إعجاز القرآن
1. سبب إكثار الناس في الكلام عن الإعجاز دون صدورهم عن ري: لتعذر معرفة وجه الإعجاز في القرآن ومعرفة الأمر في الوقوف على كيفيته
**من دلائل الإعجاز
① وجود الداعي إلى محاكاة القرآن وخصوصا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تحداهم ومع ذلك لم يستطيعوا مع فصاحتهم ووفرة عقولهم فلو كانوا يستطيعون لأتو بمثله بدل أن يناصبوه العداء
② الصرفة : وهو أن الهمم والعزائم صرفت عن معارضته مع قدرتهم على ذلك
الرد عيها: 1- أن هذا يشهد بخلافه قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله) وهذا يتطلب قدرا من التكلف والاجتهاد , والصرفة ليس فيها شيء من ذلك.
ثانيا: وجد من الناس فعلا من حاول معارضة القرآن فخاب وخسر وهذا يدل على وجود الداعي والهمة لا أنهم صرفوا عن معارضته.
③ إخباره عن المغيبات وما يستقبل من الزمان كقوله: (الم غلبت الروم...) وغيرها
التعقيب عليه: أن هذا وإن كان نوعا من أنواع الإعجاز فهو ليس في كل سورة من سور القرآن وقد جعل الله في صفة كل سورة أن تكون معجزة في نفسها وتحداهم أن يأتو بمثل أي سورة دون تحديدد فدل أن المعنى غير ما ذهبوا إليه.
④ أن إعجازه من جهة البلاغة (وهم الأكثرون من علماء أهل النظر
الإشكال في هذا الوجه: معرفة كيفية الإعجاز , فأغلبهم قلد من قبله فإذا سئلوا عن تحديد هذه البلاغة قالوا قد يخفى سبه ويظهر أثره في النفوس من عذوبة الاستماع إليه وهشاشته في النفس وغير ذلك مع أن الكلامان فصيحان فدل أن القرآن معجر (وهذا غير مقنع) في مثل هذا العلم
وعند التمحيص يتبين أن كيفية إعجازه من جهة البلاغة:
أولا-أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية فمنها البليغ الرصين الجزل, ومنها الفصيح القريب السهل, ومنها الجائز الطلق الرسل وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود دون النوع المذموم الذي لايوجد في القرآن منه شيء فحاز القرآن على كل نوع بحصة فجمع صفتي الفخامة والسهولة الصفتان اللتان لا تجتمعان في غير القرآن لأن السهولة نتاج العذوبة والفخامة تعالج نوعا من الوعورة فاجتماعهما في القرآن دليل الفضيلة والاختصاص
ثانيا:احتواؤه أجمل الألفاظ وأقواها وأسهلها
ثالثا: اشتماله على أجمع المعاني وأفضلها وأصحها
ويمكن أن نختصر هذه الثلاثة فنقول: أن القرآن صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنا أصح المعاني من التوحيد والأحكام والأخلاق والمغيبات والقصص والحجج والدليل والمدلول وعمود البلاغة التي تجمع هذه الصفات أنه وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليه فصول الكلام في موضعه الأخص به الذي إذا بدل مكانه جاء منه: غما تبدل المعنى الذي يسبب فساد الكلام أو ذهاب الرونق الذي يسبب سقوط البلاغة
تتفرع عن هذه المسالة : تقارب المعاني (كالعلم والمعرفة والبخل والشح واقعد واجلس) وغيرها التي قد يظنها الكثير دالة على نفس المعنى وهي عند أهل اللغة بخلاف ذلك وهذا هو السبب الذي تهيب العلماء من الخوض في تفسير كلام الله أن بعض الألفاظ والحروف تدل على معان دقيقة غير متبادرة إلى الذهن إلا بعد التأمل والتفطن ومعرفة اللسان فلو فسر حرف بحرف أو معنى بمعنى قد يؤدي إلى فساد المعنى وهذا يدل على إعجاز القرآن أنه جاء باللفظ والنظم المناسب في موضعه الأخص به والأنسب
⑤ صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس وقد ذهب عنه الناس فلا يعرفه إلا الآحاد منهم فيسلم الكافر , ويسكت المعارض لمعرفة صدقه وإن لم يسلم ومن ذلك ما حصل من تأثر الجن
