلَمْ يَحْكُمْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ، أَوْ شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ فَلَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ الْحَاكِمَ فَاسِقٌ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى ظَالِمٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُبْطِلًا فِي إِنْكَارِهِ أَوْ مُحِقًّا أَوْ كَانَ الشُّهُودُ كَذَبَةً أَوْ وَاهِمِينَ أَوْ صَادِقِينَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بَاطِنَ أَمْرِهِمْ، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ يَقِينًا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا أَنْ نَقْتُلَ هَذَا الْبَرِيءَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِالْبَاطِلِ، وَأَنْ نُبِيحَ هَذَا الْفَرْجَ الْحَرَامَ الْمَشْهُودَ فِيهِ بِالْكَذِبِ، وَأَنْ نُبِيحَ هَذِهِ الْبَشَرَةَ الْمُحَرَّمَةَ وَهَذَا الْمَالَ الْحَرَامَ الْمَشْهُودَ فِيهِ الْبَاطِلُ، وَحَرُمَ عَلَى الْمُبْطِلِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَقَضَى تَعَالَى بِأَنَّنَا إِنْ لَمْ نَحْكُمْ بِذَلِكَ فُسَّاقٌ عُصَاةٌ لَهُ، ظَلَمَةٌ مُتَوَعَّدُونَ بِالنَّارِ عَلَى ذَلِكَ، وَمَا أَمَرَنَا أَنْ نَحْكُمَ فِي الدِّينِ بِخَبَرٍ وَضَعَهَ فَاسِقٌ أَوْ وَهَمَ وَفِيهِ وَاهِمٌ فَهَذَا فَرْقٌ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ.
وَفَرْقٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْنَا أَنْ نَقُولَ فِي جَمِيعِ الشَّرِيعَةِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَأَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِكَذَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] ، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] فَفَرَضَ عَلَيْنَا أَنْ نَقُولَ نَهَانَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْ كَذَا وَكَذَا، وَأَمَرَنَا بِكَذَا، وَلَمْ يَأْمُرْنَا قَطُّ أَنْ نَقُولَ: شَهِدَ هَذَا الشَّاهِدُ بِحَقٍّ وَلَا حَلَفَ هَذَا الْحَالِفُ عَلَى حَقٍّ، وَلَا أَنَّ هَذَا الَّذِي قَضَيْنَا بِهِ لِهَذَا حَقٌّ يَقِينًا، لَكِنَّ اللَّهَ قَالَ: احْكُمُوا بِشَهَادَةِ الْعَدْلِ، وَيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، وَهَذَا فَرْقٌ لَا خَفَاءَ بِهِ، فَلَمْ نَحْكُمْ بِالظَّنِّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ بَلْ بِعِلْمٍ قَاطِعٍ فَإِذَا قَالُوا: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] وَلَمْ يَقُلْ كُلُّ الظَّنِّ إِثْمٌ (قُلْنَا) : قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا الْإِثْمَ مِنَ الْبِرِّ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِمَا لَا يُعْلَمُ حَرَامٌ، فَهَذَا مِنَ الظَّنِّ الَّذِي هُوَ إِثْمٌ بِلَا شَكٍّ.
 
