د. محي الدين غازي
New member
لفضيلة الوالد الدكتور محمد عناية الله سبحاني
قال تعالى في سورة يوسف:
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
فمــامعنى:( وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) ؟
ماقيل في معنى:(قطّعن أيديهن)
قال القرطبي،وهويفسرتلك الآيات:
"قوله تعالى: (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) قال مجاهد: قطعنها حتى ألقينها. وقيل: خدشنها. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: حزا بالسكين، قال النحاس: يريد مجاهد أنه ليس قطعا تبين منه اليد، إنما هو خدش وحز، وذلك معروف في اللغة أن يقال إذا خدش الإنسان يد صاحبه قطع يده. وقال عكرمة:" أَيْدِيَهُنَّ" أكمامهن، وفيه بعد. وقيل: أناملهن، أي ما وجدن ألما في القطع والجرح، أي لشغل قلوبهن بيوسف، والتقطيع يشير إلى الكثرة، فيمكن أن ترجع الكثرة إلى واحدة جرحت يدها في مواضع، ويمكن أن يرجع إلى عددهن."(الجامع لأحكام القرآن-سورةيوسف:9/180-دارالكتب المصرية-القاهرة)
وقال الواحدي:
وناولت { كلَّ واحدةٍ منهن سكيناً وقالت } ليوسف : { اخرج عليهنَّ فلما رأينه أكبرنه } أعظمنه وهَالَهُنَّ أمره وبُهتن {وقطعن أيديهنَّ} حَززْنَها بالسَّكاكين ، ولم يجدن الألم لشغل قلوبهنَّ بيوسف { وقلن حاشَ لِلَّه } بَعُدَ يوسف عن أن يكون بشراً { إنْ هذا } ما هذا {إلاَّ ملك كريم}(الوجيزفي تفسيرالكتاب العزيز-سورةيوسف)
وقال أبوحيان الأندلسي:
"وقطعن أيديهن أي جرحنها ، كما تقول : كنت أقطع اللحم فقطعت يدي. والتضعيف للتكثير إما بالنسبة لكثرة القاطعات ، وإما بالنسبة لتكثير الحز في يد كل واحدة منهن. فالجرح كأنه وقع مرارا في اليد الواحدة وصاحبتها لا تشعر لما ذهلت بما راعها من جمال يوسف ، فكأنها غابت عن حسها. والظاهر أن الأيدي هي الجوارح المسماة بهذا الاسم."(أبوحيان-البحرالمحيط-سورةيوسف: 6/269، دارالفكر-بيروت)
وقال صاحب ظلال القرآن:
لقد أقامت لهن مأدبة في قصرها. وندرك من هذا أنهن كن من نساء الطبقة الراقية. فهن اللواتي يدعين إلى المآدب في القصور. وهن اللواتي يؤخذن بهذه الوسائل الناعمة المظهر. ويبدو أنهن كن يأكلن وهن متكئات على الوسائد والحشايا على عادة الشرق في ذلك الزمان. فأعدت لهن هذا المتكأ. وآتت كل واحدة منهن سكينا تستعملها في الطعام - ويؤخذ من هذا أن الحضارة المادية في مصر كانت قد بلغت شأوا بعيدا ، وأن الترف في القصور كان عظيما. فإن استعمال السكاكين في الأكل قبل هذه الآلاف من السنين له قيمته في تصوير الترف والحضارة المادية. وبينما هن منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة ، فاجأتهن بيوسف :
«وَقالَتِ : اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ» ..
«فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ» .. بهتن لطلعته ، ودهشن.
«وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ» ..
وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة.
«وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ!» ..
وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيرا عن الدهشة بصنع اللّه ..
«ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ».(سيدقطب- في ظلال القرآن-سورةيوسف: 4/1984)
وهكذانرى المفسرين،القدامى منهم والمحدثين،رحمهم الله جميعا،سلكوامسلكاواحدافي تأويل (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ).
والباحث حينماينظرفي هذاالتأويل لايرتاح إليه لإشكالات آتية:
الإشكال الأول:
لقد استعمل القرآن لفظ(تقطيع الأيدي)مرات كثيرة،مثل قوله تعالى:
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ( سورةطه:71)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (سورةالمائدة:33)
فالقرآن لايستعمل (تقطيع الأيدي) بمعنى:الخدش، والحزّ،والجرح البسيط في اليد،كمازعموا عن تلك النسوة،بل يستعمله بمعنى: المبالغة في القطع المتقطّع بشكل مؤلم فظيع حتى تنفصل اليد،أوالرجل من الجسم، كمافعل فرعون بالسحرة الذين آمنوابموسى وهارون. وكما يفعل بالذين يحاربون الله ورسوله،ويفسدون في الأرض.
