كنت حريصة في مشاركتي السابقة أن أفتتحها بمقدمة موجزة، تعمَّدتُ أن أذكر فيها أن أسئلتك تدل على نظر المتدبر، ليندفع أي شك بتبنيك رأي معين تدافع عنه ـ فإنما هو تدبر فحسب ـ لأني أعلم أني سأتعرض لموضوع البداء، فخفت أن يتطرق إلى الذهن أني أتهمك بالقول به، أو بأنك من منكري النسخ، واستحضاري الرد على شبهة البداء كان لما تضمنه من حديث عن علم الله الأزلي المتضمن للناسخ والمنسوخ، قد يكون فيه خروج عن صلب الموضوع، ولكن أرجو أن لا يكون قد خلا من فائدة.
فعذراً إن فُهم من كلامي شيء كهذا، وعذراً كذلك إن لم أستطع رفع سؤالاتك، فهذه مجرد محاولات، تحتاج إلى تسديد، وتقييم، خاصة أني في الوقت الحالي لا أتمكن من الرجوع إلى مراجع متنوعة.
ولن أملّ من المحاولات حتى تملّ من الأسئلة، وأرجو أن يتحلى القراء بالصبر، فهذا الملتقى القرآني يهدف إلى التعلم وبلورة المعلومات وصقلها بالحوار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فمثلي الذي ليس له علم شرعي عندما يقرأ مثل هذا التقسيم أو يصدم باختلاف من يجمعون على مسألة الناسخ والمنسوخ في عدد الآيات التي نسخت وبشكل كبير جدا..ألا يصاب بالدوران والتيه!!
الباحث في الكتب يجد آراء متفاوتة، ومختلفة، ولا بد من ترجيح قول على قول بالاستناد إلى أسس متفقة مع الشرع والعقل، وليس أمراً مستهجناً أن يختلف العلماء وأن يضعّف بعضهم آراء بعض؛ لأنه لا معصوم إلا رسول، وكلٌّ يؤخذ من كلامه ويرد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الاختلاف أمر طبعي، وهو من الأمور الجميلة في ديننا، حيث يطلع الإنسان على خلاصة عقول جمع كبير من العلماء، ولا يحصر عقله في رأي معين لا يتجاوزه، فلا داعي للصدمة، ولا للدوران والتيه... الأمر أبسط من هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)ما نُسخ حرفه، وبقي حكمه.
(2) ما نُسخ حكمه، وبقي حرفه.
(3) ما نُسخ حكمه ونسخ حرفه.
فنظرة على هذا التقسيم يلاحظ أن:
الثالث "مانسخ حكمه ونسخ حرفه" والأول" ما نسخ حرفه وبقي حكمه" يقتضيان أن القرآن الذي أنزل دفعة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا والذي نزل من السماء الدنيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على مدار 23 عاما هذا القرآن حسب هذا الطرح أكبر حجما من القرآن الموجود بين أيدينا الآن..!!
اعتراضك في محله
هل هذا التقسيم الثلاثي للآيات المنسوخة مسلَّم به عند العلماء؟
الصحيح أنه غير مسلّم وقد وردت عليه اعتراضات قوية من العلماء، ومن النوع الثالث: الذي قيل بأنه نُسخ تلاوة وحكماً: ما رويَ عن السيدة عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان فيما نزل من القرآن (عشر رضعات معلومات يُحرمن)، ثم نُسخن بخمس رضعات معلومات يُحرمن، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم
وهن مما يُقرأ من القرآن". وغيرها من الروايات التي تحمل ذات المعنى، ولكنها كلها لا تخلو من اضطرابات واختلافات فيما بينها، وقد رد هذا الإمام ابن حجر بحجة أن الراوي ادعى أن هذا قرآناً، والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر. [راجع: كتاب النكاح من فتح الباري].