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: فَلَجَأَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْحُكْمِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِلدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ تَخَلَّصُوا بِذَلِكَ، وَلَمْ يَتَخَلَّصُوا، بَلْ كُلُّ مَا لَزِمَ غَيْرَهُمْ مِمَّا ذَكَرْنَا فَهُوَ لَازِمٌ لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّا نَقُولُ: أَخْبِرُونَا عَنِ الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَاهَا، الْآحَادُ، أَهِيَ كُلُّهَا حَقٌّ إِذَا جَاءَتْ مِنْ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ خَاصَّةً أَمْ كُلُّهَا بَاطِلٌ، أَمْ فِيهَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ؟ .
فَإِنْ قَالُوا: فِيهَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ، قُلْنَا لَهُمْ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَبْطُلَ شَرِيعَةٌ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا إِلَى نَبِيِّهِ حَتَّى تَخْتَلِطَ بِكَذِبٍ وَضَعَهُ فَاسِقٌ فَنَسَبَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ وَهِمَ فِيهِ وَاهِمٌ فَيَخْتَلِطَ الْحَقُّ الْمَأْمُورُ بِهِ مَعَ الْبَاطِلِ الْمُخْتَلَقِ اخْتِلَاطًا لَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ أَبَدًا لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَهَلِ الشَّرَائِعُ الْإِسْلَامِيَّةُ كُلُّهَا مَحْفُوظَةٌ لَازِمَةٌ لَنَا، أَمْ هِيَ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ وَلَا كُلُّهَا لَازِمٌ لَنَا، بَلْ قَدْ سَقَطَ مِنْهَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ كَثِيرٌ، وَهَلْ قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْنَا لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْنَا مِنَ الشَّرَائِعِ بِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ لَنَا مُتَمَيِّزَةٌ مِمَّا لَمْ يَأْمُرْنَا بِهِ، أَمْ لَمْ تَقُمْ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا حُجَّةٌ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُ مُخْتَلِطٌ بِالْكَذِبِ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ مِنْهُ أَبَدًا.
فَإِنْ أَجَازُوا اخْتِلَاطَ شَرَائِعِ الدِّينِ الَّتِي أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى بِهَا إِلَى نَبِيِّهِ بِمَا لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وَقَالُوا: لَمْ يَقُمْ لِلَّهِ عَلَيْنَا حُجَّةٌ فِيمَا أَمَرَنَا بِهِ، دَخَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقَوْلِ بِفَسَادِ الشَّرِيعَةِ وَذَهَابِ الْإِسْلَامِ وَبُطْلَانِ ضَمَانِ اللَّهِ لِحِفْظِ الذِّكْرِ، كَالَّذِي دَخَلَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَلَزِمَهُمْ أَنَّهُمْ تَرَكُوا كَثِيرًا مِنَ الدِّينِ الصَّحِيحِ كَمَا لَزِمَ غَيْرَهُمْ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِمَا لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَطَلَ بَيَانُهُ وَأَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ بِذَلِكَ لَمْ تَقُمْ عَلَيْنَا، وَإِنْ لَجَئُوا إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى خَبَرِ التَّوَاتُرِ لَمْ يَنْفَكُّوا بِذَلِكَ مِنْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الدِّينِ قَدْ بَطَلَ لِاخْتِلَاطِهِ بِالْكَذِبِ الْمَوْضُوعِ وَبِالْمَوْهُومِ فِيهِ، وَمِنْ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا، إِذْ قَدْ بَطَلَ ضَمَانُ حَفْظِ اللَّهِ فِيهَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَعْجِزُ أَحَدٌ أَنْ يَدَّعِيَ فِي أَيِّ خَبَرٍ شَاءَ أَنَّهُ مَنْقُولٌ نَقْلَ التَّوَاتُرِ بَلْ
أَصْحَابُ الْإِسْنَادِ أَصَحُّ دَعْوَى فِي ذَلِكَ لِشَهَادَةِ كَثْرَةِ الرُّوَاةِ وَتَغَايُرِ الْأَسَانِيدِ لَهُمْ بِصِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي نَقْلِ التَّوَاتُرِ، فَإِنْ لَجَأَ لَاجِئٌ إِلَى أَنْ يَقُولَ بِأَنَّ كُلَّ خَبَرٍ جَاءَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ الثِّقَاتِ إِنَّهُ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذِهِ مُجَاهَرَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَمُدَافَعَةٌ لِمَا يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ خِلَافُهُ، وَتَكْذِيبٌ لِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَلِجَمِيعِ فُضَلَاءِ التَّابِعِينَ، وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا رَوَوُا الْأَخْبَارَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا شَكٍّ وَاحْتَجَّ بِهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَعَمِلُوا بِهَا، وَأَفْتَوْا بِهَا فِي دِينِ اللَّهِ، وَهَذَا إِطِّرَاحٌ لِلْإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ وَبَاطِلٌ لَا تَخْتَلِفُ النُّفُوسُ فِيهِ؛ لِأَنَّ بِالضَّرُورَةِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا لَمْ يَصْدُقْ فِي كَلِمَةٍ بَلْ كُلُّهُمْ كَذَبُوا وَوَضَعُوا كُلَّ مَا رَوَوْا.
وَأَيْضًا فَفِيهِ إِبْطَالُ لِأَكْثَرِ الشَّرَائِعِ الَّتِي لَا يَشُكُّ مُسْلِمٌ وَلَا غَيْرُ مُسْلِمٍ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ مُبَيَّنَةً كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّا إِنَّمَا تَلَقَّيْنَاهَا مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ كَمَا تَرَى لَا رَابِعَ لَهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ خَبَرٍ نَقَلَهُ الْعَدْلُ عَنِ الْعَدْلِ مُبْلِغًا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذِبًا كُلُّهَا أَوَّلُهَا عَنْ آخِرِهَا، أَوْ يَكُونَ فِيهَا حَقٌّ بَاطِلٌ إِلَّا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَنَا إِلَى تَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ أَبَدًا، وَهَذَا تَكْذِيبٌ لِلَّهِ فِي إِخْبَارِهِ بِحِفْظِ الذِّكْرِ الْمُنَزَّلِ وَبِإِكْمَالِهِ لَنَا الدِّينَ، وَبِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنَّا إِلَّا دِينَ الْإِسْلَامِ لَا شَيْءَ سِوَاهُ، وَفِيهِ أَيْضًا إِفْسَادُ الدِّينِ وَاخْتِلَاطُهُ بِمَا لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهِ وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ فِي الْعَالَمِ أَنْ يَعْرِفَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي دِينِهِ مِمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ أَبَدًا، وَإِنَّ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ قَدْ بَطَلَتْ بِيَقِينٍ، وَهَذَا انْسِلَاخٌ، مِنَ الْإِسْلَامِ، أَوْ أَنَّهَا كُلَّهَا حَقٌّ مَقْطُوعٌ عَلَى غَيْبِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مُوجِبَةٌ كُلُّهَا الْعِلْمَ بِإِخْبَارِ اللَّهِ بِأَنَّهُ حَافِظٌ لِمَا أَنْزَلَ مِنَ الذِّكْرِ وَلِتَحْرِيمِهِ تَعَالَى الْحُكْمَ فِي الدِّينِ بِالظَّنِّ وَالْقَوْلِ عَلَيْهِ بِمَا لَا عِلْمَ لَنَا، وَلِإِخْبَارِهِ تَعَالَى أَنَّهُ {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] ، وَلَيْسَ الرُّشْدُ إِلَّا مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي فِعْلِهِ، وَلَيْسَ الْغَيُّ إِلَّا مَا لَمْ يُنْزِلْهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، وَهَذَا قَوْلُنَا: انْتَهَى كَلَامُهُ.
 
