المرحلة الثالثة
المرحلة الثالثة
المرحلة الثالثة
تضمنت المرحلتان السابقتان اللتان تم فيهما ذكر أدلة كلٍّ من المثبتين للنسخ في آية الوصية والنافين له بعضَ الردود، وسأزيد هنا ردوداً أخرى.
احتج النافون على المثبتين الذين قالوا إن قول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا وصية لوارث" نسخ الآية، فقالوا:
* آية الوصية لا تعارض آية المواريث ولا هذا الحديث.
* الحديث من الآحاد، وتلقي الأمة له بالقبول لا يلحقه بالمتواتر، أي والظني من الحديث لا ينسخ القطعي منه، فكيف ينسخ القرآن، وكله قطعي؟
الحديث لم يصل إلى درجة ثقة الشيخين به، فلم يروه أحد منهما مسنداً، ورواية أصحاب السنن محصورة في عمرو بن خارجة وأبي أمامة وابن عباس، وفي إسناد الثاني إسماعيل بن عياش تكلموا فيه، وإنما حسّنه الترمذي؛ لأن إسماعيل يرويه عن الشاميين، وقد قوى بعض الأئمة روايته عنهم خاصة، وحديث ابن عباس معلول؛ إذ هو من رواية عطاء بن أبي رباح، فإن أبا داود أخرجه في مراسيله عنه، وما أخرجه البخاري من طريق عطاء بن أبي رباح موقوف على ابن عباس، وما روي غير ذلك فلا نزاع في ضعفه، فعُلم أنه ليس لنا رواية في الحديث صححت إلا رواية عمرو بن خارجة، والذي صححها هو الترمذي، وهو من المتساهلين في التصحيح، وقد علمت أن البخاري ومسلم، لم يرضياها، فهل يقال إن حديثاً كهذا تلقته الأمة بالقبول؟
جواب المثبتين:
* كلام الحافظ ابن حجر، (وقد مرّ من قبل): ( باب لاوصية لوارث ) هذه الترجمة لفظ حديث مرفوع كأنه لم يثبت على شرط البخاريفترجم به كعادته واستغنى بما يعطى حكمه . وقد أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما منحديث أبي أمامة " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته في حجة الوداع : إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " وفي إسناده إسماعيل بن عياش , وقدقوى حديثه عن الشاميين جماعة من الأئمة منهم أحمد والبخاري , وهذا من روايته عنشرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة , وصرح في روايته بالتحديث عند الترمذي وقال الترمذي : حديث حسن . وفي الباب عن عمرو بن خارجة عند الترمذي والنسائي , وعن أنس عند ابنماجه , وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الدارقطني وعن جابر عند الدارقطني أيضاوقال : الصواب إرساله , وعن علي عند ابن أبي شيبة, ولا يخلو إسناد كل منها عن مقال , لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلا , بلجنح الشافعي في " الأم " إلى أن هذا المتن متواتر فقال : وجدنا أهل الفتيا ومنحفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى اللهعليه وسلم قال عام الفتح " لا وصية لوارث " ويؤثرون عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهلالعلم , فكان نقل كافة عن كافة , فهو أقوى من نقل واحد.