** سبب تعذر البشر عن الإتيان بمثل القرآن :
أولا: أنهم لا يحيطون علما بجميع أسماء اللغة العربية وألفاظها
ثانيا ولا تدرك أفهامهم ميع المعاني المحمولة على تلك الألفاظ
ثالثا ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظم فتعذر أن يأتوا بمثله
وبعبارة أخرى نقول ما نصه: فإذا عرفت هذه الأصول تبينت أن القوم إنما كاعوا وجبنوا عن معارضة القرآن لما قد يئودهم ويتصعدهم منه وقد كانوا بطباعهم يتبينون مواضع تلك الأمور ويعرفون ما يلزمهم من شروطها ومن العهدة فيها ويعلمون أنهم لايبلغون شأوها فتركوا المعارضة لعجزهم وأقبلوا على المحاربة لجهلهم فكان حظهم مما فروا إليه حظهم مما فزعوا منه (فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين) والحمد لله رب العالمين
**أقوال المعاندين للقرآن ووجه تلبيسهم
① أولا: إنه شعر وذلك لما رأوه منظوما
② ثانيا: أنه سحر لأنهم عجزوا عن محاكاته وأنه يؤثر في النفوس تأثيرا عجيبا
③ ثالثا: أنه أساطير الأولين اكتتبها وهذا من جهلهم وتكذيبهم فهم يعرفون أنه لا يقرأ ولا يكتب
④ رابعا: أنه قول البشر وهذا حين لم يقدر أن يفتري له قولا ونفى ما قيل عنه قال هذا القول كما وصف القرآن حال الوليد
**شبه المنكرين لإعجاز القرآن
① أولا: أن القوم لم يعارضوه لعجزهم فهم عرب فصحاء والقرآن جاء بما يتخاطبون به ولو أرادوا لسهل عليهم وإنما كرهوا التطويل وأرادوا معجلته بالهلاك
والرد عليه: أنه قد تبين مما سبق أن ما اجتمع من القرآن لا يمكن أن يحيط به بشر وإذا كانت الأسماء اللغوية لا يجوز أن يحيط بها إلا نبي , وقد كان ابن الخطاي لايعرف (الأب) فكيف بالمعاني التي تحملها الألفاظ فهي أشد, وكيف بالنظم فالحاجة لحذقه أصعب وأدق
② ثانيا:أن الغريب المشكل فيه بالنسبة للكثير منه قليل
الرد عليه: أنه ليس من شرط البلاغة وجود الغريب ووحشي الغريب لا يكثر إلا في الأجلاف الأوحاش
③ ثالثا: عد التسليم ببلاغة القرآن فهناك بعض الوجوه وقعت في القرآن لو جيء بوجوه غيرها لكانت أفصح مثل (أكله الذئب) والأفصح افترسه وقوله (إن امشوا واصبروا) والأفضل امضوا وانطلقوا ... إلى غير ذلك من الأمثلة
④ رابعا: أن ترتيب السور لو كان أخبار الأمم وقصصهم في سورة والأمثال في سورة والمواعظ في سورة لكان أفضل وأحسن في الترتيب
الرد عليه: أن في التريب القرآني بهذه الطريقة تحصل الفائدة الأكبر والنفع الأعم وتقوم الحجة بسماع السورة الواحد المتنوعة المعاني, ويحصل التحدي فكان اجتماع المعاني الكثيرة في السورة الواحدة أوفر حظا وجدى نفعا وأبلغ نظما من التمييز ولتفريد وقد أحب الله أن يمتحن عباده ويبلو طاعتهم واجتهادهم في جمع المتفرق منه وفي تنزيله وترتيبه وليرفع الله الذين آمنوا منهم والذين أوتوا العلم درجات
⑤ خامسا: الحذف والاختصار في مثل قوله: (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) فحذف الجواب وهذا الاختصار يعاب
والرد عليه : أن من البلاغة الإيجاز في موضعه وحذف ما يستغنى عنه من الكلام , وحُذِف الجواب لأن المذكور يدل عليه فاستغني به والتقدير (لكان هذا القرآن) وسبب آخر ذكر : وهو أن الحذف في مثل هذا أبلغ حتى تذهب النفس في تقديره كل مذهب
⑥ سادسا: التكرار الموجود في القرآن من القصص أو الجمل التي لا داعي لتكرارها مثل: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) و (ويل يومئذ للمكذبين) ونحوهما