الإشكال الثاني:
حينماقالت النسوة بحرف واحدعن سيدنايوسف:(حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ - سورةيوسف:31)
فهن لم يقصدن بكلامهنّ ذلك، تلك الوسامةوالقسامةوذلك الحسن والجمال الذي كان يكسو وجه سيدنايوسف، وإنما قصدن بكلامهنّ ذلك السموّالنفسي،والعلوّالروحي، والطهروالعفاف الذي كان يتمتع به يوسف على الوجه الأكمل- على الوجه الذي لايتصورمن أي بشر! وإنماهومن شأن الملائكة المكرمين.
والملائكة المكرمون يُضرب بهم المثل دائما في الخيروالصلاح والبروالتقوى،لافي الحسن والجمال وقسامة الوجه.
الإشكال الثالث:
حينما أرسل الملك إلى سيدنايوسف بعد ماأعجب بتأويل رؤياه،قال سيدنايوسف لرسول الملك:
ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (سورةيوسف:50)
فإن كان الأمر كما قيل، وهو أن تلك النسوة حينما رأين يوسف بُهتنَ لطلعته، ودهشن وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة. أوحَززْنَها بالسَّكاكين ،ولم يجدن الألم لشغل قلوبهنَّ بيوسف،إن كان الأمر كذلك فهذا يعني أن تلك النسوة ماعليهن غبار.
إنهن ماأتين بشئ منكر يستوجب اللوم أوالمؤاخذة أوالمحاكمة، وإنماحدث ماحدث بصورةطبيعية خالصة،ولم يكن هناك كيد ولاتدبير ولاتعاون على الإثم،أومجاهرةبالسوء.
وإذاً،فلماذا تذكرهن سيدنايوسف بعد مدة طويلة لاتقل عن تسع حجج ؟ ولماذا تذكر تقطيعهنّ أيديهن بصفة خاصة ؟ وماعلاقته بالفحص عما حصل بينه وبين امرأة العزيز ؟ ولماذاقال بعد ذكرتقطيع الأيدي:
(إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) ؟
تلك أمورلاتدعنا نستريح إلى ماقيل في تأويل الآية.
وهنا يأتي سؤال: فما تأويل الآية إذاً ؟
قبل أن نقبل إلى تأويل الآية بإذن الله، نودّأن ننبّه إلى أمرين كانا مزلة وزلقا للناس في تأويل الآية:
معنى السكّين:
ماالمراد بالسكين في قوله تعالى:(وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا) ؟
فقد يراد بالسكين تلك الأداة التي تقشربها الفواكه والخضار،وتقطع.وهوالمعنى المعروف للّفظ.
ويراد به أحيانا على سبيل الاستعارة،أدوات الزينة والتجمل من الحُليّ والحُلل،وأصناف الطيب التي تستخدمها المرأة،وتتزين بها،وتستعين بها على اقتناص من تريد.
ويراد به أحيانا ذلك الجمال الساحر،الذي تملكه المرأة بطبيعتها،وتقتنص به الرجال.
وهناك كلمات أخرى غيرالسكين،تستعارلذكر فتنة المرأة واستحواذهاعلى الرجال، مثل:النبل، والسلاح، والسهام.
قال امرؤالقيس:
وَما ذَرَفَتْ عَيناكِ إلا لتَضْرِبِي ** بسَهمَيك في أعشار قَلبٍ مُقَتَّلِ
يقول الزوزني في شرح هذاالبيت:
للأئمة في البيت قولان، قال الأكثرون: استعار لِلَحْظِ عينيها ودمعهما اسم السهم لتأثيرهما في القلوب وجرحهما إياها كما أن السهام تجرح الأجسام وتؤثر فيها.