* كان هذا الحكمُ في بدء الإسلام ثم نسخ عند نزول آيةِ المواريثِ، بقوله عليه السلام: " إنّ الله قد أعطى كلَّ ذي حق حقَّه ألا لا وصيةَ لوارثٍ " فإنه وإن كان من أخبار الآحادِ لكن حيثُ تلقته الأمةُ بالقَبول انتظم في سلك المتواتِر في صلاحيته للنسخ، على أن التحقيقَ أن الناسخَ حقيقةً هي آيةُ المواريث، وإنما الحديثُ مُبـيّنٌ لجهة نسخِها ببـيانِ أنه تعالى كان قد كتب عليكم أن تؤدوا إلى الوالدين والأقربـين حقوقَهم بحسب استحقاقهم من غير تبـيـين لمراتب استحقاقِهم ولا تعيـين لمقادير أنصبائِهم، بل فوض ذلك إلى آرائكم، حيث قال: { بِٱلْمَعْرُوفِ } أي بالعدْل، فالآن قد رَفَعَ ذلك الحُكمَ عنكم لتبـيـين طبقاتِ استحقاقِ كلِّ واحدٍ منهم وتعيـينِ مقاديرِ حقوقِهم بالذات وأعطى كلَّ ذي حق منهم حقه الذي يستحقه بحكم القرابة من غير نقصٍ ولا زيادة ولم يدَعْ ثمةَ شيئاً فيه مدخلٌ لرأيكم أصلاً حسبما تُعرِب عنه الجملةُ المنفيَّةُ بلا النافية للجنس وتصديرُها بكلمة التنبـيه، إذا تحققتَ هذا ظهر لك أن ما قيل مِنْ أن آيةَ المواريثِ لا تعارضُه بل تحقِّقه وتؤكّدُه من حيث إنها تدلُ على تقديمِ الوصيةِ مطلقاً والحديثُ من الآحاد، وتلقّي الأمةِ إياه بالقَبول لا يُلحِقُه بالمتواتر، ولعله احترَز عنه مَنْ فسَّر الوصيةَ بما أوصى به الله عز وجل من توريثِ الوالدَيْن والأقرَبـين بقوله تعالى: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ} [النساء، الآية 11] أو بإيصاءِ المُحتَضَرِ لهم بتوفير ما أوصىٰ به الله تعالى عليهم - بمعزلٍ من التحقيق.
وكذا ما قيل من أن الوصيةَ للوارث كانت واجبةً بهذه الآية من غير تعيـينٍ لأنصبائهم فلما نزلت آيةُ المواريثِ بـياناً للأنصباء بلفظ الإيصاءِ فُهم منها بتنبـيه النبـي صلى الله عليه وسلم أن المرادَ منه هذه الوصيةُ التي كانت واجبة، كأنه قيل: إن الله تعالى أوصىٰ بنفسه تلك الوصيةَ ولم يُفَوِّضْها إليكم، فقام الميراثُ مقامَ الوصيةِ فكان هذا معنى النسخِ لا أن فيها دلالةً على رفع ذلك الحُكمِ، فإن مدلولَ آيةِ الوصيةِ حيث كان تفويضاً للأمر إلى آراء المكلَّفين على الإطلاق وتسنّي الخروجِ عن عُهدة التكليف بأداءِ ما أدَّى إليه آراؤُهم بالمعروف، فتكون آيةُ المواريثِ الناطقةِ بمراتب الاستحقاقِ وتفاصيل مقاديرِ الحقوقِ القاطعةِ بامتناعِ الزيادةِ والنقصِ بقوله تعالى:
{ فَرِيضَةً مّنَ ٱللَّهِ } [النساء، الآية 11. وسورة التوبة، الآية 60] ناسخةً لها رافعةً لحُكمها مما لا يَشتبهُ على أحد.
* بل قال البعض: إن الأحاديث الناسخة من المتواتر، وأنالتواتر قد يكون بنقل من لا يتصور تواطؤهم على الكذب، وقد يكون بفعلهم بأن يكونواعملوا به من غير نكير منهم.
قال النافون
جوّز بعض السلف الوصية للوارث نفسه بأن يخص بها من يراه أحوج من الورثة، كأن يكون بعضهم غنياً والبعض الآخر فقيراً.
أجاب المثبتون
الوصية للوارث تخل بالأنصبة التي حددتها آيات المواريث للورثة، وإذا تركنا الأمر للنظر، قد يتدخل الهوى فلا يعد لتوزيع الأنصبة المقرر في الشرع أي أهمية.
رحم الله صاحب المنار وعفا عنه، ألكي لا يكون الشخص مقلداً، ينبغي أن يقلد رأيه؟! وإن جمهوراً من الأئمة كأبي حنيفة والشافعي قد قالوا بنسخ هذه الآية الكريمة، أفيعدّ هؤلاء مقلدين، وإذا كانوا كذلك، فمن المجتهد؟ ومن الذي قلدوه؟
ثم يحاول صاحب المنار أن يضعّف الحديث (لا وصية لوارث)، بحجة أن الشيخين لم يروياه مسنداً لعدم ثقتهما به، وأن البخاري قد رواه موقوفاً عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأنه لا يعقل أن ينسخ القرآن بالحديث، لأن هذا الحديث ربما لم يقله الرسول صلى الله عليه وسلم، أو قاله رأياً، وعجيب هذا من السيد، وأعجب منه أنه ردّ أحاديث رواها الشيخان أنفسهما، ولكنه صحح أحاديث لم يروياها، والقول بأن الشيخين لم يخرجاه لعدم ثقتهما به قول مردود، لأن من المعلوم أنهما لم يلتزما بإخراج جميع الصحيح، وأما رواية البخاري له موقوفاً على ابن عباس، فإن الحافظ قال في (الفتح) إن له حكم المرفوع؛ لأنه في تفسيره ـ أي ابن عباس ـ إخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن، فيكون في حكم المرفوع بهذا التقرير.