أدلة ابن القيم رحمه الله على حجية خبر الآحاد :
قال رحمه الله في الصواعق المرسلة :
وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ يُفِيدُ الْعِلْمَ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا أَخْبَرَهُمُ الْوَاحِدُ وَهُمْ بِقِبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ أَنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ قَبِلُوا خَبَرَهُ وَتَرَكُوا الْحُجَّةَ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وَاسْتَدَارُوا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ شُكِرُوا عَلَى ذَلِكَ وَكَانُوا عَلَى أَمْرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ مِنَ الْقِبْلَةِ الْأُولَى، فَلَوْلَا حُصُولُ الْعِلْمِ لَهُمْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَمْ يَتْرُكُوا الْمَقْطُوعَ بِهِ الْمَعْلُومَ لِخَبَرٍ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَغَايَةُ مَا يُقَالُ فِيهِ أَنَّهُ خَبَرٌ اقْتَرَنَتْهُ قَرِينَةٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقُولُ: لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِقَرِينَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْمُكَابَرَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَرِينَةَ تَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ وَرِوَايَتِهِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَقْوَى الْقَرَائِنِ وَأَظْهَرِهَا فَأَيُّ قَرِينَةٍ فَرَضْتَهَا كَانَتْ تِلْكَ أَقْوَى مِنْهَا.
 
الدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى (فَتَثَبَّتُوا) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْجَزْمِ بِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّثْبِيتِ، وَلَوْ كَانَ خَبَرُهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ لِأَمْرٍ بِالتَّثَبُّتِ حَتَّى يَحْصُلَ الْعِلْمُ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ وَأَئِمَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَزَالُوا يَقُولُونَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَفَعَلَ كَذَا، وَأَمَرَ بِكَذَا وَنَهَى عَنْ كَذَا، وَهَذَا مَعْلُومٌ فِي كَلَامِهِمْ بِالضَّرُورَةِ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ وَكَثِيرٌ مِنْ أَحَادِيثِ الصَّحَابَةِ يَقُولُ فِيهَا أَحَدُهُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ صَحَابِيٍّ غَيْرِهِ، وَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنَ الْعَاقِلِ وَجَزْمٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَلَوْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ لَكَانَ شَاهِدًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
 
وقال في مدارج السالكين :
وَهَاهُنَا فَائِدَةٌ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّ خَبَرِ الْفَاسِقِ وَتَكْذِيبِهِ وَرَدِّ شَهَادَتِهِ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ، فَإِنْ قَامَتْ قَرَائِنُ وَأَدِلَّةٌ مِنْ خَارِجٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ عُمِلَ بِدَلِيلِ الصِّدْقِ، وَلَوْ أَخْبَرَ بِهِ مَنْ أَخْبَرَ، فَهَكَذَا يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ فِي رِوَايَةِ الْفَاسِقِ وَشَهَادَتِهِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفَاسِقِينَ يَصْدُقُونَ فِي أَخْبَارِهِمْ وَرِوَايَاتِهِمْ وَشَهَادَاتِهِمْ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَتَحَرَّى الصِّدْقَ غَايَةَ التَّحَرِّي، وَفِسْقُهُ مِنْ جِهَاتٍ أُخَرَ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يُرَدُّ خَبَرُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ، وَلَوْ رُدَّتْ شَهَادَةُ مِثْلِ هَذَا وَرِوَايَتُهُ لَتَعَطَّلَتْ أَكْثَرُ الْحُقُوقِ، وَبَطَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، وَلَاسِيَّمَا مَنْ فِسْقُهُ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ وَالرَّأْيِ، وَهُوَ مُتَحَرٍّ لِلصِّدْقِ، فَهَذَا لَا يُرَدُّ خَبَرُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ.
وَأَمَّا مَنْ فِسْقُهُ مِنْ جِهَةِ الْكَذِبِ فَإِنْ كَثُرَ مِنْهُ وَتَكَرَّرَ، بِحَيْثُ يَغْلِبُ كَذِبُهُ عَلَى صِدْقِهِ، فَهَذَا لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ، وَإِنْ نَدُرَ مِنْهُ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ، فَفِي رَدِّ شَهَادَتِهِ وَخَبَرِهِ بِذَلِكَ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
 
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: إِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَمْ يَزَالُوا يَقُولُونَ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ جَزْمٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ قَالَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُمْ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إِنَّ الْمُرَادَ بِالصِّحَّةِ صِحَّةُ السَّنَدِ لَا صِحَّةُ الْمَتْنِ، بَلْ هَذَا مُرَادُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ وَإِنَّ مَا كَانَ مُرَادُهُمْ صِحَّةَ الْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَالَ كَمَا كَانُوا يَجْزِمُونَ بِقَوْلِهِمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ وَنَهَى وَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَيْثُ كَانَ يَقَعُ لَهُمُ الْوَهْمُ فِي ذَلِكَ يَقُولُونَ يُذْكَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُرْوَى عَنْهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَمَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِالْحَدِيثِ يُفَرِّقُ بَيْنَ قَوْلِ أَحَدِهِمْ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، فَالْأَوَّلُ جَزْمٌ بِصِحَّةِ نِسْبَتِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّانِي شَهَادَةٌ بِصِحَّةِ سَنَدِهِ،وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ عِلَّةٌ أَوْ شُذُوذٌ فَيَكُونُ سَنَدُهُ صَحِيحًا وَلَا يَحْكُمُونَ أَنَّهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ.
 
الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] وَالطَّائِفَةُ تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ فَمَا فَوْقَهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الطَّائِفَةَ تُنْذِرُ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ وَالْإِنْذَارُ: الْإِعْلَامُ بِمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَقَوْلُهُ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ فِي آيَاتِهِ الْمَتْلُوَّةِ وَالْمَشْهُودَةِ {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176] ، {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 46] ، {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء: 31] وَهُوَ سُبْحَانُهُ إِنَّمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ فِيمَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ لَا فِيمَا لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ.
 
الدَّلِيلُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] أَيْ لَا تَتَّبِعْهُ وَلَا تَعْمَلْ بِهِ، وَلَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ يَقْفُونَ أَخْبَارَ الْآحَادِ وَيَعْمَلُونَ بِهَا وَيُثْبِتُونَ لِلَّهِ تَعَالَى بِهَا الصِّفَاتِ، فَلَوْ كَانَتْ لَا تُفِيدُ عِلْمًا لَكَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ قَدْ قَفَوْا مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ.
 
الدَّلِيلُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فَأَمَرَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَ الذِّكْرِ وَهُمْ أُولُو الْكِتَابِ وَالْعِلْمِ، وَلَوْلَا أَنَّ أَخْبَارَهُمْ تُفِيدُ الْعِلْمَ لَمْ يَأْمُرْ بِسُؤَالِ مَنْ لَا يُفِيدُ خَبَرُهُ عِلْمًا، وَهُوَ سُبْحَانُهُ لَمْ يَقُلْ سَلُوا عَدَدَ التَّوَاتُرِ بَلْ أَمَرَ بِسُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ مُطْلَقًا، فَلَوْ كَانَ وَاحِدا لَكَانَ سُؤَالُهُ وَجَوَابُهُ كَافِيًا.
 
الدَّلِيلُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] وَقَالَ: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «بَلِّغُوا عَنِّي» " وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي الْجَمْعِ الْأَعْظَمِ يَوْمَ عَرَفَةَ: " «أَنْتُمْ مَسْئُولُونَ عَنِّي فَمَاذَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ " قَالُوا: " نَشْهَدُ أَنَّكَ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ» "، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَلَاغَ هُوَ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُبَلَّغِ وَيَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ، فَلَوْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ لَمْ يَقَعْ بِهِ التَّبْلِيغُ الَّذِي تَقُومُ بِهِ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ، فَإِنَّ الْحُجَّةَ إِنَّمَا تَقُومُ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ.
وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُ الْوَاحِدَ مِنْ أَصْحَابِهِ يُبَلِّغُ عَنْهُ فَتَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ بَلَّغَهُ، وَكَذَلِكَ قَامَتْ حُجَّتُهُ عَلَيْنَا بِمَا بَلَّغَنَا الْعُدُولُ الثِّقَاتُ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَسُنَّتِهِ، وَلَوْ لَمْ يُفِدِ الْعِلْمَ لَمْ تَقُمْ عَلَيْنَا بِذَلِكَ حُجَّةٌ، وَلَا عَلَى مَنْ بَلَّغَهُ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ أَوْ دُونَ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، وَهَذَا مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ.
فَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَخْبَارَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقُولَ إِنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُبَلِّغْ غَيْرَ الْقُرْآنِ وَمَا رَوَاهُ عَنْهُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ لَمْ تَقُمْ بِهِ حَجَّةٌ وَلَا تَبْلِيغٌ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ إِنَّ الْحُجَّةَ وَالْبَلَاغَ حَاصِلَانِ بِمَا لَا يُوجِبُ عِلْمًا وَلَا يَقْتَضِي عَمَلًا، وَإِذَا بَطَلَ هَذَانِ الْأَمْرَانِ بَطَلَ الْقَوْلُ بِأَنَّ أَخْبَارَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي رَوَاهَا الثِّقَاتُ الْعُدُولُ الْحُفَّاظُ وَتَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ لَا تُفِيدُ عِلْمًا، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ.
 
الدَّلِيلُ الثَّامِنُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] وَقَوْلُهُ: {وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ عُدُولًا خِيَارًا يَشْهَدُوا عَلَى النَّاسِ بِأَنَّ رُسُلَهُمْ قَدْ بَلَّغُوهُمْ عَنِ اللَّهِ رِسَالَتَهُ وَأَدَّوْا عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ شَهَادَتَهُمْ عَلَى الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَشَهَادَتَهُمْ عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِكَذَا وَنَهَاهُمْ عَنْ كَذَا، فَهُمْ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى مَنْ خَالَفَ رَسُولَ اللَّهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِهِمْ مِنَ اللَّهِ مَا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَتَشْهَدُ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ عَلَيْهِ بِأَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ بِالرُّسُلِ قَامَتْ عَلَيْهِ، وَيَشْهَدُ كُلُّ وَاحِدٍ بِانْفِرَادِهِ بِمَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي كَانَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، فَلَوْ كَانَتْ أَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تُفِيدُ الْعِلْمَ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ الشَّاهِدُ وَلَمْ تَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
 