وتلخيص المعنى على هذا القول: وما دمعت عيناك وما بكيت إلا لتصيدي قلبي بسهمي دمع عينيك وتجرحي قطع قلبي الذي ذللته بعشقك غاية التذليل، أي نكايتهما في قلبي نكاية السهم في المرمى.(انظر:شرح المعلقات السبع للزوزني- معلقةامرئ القيس)
وقال بشاربن برد:
لقد شط المزار فبتُّ صبا ** يطــــــــــــــالعني الهوى من كل باب
وعهدي بالفراع وأم بكر ** ثقال الردف طيبــــــــــــــــــــة الرضاب
من الْمُتصيِّدات بكُلِّ نَبْلٍ ** تسيلُ إِذَا مشتْ سَيْلَ الْحُباب
مصورة يحار الطرف فيها ** كأنَّ حديثهــــــــــا سُكْرُ الشَّراب
(ديوان بشاربن برد: 1/146-147)
وقال أبودهبل الجمحي:
جنّية أو لها جنّ يعلمها ... رمى القلوب بقوس ما لها وتر
(ديوان الحماسةلأبي تمام-باب النسيب: 2/ 125)
وقال آخر:
تَعرَّضْنَ مَرْمَى الصَّيْدِ ثُمَّ رَمَيْنَنا ... مِنَ النَّبْلِ لاَ بِالطَّائِشاتِ الْخَوَاطِفِ
ضَعائِفُ يَقْتُلْنَ الرِّجالَ بِلاَ دَمٍ ... فَيـــــــــــــــــــا عَجباً لِلقاتِلاَتِ الضَّعائفِ
(ديوان الحماسةلأبي تمام-باب النسيب: 2/98-99)
وقال أبوعلي القالي:
وزادني بعض أصحابنا عن أبي الحسن الأخفش:
إذا سمعت آذانها صوت سائل ** أصاخت فلم تأخذ سلاحاولا نبلا
( قال أبو علي ) السلاح ههنا جمالها.
(الأمالي في لغةالعرب- أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي البغداد:2/6- دارالكتب العلمية –بيروت)
ثم هذه الاستعارة ليست خاصة بالنساء وسحرهنّ، وسبيهنّ قلوب الرجال، بل استخدموها للنوق كذلك.
ومنه قول المساور بن هند بن قيس بن زهير:
إذا قلت عودوا عــــــــــــاد كل شمردل ... أشم من الفتيان جزل مواهبه
إذا أخذت بزل المخاض سلاحها ... تجرد فيها متلف المــــــــال كاسبه
قال المرزوقي في شرحه:
يقول: إذا عرض على كل واحد من بني غالب معاودة الحروب والكرور فيها عاد منهم كل رجل تام الخلقة ممتد القامة، كريم النفس، كثير العطية.
وقوله: إذا أخذت بزل المخاض سلاحها فالمراد بسلاحها محاسنها وأمارات عتقها وكرمها، كأنها تتحلى بتلك المحاسن في عين أربابها حتى تحلى، فيصير ذلك سبباً للضن بها.
يريد أن تحسنها بسلاحها في عينه لا يجدي عليها نفعاً، ولا يدفع عنها مكروهاً، لما به من إكرام الضيوف، ويوجب على نفسه من قضاء الحقوق.(انظر:شرح ديوان الحماسةللمرزوقي: 2/10)
ولانريد أن نكثر، ففي تلك الأمثلةكفاية، والجدير بالذكرأن الشعراء حينما يذكرون تلك المعاني،يكثرون من ذكرالسهام، والنبال، والقسيّ، والسلاح؛ فإن النضال عندهم من بعيد.
وأماالقرآن، فإنه عدل عن تلك الكلمات إلى لفظ (السكين)؛فإن الصيد في متناول اليد،وليس عن النسوة ببعيد.فالمراد بالسكين في قوله تعالى: (وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا) أدوات الزينة والتجمّل التي تزيد في فتنة تلك النسوة ،وتزيد من سحر جمالهن، وتساعدهنّ في تدلية يوسف واستهوائه والانتصارعليه.
وأما السكين بمعنى:المدية،أو آلة القطع والذبح،فهذا ليس مكانه، وأسلوب الكلام وموقعه لايقبله، والمدية لاتقدّم للضيف في يده، ولاسيما إذا كانت ضيافة النسوة.
وإنما تكون المدية- إذاكانت- مع الطعام والفواكه في ضمن أدوات الأكل،ولوقدم إنسان لضيفه مدية من غيرمستلزماتها لأوحشه،وربماعاد الضيف على أدراجه!
معنى:(قطّعن أيديهن)
لقد سبق أن قلناإن لفظ:التقطيع يفيد معنى المبالغة في القطع، فإذاقيل مثلا: قطّع القاضي أيدي المجرمين وأرجلهم، فلا يفيد ذلك إلا أنه قطعها شر قطعة،حتى أبانها عن أماكنها.والقرآن لم يذكر تقطيع الأيدي والأرجل إلافي هذا المعنى.