ولكن الشيخ تناسى هذا القول أو أغفله، والأغرب من ذلك قوله: (بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما لم يقله أو قاله رأياً)، وهذا غير وارد؛ لأن العلماء جزاهم الله خيراً، قد بيّنوا لنا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لم يقله، والرسول الكريم لا يمكن أن يقول رأياً في الدين، وعلى التسليم بذلك، فإما أن يقرّه الوحي أو يردّه.
وبعد، فحديث (إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) تلقته الأمة بالقبول، وأجمع جمهور الأئمة على صحته، يقول الشافعي رضي الله عنه ـ في الأم ـ: (وجدنا أهل الفتيا، ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم، لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: "لا وصية لوارث، ولا يقتل مؤمن بكافر"، ويؤثرون عمن حفظوا عنه، ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي، فكان هذا نقل عامة عن عامة، وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحد عن واحد، كذلك وجدنا أهل العلم عليه مجمعين) [الرسالة].
ويختم د. فضل بقوله: ويعلم الله أن أنوار النبوة تنادي على صحة هذا الحديث". أ.هـ.
المرحلة الثالثة
المرحلة الثالثة
ردّ كل فريق على الآخر
تضمنت المرحلتان السابقتان اللتان تم فيهما ذكر أدلة كلٍّ من المثبتين للنسخ في آية الوصية والنافين له بعضَ الردود، وسأزيد هنا ردوداً أخرى.
احتج النافون على المثبتين الذين قالوا إن قول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا وصية لوارث" نسخ الآية، فقالوا:
* آية الوصية لا تعارض آية المواريث ولا هذا الحديث.
* الحديث من الآحاد، وتلقي الأمة له بالقبول لا يلحقه بالمتواتر، أي والظني من الحديث لا ينسخ القطعي منه، فكيف ينسخ القرآن، وكله قطعي؟
الحديث لم يصل إلى درجة ثقة الشيخين به، فلم يروه أحد منهما مسنداً، ورواية أصحاب السنن محصورة في عمرو بن خارجة وأبي أمامة وابن عباس، وفي إسناد الثاني إسماعيل بن عياش تكلموا فيه، وإنما حسّنه الترمذي؛ لأن إسماعيل يرويه عن الشاميين، وقد قوى بعض الأئمة روايته عنهم خاصة، وحديث ابن عباس معلول؛ إذ هو من رواية عطاء بن أبي رباح، فإن أبا داود أخرجه في مراسيله عنه، وما أخرجه البخاري من طريق عطاء بن أبي رباح موقوف على ابن عباس، وما روي غير ذلك فلا نزاع في ضعفه، فعُلم أنه ليس لنا رواية في الحديث صححت إلا رواية عمرو بن خارجة، والذي صححها هو الترمذي، وهو من المتساهلين في التصحيح، وقد علمت أن البخاري ومسلم، لم يرضياها، فهل يقال إن حديثاً كهذا تلقته الأمة بالقبول؟
جواب المثبتين:
* كلام الحافظ ابن حجر، (وقد مرّ من قبل): ( باب لاوصية لوارث ) هذه الترجمة لفظ حديث مرفوع كأنه لم يثبت على شرط البخاريفترجم به كعادته واستغنى بما يعطى حكمه . وقد أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما منحديث أبي أمامة " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته في حجة الوداع : إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " وفي إسناده إسماعيل بن عياش , وقدقوى حديثه عن الشاميين جماعة من الأئمة منهم أحمد والبخاري , وهذا من روايته عنشرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة , وصرح في روايته بالتحديث عند الترمذي وقال الترمذي : حديث حسن . وفي الباب عن عمرو بن خارجة عند الترمذي والنسائي , وعن أنس عند ابنماجه , وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الدارقطني وعن جابر عند الدارقطني أيضاوقال : الصواب إرساله , وعن علي عند ابن أبي شيبة, ولا يخلو إسناد كل منها عن مقال , لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلا , بلجنح الشافعي في " الأم " إلى أن هذا المتن متواتر فقال : وجدنا أهل الفتيا ومنحفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى اللهعليه وسلم قال عام الفتح " لا وصية لوارث " ويؤثرون عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهلالعلم , فكان نقل كافة عن كافة , فهو أقوى من نقل واحد.