وقال صاحب المنار: ".. االحق أنه لا يظهر لهذا النسخ حكمة، ولا يتفق مع ما ذكر من العلة، وإنّ ردّ الرواية عن عائشة لأهون من قبولها، مع عدم عمل جمهور من السلف والخلف بها، كما علمت، فإن لم نعتمد روايتها فلنا أسوة بمثل البخاري وبمن قالوا باضطرابها، خلافاً للنووي، وإن لم نعتمد معناها فلنا أسوة بمن ذكرنا من الصحابة والتابعين ومن تبعهم في ذلك، كالحنفية وهي عند مسلم من رواية عمرة عن عائشة،
أو ليس ردُّ رواية عمرة وعدم الثقة بها أولى من القول بنزول شيء من القرآن لا تظهر له حكمة ولا فائدة، ثم نسخه أو سقوطه، أو ضياعه، فإن عمرة زعمت أن عائشة كانت ترى أن الخمس لم تنسخ وإذن لا يُعتد بروايتها". [المنار،(النساء:23)].
أما النوع الأول، وهو ما نسخ تلاوة وبقي حكماً، فمثل قولهم: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)، فهذا ليس فيه رواية صحيحة يُستند إليها، ولم تثبت قرآنيته، وأين هذا الكلام من رفعة أسلوب القرآن وعلو بيانه؟!
[توسع الشيخ فضل عباس في بيان هذين النوعين من النسخ في (إتقان البرهان، 39:2-59)، فارجع إليه ففيه فائدة جمة]
ـــــــــــــــــــــــــ
والثاني "ما نسخ حكمه وبقي حرفه" يقتضي وجود آيات للتلاوة فقط..!
مصطلح النسخ، وهو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي آخر متراخٍ عنه، يفهم من التعريف أنه لا بد من وجود تعارض بين الحكمين ولا يمكن الجمع بينهما، ويفهم من التعريف أيضاً أن النسخ مختص بآيات الأحكام فقط،"فهل يفهم من هذا أنه يقتضي وجود آيات قرآنية لمجرد التلاوة والتبريك
أبقاها الله ـ وهو أعلم ـ لنعلم فضله علينا بتيسير الأحكام لنا، و"ليُكشف النقاب عن سير التشريع الإسلامي، ويطلع الإنسان على حكمة الله في تربيته للخلق، وسياسته للبشر، وابتلائه للناس" [مناهل العرفان، (188:2)]، فبقاء تلاوة الحكم المنسوخ
قد يشبه قصص السابقين التي نأخذ منها فائدة وعبرة، والحكم المنسوخ نأخذ منه فائدة وفكرة عن سير التشريع الإسلامي، والمراحل التي مرت بها بعض الأحكام.
ــــــــــــــــــــــــــــ
فمسألة مهمة كهذه "الناسخ والمنسوخ" كان بالأحرى أن يبينها رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو الذي بين تفاصيل أبسط الأمور عبر الآلاف من الأحاديث الشريفة..
سامحك الله، وهل نحن الذين نحدد للرسول صلى الله عليه وسلم ما هو الأحرى، وهو الذي لا ينطق عن الهوى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لماذا لم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات المنسوخة ولم يبينها لنا؟
قد تحمل الآيات القرآنية في طياتها الدلالة على نسخها (راجع مشاركة ـ سؤال حول الناسخ والمنسوخ ـ).
وهذا لا يحتاج إلى توضيح من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهناك معرفة تاريخ النزول التي لا تحتاج إلى توضيح كذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه هي طرق معرفة النسخ واضحة لا تحتاج إلى بيان.
ـــــــــــــــــــــــــــ
هل هناك وسيلة موثوقة لمعرفة الناسخ من المنسوخ؟
بالتأكيد ليس الاجتهاد، (راجع مشاركة ـ سؤال حول الناسخ والمنسوخ ـ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيجب النظر في النصوص القرآنية بمنهج الكلية في البحث القرآني والتوفيق بينها جميعا وليس النظر إلى كل على حدة مما يوهم بوجود تعارض بينها..