ويفيد اللفظ هذا المعنى إذا تولى شخص تقطيع أيدي الآخرين.ولكن إذاكان أصحاب الأيدي هم الذين يقطّعون أيديهم فحينئذ يتحوّل اللفظ من الحقيقة إلى المجاز،لاستحالةأن يقطّع أصحاب الأيدي أيديهم حقيقة،فاللفظ يكون إذاً استعارة لبذل أقصى الجهد،واستنفاد الطاقة.
فحينما جاءعن هؤلاء النسوة أنهن قطّعن أيديهن، فهذا يوحي أنهن بذلن أقصى جهودهن،بل أقصى كيدهنّ ومكرهنّ لاستهواء يوسف، وإزلاقه من قمّة الطهر والعفاف إلى مهواة الفجور والفاحشة !
ويدل عليه أيضا دعاء يوسف واستجابة ربه،بعد ماتمت تلك المهزلة المخزية بفشل تلك النسوة:
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ(33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
كمايدلّ عليه قول يوسف لرسول الملك حينما جاءه في السجن،حيث قال:
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
وهذا التركيز على لفظ الكيد إن دل على شئ فإنمايدل على ضخامة ذلك الكيد والمكرالذي ابتلي به سيدنايوسف من تلك النسوة الفاتنات الماكرات،ولكنه خرج بفضل الله وتوفيقه، من تلك الفتنة الحالقة،بحيث لم يمسسه سوء،واعترفت تلك النسوة بكل صراحة بنزاهته وطهارته وشموخه: ( وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)
تأويل الآيات كما يمليه عليناالسياق:
والآن بعد هذاالتقديم المهمّ نتوجه إلى تأويل تلك الآيات،فنقول:
حينما راودت امرأة العزيز سيدنا يوسف عن نفسه، وبذلت كل ما استطاعت من صنوف الكيد والحيل لاستهوائه، وفشلت فشلا مخزيا فيما بذلت وفيماحاولت، افتضحت بين جاراتها وصديقاتها فضيحةلم تتصورها، وأصبحت حديث النسوة في كل بيت، وكلما اجتمعت صديقاتها وزميلاتها في صباحهن ومسائهن، تحدثن عنها،وسخرن منها،وقلن:
تلك امرأةخرقاء ذات نيقة، لاتعرف كيف تستبي فتاها! ليس فيها مكر ودهاء ! لوكنّا مكانها،لفعلنا كذا وكذا! وماكان لفتاها إلا أن يستجيب لنا،وينزل عند رغبتنا!
فذلك قوله تعالى:
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
فالنسوة حينما قلن: (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) لم يقصدن أنها ليست عفيفة راشدة،وإنماقصدن أنها امرأة خرقاء لاتعرف كيف تنجز أمرها،وكيف تنال مبتغاها !
وأوضح دليل على ذلك أنهن فعلن كل ما فعلته امرأةالعزيز،حينما سنحت لهن الفرصة،فالأمرماكان أمرخلق وفضيلة، وإنما كان أمرالمهارة في إنجاز الرذيلة !
فلماوصل حديثهن إلى أذن امرأة العزيز،أخذتها العزة بالإثم،وقررت أن تجمعهن جميعافي قصرها،وتفسح لهن المجال مع فتاها،حتى يجربن مايتبجحن به من مكرهنّ ودهاءهن،وهي على يقين بأنهن لن ينجحن فيمافشلت فيه،و إنماكانت تريد أن تكمّم أفواههنّ،وتقيم الحجة على أنها إن فشلت في مبتغاها،فليس ذلك بسبب عجزهاوخُرقها،ونقص في مكرهاو دهائها، وإنما فشلت لأنها أدخلت يدها في أمرمستحيل !
فكان أن أرسلت إليهن، وأعتدت لهن غرفا مريحة فارهة تناسب مهمّتهنّ، وهيأت لهن جميع أدوات الزينةوأسباب الفتنة،حتى لايبقى عندهن عذر في فشلهن مع يوسف،إذافشلن كفشلها.
فأقبلت إليه النسوة كاسيات عاريات مائسات،ومكرن مكرا،وألقين حبالا،ورمينه بكل سهم،وتعرضن له بكل سكين، وأظهرن لافتتانه كل مهارة ولباقة ، وكانت نهاية كيدهن ومكرهن أنهن اعترفن اعترافا: (حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ !!)
جملة القول أن المعاجم والقواميس لاتساعدنافي معنى (آتت كل واحدة منهن سكينا)كما لا تساعدنا في معنى(قطّعن أيديهن) ولكن القرآن - بجوّه وسياقه- واضح في معنى اللفظين،فلامبرر للعدول عن ظاهر القرآن إلى معان لا يقرّها اللسان،ولا يقترن بها برهان.