* كان هذا الحكمُ في بدء الإسلام ثم نسخ عند نزول آيةِ المواريثِ، بقوله عليه السلام: " إنّ الله قد أعطى كلَّ ذي حق حقَّه ألا لا وصيةَ لوارثٍ " فإنه وإن كان من أخبار الآحادِ لكن حيثُ تلقته الأمةُ بالقَبول انتظم في سلك المتواتِر في صلاحيته للنسخ، على أن التحقيقَ أن الناسخَ حقيقةً هي آيةُ المواريث، وإنما الحديثُ مُبـيّنٌ لجهة نسخِها ببـيانِ أنه تعالى كان قد كتب عليكم أن تؤدوا إلى الوالدين والأقربـين حقوقَهم بحسب استحقاقهم من غير تبـيـين لمراتب استحقاقِهم ولا تعيـين لمقادير أنصبائِهم، بل فوض ذلك إلى آرائكم، حيث قال: { بِٱلْمَعْرُوفِ } أي بالعدْل، فالآن قد رَفَعَ ذلك الحُكمَ عنكم لتبـيـين طبقاتِ استحقاقِ كلِّ واحدٍ منهم وتعيـينِ مقاديرِ حقوقِهم بالذات وأعطى كلَّ ذي حق منهم حقه الذي يستحقه بحكم القرابة من غير نقصٍ ولا زيادة ولم يدَعْ ثمةَ شيئاً فيه مدخلٌ لرأيكم أصلاً حسبما تُعرِب عنه الجملةُ المنفيَّةُ بلا النافية للجنس وتصديرُها بكلمة التنبـيه، إذا تحققتَ هذا ظهر لك أن ما قيل مِنْ أن آيةَ المواريثِ لا تعارضُه بل تحقِّقه وتؤكّدُه من حيث إنها تدلُ على تقديمِ الوصيةِ مطلقاً والحديثُ من الآحاد، وتلقّي الأمةِ إياه بالقَبول لا يُلحِقُه بالمتواتر، ولعله احترَز عنه مَنْ فسَّر الوصيةَ بما أوصى به الله عز وجل من توريثِ الوالدَيْن والأقرَبـين بقوله تعالى: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ} [النساء، الآية 11] أو بإيصاءِ المُحتَضَرِ لهم بتوفير ما أوصىٰ به الله تعالى عليهم - بمعزلٍ من التحقيق.
وكذا ما قيل من أن الوصيةَ للوارث كانت واجبةً بهذه الآية من غير تعيـينٍ لأنصبائهم فلما نزلت آيةُ المواريثِ بـياناً للأنصباء بلفظ الإيصاءِ فُهم منها بتنبـيه النبـي صلى الله عليه وسلم أن المرادَ منه هذه الوصيةُ التي كانت واجبة، كأنه قيل: إن الله تعالى أوصىٰ بنفسه تلك الوصيةَ ولم يُفَوِّضْها إليكم، فقام الميراثُ مقامَ الوصيةِ فكان هذا معنى النسخِ لا أن فيها دلالةً على رفع ذلك الحُكمِ، فإن مدلولَ آيةِ الوصيةِ حيث كان تفويضاً للأمر إلى آراء المكلَّفين على الإطلاق وتسنّي الخروجِ عن عُهدة التكليف بأداءِ ما أدَّى إليه آراؤُهم بالمعروف، فتكون آيةُ المواريثِ الناطقةِ بمراتب الاستحقاقِ وتفاصيل مقاديرِ الحقوقِ القاطعةِ بامتناعِ الزيادةِ والنقصِ بقوله تعالى:
{ فَرِيضَةً مّنَ ٱللَّهِ } [النساء، الآية 11. وسورة التوبة، الآية 60] ناسخةً لها رافعةً لحُكمها مما لا يَشتبهُ على أحد.