الدَّلِيلُ التَّاسِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]
وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الَّتِي رَوَاهَا الثِّقَاتُ الْحُفَّاظُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَوْ مَشْكُوكًا فِيهَا، لَا يُدْرَى هَلْ هِيَ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ، فَإِنْ كَانَتْ بَاطِلًا أَوْ مَشْكُوكًا فِيهَا وَجَبَ اطِّرَاحُهَا وَأَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَيْهَا وَهَذَا انْسِلَاخٌ مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا فَيَجِبُ الشَّهَادَةُ بِهَا عَلَى الْبَتِّ أَنَّهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الشَّاهِدُ بِذَلِكَ شَاهِدًا بِالْحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ صِحَّةَ الْمَشْهُودِ بِهِ.
 
الدَّلِيلُ الْعَاشِرُ: قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِثْلِهَا " فَاشْهَدُوا " أَشَارَ إِلَى الشَّمْسِ وَلَمْ يَزَلِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَطْعِ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَأَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ وَفَعَلَهُ لَمَّا بَلَّغَهُمْ إِيَّاهُ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ فَيَقُولُونَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا، وَحَرَّمَ كَذَا وَأَبَاحَ كَذَا، وَهَذِهِ شَهَادَةٌ جَازِمَةٌ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ كَالشَّمْسِ فِي الْوُضُوحِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ الْتِفَاتٌ إِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتِنَاءٌ بِهَا يَشْهَدُ شَهَادَةً جَازِمَةً أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ عِيَانًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ يَدْخُلُونَ النَّارَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ وَأَنَّ الصِّرَاطَ حَقٌّ، وَتَكْلِيمَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ، وَأَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ، إِلَى أَضْعَافِ أَضْعَافِ ذَلِكَ، بَلْ يَشْهَدُ بِكُلِّ خَبَرٍ صَحِيحٍ مُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ لَمْ يُنْكِرْهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ شَهَادَةً لَا يَشُكُّ فِيهَا.
 
الدَّلِيلُ الْحَادِيَ عَشَرَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرُونَ لِإِفَادَةِ أَخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِلْمَ يَشْهَدُونَ شَهَادَةً جَازِمَةً قَاطِعَةً عَلَى أَئِمَّتِهِمْ بِمَذَاهِبِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا، وَلَوْ قِيلَ إِنَّهَا لَمْ تَصِحَّ عَنْهُمْ لَأَنْكَرُوا ذَلِكَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، وَتَعَجَّبُوا مِنْ جَهْلِ قَائِلِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الْمَذَاهِبَ لَمْ يَرْوِهَا عَنْهُمْ إِلَّا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ وَنَحْوُهُمْ، وَلَمْ يَرْوِهَا عَنْهُمْ عَدَدُ التَّوَاتُرِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ يَقِينًا.
فَكَيْفَ يَحْصُلُ لَهُمُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ وَالْمُقَارِبُ لِلضَّرُورِيِّ بِأَنَّ أَئِمَّتَهُمْ وَمَنْ قَلَّدُوهُمْ دِينَهُمْ أَفْتَوْا بِكَذَا وَذَهَبُوا إِلَى كَذَا، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بِمَا رَوَاهُ عَنْهُمُ التَّابِعُونَ وَشَاعَ فِي الْأُمَّةِ وَذَاعَ، وَتَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَتَنَوَّعَتْ، وَكَانَ حِرْصُهُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ بِكَثِيرٍ مِنْ حِرْصِ أُولَئِكَ عَلَى أَقْوَالِ مَتْبُوعِيهِمْ؟ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْعَجَبُ الْعُجَابُ.
وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَفْسُهُ دَلِيلًا يَلْزَمُهُمْ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقُولُوا أَخْبَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَتَاوَاهُ وَأَقْضِيَتُهُ تُفِيدُ الْعِلْمَ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا إِنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِصِحَّةِ شَيْءٍ مِمَّا نُقِلَ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ وَأَنَّ النُّقُولَ عَنْهُمْ لَا تُفِيدُ عِلْمًا، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ دُونَ الْمَنْقُولِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنْ أَبْيَنِ الْبَاطِلِ.
 
عودة
أعلى