قال تعالى في سورة يوسف:
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
فمــامعنى:( وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) ؟
ماقيل في معنى:(قطّعن أيديهن)
قال القرطبي،وهويفسرتلك الآيات:
"قوله تعالى: (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) قال مجاهد: قطعنها حتى ألقينها. وقيل: خدشنها. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: حزا بالسكين، قال النحاس: يريد مجاهد أنه ليس قطعا تبين منه اليد، إنما هو خدش وحز، وذلك معروف في اللغة أن يقال إذا خدش الإنسان يد صاحبه قطع يده. وقال عكرمة:" أَيْدِيَهُنَّ" أكمامهن، وفيه بعد. وقيل: أناملهن، أي ما وجدن ألما في القطع والجرح، أي لشغل قلوبهن بيوسف، والتقطيع يشير إلى الكثرة، فيمكن أن ترجع الكثرة إلى واحدة جرحت يدها في مواضع، ويمكن أن يرجع إلى عددهن."(الجامع لأحكام القرآن-سورةيوسف:9/180-دارالكتب المصرية-القاهرة)
وقال الواحدي:
وناولت { كلَّ واحدةٍ منهن سكيناً وقالت } ليوسف : { اخرج عليهنَّ فلما رأينه أكبرنه } أعظمنه وهَالَهُنَّ أمره وبُهتن {وقطعن أيديهنَّ} حَززْنَها بالسَّكاكين ، ولم يجدن الألم لشغل قلوبهنَّ بيوسف { وقلن حاشَ لِلَّه } بَعُدَ يوسف عن أن يكون بشراً { إنْ هذا } ما هذا {إلاَّ ملك كريم}(الوجيزفي تفسيرالكتاب العزيز-سورةيوسف)
وقال أبوحيان الأندلسي:
"وقطعن أيديهن أي جرحنها ، كما تقول : كنت أقطع اللحم فقطعت يدي. والتضعيف للتكثير إما بالنسبة لكثرة القاطعات ، وإما بالنسبة لتكثير الحز في يد كل واحدة منهن. فالجرح كأنه وقع مرارا في اليد الواحدة وصاحبتها لا تشعر لما ذهلت بما راعها من جمال يوسف ، فكأنها غابت عن حسها. والظاهر أن الأيدي هي الجوارح المسماة بهذا الاسم."(أبوحيان-البحرالمحيط-سورةيوسف: 6/269، دارالفكر-بيروت)
وقال صاحب ظلال القرآن:
لقد أقامت لهن مأدبة في قصرها. وندرك من هذا أنهن كن من نساء الطبقة الراقية. فهن اللواتي يدعين إلى المآدب في القصور. وهن اللواتي يؤخذن بهذه الوسائل الناعمة المظهر. ويبدو أنهن كن يأكلن وهن متكئات على الوسائد والحشايا على عادة الشرق في ذلك الزمان. فأعدت لهن هذا المتكأ. وآتت كل واحدة منهن سكينا تستعملها في الطعام - ويؤخذ من هذا أن الحضارة المادية في مصر كانت قد بلغت شأوا بعيدا ، وأن الترف في القصور كان عظيما. فإن استعمال السكاكين في الأكل قبل هذه الآلاف من السنين له قيمته في تصوير الترف والحضارة المادية. وبينما هن منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة ، فاجأتهن بيوسف :
«وَقالَتِ : اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ» ..
«فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ» .. بهتن لطلعته ، ودهشن.
«وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ» ..
وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة.
«وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ!» ..
وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيرا عن الدهشة بصنع اللّه ..
«ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ».(سيدقطب- في ظلال القرآن-سورةيوسف: 4/1984)
وهكذانرى المفسرين،القدامى منهم والمحدثين،رحمهم الله جميعا،سلكوامسلكاواحدافي تأويل (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ).
والباحث حينماينظرفي هذاالتأويل لايرتاح إليه لإشكالات آتية:
الإشكال الأول:
لقد استعمل القرآن لفظ(تقطيع الأيدي)مرات كثيرة،مثل قوله تعالى:
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ( سورةطه:71)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (سورةالمائدة:33)
فالقرآن لايستعمل (تقطيع الأيدي) بمعنى:الخدش، والحزّ،والجرح البسيط في اليد،كمازعموا عن تلك النسوة،بل يستعمله بمعنى: المبالغة في القطع المتقطّع بشكل مؤلم فظيع حتى تنفصل اليد،أوالرجل من الجسم، كمافعل فرعون بالسحرة الذين آمنوابموسى وهارون. وكما يفعل بالذين يحاربون الله ورسوله،ويفسدون في الأرض.