* بل قال البعض: إن الأحاديث الناسخة من المتواتر، وأنالتواتر قد يكون بنقل من لا يتصور تواطؤهم على الكذب، وقد يكون بفعلهم بأن يكونواعملوا به من غير نكير منهم.
قال النافون
جوّز بعض السلف الوصية للوارث نفسه بأن يخص بها من يراه أحوج من الورثة، كأن يكون بعضهم غنياً والبعض الآخر فقيراً.
أجاب المثبتون
الوصية للوارث تخل بالأنصبة التي حددتها آيات المواريث للورثة، وإذا تركنا الأمر للنظر، قد يتدخل الهوى فلا يعد لتوزيع الأنصبة المقرر في الشرع أي أهمية.
* * * * *
من الردود التي أوردت على صاحب المنار ما ذكره فضيلة الأستاذ الدكتور فضل حسن عباس ـ حفظه الله ـ في كتابه الثاني من سلسلة (اتجاهات التفسير ومناهج المفسرين في العصر الحديث، لم يطبع بعد)، قال في معرِض حديثه عن بعض ما ورد في تفسير المنار من مخالفات لأئمة الأمصار وفقهاء المذاهب: "عند تفسيره آية الوصية في سورة البقرة، يذكر أقوال العلماء، وينقل عن الألوسي رحمه الله، ثم يرد عليه ويختم ردّه بقوله: (فما هذا الحرص على إثبات نسخها، مع تأكيد الله تعالى إياها، والوعيد على تبديلها، إن هذا إلا تأثير التقليد) أ.هـ.
رحم الله صاحب المنار وعفا عنه، ألكي لا يكون الشخص مقلداً، ينبغي أن يقلد رأيه؟! وإن جمهوراً من الأئمة كأبي حنيفة والشافعي قد قالوا بنسخ هذه الآية الكريمة، أفيعدّ هؤلاء مقلدين، وإذا كانوا كذلك، فمن المجتهد؟ ومن الذي قلدوه؟
ثم يحاول صاحب المنار أن يضعّف الحديث (لا وصية لوارث)، بحجة أن الشيخين لم يروياه مسنداً لعدم ثقتهما به، وأن البخاري قد رواه موقوفاً عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأنه لا يعقل أن ينسخ القرآن بالحديث، لأن هذا الحديث ربما لم يقله الرسول صلى الله عليه وسلم، أو قاله رأياً، وعجيب هذا من السيد، وأعجب منه أنه ردّ أحاديث رواها الشيخان أنفسهما، ولكنه صحح أحاديث لم يروياها، والقول بأن الشيخين لم يخرجاه لعدم ثقتهما به قول مردود، لأن من المعلوم أنهما لم يلتزما بإخراج جميع الصحيح، وأما رواية البخاري له موقوفاً على ابن عباس، فإن الحافظ قال في (الفتح) إن له حكم المرفوع؛ لأنه في تفسيره ـ أي ابن عباس ـ إخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن، فيكون في حكم المرفوع بهذا التقرير.
ولكن الشيخ تناسى هذا القول أو أغفله، والأغرب من ذلك قوله: (بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما لم يقله أو قاله رأياً)، وهذا غير وارد؛ لأن العلماء جزاهم الله خيراً، قد بيّنوا لنا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لم يقله، والرسول الكريم لا يمكن أن يقول رأياً في الدين، وعلى التسليم بذلك، فإما أن يقرّه الوحي أو يردّه.
وبعد، فحديث (إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) تلقته الأمة بالقبول، وأجمع جمهور الأئمة على صحته، يقول الشافعي رضي الله عنه ـ في الأم ـ: (وجدنا أهل الفتيا، ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم، لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: "لا وصية لوارث، ولا يقتل مؤمن بكافر"، ويؤثرون عمن حفظوا عنه، ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي، فكان هذا نقل عامة عن عامة، وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحد عن واحد، كذلك وجدنا أهل العلم عليه مجمعين) [الرسالة].
ويختم د. فضل بقوله: ويعلم الله أن أنوار النبوة تنادي على صحة هذا الحديث". أ.هـ.