والرد عليه أن التكرار لما تدعو الحاجة للترغيب إليه أو الحث عليه أو الترهيب منه من البلاغة وهذا معلوم عند العرب في أساليبهم وأشعارهم وأما القصص فقد بين الله سبب تكرارها بقوله: ( ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون) وقوله ( وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) أما سورة الرحمن والمرسلات فقد ذكر الله فيهما أنواعا متجددة وصفات متنوعة إما في النعم أو أهوال يوم القيامة وتجديد القول عن ذكر كل حال أبلغ في القرآن وأوكد لإقامة الحجة والإعذار أما الإشكال في ذكر آلاء الله في قوله( يرسل عليكما شواظ ...) الآية وأنها نقمة وليست نعمة فالجواب: أن الله حذرنا من العقوبة لنرتدع عنها وهذه نعمة أن بين الله لنا سبب الهلاك والوعد والوعيد وإن تقابلا في ذواتهما فإنهما متوازيان في موضع النعم
⑦ سابعا: أنه يمكن أن يكون عارضه العرب لكن أخفاه المسلمون وكتموا خبره لما حصل من اتساع رقعة الإسلام فانمحى أثره وخفي على الناس معارضته
الرد عليه أن هذا محال ولا يتوهم هذا ولا يجوز مع اتساع العالم وبلوغ التحدي لجميع الخلائق ليس زمانا دون ومان أو قوما دون قوم, ثم إن الهمم متوافرة لنقض فلو حصل هذا لاستحال كتمه
⑧ ثامنا : أن المعارضة قد حصلت من مثل مسيلمة وأمثاله
والرد المجمل أن هذا الكلام ساقط لا يحمل أي معنى ولا فائدة بل لفظه ممجوج وأسلوبه متكلف غث فلم يجمع واحدا من أركان البلاغة وأصولها, كما أنه لم يحو طرق المعارضة ولم يلتزم شرطا من شروطها
والتفصيل في كل مقطع كما سيأتي
أولا: قول مسيلمة في الضفدع:: هو قول ساقط عن المعارضة مفتقد لشروط البلاغة وأركانها فلا لفظ صحيح ولا معنى قوى ولا نظم جزل رصين ويكفيه أن كل من سمعه عرف أنه كاذب.
ثانيا: قول من قال: (الفيل وما أدراك ما الفيل) - أنه هوّل وروع وصعد ثم أخلف ما وعد واقتصر على ما ظهر من الذنب والمشفر ويبصرها كل أحد. فوضع الكلام في غير موضعه ومثل هذه الفاتحة العظيمة تجعل لأمر عظيم. - اقتصر على الوصف الظاهر وترك ما أودعه الله فيه من ذكائه وفطنته التي يفهم بها سائسه, كما ترك من خلق الفيل أعجبه كالآذان والأنياب وغيرهما. - أن الوصف الذي خص به الفيل شابه به البعوضة ولم يذكر ما يميز الفيل.
ثالثا: من وصف الحبلى (ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى) - جاء بكلمة الانتقام في محل الإنعام فهذه اللفظة تستخدم في التهديد والعقوبة , بخلاف أن يقول: ألم تر على ربك كيف فعل بالحبلى. - قوله: (أخرج منها نسمة تسعى من بين شراسيف وحشى) هذا معنى استرقه من القرآن استراقا كما أنه أخطأ في الوصف فجعل الولد بعد الحبل خارجا من بين الشراسيف والحشى حيث أن بين الرحم والشراسيف مسافة.
**بيان طرق المعارضة
أن يتبارى رجلان في شعر أو خطبة أو محاورة فيأتي كل واحد منهما بأمر محدث من وصف ما تنازعاه وبيان ما تباريا فيه فيتوازيا أو يفضل أحدهما عن صاحبه كامرئ القيس وعلقمة بن عبدة في وصف الفرس
أن يتنازع شاعران في معنى واحد فيرتقي أحدهما إلى ذروته ويقصر شأو الآخر عن مساواته في درجته كالأعشى والأخطل في وصف الخمر
المقابلات والمناقضات ببناء الشيء وهدمه وتشييده ثم وضعه ونقضه كمن يمدح الخمر حتى يرى فضلها ثم يذمها حتى يتبين سوءها
قريب من المعرضة وهو أن يجري أحد الشاعرين في أسلوب من أساليب الكرم فيكون أحدهما أبلغ في وصف أحدهما في هذا الأسلوب ويكون الآخر أبلغ في الأسلوب الثاني من صاحبه كالنابغة في وصف الخيل وكالأعشى في وصف الخمر