الإشكال الثاني:
حينماقالت النسوة بحرف واحدعن سيدنايوسف:(حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ - سورةيوسف:31)
فهن لم يقصدن بكلامهنّ ذلك، تلك الوسامةوالقسامةوذلك الحسن والجمال الذي كان يكسو وجه سيدنايوسف، وإنما قصدن بكلامهنّ ذلك السموّالنفسي،والعلوّالروحي، والطهروالعفاف الذي كان يتمتع به يوسف على الوجه الأكمل- على الوجه الذي لايتصورمن أي بشر! وإنماهومن شأن الملائكة المكرمين.
والملائكة المكرمون يُضرب بهم المثل دائما في الخيروالصلاح والبروالتقوى،لافي الحسن والجمال وقسامة الوجه.
الإشكال الثالث:
حينما أرسل الملك إلى سيدنايوسف بعد ماأعجب بتأويل رؤياه،قال سيدنايوسف لرسول الملك:
ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (سورةيوسف:50)
فإن كان الأمر كما قيل، وهو أن تلك النسوة حينما رأين يوسف بُهتنَ لطلعته، ودهشن وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة. أوحَززْنَها بالسَّكاكين ،ولم يجدن الألم لشغل قلوبهنَّ بيوسف،إن كان الأمر كذلك فهذا يعني أن تلك النسوة ماعليهن غبار.
إنهن ماأتين بشئ منكر يستوجب اللوم أوالمؤاخذة أوالمحاكمة، وإنماحدث ماحدث بصورةطبيعية خالصة،ولم يكن هناك كيد ولاتدبير ولاتعاون على الإثم،أومجاهرةبالسوء.
وإذاً،فلماذا تذكرهن سيدنايوسف بعد مدة طويلة لاتقل عن تسع حجج ؟ ولماذا تذكر تقطيعهنّ أيديهن بصفة خاصة ؟ وماعلاقته بالفحص عما حصل بينه وبين امرأة العزيز ؟ ولماذاقال بعد ذكرتقطيع الأيدي:
(إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) ؟
تلك أمورلاتدعنا نستريح إلى ماقيل في تأويل الآية.
وهنا يأتي سؤال: فما تأويل الآية إذاً ؟
قبل أن نقبل إلى تأويل الآية بإذن الله، نودّأن ننبّه إلى أمرين كانا مزلة وزلقا للناس في تأويل الآية:
معنى السكّين:
ماالمراد بالسكين في قوله تعالى:(وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا) ؟
فقد يراد بالسكين تلك الأداة التي تقشربها الفواكه والخضار،وتقطع.وهوالمعنى المعروف للّفظ.
ويراد به أحيانا على سبيل الاستعارة،أدوات الزينة والتجمل من الحُليّ والحُلل،وأصناف الطيب التي تستخدمها المرأة،وتتزين بها،وتستعين بها على اقتناص من تريد.
ويراد به أحيانا ذلك الجمال الساحر،الذي تملكه المرأة بطبيعتها،وتقتنص به الرجال.
وهناك كلمات أخرى غيرالسكين،تستعارلذكر فتنة المرأة واستحواذهاعلى الرجال، مثل:النبل، والسلاح، والسهام.
قال امرؤالقيس:
وَما ذَرَفَتْ عَيناكِ إلا لتَضْرِبِي ** بسَهمَيك في أعشار قَلبٍ مُقَتَّلِ
يقول الزوزني في شرح هذاالبيت:
للأئمة في البيت قولان، قال الأكثرون: استعار لِلَحْظِ عينيها ودمعهما اسم السهم لتأثيرهما في القلوب وجرحهما إياها كما أن السهام تجرح الأجسام وتؤثر فيها.