منهج النظر في القرآن الكريم كلاً متكاملاً هو المنهج السليم بالطبع لا تجزئته، وهذا بالنسبة لأي بحث يتعلق بالقرآن سواء أكان بحثاً عن تفسير آية أو بحثاً عن الناسخ والمنسوخ، فالتجزئة تؤدي إلى فساد الفهم، ونتائجها خطيرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظتي في ما كتب أعلاه :
فكأني أقرأ نصا صوفيا !!
أوأني لم أستسغ كنه ما كتب وهذا من قصور فهمي..!!؟
لم أرَ ما هو مستغرب في كلام الشيخ الزرقاني، بل هو في غاية الجمال والحُسن، وهو متفق مع الأصول العقدية لأهل السنة، فالحسن ما حسّنه الشرع، والقبيح ما قبّحه الشرع، فالحكم المنسوخ حسن في زمن معين بسبب طلب الله تعالى من المكلفين فعله في ذلك الزمن، وأصبح امتثال ما اشتملت عليه الآية المنسوخة قبيحاً بعد النسخ لأنه رُفع العمل به من الله.
قلتَ: "لا تقربوا الزنى" هي "لا تقربوا الزنى" في كل زمان وفي كل مكان.
أقول: هذا صحيح، فالزنى فعل مستقبح في كل الأزمان والأحوال لأن الشرع قبّحه في كل الأزمان والأحوال.
لا يُفهم من كلام الشيخ الزرقاني، أن الحُسْن والقُبح أمران يتناوبان على جميع الأحكام الشرعية، بل يأتي أحدهما مكان الآخر في الأحكام التي قيل بنسخها فقط، أما تلك التي لم تتعرض للنسخ فهي تلزم حالة واحدة، فتحريم الزنى لم يتعرض للنسخ، فيلزمه حالة القبح الدائم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
وهل يفهم أيضا أن الآيات المنسوخة خاضعة لقوانين الزمان والمكان ،أي حادثة، بمعنى أنها
حملت أحكاما وتتشريعات مؤقتة لمرحلة معينة للجيل الأول الذي عاصر نزول القرآن الكريم
ثم أتت بعد ذلك الآيات الناسخة لتبدأ مرحلة جديدة بالنسبة لهذه الأحكام والتشريعات...؟!
أجاب العلامة الألوسي على هذا فقال عند تفسيره لقوله تعالى: "ما ننسخ من آية":
"واحتجت المعتزلة بالآية على حدوث القرآن، فإن التغيّر المستفاد من النسخ، والتفاوت المستفاد من الخيرية في وقت دون آخر من روادف الحدث وتوابعه، فلا يتحقق بدونه، وأجيب بأن التغير والتفاوت من عوارض ما يتعلق به الكلام النفسي القديم، وهي الأفعال في الأمر والنهي، والنسب الخبرية في الخبر، وذلك يستدعيهما في تعلقاته دون ذاته".
ــــــــــــــــــــــــــــ
وأما أن " النسخ يتعلق بفروع العبادات والمعاملات "
فأحبذ هنا حتى يستقيم الفهم عندي وتتضح الرؤيا فلابد من ذكر آيات قرآنية في هذا الباب..وذكر الآيات التي "نسخت"
مثلاً قوله تعالى: "وأحل الله البيع وحرم الربا" [البقرة:275]، هذا من أصول المعاملات التي لا يقع النسخ فيها.
الآيات التي وقع فيها النسخ:
1. "كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إنْ ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين" [البقرة:180] منسوخة بقوله تعالى: "يوصيكم الله في أولادكم" [النساء:11].
2. "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" [البقرة:184]، منسوخة بقوله: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" [البقرة:185].
3. "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج" [البقرة:240]، منسوخة بقوله: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً" [البقرة:234].
4. "إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا" [الأنفال:65]، منسوخة بقوله تعالى: "فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين" [الأنفال:66].
5. "لا يحل لك النساء من بعد" [الأحزاب:52]، منسوخة بقوله: "يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك" [الأحزاب:80].
6. "يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة" [المجادلة10]، نسختها الآية التي بعدها.
7. "يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً" [المزمل:1]، منسوخة بقوله: "إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه.." [المزمل:20].