وتلخيص المعنى على هذا القول: وما دمعت عيناك وما بكيت إلا لتصيدي قلبي بسهمي دمع عينيك وتجرحي قطع قلبي الذي ذللته بعشقك غاية التذليل، أي نكايتهما في قلبي نكاية السهم في المرمى.(انظر:شرح المعلقات السبع للزوزني- معلقةامرئ القيس)
وقال بشاربن برد:
لقد شط المزار فبتُّ صبا ** يطــــــــــــــالعني الهوى من كل باب
وعهدي بالفراع وأم بكر ** ثقال الردف طيبــــــــــــــــــــة الرضاب
من الْمُتصيِّدات بكُلِّ نَبْلٍ ** تسيلُ إِذَا مشتْ سَيْلَ الْحُباب
مصورة يحار الطرف فيها ** كأنَّ حديثهــــــــــا سُكْرُ الشَّراب
(ديوان بشاربن برد: 1/146-147)
وقال أبودهبل الجمحي:
جنّية أو لها جنّ يعلمها ... رمى القلوب بقوس ما لها وتر
(ديوان الحماسةلأبي تمام-باب النسيب: 2/ 125)
وقال آخر:
تَعرَّضْنَ مَرْمَى الصَّيْدِ ثُمَّ رَمَيْنَنا ... مِنَ النَّبْلِ لاَ بِالطَّائِشاتِ الْخَوَاطِفِ
ضَعائِفُ يَقْتُلْنَ الرِّجالَ بِلاَ دَمٍ ... فَيـــــــــــــــــــا عَجباً لِلقاتِلاَتِ الضَّعائفِ
(ديوان الحماسةلأبي تمام-باب النسيب: 2/98-99)
وقال أبوعلي القالي:
وزادني بعض أصحابنا عن أبي الحسن الأخفش:
إذا سمعت آذانها صوت سائل ** أصاخت فلم تأخذ سلاحاولا نبلا
( قال أبو علي ) السلاح ههنا جمالها.
(الأمالي في لغةالعرب- أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي البغداد:2/6- دارالكتب العلمية –بيروت)
ثم هذه الاستعارة ليست خاصة بالنساء وسحرهنّ، وسبيهنّ قلوب الرجال، بل استخدموها للنوق كذلك.
ومنه قول المساور بن هند بن قيس بن زهير:
إذا قلت عودوا عــــــــــــاد كل شمردل ... أشم من الفتيان جزل مواهبه
إذا أخذت بزل المخاض سلاحها ... تجرد فيها متلف المــــــــال كاسبه
قال المرزوقي في شرحه:
يقول: إذا عرض على كل واحد من بني غالب معاودة الحروب والكرور فيها عاد منهم كل رجل تام الخلقة ممتد القامة، كريم النفس، كثير العطية.
وقوله: إذا أخذت بزل المخاض سلاحها فالمراد بسلاحها محاسنها وأمارات عتقها وكرمها، كأنها تتحلى بتلك المحاسن في عين أربابها حتى تحلى، فيصير ذلك سبباً للضن بها.
يريد أن تحسنها بسلاحها في عينه لا يجدي عليها نفعاً، ولا يدفع عنها مكروهاً، لما به من إكرام الضيوف، ويوجب على نفسه من قضاء الحقوق.(انظر:شرح ديوان الحماسةللمرزوقي: 2/10)
ولانريد أن نكثر، ففي تلك الأمثلةكفاية، والجدير بالذكرأن الشعراء حينما يذكرون تلك المعاني،يكثرون من ذكرالسهام، والنبال، والقسيّ، والسلاح؛ فإن النضال عندهم من بعيد.
وأماالقرآن، فإنه عدل عن تلك الكلمات إلى لفظ (السكين)؛فإن الصيد في متناول اليد،وليس عن النسوة ببعيد.فالمراد بالسكين في قوله تعالى: (وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا) أدوات الزينة والتجمّل التي تزيد في فتنة تلك النسوة ،وتزيد من سحر جمالهن، وتساعدهنّ في تدلية يوسف واستهوائه والانتصارعليه.
وأما السكين بمعنى:المدية،أو آلة القطع والذبح،فهذا ليس مكانه، وأسلوب الكلام وموقعه لايقبله، والمدية لاتقدّم للضيف في يده، ولاسيما إذا كانت ضيافة النسوة.
وإنما تكون المدية- إذاكانت- مع الطعام والفواكه في ضمن أدوات الأكل،ولوقدم إنسان لضيفه مدية من غيرمستلزماتها لأوحشه،وربماعاد الضيف على أدراجه!
معنى:(قطّعن أيديهن)
لقد سبق أن قلناإن لفظ:التقطيع يفيد معنى المبالغة في القطع، فإذاقيل مثلا: قطّع القاضي أيدي المجرمين وأرجلهم، فلا يفيد ذلك إلا أنه قطعها شر قطعة،حتى أبانها عن أماكنها.والقرآن لم يذكر تقطيع الأيدي والأرجل إلافي هذا المعنى.
ويفيد اللفظ هذا المعنى إذا تولى شخص تقطيع أيدي الآخرين.ولكن إذاكان أصحاب الأيدي هم الذين يقطّعون أيديهم فحينئذ يتحوّل اللفظ من الحقيقة إلى المجاز،لاستحالةأن يقطّع أصحاب الأيدي أيديهم حقيقة،فاللفظ يكون إذاً استعارة لبذل أقصى الجهد،واستنفاد الطاقة.
فحينما جاءعن هؤلاء النسوة أنهن قطّعن أيديهن، فهذا يوحي أنهن بذلن أقصى جهودهن،بل أقصى كيدهنّ ومكرهنّ لاستهواء يوسف، وإزلاقه من قمّة الطهر والعفاف إلى مهواة الفجور والفاحشة !
ويدل عليه أيضا دعاء يوسف واستجابة ربه،بعد ماتمت تلك المهزلة المخزية بفشل تلك النسوة:
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ(33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
كمايدلّ عليه قول يوسف لرسول الملك حينما جاءه في السجن،حيث قال:
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
وهذا التركيز على لفظ الكيد إن دل على شئ فإنمايدل على ضخامة ذلك الكيد والمكرالذي ابتلي به سيدنايوسف من تلك النسوة الفاتنات الماكرات،ولكنه خرج بفضل الله وتوفيقه، من تلك الفتنة الحالقة،بحيث لم يمسسه سوء،واعترفت تلك النسوة بكل صراحة بنزاهته وطهارته وشموخه: ( وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)
تأويل الآيات كما يمليه عليناالسياق:
والآن بعد هذاالتقديم المهمّ نتوجه إلى تأويل تلك الآيات،فنقول:
حينما راودت امرأة العزيز سيدنا يوسف عن نفسه، وبذلت كل ما استطاعت من صنوف الكيد والحيل لاستهوائه، وفشلت فشلا مخزيا فيما بذلت وفيماحاولت، افتضحت بين جاراتها وصديقاتها فضيحةلم تتصورها، وأصبحت حديث النسوة في كل بيت، وكلما اجتمعت صديقاتها وزميلاتها في صباحهن ومسائهن، تحدثن عنها،وسخرن منها،وقلن:
تلك امرأةخرقاء ذات نيقة، لاتعرف كيف تستبي فتاها! ليس فيها مكر ودهاء ! لوكنّا مكانها،لفعلنا كذا وكذا! وماكان لفتاها إلا أن يستجيب لنا،وينزل عند رغبتنا!
فذلك قوله تعالى:
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
فالنسوة حينما قلن: (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) لم يقصدن أنها ليست عفيفة راشدة،وإنماقصدن أنها امرأة خرقاء لاتعرف كيف تنجز أمرها،وكيف تنال مبتغاها !
وأوضح دليل على ذلك أنهن فعلن كل ما فعلته امرأةالعزيز،حينما سنحت لهن الفرصة،فالأمرماكان أمرخلق وفضيلة، وإنما كان أمرالمهارة في إنجاز الرذيلة !
فلماوصل حديثهن إلى أذن امرأة العزيز،أخذتها العزة بالإثم،وقررت أن تجمعهن جميعافي قصرها،وتفسح لهن المجال مع فتاها،حتى يجربن مايتبجحن به من مكرهنّ ودهاءهن،وهي على يقين بأنهن لن ينجحن فيمافشلت فيه،و إنماكانت تريد أن تكمّم أفواههنّ،وتقيم الحجة على أنها إن فشلت في مبتغاها،فليس ذلك بسبب عجزهاوخُرقها،ونقص في مكرهاو دهائها، وإنما فشلت لأنها أدخلت يدها في أمرمستحيل !
فكان أن أرسلت إليهن، وأعتدت لهن غرفا مريحة فارهة تناسب مهمّتهنّ، وهيأت لهن جميع أدوات الزينةوأسباب الفتنة،حتى لايبقى عندهن عذر في فشلهن مع يوسف،إذافشلن كفشلها.
فأقبلت إليه النسوة كاسيات عاريات مائسات،ومكرن مكرا،وألقين حبالا،ورمينه بكل سهم،وتعرضن له بكل سكين، وأظهرن لافتتانه كل مهارة ولباقة ، وكانت نهاية كيدهن ومكرهن أنهن اعترفن اعترافا: (حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ !!)
جملة القول أن المعاجم والقواميس لاتساعدنافي معنى (آتت كل واحدة منهن سكينا)كما لا تساعدنا في معنى(قطّعن أيديهن) ولكن القرآن - بجوّه وسياقه- واضح في معنى اللفظين،فلامبرر للعدول عن ظاهر القرآن إلى معان لا يقرّها اللسان،ولا يقترن بها برهان.